المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ (إذَا عَجَزَ الْمَرِيضُ عَنْ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ - فتح القدير للكمال بن الهمام - ط الحلبي - جـ ٢

[الكمال بن الهمام]

فهرس الكتاب

‌بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ

(إذَا عَجَزَ الْمَرِيضُ عَنْ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى الْجَنْبِ تُومِئُ إيمَاءً» ؛ وَلِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.

قَالَ

(بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ)

(قَوْلُهُ إذَا عَجَزَ الْمَرِيضُ) الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ الْعَجْزِ الْحَقِيقِيِّ حَتَّى لَوْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، لَكِنْ يَخَافُ بِسَبَبِهِ إبْطَاءَ بُرْءٍ أَوْ كَانَ يَجِدُ أَلَمًا شَدِيدًا إذَا قَامَ جَازَ لَهُ تَرْكُهُ، فَإِنْ لَحِقَهُ نَوْعُ مَشَقَّةٍ لَمْ يَجُزْ تَرْكُ الْقِيَامِ بِسَبَبِهَا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ مُتَّكِئًا عَلَى عَصًا أَوْ خَادِمٍ. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: الصَّحِيحُ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ مُتَّكِئًا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْقِيَامِ لَا كُلِّهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ، حَتَّى لَوْ كَانَ إنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى قَدْرِ التَّحْرِيمَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَحَرَّمَ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدَ. وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا قَالَ «كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ

ص: 3

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ أَوْمَأَ إيمَاءً) يَعْنِي قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ (وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ)؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُمَا فَأَخَذَ حُكْمَهُمَا (وَلَا يَرْفَعُ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنْ قَدَرْتَ أَنْ تَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ فَاسْجُدْ وَإِلَّا فَأَوْمِئْ بِرَأْسِكَ» فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ يَخْفِضُ رَأْسَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِوُجُودِ الْإِيمَاءِ، فَإِنَّ وَضْعَ ذَلِكَ عَلَى جَبْهَتِهِ لَا يُجْزِئُهُ لِانْعِدَامِهِ

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْقُعُودَ اسْتَلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ وَجَعَلَ رِجْلَيْهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَأَوْمَأَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى قَفَاهُ يُومِئُ إيمَاءً، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَقُّ بِقَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ» قَالَ (وَإِنْ اسْتَلْقَى عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ فَأَوْمَأَ جَازَ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ

فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»، زَادَ النَّسَائِيّ «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}» .

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِيمَاءَ قَائِمٌ مَقَامَهُمَا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إنْ قَدَرْتَ الْحَدِيثَ) رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَادَ مَرِيضًا فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَأَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا، فَأَخَذَ عُودًا لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ فَرَمَى بِهِ وَقَالَ: صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إنْ اسْتَطَعْتَ، وَإِلَّا فَأَوْمِئْ إيمَاءً وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكِ» قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ الثَّوْرِيِّ إلَّا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَعَطَاءٌ عَنْ الثَّوْرِيِّ. انْتَهَى. أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ ثِقَةٌ. وَرُوِيَ نَحْوَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمَرْجِعُ ضَمِيرِ لِانْعِدَامِهِ لِلْإِيمَاءِ

(قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْقُعُودَ) يَعْنِي مُسْتَوِيًا وَلَا مُسْتَنِدًا فَإِنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مُسْتَنِدًا لَزِمَهُ الْقُعُودُ كَذَلِكَ عَلَى وِزَانِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِيَامِ (قَوْلُهُ اسْتَلْقَى) أَيْ مُرْتَمِيًا عَلَى وِسَادَةٍ تَحْتَ كَتِفَيْهِ مَادًّا رِجْلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْإِيمَاءِ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الِاسْتِلْقَاءِ تَمْنَعُ الصَّحِيحَ مِنْ الْإِيمَاءِ فَكَيْفَ الْمَرِيضُ. (قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا» إلَخْ) غَرِيبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ ثُبُوتِهِ لَا يَنْتَهِضُ حَدِيثُ عِمْرَانَ حُجَّةً عَلَى الْعُمُومِ فَإِنَّهُ خِطَابٌ لَهُ، وَكَانَ مَرَضُهُ الْبَوَاسِيرَ وَهُوَ يَمْنَعُ الِاسْتِلْقَاءَ فَلَا يَكُونُ خِطَابُهُ خِطَابًا لِلْأُمَّةِ، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَلْقِيَ تَقَعُ إشَارَتُهُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَبِهِ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِخِلَافِ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى

ص: 4

إلَّا أَنَّ الْأُولَى هِيَ الْأَوْلَى عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ إشَارَةَ الْمُسْتَلْقِي تَقَعُ إلَى هَوَاءِ الْكَعْبَةِ، وَإِشَارَةَ الْمُضْطَجِعِ عَلَى جَنْبِهِ إلَى جَانِبِ قَدَمَيْهِ، وَبِهِ تَتَأَدَّى الصَّلَاةُ.

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْإِيمَاءَ بِرَأْسِهِ أُخِّرَتْ الصَّلَاةُ عَنْهُ، وَلَا يُومِئُ بِعَيْنِهِ وَلَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِحَاجِبَيْهِ) خِلَافًا لِزُفَرَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَلِأَنَّ نَصْبَ الْإِبْدَالِ بِالرَّأْيِ مُمْتَنِعٌ، وَلَا قِيَاسَ عَلَى الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ رُكْنُ الصَّلَاةِ دُونَ الْعَيْنِ وَأُخْتَيْهَا. وَقَوْلُهُ أُخِّرَتْ عَنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إذَا كَانَ مُفِيقًا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ يُفْهِمُ مَضْمُونَ الْخِطَابِ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.

أَنَّهُ لَوْ حَقَّقَهُ مُسْتَلْقِيًا كَانَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا إلَى قِبْلَةٍ، وَلَوْ أَتَمَّهُ عَلَى جَنْبٍ كَانَ إلَى غَيْرِ جِهَتِهَا، وَمَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ» ضَعِيفٌ بِالْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، إلَّا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ زِيَادَةِ النَّسَائِيّ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا» إنْ صَحَّتْ يُشْكِلُ عَلَى الْمُدَّعِي وَتُفِيدُ إنْ كَانَ الِاسْتِلْقَاءُ لِعِمْرَانَ.

(قَوْلُهُ: خِلَافًا لِزُفَرَ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله قَالَ: لَا أَشُكُّ أَنَّ الْإِيمَاءَ بِرَأْسِهِ يُجْزِئُهُ، وَلَا أَشُكُّ أَنَّهُ بِقَلْبِهِ لَا يُجْزِئُهُ وَأَشُكُّ فِيهِ بِالْعَيْنِ.

(قَوْلُهُ: لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى قَفَاهُ يُومِئُ إيمَاءً، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَقُّ بِقَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ» وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَثْبُتَ لُغَةً أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ لَيْسَ غَيْرُ. وَأَمَّا بِالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ فَإِشَارَةٌ وَنَحْوُهُ لَا إيمَاءٌ فَيَكُونُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَرَادَتْ كَلَامًا فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا

فَلَمْ يَكُ إلَّا وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ

مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ حَتَّى يَثْبُتَ ذَلِكَ الْمَفْهُومُ كَذَلِكَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لِمَا رَوَيْنَا مَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ الْمَرِيضِ «وَإِلَّا فَأَوْمِئْ بِرَأْسِكَ» وَعَلَى اللَّفْظِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الْمُخَرَّجِ أَيْضًا الرَّأْسُ مُرَادٌ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ «وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ» وَلَا يَتَحَقَّقُ زِيَادَةُ الْخَفْضِ بِالْعَيْنِ بَلْ إذَا كَانَ الْإِيمَاءُ بِالرَّأْسِ. (قَوْلُهُ: هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا صَحَّحَهُ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ مِنْ مَضْمُونِ الْخِطَابِ فَجَعَلَهُ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَفِي الْمُحِيطِ مِثْلُهُ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْلِ لَا يَكْفِي لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ، وَاسْتَشْهَدَ قَاضِي خَانْ بِمَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ مِنْ الْمَرْفِقَيْنِ وَرِجْلَاهُ مِنْ السَّاقَيْنِ لَا صَلَاةَ عَلَيْهِ

ص: 5

قَالَ (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِيَامُ وَيُصَلِّي قَاعِدًا يُومِئُ إيمَاءً)؛ لِأَنَّ رُكْنِيَّةَ الْقِيَامِ لِلتَّوَسُّلِ بِهِ إلَى السَّجْدَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَتَعَقَّبُهُ السُّجُودُ لَا يَكُونُ رُكْنًا فَيَتَخَيَّرُ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِيمَاءُ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالسُّجُودِ.

(وَإِنْ صَلَّى الصَّحِيحُ بَعْضَ صَلَاتِهِ قَائِمًا ثُمَّ حَدَثَ بِهِ مَرَضٌ يُتِمُّهَا قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ أَوْ يُومِئُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ أَوْ مُسْتَلْقِيًا إنْ لَمْ يَقْدِرْ)؛ لِأَنَّهُ بِنَاءُ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى فَصَارَ كَالِاقْتِدَاءِ.

(وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِمَرَضٍ ثُمَّ صَحَّ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ قَائِمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: اسْتَقْبَلَ) بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاقْتِدَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ (وَإِنْ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ بِإِيمَاءٍ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ

وَدُفِعَ بِأَنَّ ذَاكَ فِي الْعَجْزِ الْمُتَيَقَّنِ امْتِدَادُهُ إلَى الْمَوْتِ. وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا صَحَّ الْمَرِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا فِيمَا إذَا مَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا الْإِيصَاءُ بِهِ، كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إذَا أَفْطَرَا فِي رَمَضَانَ وَمَاتَا قَبْلَ الْإِقَامَةِ وَالصِّحَّةِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ تَعْلِيلَ الْأَصْحَابِ فِي الْأُصُولِ وَسَيَأْتِي لِلْمَجْنُونِ يُفِيقُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، وَلَوْ سَاعَةً يَلْزَمُهُ قَضَاءُ كُلِّ الشَّهْرِ، وَكَذَا الَّذِي جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا يَقْضِي وَفِيمَا دُونَهَا يَقْضِي، انْقَدَحَ فِي ذِهْنِهِ إيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَى هَذَا الْمَرِيضِ إلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى يَلْزَمَ الْإِيصَاءُ بِهِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ، وَسُقُوطُهُ إنْ زَادَ. ثُمَّ رَأَيْت عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنْ كَانَتْ الْفَوَائِتُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ وَجَبَ قَالَ فِي الْيَنَابِيعِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ قَدَرَ) أَيْ الْمَرِيضُ عَلَى الْقِيَامِ دُونَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِأَنْ كَانَ مَرَضُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: لَمْ يَلْزَمْهُ) الْمَنْفِيُّ اللُّزُومُ فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ أَوْمَأَ قَائِمًا جَازَ، إلَّا أَنَّ الْإِيمَاءَ قَاعِدًا أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى السُّجُودِ. وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ: يُومِئُ لِلرُّكُوعِ قَائِمًا وَلِلسُّجُودِ قَاعِدًا، ثُمَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ رُكْنِيَّةُ الْقِيَامِ لَيْسَ إلَّا لِلتَّوَسُّلِ إلَى السُّجُودِ، وَقَدْ أَثْبَتَهَا بِقَوْلِهِ: لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ التَّعْظِيمِ: أَيْ السَّجْدَةُ عَلَى وَجْهِ الِانْحِطَاطِ مِنْ الْقِيَامِ فِيهَا نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَكَانَ طَلَبُ الْقِيَامِ لِتَحْقِيقِهِ، فَإِذَا سَقَطَ سَقَطَ مَا وَجَبَ لَهُ. وَقَدْ يَمْنَعُ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِهَذَا عَلَى وَجْهِ الْحَصْرِ بَلْ لَهُ وَلِمَا فِيهِ نَفْسِهِ مِنْ التَّعْظِيمِ كَمَا يُشَاهَدُ فِي الشَّاهِدِ مِنْ اعْتِبَارِهِ كَذَلِكَ حَتَّى يُحِبَّهُ أَهْلُ التَّجَبُّرِ لِذَلِكَ، فَإِذَا فَاتَ أَحَدُ التَّعْظِيمَيْنِ صَارَ مَطْلُوبًا بِمَا فِيهِ نَفْسِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الدَّعْوَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا الْقِيَامِ وَجَبَ الْقُعُودُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّجُودِ عَقِيبَهُ تِلْكَ النِّهَايَةُ لِعَدَمِ مَسْبُوقِيَّتِهِ بِالْقِيَامِ.

(قَوْلُهُ: أَوْ يُومِئُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ) هُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ. وَفِي النَّوَادِرِ: إذَا صَارَ إلَى الْإِيمَاءِ بَعْدَمَا افْتَتَحَ قَادِرًا عَلَيْهِمَا فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَتَهُ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لَهُمَا. قُلْنَا لَا بَلْ لِلْمَقْدُورِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إذْ ذَاكَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَلَزِمَا فَإِذَا صَارَ الْمَقْدُورُ الْإِيمَاءَ لَزِمَ، وَأَدَاءُ بَعْضِ الصَّلَاةِ بِهِمَا أَوْلَى مِنْ أَدَاءِ كُلِّهَا بِالْإِيمَاءِ.

(قَوْلُهُ: بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاقْتِدَاءِ)

ص: 6

وَالسُّجُودِ اسْتَأْنَفَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ، فَكَذَا الْبِنَاءُ

(وَمَنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَعْيَا لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَى عَصًا أَوْ حَائِطٍ أَوْ يَقْعُدَ)؛ لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ، وَإِنْ كَانَ الِاتِّكَاءُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إسَاءَةٌ فِي الْأَدَبِ. وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَعَدَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَجُوزُ، فَكَذَا لَا يُكْرَهُ الِاتِّكَاءُ. وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقُعُودُ عِنْدَهُمَا فَيُكْرَهُ الِاتِّكَاءُ (وَإِنْ قَعَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ) وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ وَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ النَّوَافِلِ

عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ. (قَوْلُهُ: اسْتَأْنَفَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا) أَعْنِي الثَّلَاثَةَ، أَمَّا زُفَرُ فَيُجِيزُ بِنَاءً عَلَى إجَازَتِهِ اقْتِدَاءَ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ، وَلَوْ كَانَ يُومِئُ مُضْطَجِعًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ دُونَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ اسْتَأْنَفَ عَلَى الْمُخْتَارِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْقُعُودِ أَقْوَى فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى الضَّعِيفِ. وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: لَوْ افْتَتَحَهَا بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ قَدَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ بِالْإِيمَاءِ جَازَ لَهُ أَنْ يُتِمَّهَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَمَا أَوْمَأَ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ثُمَّ قَدَرَ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَوْ قَعَدَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَجُوزُ، فَكَذَا لَا يُكْرَهُ الِاتِّكَاءُ) وَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يُكْرَهَ الْقُعُودُ، وَيُكْرَهَ الِاتِّكَاءُ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ إسَاءَةَ أَدَبٍ دُونَ الْقُعُودِ إذَا كَانَ عَلَى هَيْئَةٍ لَا يُعَدُّ إسَاءَةً، وَلِذَا كَانَ الْأَصَحُّ خِلَافَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ قَعَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ. صَرَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الِاتِّكَاءَ يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقُعُودُ لَا يُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.

[فُرُوعٌ]

رَجُلٌ بِحَلْقِهِ خُرَّاجٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ وَيَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِإِيمَاءٍ، وَكَذَا لَوْ

ص: 7

(وَمَنْ صَلَّى فِي السَّفِينَةِ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَالْقِيَامُ أَفْضَلُ. وَقَالَا: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ)؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِعِلَّةٍ. وَلَهُ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا دَوَرَانُ الرَّأْسِ وَهُوَ كَالْمُتَحَقِّقِ، إلَّا أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ، وَالْخُرُوجُ أَفْضَلُ إنْ أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْكَنُ لِقَلْبِهِ، وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْمَرْبُوطَةِ وَالْمَرْبُوطَةُ كَالشَّطِّ هُوَ الصَّحِيحُ.

كَانَ بِحَالٍ لَوْ سَجَدَ سَالَ جُرْحُهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ لَا يَسِيلُ لِمَا قَدَّمْنَا فِي فَصْلِ الْمَعْذُورِ، فَإِنْ قَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ ثُمَّ قَعَدَ وَأَوْمَأَ لِلسُّجُودِ جَازَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ صَلَّى قَائِمًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَلَوْ صَلَّى قَاعِدًا قَدَرَ عَلَيْهَا صَلَّى قَاعِدًا.

مَرِيضٌ مَجْرُوحٌ تَحْتَهُ ثِيَابٌ نَجِسَةٌ وَهُوَ بِحَالٍ كُلَّمَا بُسِطَ تَحْتَهُ شَيْءٌ تَنَجَّسَ مِنْ سَاعَتِهِ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ، وَكَذَا إنْ كَانَ لَا يَتَنَجَّسُ، وَلَكِنَّهُ يَزْدَادُ مَرَضُهُ أَوْ تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ بِتَحْرِيكِهِ بِأَنْ نَزَعَ الْمَاءَ مِنْ عَيْنِهِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ.

(قَوْلُهُ: وَالْقِيَامُ أَفْضَلُ) فِي الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ. (قَوْلُهُ: فِي غَيْرِ الْمَرْبُوطَةِ) هِيَ السَّائِرَةُ. (قَوْلُهُ: وَالْمَرْبُوطَةُ كَالشَّطِّ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ ثُمَّ أَطْلَقَ فِي كَوْنِ الْمَرْبُوطَةِ كَالشَّطِّ وَهُوَ مُقَيِّدٌ بِالْمَرْبُوطَةِ بِالشَّطِّ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مَرْبُوطَةً فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ فَالْأَصَحُّ إنْ كَانَ الرِّيحُ يُحَرِّكُهَا شَدِيدًا فَهِيَ

ص: 8

(وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ أَوْ دُونَهَا قَضَى، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقْضِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا اسْتَوْعَبَ الْإِغْمَاءُ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلًا لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَأَشْبَهَ الْجُنُونَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَّةَ إذَا طَالَتْ كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ فَيَتَحَرَّجُ فِي الْأَدَاءِ، وَإِذَا قَصُرَتْ قَلَّتْ فَلَا حَرَجَ، وَالْكَثِيرُ أَنْ تَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَالْجُنُونُ كَالْإِغْمَاءِ: كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ رحمه الله، بِخِلَافِ النَّوْمِ؛ لِأَنَّ امْتِدَادَهُ نَادِرٌ فَيَلْحَقُ بِالْقَاصِرِ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ تُعْتَبَرُ. مِنْ حَيْثُ الْأَوْقَاتُ

كَالسَّائِرَةِ، وَإِلَّا فَكَالْوَاقِفَةِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالنِّهَايَةِ وَالِاخْتِيَارِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الْمَرْبُوطَةِ فِي الشَّطِّ مُطْلَقًا.

وَفِي الْإِيضَاحِ: فَإِنْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً فِي الشَّطِّ، وَهِيَ عَلَى قَرَارِ الْأَرْضِ فَصَلَّى قَائِمًا جَازَ؛ لِأَنَّهَا إذَا اسْتَقَرَّتْ عَلَى الْأَرْضِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَتْ مَرْبُوطَةً وَيُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ فَهِيَ كَالدَّابَّةِ. انْتَهَى. بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَقَرَّتْ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ كَالسَّرِيرِ.

(قَوْلُهُ: وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا اسْتَوْعَبَ وَقْتَ صَلَاةٍ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ، وَاسْتَدَلَّا بِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عليه الصلاة والسلام عَنْ الرَّجُلِ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فَقَالَ: لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ إلَّا أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ فَيُفِيقَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا» وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، فَفِيهِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَيْلِيُّ. قَالَ أَحْمَدُ: أَحَادِيثُهُ مَوْضُوعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ وَلَا مَأْمُونٍ وَكَذَّبَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: تَرَكُوهُ.

ثُمَّ بَقِيَّةُ السَّنَدِ إلَى الْحَكَمِ هَذَا مُظْلِمٌ كُلُّهُ. وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: يَقْضِي مَا فَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّهُ مَرَضٌ، وَتَوَسَّطَ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ سَقَطَ الْقَضَاءُ، وَإِلَّا وَجَبَ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ حَيْثُ السَّاعَاتُ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِذَا زَادَ عَلَى الدَّوْرَةِ سَاعَةٌ سَقَطَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنْ حَيْثُ الْأَوْقَاتُ فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ سَقَطَ، وَإِلَّا لَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ تَخْرِيجًا عَلَى مَا مَرَّ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ، وَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَالَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِمَا فَكُلٌّ مِنْ الثَّلَاثَةِ مُطَالَبٌ بِالْفَرْقِ إلَّا أَنَّهُمَا يُجِيبَانِ هُنَا بِالتَّمَسُّكِ بِالْأَثَرِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، لَكِنَّ الْمَذْكُورَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ

ص: 9

عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّ التَّكْرَارَ يَتَحَقَّقُ بِهِ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ حَيْثُ السَّاعَاتُ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم.

عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي يُغْمَى عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، قَالَ: يَقْضِي، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ شَهْرًا فَلَمْ يَقْضِ مَا فَاتَهُ.

وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَأَفَاقَ فَلَمْ يَقْضِ مَا فَاتَهُ وَاسْتَقْبَلَ. وَفِي كُتُبِ الْفِقْهِ عَنْهُ أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلَمْ يَقْضِ، وَفِي بَعْضِهَا نَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَقْضِ، فَقَدْ رَأَيْت مَا هُنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَشَيْءٌ مِنْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الزِّيَادَةِ السَّاعَاتُ إلَّا مَا يَتَخَايَلُ مِنْ قَوْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَكُلٌّ مِنْ رِوَايَتَيْ الشَّهْرِ وَالثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ يَصْلُحُ مُفَسِّرًا لِذَلِكَ الْأَكْثَرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ خَاصًّا مِنْ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَلَا عُمُومَ فِيهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى كَوْنِ الْأَكْثَرِيَّةِ بِالسَّاعَةِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهَا وَقْتًا. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ فَلَمْ تُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَالْمَذْكُورُ عَنْهُ فِي الْفِقْهِ أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ فَقَضَاهُنَّ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا عَنْ عَمَّارٍ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَأَفَاقَ نِصْفَ اللَّيْلِ فَقَضَاهُنَّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَيْسَ هَذَا بِثَابِتٍ عَنْ عَمَّارٍ، وَلَوْ ثَبَتَ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ بِأَنَّهُ عَنْ اخْتِيَارٍ، بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يَعْجِزُ بِهِ صَاحِبُ الْعَقْلِ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ قِيَامِهِ حَقِيقَةً فَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ، بَلْ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْقُدْرَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّأْخِيرَ لَا سُقُوطَ أَصْلِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ لِفَائِدَةِ الْأَدَاءِ أَوْ الْقَضَاءِ بِلَا حَرَجٍ وَلَمْ يَقَعْ بِالْإِغْمَاءِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الْجُنُونِ الْيَأْسُ عَنْ الْفَائِدَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا إذَا امْتَدَّ امْتِدَادًا يُوقِعُ إلْزَامَ الْقَضَاءِ مَعَهُ فِي الْحَرَجِ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ بِهِ عَدَمُ تَعَلُّقِهِ لِظُهُورِ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ الْمُسْتَتْبِعَةِ لَهُ. هَذَا تَقْرِيرُ الْأُصُولِ وَسَيَرِدُ عَلَيْك بِأَوْفَى مِنْ هَذَا فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْقِيَاسُ السُّقُوطُ مُطْلَقًا، وَالْقِيَاسُ عَدَمُهُ مُطْلَقًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى الْقِيَاسِ الَّذِي يُقَابِلُونَهُ بِالِاسْتِحْسَانِ هُوَ الْوَجْهُ الْمُتَبَادَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَجْهِ الْخَفِيِّ كَمَا أَفَادَهُ فِي الْبَدَائِعِ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

ص: 10

‌بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ

قَالَ (سُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً: فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَفِي الرَّعْدِ وَالنَّحْلِ، وَبَنِي إسْرَائِيلَ، وَمَرْيَمَ وَالْأُولَى فِي الْحَجِّ، وَالْفُرْقَانِ وَالنَّمْلِ، والم تَنْزِيل وَص، وَحُمَّ السَّجْدَةِ، وَالنَّجْمِ وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ

فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَإِلَّا فَالِاسْتِحْسَانُ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَبَادَرُ فَالْأَوَّلُ عِنْدَ تَجْرِيدِ النَّظَرِ إلَى زَوَالِ فَهْمِ الْخِطَابِ الثَّانِي عِنْدَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتْبَعُ تَعَلُّقَهُ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَالْخَفِيُّ هُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَخْرَجِ وَعَدَمِهِ.

(بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ)

(قَوْلُهُ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً) الِاتِّفَاقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهَا كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْحَجِّ ثِنْتَيْنِ وَلَا سُجُودَ فِي ص وَنَحْنُ نُثْبِتُ سَجْدَةً فِي ص وَسَجْدَةً فِي الْحَجِّ. لَهُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد «خَطَبَنَا عليه الصلاة والسلام يَوْمًا فَقَرَأَ ص، فَلَمَّا مَرَّ بِالسُّجُودِ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ، وَقَرَأَهَا مَرَّةً أُخْرَى فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَّا لِلسُّجُودِ، فَلَمَّا رَآنَا قَالَ: إنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ أَرَاكُمْ قَدْ اسْتَعْدَدْتُمْ لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا» وَتَشَزَّنَ بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ زَايٍ ثُمَّ نُونٍ مَعْنَاهُ تَهَيَّأَ، وَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَجَدَ فِي ص وَقَالَ سَجَدَهَا نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُد تَوْبَةً وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا». قُلْنَا: غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي حَقِّ دَاوُد وَالسَّبَبَ فِي حَقِّنَا، وَكَوْنُهُ الشُّكْرَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ، فَكُلُّ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ إنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِتَوَالِي النِّعَمِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْحَارِثِ

ص: 11

وَاقْرَأْ. كَذَا كُتِبَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَجِّ لِلصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَمَوْضِعُ السَّجْدَةِ فِي حم السَّجْدَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ {لا يَسْأَمُونَ} فِي قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ الْمَأْخُوذُ لِلِاحْتِيَاطِ

مُخَرِّجُ مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ: كَتَبَ إلَيَّ صَالِحٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ الْفَرَجِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ الْأَهْوَازِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي ص» ، وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ «رَأَيْتُ رُؤْيَا وَأَنَا أَكْتُبُ سُورَةَ ص، فَلَمَّا بَلَغْتُ السَّجْدَةَ رَأَيْتُ الدَّوَاةَ وَالْقَلَمَ وَكُلَّ شَيْءٍ يَحْضُرُنِي انْقَلَبَ سَاجِدًا، قَالَ: فَقَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَزَلْ يَسْجُدُ بِهَا» فَأَفَادَ أَنَّ الْأَمْرَ صَارَ إلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا كَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ لَا يَعْزِمُ عَلَيْهَا، فَظَهَرَ أَنَّ مَا رَوَاهُ إنْ تَمَّتْ دَلَالَتُهُ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ.

(قَوْلُهُ: وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَجِّ لِلصَّلَاةِ عِنْدَنَا)؛ لِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالْأَمْرِ بِالرُّكُوعِ، وَالْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ مِنْ الْقُرْآنِ كَوْنُهُ مِنْ أَوَامِرِ مَا هُوَ رُكْنُ الصَّلَاةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ نَحْوَ {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} وَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ كَأَنَّهُ لِأَجْلِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ» وَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا وَلَا يَصِحُّ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا نُقِمَ اخْتِلَاطُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا وَجْهُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنَيْنٍ بِنُونَيْنِ وَمِيمٍ مَضْمُومَةٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ» وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ وَابْنُ مُنَيْنٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَذَلِكَ لِجَهَالَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ حَالٌ. (قَوْلُهُ: فِي قَوْلِ عُمَرَ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ لِلِاحْتِيَاطِ) وَجْهُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ السُّجُودُ عِنْدَ يَعْبُدُونَ لَا يَضُرُّهُ التَّأْخِيرُ إلَى الْآيَةِ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ لَا يَسْأَمُونَ لَمْ يَكُنْ السُّجُودُ قَبْلُ مُجْزِئًا، وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ فَغَرِيبٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ

ص: 12

وَالسَّجْدَةُ وَاجِبَةٌ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى التَّالِي وَالسَّامِعِ) سَوَاءٌ قَصَدَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا وَعَلَى مَنْ تَلَاهَا»

ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ فِي حم السَّجْدَةَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {لا يَسْأَمُونَ} وَزَادَ فِي لَفْظٍ، وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلًا سَجَدَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ عَجِلْتَ.

(قَوْلُهُ: وَالسَّجْدَةُ وَاجِبَةٌ) يَعْنِي بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ أَوْ هِيَ أَوْ بَدَلِهَا فَإِنَّهُ لَوْ تَلَاهَا رَاكِبًا كَانَ الْوَاجِبُ الْإِيمَاءَ لَهَا لِمَا سَنَذْكُرُ؛ وَلِأَنَّ الْمَتْلُوَّةَ فِي الصَّلَاةِ الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ. وَالصَّلَاةُ عَلَى الدَّابَّةِ يَكُونُ سُجُودُهَا بِالْإِيمَاءِ، وَحَدِيثُ «السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا» رَفْعُهُ غَرِيبٌ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ " السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا " وَفِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا، وَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّمَا السُّجُودُ عَلَى مَنْ اسْتَمَعَ، وَهَذَا الْمُعَلَّقُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُثْمَانَ مَرَّ بِقَاصٍّ فَقَرَأَ سَجْدَةً لِيَسْجُدَ مَعَهُ عُثْمَانُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّمَا السُّجُودُ عَلَى مَنْ اسْتَمَعَ ثُمَّ مَضَى وَلَمْ يَسْجُدْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِيمَانِ يَرْفَعُهُ «إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ يَا وَيْلَهُ، أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ» .

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَكِيمَ إذَا حَكَى عَنْ غَيْرِ الْحَكِيمِ كَلَامًا وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِالْإِنْكَارِ كَانَ دَلِيلَ صِحَّتِهِ، فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ مَعَ أَنَّ آيَ السَّجْدَةِ تُفِيدُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ فِيهِ الْأَمْرُ الصَّرِيحُ بِهِ. وَقِسْمٌ تَضَمَّنَ حِكَايَةَ اسْتِنْكَافِ الْكَفَرَةِ حَيْثُ أُمِرُوا بِهِ. وَقِسْمٌ فِيهِ حِكَايَةُ فِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ السُّجُودَ. وَكُلٌّ مِنْ الِامْتِثَالِ وَالِاقْتِدَاءِ وَمُخَالَفَةِ الْكَفَرَةِ وَاجِبٌ، إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ فِي مُعَيَّنٍ عَلَى عَدَمِ لُزُومِهِ، لَكِنَّ دَلَالَتَهَا فِيهِ ظَنِّيَّةٌ فَكَانَ الثَّابِتُ الْوُجُوبَ لَا الْفَرْضَ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مُقَيَّدٌ بِالتِّلَاوَةِ لَا مُطْلَقًا فَلَزِمَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أُدِّيَتْ بِالْإِيمَاءِ إذَا تَلَاهَا رَاكِبًا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي التِّلَاوَةِ رَاكِبًا مَشْرُوعٌ كَالشَّرْعِ فِي التَّطَوُّعِ رَاكِبًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا سَبَبَا لُزُومِ السَّجْدَةِ، فَكَمَا أَوْجَبَ التَّطَوُّعُ رَاكِبًا السُّجُودَ بِالْإِيمَاءِ أَوْجَبَهَا التِّلَاوَةُ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا أُدِّيَتْ فِي ضِمْنِ السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ وَالرُّكُوعِ لِمَا نَذْكُرُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتْلُوَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ الْفَارِسِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِمَ السَّامِعُ أَوْ لَا إذَا أُخْبِرَ أَنَّهُ قَرَأَ سَجْدَةً، وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلَوْ قَرَأَ بِالْعَرَبِيَّةِ يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا، لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَعْجَمِيِّ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَلَا تَجِبُ بِكِتَابَةٍ وَلَا عَلَى أَصَمَّ أَوَّلًا بِقِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ هِجَاءً، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّجْمَ فَلَمْ يَسْجُدْ» لَا يُفِيدُ نَفْيَ الْوُجُوبِ وَالسُّنِّيَّةِ فِي الْمُفَصَّلِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ رضي الله عنه، إذْ هُوَ وَاقِعَةُ حَالِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ لِلْقِرَاءَةِ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ، أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْفَوْرِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ عَلَى التَّعْيِينِ مَحْمَلُ حَدِيثِ عُمَرَ الْمَرْوِيِّ فِي الْمُوَطَّأِ " أَنَّهُ قَرَأَ سَجْدَةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ فَلَمْ يَسْجُدْ وَمَنَعَهُمْ ".

وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِمَالِكٍ

ص: 13

وَهِيَ كَلِمَةُ إيجَابٍ وَهُوَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْقَصْدِ (وَإِذَا تَلَا الْإِمَامُ آيَةَ السَّجْدَةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَهَا الْمَأْمُومُ مَعَهُ) لِالْتِزَامِهِ مُتَابَعَتَهُ (وَإِذَا تَلَا الْمَأْمُومُ لَمْ يَسْجُدْ الْإِمَامُ وَلَا الْمَأْمُومُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَ الْفَرَاغِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْجُدُونَهَا إذَا فَرَغُوا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَلَا مَانِعَ بِخِلَافِ حَالَةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى خِلَافِ وَضْعِ الْإِمَامَةِ

مِمَّا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سَجْدَةٌ، وَمَا أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ «أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ سَجَدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ: الْأَعْرَافُ وَالرَّعْدُ، وَالنَّحْلُ، وَبَنِي إسْرَائِيلَ، وَمَرْيَمُ وَالْحَجُّ، وَالْفُرْقَانُ، وَالنَّمْلُ، وَالسَّجْدَةُ، وَصِّ وَسَجْدَةُ الْحَوَامِيمِ» فَالثَّانِي ضَعِيفٌ بِعُثْمَانَ بْنِ فَائِدٍ، وَلَوْ صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ السَّجْدَةِ فِي الْمُفَصَّلِ، بَلْ إنَّ الْإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ فِي الْمُفَصَّلِ وَلَيْسَ فِي هَذَا نِزَاعٌ، وَلَوْ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ كَانَ مَعَ مَا قَبْلَهُ مُعَارَضًا بِحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُهَا لَمْ أَسْجُدْ، لَا أَزَالُ أَسْجُدُهَا حَتَّى أَلْقَاهُ» .

وَأَخْرَجُوا إلَّا التِّرْمِذِيَّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ «سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك» وَهَذَا أَقْوَى مِمَّا قَبْلَهُ، وَإِسْلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ فِي السُّنَّةِ السَّابِعَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ. وَلَوْ تَعَارَضَا كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ. وَمِمَّا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيَّةِ بِهِ عَلَى أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّهُ أَفَادَ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ لِلْقِرَاءَةِ دُونَ سُجُودٍ وَهِيَ رُتْبَةُ الْوَاجِبِ. (قَوْلُهُ: وَهِيَ كَلِمَةُ إيجَابٍ) يَعْنِي: لَفْظَ {عَلَى} مِنْ صِيَغِ الْإِلْزَامِ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ النَّصُّ الْمُوجِبُ لِلسَّجْدَةِ بِالسَّمَاعِ غَيْرُ مُقَيِّدٍ السَّمَاعَ بِالْقَصْدِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ مَعَ الْقَاصِّ مَا يُفِيدُ خِلَافَهُ وَهُوَ تَقَيُّدُهُ بِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ: لِالْتِزَامِهِ مُتَابَعَتَهُ) عَلَّلَ بِالْتِزَامِ الْمُتَابَعَةِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِيمَا إذَا تَلَا فِي السِّرِّيَّةِ أَمَّا إذَا تَلَا فِي الْجَهْرِيَّةِ حَتَّى سَمِعَ الْمُقْتَدِي فَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إذْ السَّمَاعُ مُوجِبٌ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى خِلَافِ مَوْضُوعِ الْإِمَامَةِ) إنْ سَجَدَ الْمَأْمُومُ وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ أَوْ التِّلَاوَةِ إنْ سَجَدَ الْإِمَامُ وَتَابَعَهُ التَّالِي الْمَأْمُومُ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ التِّلَاوَةِ أَنْ يَسْجُدَ التَّالِي وَيُتَابِعَهُ السَّامِعُ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلتَّالِي الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ «كُنْتَ إمَامَنَا لَوْ سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا» وَلِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ التَّالِي وَيَصُفَّ الْقَوْمُ خَلْفَهُ

ص: 14

أَوْ التِّلَاوَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ لِنَفَاذِ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ، وَتَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ لَا حُكْمَ لَهُ، بِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ؛ لِأَنَّهُمَا عَنْ الْقِرَاءَةِ مَنْهِيَّانِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ

فَيَسْجُدُونَ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَرْفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَهُ. (قَوْلُهُ: وَتَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ إلَخْ) أَثَرُ الْحَجْرِ عَدَمُ اعْتِبَارِ فِعْلِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَأَثَرُ النَّهْيِ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ لَا تَرْكُ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقًا لَا يَعْدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ، فَالْمَحْجُورُ هُوَ الْمَمْنُوعُ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ يَنْفُذُ فِعْلُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ شَاءَ أَوْ أَبَى كَمَا لَوْ فَعَلَهُ هُوَ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ.

وَالْمَأْمُومُ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْقِرَاءَةُ حَتَّى نَفَذَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ وَصَارَتْ قِرَاءَةً لَهُ كَتَصَرُّفِ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ كَأَنَّهُ تَصَرُّفُهُ فَكَانَ مَحْجُورًا فَلَا تُعْتَبَرُ قِرَاءَةً لَهُ وَكَانَتْ كَعَدَمِهَا، بِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ فَإِنَّهُمَا مَنْهِيَّانِ فَكَانَتْ مَمْنُوعَةً؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا بِعَدَمِهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي السِّرِّيَّةِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْسَنُ قِرَاءَةُ الْمُؤْتَمِّ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ الِاحْتِيَاطُ، فَلَيْسَ حِينَئِذٍ بِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ عِنْدَهُ بَلْ مُجَوَّزٍ لَهُ التَّرْكُ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ: أَعْنِي اسْتِحْسَانَ الْقِرَاءَةِ فِي السِّرِّيَّةِ عَنْ مُحَمَّدٍ ضَعِيفٌ، وَالْحَقُّ عَنْهُ خِلَافُهُ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْوُجُوبَ بِالسَّمَاعِ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا بِتِلَاوَتِهِمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ بِتِلَاوَتِهَا اسْتَثْنَاهُ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ بِتِلَاوَتِهَا كَمَا لَا يَجِبُ بِسَمَاعِهَا مِنْ غَيْرِ حَائِضٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ السَّبَبِ لِلصَّلَاةِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهَا، وَالسَّجْدَةُ جُزْءُ الصَّلَاةِ لَا بِقَيْدِ الْجُزْئِيَّةِ، بَلْ نَظَرًا إلَى ذَاتِهَا اُعْتُبِرَتْ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، فَلَا فَرْقَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا بِسَبَبِهَا كَمَا لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا بِسَبَبِهَا.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَلَا قَضَاؤُهَا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ بِالتِّلَاوَةِ وَالسَّمَاعِ سُجُودٌ، وَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ مِنْهُمْ إذَا كَانَ أَهْلًا، لَكِنْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالسَّمَاعِ مِنْ مَجْنُونٍ أَوْ نَائِمٍ أَوْ طَيْرٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ سَمَاعُ تِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ، وَصِحَّةُ التِّلَاوَةِ بِالتَّمْيِيزِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُفِيدُ التَّفْصِيلَ فِي الصَّبِيِّ فَلْيَكُنْ هُوَ الْمُعْتَبَرَ إنْ كَانَ لَهُ تَمْيِيزٌ وَجَبَ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَفِي الْخُلَاصَةِ: إذَا سَمِعَهَا مِنْ طَيْرٍ لَا تَجِبُ هُوَ الْمُخْتَارُ

ص: 15

بِتِلَاوَتِهَا كَمَا لَا يَجِبُ بِسَمَاعِهَا؛ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْجُنُبِ.

(وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا) هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَعْدُوهُمْ

(وَإِنْ سَمِعُوا وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ سَجْدَةً مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدُوهَا فِي الصَّلَاةِ)؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ هَذِهِ السَّجْدَةَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ (وَسَجَدُوهَا بَعْدَهَا) لِتَحَقُّقِ سَبَبِهَا (وَلَوْ سَجَدُوهَا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُجْزِهِمْ)؛ لِأَنَّهُ نَاقِصٌ لِمَكَانِ النَّهْيِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ. قَالَ (وَأَعَادُوهَا) لِتَقَرُّرِ سَبَبِهَا (وَلَمْ يُعِيدُوا الصَّلَاةَ)؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السَّجْدَةِ لَا يُنَافِي إحْرَامَ الصَّلَاةِ. وَفِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا،

وَمِنْ نَائِمٍ الصَّحِيحُ أَنَّهَا تَجِبُ، وَإِنْ سَمِعَهَا مِنْ الصَّدَى لَا تَجِبُ، فَأَفَادَ الْخِلَافَ فِي الْأَوَّلَيْنِ. وَالتَّصْحِيحُ

(قَوْلُهُ: هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ لَا يَسْجُدُهَا عَلَى قَوْلِهِمَا لِلْحَجْرِ بَلْ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَاسْتَضْعَفَ بَعْضُهُمْ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ بِالْحَجْرِ عَنْ الْقِرَاءَةِ إذْ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى السَّامِعِ مِنْ الْمُقْتَدِي خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَعْدُوهُمْ يَدْفَعُ هَذَا الِاسْتِضْعَافَ.

(قَوْلُهُ: لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ) فَلَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَسْتَتْبِعَ فِعْلًا فِي الصَّلَاةِ فَتَكُونُ السَّجْدَةُ حِينَئِذٍ زِيَادَةً مِنْهَا عَنْهَا فَتَكُونُ نَاقِصَةً فَلَا يَتَأَدَّى بِهَا مَا وَجَبَ كَامِلًا، ثُمَّ صَوَابُ النِّسْبَةِ فِيهِ صَلَوِيَّةٌ بِرَدِّ أَلِفِهِ وَاوًا وَحَذْفِ التَّاءِ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ حَذَفُوهَا فِي نِسْبَةِ الْمُذَكَّرِ إلَى الْمُؤَنَّثِ كَنِسْبَةِ الرَّجُلِ إلَى بَصْرَةَ مِثْلًا فَقَالُوا بَصْرِيٌّ لَا بَصْرَتِيٌّ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ تَاءَانِ فِي نِسْبَةِ الْمُؤَنَّثِ فَيَقُولُونَ بَصْرَتِيَّةٌ فَكَيْفَ بِنِسْبَةِ الْمُؤَنَّثِ إلَى

ص: 16

وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله

(فَإِنْ قَرَأَهَا الْإِمَامُ وَسَمِعَهَا رَجُلٌ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَدَخَلَ مَعَهُ بَعْدَمَا سَجَدَهَا الْإِمَامُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُدْرِكًا لَهَا بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ (وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَهَا سَجَدَهَا مَعَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْمَعْهَا سَجَدَهَا مَعَهُ فَهَهُنَا أَوْلَى (وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ سَجَدَهَا وَحْدَهُ) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ.

الْمُؤَنَّثِ. (قَوْلُهُ: وَقِيلَ هُوَ) أَيْ الْمَذْكُورُ فِي النَّوَادِرِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا قَوْلُهُمَا: بِنَاءً عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ سَجْدَةٍ تُفْسِدُ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةُ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا تُفْسِدُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّجْدَةَ الْمُفْرَدَةَ يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى. عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَقَدْ زَادُوا قُرْبَةً فَتُفْسِدُ.

وَعِنْدَهُمَا مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ شَرْعًا إلَّا فِي مَحَلِّ النَّصِّ وَهُوَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَلَا يَكُونُ السُّجُودُ وَحْدَهُ قُرْبَةً فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يَزِيدُوا مَا هُوَ قُرْبَةٌ فَكَانَ كَزِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ قِيَامٍ فَلَا تَفْسُدُ كَمَا لَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَدَخَلَ مَعَهُ بَعْدَمَا سَجَدَهَا) يَعْنِي دَخَلَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الرَّكْعَةِ، أَمَّا لَوْ دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ صَارَ مُدْرِكًا لَهَا بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ؛ يُفِيدُهُ، وَالنِّيَابَةُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَجْرِي فِي الْأَفْعَالِ إلَّا أَنَّهَا أَثَرُ الْقِرَاءَةِ فَالْتَحَقَتْ بِهَا عَلَى أَنَّ إدْرَاكَ جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الرَّكْعَةُ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ شَرْعًا فِيهِ ضَرُورِيٌّ، وَالْقِيَامُ مِنْهُ وَهُوَ فِعْلٌ، وَخَرَجَ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ فَالْتَحَقَتْ بِهَا فَقُضِيَتْ فِيهِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ سَجَدَهَا لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ) وَكَوْنُ الصَّحِيحِ أَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّ السَّامِعِ التِّلَاوَةُ لَا السَّمَاعُ، وَإِنَّمَا السَّمَاعُ شَرْطٌ لَا يَمْنَعُ مِنْ السُّجُودِ خَارِجَ الصَّلَاةِ إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التِّلَاوَةَ فِي الصَّلَاةِ لَا تَنْعَقِدُ سَبَبًا إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ فِي الصَّلَاةِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ

ص: 17

(وَكُلُّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْجُدْهَا فِيهَا لَمْ تُقْضَ خَارِجَ الصَّلَاةِ)؛ لِأَنَّهَا صَلَاتِيَّةٌ وَلَهَا مَزِيَّةُ الصَّلَاةِ، فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ

اخْتِلَافَهُمْ فِي السَّبَبِ عَلَى السَّامِعِ أَهُوَ السَّمَاعُ أَوْ التِّلَاوَةُ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ فِي السُّجُودِ عَلَى الْخَارِجِ، بِخِلَافِ السَّمَاعِ فِي الصَّلَاةِ لِتِلَاوَةِ مَنْ لَيْسَ فِيهَا، فَإِنَّ الِاحْتِيَاطَ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنْ لَا يَسْجُدَ فِي الصَّلَاةِ إذْ النَّظَرُ إلَى كَوْنِ السَّبَبِ التِّلَاوَةَ يَمْنَعُهَا فِيهَا، وَإِلَى كَوْنِهِ السَّمَاعَ يُوجِبُهَا فِيهَا. وَالْوَاجِبُ صَوْنُ الصَّلَاةِ عَنْ الزَّوَائِدِ إلَّا مَا لَا شَكَّ فِي شَرْعِيَّتِهِ فِيهَا فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يَسْجُدَ فِي الصَّلَاةِ.

(قَوْلُهُ: وَكُلُّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ) أَيْ بِتِلَاوَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ. (قَوْلُهُ: وَلَهَا مَزِيَّةٌ) أَيْ لِلصَّلَوِيَّةِ مَزِيَّةٌ لِتَأَدِّيهَا فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، فَوُجُوبُ تَأَدِّيهَا فِي إحْرَامِ الصَّلَاةِ هُوَ الْمُسْتَلْزِمُ لِتَأْدِيَةِ مَا وَجَبَ؟ كَامِلًا نَاقِصًا؟، وَهُوَ عِلَّةُ عَدَمِ قَضَائِهَا خَارِجَهَا بِالتَّحْقِيقِ لَا مُجَرَّدِ تَسْمِيَتِهَا صَلَوِيَّةً، وَمُقْتَضَى هَذَا جَوَازُ تَأْخِيرِهَا مِنْ رَكْعَةٍ إلَى رَكْعَةٍ بَعْدَ أَنْ لَا يُخْلِيَ الصَّلَاةَ عَنْهَا، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لَهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ فِي رُكْنٍ فَسَجَدَ لَهَا لَا يُعِيدُهُ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهَا بَعْدَ التَّذَكُّرِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَاحِدَةٌ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ التَّأْخِيرِ، بَلْ الْمُرَادُ أَجْزَأَتْهُ السَّجْدَةُ آخِرَ الصَّلَاةِ، لَكِنْ صَرَّحَ فِي الْبَدَائِعِ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ فِي فَصْلِ بَيَانِ وَقْتِ أَدَائِهَا، وَأَنَّهُ إذَا أَخَّرَهَا حَتَّى طَالَتْ التِّلَاوَةُ تَصِيرُ قَضَاءً وَيَأْثَمُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مُلْحَقَةً بِنَفْسِ التِّلَاوَةِ فَلِذَا فُعِلَتْ فِيهَا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ بَلْ زَائِدَةً، بِخِلَافِ غَيْرِ الصَّلَوِيَّةِ، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى التَّرَاخِي عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ بَلْ عَلَى الْفَوْرِ أَيْضًا.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَحَقَّقُ عَدَمُ السُّجُودِ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ تَتَأَدَّى فِي ضِمْنِ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَكَذَا تَتَأَدَّى فِي ضِمْنِ الرُّكُوعِ؟ قُلْنَا: مُرَادُهُ إذَا سَجَدَ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ عَلَى الْفَوْرِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا لَمْ يَسْجُدْ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى لَوْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَرَكَعَ أَوْ سَجَدَ صُلْبِيَّةً يَنْوِي بِهَا التِّلَاوَةَ لَمْ تُجْزِ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا فَلَا تَتَأَدَّى فِي ضِمْنِ الْغَيْرِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ سَوْقِ عِبَارَتِهِ. قَالَ: رَجُلٌ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ فِي آخِرِ السُّورَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ آخِرِهَا بَعْدَهَا آيَةٌ أَوْ آيَتَانِ إلَى آخِرِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَكَعَ بِهَا يَنْوِي التِّلَاوَةَ، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْقِيَامِ فَيَخْتِمُ السُّورَةَ، وَإِنْ وَصَلَ بِهَا سُورَةً أُخْرَى كَانَ أَفْضَلَ، فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلتِّلَاوَةِ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ لِصَلَاتِهِ تَسْقُطُ عَنْهُ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَا يَنْقَطِعُ الْفَوْرُ، وَلَوْ رَكَعَ لِصَلَاتِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَسَجَدَ تَسْقُطُ عَنْهُ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ نَوَى فِي السَّجْدَةِ السَّجْدَةَ لِلتِّلَاوَةِ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَلِذَا إذَا قَرَأَ بَعْدَهَا آيَتَيْنِ أَجْمَعُوا أَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ تَتَأَدَّى بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الرُّكُوعِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفِ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ: لَا بُدَّ لِلرُّكُوعِ مِنْ النِّيَّةِ حَتَّى يَنُوبَ عَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ، وَإِنْ قَرَأَ بَعْدَ السَّجْدَةِ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَرَكَعَ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: يَنْقَطِعُ الْفَوْرُ وَلَا يَنُوبُ الرُّكُوعُ عَنْ السَّجْدَةِ، وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: لَا يَنْقَطِعُ مَا لَمْ يَقْرَأْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ اهـ. فَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَسْجُدَ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ صَرَّحُوا

ص: 18

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى السَّجْدَةَ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إذَا نَوَاهَا فِي السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ فِي فَصْلِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا، وَسَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ الْحَلْوَانِيِّ هُوَ الرِّوَايَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى النِّيَّةِ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الْفَوْرِ فِي الْبَدَائِعِ مَا يُفِيدُ خِلَافَهُ مِنْ ثُبُوتِ الْخِلَافِ. قَالَ: ثُمَّ إذَا رَكَعَ قَبْلَ أَنْ تَطُولَ الْقِرَاءَةُ هَلْ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِقِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؟.

فَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّكْتَةِ أَنْ لَا يَحْتَاجَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَحْصِيلِ التَّعْظِيمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَدْ وُجِدَ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ كَالْمُعْتَكِفِ فِي رَمَضَانَ إذَا لَمْ يَنْوِ بِصِيَامِهِ عَنْ الِاعْتِكَافِ، وَاَلَّذِي دَخَلَ الْمَسْجِدَ إذَا اشْتَغَلَ بِالْفَرْضِ غَيْرَ نَاوٍ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَيَدَّعِي أَنَّ مُحَمَّدًا أَشَارَ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ فِي الرُّكُوعِ يَخِرُّ سَاجِدًا فَيَسْجُدُ كَمَا تَذَكَّرَ ثُمَّ يَقُومُ فَيَعُودُ إلَى الرُّكُوعِ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرُّكُوعُ الَّذِي تَذَكَّرَ فِيهِ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ بِلَا فَصْلٍ أَوْ بِهِ، فَلَوْ كَانَ الرُّكُوعُ مِمَّا يَنُوبُ عَنْ السَّجْدَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لَكَانَ لَا يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ بَلْ قَامَ نَفْسُ الرُّكُوعِ مَقَامَ التِّلَاوَةِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ رحمه الله بِدَفْعِ دَلَالَةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ بِمَا لَا يَقْوَى، ثُمَّ طَالَبَهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَصَوْمِ الْمُعْتَكِفِ فِي رَمَضَانَ وَالصَّلَاةِ، وَذَكَرَ جَوَابَ الْقَائِلِ عَنْهُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُنَا هُوَ السُّجُودُ، إلَّا أَنَّ الرُّكُوعَ أُقِيمَ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَبَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَرْقٌ، فَلِمُوَافَقَةِ الْمَعْنَى تَتَأَدَّى السَّجْدَةُ بِالرُّكُوعِ إذَا نَوَى، وَلِمُخَالَفَةِ الصُّورَةِ لَا تَتَأَدَّى إذَا لَمْ يَنْوِ، بِخِلَافِ صَوْمِ الشَّهْرِ فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ مُوَافَقَةً مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَكَذَا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ هَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ إنْ كَانَ بِهَا عِبْرَةٌ فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ، وَإِنْ نَوَى، فَإِنَّ مَنْ نَوَى إقَامَةَ غَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مَقَامَ مَا وَجَبَ لَا يَقُومُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا عِبْرَةٌ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى النِّيَّةِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَعُذْرُ الصَّوْمِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ مُخَالَفَةً مِنْ حَيْثُ سَبَبُ الْوُجُوبِ فَكَانَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِ بِالرُّكُوعِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَلَمْ يَقُمْ يَحْتَاجُ فِي السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ إلَى أَنْ يَنْوِيَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةً لِاخْتِلَافِ سَبَبَيْ وُجُوبِهِمَا. انْتَهَى. فَهَذَا يُصَرِّحُ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ فِي إيقَاعِ السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ عَنْ التِّلَاوَةِ فِيمَا إذَا لَمْ تَطُلْ الْقِرَاءَةُ عَلَى مَا هُوَ أَصْلُ الصُّورَةِ كَمَا نَقَلْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْمَنْقُولِ فَلَمْ يَصِحَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا تَمَامَ عِبَارَتِهِ لِإِفَادَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْفَوَائِدِ؛ ثُمَّ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ إذَا رَكَعَ وَسَجَدَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ يَنْوِيهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا فِي الرُّكُوعِ وَنَوَاهَا فِي السُّجُودِ لَمْ تُجْزِهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِفَوَاتِهَا عَنْ مَحِلِّهَا؛ لِأَنَّهَا لِوُجُوبِهَا بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ شَرْعًا بِدَلِيلِ وُجُوبِ أَدَائِهَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ فِيهَا. وَتَحْصِيلُ مَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا إنْ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبُ نُقْصَانَهَا، وَكَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا تُؤَدَّى إلَّا بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ أَفْعَالِهَا، وَمَبْنَى الْأَفْعَالِ أَنْ يُؤَدَّى كُلُّ فِعْلٍ فِي مَحِلِّهِ الْمَخْصُوصِ، فَكَذَا هَذِهِ فَإِذَا لَمْ تُؤَدَّ فِي مَحِلِّهَا حَتَّى فَاتَ صَارَتْ دَيْنًا، وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَصِرْ دَيْنًا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى التَّعْظِيمِ عِنْدَ تِلْكَ التِّلَاوَةِ وَقَدْ وُجِدَ فِي ضِمْنِهِمَا فَكَفَى، كَدَاخِلِ الْمَسْجِدِ

ص: 19

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذَا صَلَّى الْفَرْضَ كَفَى عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِحُصُولِ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ، غَيْرَ أَنَّ الرُّكُوعَ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً فِي الشَّرْعِ مُنْفَرِدًا عَنْ الصَّلَاةِ فَلِذَا تَتَأَدَّى بِهِ السَّجْدَةُ إذَا تَلَا فِي الصَّلَاةِ لَا خَارِجَهَا.

فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَالُوا: إنَّ تَأَدِّيَهَا فِي ضِمْنِ الرُّكُوعِ هُوَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ عَدَمُهُ، وَالْقِيَاسُ هُنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ فَأَسْعَفَنِي بِكَشْفِ هَذَا الْمَقَامِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ مَا خَفِيَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُنَاطُ بِهَا الْحُكْمُ وَمِنْ الْقِيَاسِ مَا كَانَ ظَاهِرًا مُتَبَادَرًا فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَا يُقَابِلُ الْقِيَاسَ الْمَحْدُودَ فِي الْأُصُولِ بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ، قَدْ يَكُونُ الِاسْتِحْسَانُ بِالنَّصِّ وَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرُورَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْقِيَاسِ إذَا كَانَ لِقِيَاسٍ آخَرَ مُتَبَادَرٍ وَذَلِكَ خَفِيٌّ وَهُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، فَيُسَمَّى الْخَفِيُّ اسْتِحْسَانًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْمُتَبَادَرِ فَثَبَتَ بِهِ أَنَّ مُسَمَّى الِاسْتِحْسَانِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، وَيُسَمَّى مُقَابِلُهُ قِيَاسًا بِاعْتِبَارِ الشَّبَهِ وَبِسَبَبِ كَوْنِ الْقِيَاسِ الْمُقَابِلِ مَا ظَهَرَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاسْتِحْسَانِ ظَنَّ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ الصُّلْبِيَّةَ هِيَ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لَا الرُّكُوعَ، وَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ تَقُومَ الصُّلْبِيَّةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَقُومُ بَلْ الرُّكُوعُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ السَّجْدَةِ بِالسَّجْدَةِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَكَانَ هُوَ الْقِيَاسَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ نَفْسِهَا فَلَا تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا، كَصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَقُومُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ آخَرَ، فَصَحَّ أَنَّ الْقِيَاسَ وَهُوَ الْأَمْرُ الظَّاهِرُ هُنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ، بِخِلَافِ قِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَهَا وَأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَهُوَ الْخَفِيُّ فَكَانَ حِينَئِذٍ مِنْ تَقْدِيمِ الِاسْتِحْسَانِ لَا الْقِيَاسِ، لَكِنَّ عَامَّةَ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ الرُّكُوعَ هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَهَا، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْت فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِالسَّجْدَةِ نَفْسِهَا هَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَالرُّكُوعُ فِي ذَلِكَ وَالسَّجْدَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ صَلَاةٌ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْجُدَ، وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ وَهَذَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ.

وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِيهِمَا وَاحِدٌ. فَكَانَا فِي حُصُولِ التَّعْظِيمِ فِيهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ إمَّا اقْتِدَاءً بِمَنْ عَظَّمَ، وَإِمَّا مُخَالَفَةً لِمَنْ اسْتَكْبَرَ، فَكَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الْجَوَازَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّعْظِيمُ بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ السُّجُودُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْكَعْ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ نَوَى بِالرُّكُوعِ أَنْ يَقَعَ عَنْ السَّجْدَةِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ أَخَذُوا بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا أَجَازَا أَنْ يَرْكَعَ عَنْ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُهُ فَلِذَا قُدِّمَ الْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِلْخَفِيِّ لِخَفَائِهِ وَلَا لِلظَّاهِرِ لِظُهُورِهِ، بَلْ يُرْجَعُ فِي التَّرْجِيحِ إلَى مَا اقْتَرَنَ بِهِمَا مِنْ الْمَعَانِي، فَمَتَى قَوِيَ الْخَفِيُّ أَخَذُوا بِهِ، أَوْ الظَّاهِرُ أَخَذُوا بِهِ، غَيْرَ أَنَّ اسْتِقْرَاءَهُمْ أَوْجَبَ قِلَّةَ قُوَّةِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَفِيِّ الْمُعَارِضِ لَهُ، فَلِذَا حَصَرُوا مَوَاضِعَ تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ فِي بِضْعَةِ عَشَرَ مَوْضِعًا تُعْرَفُ فِي الْأُصُولِ هَذَا أَحَدُهَا وَلَا حَصْرَ لِمُقَابِلِهِ.

ثُمَّ النَّصُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّ السُّجُودَ بِهَا أَفْضَلُ هَكَذَا مُطْلَقًا فِي الْبَدَائِعِ، وَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا سَجَدَ ثُمَّ قَامَ وَرَكَعَ حَصَّلَ قُرْبَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَكَعَ، وَلِأَنَّهُ بِالسُّجُودِ مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَأَمَّا بِالرُّكُوعِ فَبِمَعْنَاهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ، وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ آخِرَ السُّورَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْكَعَ بِهَا، ثُمَّ إذَا سَجَدَ لَهَا، وَقَامَ فَرَكَعَ كَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ دُونَ قِرَاءَةٍ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْآيَةُ فِي وَسَطِ السُّورَةِ أَوْ خَتْمِهَا أَوْ بَقِيَ إلَى الْخَتْمِ آيَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَانِيًا الرُّكُوعَ عَلَى السُّجُودِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ ثُمَّ يَرْكَعَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي وَسَطِ السُّورَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَهَا إذَا رَفَعَ ثُمَّ يَرْكَعُ، وَإِنْ كَانَ خَتَمَهَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ آيَةً مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ يَرْكَعَ، وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْهَا آيَتَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ كَسُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَالِانْشِقَاقِ

ص: 20

(وَمَنْ تَلَا سَجْدَةً فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى دَخَلَ فِي صَلَاةٍ فَأَعَادَهَا وَسَجَدَ أَجْزَأَتْهُ السَّجْدَةُ عَنْ التِّلَاوَتَيْنِ)؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَقْوَى لِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً فَاسْتُتْبِعَتْ الْأُولَى. وَفِي النَّوَادِرِ يَسْجُدُ أُخْرَى بَعْدَ الْفَرَاغِ

كَانَ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ بِهَا فِي الْآيَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَفِي الثَّلَاثِ اخْتَلَفُوا: قِيلَ لَا يُجْزِئُ الرُّكُوعُ بِهَا لِانْقِطَاعِ الْفَوْرِ بِالثَّلَاثِ، وَقِيلَ لَا يَنْقَطِعُ بِالثَّلَاثِ وَهُوَ الْأَحَقُّ.

وَفِي الْبَدَائِعِ الْأَوْجَهُ أَنْ يُفَوِّضَ إلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ أَوْ يَعْتَبِرَ مَا يُعَدُّ طَوِيلًا عَلَى أَنْ جَعَلَ ثَلَاثَ آيَاتٍ قَاطِعَةً لِلْفَوْرِ خِلَافَ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: قُلْت أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَالسَّجْدَةُ فِي آخِرِ السُّورَةِ، إلَّا آيَاتٍ بَقِيَتْ مِنْ السُّورَةِ بَعْدَ آيَةِ السَّجْدَةِ، قَالَ: هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَكَعَ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ بِهَا. قُلْت: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِهَا خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ بِهَا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ السَّجْدَةِ ثُمَّ يَقُومَ فَيَتْلُوَ مَا بَعْدَهَا مِنْ السُّورَةِ وَهُوَ آيَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ ثُمَّ يَرْكَعَ، قَالَ نَعَمْ: إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ وَصَلَ بِهَا سُورَةً أُخْرَى. وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ لَيْسَتْ قَاطِعَةً لِلْفَوْرِ وَلَا مُدْخِلَةً لِلسَّجْدَةِ فِي حَيِّزِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ لَوْ سَجَدَ بِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ بَاقِيَ السُّورَةِ ثُمَّ يَرْكَعَ، ثُمَّ عَلَّلَ فِي الْبَدَائِعِ أَفْضَلِيَّةَ وَصْلِ السُّورَةِ بِمَا يَقْتَضِي قَصْرَهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْبَاقِي آيَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ خَاتِمَةِ السُّورَةِ دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ كَيْ لَا يَصِيرَ بَانِيًا لِلرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا جَعَلَهُ حُكْمًا لِهَذَا التَّعْلِيلِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ بَقِيَ إلَى الْخَتْمِ قَدْرُ آيَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ.

. (قَوْلُهُ: أَجْزَأَتْهُ السَّجْدَةُ عَنْ التِّلَاوَتَيْنِ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَتَبَدَّلْ مَجْلِسُ

ص: 21

لِأَنَّ لِلْأُولَى قُوَّةَ السَّبْقِ فَاسْتَوَيَا. قُلْنَا: لِلثَّانِيَةِ قُوَّةُ اتِّصَالِ الْمَقْصُودِ فَتَرَجَّحَتْ بِهَا (وَإِنْ تَلَاهَا فَسَجَدَ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَتَلَاهَا سَجَدَ لَهَا)؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الْمُسْتَتْبِعَةُ وَلَا وَجْهَ إلَى إلْحَاقِهَا بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سَبْقِ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ

(وَمَنْ كَرَّرَ تِلَاوَةَ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ قَرَأَهَا فِي مَجْلِسِهِ فَسَجَدَهَا ثُمَّ ذَهَبَ وَرَجَعَ فَقَرَأَهَا سَجَدَهَا ثَانِيَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَجَدَ لِلْأُولَى فَعَلَيْهِ السَّجْدَتَانِ) فَالْأَصْلُ أَنَّ مَبْنَى السَّجْدَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ

التِّلَاوَةِ مَعَ مَجْلِسِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَبَدَّلَ فَلِكُلٍّ سَجْدَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إمَّا مُنْدَرِجَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ أَنَّ تَكْرِيرَ تِلَاوَةِ سَجْدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يُوجِبُ سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَجَدَ لِلْأُولَى ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَتَلَاهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّجُودُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْآتِيَةِ أَنَّهُ إذَا كَرَّرَهَا فِي مَجْلِسٍ كَفَتْهُ سَجْدَةٌ سَوَاءٌ قَدَّمَهَا أَوْ وَسَّطَهَا أَوْ أَخَّرَهَا عَنْ التِّلَاوَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ بِالصَّلَاةِ كَمَا بِالْأَكْلِ وَنَحْوِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْفِيَهُ إلَّا سَجْدَتَانِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ مَوْضُوعَهَا مِنْ حُكْمِ جُزْئِيَّاتِ مَوْضُوعِهَا لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِيهَا عَمَلٌ قَلِيلٌ، لَكِنْ خُصَّ مَوْضُوعُهَا مِنْ حُكْمِ ذَلِكَ الْعَامِّ، فَفُصِلَ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَسْجُدَ لِلْأُولَى فَلَا يُغْنِي عَنْ السُّجُودِ لِلصَّلَوِيَّةِ أَوْ لِلصَّلَوِيَّةِ فَيُغْنِي عَنْ الْأُولَى، أَوْ لَا يَسْجُدُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَيَسْقُطَانِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ التَّدَاخُلُ فِي هَذِهِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ الثَّانِيَةُ مُسْتَتْبِعَةً لِلْأُولَى إنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ يُوجِبُ التَّدَاخُلَ، وَكَوْنُ الثَّانِيَةِ قَوِيَّةً بِسَبَبِ قُوَّةِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ التِّلَاوَةُ الْفَرِيضَةُ، وَتَفَاوُتُ الْمُسَبِّبَاتِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْأَسْبَابِ مَنَعَ مِنْ جَعْلِ الْأُولَى مُسْتَتْبِعَةً، إذْ اسْتِتْبَاعُ الضَّعِيفِ الْقَوِيَّ عَكْسُ الْمَعْقُولِ، وَنَقْضُ الْأُصُولِ فَوَجَبَ التَّدَاخُلُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ. وَإِذَا لَمْ يَسْجُدْ لِلصَّلَوِيَّةِ وَقَدْ صَارَتْ تِلَاوَةُ الْأُولَى مُنْدَرِجَةً فِيهَا سَقَطَتَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ كُلَّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا امْتَنَعَ قَضَاؤُهَا.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ كَرَّرَ تِلَاوَةَ سَجْدَةٍ إلَخْ) انْدَرَجَ بَعْضُ شَرْحِهَا فِيمَا ذَكَرْنَا قَبْلَهَا،

ص: 22

دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَهُوَ تَدَاخُلٌ فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْعِبَادَاتِ

وَالْمُحْتَاجُ إلَيْهِ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الْأَلْيَقَ فِي الْعِبَادَاتِ عِنْدَ ثُبُوتِ التَّدَاخُلِ كَوْنُهُ فِي السَّبَبِ وَبَيَانُ وَجْهِ ثُبُوتِهِ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ. أَمَّا الثَّانِي فَبِالنَّصِّ، وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْمَعُ مِنْ جِبْرِيلَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَيَقْرَؤُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَرِّرُ حَدِيثَهُ ثَلَاثًا لِيُعْقَلَ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْقُرْآنِ وَبِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ السَّمِيعَ إذَا قَرَأَهَا لَا تَجِبُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ التِّلَاوَةُ وَالسَّمَاعُ وَكُلٌّ سَبَبٌ عَلَى حِدَتِهِ حَتَّى يَجِبَ بِالسَّمَاعِ وَحْدَهُ وَبِالتِّلَاوَةِ وَحْدَهَا إذَا كَانَ التَّالِي أَصَمَّ.

وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ تَكْرَارَ الْقِرَاءَةِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِلْحِفْظِ وَالتَّعْلِيمِ وَالِاعْتِبَارِ، فَلَوْ تَكَرَّرَ الْوُجُوبُ لَحَرَجَ النَّاسَ زِيَادَةَ حَرَجٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَحْفَظُ مِنْ عَشْرِ مَرَّاتٍ بَلْ أَكْثَرَ فَيَلْزَمُ الْحَرَجُ مِنْ جِهَةِ إلْزَامِ الْحُكْمِ كَذَلِكَ، وَفِي حِفْظِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ جِدًّا، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالتَّدَاخُلِ، وَلَمَّا كَانَ مُثِيرُ ذَلِكَ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ هُوَ الْحَرَجُ اللَّازِمُ بِتَقْدِيرِ إيجَابِ التَّكْرَارِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّدَاخُلِ كَوْنُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ ثَبَتَ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ لِكُلِّ سَبَبٍ حُكْمًا فَيَلِيقُ بِالْأَحْكَامِ لَا بِالْأَسْبَابِ؛ لِثُبُوتِ الْأَسْبَابِ حِسًّا بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ، وَاعْتِبَارُ الثَّابِتِ حِسًّا غَيْرَ ثَابِتٍ أَبْعَدُ مِنْ اعْتِبَارِهِ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَحْسُوسِ، لَكِنَّا لَوْ قُلْنَا بِهِ فِي الْحُكْمِ فِي الْعِبَادَاتِ لَبَطَلَ التَّدَاخُلُ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَسْبَابِ يَتَعَدَّدُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ يَتَّحِدُ فَيَتَعَدَّدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَارَتْ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالسُّقُوطِ ثَبَتَتْ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّكْثِيرِ؛ لِأَنَّا خُلِقْنَا لَهَا، بِخِلَافِ الْعُقُوبَاتِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الدَّرْءِ وَالْعَفْوِ حَتَّى إذَا دَارَتْ كَذَلِكَ سَقَطَتْ، وَلِأَنَّ الْمُتَحَقَّقَ تَأْثِيرُ الْمَجْلِسِ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ لَا الْأَحْكَامِ عَلَى مَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا التَّدَاخُلُ تَقْيِيدٌ بِالْمَجْلِسِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ فِي السَّبَبِ.

وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ زَنَى فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى يُحَدُّ ثَانِيًا، وَلَوْ تَلَا فَسَجَدَ ثُمَّ تَلَا لَا يَجِبُ السُّجُودُ ثَانِيًا. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ هُوَ الْمُبْطِلُ هُنَاكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ خُيِّرَتْ قَائِمَةً فَقَعَدَتْ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا. فَلَوْ كَانَ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ يَحْصُلُ بِالْقِيَامِ خَرَجَ إذْ لَا فَرْقَ، فَعُلِمَ أَنَّ خُرُوجَهُ فِي الْقِيَامِ لِلْإِعْرَاضِ لَا لِلْقِيَامِ، وَلَيْسَ فِي الْقُعُودِ عَنْ قِيَامٍ إعْرَاضٌ بَلْ هُوَ أَجْمَعُ لِلرَّأْيِ، ثُمَّ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ، إلَّا فِي الْيَسِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِخُطْوَةٍ أَوْ خُطْوَتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ مَجْلِسٌ وَاحِدٌ، فَلَوْ انْتَقَلَ مِنْ مَكَان إلَى آخَرَ فِي الْبَيْتِ أَوْ الْمَسْجِدِ لَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ، وَكَذَا السَّفِينَةُ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً لَا يُوجِبُ سَيْرُهَا اخْتِلَافَ الْمَكَانِ، وَالْمَجْلِسُ وَالدَّابَّةُ إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ رَاكِبٌ كَالسَّفِينَةِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ شَرْعًا اعْتِبَارٌ لِلْأَمْكِنَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ مَكَانًا، بِخِلَافِ الْمَشْيِ بِالْقَدَمِ فَإِنَّهُ لَا مُوجِبَ لِاعْتِبَارِ الْأَمْكِنَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِيهِ مَكَانًا، إذْ لَمْ تُجَوَّزْ صَلَاةُ الْمَاشِي، وَلِذَا قَالُوا: لَوْ كَانَ خَلْفَهُ غُلَامٌ يَمْشِي وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ رَاكِبًا وَكَرَّرَهَا تَكَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَى الْغُلَامِ دُونَ الرَّاكِبِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ سَائِرَةٌ فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ.

وَقِيلَ إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا يَخْتَلِفُ الْمَسْجِدُ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ أَكَلَ أَكْثَرَ مِنْ لُقْمَتَيْنِ فِي غَيْرِ مَكَانِ التِّلَاوَةِ أَوْ تَكَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَكَحَ أَوْ نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ أَرْضَعَتْ وَلَدًا أَوْ أَخَذَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ عَمَلٍ يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ لَا إنْ كَانَ يَسِيرًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ فِيهَا مِنْ رَكْعَةٍ إلَى أُخْرَى اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا، فَلَوْ قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ ثُمَّ كَرَّرَهَا فِي أُخْرَى وَجَبَتْ

ص: 23

وَالثَّانِي بِالْعُقُوبَاتِ وَإِمْكَانُ التَّدَاخُلِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا، لِلْمُتَفَرِّقَاتِ فَإِذَا اخْتَلَفَ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَهُوَ الْمُبْطِلُ هُنَالِكَ.

أُخْرَى عِنْدَهُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. لَهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّدَاخُلِ يُؤَدِّي إلَى إخْلَاءِ إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَيَفْسُدُ. قُلْنَا: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِالِاتِّحَادِ فِي حَقِّ حُكْمٍ بُطْلَانُ الْعَدَدِ فِي حَقِّ حُكْمٍ آخَرَ فَقُلْنَا بِالْعَدَدِ فِي حُكْمٍ هُوَ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَبِالِاتِّحَادِ فِيمَا قُلْنَا.

وَقَدْ أَفَادَ تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّكْرَارَ فِيمَا إذَا كَرَّرَهَا فِي النَّفْلِ أَوْ الْوِتْرِ مُطْلَقًا وَفِي الْفَرْضِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، أَمَّا لَوْ كَرَّرَهَا بَعْدَ أَدَاءِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَكْفِيَهُ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّدَاخُلِ مُنْتَفٍ حِينَئِذٍ

ص: 24

وَفِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ، وَفِي الْمُنْتَقِلِ مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ، وَكَذَا فِي الدِّيَاسَةِ لِلِاحْتِيَاطِ (وَلَوْ تَبَدَّلَ مَجْلِسُ السَّامِعِ دُونَ التَّالِي يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ السَّمَاعُ (وَكَذَا إذَا تَبَدَّلَ مَجْلِسُ التَّالِي دُونَ السَّامِعِ) عَلَى مَا قِيلَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ عَلَى السَّامِعِ لِمَا قُلْنَا.

(وَمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ كَبَّرَ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ) اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي. (قَوْلُهُ: وَفِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ، وَفِي الْمُنْتَقِلِ مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ وَفِي الدِّيَاسَةِ كَذَلِكَ) فِي النِّهَايَةِ: هَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي الْأَخِيرَيْنِ لَا فِي التَّسْدِيَةِ، لَكِنْ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ أَيْضًا، قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ وَالدِّيَاسَةِ وَاَلَّذِي يَدُورُ حَوْلَ الرَّحَى وَاَلَّذِي يَسْبَحُ فِي الْمَاءِ وَاَلَّذِي تَلَا فِي غُصْنٍ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى آخَرَ، وَالْأَصَحُّ الْإِيجَابُ لِتَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ، وَلِذَا يُعْتَبَرُ مُخْتَلَفًا فِي الْغُصْنَيْنِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، حَتَّى أَنَّ الْحَالَّ لَوْ رَمَى صَيْدًا عَلَى غُصْنِ شَجَرَةٍ أَصْلُهَا فِي الْحِلِّ وَالْغُصْنُ فِي الْحَرَمِ يَجِبُ الْجَزَاءُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ تَكَرُّرَ الْوُجُوبِ فِي التَّسْدِيَةِ بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَادِ فِي بِلَادِهِمْ مِنْ أَنَّهَا أَنْ يَغْرِسَ الْحَائِكُ خَشَبَاتٍ يُسَوِّي فِيهَا السَّدَى ذَاهِبًا وَجَائِيًا، أَمَّا عَلَى مَا هِيَ بِبِلَادِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَغَيْرِهَا بِأَنْ يُدِيرَهُ عَلَى دَائِرَةٍ عُظْمَى وَهُوَ جَالِسٌ فِي مَكَان وَاحِدٍ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ تَبَدَّلَ مَجْلِسُ السَّامِعِ دُونَ التَّالِي يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ) عَلَى السَّامِعِ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إذَا تَبَدَّلَ مَجْلِسُ التَّالِي دُونَ السَّامِعِ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ عَلَى السَّامِعِ أَيْضًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا إنَّ السَّبَبَ فِي السَّمَاعِ السَّمَاعُ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ مَجْلِسُهُ فِيهِ، وَظَاهِرُ الْكَافِي تَرْجِيحُ أَنَّهُ يَتَكَرَّرُ، قَالَ: الْأَصْلُ أَنَّ التِّلَاوَةَ سَبَبٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ تُضَافُ إلَيْهَا وَتَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا، وَفِي السَّمَاعِ خِلَافٌ قِيلَ: إنَّهُ سَبَبٌ لِمَا رَوَيْنَا: يَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا» إلَى آخِرِهِ، وَالصَّحِيحُ السَّبَبُ فِي حَقِّ السَّامِعِ التِّلَاوَةُ، وَالسَّمَاعُ شَرْطُ عَمَلِ التِّلَاوَةِ فِي حَقِّهِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَتَكَرَّرُ إجْمَاعًا.

أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ فَلِأَنَّ السَّبَبَ السَّمَاعُ وَمَجْلِسُ السَّمَاعِ مُتَعَدِّدٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَلِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ أَبْطَلَ الْعَدَدَ فِي حَقِّ التَّالِي فَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ يَتَكَرَّرُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا الشَّرْطِ، وَقِيلَ لَا يَتَكَرَّرُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ السَّمَاعُ

(قَوْلُهُ: اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ)

ص: 25

(وَلَا تَشَهُّدَ عَلَيْهِ وَلَا سَلَامَ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّحَلُّلِ وَهُوَ يَسْتَدْعِي سَبْقَ التَّحْرِيمَةِ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا وَيَدَعَ آيَةَ السَّجْدَةِ)؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِنْكَافَ عَنْهَا (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَيَدَعَ مَا سِوَاهَا)؛ لِأَنَّهُ مُبَادَرَةٌ إلَيْهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْرَأَ قَبْلَهَا آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ دَفْعًا لِوَهْمِ التَّفْضِيلِ وَاسْتَحْسَنُوا إخْفَاءَهَا شَفَقَةً عَلَى السَّامِعِينَ.

يُشِيرُ إلَى أَنَّ التَّكْبِيرَتَيْنِ مَنْدُوبَتَانِ لَا وَاجِبَتَانِ فَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ، وَلَا تُحَرَّمَ، وَإِنْ اُشْتُرِطَ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَيَقُولُ فِي السَّجْدَةِ مَا يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ أَوْلِيَائِهِ بِذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مَا صَحَّحَ عَلَى عُمُومٍ، فَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ فِي الصَّلَاةِ فَيَقُولُ فِيهَا مَا يُقَالُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةً قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، أَوْ نَفْلًا قَالَ مَا شَاءَ مِمَّا وَرَدَ كَسَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ إلَى آخِرِهِ، وَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ اُكْتُبْ لِي عِنْدَك بِهَا أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَك زُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتهَا مِنْ عَبْدِك دَاوُد، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ قَالَ كُلَّ مَا أُثِرَ مِنْ ذَلِكَ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُكَبِّرُ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ، وَعَنْهُ يُكَبِّرُ عِنْدَهُ لَا فِي الِانْتِهَاءِ. وَقِيلَ يُكَبِّرُ فِي الِابْتِدَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الِانْتِهَاءِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ نَعَمْ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِلِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ فَيَسْجُدَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ؛ وَلِأَنَّ الْخُرُورَ الَّذِي مُدِحَ بِهِ أُولَئِكَ فِيهِ

. (قَوْلُهُ: قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ إلَى آخِرِهِ. (قَوْلُهُ: دَفْعًا لِوَهْمِ التَّفْضِيلِ) أَيْ تَفْضِيلِ آيِ السَّجْدَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَالْكُلُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فِي رُتْبَةٍ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا بِسَبَبِ اشْتِمَالِهِ عَلَى ذِكْرِ صِفَاتِ الْحَقِّ جل جلاله زِيَادَةُ فَضِيلَةٍ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ لَا بِاعْتِبَارِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قُرْآنٌ.

وَفِي الْكَافِي قِيلَ مَنْ قَرَأَ آيَ السَّجْدَةِ كُلَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَسَجَدَ لِكُلٍّ مِنْهَا كَفَاهُ اللَّهُ مَا أَهَمَّهُ. وَمَا ذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ فِي كَرَاهَةِ تَرْكِ آيَةٍ مِنْ السَّجْدَةِ سُورَةً يَقْرَؤُهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعًا لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرًا لِتَأْلِيفِهِ، وَاتِّبَاعُ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ مَأْمُورٌ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أَيْ تَأْلِيفَهُ، فَكَانَ التَّغْيِيرُ مَكْرُوهًا يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ذَلِكَ. وَفِيهِ أَيْضًا لَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ مِنْ بَيْنِ السُّورَةِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ؛ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى مُرَادِ الْآيَةِ؛ وَلِيَحْصُلَ بِحَقِّ الْقِرَاءَةِ لَا بِحَقِّ إيجَابِ السَّجْدَةِ، إذْ الْقِرَاءَةُ لِلسُّجُودِ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَبَّةٍ فَيَقْرَأُ مَعَهَا آيَاتٍ؛ لِيَكُونَ قَصْدُهُ إلَى التِّلَاوَةِ لَا إلَى إيجَابِ السُّجُودِ. اهـ. (قَوْلُهُ: شَفَقَةً عَلَى السَّامِعِينَ) وَقِيلَ إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ عَدَمُ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ جَهَرَ حَثًّا لَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ

ص: 26

‌بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ

السَّفَرُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا

(فُرُوعٌ)

إذَا تَلَا عَلَى الْمِنْبَرِ سَجَدَ وَيَسْجُدُونَ مَعَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ تَلَا عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ» وَقَدَّمْنَا أَنَّ السُّنَّةَ فِي أَدَائِهَا أَنْ يَتَقَدَّمَ التَّالِي وَيَصُفَّ السَّامِعُونَ خَلْفَهُ، وَلَيْسَ هَذَا اقْتِدَاءً حَقِيقَةً بَلْ صُورَةً، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَسْبِقُوهُ بِالْوَضْعِ وَلَا بِالرَّفْعِ، فَلَوْ كَانَ حَقِيقَةَ ائْتِمَامٍ لَوَجَبَ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَوْ فَسَدَتْ سَجْدَةُ التَّالِي بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَاقِينَ، إذَا تَلَا رَاكِبًا أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ أَجْزَأَهُ الْإِيمَاءُ وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ، وَلَوْ نَزَلَ الرَّاكِبُ فَسَجَدَ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، فَلَوْ نَزَلَ فَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ رَكِبَ فَأَوْمَأَ لَهَا جَازَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ هُوَ يَقُولُ لَمَّا نَزَلَ وَجَبَ أَدَاؤُهَا عَلَى الْأَرْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ. قُلْنَا: لَوْ أَدَّاهَا قَبْلَ نُزُولِهِ جَازَ فَكَذَا بَعْدَمَا نَزَلَ وَرَكِبَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهَا بِالْإِيمَاءِ فِي الْوَجْهَيْنِ وَقَدْ وَجَبَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

وَيُشْتَرَطُ لِلسَّجْدَةِ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ سِوَى التَّحْرِيمَةِ مِنْ النِّيَّةِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالسَّتْرِ، وَيُجْزِي إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَإِذَا تَلَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ لَا يُجْزِيهِ السُّجُودُ فِي مَكْرُوهٍ، أَوْ فِي مَكْرُوهٍ فَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى جَاءَ وَقْتٌ آخَرُ مَكْرُوهٌ فَسَجَدَ لَهَا فِيهِ، قِيلَ يَجُوزُ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ، وَقَدَّمْنَاهَا فِي فَصْلِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَيُفْسِدُهَا مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا. وَقِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُ لِتَمَامِ الرُّكْنِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَلَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَقَدْ حَصَلَ الْوَضْعُ قَبْلَ هَذِهِ الْعَوَارِضِ وَبِهِ يَتِمُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَفْسُدَ وَهُوَ حَسَنٌ، وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ بِالْقَهْقَهَةِ اتِّفَاقًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الطَّهَارَةِ.

(بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ)

السَّفَرُ عَارِضٌ مُكْتَسَبٌ كَالتِّلَاوَةِ إلَّا أَنَّ التِّلَاوَةَ عَارِضٌ هُوَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا بِعَارِضٍ، بِخِلَافِ السَّفَرِ فَلِذَا أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَنْ ذَاكَ وَالسَّفَرُ لُغَةً قَطْعُ الْمَسَافَةِ وَلَيْسَ كُلُّ قَطْعٍ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ جَوَازِ الْإِفْطَارِ وَقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ وَمَسْحِ ثَلَاثَةِ

ص: 27

سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ كَمَالَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» عَمَّ بِالرُّخْصَةِ الْجِنْسَ. وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عُمُومُ التَّقْدِيرِ وَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله بِيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ

أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا عَلَى الْخُفِّ فَبَيَّنَ ذَلِكَ السَّفَرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ تَغَيُّرُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَأَخَذَ فِيهِ مَعَ الْمِقْدَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَصْدَ فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ طَافَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى قَطْعِ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَتَرَخَّصُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: أَمِيرٌ خَرَجَ مَعَ جَيْشِهِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يُدْرِكُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْإِقَامَةِ فِي الذَّهَابِ، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ، وَكَذَا الْمُكْثُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَمَّا فِي الرُّجُوعِ فَإِنْ كَانَ مُدَّةَ سَفَرٍ قَصَرُوا وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فَعَلِمَ بِهِ أَهْلُ دَارِهِ فَهَرَبَ مِنْهُمْ يُرِيدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا؟، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ أَوْ عَلِمُوا وَلَمْ يَخْشَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ عَلَى إقَامَتِهِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الْقَصْدِ تَفَرَّعَ فِي صَبِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ خَرَجَا قَاصِدَيْنِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَفِي أَثْنَائِهَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ يَقْصُرُ الَّذِي أَسْلَمَ فِيمَا بَقِيَ وَيُتِمُّ الَّذِي بَلَغَ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ مِنْ الصَّبِيِّ حِينَ أَنْشَأَ السَّفَرَ بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ، وَالْبَاقِي بَعْدَ صِحَّةِ النِّيَّةِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

(قَوْلُهُ: عَمَّ) أَيْ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِالرُّخْصَةِ وَهِيَ مَسْحُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ الْجِنْسَ: أَيْ جِنْسَ الْمُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمُسَافِرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ؛ لِعَدَمِ الْمَعْهُودِ الْمُعَيَّنِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ عُمُومِ الرُّخْصَةِ لِلْجِنْسِ حَتَّى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ مُسَافِرٍ مِنْ مَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عُمُومُ التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِكُلِّ مُسَافِرٍ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَوْ كَانَ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَثَبَتَ مُسَافِرٌ لَا يُمْكِنُهُ مَسْحُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقَدْ كَانَ كُلُّ مُسَافِرٍ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ

ص: 28

وَالشَّافِعِيُّ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي قَوْلٍ، وَكَفَى بِالسُّنَّةِ حُجَّةً عَلَيْهِمَا

مُنْتَفِيَةً بِيَقِينٍ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِتَيَقُّنِ مَا هُوَ سَفَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إذَا كَانَ سَفَرُهُ يَسْتَوْعِبُهَا فَصَاعِدًا.

لَا يُقَالُ: إنَّهُ احْتِمَالٌ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ صَارُوا إلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا بَكَّرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَمَشَى إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ حَتَّى بَلَغَ الْمَرْحَلَةَ فَنَزَلَ بِهَا لِلِاسْتِرَاحَةِ وَبَاتَ فِيهَا ثُمَّ بَكَّرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَمَشَى إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَنَزَلَ ثُمَّ بَكَّرَ فِي الثَّالِثِ وَمَشَى إلَى الزَّوَالِ فَبَلَغَ الْمَقْصِدَ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسَافِرًا عِنْدَ النِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا خَرَجَ الْحَدِيثُ إلَى غَيْرِ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ قَالُوا بَقِيَّةُ كُلِّ يَوْمٍ مُلْحَقَةٌ بِالْمُنْقَضِي مِنْهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَخَلُّلِ الِاسْتِرَاحَاتِ؛ لِتَعَذُّرِ مُوَاصَلَةِ السَّيْرِ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ أَنَّ مُسَافِرًا مَسَحَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّ عَصْرَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَمْسَحُ فِيهِ فَلَيْسَ تَمَامُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مُلْحَقًا بِأَوَّلِهِ شَرْعًا حَيْثُ لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ رُخْصَةُ السَّفَرِ وَلَا هُوَ سَفَرٌ حَقِيقَةً، فَظَهَرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ شَرْعًا إذَا كَانَ سَفَرُهُ ثَلَاثَةً، وَهُوَ عَيْنُ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْمُسَافِرِينَ لَا يَمْسَحُهَا وَآلَ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِمَنْعِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ وَاخْتِيَارِ مُقَابِلِهِ، وَإِنْ صَحَّحَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.

وَعَلَى هَذَا

ص: 29

(وَالسَّيْرُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْوَسَطُ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله التَّقْدِيرُ بِالْمَرَاحِلِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَرَاسِخِ هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَا يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِي الْمَاءِ) مَعْنَاهُ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ، فَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَحْرِ

نَقُولُ: لَا يَقْصُرُ هَذَا الْمُسَافِرُ، وَأَنَا لَا أَقُولُ بِاخْتِيَارِ مُقَابِلِهِ بَلْ إنَّهُ لَا مُخَلِّصَ مِنْ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ إلَّا بِهِ، وَأَوْرَدَ أَنَّ لُزُومَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي السَّفَرِ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِهَا ظَرْفًا لِيَمْسَحَ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ كَوْنُهَا ظَرْفًا لِمُسَافِرٍ، وَالْمَعْنَى الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَمْسَحُ، وَإِنَّهُ لَا يَنْفِي تَحَقُّقُ مُسَافِرٍ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَيَقْصُرُ مُسَافِرُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ مَنَاطَ رُخْصَةِ الْقَصْرِ السَّفَرُ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدُ نَقْلٌ فِيهِ، وَلَا إجْرَاءُ حُكْمِ الرُّخْصَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ لِمُسَافِرِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ فِي الْأَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ تُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَأُجِيبَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ لِضَعْفِ رَاوِيهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ فَبَقِيَ قَصْرُ الْأَقَلِّ بِلَا دَلِيلٍ.

وَلَوْ سَلِمَ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَفْهُومِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ أَوْ أَكْثَرَ إذَا كَانَ قَطْعُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إنَّمَا ثَبَتَ بِمَفْهُومِ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ بُرُدٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَازَمَ جَعْلَهُ ظَرْفًا لِمُسَافِرٍ كَمَا هُوَ جَوَازُ مَسْحِ الْأَقَلِّ كَذَلِكَ هُوَ يَقْتَضِي جَوَازَ مَسْحِ الْمُسَافِرِ دَائِمًا مَا دَامَ مُسَافِرًا. فَإِنْ تَمَّ مَا ذُكِرَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ اللَّازِمِ بَقِيَ هَذَا مُحْتَاجًا إلَى الْجَوَابِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ لَمَّا كَانَ أَنَّ الْمُقِيمَ يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً بَطَلَ كَوْنُهَا ظَرْفًا لِلْمُسَافِرِ، وَإِلَّا لَزِمَ اتِّحَادُ حُكْمِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهِيَ صُورَةُ مُسَافِرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَهُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ لِلْعِلْمِ بِفَرْقِ الشَّرْعِ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ ظَرْفًا؛ لِيَمْسَحَ أَنَّ السَّوْقَ لَيْسَ إلَّا لِبَيَانِ كَمِّيَّةِ مَسْحِ الْمُسَافِرِ لَا لِإِطْلَاقِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الظَّرْفِ لِمُسَافِرٍ يَكُونُ يَمْسَحُ مُطْلَقًا وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ.

(قَوْلُهُ: وَالسَّيْرُ الْمَذْكُورُ إلَخْ) إشَارَةٌ إلَى سَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ، فَيَدْخُلُ سَيْرُ الْبَقَرِ يَجُرُّ الْعَجَلَةَ وَنَحْوُهُ. (قَوْلُهُ: هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ يُقَدَّرُ بِهَا فَقِيلَ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا، وَقِيلَ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَكُلُّ مَنْ قَدَّرَ بِقَدْرِ مَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنْ لَا تُقَدَّرَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ وَعْرًا بِحَيْثُ يَقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا قَصَرَ بِالنَّصِّ.

وَعَلَى التَّقْدِيرِ بِأَحَدِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ لَا يَقْصُرُ فَيُعَارِضُ النَّصَّ فَلَا يُعْتَبَرُ سِوَى سَيْرِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ سَيْرِ الثَّلَاثَةِ بِمَشْيِ الْأَقْدَامِ لَوْ سَارَهَا مُسْتَعْجِلٌ كَالْبَرِيدِ فِي يَوْمٍ قَصَرَ فِيهِ وَأَفْطَرَ لِتَحَقُّقِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ وَهُوَ قَطْعُ مَسَافَةِ ثَلَاثَةٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ، كَذَا ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يُقَوِّي الْإِشْكَالَ الَّذِي قُلْنَاهُ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا أَنْ يُمْنَعَ قَصْرُ مُسَافِرِ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ قَطَعَ فِيهِ مَسِيرَةَ أَيَّامٍ، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَصْرُ لَوْ قَطَعَهَا فِي سَاعَةٍ صَغِيرَةٍ كَقَدْرِ دَرَجَةٍ كَمَا لَوْ كَانَ صَاحِبَ كَرَامَةِ الطَّيِّ؛ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ مَسَافَةَ ثَلَاثَةٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَهُوَ بَعِيدُ الِانْتِفَاءِ مَظِنَّةَ الْمَشَقَّةِ وَهِيَ الْعِلَّةُ: أَعْنِي التَّقْدِيرَ بِسَيْرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرِهَا؛ لِأَنَّهَا

ص: 30

فَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ كَمَا فِي الْجَبَلِ. .

قَالَ (وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَانِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ اعْتِبَارًا بِالصَّوْمِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَا يُقْضَى وَلَا يُؤْثَمُ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى

الْمَجْعُولَةُ مَظِنَّةً لِلْحُكْمِ بِالنَّصِّ الْمُقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يُقَامُ مَقَامَ الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَيْهِ ذَلِكَ الْفَرْعُ وَهُوَ مَا إذَا وَصَلَ عِنْدَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ إلَى الْمَقْصِدِ، فَلَوْ صَحَّ تَفْرِيعُهُمْ جَوَازَ التَّرَخُّصِ مَعَ سَيْرِ يَوْمٍ وَاحِدٍ إذَا قَطَعَ فِيهِ قَدْرَ ثَلَاثَةٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ بَطَلَ الدَّلِيلُ، وَلَا دَلِيلَ غَيْرُهُ فِي تَقْدِيرِهِمْ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ فَيَبْطُلُ أَصْلُ الْحُكْمِ: أَعْنِي تَقْدِيرَهُمْ أَدْنَى السَّفَرِ الَّذِي يَتَرَخَّصُ فِيهِ بِثَلَاثَةٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ: فِيمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ) وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ ثَلَاثَةٍ فِيهِ إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ مُعْتَدِلَةً، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَسَافَةُ بِحَيْثُ تُقْطَعُ فِي الْبَرِّ بِيَوْمٍ كَمَا فِي الْجَبَلِ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مِنْ طَرِيقِ الْجَبَلِ بِالسَّيْرِ الْوَسَطِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَوْ كَانَتْ تُقْطَعُ مِنْ طَرِيقِ السَّهْلِ بِيَوْمٍ فَالْحَاصِلُ أَنْ تُعْتَبَرَ الْمُدَّةُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَ فِيهِ

(قَوْلُهُ: وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ) يَعْنِي لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ فَرْضًا إلَّا كَوْنَهُ مَطْلُوبًا أَلْبَتَّةَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا عَلَى الْخِلَافِ الِاصْطِلَاحِيِّ، فَإِثْبَاتُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَدَائِهِ وَتَرْكِهِ رُخْصَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ

ص: 31

(وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا وَقَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَجْزَأَتْهُ الْأُولَيَانِ عَنْ الْفَرْضِ وَالْأُخْرَيَاتُ لَهُ نَافِلَةٌ) اعْتِبَارًا بِالْفَجْرِ، وَيَصِيرُ مُسِيئًا لِتَأْخِيرِ السَّلَامِ (وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَهَا بَطَلَتْ)؛ لِاخْتِلَاطِ النَّافِلَةِ بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِهَا.

لَيْسَ حَقِيقَتُهُ إلَّا نَفْيَ افْتِرَاضِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَفْهُومِ الْفَرْضِ، فَيَلْزَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ثُبُوتَ التَّرَخُّصِ مَعَ قِيَامِ الِافْتِرَاضِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي التَّأْخِيرِ وَنَحْوِهِ مِنْ عَدَمِ إلْزَامِ بَعْضِ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي عُهِدَتْ لَازِمَةً فِي الْفَرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَطْعِيٌّ فِي الْإِسْقَاطِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْفَرْضِ مَا بَقِيَ، بِخِلَافِ الْفَقِيرِ إذَا حَجَّ حَيْثُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ إنْ لَمْ يَنْوِ النَّفَلَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ حِينَ صَارَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ.

وَأَمَّا وُقُوعُ الزَّائِدِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَسْنُونَةِ فَرْضًا لَا نَفْلًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا فَجَوَابُهُ مَا سَلَفَ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَارْجِعْ إلَيْهِ، هَذَا وَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَتْ «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ» وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ أَتَمَّهَا فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْأُولَى» زَادَ فِي لَفْظٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ: قُلْت لِعُرْوَةِ: فَمَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ قَالَ: إنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَتْ «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، فَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأَوَّلِ» ذَكَرَهُ فِي بَابِ مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ.

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ زِيَادَةَ صَلَاةِ الْحَضَرِ كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى السَّمَاعِ؛ لِأَنَّ أَعْدَادَ الرَّكَعَاتِ لَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا بِالرَّأْيِ، وَكَوْنُ عَائِشَةَ تُتِمُّ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَا: إذْ الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْفَرْضَ كَمْ هُوَ لَا فِي جَوَازِ إتْمَامِ أَرْبَعٍ فَإِنَّا نَقُولُ: إذَا أَتَمَّ كَانَتْ الْأُخْرَيَانِ نَافِلَةً، لَكِنْ فِيهِ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي النَّفْلِ عَدَمُ بِنَائِهِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ، فَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تُوَاظِبُ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ فِي السَّفَرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ وَصْلَهَا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ وُقُوعِ الْكُلِّ فَرْضًا فَلْيُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ حَدَثَ لَهَا تَرَدُّدٌ أَوْ ظَنٌّ فِي أَنَّ جَعْلَهَا رَكْعَتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ مُقَيَّدٌ بِحَرَجِهِ بِالْإِتْمَامِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَوْ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها " أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا، فَقُلْت لَهَا لَوْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي إنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ " وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ: إنَّهَا تَأَوَّلَتْ: أَيْ تَأَوَّلَتْ أَنَّ الْإِسْقَاطَ مَعَ الْحَرَجِ، لَا أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّرْكِ مَعَ بَقَاءِ الِافْتِرَاضِ فِي الْمُخَيَّرِ فِي أَدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ. هَذَا مَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَعُدُّ نَفْسَهَا مُسَافِرَةً بَلْ حَيْثُ حَلَّتْ كَانَتْ مُقِيمَةً، وَنُقِلَ قَوْلُهَا " أَنَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَحَيْثُ حَلَلْت فَهُوَ دَارِي " لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَبَعِيدٌ، وَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ لَهَا سَفَرٌ أَبَدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَا كَانَ الْمَرْوِيُّ عَنْ

ص: 32

(وَإِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُيُوتَ الْمِصْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَتَعَلَّقُ بِدُخُولِهَا فَيَتَعَلَّقُ السَّفَرُ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا. وَفِيهِ الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَقَصَرْنَا

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْقَصْرِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}» . انْتَهَى.

وَهُوَ مُعَارِضٌ لِلْمَرْوِيِّ مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يُتِمُّ، وَالتَّوْفِيقُ أَنَّ إتْمَامَهُ الْمَرْوِيَّ كَانَ حِينَ قَامَ بِمِنًى أَيَّامَ مِنًى، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ السَّفَرِ مُنْسَحِبٌ عَلَى إقَامَةِ أَيَّامِ مِنًى فَسَاغَ إطْلَاقُ أَنَّهُ أَتَمَّ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ مَا مَضَى الصَّدْرُ مِنْ خِلَافَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ» مَعَ أَنَّ فِي الْبَابِ مَا هُوَ مَرْفُوعٌ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً» وَهَذَا رَفْعٌ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ «افْتَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ كَمَا افْتَرَضَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا» .

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَإِعْلَالُهُ بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ مَدْفُوعٌ بِثُبُوتِ ذَلِكَ حَكَمَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الْمُفِيدِ لِنَفْلِيَّةِ الرَّكْعَتَيْنِ كِفَايَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ يَحْكِي خِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّ الْقَصْرَ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ أَوْ رُخْصَةٌ، وَيَنْقُلُ اخْتِلَافَ عِبَارَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ رُخْصَةٌ عَنَى رُخْصَةَ الْإِسْقَاطِ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ، وَتَسْمِيَتُهَا رُخْصَةً مَجَازٌ وَهَذَا بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ

. (قَوْلُهُ: وَإِذَا فَارَقَ) بَيَانٌ لِمَبْدَإِ الْقَصْرِ، وَيَدْخُلُ فِي بُيُوتِ الْمِصْرِ رَبَضُهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ قَصَرَ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ». وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ فَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ: إنَّا لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ.

فَإِنْ قِيلَ: عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ يَتَحَقَّقُ مَبْدَأُ الْفِنَاءِ إذْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِغَلْوَةٍ فِي الْمُخْتَارِ. وَقِيلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، وَالْفِنَاءُ مُلْحَقٌ بِالْمِصْرِ شَرْعًا حَتَّى جَازَتْ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدَانِ فِيهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَقْصُرَ بِمُجَرَّدِ الْمُفَارَقَةِ لِلْبُيُوتِ بَلْ إذَا جَاوَزَ الْفِنَاءَ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا أُلْحِقَ بِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِ أَهْلِهِ الْمُقِيمِينَ فِيهِ لَا مُطْلَقًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ مَنَعَ الْجُمُعَةَ فِيهِ إذَا كَانَ مُنْقَطِعًا عَنْ الْعُمْرَانِ فَلَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: فَصْلٌ فِي الْفِنَاءِ، فَقَالَ: إنْ

ص: 33

(وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ

كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ غَلْوَةٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَزْرَعَةٌ يَعْتَبِرُ مُجَاوَزَةَ الْفِنَاءِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَزْرَعَةٌ أَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِ قَدْرَ غَلْوَةٍ يَعْتَبِرُ مُجَاوَزَةَ عُمْرَانِ الْمِصْرِ هَذَا، وَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةً أَوْ قُرًى مُتَّصِلَةً بِرَبَضِ الْمِصْرِ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَهَا. وَفِي الْفَتَاوَى أَيْضًا إنْ كَانَ فِي الْجَانِبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَحَلَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْمِصْرِ وَفِي الْقَدِيمِ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْمِصْرِ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَ تِلْكَ الْمَحَلَّةَ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ الْمِصْرِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ الْقَصْرِ، فَفِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ إرْسَالٌ غَيْرُ وَاقِعٍ؛ وَلَوْ ادَّعَيْنَا أَنَّ بُيُوتَ تِلْكَ الْقُرَى دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى بُيُوتِ الْمِصْرِ انْدَفَعَ هَذَا لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ ظَاهِرٌ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ مُجَاوَزَةُ بُيُوتِ الْجَانِبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، فَلَوْ جَاوَزَهَا وَتُحَاذِيهِ بُيُوتٌ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ جَازَ الْقَصْرُ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ إلَخْ) ظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ حَتَّى يَدْخُلَ قَرْيَةً أَوْ بَلَدًا فَيَنْوِيَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ بِالْقَرْيَةِ وَالْبَلَدِ مُتَحَقِّقَةٌ حَالَ سَفَرِهِ إلَيْهَا قَبْلَ دُخُولِهَا لَكِنَّ تَرْكَهُ لِظُهُورِهِ وَلِاسْتِفَادَتِهِ مِنْ تَعْلِيلِ مَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَتَعَلَّقُ بِدُخُولِهَا، وَفِيهِ أَثَرُ عَلِيٍّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا: وَخَرَجَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ الْكُوفَةُ قَالَ لَا حَتَّى نَدْخُلَهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالْكُوفَةُ بِمَرْأًى مِنْهُمْ فَقِيلَ لَهُ إلَخْ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَصَرَّحَ بِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ وَفَاءِ بْنِ إيَاسٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَنَحْنُ نَنْظُرُ إلَى الْكُوفَةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعْنَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى الْقَرْيَةِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَلَا تُصَلِّي أَرْبَعًا؟ قَالَ: لَا حَتَّى نَدْخُلَهَا.

ثُمَّ بَقَاءُ حُكْمِ السَّفَرِ مِنْ حِينِ الْمُفَارَقَةِ نَاوِيًا لِلسَّفَرِ إلَى غَايَةِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي بَلَدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ السَّفَرِ وَبِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مِنْ الْعَسْكَرِ قَبْلَ الْفَتْحِ. وَأَيْضًا اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ مُطْلَقًا فِي ثُبُوتِ الْإِقَامَةِ لَيْسَ وَاقِعًا، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ مِصْرَهُ صَارَ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ بِلَا نِيَّةٍ. وَالْأَحْسَنُ فِي الضَّابِطِ لَا يَزَالُ مُسَافِرًا حَتَّى يَعْزِمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى بَلَدِهِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَلَوْ فِي الْمَفَازَةِ، أَوْ يَدْخُلَهَا بَعْدَ الِاسْتِكْمَالِ، أَوْ يَدْخُلَ غَيْرَهَا فَيَنْوِيَ الْإِقَامَةَ بِهَا وَحْدَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا وَلَيْسَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ مِنْ الْعَسْكَرِ الدَّاخِلِينَ، وَالْمَفَاهِيمُ الْمُخَالِفَةُ لِلْقُيُودِ كُلُّهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ مَسَائِلَ مُسْتَقِلَّةً، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَسْأَلَةَ الْعَزْمِ عَلَى الرُّجُوعِ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حُكْمُ السَّفَرِ بِالْمُفَارَقَةِ نَاوِيًا لِلسَّفَرِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِحَاجَةٍ أَوْ لَا فَرَجَعَ صَارَ مُقِيمًا فِي الْمَفَازَةِ حَتَّى أَنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يَحِلَّ فِطْرُهُ فِي رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ يَوْمَانِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَضَ السَّفَرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لِاحْتِمَالِهِ النَّقْضَ إذْ لَمْ يَسْتَحْكِمُ إذَا لَمْ يَتِمَّ عِلَّةً، وَكَانَتْ الْإِقَامَةُ نَقْضًا لِلْعَارِضِ لَا ابْتِدَاءَ عِلَّةِ الْإِتْمَامِ.

وَلَوْ قِيلَ الْعِلَّةُ مُفَارَقَةُ الْبُيُوتِ قَاصِدًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ

ص: 34

لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ كَالْخَبَرِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَلْدَةِ وَالْقَرْيَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَفَازَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ

لَا اسْتِكْمَالُ سَفَرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ حُكْمِ السَّفَرِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ الْعِلَّةُ لِحُكْمِ السَّفَرِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ عِلَّةُ حُكْمِ الْإِقَامَةِ احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ) يَعْنِي حَقِيقَةَ اللُّبْثِ مَعَ قِيَامِ حَقِيقَةِ السَّفَرِ يُوجَدُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مُطْلَقِهِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ) أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمَا قَالَا: إذَا قَدِمْت بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي نَفْسِك أَنْ تُقِيمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ بِهَا،، وَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا أَجْمَعَ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا كُنْت مُسَافِرًا فَوَطَّنْتَ نَفْسَك عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَتْمِمْ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْ.

(قَوْلُهُ: وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ كَالْخَبَرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ) احْتِرَازٌ عَمَّا سَيَذْكُرُهُ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ: فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ، فَهَذَا قِيَاسُ أَصْلِهِ مُدَّةَ الطُّهْرِ، وَالْعِلَّةُ كَوْنُهَا مُوجِبَةً مَا كَانَ سَاقِطًا وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي مُدَّةِ الْإِقَامَةِ وَهِيَ الْفَرْعُ فَاعْتُبِرَتْ كَمِّيَّتُهَا بِهَا وَهُوَ الْحُكْمُ، وَإِصْلَاحُهُ بِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ التَّقْدِيرِ بِالْخَبَرِ وَجَدْنَاهُ عَلَى وَفْقِ صُورَةِ قِيَاسٍ ظَاهِرٍ فَرَجَّحْنَا بِهِ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ أَخْرَجَ

ص: 35

(وَلَوْ دَخَلَ مِصْرًا عَلَى عَزْمِ أَنْ يَخْرُجَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ وَلَمْ يَنْوِ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَقْصُرُ. وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِثْلُ ذَلِكَ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ أَرْضَ الْحَرْبِ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ بِهَا قَصَرُوا وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا فِيهَا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا)؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بَيْنَ أَنْ يُهْزَمَ فَيَقِرَّ وَبَيْنَ أَنْ يَنْهَزِمَ فَيَفِرَّ فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ

السِّتَّةُ عَنْ أَنَسٍ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ قِيلَ: كَمْ أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا» وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ عَزَمُوا قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، غَيْرُ أَنَّهُمْ اتَّفَقَ لَهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَمَرُّوا إلَى عَشْرٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمْ نَوَوْا الْإِقَامَةَ حَتَّى يَقْضُوا النُّسُكَ. نَعَمْ كَانَ يَسْتَقِيمُ هَذَا لَوْ كَانَ فِي قِصَّةِ الْفَتْحِ، لَكِنَّ الْكَائِنَ فِيهَا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَّةَ تِسْعَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ، «فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ، وَبَاتَ بِالْمُحَصَّبِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ وَفِي مِثْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ اعْتَمَرَتْ عَائِشَةُ مِنْ التَّنْعِيمِ، ثُمَّ طَافَ صلى الله عليه وسلم طَوَافَ الْوَدَاعِ سَحَرًا قَبْلَ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَخَرَجَ صَبِيحَتَهُ وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ فَتَمَّتْ لَهُ عَشْرُ لَيَالٍ» .

وَلَوْ قِيلَ: تِلْكَ وَاقِعَةُ حَالٍ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْإِقَامَةِ فِيهَا كَانَتْ مَنْوِيَّةً مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي مَكَّةَ وَمِنًى فَلَا يَصِيرُ لَهُ بِذَلِكَ حُكْمُ الْإِقَامَةِ عَلَى رَأْيِكُمْ. قُلْنَا: مَعْلُومٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لِيَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى صَبِيحَةِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ فَيَكُونُ عَزْمُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ إلَى حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ كَوَامِلُ، فَيَنْتَفِي بِهِ قَوْلُكُمْ: إنَّ أَرْبَعَةً أَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ

. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ) بِالذَّالِ السَّاكِنَةِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَ هَمْزَةٍ وَالْبَاءُ مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا الْيَاءُ الْمُثَنَّاةُ مِنْ تَحْتٍ قَرْيَةٌ، رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: ارْتَجَّ عَلَيْنَا الثَّلْجُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي غَزَاةٍ، فَكُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَقَيَّدَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ بِبَعْضِ بِلَادِ فَارِسَ سِنِينَ، فَكَانَ لَا يَجْمَعُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَأَخْرَجَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالشَّامِّ شَهْرَيْنِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ.

(قَوْلُهُ: فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ) وَمُجَرَّدُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ لَا تَتِمُّ عِلَّةً فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِقَامَةِ كَمَا فِي الْمَفَازَةِ، فَكَانَتْ الْبَلَدُ مِنْ دَارِ

ص: 36

(وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا أَهْلَ الْبَغْيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ أَوْ حَاصَرُوهُمْ فِي الْبَحْرِ)؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ مُبْطِلٌ عَزِيمَتَهُمْ، وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله: يَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ إذَا كَانَ الشَّوْكَةُ لَهُ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْقَرَارِ ظَاهِرًا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَصِحُّ إذَا كَانُوا فِي بُيُوتِ الْمَدَرِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إقَامَةٍ.

(وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَأِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ، قِيلَ لَا تَصِحُّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ) يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ أَصْلٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى

الْحَرْبِ قَبْلَ الْفَتْحِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَسْكَرِ كَالْمَفَازَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ إقَامَةٍ قَبْلَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ أَنْ يَهْزِمُوا فَيَقِرُّوا أَوْ يُهْزَمُوا فَيَفِرُّوا، فَحَالَتُهُمْ هَذِهِ مُبْطِلَةٌ عَزِيمَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ تِلْكَ الْعَزِيمَةِ مُوَطَّنُونَ عَلَى أَنَّهُمْ إنْ هُزِمُوا قَبْلَ تَمَامِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ أَمْرٌ مُجَوَّزٌ لَمْ يُقِيمُوا، وَهَذَا مَعْنَى قِيَامِ التَّرَدُّدِ فِي الْإِقَامَةِ فَلَمْ تُقْطَعْ النِّيَّةُ عَلَيْهَا، وَلَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِ حَقِيقَةِ النِّيَّةِ مِنْ قَطْعِ الْقَصْدِ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّوْكَةُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ وُصُولِ الْمَدَدِ لِلْعَدُوِّ، وَوُجُودَ مَكِيدَةٍ مِنْ الْقَلِيلِ يَهْزِمُ بِهَا الْكَثِيرَ قَائِمٌ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَطْعَ الْقَصْدِ، وَبِهَذَا يُضَعَّفُ تَعْلِيلُ أَبِي يُوسُفَ الصِّحَّةَ إذَا كَانُوا فِي بُيُوتِ الْمَدَرِ لَا إنْ كَانُوا فِي الْأَخْبِيَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ بُيُوتِ الْمَدَرِ لَيْسَ عِلَّةَ ثُبُوتِ الْإِقَامَةِ بَلْ مَعَ النِّيَّةِ وَلَمْ تُقْطَعْ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ دَخَلَ مِصْرًا لِقَضَاءِ حَاجَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَ غَيْرَ وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يُتِمُّ، وَفِي أَسِيرٍ انْفَلَتَ مِنْهُمْ وَوَطَّنَ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي غَارٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَصِرْ مُقِيمًا.

(قَوْلُهُ: فَلَا يَبْطُلُ بِانْتِقَالٍ مَنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى) يَعْنِي هُمْ لَا يَقْصِدُونَ سَفَرًا بَلْ الِانْتِقَالَ مِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْمُقَامُ فِي الْمَفَاوِزِ فَكَانَتْ فِي حَقِّهِمْ كَالْقُرَى فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرِّعَاءَ إذَا كَانُوا فِي تَرْحَالٍ فِي الْمَفَاوِزِ مِنْ مَسَاقِطَ إلَى مَسَاقِطِ الْغَيْثِ وَمَعَهُمْ رِحَالُهُمْ وَأَثْقَالُهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ حَيْثُ نَزَلُوا مَرْعًى كَثِيرَ الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَاِتَّخَذُوا الْمَخَابِزَ وَالْمَعَالِفَ وَالْأَوَارِيَ وَالْخِيَامَ وَعَزَمُوا عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ يَكْفِيهِمْ، فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَهُمْ مُقِيمِينَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ سَفَرِهِمْ

ص: 37

(وَإِنْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ أَتَمَّ أَرْبَعًا)؛ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى أَرْبَعٍ لِلتَّبَعِيَّةِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لِاتِّصَالِ الْمُغَيَّرِ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ

بِذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدُوا فِي الِابْتِدَاءِ مَوْضِعًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى يَنْتَقِضَ بِهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، بَعْدَ ذَلِكَ يَجِيءُ هَذَا التَّفْصِيلُ ذَكَرَهُ فِي الْبَدَائِعِ. أَمَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بَلْ هُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَرْعًى أَوْ جَزِيرَةٍ.

(قَوْلُهُ: لِاتِّصَالِ الْمُغَيَّرِ) وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ، وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ قَابِلٌ لِلتَّغْيِيرِ حَالَ قِيَامِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِيهِ تَغَيَّرَ إلَى أَرْبَعٍ. فَبَعْدَ قَبُولِهِ لِلتَّغَيُّرِ تَوَقَّفَ تَحَقُّقُ التَّغَيُّرِ عَلَى مُجَرَّدِ سَبَبٍ وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ.

فَإِنْ قِيلَ: انْعِقَادُ الِاقْتِدَاءِ سَبَبًا لِلتَّغَيُّرِ مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ وَصِحَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى تَغَيُّرِ فَرْضِهِ إذْ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعَدَةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ تَوَقَّفَ التَّغَيُّرُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ وَصِحَّتُهُ عَلَى التَّغَيُّرِ وَهُوَ دَوْرٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ دَوْرُ مَعِيَّةٍ لَا دَوْرُ تَرَتُّبٍ بِأَنْ تَثْبُتَ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّغَيُّرِ مَعًا إلَّا أَنَّهُ فِي الْمُلَاحَظَةِ يَكُونُ ثُبُوتُ التَّغَيُّرِ لِتَصْحِيحِ الِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا مَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ وَلَا مَانِعَ إلَّا عَدَمُ التَّغَيُّرِ، وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِفَرْضِ ثُبُوتِ التَّغَيُّرِ بِمَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَهُ فَلْيَكُنْ طَلَبُ الشَّرْعِ تَصْحِيحَ الِاقْتِدَاءِ سَبَبًا لَهُ أَيْضًا فَيَثْبُتُ عِنْدَ الِاقْتِدَاءِ فَتَثْبُتُ الصِّحَّةُ مَعَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَقْبَلُهَا لِتَقَرُّرِهِ فِي الذِّمَّةِ رَكْعَتَيْنِ فَيَصِيرُ كَالصُّبْحِ فَلَا يُمْكِنُ فَلَا يَصِحُّ، وَهَذَا إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ.

أَمَّا إذَا اقْتَدَى بِهِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَلَا يَفْسُدُ وَلَا يَبْطُلُ اقْتِدَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اقْتَدَى صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا لِلتَّبَعِيَّةِ كَالْمُقِيمِ وَصَلَاةُ الْمُقِيمِ لَا تَصِيرُ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَكَذَا لَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ فَانْتَبَهَ بِطَرِيقٍ أَوْلَى: أَعْنِي يُتِمُّ أَرْبَعًا، وَإِذَا كَانَ تَغَيُّرُهُ ضَرُورَةَ الِاقْتِدَاءِ فَلَوْ أَفْسَدَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِزَوَالِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فِي فَرْضِهِ يَنْوِي النَّفَلَ حَيْثُ يُصَلِّي أَرْبَعًا إذَا أَفْسَدَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهُنَا لَمْ يَقْصِدْ سِوَى إسْقَاطِ فَرْضِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تَغَيُّرُ ضَرُورَةِ الْمُتَابَعَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَدَى الْمُقِيمُ بِالْمُسَافِرِ فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ فَاسْتَخْلَفَ الْمُقِيمَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى الْأَرْبَعِ مَعَ أَنَّهُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِالْخَلِيفَةِ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُؤْتَمُّ خَلِيفَةً عَنْ الْمُسَافِرِ كَانَ الْمُسَافِرُ كَأَنَّهُ الْإِمَامُ فَيَأْخُذُ الْخَلِيفَةُ صِفَةَ الْأَوَّلِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمِينَ. وَلَوْ أَمَّ مُسَافِرٌ مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَقَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ تَكَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسَافِرِينَ أَوْ قَامَ فَذَهَبَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَرْبَعًا لِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ فِي مَحَلِّهِ، وَصَلَاةُ مَنْ تَكَلَّمَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي وَقْتٍ لَوْ تَكَلَّمَ إمَامُهُ لَمْ تَفْسُدْ فَكَذَا صَلَاةُ

ص: 38

(وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ لَمْ تُجْزِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْوَقْتِ لِانْقِضَاءِ السَّبَبِ، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعَدَةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ.

(وَإِنْ صَلَّى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِينَ رَكْعَتَيْنِ سَلَّمَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ)

الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ بِمِثْلِ حَالِهِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ نِيَّتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ انْقَلَبَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا ثُمَّ تَكَلَّمَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ لِلتَّبَعِيَّةِ وَقَدْ زَالَتْ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ) أَيْ فِي فَائِتَةٍ عَلَى الْمَأْمُومِ الْمُسَافِرِ سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِتَةً عَلَى الْإِمَامِ الْمُقِيمِ أَوْ لَا بِأَنْ صَلَّى الْمُقِيمُ رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ مَثَلًا أَوْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ فَاقْتَدَى بِهِ مُسَافِرٌ فِي الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فَائِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ. (قَوْلُهُ: اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعَدَةِ الْأَوْلَى) إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْمُسَافِرِ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ اسْمَ النَّفْلِ مَجَازًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عَدَمِ فَسَادِ الصَّلَاةِ بِالتَّرْكِ أَوْ الْقِرَاءَةِ إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهِ

ص: 39

لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ الْتَزَمَ الْمُوَافَقَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَيَنْفَرِدُ فِي الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَةً لَا فِعْلًا وَالْفَرْضُ صَارَ مُؤَدًّى فَيَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةً نَافِلَةً فَلَمْ يَتَأَدَّ الْفَرْضُ فَكَانَ الْإِتْيَانُ أَوْلَى، قَالَ:(وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذْ سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ)؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَهُ حِينَ

نَفْلٌ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ هَذِهِ تَلْتَحِقُ بِالْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ يَجِبُ جَعْلُهُ فِيهِمَا فَيَخْلُو الثَّانِي عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالْكُلِّيَّةِ.

(قَوْلُهُ: فِي الْأَصَحِّ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ يَقْرَءُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مُنْفَرِدُونَ، وَلِهَذَا يَجِبُ السُّجُودُ عَلَيْهِمْ إذَا سَهَوْا. (قَوْلُهُ: احْتِيَاطًا) فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى الِاقْتِدَاءِ: تَحْرِيمَةُ حِينَ أَدْرَكُوا أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ تَحْرِيمًا، وَبِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِهِ فِعْلًا إذْ لَمْ يَفُتْهُمْ مَعَ الْإِمَامِ مَا يَقْضُونَ وَقَدْ أَدْرَكُوا فَرْضَ الْقِرَاءَةِ تُسْتَحَبُّ، وَإِذَا دَارَ الْفِعْلُ بَيْنَ وُقُوعِهِ مُسْتَحَبًّا أَوْ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ نَافِلَةٍ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَكُنْ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تُلْتَحَقُ بِهِمَا وَيَخْلُو الشَّفْعُ الثَّانِي كَمَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يُدْرِكْ قِرَاءَةً أَصْلًا حُكْمًا إذْ ذَاكَ فَدَارَتْ قِرَاءَتُهُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَكْرُوهَةً تَحْرِيمًا أَوْ رُكْنًا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي حَقِّهِ الْقِرَاءَةُ؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ تَرْكِ الْفَرْضِ أَشَدُّ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا. (قَوْلُهُ: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ إلَخْ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ خَلْفَهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُ الِاجْتِمَاعُ بِالْإِمَامِ قَبْلَ ذَهَابِهِ فَيَحْكُمُ حِينَئِذٍ بِفَسَادِ صَلَاةِ نَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى

ص: 40

صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ

ظَنِّ إقَامَةِ الْإِمَامِ ثُمَّ إفْسَادِهِ بِسَلَامِهِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا مَحْمَلُ مَا فِي الْفَتَاوَى إذَا اقْتَدَى بِإِمَامٍ لَا يَدْرِي أَمُسَافِرٌ هُوَ أَوْ مُقِيمٌ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِحَالِ الْإِمَامِ شَرْطُ الْأَدَاءِ بِجَمَاعَةٍ انْتَهَى لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ: رَجُلٌ صَلَّى بِالْقَوْمِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ فِي قَرْيَةٍ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَمُسَافِرٌ هُوَ أَمْ مُقِيمٌ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا مُقِيمِينَ أَمْ مُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ أَنَّهُ مُقِيمٌ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، فَإِنْ سَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مُسَافِرٌ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْإِمَامِ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَعْرِفَةُ صِحَّةِ صَلَاتِهِ لَهُمْ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمُّوا ثُمَّ يَسْأَلُوهُ فَتَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ. وَحَدِيثُ «أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدْت مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ يَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

هَذَا وَلَوْ قَامَ الْمُقْتَدِي الْمُقِيمُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَنَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ قَبْلَ سُجُودِهِ رَفَضَ ذَلِكَ وَتَابَعَ الْإِمَامَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَسَجَدَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَسْتَحْكِمْ خُرُوجُهُ عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْإِمَامِ. وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ بِوَاسِطَةِ التَّغَيُّرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ فِيهِمَا، فَإِنْ انْفَرَدَ فَسَدَتْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الْإِمَامُ بَعْدَ مَا سَجَدَ الْمُقْتَدِي فَإِنَّهُ يُتِمُّ مُنْفَرِدًا، فَلَوْ رَفَضَ وَتَابَعَ فَسَدَتْ لِاقْتِدَائِهِ حَيْثُ وَجَبَ الِانْفِرَادُ، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ مَسْأَلَةَ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ الْمُسَافِرِ مُقِيمًا فَارْجِعْ إلَيْهَا هُنَاكَ وَأَتْقِنْهَا. (وَهَذِهِ مَسَائِلُ لِلزِّيَادَاتِ) مُسَافِرٌ وَمُقِيمٌ أَمَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلَمَّا شَرَعَا شَكَّا فِي الْإِمَامِ اسْتَقْبَلَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَتَى فَسَدَتْ مِنْ وَجْهٍ وَجَازَتْ مِنْ وُجُوهٍ حُكِمَ بِفَسَادِهَا، وَإِمَامَةُ الْمُقْتَدِي مُفْسِدَةٌ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُقْتَدِيًا قَائِمٌ فَتَفْسُدُ عَلَيْهِمَا.

قِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا افْتَرَقَا عَنْ مَكَانِهِمَا، أَمَّا قَبْلَهُ فَيُجْعَلُ مَنْ عَنْ يَمِينِ الْآخَرِ مُقْتَدِيًا حَمْلًا عَلَى السُّنَّةِ، وَقِيلَ لَا؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمُقْتَدِي عَنْ الْيَمِينِ لَيْسَ شَرْطًا لِيُجْعَلَ دَلِيلًا، وَلَوْ لَمْ يَشُكَّا حَتَّى أَحْدَثَ أَحَدُهُمَا فَخَرَجَ ثُمَّ أَحْدَثَ الْآخَرُ فَخَرَجَ ثُمَّ شَكَّا فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَرَجَ أَوَّلًا لَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا لَمَّا خَرَجَ أَوَّلًا صَارَ مُقْتَدِيًا بِالْمُتَأَخِّرِ، ثُمَّ إذَا خَرَجَ الثَّانِي خَلَا مَوْضِعُ الْمَأْمُومِ عَنْ الْإِمَامِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ، بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ خَرَجَ وَهُوَ إمَامٌ فَلَا تَعَلُّقَ لِصَلَاتِهِ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ لِيَلْزَمَ مِنْ فَسَادِ صَلَاةِ الْغَيْرِ فَسَادُهَا وَيُصَلِّي أَرْبَعًا مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَيَجْلِسُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْمُسَافِرِ إنْ كَانَ إمَامًا، وَعَلَى الْمُقِيمِ إنْ اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ وَتَحَوَّلَتْ إمَامَتُهُ إلَيْهِ، وَاحْتِمَالُ الِاقْتِدَاءِ ثَابِتٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَوَّلُ خُرُوجًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُتَقَدِّمِ فَاسِدَةٌ وَاحْتِمَالُ التَّقَدُّمِ ثَابِتٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَذَا إنْ خَرَجَا مَعًا لِفَسَادِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي مِنْهُمَا لِخُلُوِّ مَكَانِ الْإِمَامِ وَاحْتِمَالُ الِاقْتِدَاءِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ.

وَلَوْ صَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ وَقَعَدَا وَلَمْ يُحْدِثَا ثُمَّ شَكَّا فِي الْإِمَامِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُمَا بَلْ يَقُومُ الْمُقِيمُ وَيُتِمُّ أَرْبَعًا

ص: 41

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي مِصْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابَهُ رضي الله عنهم كَانُوا يُسَافِرُونَ وَيَعُودُونَ إلَى أَوْطَانِهِمْ مُقِيمِينَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ جَدِيدٍ.

وَيُتَابِعُهُ الْمُسَافِرُ؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ إنْ كَانَ إمَامًا كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا انْتَهَى اقْتِدَاؤُهُ إذَا قَعَدَ إمَامُهُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، وَيُتَابِعُهُ الْمُسَافِرُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ إمَامًا تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَلَا تَضُرُّهُ الْمُتَابَعَةُ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا انْقَلَبَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، وَاحْتِمَالُ الِاقْتِدَاءِ ثَابِتٌ حَتَّى لَوْ لَمْ يُتَابِعْهُ فَسَدَتْ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ لَمْ يَشُكَّا حَتَّى أَحْدَثَ أَحَدُهُمَا فَخَرَجَ ثُمَّ الْآخَرُ كَذَلِكَ ثُمَّ شَكَّا بَعْدَمَا رَجَعَا مِنْ الْوُضُوءِ فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَرَجَ أَوَّلًا دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ مُقِيمًا، فَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا بِالْمُسَافِرِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بَعْدَمَا انْتَهَى اقْتِدَاؤُهُ.

وَإِنْ كَانَ إمَامًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَوَّلًا صَارَ مُقْتَدِيًا بِالْمُسَافِرِ، فَإِذَا خَرَجَ الْمُسَافِرُ بَعْدَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مُسَافِرًا إنْ كَانَ إمَامًا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ الْأَرْكَانِ فَلَمْ يَصِرْ مُقْتَدِيًا بِالْمُقِيمِ لِانْتِهَاءِ الِاقْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِخُرُوجِ الْإِمَامِ بَعْدَهُ فَفَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَرَجَ أَوَّلًا مِنْ وَجْهٍ وَجَازَتْ مِنْ وَجْهٍ فَيُحْكَمُ بِالْفَسَادِ وَالْمُتَأَخِّرُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ عِنْدَ الْخُرُوجِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِيَصِيرَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُقِيمًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَبِالِاقْتِدَاءِ يَجِبُ ذَلِكَ وَاحْتِمَالُ الِابْتِدَاءِ ثَابِتٌ، وَإِنْ شَكَّا فِي الَّذِي خَرَجَ أَوَّلًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُتَقَدِّمِ فَاسِدَةٌ وَاحْتِمَالُ التَّقَدُّمِ فِي حَقِّ كُلٍّ ثَابِتٌ، وَإِنْ خَرَجَا مَعًا فَصَلَاةُ الْمُقِيمِ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إمَامًا لَمْ تَتَحَوَّلْ إمَامَتُهُ إلَى الْمُسَافِرِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا انْتَهَى حُكْمُ الِاقْتِدَاءِ فَصَارَ مُنْفَرِدًا، وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ فَاسِدَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَدِيًا وَقَدْ خَلَا مَكَانُ إمَامِهِ، وَإِنْ شَكَّا بَعْدَمَا صَلَّيَا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا وَلَمْ يُحْدِثَا الْقِيَاسُ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقِيمِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَدِيًا بِالْمُسَافِرِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: تَجُوزُ صَلَاتُهُمَا، وَيُجْعَلُ الْمُقِيمُ إمَامًا حَمْلًا لِأَمْرِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ الْجَرْيُ عَلَى مُوجِبِ الشَّرْعِ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكَيْنِ وَنَسِيَهُمَا، الْقِيَاسُ أَنْ تَلْزَمَهُ عُمْرَتَانِ وَحَجَّتَانِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَلْزَمُهُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمَسْنُونِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الْقِرَانُ.

وَكَذَلِكَ مُسَافِرٌ وَمُقِيمٌ أَمَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الظُّهْرِ وَتَرَكَا الْقَعْدَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَلَّمَا وَسَجَدَا لِلسَّهْوِ ثُمَّ شَكَّا فِي الْإِمَامِ يُجْعَلُ الْمُقِيمُ إمَامًا، وَكَذَا لَوْ تَرَكَا الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا، فَلَمَّا سَلَّمَا وَسَجَدَا لِلسَّهْوِ شَكَّا يُجْعَلُ الْمُقِيمُ إمَامًا إذَا جَعَلْنَا الْمُقِيمَ إمَامًا فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنْ أَحْدَثَ الْمُقِيمُ أَوَّلًا وَخَرَجَ ثُمَّ أَحْدَثَ الْمُسَافِرُ وَخَرَجَ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقِيمِ وَجَازَتْ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ فَإِنْ أَحْدَثَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا وَخَرَجَا مَعًا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ بِخُلُوِّ مَكَانِ الْإِمَامِ وَجَازَتْ صَلَاةُ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ، وَإِنْ

ص: 42

(وَمَنْ كَانَ لَهُ وَطَنٌ فَانْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَوْطَنَ غَيْرَهُ ثُمَّ سَافَرَ وَدَخَلَ وَطَنَهُ الْأَوَّلَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ وَطَنًا لَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ دُونَ

خَرَجَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَلَا يُعْلَمُ أَوَّلُهُمَا خُرُوجًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.

(قَوْلُهُ: فَانْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَوْطَنَ غَيْرَهُ) قَيَّدَ بِالْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ بَلْ اسْتَوْطَنَ آخَرَ بِأَنْ اتَّخَذَ لَهُ أَهْلًا فِي الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ فِي الْأَوَّلِ كَمَا يُتِمُّ فِي الثَّانِي. (قَوْلُهُ: عَدَّ نَفْسَهُ مِنْ الْمُسَافِرِينَ) هُوَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا حَيْثُ قَالَ «فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» . (قَوْلُهُ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إلَخْ) قِيلَ الْأَوْطَانُ ثَلَاثَةٌ: وَطَنٌ أَصْلِيٌّ وَهُوَ مَوْلِدُ الْإِنْسَانِ أَوْ مَوْضِعٌ تَأَهَّلَ بِهِ وَمَنْ قَصْدُهُ التَّعَيُّشُ بِهِ لَا الِارْتِحَالُ، وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ فِي بَلَدٍ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِيهِ قِيلَ يَصِيرُ مُقِيمًا وَقِيلَ لَا.

وَوَطَنُ إقَامَةٍ وَهُوَ مَا يَنْوِي الْإِقَامَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا عَلَى نِيَّةِ أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَوَطَنُ سُكْنَى وَهُوَ مَا يَنْوِي الْإِقَامَةَ بِهِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ يُوصَفُ السَّفَرُ فِيهِ كَالْمَفَازَةِ، وَلِذَا تَرَكَهُ الْمُصَنِّفُ. وَالْأَصْلِيُّ لَا يَنْتَقِضُ إلَّا بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ وَاسْتِيطَانِ آخَرَ كَمَا قُلْنَا لَا بِالسَّفَرِ وَلَا بِوَطَنِ الْإِقَامَةِ، وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يَنْتَقِضُ بِالْأَصْلِيِّ وَوَطَنِ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ. وَتَقْدِيمُ السَّفَرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْأَصْلِيِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ وَطَنِ الْإِقَامَةِ؟ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يُشْتَرَطُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَفِي أُخْرَى إنَّمَا يَصِيرُ الْوَطَنُ وَطَنَ إقَامَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ سَفَرٌ وَيَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْهُ مُدَّةُ سَفَرٍ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ فَوَصَلَ إلَى قَرْيَةٍ وَنَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ لَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ السَّفَرِ، وَكَذَا إذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ وَخَرَجَ فَلَمَّا وَصَلَ إلَى قَرْيَةٍ مَسِيرَتُهَا مِنْ وَطَنِهِ دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا وَلَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ.

وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ: بَغْدَادِيٌّ وَكُوفِيٌّ خَرَجَا مِنْ وَطَنِهِمَا يُرِيدَانِ قَصْرَ ابْنِ هُبَيْرَةَ لِيُقِيمَا بِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَبَيْنَ كُوفَةَ وَبَغْدَادَ خَمْسَةُ مَرَاحِلَ وَالْقَصْرُ مُنْتَصَفُ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمَاهُ خَرَجَا مِنْهُ إلَى الْكُوفَةِ لِيُقِيمَا بِهَا يَوْمًا ثُمَّ يَرْجِعَا إلَى بَغْدَادَ فَإِنَّهُمَا يُتِمَّانِ الصَّلَاةَ بِهَا إلَى الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُمَا مِنْ وَطَنِهِمَا إلَى الْقَصْرِ لَيْسَ سَفَرًا، وَكَذَا مِنْ الْقَصْرِ إلَى الْكُوفَةِ فَبَقِيَا مُقِيمَيْنِ إلَى الْكُوفَةِ، فَإِنْ خَرَجَا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ يَقْصُرَانِ الصَّلَاةَ، وَإِنْ قَصَدَ الْمُرُورَ عَلَى الْقَصْرِ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا بَغْدَادَ وَلَيْسَ لَهُمَا وَطَنٌ، أَمَّا الْكُوفِيُّ؛ فَلِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ نَقَضَ وَطَنَ الْقَصْرِ. وَأَمَّا الْبَغْدَادِيُّ فَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ، وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ: يَعْنِي الزِّيَادَاتِ يَقْصُرُ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ وَطَنَ الْبَغْدَادِيِّ بِالْقَصْرِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعِهَا وَلَمْ يُوجَدْ

ص: 43

السَّفَرِ، وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ وَبِالسَّفَرِ وَبِالْأَصْلِيِّ.

(وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُعَرَّى عَنْهُ

مَا يَنْقُضُهَا، وَقِيَامُ وَطَنِهِ بِالْقَصْرِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ السَّفَرِ.

وَجْهُ رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ وَطَنَ الْإِقَامَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ مِنْ الْمُقِيمِ لَغْوٌ، وَلَمْ يُوجَدْ تَقْدِيمُ السَّفَرِ فَلَمْ يَصِحَّ وَطَنُهُ بِالْقَصْرِ فَصَارَ مُسَافِرًا إلَى بَغْدَادَ انْتَهَى. وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ تُبَيِّنُ أَنَّ السَّفَرَ النَّاقِضَ لِوَطَنِ الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِيهِ مُرُورٌ عَلَى وَطَنِ الْإِقَامَةِ أَوْ مَا يَكُونُ الْمُرُورُ فِيهِ بِهِ بَعْدَ سَيْرِ مُدَّةِ السَّفَرِ. وَمِثَالُهُ: فِي دِيَارِنَا قَاهِرِيٌّ خَرَجَ إلَى بُلْبَيْسٍ فَنَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الصَّالِحِيَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْقَاهِرَةِ وَيَمُرَّ بِبُلْبَيْسَ، فَعَلَى رِوَايَةِ اشْتِرَاطِ السَّفَرِ بِوَطَنِ الْإِقَامَةِ يَقْصُرُ إلَى الْقَاهِرَةِ، وَعَلَى الْأُخْرَى يُتِمُّ.

وَمِثَالُ انْتِقَاضِ وَطَنِ الْإِقَامَةِ بِمِثْلِهِ يُبَيِّنُ مَا قُلْنَا أَيْضًا، وَهُوَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ خُرَاسَانِيٍّ قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا شَهْرًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الْحِيرَةِ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْحِيرَةِ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كَانَ وَطَنَ إقَامَةٍ، وَقَدْ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِالْحِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ مِثْلُهُ، وَكَذَا وَطَنُهُ بِالْحِيرَةِ انْتَقَضَ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ فَكَمَا خَرَجَ مِنْ الْحِيرَةِ عَلَى قَصْدِ خُرَاسَانَ صَارَ مُسَافِرًا وَلَا وَطَنَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَدْخُلَ خُرَاسَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِالْحِيرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَطَنٍ مِثْلِهِ وَلَا سَفَرٍ فَيَبْقَى وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ كَمَا كَانَ.

وَلَوْ أَنَّ الْخُرَاسَانِيَّ ارْتَحَلَ مِنْ الْكُوفَةِ يُرِيدُ مَكَّةَ فَقَبْلَ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَكَرَ حَاجَةً بِالْكُوفَةِ فَعَادَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ بَطَلَ بِالسَّفَرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي بَلَغَ إلَيْهِ وَوَطَنِهِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ يَصِيرُ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا فَيَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُلَ وَطَنَهُ؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَرْكُ السَّفَرِ، فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ السَّفَرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي تَرْكُ السَّفَرِ إلَى جِهَةِ قَصْدِهِ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَبَقِيَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ.

وَفِي النَّوَادِرِ: خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا ثُمَّ افْتَتَحَ لِلصَّلَاةِ فَسَبَقَهُ حَدَثٌ فَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فَنَوَى أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَهُ وَهُوَ قَرِيبٌ صَارَ مُقِيمًا مِنْ سَاعَتِهِ دَخَلَ مِصْرَهُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الدُّخُولِ تَرْكُ السَّفَرِ فَحَصَلَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَصَحَّتْ، فَإِذَا دَخَلَهُ صَلَّى أَرْبَعًا، فَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ

ص: 44

إلَّا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيْلِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَصِيرَ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْمَرْءِ مُضَافَةٌ إلَى مَبِيتِهِ.

(وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا)؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ.

أَنْ يَدْخُلَهُ أَنَّ الْمَاءَ أَمَامَهُ فَمَشَى إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ صَلَّى أَرْبَعًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِالنِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا، فَبِالْمَشْيِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَمَامَهُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا فِي حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ قَارَنَتْ النِّيَّةُ فِعْلَ السَّفَرِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُسَافِرًا لَفَسَدَتْ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يَمْنَعُ عَنْهُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهَا تَرْكُ السَّفَرِ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُهُ عَنْهُ، فَلَوْ تَكَلَّمَ حِينَ عَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ أَمَامَهُ أَوْ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ بِمُفْسِدٍ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ، إنْ وَجَدَهُ فِي مَكَانِهِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ حَتَّى وَجَدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَافِرًا ثَانِيًا بِالْمَشْيِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ.

وَقَدْ تَكَرَّرَ لَنَا أَنَّ الْمُسَافِرَ يَصِيرُ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ حَتَّى يُتِمَّ أَرْبَعًا، فَلْنُتْمِمْ الْكَلَامَ فِيهِ بِذِكْرِ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: يَصِيرُ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ إلَى الرُّبَاعِيَّةِ، إلَّا إنْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا فَنَوَى الْإِقَامَةَ لِتَقَرُّرِ الْفَرْضِ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا فَرَاغَ إمَامِهِ الْمُسَافِرِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّ اللَّاحِقَ مُقْتَدٍ حُكْمًا حَتَّى لَا يَقْرَأَ وَلَا يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ، فَفَرَاغُ الْإِمَامِ كَأَنَّهُ فَرَاغُهُ وَبِهِ يَسْتَحْكِمُ الْفَرْضُ وَلَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغَيُّرِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، فَكَذَا فِي حَقِّ اللَّاحِقِ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَوْ نَوَاهَا بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَمْ يُسَلِّمْ تَغَيَّرَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا قَعَدَ أَوَّلًا فَنَوَاهَا قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْمَكْتُوبَةِ قَبْلَ النِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُعِيدُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ؛ لِأَنَّهُمَا نَفْلٌ فَلَا يَنُوبَانِ عَنْ الْفَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ حَتَّى سَجَدَ لَا يَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى؛ لِيَكُونَ التَّطَوُّعُ بِرَكْعَتَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ قَعَدَ وَبِأَرْبَعٍ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَعَدَ لِمَا عُرِفَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا، وَلَا يَضُمُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِفَسَادِ أَصْلِ الصَّلَاةِ بِفَسَادِ الْفَرْضِيَّةِ، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا وَتَشَهَّدَ ثُمَّ نَوَاهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ نَوَاهَا قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَهُمَا وَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ مِنْ فَسَادِ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ، وَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ تَفْسُدَ لِمَا سَلَفَ لَهُ مِنْ فَسَادِهَا بِتَرْكِهَا فِي رَكْعَتَيْنِ، لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ هُنَا فَقَالَ بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَإِنْ تُرِكَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بِعَرَضِ أَنْ تَلْحَقَهَا مَدَدُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَقْضِي الْقِرَاءَةَ فِي الْبَاقِي فَلَا يَتَحَقَّقُ تَقَرُّرُ الْمُفْسِدِ إلَّا بِالْخُرُوجِ عَنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ فَجْرِ الْمُقِيمِ، وَلَا يُشْكِلُ لَوْ نَوَاهَا بَعْدَ السُّجُودِ أَنَّهَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ نَوَاهَا بَعْدَ السَّلَامِ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ يُخْرِجُهُ أَوْ لَا؟

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ) أَيْ آخِرَ الْوَقْتِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ فِي حَقِّ

ص: 45

(وَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ فِي سَفَرِهِمَا فِي الرُّخْصَةِ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ

الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ تَقَرُّرِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَصِفَةُ الدَّيْنِ تُعْتَبَرُ حَالَ تَقَرُّرِهِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ كُلِّ الْوَقْتِ إذَا خَرَجَ فِي حَقِّهِ فَلِيُثْبِتَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ إذْ الْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْمَشْرُوعَاتِ أَنْ تُطْلَبَ الْعِبَادَاتُ كَامِلَةً، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ نَقْصُهَا لِعُرُوضِ تَأْخِيرِهِ إلَى الْجُزْءِ النَّاقِضِ مَعَ تَوَجُّهِ طَلَبِهَا فِيهِ إذَا عَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا قَبْلَهُ، وَبِخُرُوجِهِ عَنْ غَيْرِ إدْرَاكٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ الْعَارِضُ فَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ اعْتِبَارِ وَقْتِ الْوُجُوبِ. وَقَالَ زُفَرُ: إذَا سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ السَّفَرِ يَقْضِي صَلَاةَ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَهُ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَا تَنْتَقِلُ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَعِنْدَنَا تَنْتَقِلُ إلَى الَّذِي يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَهُوَ مُقِيمٌ أَرْبَعًا ثُمَّ سَافَرَ وَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا فِي مَنْزِلِهِ فَرَجَعَ فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِلَا طَهَارَةٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ صَارَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَصَارَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَهُوَ مُسَافِرٌ فِيهِ فَصَارَتْ فِي ذِمَّتِهِ صَلَاةَ السَّفَرِ، بِخِلَافِ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ خَرَجَ وَقْتُهَا وَهُوَ مُقِيمٌ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْمَرِيضُ إذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْقِيَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي الصِّحَّةِ قَائِمًا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِقَيْدِ الْقِيَامِ غَيْرَ أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا حَالَةَ الْعُذْرِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ إذْ ذَاكَ، فَحَيْثُ لَمْ يُؤَدِّهَا حَالَةَ الْعُذْرِ زَالَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ فَتَعَيَّنَ الْأَصْلُ، وَلِذَلِكَ يَفْعَلُهَا الْمَرِيضُ قَاعِدًا إذَا فَاتَتْ عَنْ زَمَنِ

ص: 46

تَخْفِيفًا فَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ، وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ فَصَلُحَ مُتَعَلَّقُ الرُّخْصَةِ. .

الصِّحَّةِ، أَمَّا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ ابْتِدَاءً، وَمَنْشَأُ الْغَلَطِ اشْتِرَاكُ لَفْظِ الرُّخْصَةِ.

(قَوْلُهُ: فَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ) يَعْنِي الْمَعْصِيَةَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقِتَالَ الْإِمَامِ الْعَدْلِ، وَالْإِبَاقَ لِلْعَبْدِ وَعَدَمَ الْمَحْرَمِ، وَقِيَامَ الْعِدَّةِ لِلْمَرْأَةِ يُوجِبُ صَيْرُورَةَ نَقْلِ الْخَطَإِ مَعْصِيَةً فَيَمْنَعُ الرُّخْصَةَ قِيَاسًا عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا خَافُوا الْإِمَامَ وَعَلَى زَوَالِ الْعَقْلِ بِمَحْظُورِ عَدَمِ سُقُوطِ الْخِطَابِ. وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ: أَيْ نُصُوصِ الرُّخْصَةِ قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُفِيدَةِ تَعْلِيقَ الْقَصْرِ عَلَى مُسَمَّى السَّفَرِ فَوَجَبَ إعْمَالُ إطْلَاقِهَا إلَّا بِمُقَيِّدٍ وَلَمْ يُوجَدْ، أَمَّا نَصُّ الْكِتَابِ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ الْقِيَاسُ الَّذِي عَيَّنَهُ لَمْ يَصْلُحْ مُقَيِّدًا لَهُ عِنْدَنَا فَكَيْفَ وَلَمْ يَتِمَّ فَلَا يَصْلُحُ مُقَيِّدًا لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْجَامِعِ فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي أَصْلِهِ فِي مَنْعِ الرُّخْصَةِ عَدَمُ سَبَبِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ الْخَوْفُ وَهُوَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ سَبَبٌ عَنْ نَفْسِ الْمَعْصِيَةِ: أَعْنِي قَطْعَ الطَّرِيقِ.

وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ، فَلَوْ ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ أَعْنِي جَوَازَ صَلَاةِ الْخَوْفِ لَهُمْ كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ نَفْسُهَا هِيَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّخْفِيفِ، وَكَذَا زَوَالُ الْعَقْلِ هُوَ السَّبَبُ وَهُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ نَفْسِهَا: أَعْنِي شُرْبَ الْمُسْكِرِ إلَى آخِرِ مَا قَرَّرْنَاهُ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ السَّبَبَ السَّفَرُ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ الَّذِي صَيَّرَهُ مُسَافِرًا لَيْسَ قَطْعُ الطَّرِيقِ بَلْ الشُّرُوعُ فِي السَّيْرِ الْمَخْصُوصِ لَا بِاعْتِبَارِ الطَّرِيقِ أَصْلًا فَعَرِيَ السَّبَبُ فِي نَفْسِهِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَانَتْ هِيَ مُجَاوِرَةٌ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ مَا جَاوَرَهُ شَرْعًا كَالصَّلَاةِ فِي الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى خُفٍّ مَغْصُوبٍ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَكَثِيرٍ مِنْ النَّظَائِرِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ الْفَاعِلِيُّ لَا الْغَائِيُّ.

[فُرُوعٌ]

التَّبَعُ كَالْعَبْدِ وَالْغُلَامِ وَالْجُنْدِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا وَفَّاهَا مَهْرَهَا وَالْأَجِيرِ وَالتِّلْمِيذِ وَالْأَسِيرِ وَالْمُكْرَهِ تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ مِنْ مَتْبُوعِهِمْ دُونَهُمْ فَيَصِيرُونَ مُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ بِنِيَّتِهِمْ، وَلَوْ نَوَى الْمَتْبُوعُ الْإِقَامَةَ وَلَا يَعْلَمُونَ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ لُزُومِهِمْ حُكْمَ الْإِقَامَةِ فَقِيلَ مِنْ وَقْتِ نِيَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، وَقِيلَ مِنْ وَقْتِ عِلْمِهِمْ كَمَا فِي تَوَجُّهِ خِطَابِ الشَّرْعِ وَعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَالْأَحْوَطُ الْأَوَّلُ فَيَكُونُ كَالْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فَيَقْضُونَ مَا صَلَّوْا قَصْرًا قَبْلَ عِلْمِهِمْ، وَفِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مُسَافِرٍ وَمُقِيمٍ، قِيلَ يُتِمُّ، وَقِيلَ يَقْصُرُ، وَقِيلَ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَايَأَةٌ فِي الْخِدْمَةِ قَصَرَ فِي نَوْبَةِ الْمُسَافِرِ وَأَتَمَّ فِي نَوْبَةِ الْمُقِيمِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ مِنْ الْمَتْبُوعِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَمَّ سَيِّدَهُ فِي السَّفَرِ فَنَوَى السَّيِّدُ الْإِقَامَةَ صَحَّتْ، حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الْعَبْدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا.

وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ مُقِيمٍ حَالَ سَفَرِهِ وَالْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَمَّ مَعَ السَّيِّدِ غَيْرَهُ مِنْ الْمُسَافِرِينَ فَنَوَى السَّيِّدُ الْإِقَامَةَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي حَقِّ

ص: 47

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَبْدِهِ لَا فِي حَقِّ الْقَوْمِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَيُقَدِّمُ الْعَبْدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَاحِدًا مِنْ الْمُسَافِرِينَ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ ثُمَّ يَقُومُ هُوَ وَالسَّيِّدُ فَيُتِمُّ كُلٌّ مِنْهُمَا أَرْبَعًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا صَلَّى مُسَافِرٌ بِمُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ فَأَحْدَثَ فَقُدِّمَ مُقِيمٌ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُ الْقَوْمِ أَرْبَعًا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ بِمَاذَا يَعْلَمُ الْعَبْدُ؟ قِيلَ يَنْصِبُ الْمَوْلَى أُصْبُعَيْهِ أَوَّلًا وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ ثُمَّ يَنْصِبُ الْأَرْبَعَ وَيُشِيرُ بِهَا.

وَفِي حُكْمِ الْأَسِيرِ مَنْ بَعَثَ إلَيْهِ الْوَالِي لِيُؤْتَى بِهِ مِنْ بَلْدَةٍ، وَالْغَرِيمُ إذَا لَزِمَهُ غَرِيمُهُ أَوْ حَبَسَهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَمَنْ قَصَدَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ قَبْلَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَالنِّيَّةُ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ نِيَّتُهُ، وَإِلَّا فَنِيَّةُ الْحَابِسِ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ مُسَافِرٌ أَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ مُسَافِرٌ اُخْتُلِفَ فِيهِمَا، فَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَقْصِدِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَانَا مُقِيمَيْنِ، وَقِيلَ يُصَلِّيَانِ رَكْعَتَيْنِ، وَقِيلَ الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْكَافِرِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَا يَجْمَعُ عِنْدَنَا فِي سَفَرٍ بِمَعْنَى أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا وَالْمَغْرِبَ مَعَ الْعِشَاءِ كَذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، بَلْ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا فَيَنْزِلُ فَيُصَلِّيهَا فِي آخِرِهِ وَيَفْتَتِحُ الْآتِيَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَهَذَا جَمْعٌ فِعْلًا لَا وَقْتًا. لَنَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا بِجَمْعٍ، فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ الْغَدِ قَبْلَ وَقْتِهَا» يَعْنِي غَلَّسَ بِهَا فَكَانَ قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ فِعْلُهَا فِيهِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّهُ تَرَكَ جَمْعَ عَرَفَةَ لِشُهْرَتِهِ.

وَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى» فَيُعَارِضُ مَا فِيهِمَا حَدِيثُ أَنَسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ «كَانَ إذَا عَجِلَ السَّيْرُ السَّفَرَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ» وَيَتَرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِزِيَادَةِ فِقْهِ الرَّاوِي، وَبِأَنَّهُ أَحْوَطُ فَيُقَدَّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، أَوْ يُحْمَلُ الشَّفَقُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْحُمْرَةِ فَإِنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيَاضِ الَّذِي يَلِي أَطْرَافَهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ عَيْنَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَيُصَلِّيَ الْوَقْتِيَّةَ فِيهِ ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا.

وَقَدْ وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ الْجَمْعِ شَيْءٌ مِنْ الِاضْطِرَابِ؛ فَفِي بَعْضِهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «جَمَعَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ» وَفِي بَعْضِهَا «جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ» قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا أَرَادَ إلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ، وَلَمْ يَقُلْ مِنَّا وَمِنْهُمْ بِجَوَازِ الْجَمْعِ لِذَلِكَ أَحَدٌ وَكَيْفَ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ يُعَارِضُهُ مُعَارَضَةً ظَاهِرَةً.

ص: 48

(بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ)

(بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ)

مُنَاسَبَتُهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ تَنْصِيفُ الصَّلَاةِ لِعَارِضٍ، إلَّا أَنَّ التَّنْصِيفَ هُنَا فِي خَاصٍّ مِنْ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الظُّهْرُ، وَفِيمَا قَبْلَهُ فِي كُلِّ رُبَاعِيَّةٍ، وَتَقْدِيمُ الْعَامِّ هُوَ الْوَجْهُ، وَلَسْنَا نَعْنِي أَنَّ الْجُمُعَةَ تَنْصِيفُ الظُّهْرِ بِعَيْنِهِ بَلْ هِيَ فَرْضُ ابْتِدَاءٍ نِسْبَتُهُ النِّصْفُ مِنْهَا. وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ مَحْكَمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، يُكَفَّرُ جَاحِدُهَا، قَالَ تَعَالَى {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} رَتَّبَ الْأَمْرَ بِالسَّعْيِ لِلذِّكْرِ عَلَى النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الصَّلَاةُ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ الْخُطْبَةَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُفِيدُ افْتِرَاضَ الْجُمُعَةِ، فَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ وَالثَّانِي كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ افْتِرَاضَ السَّعْيِ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ لِغَيْرِهِ فَرْعُ افْتِرَاضِ ذَلِكَ الْغَيْرِ.

أَوَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ إلَى الْخُطْبَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمَذْكُورُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ وَهُوَ الْأَحَقُّ لِصِدْقِهِ عَلَيْهِمَا مَعًا، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا أَرْبَعَةً: مَمْلُوكٌ، أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، وَقَالَ طَارِقٌ: رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا قَدْحًا فِي صُحْبَتِهِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ وَهُوَ حُجَّةٌ بَلْ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه، عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ إلَّا عَلَى صَبِيٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ أَوْ مُسَافِرٍ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرَوَيْهِ، وَزَادَ فِيهِ «الْمَرْأَةُ وَالْمَرِيضُ» ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ» ، وَعَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمُعَاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كُتِبَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ فَلَا يَضُرُّهُ تَضْعِيفُ جَابِرٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ جُمَعٍ مُتَوَالِيَاتٍ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ» .

وَهَذَا

ص: 49

(لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ، أَوْ فِي مُصَلَّى الْمِصْرِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْقُرَى)

بَابٌ يَحْتَمِلُ جُزْءًا وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَكْثَرْنَا فِيهِ نَوْعًا مِنْ الْإِكْثَارِ لِمَا نَسْمَعُ عَنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ أَنَّهُمْ يَنْسِبُونَ إلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمَ افْتِرَاضِهَا، وَمَنْشَأُ غَلَطِهِمْ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ: وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَنْزِلِهِ، وَلَا عُذْرَ لَهُ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ حَرُمَ عَلَيْهِ وَصَحَّتْ الظُّهْرُ، فَالْحُرْمَةُ لِتَرْكِ الْفَرْضِ وَصِحَّةِ الظُّهْرِ لِمَا سَنَذْكُرُ.

وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا فَرْضٌ آكَدُ مِنْ الظُّهْرِ وَبِإِكْفَارِ جَاحِدِهَا. وَلِوُجُوبِهَا شَرَائِطُ فِي الْمُصَلِّي: الْحُرِّيَّةُ، وَالذُّكُورَةُ وَالْإِقَامَةُ، وَالصِّحَّةُ، وَسَلَامَةُ الرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ. وَقَالَا: إذَا وَجَدَ الْأَعْمَى قَائِدًا لَزِمَتْهُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ بِنَفْسِهِ فَلَا تُعْتَبَرُ قُدْرَةُ غَيْرِهِ كَالزَّمِنِ إذَا وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ.

وَشَرَائِطُ فِي غَيْرِهِ: الْمِصْرُ، وَالْجَمَاعَةُ، وَالْخُطْبَةُ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْوَقْتُ، وَالْإِذْنُ الْعَامُّ، حَتَّى لَوْ أَنَّ وَالِيًا أَغْلَقَ بَابَ بَلَدٍ وَجَمَعَ بِحَشَمِهِ وَخَدَمِهِ، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ لَمْ تَجُزْ أَخْذًا مِنْ إشَارَةِ قَوْله تَعَالَى {نُودِيَ لِلصَّلاةِ} فَإِنَّهُ أَيْ تَشْهِيرٌ (قَوْلُهُ أَوْ فِي مُصَلَّى الْمِصْرِ) أَعْنِي فِنَاءَهُ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ الدَّاخِلَ فِيهِ انْتَظَمَهُ اسْمُ الْمِصْرِ، وَفِنَاؤُهُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِمَصَالِحِ الْمِصْرِ مُتَّصِلٌ بِهِ أَوْ مُنْفَصِلٌ بِغَلْوَةِ، كَذَا قَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ، وَقِيلَ بِمِيلٍ، وَقِيلَ بِمِيلَيْنِ، وَقِيلَ بِثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَقِيلَ إنَّمَا تَجُوزُ فِي الْفِنَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِ مَزْرَعَةٌ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى اشْتِرَاطَ الْمُصَلَّى.

قَالَ الْمُصَنِّفُ:

ص: 50

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَالْمِصْرُ الْجَامِعُ: كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ

وَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمُصَلَّى بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ: أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُصَلًّى فِيهَا (وَقَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا جُمُعَةَ» إلَخْ) رَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه:«لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا صَلَاةَ فِطْرٍ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ أَوْ فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ» صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لَا تَشْرِيقَ وَلَا جُمُعَةَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَكَفَى بِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما قُدْوَةً.

وَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجُوَاثَا قَرْيَةٍ بِالْبَحْرَيْنِ» . فَلَا يُنَافِي الْمِصْرِيَّةَ تَسْمِيَةُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ اسْمَ الْقَرْيَةِ، إذْ الْقَرْيَةُ تُقَالُ عَلَيْهِ فِي عُرْفِهِمْ وَهُوَ لُغَةُ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أَيْ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَكَّةَ مِصْرٌ.

وَفِي الصِّحَاحِ أَنَّ جُوَاثَا حِصْنٌ بِالْبَحْرَيْنِ فَهِيَ مِصْرٌ، إذْ لَا يَخْلُو الْحِصْنُ عَنْ حَاكِمٍ عَلَيْهِمْ وَعَالِمٍ، وَلِذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: إنَّهَا مَدِينَةٌ فِي الْبَحْرَيْنِ، وَكَيْفَ وَالْحِصْنُ يَكُونُ بِأَيِّ سُورٍ وَلَا يَخْلُو مَا كَانَ كَذَلِكَ عَمَّا قُلْنَا عَادَةً. وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بِنَا فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَكَانَ كَعْبٌ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ تَرَحَّمَ عَلَى أَسْعَدَ بِذَلِكَ قَالَ: قُلْت كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ، فَكَانَ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا يَلْزَمُ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْجُمُعَةُ، وَبِغَيْرِ عِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لِلْيَهُودِ يَوْمٌ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلِلنُّصَّارِ يَوْمٌ، فَلْنَجْعَلْ يَوْمًا نَجْتَمِعُ فِيهِ نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَنُصَلِّي، فَقَالُوا: يَوْمَ السَّبْتِ لِلْيَهُودِ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ لِلنَّصَارَى، فَاجْعَلُوهُ يَوْمَ الْعُرُوبَةِ فَاجْتَمَعُوا إلَى مَسْجِدٍ فَصَلَّى بِهِمْ وَذَكَّرَهُمْ وَسَمَّوْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَتَذَكَّرَ عِنْدَ هَذَا تَرْكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم التَّرَاوِيحَ لَمَّا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ فَتِلْكَ الْحَرَّةُ مِنْ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ وَلِلْفِنَاءِ حُكْمُ الْمِصْرِ فَسَلِمَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْ الْمُعَارِضِ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِهِ سَمَاعًا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الِافْتِرَاضِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُفِيدُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَمْكِنَةِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى نَفْيِهَا فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ سَمَاعٍ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِلْقِيَاسِ الْمُسْتَمِرِّ فِي مِثْلِهِ، وَفِي الصَّلَوَاتِ الْبَاقِيَاتِ أَيْضًا.

وَالْقَاطِعُ لِلشَّغَبِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْأُمَّةِ إذْ لَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْبَرَارِي إجْمَاعًا وَلَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ عِنْدَهُ، بَلْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْعَنَ أَهْلُهَا عَنْهَا صَيْفًا وَلَا شِتَاءً، فَكَانَ خُصُوصُ الْمَكَانِ مُرَادًا فِيهَا إجْمَاعًا، فَقَدَّرَ الْقَرْيَةَ الْخَاصَّةَ وَقَدَّرْنَا الْمِصْرَ وَهُوَ أَوْلَى لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَهُوَ لَوْ عُورِضَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مُعَارَضَةُ مَا ذَكَرْنَا إيَّاهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ اشْتَغَلُوا بِنَصْبِ الْمَنَابِرِ وَالْجُمَعِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَوْ آحَادًا، وَلَوْ مَصَّرَ الْإِمَامُ مَوْضِعًا وَأَمَرَهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ جَازَ، وَلَوْ مَنَعَ أَهْلَ مِصْرٍ أَنْ يُجْمِعُوا لَمْ يُجْمِعُوا.

وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: إذَا نَهَى مُجْتَهِدًا لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَخْرُجَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِصْرًا جَازَ، أَمَّا مُتَعَنِّتًا وَإِضْرَارًا فَلَهُمْ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى مَنْ يُصَلِّي،

ص: 51

وَيُقِيمُ الْحُدُودَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعَنْهُ أَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الثَّلْجِيِّ، وَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمُصَلِّي بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهِ فِي حَوَائِجِ أَهْلِهِ.

وَلَوْ مَصَّرَ مِصْرًا ثُمَّ نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ لِخَوْفٍ وَنَحْوِهِ ثُمَّ عَادُوا لَا يُجْمِعُونَ إلَّا بِإِذْنٍ، وَلَوْ دَخَلَ الْقَرَوِيُّ الْمِصْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَنَوَى أَنْ يَمْكُثَهُ لَزِمَتْهُ، وَإِنْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْهُ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا تَلْزَمُهُ.

قَالَ الْفَقِيهُ: إنْ نَوَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ يَوْمِهِ وَلَوْ بَعْدَهُ لَا تَلْزَمُهُ (قَوْلُهُ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ) احْتِرَازًا عَنْ الْمُحَكَّمِ، وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ قَاضِيَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَضَاؤُهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ إقَامَتِهَا فِي مِلْكِهِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ) أَيْ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمِصْرُ بَلْدَةٌ فِيهَا سِكَكٌ وَأَسْوَاقٌ وَبِهَا رَسَاتِيقُ وَوَالٍ يُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنْ الظَّالِمِ وَعَالِمٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْحَوَادِثِ، وَهَذَا أَخَصُّ مِمَّا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يُفْتِي

ص: 52

(وَتَجُوزُ بِمِنًى إذَا كَانَ الْأَمِيرُ أَمِيرَ الْحِجَازِ، أَوْ كَانَ مُسَافِرًا عِنْدَهُمَا. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا جُمُعَةَ بِمِنًى)؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرَى

وَيُقِيمُ الْحُدُودَ أَغْنَى مِنْ التَّعَدُّدِ: وَقَدْ وَقَعَ شَكٌّ فِي بَعْضِ قُرَى مِصْرَ مِمَّا لَيْسَ فِيهَا وَالٍ وَقَاضٍ نَازِلَانِ بِهَا بَلْ لَهَا قَاضٍ يُسَمَّى قَاضِي النَّاحِيَةِ وَهُوَ قَاضٍ يُوَلَّى الْكُورَةَ بِأَصْلِهَا فَيَأْتِي الْقَرْيَةَ أَحْيَانَا فَيَفْصِلُ مَا اجْتَمَعَ فِيهَا مِنْ التَّعَلُّقَاتِ وَيَنْصَرِفُ وَوَالٍ كَذَلِكَ، هَلْ هُوَ مِصْرٌ نَظَرًا إلَى أَنَّ لَهَا وَالِيًا وَقَاضِيًا أَوْ لَا نَظَرًا إلَى عَدَمِهَا مِنْهُمَا؟. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ اعْتِبَارُ كَوْنِهِمَا مُقِيمَيْنِ بِهَا وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ قَرْيَةً أَصْلًا، إذْ كُلُّ قَرْيَةٍ مَشْمُولَةٌ بِحُكْمٍ. وَقَدْ يُفَرَّقُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَرْيَةٍ لَا يَأْتِيهَا حَاكِمٌ يَفْصِلُ بِهَا الْخُصُومَاتِ حَتَّى يَحْتَاجُونَ إلَى دُخُولِ مِصْرَ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ لِفَصْلِهَا، وَبَيْنَ مَا يَأْتِيهَا فَيَفْصِلُ فِيهَا، وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْإِنْسَانِ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ يَنْوِي بِهَا آخِرَ فَرْضٍ أَدْرَكْتُ وَقْتَهُ وَلَمْ أُؤَدِّهِ بَعْدُ، فَإِنْ لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ وَقَعَتْ ظُهْرُهُ وَإِنْ صَحَّتْ كَانَتْ نَفْلًا، وَهَلْ تَنُوبُ عَنْ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ؟ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ.

وَكَذَا إذَا تَعَدَّدَتْ الْجُمُعَةُ وَشَكَّ فِي أَنَّ جُمُعَتَهُ سَابِقَةٌ أَوْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ مَا قُلْنَا. وَأَصْلُهُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ تَعَدُّدُهَا فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا رَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي مَسْجِدَيْنِ فِي مِصْرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ كَبِيرٌ حَتَّى يَكُونَ كَمِصْرَيْنِ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِقَطْعِ الْجِسْرِ بِبَغْدَادَ لِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْجُمُعَةُ لِمَنْ سَبَقَ، فَإِنْ صَلَّوْا مَعًا أَوْ لَمْ تُدْرَ السَّابِقَةُ فَسَدَتَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ إذَا كَانَ الْمِصْرُ عَظِيمًا لَا فِي ثَلَاثَةٍ. وَعَنْ مُحَمَّدِ يَجُوزُ تَعَدُّدُهَا مُطْلَقًا.

وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِهَذَا قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ إقَامَتِهَا فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ مِنْ مَسْجِدَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَبِهِ نَأْخُذُ لِإِطْلَاقِ: لَا جُمُعَةَ فِي مِصْرٍ، شَرَطَ الْمِصْرَ، فَإِذَا تَحَقَّقَ تَحَقَّقَ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهَا. وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَنْعِ أَنَّهَا سُمِّيَتْ جُمُعَةً لِاسْتِدْعَائِهَا الْجَمَاعَاتِ فَهِيَ جَامِعَةٌ لَهَا، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ خُصُوصًا إذَا كَانَ مِصْرٌ كَبِيرٌ، فَإِنَّ فِي إلْزَامِ اتِّحَادِ الْمَوْضِعِ حَرَجًا بَيِّنًا لِاسْتِدْعَائِهِ تَطْوِيلَ الْمَسَافَةِ عَلَى الْأَكْثَرِ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ مِمَّا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ، وَمَا قُلْنَا مِنْ الْكَلَامِ فِي وُقُوعِهَا عَنْ السُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ إذَا زَالَ الِاشْتِبَاهُ بَعْدَ الْأَرْبَعِ لَتَحَقَّقَ وُقُوعُهَا

ص: 53

حَتَّى لَا يُعِيدَ بِهَا. وَلَهُمَا أَنَّهَا تَتَمَصَّرُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ وَعَدَمُ التَّعْيِيدِ لِلتَّخْفِيفِ، وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا قَضَاءٌ وَبِمِنًى أَبْنِيَةٌ. وَالتَّقْيِيدُ بِالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُمَا، أَمَّا أَمِيرُ الْمَوْسِمِ فَيَلِي أُمُورَ الْحَجِّ لَا غَيْرُ.

(وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا لِلسُّلْطَانِ أَوْ لِمَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ)

نَفْلًا، أَمَّا إذَا دَامَ الِاشْتِبَاهُ قَائِمًا فَلَا يَجْزِمُ بِكَوْنِهَا نَفْلًا؛ لِيَقَعَ النَّظَرُ فِي أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ لَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهَا السُّنَّةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وُقُوعُهَا ظُهْرًا؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودَ الشَّرْطِ لَمْ يُحْكَمْ بِوُجُودِ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَحْكُمْ بِسُقُوطِ الْفَرْضِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

وَمَنْ كَانَ مِنْ مَكَانٍ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْمِصْرِ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَأْتِيَ لِمِصْرٍ فَلْيُصَلِّهَا فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ يُسْمَعُ النِّدَاءُ فِيهِ مِنْ الْمِصْرِ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْهُ كُلُّ قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٌ بِرَبَضِ الْمِصْرِ، وَغَيْرُ الْمُتَّصِلَةِ لَا، وَعَنْهُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْرَ مِيلٍ، وَقِيلَ قَدْرَ مِيلَيْنِ، وَقِيلَ سِتَّةَ أَمْيَالٍ. وَعَنْ مَالِكٍ سِتَّةً، وَقِيلَ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْضُرَ الْجُمُعَةَ وَيَبِيتَ بِأَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَهَذَا حَسَنٌ.

(قَوْلُهُ: وَلَهُمَا أَنَّهَا) أَيْ مِنًى تَتَمَصَّرُ فِي الْمَوْسِمِ لِاجْتِمَاعِ مَنْ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ وَالْأَسْوَاقَ وَالسِّكَكَ، قِيلَ فِيهَا ثَلَاثُ سِكَكٍ، وَغَايَةُ مَا فِيهَا أَنَّهُ يَزُولُ تَمَصُّرُهَا بِزَوَالِ الْمَوْسِمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي مِصْرِيَّتِهَا قَبْلَهُ، إذْ مَا مِنْ مِصْرٍ إلَّا وَيَزُولُ تَمَصُّرُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَمَعَ ذَلِكَ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْأَوْلَى فِي الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ قُرَى مِصْرَ أَنْ لَا يَصِحَّ فِيهَا إلَّا حَالُ حُضُورِ الْمُتَوَلِّي، فَإِذَا حَضَرَ صَحَّتْ وَإِذَا ظَعَنَ امْتَنَعَتْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعَدَمُ التَّعْيِيدِ بِمِنًى لَا لِانْتِفَاءِ الْمِصْرِيَّةِ بَلْ لِلتَّخْفِيفِ، فَإِنَّ النَّاسَ مُشْتَغِلُونَ بِالْمَنَاسِكِ وَالْعِيدُ لَازِمٌ فِيهَا فَيَحْصُلُ مَعَ إلْزَامِهِ مَعَ اشْتِغَالِهِمْ بِمَا هُمْ فِيهِ الْحَرَجُ، أَمَّا الْجُمُعَةُ فَلَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ، بَلْ إنَّمَا تَتَّفِقُ فِي أَحْيَانٍ مِنْ الزَّمَانِ فَلَا حَرَجَ مَعَ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ وَالْعِيدُ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّعْلِيلِ دُونَ التَّعْلِيلِ بِأَنَّ مِنًى مِنْ أَفْنِيَةِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْسَخَيْنِ، وَتَقْدِيرُ الْفِنَاءِ بِذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ.

قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا فَعُلِمَ اعْتِبَارُهُمَا شَرْعًا مَوْضِعَيْنِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُمَا) يَعْنِي أَنَّ ثُبُوتَ وِلَايَةِ الْإِقَامَةِ لِلْجُمُعَةِ هُوَ الْمُصَحَّحُ بَعْدَ كَوْنِ الْمَحَلِّ صَالِحًا لِلتَّمْصِيرِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْخَلِيفَةُ وَإِنْ كَانَ قَصَدَ السَّفَرَ لِلْحَجِّ فَالسَّفَرُ إنَّمَا يُرَخَّصُ فِي التَّرْكِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا، وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْجُمُعَةِ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْإِقَامَةِ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَهُ الْإِذْنُ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَصَدَ الطَّوْفَ فِي وِلَايَاتِهِ فَأَظْهَرَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ غَيْرُ مُسَافِرٍ حَتَّى لَا يَقْصُرَ الصَّلَاةَ فِي طَوْفِهِ كَالسَّائِحِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ غَيْرَ صَالِحٍ لِلتَّمْصِيرِ فَلِذَا قَالُوا: إذَا سَافَرَ الْخَلِيفَةُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي الْقُرَى كَالْبَرَارِيِ.

(قَوْلُهُ أَوْ لِمَنْ أَمَرَهُ) فَخَرَجَ الْقَاضِي الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِإِقَامَتِهَا وَدَخَلَ الْعَبْدُ إذَا قُلِّدَ وِلَايَةَ نَاحِيَةٍ فَتَجُوزُ إقَامَتُهُ

ص: 54

لِأَنَّهَا تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّقْدِيمِ، وَقَدْ تَقَعُ فِي غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ تَتْمِيمًا لِأَمْرِهِ.

(وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْوَقْتُ فَتَصِحُّ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَلَا تَصِحُّ بَعْدَهُ)

وَإِنْ لَمْ تَجُزْ أَقْضِيَتُهُ وَأَنْكِحَتُهُ، وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ سُلْطَانَةً يَجُوزُ أَمْرُهَا بِالْإِقَامَةِ لَا إقَامَتُهَا، وَلِمَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ، بِخِلَافِ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الِاسْتِخْلَافَ إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجُمُعَةَ مُؤَقَّتَةٌ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهَا، فَالْأَمْرُ بِإِقَامَتِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ عَرَضٌ لِلْأَعْرَاضِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفْوِيتِ أَمْرٌ بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَجَوَازُ الْإِقَامَةِ فِيمَا إذَا مَاتَ وَالِي مِصْرَ لِخَلِيفَتِهِ، وَصَاحِبُ الشُّرَطِ وَالْقَاضِي إلَى أَنْ يَصِلَ وَالٍ آخَرَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِمَّنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَبِمَوْتِهِ لَا يَنْعَزِلُونَ كَمَا إذَا كَانَ حَيًّا فَكَانَ الْأَمْرُ مُسْتَمِرًّا لَهُمْ؛ وَلِذَا قَالُوا: إذَا مَاتَ السُّلْطَانُ وَلَهُ أُمَرَاءُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ عَلَى وِلَايَاتِهِمْ يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ بِخِلَافِ مَا لَوْ اجْتَمَعَتْ الْعَامَّةُ عَلَى تَقْدِيمِ رَجُلٍ عِنْدَ مَوْتِ ذَلِكَ الْوَالِي حَيْثُ لَا تَجُوزُ إقَامَتُهُ لِانْتِفَاءِ مَا قُلْنَا.

وَلَوْ أُمِّرَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ صَبِيٌّ عَلَى مِصْرٍ فَأَسْلَمَ وَبَلَغَ لَيْسَ لَهُمَا الْإِقَامَةُ إلَّا بِأَمْرٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ، وَلَوْ قِيلَ لَهُمَا إذَا أَسْلَمْت أَوْ بَلَغَتْ فَصَلِّ فَأَسْلَمَ وَبَلَغَ وَجَازَ لَهُمَا الْإِقَامَةُ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِي الْوِلَايَةِ جَائِزَةٌ. وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ: إذَا كَانَ التَّفْوِيضُ إلَيْهِمَا قَبْلَ الْجُمُعَةِ فَأَسْلَمَ وَأَدْرَكَ جَازَ لَهُمَا الْإِقَامَةُ، كَالْأُمِّيِّ وَالْأَخْرَسِ إذَا أُمِرَا بِهِ فَبَرَأَ وَحَفِظَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ وَقَعَ بَاطِلًا، وَالْمُتَغَلَّبُ الَّذِي لَا مَنْشُورَ لَهُ إنْ كَانَتْ سِيرَتُهُ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ سِيرَةَ الْأُمَرَاءِ وَيَحْكُمُ بِحُكْمِ الْوُلَاةِ تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِحَضْرَتِهِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ تَتَحَقَّقُ السَّلْطَنَةُ فَيَتِمُّ الشَّرْطُ، وَالْإِذْنُ بِالْخُطْبَةِ إذْنٌ بِالْجُمُعَةِ وَعَلَى الْقَلْبِ.

وَفِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ: إنَّ السُّلْطَانَ إذَا كَانَ يَخْطُبُ فَجَاءَ سُلْطَانٌ آخَرُ، إنْ أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ الْخُطْبَةَ يَجُوزُ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْقَدْرُ خُطْبَةً وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ بِأَمْرِهِ فَصَارَ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ وَسَكَتَ فَأَتَمَّ الْأَوَّلُ فَأَرَادَ الثَّانِي أَنْ يُصَلِّيَ بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمَلٌ، وَكَذَا إذَا حَضَرَ الثَّانِي وَقَدْ فَرَغَ الْأَوَّلُ مِنْ خُطْبَتِهِ فَصَلَّى الثَّانِي بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا خُطْبَةُ إمَامٍ مَعْزُولٍ وَلَمْ تُوجَدْ مِنْ الثَّانِي، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا عَلِمَ الْأَوَّلُ حُضُورَ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَخَطَبَ وَصَلَّى وَالثَّانِي سَاكِتٌ جَازَتْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْزُولًا إلَّا بِالْعِلْمِ إلَّا إذَا كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَزْلِ أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا فَصَارَ مَعْزُولًا، ثُمَّ إذَا صَلَّى صَاحِبُ الشُّرَطِ جَازَ؛ لِأَنَّ عُمَّالَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ إلَخْ) حَقِيقَةُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ اشْتِرَاطَ السُّلْطَانِ كَيْ لَا يُؤَدِّي إلَى عَدَمِهَا كَمَا يُفِيدُهُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ تَتْمِيمًا لِأَمْرِهِ: أَيْ لِأَمْرِ هَذَا الْفَرْضِ أَوْ الْجَمْعِ، فَإِنَّ ثَوَرَانَ الْفِتْنَةِ يُوجِبُ تَعْطِيلَهُ، وَهُوَ مُتَوَقَّعٌ إذَا لَمْ يَكُنْ التَّقَدُّمُ عَنْ أَمْرِ سُلْطَانِ تُعْتَقَدُ طَاعَتُهُ أَوْ تُخْشَى عُقُوبَتُهُ، فَإِنَّ التَّقَدُّمَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ يُعَدُّ شَرَفًا وَرِفْعَةً فَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ كُلُّ مَنْ مَالَتْ هِمَّتُهُ إلَى الرِّيَاسَةِ

ص: 55

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» (وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ وَلَا يَبْنِيه عَلَيْهَا) لِاخْتِلَافِهِمَا.

فَيَقَعُ التَّجَاذُبُ وَالتَّنَازُعُ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّقَاتُلِ.

وَمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَقَامَ بِالنَّاسِ وَعُثْمَانُ رضي الله عنه مَحْصُورٌ وَاقِعَةُ حَالٍ، فَيَجُوزُ كَوْنُهُ عَنْ إذْنِهِ كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِفَرِيقٍ، فَيَبْقَى قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَمَنْ تَرَكَهَا وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ، أَلَا فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ حَيْثُ اشْتَرَطَ فِي لُزُومِهَا الْإِمَامَ، كَمَا يُفِيدُهُ قَيْدُ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ حَالًا مَعَ مَا عَيَّنَّاهُ مِنْ الْمَعْنَى سَالِمِينَ مِنْ الْمُعَارِضِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرْبَعٌ إلَى السُّلْطَانِ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إطْلَاقَ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} مُقَيَّدٌ بِخُصُوصِ مَكَان وَمَخْصُوصٌ مِنْهُ كَثِيرٌ كَالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِظَنِّيٍّ آخَرَ فَيُخَصُّ بِمَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ أَيْضًا.

(قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ» إلَخْ) وَرُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ» ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه «كُنَّا نَجْمَعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ» الْحَدِيثَ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيدَانَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ: شَهِدْت الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فَكَانَ خُطْبَتُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَذَكَرَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ نَحْوَهُ، قَالَ: فَمَا رَأَيْت أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ. لَوْ صَحَّ لَمْ يَقْدَحْ فِي خُصُوصِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَكَيْفَ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِ ابْنِ سِيدَانَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى مُرَكَّبَةٌ مِنْ صِحَّتِهَا وَقْتَ الظُّهْرِ لَا بَعْدَهُ، فَيُرَدُّ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ مَا ذَكَرَ دَلِيلًا لِتَمَامِهَا إذَا اُعْتُبِرَ مَفْهُومُ الشَّرْطِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ، أَوْ يَكُونُ فِيهِ إجْمَاعٌ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي جُزْءِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ بِبَقَاءِ وَقْتِهَا إلَى الْغُرُوبِ، وَالْحَنَابِلَةُ قَائِلُونَ بِجَوَازِ أَدَائِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقِيلَ إذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ. وَيُجَابُ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْجُمُعَةِ مَقَامُ الظُّهْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ سُقُوطُ أَرْبَعٍ بِرَكْعَتَيْنِ فَتُرَاعَى الْخُصُوصِيَّاتُ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا مَا لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ اشْتِرَاطِهَا، وَلَمْ يُصَلِّهَا خَارِجَ الْوَقْتِ فِي عُمُرِهِ وَلَا بِدُونِ الْخُطْبَةِ فِيهِ فَيَثْبُتُ اشْتِرَاطُهُمَا وَكَوْنُ الْخُطْبَةِ فِي الْوَقْتِ، حَتَّى لَوْ خَطَبَ قَبْلَهُ لَا يَقَعُ الشَّرْطُ وَعَلَى اشْتِرَاطِ نَفْسِ الْخُطْبَةِ إجْمَاعٌ، بِخِلَافِ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ كَكَوْنِهَا خُطْبَتَيْنِ بَيْنَهُمَا جِلْسَةُ قَدْرِ مَا يَسْتَقِرُّ كُلُّ عُضْوٍ فِي مَوْضِعِهِ يَحْمَدُ فِي الْأُولَى وَيَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَيَعِظُ النَّاسَ، وَفِي الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَدْعُو مَكَانَ الْوَعْظِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَلَى أَنَّهُ مِنْ

ص: 56

(وَمِنْهَا الْخُطْبَةُ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا صَلَّاهَا بِدُونِ الْخُطْبَةِ فِي عُمُرِهِ (وَهِيَ

السُّنَنِ أَوْ الْوَاجِبَاتِ لَا شَرْطَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ.

(قَوْلُهُ: وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْخُطْبَةُ) بِقَيْدِ كَوْنِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْ الْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ تَقْصِيرُهَا وَتَطْوِيلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ وَكَوْنِهَا خُطْبَتَيْنِ. وَفِي الْبَدَائِعِ: قَدْرُهُمَا قَدْرُ سُورَةٍ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ إلَى آخِرِهِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا وَجْهُ اشْتِرَاطِهَا، وَتُعَادُ عَلَى وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ لَوْ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ فَائِتَةً فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْوِتْرَ حَتَّى فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ لِذَلِكَ فَاشْتَغَلَ بِقَضَائِهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَفْسَدَ الْجُمُعَةَ فَاحْتَاجَ إلَى إعَادَتِهَا أَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ الْخُطْبَةَ أَجْزَأَهُ، وَكَذَا إذَا خَطَبَ جُنُبًا، وَيَكْفِي لِوُقُوعِهَا الشَّرْطَ حُضُورُ وَاحِدٍ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يُفِيدُهُ شَرْحُ الْكَنْزِ حَيْثُ قَالَ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ وَإِنْ كَانُوا صُمًّا أَوْ نِيَامًا انْتَهَى. أَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا يَأْتِي.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ مَنْ يُنْشِئُ التَّحْرِيمَةَ لِلْجُمُعَةِ لَا فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ صَلَّاهَا، وَاشْتُرِطَ حُضُورُ الْوَاحِدِ أَوْ الْجَمْعِ؛ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّسَبُّبَاتِ، فَعَنْ هَذَا قَالُوا: لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فَقَدَّمَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّهُ بَانٍ تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تِلْكَ الْمُنْشَأَةِ. وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ يُنْشِئُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، أَلَا تَرَى إلَى صِحَّتِهَا مِنْ الْمُقْتَدِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا الْخُطْبَةَ، فَعَلَى هَذَا كَانَ الْقِيَاسُ فِيمَا لَوْ

ص: 57

قَبْلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الزَّوَالِ) بِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ (وَيُخْطَبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِقَعْدَةٍ) بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ (وَيَخْطُبُ قَائِمًا عَلَى طَهَارَةٍ)؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِيهِمَا مُتَوَارَثٌ، ثُمَّ هِيَ شَرْطُ الصَّلَاةِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ كَالْأَذَانِ

أَفْسَدَ هَذَا الْخَلِيفَةُ أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ، لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَ اسْتِقْبَالِهِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ الْتَحَقَ بِهِ حُكْمًا، وَلَوْ أَفْسَدَ الْأَوَّلُ اسْتَقْبَلَ بِهِمْ فَكَذَا الثَّانِي، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ أَحْدَثَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فَقَدَّمَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَدَّمَ هَذَا الْمُقَدَّمُ غَيْرَهُ مِمَّنْ شَهِدَهَا قِيلَ يَجُوزُ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ مِنْهُ الِاسْتِخْلَافُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّمَ الْأَوَّلُ جُنُبًا شَهِدَهَا فَقَدَّمَ هَذَا الْجُنُبُ طَاهِرًا شَهِدَهَا حَيْثُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ الشَّاهِدَ مِنْ أَهْلِ الْإِقَامَةِ بِوَاسِطَةِ الِاغْتِسَالِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِخْلَافُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّمَ الْأَوَّلُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ كَافِرًا فَقَدَّمَ غَيْرَهُ مِمَّنْ شَهِدَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُمْ فَلَمْ يَصِرْ أَحَدُهُمْ خَلِيفَةً فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِخْلَافَ، فَالْمُتَقَدِّم عَنْ اسْتِخْلَافِ أَحَدِهِمْ مُتَقَدِّمٌ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْجُمُعَةِ وَإِنْ جَازَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ لِاشْتِرَاطِ إذْنِ السُّلْطَانِ لِلْمُتَقَدِّمِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فِيهَا كَمَا قَدَّمْنَا دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا دَلَالَةَ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَخْلَفُ تَحَقَّقَ بِوَصْفِ الْخَلِيفَةِ شَرْعًا وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ كَذَلِكَ.

أَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ الْكَافِرِ فَلِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ اكْتِسَابِهَا بِخِلَافِ الْجُنُبِ، وَأَمَّا فِي الْكَافِرِ فَلِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَهُوَ يَعْتَمِدُ وِلَايَةَ السَّلْطَنَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكَافِرِ وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّمَ الْأَوَّلُ مُسَافِرًا أَوْ عَبْدًا حَيْثُ يَجُوزُ خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا سَيَأْتِي، فَلَوْ لَمْ يُقَدِّمْ الْأَوَّلُ أَحَدًا فَتَقَدَّمَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ أَوْ الْقَاضِي جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ قَلَّدَهُمَا الْإِمَامُ مَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ فَنَزَلَا مَنْزِلَتَهُ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْإِمَامِ لِدَفْعِ التَّنَازُعِ فِي التَّقَدُّمِ وَذَا يَحْصُلُ بِتَقَدُّمِهِمَا لِوُجُودِ دَلِيلِ اخْتِصَاصِهِمَا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَهُوَ كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَائِبًا لِلسُّلْطَانِ وَمِنْ عُمَّالِهِ.

فَلَوْ قَدَّمَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ فَلَهُ وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ (قَوْلُهُ ثُمَّ هِيَ شَرْطُ الصَّلَاةِ إلَخْ) هَذَا صُورَةُ قِيَاسٍ عِلَّةُ الْحُكْمِ فِي أَصْلِهِ كَوْنُهُ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ لَكِنَّهُ مَفْقُودٌ فِي الْأَصْلِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَوْجُودًا غَيْرَ عِلَّةٍ، إذْ الْأَذَانُ لَيْسَ شَرْطًا، فَالْأَوْلَى مَا عَيَّنَهُ فِي الْكَافِي جَامِعًا وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ: أَيْ فِي حُدُودِهِ لِكَرَاهَةِ الْأَذَانِ فِي دَاخِلِهِ، وَيُزَادُ أَيْضًا فَيُقَالُ ذِكْرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْوَقْتُ فَتُسْتَحَبُّ الطَّهَارَةُ فِيهِ وَتُعَادُ اسْتِحْبَابًا إذَا

ص: 58

(وَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَارُثَ وَلِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ (فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً)؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هِيَ الْوَاجِبَةُ، وَالتَّسْبِيحَةُ أَوْ التَّحْمِيدَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجُوزُ حَتَّى يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْمُتَعَارَفِ.

وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:

كَانَ جُنُبًا كَالْأَذَانِ (قَوْلُهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) وَهُوَ الذِّكْرُ وَالْمَوْعِظَةُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ اشْتِرَاطِهَا جَعْلُهَا مَكَانَ الرَّكْعَتَيْنِ تَحْصِيلًا لِفَائِدَتِهَا مَعَ التَّخْفِيفِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهَا مَعَ الْإِتْمَامِ، وَقَدْ أُثِرَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رضي الله عنها إنَّمَا قُصِرَتْ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ وَهَذَا حَاصِلٌ مَعَ الْقُعُودِ وَمَا مَعَهُ؛ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِيُشْتَرَطَ لَهَا مَا اُشْتُرِطَ مِنْ الصَّلَاةِ كَمَا ظَنَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه؛ أَلَا تَرَى إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الِاسْتِقْبَالِ فِيهَا وَعَدَمِ الْكَلَامِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقِيَامَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ إذْ كَانَ أَنْشَرَ لِلصَّوْتِ فَكَانَ مُخَالَفَتُهُ مَكْرُوهًا.

وَدَخَلَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَابْنُ أُمِّ حَكِيمٍ يَخْطُبُ قَاعِدًا فَقَالَ: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ قَاعِدًا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يَحْكُمْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ بِفَسَادِ تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ (قَوْلُهُ: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ) قِيلَ أَقَلُّهُ عِنْدَهُمَا قَدْرُ التَّشَهُّدِ قَوْلُهُ: وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ ذِكْرًا طَوِيلًا يُسَمَّى خُطْبَةً أَوْ ذِكْرًا لَا يُسَمَّى خُطْبَةً فَكَانَ الشَّرْطُ الذِّكْرُ الْأَعَمُّ

ص: 59

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ وَصَلَّى.

(وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْجَمَاعَةُ)؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهَا (وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَا: اثْنَانِ سِوَاهُ) قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ. لَهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ هِيَ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ تَسْمِيَةٍ وَمَعْنًى، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ عَلَى

بِالْقَطْعِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَأْثُورَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم اخْتِيَارُ أَحَدِ الْفَرْدَيْنِ: أَعْنِي الذِّكْرَ الْمُسَمَّى بِالْخُطْبَةِ وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ سُنَّةً، لَا أَنَّهُ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ إذْ لَا يَكُونُ بَيِّنًا؛ لِعَدَمِ الْإِجْمَالِ فِي لَفْظِ الذِّكْرِ، وَقَدْ عُلِمَ وُجُوبُ تَنْزِيلِ الْمَشْرُوعَاتِ عَلَى حَسَبِ أَدِلَّتِهَا، فَهَذَا الْوَجْهُ يُغْنِي عَنْ قِصَّةِ عُثْمَانَ فَإِنَّهَا لَمْ تُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ بَلْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا خَطَبَ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ وَلِيَ الْخِلَافَةَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يَعُدَّانِ لِهَذَا الْمَقَامِ مَقَالًا وَأَنْتُمْ إلَى إمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إلَى إمَامٍ قَوَّالٍ، وَسَتَأْتِيكُمْ الْخُطَبُ بَعْدُ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، وَنَزَلَ وَصَلَّى بِهِمْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، إمَّا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا.

وَإِمَّا عَلَى كَوْنِ نَحْوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَنَحْوِهَا تُسَمَّى خُطْبَةً لُغَةً وَإِنْ لَمْ تُسَمَّ بِهِ عُرْفًا، وَلِهَذَا «قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي قَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ» فَسَمَّاهُ خَطِيبًا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْكَلَامِ، وَالْخِطَابُ الْقُرْآنِيُّ إنَّمَا تَعَلُّقُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ بِلُغَتِهِمْ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْعُرْفَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي مُحَاوَرَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى غَرَضِهِمْ، فَأَمَّا فِي أَمْرٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ تَعَالَى فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ لُغَةً، ثُمَّ يَشْتَرِطُ عِنْدَهُ فِي التَّسْبِيحَةِ وَالتَّحْمِيدَةِ أَنْ تُقَالَ عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ، فَلَوْ حَمِدَ لِعُطَاسٍ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَوْ خَطَبَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْضُرَهُ أَحَدٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ مَا يَتَفَرَّغُ عَنْهُ، وَفِي الْأَصْلِ قَالَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، فَلْيَكُنْ الْمُعْتَبَرُ إحْدَاهُمَا الْمُتَفَرِّعَةُ عَلَى الْأُخْرَى لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا تُجْزِئُ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ وَتُجْزِئُ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ صُمٌّ أَوْ نِيَامٌ أَوْ لَا يَسْمَعُونَ لِبُعْدِهِمْ وَلَوْ عَبِيدًا أَوْ مُسَافِرِينَ.

[فَرْعٌ] يُكْرَهُ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لِلْإِخْلَالِ بِالنَّظْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ لِقِصَّةِ عُمَرَ مَعَ عُثْمَانَ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ.

(قَوْلُهُ وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ) وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمْ مِمَّنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ، وَقَالَا اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَرْبَعُونَ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي حَدِيثِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ، كَمَا لَا حُجَّةَ لِمَنْ نَفَى اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعِينَ بِأَنَّ يَوْمَ النُّفُورِ بَقِيَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم اثْنَا عَشَرَ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ اتِّفَاقَ كَوْنِ عَدَدِهِمْ أَرْبَعِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَقْتَضِي تَعَيُّنَ ذَلِكَ الْعَدَدِ شَرْعًا، وَمَا رَوَاهُ عَنْ جَابِرٍ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ إمَامًا وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَهُ جُمُعَةً وَأَضْحَى وَفِطْرًا ضَعِيفٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ

ص: 60

حِدَةٍ، وَكَذَا الْإِمَامُ فَلَا يُعْتَبَرُ مِنْهُمْ.

(وَإِنْ نَفَرَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ وَيَسْجُدَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إذَا نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ صَلَّى الْجُمُعَةَ، فَإِنْ نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا رَكَعَ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَةً بَنَى عَلَى الْجُمُعَةِ) خِلَافًا لِزُفَرَ. وَهُوَ يَقُولُ: إنَّهَا شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا كَالْوَقْتِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا كَالْخُطْبَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِانْعِقَادَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِتَمَامِ

الْبَاقِي اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ قَابَلَهُ رِوَايَةُ كَوْنِ الْبَاقِي أَرْبَعِينَ الْكُلُّ أَقْوَالٌ مَنْقُولَةٌ فِي الْبَاقِي، وَتَصْحِيحُ مُتَعَيَّنٍ مِنْهَا بِطَرِيقَةٍ لَمْ يَثْبُتْ لَنَا.

وَأَيْضًا بَقَاءُ أُولَئِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الشُّرُوعَ بِهِمْ لِجَوَازِ شُرُوعِهِ بِأَكْثَرَ بِأَنْ رَجَعُوا أَوْ جَاءَ غَيْرُهُمْ فَصَارَ الْمُتَحَقَّقُ كَوْنَ الشَّرْطِ الْجَمَاعَةَ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مُسَمَّى الْجَمَاعَةِ مُتَحَقِّقٌ فِي الِاثْنَيْنِ وَكَوْنُ الْجَمْعِ الصِّيغِيِّ أَقَلُّ مَدْلُولِهِ ثَلَاثَةٌ لَا يَمَسُّ مَا نَحْنُ فِيهِ، إذْ الشَّرْطُ لَيْسَ جَمَاعَةً تَكُونُ مَدْلُولُ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَهُمَا قَالَا بَلْ الشَّرْطُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} صِيغَةُ جَمْعٍ فَقَدْ طَلَبَ الْحُضُورَ مُعَلَّقًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْوَاوُ إلَى ذِكْرٍ يَسْتَلْزِمُ ذَاكِرًا فَلَزِمَ الشَّرْطُ جَمْعًا هُوَ مُسَمَّى لَفْظِ الْجَمْعِ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

(قَوْلُهُ: إلَّا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ) يَعْنِي مَنْ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ (قَوْلُهُ: خِلَافًا لِزُفَرَ) فَعِنْدَهُ إذَا نَفَرُوا قَبْلَ الْقَعْدَةِ بَطَلَتْ، وَحَاصِلُ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهِهِ

ص: 61

الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا إلَيْهَا بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فَإِنَّهَا تُنَافِي الصَّلَاةَ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ النِّسْوَانِ، وَكَذَا الصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَلَا تَتِمُّ بِهِمْ الْجَمَاعَةُ.

(وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مَرِيضٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا أَعْمَى)؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَخْرُجُ فِي الْحُضُورِ، وَكَذَا الْمَرِيضُ وَالْأَعْمَى، وَالْعَبْدُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى، وَالْمَرْأَةُ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ فَعُذِرُوا

دَفْعًا

لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ (فَإِنْ حَضَرُوا وَصَلَّوْا مَعَ النَّاسِ أَجْزَأَهُمْ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ فَصَارُوا كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ.

(وَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْجُمُعَةِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ رُخْصَةٌ، فَإِذَا حَضَرُوا يَقَعُ فَرْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ،

وَوَجْهِهِمْ مُعَارَضَةُ قِيَاسِهِ عَلَى الْوَقْتِ بِقِيَاسِهِمْ عَلَى الْخُطْبَةِ، ثُمَّ نَقَضَ قِيَاسَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ كَالْوَقْتِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ فِي الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِيهِ، وَكَمَا لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ إذَا كَانَ بَعْضُهَا خَارِجَ الْوَقْتِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ لَكِنَّ انْعِقَادَ الصَّلَاةِ وَالْمُصَلِّي تَحَقُّقُ تَمَامِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِ تَمَامِ الْأَرْكَانِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ بِدُخُولِ جَمِيعِ أَرْكَانِهِ، فَمَا لَمْ يَسْجُدْ لَا يَصِيرُ مُصَلِّيًا بَلْ مُفْتَتِحًا الرُّكْنَ بِرُكْنٍ، فَكَانَ ذَهَابُ الْجَمَاعَةِ قَبْلَ السُّجُودِ كَذَهَابِهِمْ قَبْلَ التَّكْبِيرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عَدِمَ الْجَمَاعَةَ قَبْلَ تَحَقُّقِ مُسَمَّى الصَّلَاةِ، وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّهُ يَجُوزُ مُوَافَقَتُهُ إيَّاهَا فِي إلْحَاقِ الْجَمَاعَةِ بِالْخُطْبَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ خَالَفَهُمَا فِي الِاكْتِفَاءِ بِوُجُودِهَا حَالَ الِافْتِتَاحِ فَلِذَا قُلْنَا حَاصِلُ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهِهِ: أَيْ وَجْهِ زُفَرَ وَوَجْهِهِمْ وَلَمْ نَقُلْ وَجْهَهُمَا.

(قَوْلُهُ: وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مُسَافِرٍ إلَخْ) الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي ضَعُفَ مُلْحَقٌ بِالْمَرِيضِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَأُطْلِقَ فِي الْعَبْدِ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْعَبْدِ الَّذِي حَضَرَ مَعَ مَوْلَاهُ بَابَ الْمَسْجِدِ لِحِفْظِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْحِفْظِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِي الْخِلَافُ فِي مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا كَانَ يَسْعَى، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي يُؤَدِّي الضَّرِيبَةَ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ الْأَجِيرَ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَفْصٍ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَا يُحَطُّ عَنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا يَسْقُطُ عَنْهُ بِقَدْرِ اشْتِغَالِهِ، فَإِنْ قَالَ الْأَجِيرُ: حُطَّ عَنِّي الرُّبُعَ بِقَدْرِ اشْتِغَالِي بِالصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَالْمَطَرُ الشَّدِيدُ وَالِاخْتِفَاءُ مِنْ السُّلْطَانِ الظَّالِمِ مُسْقِطٌ، وَفِي الْكَافِي صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِمَكَّةَ مُسَافِرًا.

(قَوْلُهُ: عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا إلَخْ فَيَقَعُ فَرْضًا فَصَارَ كَمُسَافِرٍ إذَا صَامَ رَمَضَانَ يَقَعُ فَرْضًا.

ص: 62

أَمَّا الصَّبِيُّ فَمَسْلُوبُ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَحُوا لِلْإِمَامَةِ فَيَصْلُحُونَ لِلِاقْتِدَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

(وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا عُذْرَ لَهُ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَتْ صَلَاتُهُ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْجُمُعَةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ أَصَالَةً. وَالظُّهْرُ كَالْبَدَلِ عَنْهَا، وَلَا مَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ. وَلَنَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ إلَّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ

قَوْلُهُ: كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ إلَخْ) لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَصَحَّتْ الظُّهْرُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْفَرْضَ الْقَطْعِيَّ بِاتِّفَاقِهِمْ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنْ الظُّهْرِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُرْتَكِبًا مُحَرَّمًا، غَيْرَ أَنَّ الظُّهْرَ تَقَعُ صَحِيحَةً وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي حَقِّهِ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ مُعَاقَبٌ بِتَرْكِهَا، وَمَنْهِيٌّ عَنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ مَأْمُورٌ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا مَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا هُوَ صُورَةُ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ.

قُلْنَا: بَلْ فَرْضُ الْوَقْتِ الظُّهْرُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَأَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ مُطْلَقًا فِي الْأَيَّامِ» وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ أَعْنِي الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ الظُّهْرَ لِمَا نَوَى الْقَضَاءَ، وَالْمَعْقُولُ إذْ أَصْلُ الْفَرْضِ فِي حَقِّ الْكُلِّ مَا يَتَمَكَّنُ كُلٌّ مِنْ أَدَائِهِ بِنَفْسِهِ، فَمَا قَرُبَ إلَى وُسْعِهِ فَهُوَ أَحَقُّ وَالظُّهْرُ أَقْرَبُ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ؛ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الشَّرَائِطِ لَا تَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، وَتِلْكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ اتِّفَاقًا بِاخْتِيَارِ آخَرِينَ كَاخْتِيَارِ السُّلْطَانِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْأَمْرِ، وَاخْتِيَارِ آخَرَ وَآخَرَ لِيَحْصُلَ بِهِ مَعَهُمَا الْجَمَاعَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَكَانَ الظُّهْرُ أَوْلَى بِالْأَصْلِيَّةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ مُفَادُهُ أَنَّ كُلَّ وَقْتٍ ظُهْرٍ يَدْخُلُ حِينَ تَزُولُ وَالْمَطْلُوبُ أَنَّ كُلَّ مَا زَالَتْ دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا يُفَادُ بِعَكْسِ الِاسْتِقَامَةِ لَهَا وَهُوَ لَا يَثْبُتُ كُلِّيًّا. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ خُرُوجَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ أَعْنِي الْعَكْسَ مَعْلُومٌ قَطْعًا مِنْ الشَّرْعِ لِلْقَطْعِ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ فِيهِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَرْكِهَا إلَى

ص: 63

بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ بِنَفْسِهِ دُونَ الْجُمُعَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى شَرَائِطَ لَا تَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، وَعَلَى التَّمَكُّنِ يَدُورُ التَّكْلِيفُ.

(فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَحْضُرَهَا فَتَوَجَّهَ إلَيْهَا وَالْإِمَامُ فِيهَا بَطَلَ ظُهْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالسَّعْيِ، وَقَالَ: لَا يَبْطُلُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ)؛ لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الظُّهْرِ فَلَا يَنْقُصُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَالْجُمُعَةُ فَوْقَهَا فَيُنْقِصُهَا وَصَارَ كَمَا إذَا تَوَجَّهَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ. وَلَهُ أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَتَهَا فِي حَقِّ ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ

الظُّهْرِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ الْوَجْهِ الثَّالِثِ، إذْ لَوْ تَمَّ اسْتَلْزَمَ عَدَمَ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ وَالْمُتَحَقِّقُ وُجُوبُهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فَيَحْصُلُ مِنْ الِامْتِثَالِ تَوَفُّرُ الشُّرُوطِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ أَنَّ وَجْهَهُ حِينَئِذٍ وُجُوبُ الظُّهْرِ أَوَّلًا ثُمَّ يَجِبُ إسْقَاطُهُ بِالْجُمُعَةِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْوُجُوبِ حِينَئِذٍ جَوَازُ الْمَصِيرِ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْجُمُعَةِ إذْ كَانَتْ صِحَّتُهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى شَرَائِطَ رُبَّمَا لَا تَتَحَصَّلُ فَتَأَمَّلْ.

وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الظُّهْرِ لَيْسَ إلَّا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُجُوبِهَا كَذَلِكَ صِحَّتُهَا قَبْلَ تَعَذُّرِ الْجُمُعَةِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْخِطَابَ قَبْلَ تَعَذُّرِهَا لَمْ يُتَوَجَّهْ عَلَيْهِ إلَّا بِهَا.

(قَوْلُهُ: بَطَلَتْ ظُهْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالسَّعْيِ) هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُدْرِكَهَا، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا أَوْ كَانَ لَمْ يَشْرَعْ بَعْدُ لَكِنَّهُ لَا يَرْجُو إدْرَاكَهَا لِلْبُعْدِ وَنَحْوِهِ لَا تَبْطُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ، وَتَبْطُلُ عِنْدَهُ فِي تَخْرِيجِ الْبَلْخِيِّينَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّعْيِ الِانْفِصَالُ عَنْ دَارِهِ فَلَا تَبْطُلُ قَبْلَهُ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَقِيلَ إذَا خَطَا خُطْوَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ الْوَاسِعِ تَبْطُلُ (قَوْلُهُ: حَتَّى يَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ) وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى يُتِمَّهَا مَعَهُ حَتَّى لَوْ أَفْسَدَهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا لَا يَبْطُلُ الظُّهْرُ، وَلَا فَرْقَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْمَعْذُورِ كَالْعَبْدِ وَغَيْرِهِ، وَحَتَّى لَوْ صَلَّى الْمَرِيضُ الظُّهْرَ ثُمَّ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ بَطَلَ عَلَى ظُهْرِهِ عَلَى الْخِلَافِ.

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبْطُلُ ظُهْرُ الْمَعْذُورِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا عَلَيْهِ. قُلْنَا إنَّمَا رُخِّصَ لَهُ تَرْكُهَا لِلْعُذْرِ، وَبِالِالْتِزَامِ الْتَحَقَ بِالصَّحِيحِ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الظُّهْرِ)؛ لِأَنَّهُ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِ الظُّهْرِ، وَنُقِضَ الظُّهْرُ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لَكِنَّهُ لِضَرُورَةِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ؛ إذْ نَقْضُ الْعِبَادَةِ قَصْدًا بِلَا ضَرُورَةٍ حَرَامٌ فَلَا تُنْتَقَضُ دُونَ أَدَائِهَا وَلَيْسَ السَّعْيُ الْأَدَاءَ، وَحَاصِلُ وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ

ص: 64

احْتِيَاطًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَعْيٍ إلَيْهَا.

(وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَعْذُورُونَ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ، وَكَذَا أَهْلُ السِّجْنِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِالْجُمُعَةِ إذْ هِيَ جَامِعَةٌ لِلْجَمَاعَاتِ، وَالْمَعْذُورُ قَدْ يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ السَّوَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ (وَلَوْ صَلَّى قَوْمٌ أَجْزَأَهُمْ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ.

(وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى مَعَهُ مَا أَدْرَكَهُ) وَبَنَى عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ

الِاحْتِيَاطَ فِي الْجُمُعَةِ نَقْضُ الظُّهْرِ لِلُزُومِ الِاحْتِيَاطِ فِي تَحْصِيلِهَا، وَهُوَ بِهِ فَيَنْزِلُ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا مَنْزِلَتَهَا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَقِّقُ لِلِاحْتِيَاطِ فِي تَحْصِيلِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ السَّعْيُ مِنْ خَصَائِصِهَا؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فِيهَا وَنُهِيَ عَنْهُ فِي غَيْرِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ» الْحَدِيثَ. فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ كَالِاشْتِغَالِ بِهَا، فَالنَّقْضُ بِهَا إقَامَةٌ لِلسَّبَبِ الْعَادِي مَقَامَ الْمُسَبِّبِ احْتِيَاطًا وَمُكْنَةُ الْوُصُولِ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَهِيَ تَكْفِي لِلتَّكْلِيفِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ السَّعْيُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهَا وَلَا إمْكَانَ لِلْوُصُولِ، هَذَا التَّقْرِيرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّعْيِ مَا يُقَابِلُ الْمَشْيَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَذَا الْبُطْلَانُ غَيْرُ مُقْتَصَرٍ عَلَى السَّعْيِ بَلْ لَوْ خَرَجَ مَاشِيًا أَقْصِدُ مَشَى بَطَلَتْ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ أَوْرَدُوا الْفَرْقَ بَيْنَ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَتَوَجُّهِ الْقَارِنِ إلَى عَرَفَاتٍ حَيْثُ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ عُمْرَتُهُ حَتَّى يَقِفَ بِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا مَأْمُورٌ بِهِ فَلَا يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ جَامِعُ السَّعْيِ مَنْصُوصًا لِيَطْلُبَ وَجْهَ الْفَرْقِ فِي الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ الْجَامِعِ. فَالْحَقُّ فِي التَّقْرِيرِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بَعْدَ إتْمَامِ الظُّهْرِ بِنَقْضِهَا بِالذَّهَابِ إلَى الْجُمُعَةِ، فَذَهَابُهُ مَشْرُوعٌ فِي طَرِيقِ نَقْضِهَا الْمَأْمُورِ بِهِ فَيُحْكَمُ بِنَقْضِهَا بِهِ احْتِيَاطًا لِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ.

(قَوْلُهُ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّي الْمَعْذُورُ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ) قَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَكَذَا بَعْدَهَا، وَمَنْ فَاتَتْهُمْ الْجُمُعَةُ فَصَلَّوْا الظُّهْرَ تُكْرَهُ لَهُمْ الْجَمَاعَةُ أَيْضًا (قَوْلُهُ: لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِالْجُمُعَةِ إذْ هِيَ جَامِعَةٌ لِلْجَمَاعَاتِ) هَذَا الْوَجْهُ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَعَدُّدِ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ الْوَاحِدِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ جَوَازِ تَعَدُّدِهَا، فَوَجْهُهُ أَنَّهُ رُبَّمَا يَتَطَرَّقُ غَيْرُ الْمَعْذُورِ إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَأَيْضًا فِيهِ صُورَةُ مُعَارَضَةِ الْجُمُعَةِ بِإِقَامَةِ غَيْرِهَا.

(قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) أَخْرَجَ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي وَالسَّبْعِينَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ

ص: 65

فَاقْضُوا» (وَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي سُجُودِ السَّهْوِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: إنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّهَا بَنَى عَلَيْهَا الظُّهْرَ)؛ لِأَنَّهُ جُمُعَةٌ مِنْ وَجْهٍ ظُهْرٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشَّرَائِطِ فِي حَقِّهِ، فَيُصَلِّي أَرْبَعًا اعْتِبَارًا لِلظُّهْرِ وَيَقْعُدُ لَا مَحَالَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْجُمُعَةِ،

الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَقَالَ «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» قَالَ مُسْلِمٌ: أَخْطَأَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلَا أَعْلَمُ رَوَاهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ غَيْرُهُ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ فِيهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَحْدَهُ «فَاقْضُوا» وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ أَحْمَدَ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهِ وَقَالَ «فَاقْضُوا» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي الْأَدَبِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهِ وَقَالَ «فَاقْضُوا» وَمِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهِ نَحْوُهُ، وَمِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَذَلِكَ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهِ نَحْوُهُ، فَقَدْ تَابَعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ جَمَاعَةٌ، وَبَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ فِي الْحُكْمِ.

فَمَنْ أَخَذَ بِلَفْظِ «أَتِمُّوا» قَالَ مَا يُدْرِكُهُ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَمَنْ أَخَذَ بِلَفْظِ «فَاقْضُوا» قَالَ: مَا يُدْرِكُهُ آخِرَهَا. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الْإِتْمَامُ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، قَالَ تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُرُودَهُ بِمَعْنَاهُ فِي بَعْضِ الْإِطْلَاقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَنْفِي حَقِيقَتَهُ اللُّغَوِيَّةَ وَلَا يُصَيِّرُهُ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صِحَّةُ الْإِطْلَاقِ، وَكَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ قَضَى صَلَاتَهُ عَلَى تَقْدِيرِ إدْرَاكِ أَوَّلِهَا ثُمَّ فَعَلَ بَاقِيهَا، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى تَقْدِيرِ إدْرَاكِ آخِرِهَا ثُمَّ فَعَلَ تَكْمِيلَهَا أَتَمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا تَكَافَأَ الْإِطْلَاقَانِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْمُدْرَكَ لَيْسَ إلَّا آخِرُ صَلَاةِ الْإِمَامِ حِسًّا وَالْمُتَابَعَةُ وَعَدَمُ الِاخْتِلَافِ عَلَى الْإِمَامِ وَاجِبٌ عَلَى الْمَأْمُومِ، وَمِنْ مُتَابَعَتِهِ كَوْنُ رَكْعَتِهِ رَكْعَتَهُ، فَإِذَا كَانَتْ ثَالِثَةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَجَبَ حُكْمًا لِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ كَوْنُهَا ثَالِثَةَ الْمَأْمُومِ، وَيَلْزَمُهُ كَوْنُ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدَهُ أَوَّلُهَا.

(قَوْلُهُ: إنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ) بِأَنْ يُشَارِكَهُ فِي رُكُوعِهَا لَا بَعْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ. وَلَهُمَا إطْلَاقُ «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ» إلَى قَوْلِهِ «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَمَا رَوَاهُ «مَنْ أَدْرَكَ

ص: 66

وَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِاحْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَشْتَرِطَ نِيَّةَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ رَكْعَتَانِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَلَا يَبْنِي أَحَدَهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْآخَرِ.

(وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ وَإِذَا نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلْإِخْلَالِ بِفَرْضِ الِاسْتِمَاعِ وَلَا اسْتِمَاعَ هُنَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمْتَدُّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَمْتَدُّ طَبْعًا فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ.

رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى» وَإِلَّا صَلَّى أَرْبَعًا لَمْ يَثْبُتْ، وَمَا فِي الْكِتَابِ مِنْ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ حَسَنٌ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ») رَفْعُهُ غَرِيبٌ، وَالْمَعْرُوفُ كَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ قَالَ «خُرُوجُهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَكَلَامُهُ يَقْطَعَ الْكَلَامَ» . وَأَخْرَجَ

ص: 67

(وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ تَرَكَ النَّاسُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَتَوَجَّهُوا إلَى الْجُمُعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ

ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم: كَانُوا يَكْرَهُونَ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ فَيَجِبُ تَقْلِيدُهُ عِنْدَنَا إذَا لَمْ يَنْفِهِ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ السُّنَّةِ، وَلَوْ تَجَرَّدَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يَمْتَدُّ طَبْعًا، أَيْ يَمْتَدُّ فِي النَّفْسِ فَيُخِلُّ بِالِاسْتِمَاعِ، أَوْ أَنَّ الطَّبْعَ يُفْضِي بِالْمُتَكَلِّمِ إلَى الْمَدِّ فَيَلْزَمُ ذَلِكَ، وَالصَّلَاةُ أَيْضًا قَدْ تَسْتَلْزِمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ فَتُخِلُّ بِهِ اسْتَقَلَّ بِالْمَطْلُوبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ:«إذَا قَعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا صَلَاةَ» .

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَجِيءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، يَجْلِسُ وَلَا يُصَلِّي. وَأَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «وَإِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ» وَهَذَا يُفِيدُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ مَنْعَ الصَّلَاةِ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَعْلَى مِنْ السُّنَّةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَمَنْعُهُ مِنْهَا أَوْلَى، وَلَوْ خَرَجَ وَهُوَ فِيهَا يَقْطَعُ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: الْعِبَارَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّلَالَةِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ وَقَدْ ثَبَتَتْ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ لَا، قَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ مِنْهُ؛ لِجَوَازِ كَوْنِهِ قَطَعَ الْخُطْبَةَ حَتَّى فَرَغَ وَهُوَ كَذَلِكَ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَبْدِيِّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَأَمْسَكَ عَنْ الْخُطْبَةِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ» ثُمَّ قَالَ: أَسْنَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْعَبْدِيُّ وَوَهِمَ فِيهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ» الْحَدِيثَ.

وَفِيهِ «ثُمَّ انْتَظَرَهُ حَتَّى صَلَّى» قَالَ: وَهَذَا الْمُرْسَلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ مُقْتَضَاهُ عَلَيْنَا، ثُمَّ رَفْعُهُ زِيَادَةٌ إذَا لَمْ يُعَارِضْ مَا قَبْلَهَا فَإِنَّ غَيْرَهُ سَاكِتٌ عَنْ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْ الْخُطْبَةِ أَوْ لَا، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَمُجَرَّدُ زِيَادَتِهِ لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ بِغَلَطِهِ وَإِلَّا لَمْ تُقْبَلْ زِيَادَةٌ، وَمَا زَادَهُ مُسْلِمٌ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» لَا يَنْفِي كَوْنَ الْمُرَادِ أَنْ يَرْكَعَ مَعَ سُكُوتِ الْخَطِيبِ لِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ فَتَسْلَمُ تِلْكَ الدَّلَالَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ.

وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ وَقَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يُخَلَّى عَنْهَا مَظِنَّتُهَا: يَحْرُمُ فِي الْخُطْبَةِ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْبِيحًا، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْكِتَابَةُ، وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلَامِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ. قُلْنَا: ذَاكَ إذَا كَانَ السَّلَامُ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ بَلْ يَرْتَكِبُ بِسَلَامِهِ مَأْثَمًا؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَشْغَلُ خَاطِرَ السَّامِعِ عَنْ الْفَرْضِ، وَلِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، بِخِلَافِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي فَرَّعَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 68

اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.

(وَإِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ جَلَسَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدِي الْمِنْبَرِ) بِذَلِكَ جَرَى التَّوَارُثُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا هَذَا الْأَذَانُ، وَلِهَذَا قِيلَ: هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي الْخُطْبَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَكَانَ إحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهَلْ يَحْمَدُ إذَا عَطَسَ؟ الصَّحِيحُ نَعَمْ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَكِنْ أَشَارَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِيَدِهِ حِينَ رَأَى مُنْكَرًا الصَّحِيحُ لَا يُكْرَهُ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ قَرِيبًا بِحَدِيثٍ يُسْمَعُ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ؛ فَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ اخْتَارَ السُّكُوتَ، وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ اخْتِيَارُ السُّكُوتِ كَقَوْلِ ابْنِ سَلَمَةَ، وَحُكِيَ عَنْهُ النَّظَرُ فِي كِتَابِهِ وَإِصْلَاحُهُ بِالْقَلَمِ، مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أَوْجَهُ.

فَإِنَّ طَلَبَ السُّكُوتِ وَالْإِنْصَاتِ وَإِنْ كَانَ لِلِاسْتِمَاعِ لَا لِذَاتِهِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ وَالْقِرَاءَةَ لِغَيْرِ مَنْ بِحَيْثُ يَسْمَعُ قَدْ يَصِلُ إلَى أُذُنِ مَنْ بِحَيْثُ يَسْمَعُ فَيَشْغَلُهُ عَنْ فَهْمِ مَا يَسْمَعُ أَوْ عَنْ السَّمَاعِ، بِخِلَافِ النَّظَرِ فِي الْكِتَابِ وَالْكِتَابَةِ.

(قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا هَذَا الْأَذَانُ) أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: " كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلَهُ إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ " وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " زَادَ النِّدَاءَ الثَّانِي " وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ عَلَى دَارٍ فِي السُّوقِ يُقَالُ لَهَا الزَّوْرَاءُ، وَتَسْمِيَتُهُ ثَالِثًا؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تُسَمَّى أَذَانًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» ، وَهَذَا وَقَدْ تَعَلَّقَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا هَذَا الْأَذَانُ بَعْضُ مَنْ نَفَى أَنَّ لِلْجُمُعَةِ سُنَّةً، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا رَقَى الْمِنْبَرَ أَخَذَ بِلَالٌ فِي الْأَذَانِ فَإِذَا أَكْمَلَهُ أَخَذَ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ، فَمَتَى كَانُوا يُصَلُّونَ السُّنَّةَ؟ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ إذَا فُرِغَ مِنْ الْأَذَانِ قَامُوا فَرَكَعُوا فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِأَنَّ خُرُوجَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالضَّرُورَةِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ بَعْدَمَا كَانَ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ، وَيَجِبُ الْحُكْمُ بِوُقُوعِ هَذَا الْمُجَوَّزِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ النَّوَافِلِ مِنْ عُمُومِ «أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ أَرْبَعًا يَقُولُ: هَذِهِ سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ».

وَكَذَا يَجِبُ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَيْضًا يَعْلَمُونَ الزَّوَالَ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤَذِّنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ اعْتِمَادَهُ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ اعْتِمَادُهُمْ، بَلْ رُبَّمَا يُعْلِمُونَهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِيُؤَذِّنَ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ» وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 69

‌بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ

قَالَ (وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ

يَفْعَلُ ذَلِكَ» فَقَدْ أَثْبَتَ سِتًّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ بِمَكَّةَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا سِتَّةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَفِيهَا الْمَنْزِلُ الْمُهَيَّأُ لَهُ صَلَّى فِيهِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إنَّمَا كَانَ مُسَافِرًا فَكَانَ يُصَلِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَعْلَمْ ابْنُ عُمَرَ كُلَّ مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ بِالْمَدِينَةِ فَهَذَا مَحْمَلُ اخْتِلَافِ الْحَالِ فِي الْبَلَدَيْنِ، فَهَذَا الْبَحْثُ يُفِيدُ أَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَهَا سِتٌّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ قَوْلُهُمَا.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالسُّنَّةُ بَعْدَهَا عِنْدَهُ أَرْبَعٌ أَخْذًا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا " قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ «كَانَ إذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا صَلَّى فِي بَيْتِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ)

لَا خَفَاءَ فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ، وَلَمَّا اشْتَرَكَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةُ فِي الشُّرُوطِ حَتَّى الْإِذْنِ الْعَامِّ إلَّا الْخُطْبَةَ لَمْ تَجِبْ صَلَاةُ الْعِيدِ إلَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَاخْتَصَّتْ الْجُمُعَةُ بِزِيَادَةِ قُوَّةِ الِافْتِرَاضِ فَقُدِّمَتْ (قَوْلُهُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) ذَكَرَهُ لِتَنْصِيصِهِ عَلَى السُّنِّيَّةِ، وَفِي النِّهَايَةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا فِي الْقُدُورِيِّ وَهُوَ دَأْبُهُ فِي كُلِّ مَا تُخَالِفُ فِيهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ وَالْقُدُورِيُّ، وَهَذَا سَهْوٌ؛ فَإِنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِصِفَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ أَصْلًا. وَقَوْلُهُ

ص: 70

وَاحِدٍ، فَالْأَوَّلُ سُنَّةٌ، وَالثَّانِي فَرِيضَةٌ، وَلَا يُتْرَكُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى السُّنَّةِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ الْأَوَّلِ مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، وَوَجْهُ الثَّانِي قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ عَقِيبَ سُؤَالِهِ قَالَ:«هَلْ عَلَى غَيْرِهِنَّ؟ فَقَالَ: لَا إلَّا إنْ تَطَوَّعَ» وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَتَسْمِيَتُهُ سُنَّةً لِوُجُوبِهِ بِالسُّنَّةِ.

(وَيُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ أَنْ يَطْعَمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى وَيَغْتَسِلَ وَيَسْتَاكَ وَيَتَطَيَّبَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَطْعَمُ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى، وَكَانَ يَغْتَسِلُ فِي الْعِيدَيْنِ» وَلِأَنَّهُ يَوْمُ اجْتِمَاعٍ فَيُسَنُّ فِيهِ الْغُسْلُ وَالطِّيبُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ (وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ)؛ لِأَنَّهُ

وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ زِيَادَةً فِي الْبِدَايَةِ (قَوْلُهُ: وَجْهُ الْأَوَّلِ مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، أَمَّا مُطْلَقُ الْمُوَاظَبَةِ فَلَا يُفِيدُ الْوُجُوبُ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي التَّكْبِيرِ لَا صَلَاةِ الْعِيدِ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى التَّعْظِيمِ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى خُصُوصِ لَفْظِهِ كَانَ التَّكْبِيرُ الْكَائِنُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ مُخْرِجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ إيجَابِ شَيْءٍ فِي مَسْنُونٍ، بِمَعْنَى مَنْ فَعَلَ سُنَّةَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْبِيرُ.

نَعَمْ لَوْ وَجَبَ ابْتِدَاءً وَشُرِطَتْ الصَّلَاةُ فِي صِحَّتِهِ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْمَشْرُوطِ إيجَابُ الشَّرْطِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَكَذَا الِاسْتِدْلَال بِأَنَّهُ شِعَارٌ لِلدِّينِ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ يُقَامُ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ الْأَذَانِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ لِأَنَّهُ لِغَيْرِهِ فَتَجِبُ كَالْجُمُعَةِ غَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لِجَوَازِ اسْتِنَانِ شِعَارٍ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ تَعْدِيَةٌ غَيْرُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ، إذْ حُكْمُ الْأَصْلِ الِافْتِرَاضُ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ اللُّزُومُ فَيُصْبِحُ الْقِيَاسُ، وَكَوْنُهُ عَلَى خِلَافِ قَدْرِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ قَادِحٍ بَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِيمَا إذَا كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ بِقَاطِعٍ، فَإِنَّهُ إذَا عَدَى بِالْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ أَصْلًا (قَوْلُهُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ) رِوَايَةً وَدِرَايَةً لِلْمُوَاظَبَةِ بِلَا تَرْكٍ، وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ إمَّا لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَلَا صَلَاةَ عِيدٍ فِيهَا أَوْ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِهَا.

(قَوْلُهُ: أَنْ يَطْعَمَ) الْإِنْسَانُ، وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ ذَلِكَ الْمَطْعُومِ حُلْوًا لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ «كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَغْدُو فِي يَوْمِ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ وَيَأْكُلَهُنَّ وِتْرًا» وَأَمَّا حَدِيثُ الْغُسْلِ لِلْعِيدَيْنِ فَتَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ، وَحَدِيثُ لُبْسِهِ جُبَّةَ فَنَكٍ أَوْ صُوفٍ غَرِيبٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَ حِبَرَةٍ؟ فِي كُلِّ عِيدٍ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ» انْتَهَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَوْبَيْنِ مِنْ الْيَمَنِ فِيهِمَا

ص: 71

عليه الصلاة والسلام كَانَتْ لَهُ جُبَّةُ فَنْكٍ أَوْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا فِي الْأَعْيَادِ (وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ) إغْنَاءً لِلْفَقِيرِ لِيَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ لِلصَّلَاةِ (وَيَتَوَجَّهُ إلَى الْمُصَلَّى، وَلَا يُكَبِّرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى، وَعِنْدَهُمَا يُكَبِّرُ) اعْتِبَارًا بِالْأَضْحَى. وَلَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّنَاءِ الْإِخْفَاءُ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ فِي الْأَضْحَى؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ تَكْبِيرٍ، وَلَا كَذَلِكَ يَوْمَ الْفِطْرِ

خُطُوطٌ حُمْرٌ وَخُضْرٌ لَا أَنَّهُ أَحْمَرُ بَحْتٌ، فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ الْبُرْدَةِ أَحَدَهُمَا (قَوْلُهُ: وَيَتَوَجَّهُ إلَى الْمُصَلَّى) وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ إلَى الْجَبَّانَةِ وَيَسْتَخْلِفُ مَنْ يُصَلِّي بِالضُّعَفَاءِ فِي الْمِصْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي مَوْضِعَيْنِ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ لَهُ ذَلِكَ وَتَخْرُجُ الْعَجَائِزُ لِلْعِيدِ لَا الشَّوَابُّ، وَلَا يُخْرَجُ الْمِنْبَرُ إلَى الْجَبَّانَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بِنَاءِ الْمِنْبَرِ بِالْجَبَّانَةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ، وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهُ: حَسَنٌ فِي زَمَانِنَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِهِ. (قَوْلُهُ: لَا يُكَبِّرُ إلَخْ) الْخِلَافُ فِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْفِطْرِ لَا فِي أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَعِنْدَهُمَا يَجْهَرُ بِهِ كَالْأَضْحَى، وَعِنْدَهُ لَا يَجْهَرُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِهِمَا. وَفِي الْخُلَاصَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَصْلِ التَّكْبِيرِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ بَلْ مِنْ إيقَاعِهِ عَلَى وَجْهِ الْبِدْعَةِ.

فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ بِدْعَةٌ يُخَالِفُ الْأَمْرُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} فَيَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ فِي الْأَضْحَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ التَّكْبِيرُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَالْأَوْلَى لِلِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ لِمَا سَنَذْكُرُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى» . فَالْجَوَابُ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ فِيهَا التَّكْبِيرُ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ أَمْرًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيهِ أَعَمُّ مِنْهُ، وَمِمَّا فِي الطَّرِيقِ؛ فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى التَّكْبِيرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ لِجَوَازِ كَوْنِهِ مَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَ دَلَالَتُهَا عَلَيْهِ ظَنِّيَّةً؛ لِاحْتِمَالِ التَّعْظِيمِ كَانَ الثَّابِتُ الْوُجُوبَ.

وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ بِمُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ أَبِي الطَّاهِرِ الْمَقْدِسِيَّ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهِ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَكَذَا رَوَى الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَهْرَ. نَعَمْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا غَدَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى ثُمَّ يُكَبِّرَ حَتَّى يَأْتِيَ الْإِمَامَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُ صَحَابِيٍّ لَا يُعَارَضُ بِهِ عُمُومُ الْآيَةِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ: أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} إلَى قَوْلِهِ {وَدُونَ الْجَهْرِ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ» فَكَيْفَ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ آخَرَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ سَمِعَ النَّاسَ يُكَبِّرُونَ فَقَالَ لِقَائِدِهِ: أَكَبَّرَ الْإِمَامُ؟ قِيلَ لَا، قَالَ: أَجُنَّ النَّاسُ؟ أَدْرَكْنَا مِثْلَ هَذَا الْيَوْمَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا كَانَ أَحَدٌ يُكَبِّرُ قَبْلَ الْإِمَامِ» وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تُمْنَعَ الْعَامَّةُ عَنْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ رَغَبَاتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ

ص: 72

(وَلَا يَتَنَفَّلُ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَ الْعِيدِ)؛ لِأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ قِيلَ الْكَرَاهَةُ فِي الْمُصَلَّى خَاصَّةً، وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ عَامَّةً؛ لِأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَفْعَلْهُ.

(وَإِذَا حَلَّتْ الصَّلَاةُ بِارْتِفَاعِ الشَّمْسِ دَخَلَ وَقْتُهَا إلَى الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ وَقْتُهَا)«؛ لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى قِيدَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ، وَلَمَّا شَهِدُوا بِالْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ» .

يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ الطُّرُقِ الَّتِي ذَهَبَ مِنْهَا إلَى الْمُصَلَّى؛ لِأَنَّ مَكَانَ الْقُرْبَةِ يُشْهَدُ فَفِيهِ تَكْثِيرٌ لِلشُّهُودِ (قَوْلُهُ: وَلَا يَتَنَفَّلُ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ) وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَهَا فِي الْمُصَلَّى وَالْبَيْتِ، وَبَعْدَهَا فِي الْمُصَلَّى خَاصَّةً؛ لِمَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ الْعِيدَ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا» وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ خَرَجَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا النَّفْيُ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ فِي الْمُصَلَّى لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو الرَّقِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا فَإِذَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» .

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ إلَخْ) اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا مِنْ الِارْتِفَاعِ إلَى الزَّوَالِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ كَمَا ذُكِرَ وَفِي أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ يَزِيدَ بْنَ خُمَيْرٍ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ قَالَ:«خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ رضي الله عنه صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّاسِ فِي يَوْمِ عِيدِ فِطْرٍ وَأَضْحَى فَأَنْكَرَ إبْطَاءَ الْإِمَامِ فَقَالَ: إنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَرَغْنَا سَاعَتَنَا هَذِهِ، وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ» صَحَّحَهُ

ص: 73

(وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ وَثَلَاثًا بَعْدَهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً، وَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ يَبْتَدِئُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا بَعْدَهَا، وَيُكَبِّرُ رَابِعَةً يَرْكَعُ بِهَا) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ وَخَمْسًا بَعْدَهَا وَفِي الثَّانِيَةِ يُكَبِّرُ خَمْسًا ثُمَّ يَقْرَأُ. وَفِي رِوَايَةٍ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا، وَظَهَرَ عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَمْرِ بَنِيهِ الْخُلَفَاءِ. فَأَمَّا الْمَذْهَبُ فَالْقَوْلُ

النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ التَّنَفُّلُ.

وَفِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: «أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا، وَإِذَا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى مُصَلَّاهُمْ» . وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَنَّهُمْ قَدِمُوا آخِرَ النَّهَارِ. وَلَفْظُهُ عَنْ ابْنِ عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ: حَدَّثَنِي عُمُومَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا «أُغْمِيَ عَلَيْنَا هِلَالُ شَوَّالٍ فَأَصْبَحْنَا صِيَامًا، فَجَاءَ رَكْبٌ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فَشَهِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفْطِرُوا وَأَنْ يَخْرُجُوا إلَى عِيدِهِمْ مِنْ الْغَدِ» قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ: وَبِهَذَا اللَّفْظِ حَسَّنَ الدَّارَقُطْنِيُّ إسْنَادَهُ، هَذَا وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا أَنَّ لَفْظَ آخِرِ النَّهَارِ يَصْدُقُ عَلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ وَقَبْلِهِ، فَأَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْغَدِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ لِخُرُوجِ الْوَقْتِ بِدُخُولِ الزَّوَالِ؛ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلْكَرَاهَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِآخِرِ النَّهَارِ مَا بَعْدَ الظُّهْرِ، أَوْ يَكُونُ فِي تَعْيِينِ وَقْتِهَا هَذَا إجْمَاعٌ فَيُغْنِي عَنْهُ، وَقَدْ وُجِدَ الدَّلِيلُ، وَهُوَ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مِنْ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ: حَدَّثَنَا فَهْدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ أَبِي بَشِيرٍ جَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَخْبَرَنِي عُمُومَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ «أَنَّ الْهِلَالَ خَفِيَ عَلَى النَّاسِ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَصْبَحُوا صِيَامًا، فَشَهِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِالْفِطْرِ فَأَفْطَرُوا تِلْكَ السَّاعَةَ، وَخَرَجَ بِهِمْ مِنْ الْغَدِ فَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ» .

(قَوْلُهُ: وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ) اعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُوَافِقُ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ وَمَا يُوَافِقُ رَأْيَنَا، وَكَذَا عَنْ الصَّحَابَةِ.

أَمَّا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، فَفِي أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الْأُولَى بِسَبْعٍ وَفِي الثَّانِيَةِ بِخَمْسٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ سِوَى تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَقَدْ اسْتَشْهَدَ بِهِ مُسْلِمٌ.

قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالطُّرُقُ إلَيْهِمْ فَاسِدَةٌ، وَفِي أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ:«قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الْأُولَى وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا» زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَ «وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ سِوَى تَكْبِيرَةِ الصَّلَاةِ» قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ صَحِيحٌ.

ص: 74

الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَرَفْعَ الْأَيْدِي خِلَافُ الْمَعْهُودِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى ثُمَّ بِالتَّكْبِيرَاتِ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ حَتَّى يَجْهَرَ بِهِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْجَمْعُ وَفِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَجِبُ إلْحَاقُهَا بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِقَوْلِهَا مِنْ حَيْثُ الْفَرِيضَةِ وَالسَّبْقِ، وَفِي

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَفِي الْآخِرَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ فِي عِلَلِهِ الْكُبْرَى: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ وَبِهِ أَقُولُ. وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ عِدَّةٌ غَيْرُهَا تُوَافِقُ هَذِهِ، وَفِي أَبِي دَاوُد مَا يُعَارِضُهَا، وَهُوَ «أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ سَأَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا تَكْبِيرَهُ عَلَى الْجَنَائِزِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: صَدَقَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَذَلِكَ كُنْتُ أُكَبِّرُ فِي الْبَصْرَةِ حَيْثُ كُنْتُ عَلَيْهِمْ» سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِحَدِيثَيْنِ، إذْ تَصْدِيقُ حُذَيْفَةَ رِوَايَةٌ لِمِثْلِهِ، وَسُكُوتُ أَبِي دَاوُد وَالْمُنْذِرِيِّ تَصْحِيحٌ أَوْ تَحْسِينٌ مِنْهُمَا، وَتَضْعِيفُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ نَقْلًا عَنْ ابْنِ مُعِينٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ صَاحِبِ التَّنْقِيحِ فِيهِ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ مُعِينٍ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، لَكِنْ أَبُو عَائِشَةَ فِي سَنَدِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا أَعْرِفُ.

وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: مَجْهُولٌ، وَلَوْ سَلِمَ فَحَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ أَيْضًا بِهِ لَوْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ سَبَبٌ غَيْرُهُ فَكَيْفَ وَقَدْ بَانَ اضْطِرَابُهُ فِيهِ؟ فَمَرَّةً وَقَعَ فِيهِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَمَرَّةً عَنْهُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالِاضْطِرَابُ فِيهِ مِنْ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِهِ مَنَعَ الْقَوْلَ بِتَصْحِيحِهِمَا ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ وَأَوَّلَهُ، وَقَالَ: وَنَحْنُ وَإِنْ خَرَجْنَا عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لَكِنْ أَوْجَبَهُ أَنَّ كَثِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَتْرُوكٌ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُسَاوِي شَيْئًا، وَضَرَبَ عَلَى حَدِيثِهِ فِي الْمُسْنَدِ وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ مُعِينٍ: لَيْسَ حَدِيثُهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوكٌ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَاهِي الْحَدِيثِ، وَأَفْظَعَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِيهِ الْقَوْلَ.

وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله: لَيْسَ فِي تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا آخُذُ فِيهِ بِفِعْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَمَّا مَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ " أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ تِسْعًا، أَرْبَعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَرْكَعُ. وَفِي الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ، فَإِذَا فَرَغَ كَبَّرَ أَرْبَعًا ثُمَّ رَكَعَ ". أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ جَالِسًا وَعِنْدَهُ حُذَيْفَةَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَسَأَلَهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ عَنْ التَّكْبِيرِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَلْ الْأَشْعَرِيَّ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: سَلْ عَبْدَ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَقْدَمُنَا وَأَعْلَمُنَا، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُكَبِّرُ أَرْبَعًا ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ فِي الثَّانِيَةِ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا

ص: 75

الثَّانِيَةِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ فَوَجَبَ الضَّمُّ إلَيْهَا، وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إلَّا أَنَّهُ حَمَلَ الْمَرْوِيَّ كُلَّهُ عَلَى الزَّوَائِدِ فَصَارَتْ التَّكْبِيرَاتُ عِنْدَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ سِتَّ عَشْرَةَ.

بَعْدَ الْقِرَاءَةِ.

طَرِيقٌ آخَرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، وَأَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:" كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُعَلِّمُنَا التَّكْبِيرَ فِي الْعِيدَيْنِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ. خَمْسٌ فِي الْأُولَى وَأَرْبَعٌ فِي الْآخِرَةِ، وَيُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ " وَالْمُرَادُ بِالْخَمْسِ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَالرُّكُوعِ وَثَلَاثٌ زَوَائِدُ، وَبِالْأَرْبَعِ بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ. طَرِيقٌ آخَرُ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ قَاعِدًا فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ مَعَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ:" إنَّ غَدًا عِيدُكُمْ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَا: أَخْبِرْهُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَمَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، وَأَنْ يُكَبِّرَ فِي الْأُولَى خَمْسًا وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعًا، وَأَنْ يُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَأَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " فِي التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدِ تِسْعُ تَكْبِيرَاتٍ: فِي الْأُولَى خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَبْدَأُ الْقِرَاءَةَ ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا مَعَ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ نَحْوُ هَذَا.

وَهَذَا أَثَرٌ صَحِيحٌ قَالَهُ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَمِثْلُ هَذَا يُحْمَلُ عَلَى الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ نَقْلِ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم مَا يُخَالِفُهُ. قُلْنَا: غَايَتُهُ مُعَارَضَةٌ، وَيَتَرَجَّحُ أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَعَارِضٌ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ كَمَذْهَبِهِمْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ " أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَبَّرَ فِي عِيدٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَسِتًّا فِي الْآخِرَةِ ". حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٍ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَمَّارٍ " أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَبَّرَ فِي عِيدٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ ". وَرُوِيَ عَنْهُ كَمَذْهَبِنَا، فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: " صَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمَ عِيدٍ فَكَبَّرَ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ خَمْسًا فِي الْأُولَى وَأَرْبَعًا فِي الْآخِرَةِ، وَوَالَى بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ ". وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاق وَزَادَ فِيهِ: وَفَعَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مِثْلَ ذَلِكَ فَاضْطَرَبَ الْمَرْوِيُّ.

وَأَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَوْ لَمْ يَسْلَمْ كَانَ مُقَدَّمًا فَكَيْفَ وَهُوَ سَالِمٌ لِاضْطِرَابِ مُعَارِضِهِ، وَبِهِ يَتَرَجَّحُ الْمَرْفُوعُ الْمُوَافِقُ لَهُ، وَيَخْتَصُّ تَرْجِيحُ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْهُ بِأَنَّ التَّكْبِيرَ ثَنَاءٌ وَالثَّنَاءُ شُرِعَ فِي الْأُولَى أَوَّلًا وَهُوَ دُعَاءُ الِافْتِتَاحِ فَيُقَدَّمُ تَكْبِيرُهَا، وَحَيْثُ شُرِعَ فِي الثَّانِيَةِ شُرِعَ مُؤَخَّرًا وَهُوَ الْقُنُوتُ فَيُؤَخَّرُ تَكْبِيرُ الثَّانِيَةِ عَلَى وَفْقِ الْمَعْهُودِ. (قَوْلُهُ: وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ) يَعْنِي الْمَرْوِيَّ عَنْهُ مِنْ التَّكْبِيرَاتِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ الرِّوَايَتَيْنِ هَكَذَا عَنْهُ بَلْ إنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ وَخَمْسًا بَعْدَهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا ثُمَّ يَقْرَأُ أَوْ أَرْبَعًا، إلَّا أَنَّ هَذَا بَعْدَمَا عُلِمَ مِنْ طَرِيقَتِنَا أَنَّ

ص: 76

قَالَ (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ) يُرِيدُ بِهِ مَا سِوَى تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَاتِ الْأَعْيَادِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْنَا مَا رَوَيْنَا.

كُلَّ مَرْوِيٍّ فِي الْعَدَدِ يُحْمَلُ عَلَى شُمُولِهِ الْأَصْلِيَّاتِ، وَالزَّوَائِدُ تَلْتَفِتُ مِنْهُ إلَى كَوْنِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، تَكْبِيرَاتُ الِافْتِتَاحِ وَالرُّكُوعَيْنِ مَعَ الْعَشْرِ أَوْ التِّسْعِ، فَاكْتَفَى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ اللُّزُومِ فِي الْإِحَالَةِ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، إلَّا أَنَّ عَدَّ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فِي الْأُولَى دُونَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ فِي الثَّانِيَةِ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَعَلَى اعْتِبَارِهَا إنَّمَا يَقَعُ الِالْتِفَاتُ إلَى كَوْنِ الْمَرْوِيِّ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُخَصِّصُ اتِّصَالُ الِافْتِتَاحِ بِالزَّوَائِدِ. قُلْنَا: فَلَمْ يُتَّجَهْ عَدُّ تَكْبِيرَةِ رُكُوعِ الْأُولَى وَعَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ يَقَعُ الِالْتِفَاتُ إلَى كَوْنِهِ أَحَدَ عَشَرَ أَوْ عَشَرًا.

(قَوْلُهُ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَاتِ الْأَعْيَادِ) تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَكْبِيرَاتُ الْأَعْيَادِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِيهَا وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى تَكْبِيرَاتِ الْجَنَائِزِ. بَلْ يَكْفِي فِيهِ كَوْنُ الْمُتَحَقِّقِ مِنْ الشَّرْعِ ثُبُوتُ التَّكْبِيرِ، وَلَمْ يَثْبُتْ الرَّفْعُ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ. وَيَسْكُتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ قَدْرَ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ فَإِنَّ الْمُولَاةَ تُوجِبُ الِاشْتِبَاهَ عَلَى النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَكْفِي فِي دَفْعِ الِاشْتِبَاهِ عَنْهُمْ هَذَا الْقَدْرُ فَصَلَ بِأَكْثَرَ أَوْ كَانَ يَكْفِي لِذَلِكَ أَقَلُّ سَكَتَ أَقَلَّ، وَلَيْسَ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ عِنْدَنَا ذِكْرٌ مَسْنُونٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْعِيدِ بِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ). وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله مَرَّةً فِي الْعِيدَيْنِ فَقَطْ.

[فُرُوعٌ] أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا يُحْرِمُ، ثُمَّ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إدْرَاكُهُ فِي الرُّكُوعِ إنْ كَبَّرَ قَائِمًا كَبَّرَ قَائِمًا ثُمَّ رَكَعَ

ص: 77

قَالَ (ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ) بِذَلِكَ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ (يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَأَحْكَامَهَا)؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ.

(وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يَقْضِهَا)؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا بِشَرَائِطَ لَا تَتِمُّ

لِأَنَّ الْقِيَامَ هُوَ الْمَحَلُّ الْأَصْلِيُّ لِلتَّكْبِيرِ، وَيُكَبِّرُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ، وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي، وَالذِّكْرُ الْفَائِتُ يُقْضَى قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، وَإِنْ خَشِيَ فَوْتَ رُكُوعِ الْإِمَامِ رَكَعَ وَكَبَّرَ فِي رُكُوعِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ سُنَّةٌ فِي مَحَلِّهِ، وَالرَّفْعُ يَكُونُ سُنَّةً لَا فِي مَحَلِّهِ، وَإِنْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ سَقَطَ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَتَى بِهِ فِي الرُّكُوعِ لَزِمَ تَرْكُ الْمُتَابَعَةِ الْمَفْرُوضَةِ لِلْوَاجِبِ، وَالْقَوْمَةُ لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً بَلْ شُرِعَتْ لِلْفَصْلِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِهَا فَلَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّكْبِيرِ أَدَاءً وَلَا قَضَاءً، وَلَوْ أَدْرَكَهُ فِي الْقَوْمَةِ لَا يَقْضِيهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي الرَّكْعَةَ مَعَ تَكْبِيرَاتِهَا الْمَأْمُومُ يَتْبَعُ الْإِمَامَ، وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ حَكَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا يُجْتَهَدُ فِيهِ فَلَوْ جَاوَزَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ إنْ سَمِعَ مِنْهُ التَّكْبِيرَ لَا يُتَابِعُهُ.

وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، قِيلَ يَتْبَعُهُ إلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ إلَى سِتَّ عَشْرَةَ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُتَابِعُهُ؛ لِتَيَقُّنِ خَطَئِهِ كَالْمُتَابَعَةِ فِي الْمَنْسُوخِ، وَإِنْ سَمِعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ كَبَّرَ مَعَهُ وَلَوْ زَادَ عَلَى سِتَّ عَشْرَةَ لِجَوَازِ الْخَطَإِ مِنْ الْمُبَلِّغِ فِيمَا سَبَقَ فَلَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ لِلِاحْتِمَالِ، وَاللَّاحِقُ يُكَبِّرُ بِرَأْيِ إمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ خَلْفَهُ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ.

وَمَنْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فِي التَّشَهُّدِ يَقْضِي بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ صَلَاةَ الْعِيدِ بِالِاتِّفَاقِ، بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ؛ وَلَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَوْ بَعْضَهَا فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ كَبَّرَ وَأَعَادَ الْقِرَاءَةَ. وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ ضَمِّ السُّورَةِ كَبَّرَ وَلَمْ يُعِدْ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَمَّتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يُحْتَمَلُ النَّقْضُ، وَبِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَتِمَّ إذْ لَمْ يَتِمَّ الْوَاجِبُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ فِيهَا فَيُعِيدُهَا رِعَايَةً لِلتَّرْتِيبِ.

وَلَوْ سُبِقَ بِرَكْعَةٍ وَرَأَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقْرَأُ أَوَّلًا ثُمَّ يَقْضِي ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ. وَفِي النَّوَادِرِ: يُكَبِّرُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الْأَذْكَارِ إجْمَاعًا. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالتَّكْبِيرِ يُؤَدِّي إلَى الْمُوَالَاةِ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَوْ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ يَكُونُ مُوَافِقًا لِعَلِيٍّ رضي الله عنه؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا.

وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ أَرْبَعًا بِرَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَحَوَّلَ إلَى رَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدَعُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّكْبِيرِ وَيَبْدَأُ فِي الثَّانِيَةِ بِالْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ تَبَدُّلَ الرَّأْيِ يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلَوْ فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ فَتَحَوَّلَ إلَى رَأْيِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهُوَ فِي الْقِرَاءَةِ لَا يُعِيدُ التَّكْبِيرَ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى عَلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَوْسِيطِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَبَّرَ بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَتَحَوَّلَ إلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ مَا قَرَأَ الْفَاتِحَةَ كَبَّرَ مَا بَقِيَ وَأَعَادَ الْفَاتِحَةَ، وَإِنْ تَحَوَّلَ بَعْدَ ضَمِّ السُّورَةِ لَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ.

(قَوْلُهُ: ثُمَّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ بِذَلِكَ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ) لَا شَكَّ فِي وُرُودِ النَّقْلِ مُسْتَفِيضًا بِالْخُطْبَةِ، أَمَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَلَا، إلَّا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَحْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو الرَّقِّيِّ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى

ص: 78

بِالْمُنْفَرِدِ.

(فَإِنْ غُمَّ الْهِلَالُ وَشَهِدُوا عِنْدَ الْإِمَامِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ صَلَّى الْعِيدَ مِنْ الْغَدِ)؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْخِيرٌ بِعُذْرٍ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ (فَإِنْ حَدَثَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يُصَلِّهَا بَعْدَهُ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا أَنْ لَا تُقْضَى كَالْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْحَدِيثِ، وَقَدْ وَرَدَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي عِنْدَ الْعُذْرِ.

(وَيُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَتَطَيَّبَ) لِمَا ذَكَرْنَاهُ (وَيُؤَخِّرَ الْأَكْلَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه السلام كَانَ لَا يَطْعَمُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ فَيَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيَتَوَجَّهَ إلَى الْمُصَلَّى» (وَهُوَ يُكَبِّرُ)؛ لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُكَبِّرُ فِي الطَّرِيقِ (وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَالْفِطْرِ) كَذَلِكَ نُقِلَ (وَيَخْطُبُ بَعْدَهَا خُطْبَتَيْنِ)؛ لِأَنَّهُ عليه السلام كَذَلِكَ فَعَلَ (وَيُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا الْأُضْحِيَّةَ وَتَكْبِيرَ التَّشْرِيقِ)؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعُ الْوَقْتِ، وَالْخُطْبَةُ مَا شُرِعَتْ إلَّا لِتَعْلِيمِهِ.

(فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى صَلَّاهَا مِنْ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ وَلَا يُصَلِّيهَا بَعْدَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ فَتَتَقَيَّدُ بِأَيَّامِهَا لَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِي التَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِمُخَالَفَةِ الْمَنْقُولِ.

(وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ لَيْسَ بِشَيْءٍ) وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَشْبِيهًا بِالْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عُرْفُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةَ دُونَهُ كَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ.

فَخَطَبَ قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً ثُمَّ قَامَ»، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ فِي الْعِيدِ بِخُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ ضَعِيفٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَكْرِيرِ الْخُطْبَةِ شَيْءٌ، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْجُمُعَةِ، فَلَوْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ خَالَفَ السُّنَّةَ وَلَا يُعِيدُ الْخُطْبَةَ.

(قَوْلُهُ: وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ) يَعْنِي الَّذِي تَقَدَّمَ وَفِيهِ مَا قُلْنَا.

(قَوْلُهُ: لِمَا رُوِيَ إلَخْ) أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ، وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يَرْجِعَ» زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَحْمَدُ «فَيَأْكُلُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ» وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَصَحَّحَ زِيَادَةَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَيْضًا (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُكَبِّرُ فِي الطَّرِيقِ) حَاصِلُ مَا رَأَيْنَاهُ فِيهِ كَتَبْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.

(قَوْلُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ) ظَاهِرُ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ مَطْلُوبُ الِاجْتِنَابِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ

ص: 79

(فَصْلٌ فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ)

(وَيَبْدَأُ بِتَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَخْتِمُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ) عِنْدَ

لَا يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فَعَلَ ذَلِكَ بِالْبَصْرَةِ انْتَهَى.

وَهَذِهِ الْمُقَاسَمَةُ تُفِيدُ أَنَّ مُقَابِلَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأُصُولِ الْكَرَاهَةُ، وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُهُ التَّعْلِيلُ بِأَنَّ الْوُقُوفَ عَهْدُ قُرْبَةٍ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ فَلَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي غَيْرِهِ. وَجَوَابُهُ عَنْ الْمَرْوِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَا كَانَ لِلتَّشَبُّهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَرَاهَةَ مُعَلَّقَةٌ بِقَصْدِ التَّشَبُّهِ، وَالْأَوْلَى الْكَرَاهَةُ لِلْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمًا لِمَفْسَدَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ تُتَوَقَّعُ مِنْ الْعَوَامّ، وَنَفْسُ الْوُقُوفِ وَكَشْفُ الرُّءُوسِ يَسْتَلْزِمُ التَّشَبُّهَ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ. فَالْحَقُّ أَنَّهُ إنْ عَرَضَ الْوُقُوفُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِسَبَبٍ يُوجِبُهُ كَالِاسْتِسْقَاءِ مَثَلًا لَا يُكْرَهُ، أَمَّا قَصْدُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ فِيهِ فَهُوَ مَعْنَى التَّشَبُّهِ إذَا تَأَمَّلْت، وَمَا فِي جَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ لَوْ اجْتَمَعُوا لِشَرَفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَازَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِلَا وُقُوفٍ وَكَشْفٍ.

(فَصْلٌ فِي تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ)

وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَيْ التَّكْبِيرُ الَّذِي هُوَ التَّشْرِيقُ، فَإِنَّ التَّكْبِيرَ لَا يُسَمَّى تَشْرِيقًا إلَّا إذَا كَانَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَيَّامِ الْمَخْصُومَةِ فَهُوَ حِينَئِذٍ مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ، وَمَا فِي الْكَافِي مِمَّا يَدْفَعُ هَذَا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي جَوَابِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمِصْرِ بِالتَّكْبِيرِ بِأَثَرِ «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ» أَيْ لَا تَكْبِيرَ إلَّا فِي مِصْرٍ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ مَعْنَاهَا تَكْبِيرُ التَّكْبِيرِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ التَّشْرِيقُ فِي هَذَا الْأَثَرِ لَا فِي تِلْكَ الْإِضَافَةِ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْإِضَافَةِ عَلَى مَعْنَى التَّكْبِيرِ، لَكِنَّ الْحَقَّ صِحَّتُهَا عَلَى اعْتِبَارِ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ مِثْلَ مَسْجِدِ الْجَامِعِ وَحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا كَذَلِكَ تَصْحِيحًا، فَحِينَئِذٍ مَا قِيلَ لَقَبُ الْفَصْلِ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ التَّكْبِيرِ لَا يَقَعُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ؛ لِيَكُونَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ غَيْرُ لَازِمٍ، وَأَيْضًا إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ أُضِيفَتْ التَّكْبِيرَاتُ إلَى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَكِنْ إنَّمَا أُضِيفَتْ إلَى التَّشْرِيقِ نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ مَا ذُكِرَ

ص: 80

أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَخْتِمُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَأَخَذَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ أَخْذًا بِالْأَكْثَرِ، إذْ هُوَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَأَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْذًا بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ.

إذَا أُرِيدَ بِالتَّشْرِيقِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، أَوْ قُدِّرَتْ الْأَيَّامُ مُقْحَمَةً بَيْنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَلَا دَاعِي إلَيْهِ فَلْيَرُدَّ بِهِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أُرِيدَ الذَّبْحُ نَفْسُهُ عَلَى بَعْد إضَافَةِ التَّكْبِيرِ لِلذَّبْحِ لَمْ يَلْزَمْ مَا ذُكِرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَعَلَى هَذَا فَمَا فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ سِتَّةٌ تَنْقَضِي بِأَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَحْرٌ فَقَطْ وَالْأَخِيرَ تَشْرِيقٌ فَقَطْ وَالْمُتَوَسِّطَانِ نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ التَّشْرِيقَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّكْبِيرِ أَوْ الذَّبْحِ، أَوْ تَشْرِيقُ اللَّحْمِ بِإِظْهَارِهِ لِلشَّمْسِ بَعْدَ تَقْطِيعِهِ لِيَتَقَدَّدَ، وَعَلَى كِلَيْهِمَا يَدْخُلُ يَوْمُ النَّحْرِ فِيهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّشْرِيقُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ لَا يَكُونُ فِي الْأَوَّلِ ظَاهِرًا. وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ وَاجِبَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ أَوْ سُنَّةٌ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَدَلِيلُ السُّنَّةِ أَنْهَضُ وَهُوَ مُوَاظَبَتُهُ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} فَالظَّاهِرُ مِنْهَا ذِكْرُ اسْمِهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ نَسْخًا لِذِكْرِهِمْ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِدَلِيلِ {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} بَلْ قَدْ قِيلَ: إنَّ الذِّكْرَ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسِ الذَّبْحِ.

(قَوْلُهُ: وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَأَخَذَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه) وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَذَكَرَهُ، وَأَخَذَ هُوَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا. حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا خِلَافُ مُقْتَضَى التَّرْجِيحِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ لَا فِي نَفْسِ الذِّكْرِ.

وَالْأَصْلُ فِي الْأَذْكَارِ الْإِخْفَاءُ وَالْجَهْرُ بِهِ بِدْعَةٌ، فَإِذَا تَعَارَضَا فِي الْجَهْرِ تَرَجَّحَ الْأَقَلُّ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَارَةَ قَالَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَانَ يُكَبِّرُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ وَيَقْطَعُهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ» وَصَحَّحَهُ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ خَبَرٌ وَاهٍ كَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ مَنَاكِيرَ، وَسَعِيدٌ إنْ كَانَ

ص: 81

وَالتَّكْبِيرُ أَنْ يَقُولَ مَرَّةً وَاحِدَةً: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه.

(وَهُوَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِي الْأَمْصَارِ فِي الْجَمَاعَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ عَلَى جَمَاعَاتِ النِّسَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَلَا عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسَافِرِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مُقِيمٌ. وَقَالَا: هُوَ عَلَى كُلِّ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ)؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَكْتُوبَةِ، وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ. وَالتَّشْرِيقُ هُوَ التَّكْبِيرُ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ، إلَّا أَنَّهُ

الْكُرَيْزِيُّ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِلَّا فَهُوَ مَجْهُولٌ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ.

(قَوْلُهُ: وَالتَّكْبِيرُ أَنْ يَقُولَ، إلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ الْخَلِيلِ) لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَأْثُورًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ قَالَ: قُلْت لِأَبِي إِسْحَاقَ: كَيْفَ كَانَ يُكَبِّرُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ؟ قَالَ: كَانَا يَقُولَانِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، ثُمَّ عَمَّمَ عَنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يُكَبِّرُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَحَدُهُمْ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ، فَظَهَرَ أَنَّ جَعْلَ التَّكْبِيرَاتِ ثَلَاثًا فِي الْأُولَى كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ لَا ثَبْتَ لَهُ.

وَأَمَّا تَقْيِيدُ اسْتِنَانِهِ أَوْ إيجَابُهُ بِكَوْنِهِ عَقِيبَ الْمَفْرُوضَاتِ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ كَانَ يَفْعَلُ كَذَا دُبُرَ الصَّلَاةِ يَتَبَادَرُ مِنْهُ الْمَكْتُوبَاتُ بِحَسَبِ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ فِي ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَلَهُ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) أَرَادَ قَوْلَهُ لَا جُمُعَةَ، إلَى قَوْلِهِ:

ص: 82

يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ إذَا اقْتَدَيْنَ بِالرِّجَالِ، وَعَلَى الْمُسَافِرِينَ عِنْدَ اقْتِدَائِهِمْ بِالْمُقِيمِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ. قَالَ يَعْقُوبُ: صَلَّيْت بِهِمْ الْمَغْرِبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَهَوْت أَنْ أُكَبِّرَ فَكَبَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ. دَلَّ أَنَّ الْإِمَامَ وَإِنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ لَا يَتْرُكُهُ الْمُقْتَدِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَلِمَ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ فِيهِ حَتْمًا وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ.

وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَالتَّمَحُّلُ لَا يُجْدِي إلَّا الدَّفْعَ. (قَوْلُهُ: عِنْدَ اقْتِدَائِهِمْ بِالْمُقِيمِ) قَيَّدَ بِهِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرِينَ إذَا اقْتَدَوْا بِمُسَافِرٍ فِي الْمِصْرِ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ هَلْ الْحُرِّيَّةُ شَرْطُ وُجُوبِهِ أَوْ لَا؟ وَفَائِدَتُهُ إنَّمَا تَظْهَرُ إذَا أَمَّ الْعَبْدُ قَوْمًا مَنْ شَرَطَهَا قَالَ لَا، وَمَنْ لَا قَالَ نَعَمْ.

(قَوْلُهُ: قَالَ يَعْقُوبُ) هَذَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ، وَيَعْقُوبُ هُوَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله، وَتَضَمَّنَتْ الْحِكَايَةُ مِنْ الْفَوَائِدِ الْحَكِيمَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُقْتَدِي بَلْ يُكَبِّرُ هُوَ وَالْعُرْفِيَّةُ جَلَالَةُ قَدْرِ أَبِي يُوسُفَ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَعِظَمُ مَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فِي قَلْبِهِ حَيْثُ نَسِيَ مَا لَا يُنْسَى عَادَةً حِينَ عَلِمَهُ خَلَفُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَادَةَ إنَّمَا هُوَ نِسْيَانُ التَّكْبِيرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْكَائِنُ عَقِيبَ فَجْرِ عَرَفَةَ، فَأَمَّا بَعْدَ تَوَالِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ يُكَبِّرُ فِيهَا إلَى الرَّابِعِ فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِنِسْيَانِهِ؛ لِعَدَمِ بُعْدِ الْعَهْدِ بِهِ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا أَوْ أَحْدَثَ عَامِدًا سَقَطَ عَنْهُ التَّكْبِيرُ. وَفِي الِاسْتِدْبَارِ عَنْ الْقِبْلَةِ رِوَايَتَانِ: لَوْ أَحْدَثَ نَاسِيًا بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَا يَخْرُجُ لِلطَّهَارَةِ، وَالْمَسْبُوقُ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَلَا يُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرِ، وَلَوْ تَابَعَهُ لَا تَفْسُدُ. وَفِي التَّلْبِيَةِ تَفْسُدُ، وَيَبْدَأُ الْمُحْرِمُ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ.

وَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ ذَكَرَ فِي أَيَّامِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ قَضَاهَا وَكَبَّرَ، وَإِنْ قَضَى بَعْدَهَا لَمْ يُكَبِّرْ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا قَضَى فِي أَيَّامِ تَشْرِيقٍ أُخْرَى.

ص: 83

(بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ)

قَالَ (إذَا انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ النَّافِلَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعٌ وَاحِدٌ) وَقَالَ

(بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ)

صَلَاةُ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ مُتَشَارِكَةٌ فِي عَوَارِضَ هِيَ الشَّرْعِيَّةُ نَهَارًا بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ. وَصَلَاةُ الْعِيدِ آكَدُ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْجُمْهُورِ أَوْ وَاجِبَةٌ عَلَى قُوَيْلَةٍ، وَاسْتِنَانُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَظَهَرَ وَجْهُ تَرْتِيبِ أَبْوَابِهَا، وَيُقَالُ: كَسَفَ اللَّهُ الشَّمْسَ يَتَعَدَّى، وَكَسَفَتْ الشَّمْسُ لَا يَتَعَدَّى. قَالَ جَرِيرٌ:

حُمِّلْتَ أَمْرًا عَظِيمًا فَاصْطَبَرْت لَهُ

وَقُمْت فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ يَا عُمَرَا

فَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ

تُبْكِي عَلَيْك نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا

قَوْلُهُ: " يَا عُمَرَا " نُدْبَةً لَا نِدَاءً، وَهُوَ شَاهِدُ النَّدْبِ بِيَا عَلَى قِلَّةٍ وَالْأَكْثَرُ لَفْظُ وَا " نُجُومُ اللَّيْلِ " نُصِبَ بِتُبْكِي؛ لِأَنَّهُ مُضَارِعُ بَاكَيْتُهُ فَبَكَيْته: أَيْ غَلَبْته فِي الْبُكَاءِ، وَالْقَمَرَا عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ بِرَفْعِ النُّجُومِ فَهُوَ فَاعِلُ تَبْكِي، وَالْقَمَرَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَعِيَّةِ، وَالْأَلِفُ أَلِفُ الْإِطْلَاقِ الَّتِي تَلْحَقُ الْقَوَافِي الْمُطْلَقَةِ.

وَسَبَبُهَا الْكُسُوفُ، وَصِفَتُهَا سُنَّةٌ، وَاخْتَارَ فِي الْأَسْرَارِ وُجُوبَهَا لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» قَالَ: وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُقَامُ عَلَى سَبِيلِ الشُّهْرَةِ فَكَانَ شِعَارًا لِلدِّينِ حَالَ الْفَزَعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ دَفْعُ الْأَمْرِ الْمَخُوفِ فَهِيَ مَصْلَحَةٌ تَعُودُ إلَيْنَا دُنْيَوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَوْ كَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ ثُمَّ وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَفْزَاعُ فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ الْهَلَاكِ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ لَا يُعَاقَبُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى ذَلِكَ فَتُفْتَرَضُ التَّوْبَةُ، وَهِيَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الصَّلَاةِ وَإِلَّا لَكَانَتْ فَرْضًا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ الْعِيدَيْنِ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ، إذْ لَا مَانِعَ مِنْ اسْتِنَانِ شِعَارٍ مَقْصُودٍ ابْتِدَاءً فَضْلًا عَنْ شِعَارٍ يَتَعَلَّقُ بِعَارِضٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ وَفِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ مُصَلَّى الْعِيدِ. وَلَا تُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ (قَوْلُهُ: كَهَيْئَةِ النَّافِلَةِ) أَيْ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَلَا خُطْبَةٍ، وَيُنَادِي الصَّلَاةَ جَامِعَةً

ص: 84

الشَّافِعِيُّ: رُكُوعَانِ. لَهُ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، وَلَنَا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَالُ أَكْشَفُ عَلَى الرِّجَالِ لِقُرْبِهِمْ فَكَانَ التَّرْجِيحُ

لِيَجْتَمِعُوا إنْ لَمْ يَكُونُوا اجْتَمَعُوا (قَوْلُهُ: لَهُ رِوَايَةُ عَائِشَةَ) أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْهَا قَالَتْ «خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَسْجِدِ فَقَامَ فَكَبَّرَ وَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ قَالَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا هُوَ أَدْنَى مِنْ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» انْتَهَى.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ نَحْوُهُ، وَلَفْظُ ابْنِ عَمْرٍو فِي مُسْلِمٍ «لَمَّا انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ فَرَكَعَ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ ثُمَّ جَلَى عَنْ الشَّمْسِ» (قَوْلُهُ وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ) وَقِيلَ لَعَلَّهُ ابْنُ عَمْرٍو يَعْنِي: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَتَصَحَّفَ عَلَى بَعْضِ النُّسَّاخِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكَدْ يَرْكَعُ ثُمَّ رَكَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ ثُمَّ رَفَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَسْجُدُ ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ ثُمَّ رَفَعَ، وَفَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ» وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ مِنْ أَجْلِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ انْتَهَى. وَهَذَا تَوْثِيقٌ مِنْهُ لِعَطَاءٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ لَهُ مَقْرُونًا بِأَبِي بِشْرٍ. وَقَالَ أَيُّوبُ هُوَ ثِقَةٌ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وَفَرَّقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَيْنَ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ قَالَ «بَيْنَا أَنَا وَغُلَامٌ مِنْ الْأَنْصَارِ نَرْمِي غَرَضَيْنِ لَنَا حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي عَيْنِ

ص: 85

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النَّاظِرِ مِنْ الْأُفُقِ اسْوَدَّتْ حَتَّى آضَتْ كَأَنَّهَا تَنُّومَةٌ، فَقَالَ أَحَدُنَا لِصَاحِبِهِ: انْطَلِقْ بِنَا إلَى الْمَسْجِدِ فَوَاَللَّهِ لَيُحْدِثَنَّ شَأْنُ هَذِهِ الشَّمْسِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ حَدَثًا، قَالَ: فَدَفَعْنَا فَإِذَا هُوَ بَارِزٌ، فَاسْتَقْدَمَ فَصَلَّى فَقَامَ كَأَطْوَلِ مَا قَامَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا، ثُمَّ رَكَعَ بِنَا كَأَطْوَلِ مَا رَكَعَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا ثُمَّ سَجَدَ بِنَا كَأَطْوَلِ مَا سَجَدَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَوَافَقَ تَجَلِّي الشَّمْسِ جُلُوسَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد.

وَفِي أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى انْجَلَتْ» ، وَفِي النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَزَعًا حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى انْجَلَتْ. قَالَ: إنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ إلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ الْعُظَمَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. إنَّ اللَّهَ إذَا بَدَا لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَّلُوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنْ الْمَكْتُوبَةِ» وَرَوَى مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا. وَأَبُو قِلَابَةَ أَدْرَكَ ابْنَ بَشِيرٍ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ بَعْدَمَا نَقَلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَبُو قِلَابَةَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مُرْسَلٌ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ قَبِيصَةَ الْهِلَالِيِّ قَالَ «كَسَفَتْ الشَّمْسُ» وَفِيهِ «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَ فِيهَا الْقِيَامَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ انْجَلَتْ فَقَالَ: إنَّمَا هَذِهِ الْآيَاتُ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَّلُوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنْ الْمَكْتُوبَةِ» ثُمَّ رَوَاهُ بِسَنَدٍ آخَرَ فَأَدْخَلَ بَيْنَ أَبِي قِلَابَةَ وَقَبِيصَةَ هِلَالَ بْنَ عَامِرٍ، فَقَدْ عُرِفَ السَّاقِطُ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ فَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ النَّوَوِيُّ: هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ هِلَالًا ثِقَةٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ «خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْمَسْجِدِ وَثَابَ النَّاسُ إلَيْهِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فَانْجَلَتْ، فَقَالَ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ» فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْهَا صَحِيحٌ، وَمِنْهَا الْحَسَنُ قَدْ دَارَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: مِنْهَا مَا فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِأَنْ يَجْعَلُوهَا كَأَحْدَثِ مَا صَلُّوهُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ وَهِيَ

ص: 86

لِرِوَايَتِهِ (وَيُطَوِّلُ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا وَيُخْفِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَجْهَرُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ

الصُّبْحُ، فَإِنَّ كُسُوفَ الشَّمْسِ كَانَ عِنْدَ ارْتِفَاعِهَا قَدْرَ رُمْحَيْنِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ، فَأَفَادَ أَنَّ السُّنَّةَ رَكْعَتَانِ. وَمِنْهَا مَا فُصِّلَ فَأَفَادَ تَفْصِيلُهُ أَنَّهَا بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ وَابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَحَمْلُ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ رُكُوعَيْنِ خُرُوجٌ عَنْ الظَّاهِرِ. لَا يُقَالُ: الرَّكْعَةُ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الَّتِي آخِرُهَا السَّجْدَتَانِ وَقَبْلَهُمَا رُكُوعٌ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُهُ؟ بَلْ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي هِيَ قِيَامٌ وَاحِدٌ وَقِرَاءَةٌ وَاحِدَةٌ وَرُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسَجْدَتَانِ فَهُوَ مَفْهُومُهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ لَا مَا اشْتَمَلَ عَلَى قِرَاءَتَيْنِ وَقِيَامَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ.

وَأَمَّا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَيُقَالُ أَيْضًا لِمُجَرَّدِ الرُّكُوعِ، فَهُوَ إمَّا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَجْمُوعِ الْأَفْعَالِ الَّتِي مِنْهَا الرُّكُوعُ الْوَاحِدُ وَبَيَّنَهُ بِدَلِيلِ مَا رَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ» وَالْمُرَادُ عِنْدَهُمْ أَرْبَعُ رُكُوعَاتٍ فَسَمَّتْ كُلَّ رُكُوعٍ رَكْعَةً. وَكَذَا مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو الَّذِي رَوَوْهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ. وَإِمَّا مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فِيهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُمْ حَيْثُ أَرَادُوا قَيَّدُوهُ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، وَقَوْلُهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَحَيْثُ أَرَادُوا الْأَوَّلَ أَطْلَقُوا اسْمَ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ مَعَ أَنَّ الْمَجَازَ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، فَظَهَرَ أَنَّ حَقِيقَةَ لَفْظِ رَكْعَتَيْنِ مَا كَانَ كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ وَمَجَازُهَا الْمُسْتَعْمَلُ نَفْسُ الرُّكُوعِ الْوَاحِدِ، فَإِرَادَةُ قِيَامَيْنِ وَقِرَاءَتَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ بَعْدَهَا سُجُودَانِ بِهَا لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ، وَلَا مَجَازٍ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ إمْكَانُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ إذَا أَوْجَبَهُ دَلِيلٌ وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ كَوْنُ أَحَادِيثِ الرُّكُوعَيْنِ أَقْوَى، قُلْنَا هَذِهِ أَيْضًا فِي رُتْبَتِهَا.

أَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ آخِرًا فَلَا شَكَّ، وَكَذَا مَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّسَائِيّ وَأَبِي دَاوُد، وَالْبَاقِي لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَقَدْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ فَيَرْتَقِي إلَى الصَّحِيحِ، فَهَذِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ حِينَئِذٍ فَكَافَأَتْ أَحَادِيثَ الرُّكُوعَيْنِ وَكَوْنُ بَعْضِ تِلْكَ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْكُلُّ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، غَايَةُ مَا فِيهِ كَثْرَةُ الرُّوَاةِ وَلَا تَرْجِيحَ عِنْدَنَا بِذَلِكَ، ثُمَّ الْمَعْنَى الَّذِي رَوَيْنَاهُ أَيْضًا فِي الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ وَالْمَعْنَى هُوَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَفَرَّقَ فِي آحَادِ الْكُتُبِ وَثَنَائِهَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْمُتُونِ.

وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا أَقْوَى سَنَدًا فَالضَّعِيفُ قَدْ يَثْبُتُ مَعَ صِحَّةِ الطَّرِيقِ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِيهَا. فَإِنَّ أَحَادِيثَ تَعَدُّدِ الرُّكُوعِ اضْطَرَبَتْ وَاضْطَرَبَ فِيهَا الرُّوَاةُ أَيْضًا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَوَى رُكُوعَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى ثَلَاثَ رُكُوعَاتٍ.

فَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» ، وَهَذَا أَيْضًا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الرَّكْعَةِ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ نَفْسِهِ حَدِيثَ الرُّكُوعَيْنِ قَالَ «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ» وَكَذَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ إنَّهَا بِثَلَاثِ رُكُوعَاتٍ وَكَمَا قَدَّمْنَا عَنْهَا بِرُكُوعَيْنِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ تَقَدَّمَ عَنْهُ رِوَايَةُ الرُّكُوعِ الْوَاحِدِ وَالرُّكُوعَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الرُّكُوعِ الْوَاحِدِ اُخْتُلِفَ فِي تَصْحِيحِهَا، بِخِلَافِ رِوَايَةِ الرُّكُوعَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ إيهَانِ ظَنِّ الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُ.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَرْبَعَ رُكُوعَاتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ قَرَأَ

ص: 87

أَمَّا التَّطْوِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ فَبَيَانُ الْأَفْضَلِ، وَيُخَفِّفُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ اسْتِيعَابُ الْوَقْتِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، فَإِذَا خَفَّفَ أَحَدُهُمَا طَوَّلَ الْآخَرُ. وَأَمَّا الْإِخْفَاءُ وَالْجَهْرُ فَلَهُمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ فِيهَا»

ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ، قَالَ: وَالْأُخْرَى مِثْلُهَا» وَفِي لَفْظٍ «ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» ، وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ عَلِيٍّ بَلْ أَحَالَ عَلَى مَا قَبْلَهُ.

وَرُوِيَ أَيْضًا خَمْسُ رُكُوعَاتٍ: أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي كَعْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ فَقَرَأَ سُورَةً مِنْ الطِّوَالِ وَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَفَعَلَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ جَلَسَ يَدْعُو حَتَّى تَجَلَّى كُسُوفُهَا» وَأَبُو جَعْفَرٍ فِيهِ مَقَالٌ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْوِتْرِ، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ فَوَجَبَ تَرْكُ رِوَايَاتِ التَّعَدُّدِ كُلِّهَا إلَى رِوَايَاتٍ غَيْرِهَا. وَلَوْ قُلْنَا: الِاضْطِرَابُ شَمَلَ رِوَايَاتِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ فَوَجَبَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ صَحَّ، وَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا تَرَجُّحَ رِوَايَاتِ الِاتِّحَادِ ضِمْنًا لَا قَصْدًا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِرِوَايَاتِ الطَّلَاقِ: أَعْنِي نَحْوَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ» وَعَنْ هَذَا الِاضْطِرَابِ الْكَثِيرِ وَفَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِحَمْلِ رِوَايَاتِ التَّعَدُّدِ.

عَلَى أَنَّهُ لَمَّا أَطَالَ فِي الرُّكُوعِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَعْهُودِ جِدًّا وَلَا يَسْمَعُونَ لَهُ صَوْتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةٍ رَفْعَ مَنْ خَلْفَهُ مُتَوَهِّمِينَ رَفْعَهُ وَعَدَمُ سَمَاعِهِمْ الِانْتِقَالَ فَرَفَعَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِي مَنْ رَفَعَ، فَلَمَّا رَأَى مَنْ خَلْفَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْفَعْ فَلَعَلَّهُمْ انْتَظَرُوهُ عَلَى تَوَهُّمٍ أَنْ يُدْرِكَهُمْ فِيهِ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ رَجَعُوا إلَى الرُّكُوعِ فَظَنَّ مَنْ خَلْفَهُمْ أَنَّهُ رُكُوعٌ بَعْدَ رُكُوعٍ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فَرَوَوْا كَذَلِكَ، ثُمَّ لَعَلَّ رِوَايَاتِ الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ بِنَاءً عَلَى اتِّفَاقِ تَكَرُّرِ الرَّفْعِ مِنْ الَّذِي خَلْفَ الْأَوَّلِ. وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْكُسُوفُ فِي زَمَنِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.

فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ تَكَرَّرَ مِرَارًا عَلَى بُعْدِ أَنْ يَقَعَ نَحْوَ سِتِّ مَرَّاتٍ فِي نَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ، كَانَ رَأْيُنَا أَوْلَى أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُنْقَلْ تَارِيخُ فِعْلِهِ الْمُتَأَخِّرِ فِي الْكُسُوفِ الْمُتَأَخِّرِ فَقَدْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَوَجَبَ الْإِحْجَامُ عَنْ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ كَانَ الْمُتَعَدِّدَ عَلَى وَجْهِ التَّثْنِيَةِ أَوْ الْجَمْعِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، أَوْ كَانَ الْمُتَّحِدَ فَبَقِيَ الْمَجْزُومُ بِهِ اسْتِنَانُ الصَّلَاةِ مَعَ التَّرَدُّدِ فِي كَيْفِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الْمَرْوِيَّاتِ فَيُتْرَكُ وَيُصَارُ إلَى الْمَعْهُودِ ثُمَّ يَتَضَمَّنُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ التَّرْجِيحِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

وَالْمُصَنِّفُ رَجَّحَ بِأَنَّ الْحَالَ أَكْشَفُ لِلرِّجَالِ وَهُوَ يَتِمُّ لَوْ لَمْ يَرْوِ حَدِيثَ الرُّكُوعَيْنِ أَحَدٌ غَيْرُ عَائِشَةَ رضي الله عنها مِنْ الرِّجَالِ، لَكِنْ قَدْ سَمِعْت مَنْ رَوَاهُ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا صِرْنَا إلَيْهِ (قَوْلُهُ: أَمَّا التَّطْوِيلُ فَبَيَانُ الْأَفْضَلِ)؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ وَسَمُرَةَ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ حِينَئِذٍ مُسْتَثْنَاةٌ مِمَّا سَلَفَ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُطَوِّلَ الْإِمَامُ بِهِمْ الصَّلَاةَ، وَلَوْ خَفَّفَهَا جَازَ وَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ اسْتِيعَابُ الْوَقْتِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، فَإِنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد «فَجَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى انْجَلَتْ» يُعْطِي أَنَّهُ لَمْ يُبَالِغْ فِي التَّطْوِيلِ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّهُ جَعَلَ الصَّحَابَةُ يَخِرُّونَ لِطُولِ الْقِيَامِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَمْ تَمْكُثْ مَعَ مِثْلِ هَذَا الطُّولِ مَا يَسَعُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ السُّنَّةَ التَّطْوِيلُ، وَالْمَنْدُوبُ مُجَرَّدُ اسْتِيعَابِ الْوَقْتِ كَمَا ذُكِرَ مُطْلَقًا كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ» إلَى أَنْ قَالَ «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ» ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفًا فَاذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى تَنْجَلِيَ» (وَقَوْلُهُ فَلَهُمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا قَالَتْ «جَهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ» الْحَدِيثَ، وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ «جَهَرَ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

ص: 88

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَمُرَةَ رضي الله عنهم، وَالتَّرْجِيحُ قَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، كَيْفَ وَإِنَّهَا صَلَاةُ النَّهَارِ وَهِيَ عَجْمَاءُ.

(وَيَدْعُو بَعْدَهَا حَتَّى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ شَيْئًا فَارْغَبُوا إلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ» ، وَالسُّنَّةُ فِي الْأَدْعِيَةِ تَأْخِيرُهَا عَنْ الصَّلَاةِ (وَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ

وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ، وَلَفْظُهُ «صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» (قَوْلُهُ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَمُرَةَ) أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْكُسُوفَ فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفًا مِنْ الْقِرَاءَةِ» وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ كَسَفَتْ الشَّمْسُ فَلَمْ أَسْمَعْ لَهُ قِرَاءَةً» ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْتَجُّ بِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ عَدَدُ رِوَايَتِهِمْ تُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» .

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مَا قُرِئَ، إذْ لَوْ سَمِعَهُ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِغَيْرِهِ. وَيَدْفَعُ حَمْلَهُ عَلَى بُعْدِهِ رِوَايَةُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ «صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِهِ» وَيُوَافِقُ أَيْضًا رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «فَحَزَرْتُ قِرَاءَتَهُ» وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَتَقَدَّمَ، وَفِيهِ «لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَالْحَقُّ أَنَّ تَقْدِيرَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِسُورَةِ الْبَقَرَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ سَمَاعِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْسَى الْمَقْرُوءَ الْمَسْمُوعَ بِعَيْنِهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِقَدْرِهِ فَيَقُولُ قَرَأَ نَحْوَ سُورَةِ كَذَا، فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْفَاءِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ بَلْ بِالنَّظَرِ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ «صَلَّيْتُ إلَى جَانِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَإِذَا حَصَلَ التَّعَارُضُ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ الْإِخْفَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالتَّرْجِيحُ قَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ: يَعْنِي أَنَّ الْحَالَ أَكْشَفُ لِلرِّجَالِ فَقَدْ يُقَالُ بَلْ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْمَادَّةِ تَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ النِّسَاءِ هُنَا؛ لِأَنَّهَا إخْبَارٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ أَوْ فِي حُجَرِهِنَّ، فَإِذَا أَخْبَرْنَ عَنْ الْجَهْرِ دَلَّ عَلَى تَحْقِيقِهِ بِزِيَادَةٍ بِحَيْثُ يَصِلُ الصَّوْتُ إلَيْهِنَّ، فَالْمُعْتَبَرُ مَا رَجَعَ إلَيْهِ آخِرًا مِنْ قَوْلِهِ كَيْفَ وَإِنَّهَا صَلَاةُ النَّهَارِ؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» إلَى قَوْلِهِ «بِالدُّعَاءِ» حَدِيثَانِ. وَمَعْنَى الْأَوَّلِ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ» وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَالَ: فِي ظُلْمَةٍ أَوْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ الصَّلَاةُ حَسَنَةٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ.

(قَوْلُهُ: وَالسُّنَّةُ فِي الْأَدْعِيَةِ تَأْخِيرُهَا) وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ دَعَا مُسْتَقْبِلًا جَالِسًا أَوْ قَائِمًا أَوْ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَدَعَا وَيُؤَمِّنُونَ. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ. وَلَوْ قَامَ وَدَعَا مُعْتَمِدًا عَلَى عَصَى أَوْ قَوْسٍ كَانَ أَيْضًا

ص: 89

فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى) تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ.

(وَلَيْسَ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ) لِتَعَذُّرِ الِاجْتِمَاعِ فِي اللَّيْلِ (أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ)، وَإِنَّمَا يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» (وَلَيْسَ فِي الْكُسُوفِ خُطْبَةٌ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ.

حَسَنًا.

(قَوْلُهُ: وَلَيْسَ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ إلَخْ) وَمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَمَا أَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ» قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: فِيهِ سَعِيدُ بْنُ حَفْصٍ، وَلَا أَعْرِفُ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا حَتَّى يَثْبُتَ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى يَكُونُ لِنَفْيِهَا (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ) أَيْ بِطَرِيقِ قَصْدِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ لِدَفْعِ وَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ لِسَبَبٍ عَرَضَ وَانْقَضَى.

ص: 90

(بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ)

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنْ صَلَّى النَّاسُ وُحْدَانًا جَازَ، وَإِنَّمَا الِاسْتِسْقَاءُ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} الْآيَةَ، «وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُ الصَّلَاةُ»

(بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ)

يَخْرُجُونَ لِلِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَكْثَرُ مِنْهَا مُتَوَاضِعِينَ مُتَخَشَّعِينَ فِي ثِيَابٍ خَلَقٍ مُشَاةً يُقَدِّمُونَ الصَّدَقَةَ كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَّا فِي مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدِ (قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَخْ) مَفْهُومُهُ اسْتِنَانُهَا فُرَادَى وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ (قَوْلُهُ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُ الصَّلَاةُ) يَعْنِي فِي ذَلِكَ الِاسْتِسْقَاءَ فَلَا يُرَادُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ الْمُخَرِّجُ، وَلَوْ تَعَدَّى بَصَرُهُ إلَى قَدْرِ سَطْرٍ حَتَّى رَأَى قَوْلَهُ فِي جَوَابِهِمَا قُلْنَا فَعَلَهُ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى النَّفْيِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا يَكُونُ سُنَّةً مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ. عِنْدَنَا يَجُوزُ لَوْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَبِهِ أَيْضًا يَبْطُلُ قَوْلُ ابْنِ الْعِزِّ: الَّذِينَ قَالُوا بِمَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ لَمْ يَقُولُوا بِتَعَيُّنِهَا، بَلْ هِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: تَارَةً يَدْعُونَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ، وَتَارَةً يَخْرُجُونَ إلَى الْمُصَلَّى فَيَدْعُونَ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ، وَتَارَةً يُصَلُّونَ جَمَاعَةً وَيَدْعُونَ.

وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ قُلْنَا فَعَلَهُ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً، وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِعِلْمِهِمْ بِفِعْلِهِ، وَكَذَا قَوْلُ غَيْرِ الْمُصَنِّفِ الْمَرْوِيُّ فِيهِ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَهُوَ ظَاهِرُ جَوَابِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ عِبَارَتَهُ فِي الْكَافِي الَّذِي هُوَ جَمْعُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ قَالَ: لَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ إنَّمَا فِيهِ الدُّعَاءُ، بَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ خَرَجَ وَدَعَا» وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَدَعَا فَاسْتَسْقَى، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ صَلَاةٌ إلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ شَاذٌّ لَا يُؤْخَذُ بِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا صَرِيحٌ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ فِي عِلْمِ مُحَمَّدٍ بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ كَوْنُ مَا عَلِمَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الرِّوَايَةِ مَعْلُومًا لِأَبِي حَنِيفَةَ؟ قُلْنَا: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ وَبَلَغَ أَتْبَاعَهُ الظَّاهِرُ تَلَقِّيهمْ ذَلِكَ عَنْهُ. ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ وَفِي عَدَمِ الْأَخْذِ بِهِ لِشُذُوذِهِ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّهُمْ لَوْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ كَانَ مَكْرُوهًا، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَاكِمُ أَيْضًا فِي بَابِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ مِنْ الْكَافِي بِقَوْلِهِ

ص: 91

(وَقَالَا: يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قُلْنَا: فَعَلَهُ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ.

وَيُكْرَهُ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ جَمَاعَةً مَا خَلَا قِيَامَ رَمَضَانَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله ثُمَّ الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ مِنْ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ مَا فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ قَالَ: أَرْسَلَنِي الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ عَنْ اسْتِسْقَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُبْتَذِلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: رِوَايَةُ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلَةٌ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ، فَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ وَرَفَعَ يَدَهُ فَدَعَا وَاسْتَسْقَى وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» زَادَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ «جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَوَهَّمَ الْبُخَارِيُّ ابْنَ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، بَلْ هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّحَهُ وَقَالَ فِيهِ «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ وَقَرَأَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وَكَبَّرَ فِيهَا خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ» فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ كَمَا زَعَمَ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ مُعَارَضٌ.

أَمَّا ضَعْفُهُ فَبِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَالنَّسَائِيُّ مَتْرُوكٌ، وَأَبُو حَاتِمٍ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ لَيْسَ لَهُ حَدِيثٌ مُسْتَقِيمٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي عَنْ الثِّقَاتِ الْمُعْضِلَاتِ حَتَّى سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ.

وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «اسْتَسْقَى فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُكَبِّرْ فِيهِمَا إلَّا تَكْبِيرَةً

ص: 92

(وَيَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ) اعْتِبَارًا بِصَلَاةِ الْعِيدِ (ثُمَّ يَخْطُبُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ» ثُمَّ هِيَ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ

تَكْبِيرَةً»، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «لَمْ يَزِدْ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ» وَوَجْهُ الشُّذُوذِ أَنَّ فِعْلَهُ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَاشْتَهَرَ نَقْلُهُ اشْتِهَارًا وَاسِعًا وَلَفَعَلَهُ عُمَرُ حِينَ اسْتَسْقَى وَلَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ؛ لِتَوَافُرِ الْكُلِّ فِي الْخُرُوجِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم لِلِاسْتِسْقَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُنْكِرُوا وَلَمْ يَشْتَهِرْ رِوَايَتُهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى اضْطِرَابٍ فِي كَيْفِيَّتِهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ كَانَ ذَلِكَ شُذُوذًا فِيمَا حَضَرَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّذُوذَ يُرَادُ بِاعْتِبَارِ الطُّرُقِ إلَيْهِمْ، إذْ لَوْ تَيَقَّنَّا عَنْ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ رَفْعَهُ لَمْ يَبْقَ إشْكَالٌ، وَإِذَا مَشَيْنَا عَلَى مَا اخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْجَوَازُ مَعَ عَدَمِ السُّنِّيَّةِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنْ فَعَلَهُ مَرَّةً كَمَا قُلْتُمْ فَقَدْ تَرَكَهُ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: فَلَا وَاَللَّهِ مَا نَرَى بِالسَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ» الْحَدِيثَ (قَوْلُهُ: ثُمَّ هِيَ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) يَعْنِي فَيَكُونُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ وَلِذَا قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا صَرِيحَ فِي الْمَرْوِيَّاتِ يُوَافِقُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ إنَّهَا خُطْبَتَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الْمَرْوِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ» مَعَ رِوَايَةِ الْخُطْبَةِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ السَّابِقَةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ فِيهِ «ثُمَّ خَطَبَنَا وَدَعَا اللَّهَ» فَتَكُونُ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، ثُمَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.

قَوْلُهُ: فَلَمْ يَخْطُبْ بِخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ الْخُطْبَةِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ لَا أَصْلِ الْخُطْبَةِ، فَإِنَّ النَّفْيَ إذَا دَخَلَ عَلَى مُقَيَّدٍ انْصَرَفَ إلَى الْقَيْدِ ثُمَّ أَفَادَ ثُبُوتَ أَصْلِ الْحُكْمِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ الْخَطَابِيَّةِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَنَا، وَمُطْلَقًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ فَلِذَا لَمْ يَنْتَهِضْ. اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى نَفْيِ الْخُطْبَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ يَنْفِيهَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنهما.

وَأَمَّا عَلَى أَصْلِنَا فَحَاصِلُهُ نَفْيُ الْخُطْبَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ أَصْلِهَا نَفْيًا لِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فِي الْأَحْكَامِ فَتَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ، وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْت أَنَّهَا رُوِيَتْ وَلَا بُدَّ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ إذْ كَانَ يَنْفِيهَا أَنْ يَحْكُمَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْوَارِدِ فِيهَا فَيَنْتَفِي الدَّلِيلُ وَنَفْيُ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ يَكْفِي لِنَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.

أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى وُجُودِ الْخُطْبَةِ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ دَلَّ، فَإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ فَقَدْ سَكَتَ عَنْهُ الْحَاكِمُ وَسُكُوتُهُ يُشْعِرُ بِضَعْفِهِ عِنْدَهُ، وَتَقَدَّمَ حُكْمُ الْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أُعِلَّ بِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: هُوَ صَدُوقٌ وَلَكِنْ فِي حَدِيثِهِ وَهْمٌ كَثِيرٌ اهـ. فَلَا يَحْتَمِلُ التَّفَرُّدَ مَعَ هَذَا وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ «خَرَجَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي فَبَدَأَ

ص: 93

(وَلَا خُطْبَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْجَمَاعَةِ وَلَا جَمَاعَةَ عِنْدَهُ (وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالدُّعَاءِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ» (وَيَقْلِبُ رِدَاءَهُ) لِمَا رَوَيْنَا. قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَقْلِبُ رِدَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ.

الصَّلَاةَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ» وَلَمْ يَقُلْ بِاسْتِنَانِهَا وَذَلِكَ لَازِمُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ ضَعْفَهُ لَا يَلْزَمُهُ فِيهِ كَوْنُهُ بِضَعْفِ بَعْضِ الرِّجَالِ بَلْ الْعِلَلُ كَثِيرَةٌ.

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ: فَخَرَجَ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل ثُمَّ قَالَ إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ زَمَانِهِ عَنْكُمْ وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ عز وجل أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ مِنْ الْمِنْبَرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرِقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلَمْ يَأْتِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتْ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إلَى الْكِنِّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنِّي عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» انْتَهَى. قَالَ أَبُو دَاوُد حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

وَذَلِكَ الْكَلَامُ السَّابِقُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْخُطْبَةِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَعَلَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَعَلَّهُ بِهَذِهِ الْغَرَابَةِ أَوْ الِاضْطِرَابِ. فَإِنَّ الْخُطْبَةَ فِيهِ مَذْكُورَةٌ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَهَا وَكَذَا فِي غَيْرِهِ. وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا تَمَّ اسْتِبْعَادُ أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ وَقَعَ حَالَ حَيَاتِهِ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، السَّنَةُ الَّتِي اسْتَسْقَى فِيهَا بِغَيْرِ صَلَاةٍ، وَالسَّنَةُ الَّتِي صَلَّى فِيهَا، وَإِلَّا فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. وَفِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمِنْبَرِ. وَقَالَ الْمَشَايِخُ: لَا يُخْرَجُ وَلَيْسَ إلَّا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ حُكْمِهِمْ بِصِحَّتِهِ، هَذَا وَيُسْتَحْسَنُ أَيْضًا الدُّعَاءُ بِمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَهُوَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا غَدَقًا مُجَلَّلًا سَحًّا عَامًّا طَبَقًا دَائِمًا. اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ. اللَّهُمَّ إنَّ بِالْبِلَادِ وَالْعِبَادِ وَالْخَلْقِ مِنْ اللْأَوَاءِ وَالضَّنْكِ مَا لَا نَشْكُو إلَّا إلَيْكَ. اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ. اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا فَإِذَا مُطِرُوا قَالُوا: اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا، وَيَقُولُونَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَإِنْ زَادَ الْمَطَرُ حَتَّى خِيفَ الضَّرَرُ قَالُوا:

ص: 94

وَمَا رَوَاهُ كَانَ تَفَاؤُلًا (وَلَا يَقْلِبُ الْقَوْمُ أَرْدِيَتَهُمْ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ.

اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» كَبَقِيَّةِ مَا سِيقَ مِنْ الْحَدِيثِ: أَعْنِي الِاسْتِسْقَاءَ عَلَى الْمِنْبَرِ حِينَ قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، قَالَ أَنَسٌ: فَلَا وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا. قَالَ ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكُهَا عَنْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ»

وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِسْقَاءِ إذَا تَأَخَّرَ الْمَطَرُ عَنْ أَوَانِهِ فَعَلَهُ أَيْضًا لَوْ مَلَحَتْ الْمِيَاهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا أَوْ غَارَتْ (قَوْلُهُ: وَمَا رَوَاهُ كَانَ تَفَاؤُلًا) اعْتَرَفَ بِرِوَايَتِهِ وَمَنَعَ اسْتِنَانَهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لِأَمْرٍ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ: لَمْ يُنْقَلْ) قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: الْمُخَرَّجُ لَيْسَ كَذَلِكَ، عِنْدَ أَبِي دَاوُد «اسْتَسْقَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِأَسْفَلِهَا فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا فَلَمَّا ثَقُلَتْ قَلَبَهَا عَلَى عَاتِقِهِ» زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «وَتَحَوَّلَ النَّاسُ مَعَهُ» قَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. انْتَهَى.

وَدَفَعَ بِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فَنَقَلَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَا يَمَسُّهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَقْرِيرَهُ إيَّاهُمْ إذْ حَوَّلُوا أَحَدُ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ تَقْرِيرَهُ الَّذِي هُوَ مِنْ الْحُجَجِ مَا كَانَ عَنْ عِلْمِهِ، وَلَمْ يَدُلَّ شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ عَلَى عِلْمِهِ بِفِعْلِهِمْ ثُمَّ تَقْرِيرُهُ بَلْ اشْتَمَلَ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَنَّهُ إنَّمَا حَوَّلَ بَعْدَ تَحْوِيلِ ظَهْرِهِ إلَيْهِمْ.

ص: 95

(وَلَا يَحْضُرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ الِاسْتِسْقَاءَ)؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِنْزَالِ الرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ.

(بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ)

(إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ جَعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٍ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةٍ خَلْفَهُ،

وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ التَّحْوِيلِ كَانَ تَفَاؤُلًا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَصَحَّحَهُ قَالَ: «حَوَّلَ رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّلَ الْقَحْطُ» . وَفِي طُوَالَاتِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «وَقَلَبَ رِدَاءَهُ لِكَيْ يَنْقَلِبَ الْقَحْطُ إلَى الْخِصْبِ» وَفِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ: لِتَتَحَوَّلَ السَّنَةُ مِنْ الْجَدْبِ إلَى الْخِصْبِ ذَكَرَهُ وَمِنْ قَوْلِ وَكِيعٍ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لِاسْتِنْزَالِ الرَّحْمَةِ وَإِنَّمَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ فَمَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ لِاسْتِنْزَالِ الْغَيْثِ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِهَا. هَذَا وَلَكِنْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَسْتَسْقُوا وَحْدَهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْقَوْا فَقَدْ يُفْتَنُ بِهِ ضُعَفَاءُ الْعَوَامّ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

(بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ)

أَوْرَدَهَا بَعْدَ الِاسْتِسْقَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ شَرْعِيَّتَهُمَا بِعَارِضِ خَوْفٍ لَكِنَّ سَبَبَ هَذَا الْخَوْفِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ سَمَاوِيٌّ، وَهُنَا اخْتِيَارِيٌّ لِلْعِبَادِ وَهُوَ كُفْرُ الْكَافِرِ وَظُلْمُ الظَّالِمِ؛ وَلِأَنَّ أَثَرَ الْعَارِضِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ وَهُنَا فِي وَصْفِهَا (قَوْلُهُ: إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ) اشْتِدَادُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ الشَّرْطُ حُضُورُ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ، فَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا ظَنُّوهُ عَدُوًّا صَلَّوْهَا، فَإِنْ تَبَيَّنَ كَمَا ظَنُّوا جَازَتْ لِتَبَيُّنِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ لَمْ تَجُزْ، إلَّا إنْ ظَهَرَ بَعْدَ أَنْ انْصَرَفَتْ الطَّائِفَةُ مِنْ نَوْبَتِهَا فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ تَتَجَاوَزَ الصُّفُوفَ فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا اسْتِحْسَانًا كَمَنْ انْصَرَفَ عَلَى ظَنِّ الْحَدَثِ يَتَوَقَّفُ الْفَسَادُ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ عَلَى مُجَاوَزَةِ الصُّفُوفِ، وَلَوْ شَرَعُوا بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ فَذَهَبُوا لَا يَجُوزُ

ص: 96

فَيُصَلِّي بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مَضَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ، فَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسَلِّمُوا، وَذَهَبُوا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَصَلُّوا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وُحْدَانًا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ)؛ لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ (وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا وَمَضَوْا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، وَصَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ)؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ (وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا) وَالْأَصْلُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قُلْنَا» .

لَهُمْ الِانْحِرَافُ وَالِانْصِرَافُ لِزَوَالِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ، وَلَوْ شَرَعُوا فِي صَلَاتِهِمْ ثُمَّ حَضَرَ جَازَ الِانْحِرَافُ لِوُجُودِ الْمُبِيحِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا تَلْزَمُ إذَا تَنَازَعَ الْقَوْمُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَتَنَازَعُوا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَمَامَ الصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى إمَامٌ آخَرُ تَمَامَهَا (قَوْلُهُ: فَيُصَلِّي بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ) مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ كَانَتْ الْفَجْرَ أَوْ الْجُمُعَةَ أَوْ الْعِيدَ. (قَوْلُهُ: مَضَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ) يَعْنِي مُشَاةً، فَإِنْ رَكِبُوا فِي ذَهَابِهِمْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ (قَوْلُهُ: وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ) يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمُقِيمُ خَلْفَ الْمُسَافِرِ حَتَّى يَقْضِيَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِلَا قِرَاءَةٍ إنْ كَانَ مِنْ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَبِقِرَاءَةٍ إنْ كَانَ مِنْ الثَّانِيَةِ.

(قَوْلُهُ: وَالْأَصْلُ فِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه إلَخْ) رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ خَفِيفٍ الْجَزَرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامُوا صَفًّا خَلْفَهُ وَصَفًّا مُسْتَقْبِلَ الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِهِمْ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُونَ فَقَامُوا فِي مَقَامِهِمْ وَاسْتَقْبَلَ هَؤُلَاءِ الْعَدُوَّ فَصَلَّى بِهِمْ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ هَؤُلَاءِ فَصَلَّوْا؛ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً وَسَلَّمُوا، ثُمَّ ذَهَبُوا فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوِّ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ إلَى مَقَامِهِمْ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا» وَأُعِلَّ بِأَبِي عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَخَفِيفٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَاهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ فَصَلَّى وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلًّا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ مَشْيُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَإِتْمَامُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فِي مَكَانِهَا مِنْ خَلْفِ الْإِمَامِ وَهُوَ أَقَلُّ تَغَيُّرًا.

وَقَدْ رُوِيَ تَمَامُ صُورَةِ الْكِتَابِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ، وَسَاقَ إسْنَادَ الْإِمَامِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ

ص: 97

وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ أَنْكَرَ شَرْعِيَّتَهَا فِي زَمَانِنَا فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا.

قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ)

بِالْمُنَافِي فِي الصَّلَاةِ فَالْمَوْقُوفُ فِيهِ كَالْمَرْفُوعِ. (قَوْلُهُ: وَأَبُو يُوسُفَ) رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ جَوَازُهَا مُطْلَقًا، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ.

وَصِفَتُهَا عِنْدَهُ فِيمَا إذَا كَانَ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَنْ يُحْرِمُوا مَعَ الْإِمَامِ كُلُّهُمْ وَيَرْكَعُوا، فَإِذَا سَجَدَ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي يَحْرُسُونَهُمْ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَتَقَدَّمَ الثَّانِي، فَإِذَا سَجَدَ سَجَدُوا مَعَهُ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} جَعَلَهُمْ سبحانه وتعالى طَائِفَتَيْنِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَهُ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ لَمْ يَفُتْهُمْ شَيْءٌ.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ انْتَظَرَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ حَتَّى تُصَلِّيَ رَكْعَتَهَا الثَّانِيَةَ وَتُسَلِّمَ وَتَذْهَبَ وَتَأْتِيَ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ انْتَظَرَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ حَتَّى تُصَلِّيَ رَكْعَتَهَا الثَّانِيَةَ وَتَشْهَدَ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا مَعَهُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ هَذَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَلَا يَنْتَظِرُهُمْ فَيُصَلُّونَ رَكْعَتَهُمْ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ، وَالْكُلُّ مِنْ فِعْلِهِ عليه السلام مَقْبُولٌ، وَرَجَّحْنَا نَحْنُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ الْكَيْفِيَّةِ بِأَنَّهُ أَوْفَقُ بِالْمَعْهُودِ اسْتِقْرَارُهُ شَرْعًا فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرْكَعَ الْمُؤْتَمُّ وَيَسْجُدَ قَبْلَ الْإِمَامِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يَنْقَلِبَ مَوْضُوعُ الْإِمَامَةِ حَيْثُ يَنْتَظِرُ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ.

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً إلَّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الْآيَةَ. شَرَطَ لِإِقَامَتِهَا

ص: 98

لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه السلام صَلَّى الظُّهْرَ بِالطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» (وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَاحِدَةً)

كَوْنَهُ فِيهِمْ فَلَا تَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لَا حُجَّةَ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا لِمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ، فَإِذَا قَامَ عَلَى وُجُودِ الْحُكْمِ لَزِمَ وَقَدْ قَامَ هُنَا، وَهُوَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه السلام. انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ اسْتِدْلَالَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ؛ لِيُدْفَعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، بَلْ بِأَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُنَافِي لَا تَجُوزُ فِي الشَّرْعِ ثُمَّ إنَّهُ أَجَازَهَا فِي صُورَةٍ بِشَرْطٍ فَعِنْدَ عَدَمِهِ تَبْقَى عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَدَمِ الشَّرْعِيَّةِ لَا أَنَّ عَدَمَ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِهِ مَدْلُولٌ لِلتَّرْكِيبِ الشَّرْطِيِّ فَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ الْأَصْلَ كَمَا انْتَفَى بِالْآيَةِ حَالَ كَوْنِهِ فِيهِمْ كَذَلِكَ انْتَفَى بَعْدَهُ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَدَلَّ إجْمَاعُهُمْ عَلَى عِلْمِهِمْ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ بِعَدَمِ اخْتِصَاصِهَا بِحَالِ كَوْنِهِ فِيهِمْ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي أَبِي دَاوُد: أَنَّهُمْ غَزَوْا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ كَابُلَ فَصَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْخَوْفِ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا صَلَّاهَا يَوْمَ صَفِّينَ، وَصَلَّاهَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بِأَصْبَهَانَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي حَرْبِ الْمَجُوسِ بِطَبَرِسْتَانَ وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَأَلَهَا سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَعَلَّمَهُ فَأَقَامَهَا.

وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ: يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا، فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا وَلَا يُسَلِّمُونَ، وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ، وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ؛ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا.

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ «أَنَّهُ قَالَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ: يَقُومُ الْإِمَامُ» الْحَدِيثَ. فَالصِّيغَتَانِ فِي الْحَدِيثَيْنِ صِيغَةُ الْفَتْوَى لَا إخْبَارَ عَمَّا كَانَ عليه السلام فَعَلَ وَإِلَّا لَقَالَا: قَامَ عليه السلام فَصَفَّ خَلْفَهُ إلَخْ دُونَ أَنْ يَقُولَ يَقُومُ الْإِمَامُ، وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْأَوَّلِ: قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ فِي الثَّانِي: سَأَلْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَمْ يَرْفَعْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَرَفَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمَا رَوَيْنَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَخْبَرَ بِمَا رَوَى عَنْهُ عليه السلام ثُمَّ يَقُومُ لَا تُصَلَّى بَعْدَهُ.

(قَوْلُهُ: لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى الظُّهْرَ بِالطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ») أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خَوْفٍ الظُّهْرَ فَصَفَّ بَعْضَهُمْ خَلْفَهُ وَبَعْضَهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْطَلَقَ الَّذِينَ صَلَّوْا مَعَهُ فَوَقَفُوا مَوْقِفَ أَصْحَابِهِمْ ثُمَّ جَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّوْا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ

ص: 99

لِأَنَّ تَنْصِيفَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَجَعَلَهَا فِي الْأُولَى أَوْلَى بِحُكْمِ السَّبْقِ.

(وَلَا يُقَاتِلُونَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ فَعَلُوا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ)؛ لِأَنَّهُ عليه السلام شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ،

ثُمَّ سَلَّمَ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعًا وَلِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ» وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ قَالَ: كُنَّا إذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ فَأَخَذَهُ فَاخْتَرَطَهُ ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ، قَالَ فَتَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ. قَالَ: ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ قَالَ: فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ» فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ هُمَا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَعَلَى اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالسَّلَامِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَمَطْلُوبُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُقِيمًا فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ الثَّانِي فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا الظُّهْرُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ حَمْلًا لَهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ. وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ سَكَتَ فِيهِ عَنْ تَسْمِيَةِ الصَّلَاةِ وَعَنْ السَّلَامِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لَزِمَ كَوْنُهُ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهَا غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ ثُمَّ يَلْزَمُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ لَزِمَ إمَّا اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، أَوْ جَوَازُ الْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ، أَوْ خَلْطُ النَّافِلَةِ بِالْمَكْتُوبَةِ قَصْدًا، وَالْكُلُّ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا، وَالْأَخِيرُ مَكْرُوهٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَتْ الْفَرِيضَةُ تُصَلَّى مَرَّتَيْنِ وَتَحْقِيقُهُ مَا سَلَفَ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ. وَإِلَى الْآنَ لَمْ يَتِمَّ دَلِيلٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ مِنْ السُّنَّةِ.

وَالْأَوْلَى فِيهِ التَّمَسُّكُ بِالدَّلَالَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا شُطِرَتْ الصَّلَاةُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي السَّفَرِ غَيْرَ الْمَغْرِبِ كَذَلِكَ فِي الْحَضَرِ عِنْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْخَوْفُ، لَكِنَّ الشَّطْرَ فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ فَيُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ (قَوْلُهُ: فَجَعْلُهَا فِي الْأُولَى أَوْلَى) أَيْ يَتَرَجَّحُ، وَإِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ التَّعَارُضِ فِيهَا لَزِمَ اعْتِبَارُهُ فَلِذَا لَوْ أَخْطَأَ فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ أَمَّا الْأُولَى فَلِانْصِرَافِهِمْ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ؛ فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا أَدْرَكُوا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ صَارُوا مِنْ الطَّائِفَةِ الْأُولَى لِإِدْرَاكِهِمْ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ وَقَدْ انْصَرَفُوا فِي أَوَانِ رُجُوعِهِمْ فَتَبْطُلُ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الِانْصِرَافَ فِي أَوَانِ الْعَوْدِ مُبْطِلٌ، وَالْعَوْدُ فِي أَوَانِ الِانْصِرَافِ لَا يُبْطِلُ؛ لِأَنَّهُ مُقْبِلٌ وَالْأَوَّلُ مُعْرِضٌ، فَلَا يُعْذَرُ إلَّا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ الِانْصِرَافُ فِي أَوَانِهِ، وَلَوْ أَخَّرَ الِانْصِرَافَ ثُمَّ انْصَرَفَ قَبْلَ أَوَانِ عَوْدِهِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ انْصِرَافِهِ مَا لَمْ يَجِئْ أَوَانُ عَوْدِهِ، وَلَوْ جَعَلَهُمْ ثَلَاثَ طَوَائِفَ وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً فَصَلَاةُ الْأُولَى فَاسِدَةٌ وَصَلَاةُ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ صَحِيحَةٌ، وَالْمَعْنَى مَا قَدَّمْنَا وَتُقْضَى الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ أَوَّلًا بِلَا قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ فِيهَا وَتَشَهَّدُوا، ثُمَّ الرَّكْعَةُ بِقِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ وَالْمَسْبُوقُ لَا يَقْضِي مَا سُبِقَ بِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ قَضَاءِ مَا أَدْرَكَهُ وَلَوْ صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً ثُمَّ بِالْأُولَى رَكْعَةً فَسَدَتْ صَلَاةُ الْأُولَى أَيْضًا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ إذَا صَلَّى بِكُلٍّ رَكْعَةً، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَعَلَهُمْ أَرْبَعًا فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَصَلَّى بِكُلِّ رَكْعَةٍ فَسَدَتْ صَلَاةُ

ص: 100

وَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا.

الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ دُونَ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ.

ثُمَّ تَقْضِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ أَوَّلًا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، ثُمَّ الْأُولَى بِقِرَاءَةٍ وَالطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ تَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ، وَيَتَخَيَّرُ مَنْ فِي الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَلَوْ جَعَلَهُمْ طَائِفَتَيْنِ فَصَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ فَانْصَرَفُوا إلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ فَصَلَّى الثَّالِثَةَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَمَا بَعْدَ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ إلَى الْفَرَاغِ أَوَانُ انْصِرَافِهِمْ، وَكَذَا لَوْ انْصَرَفَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ قَبْلَ الْقُعُودِ وَلَوْ انْحَرَفَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ لَا تَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ عَوْدِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَهُوَ مِنْهُمْ لَكِنَّهَا لَا تَفْسُدُ لِانْتِهَاءِ الْأَرْكَانِ حَتَّى لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِأَنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ فَسَدَتْ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ بِكُلِّ حَالٍ لِعَدَمِ الْمُفْسِدِ فِي حَقِّهِ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا) قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إنَّمَا شُرِعَتْ فِي الصَّحِيحِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فَلِذَا لَمْ يُصَلِّهَا إذْ ذَاكَ. وَقَوْلُهُ فِي الْكَافِي: إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَهِيَ قَبْلَ الْخَنْدَقِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةِ أَهْلِ السِّيَرِ فِي تَارِيخِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ الْغَزْوَةِ. وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي طَرِيقِ حَدِيثِ الْخَنْدَقِ لِلنَّسَائِيِّ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ «حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ» فَذَكَرَهُ إلَى أَنْ قَالَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} انْتَهَى.

وَهَذَا لَا يَمَسُّ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ حَالَةَ الْقِتَالِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُفِيدُ الصَّلَاةَ رَاكِبًا لِلْخَوْفِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْقِتَالِ، فَالْحَقُّ أَنَّ نَفْسَ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِالصِّفَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ إنَّمَا شُرِعَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَإِنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ. ثُمَّ لَا يَضُرُّنَا فِي مُدَّعَى الْمُصَنِّفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عليه السلام صَلَّى بِعُسْفَانَ صَلَاةَ الْخَوْفِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلًا بَيْنَ ضَجْنَانَ وَعُسْفَانَ فَحَاصَرَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةً هِيَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ثُمَّ مِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ أَصْحَابَهُ نِصْفَيْنِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ:«كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدٌ فَسَاقَهُ وَقَالَ فَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ فَفَرَّقَنَا فِرْقَتَيْنِ» الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

وَلَا خِلَافَ أَنَّ غَزْوَةَ عُسْفَانَ كَانَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى الْخَوْفَ بِذَاتِ الرِّقَاعِ» عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ، فَلَزِمَ أَنَّهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَبَعْدَ عُسْفَانَ وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ شَهِدَا غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى «أَنَّهُ شَهِدَ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَلُفُّونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ الْخِرَقَ لَمَّا نُقِبَتْ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ» ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالسُّنَنِ «أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ: هَلْ صَلَّيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ مَتَى؟ قَالَ عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَإِنَّ إسْلَامَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ

ص: 101

(فَإِنْ اشْتَدَّ الْخَوْفُ صَلَّوْا رُكْبَانًا فُرَادَى يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءُوا إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} وَسَقَطَ التَّوَجُّهُ لِلضَّرُورَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ الْمُصَلُّونَ بِجَمَاعَةٍ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِانْعِدَامِ الِاتِّحَادِ فِي الْمَكَانِ.

وَهِيَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، فَهِيَ بَعْدُ مَا هُوَ بَعْدُ، فَمَنْ جَعَلَهَا قَبْلَ الْخَنْدَقِ فَقَدْ وَهِمَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُدَّعِي أَنْ لَا تُصَلَّى حَالَةَ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُسَايَفَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَأْخِيرُهُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، إذْ لَوْ جَازَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَشْرُوعَ بَعْدَهَا مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ لَمْ يُفِدْ جَوَازُهُ، وَإِنْ اشْتَمَلَتْ الْآيَةُ عَلَى الْأَمْرِ بِأَخْذِ الْأَسْلِحَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الِاسْتِئْنَافِ إنْ وَقَعَ مُحَارَبَةٌ، فَالْقَدْرُ الْمُتَحَقِّقُ مِنْ فَائِدَةِ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الْأَسْلِحَةِ إبَاحَةُ الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ بَلْ هُوَ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ.

فَأَفَادَتْ حِلَّ فِعْلِ هَذَا الْمُفْسَدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرَامًا فَيَبْقَى كُلُّ مَا عُلِمَ عَلَى مَا عُلِمَ مَا لَمْ يَنْفِهِ نَافٍ، وَاَلَّذِي كَانَ مَعْلُومًا حُرْمَةُ مُبَاشَرَةِ الْمُفْسِدِ وَثُبُوتُ الْفَسَادِ بِفِعْلِهِ. وَالْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ الْأَمْرُ بِأَخْذِ الْأَسْلِحَةِ رَفْعُ الْحُرْمَةِ لَا غَيْرُ فَيَبْقَى الْآخَرُ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ) بِأَنْ لَا يَدَعَهُمْ الْعَدُوُّ يُصَلُّونَ نَازِلِينَ بَلْ يُهَاجِمُونَهُمْ (قَوْلُهُ: وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِجَمَاعَةٍ) يَعْنِي الرُّكْبَانَ (قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ الِاتِّحَادِ فِي الْمَكَانِ) لَكِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: قَدْ جُوِّزَ لَهُمْ مَا أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ وَالِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ. وَالْجَوَابُ بِأَنَّ مَا ثَبَتَ شَرْعًا مِمَّا لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهَا لَا يَتَعَدَّى بِهَا، إنَّمَا يَنْتَهِضُ إذَا كَانَ إلْحَاقُ مُحَمَّدٍ بِالْقِيَاسِ لَكِنَّهُ بِالدَّلَالَةِ حَيْثُ قَالَ: جُوِّزَ لَهُمْ مَا هُوَ أَشَدُّ لَكِنَّ تَمَامَهُ مَوْقُوفٌ، عَلَى أَنَّهُ تَجْوِيزُ مَا هُوَ أَشَدُّ شَرْعًا كَانَ لِحَاجَةِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُفْتَقَرُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ اجْتِهَادٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، هَذَا وَلَوْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَجَازَ اقْتِدَاءُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا بِالْمُتَقَدِّمِ اتِّفَاقًا.

ص: 102

(بَابُ الْجَنَائِزِ)

(وَإِذَا اُحْتُضِرَ الرَّجُلُ وُجِّهَ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَارُ فِي بِلَادِنَا الِاسْتِلْقَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ لِخُرُوجِ الرُّوحِ وَالْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ (وَلُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:

(بَابُ الْجَنَائِزِ)

صَلَاةُ الْجِنَازَةِ صَلَاةٌ مِنْ وَجْهٍ لَا مُطْلَقَةٌ، ثُمَّ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَارِضٍ هُوَ آخِرُ مَا يَعْرِضُ لِلْحَيِّ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَقِلُّ بِمُنَاسَبَةِ تَأْخِيرِهَا عَنْ كُلِّ الصَّلَوَاتِ فَكَيْفَ وَقَدْ اجْتَمَعَا. وَلِهَذِهِ الصَّلَاةِ كَغَيْرِهَا صِفَةٌ وَسَبَبٌ وَشَرْطٌ، وَرُكْنٌ وَسُنَنٌ وَآدَابٌ. أَمَّا صِفَتُهَا فَفَرْضُ كِفَايَةٍ. وَسَبَبُهَا الْمَيِّتُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ قَضَاءً لِحَقِّهِ. وَرُكْنُهَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَأَمَّا شَرْطُهَا فَمَا هُوَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ وَتَزِيدُ هَذِهِ بِأُمُورٍ سَنَذْكُرُهَا. وَسُنَنُهَا كَوْنُهُ مُكَفَّنًا بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَوْ بِثِيَابِهِ فِي الشَّهِيدِ، وَكَوْنُ هَذَا مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ تَسَاهُلًا، وَآدَابُهَا كَغَيْرِهَا، وَالْجِنَازَةُ بِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ وَبِالْكَسْرِ السَّرِيرُ.

وَالْمُحْتَضَرُ مَنْ قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ، وُصِفَ بِهِ لِحُضُورِ مَوْتِهِ أَوْ مَلَائِكَةِ الْمَوْتِ، وَعَلَامَاتُ الِاحْتِضَارِ أَنْ تَسْتَرْخِيَ قَدَمَاهُ فَلَا يَنْتَصِبَانِ، وَيَتَعَوَّجُ أَنْفُهُ وَتَنْخَسِفُ صُدْغَاهُ، وَتَمْتَدُّ جِلْدَةُ خُصْيَيْهِ؛ لِانْشِمَارِ الْخُصْيَتَيْنِ بِالْمَوْتِ. وَلَا يَمْتَنِعُ حُضُورُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَقْتَ الِاحْتِضَارِ

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أَيْسَرُ) لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ وَجْهٌ وَلَا يُعْرَفُ إلَّا نَقْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَيْسَرِ مِنْهُمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَيْسَرُ لِتَغْمِيضِهِ وَشَدِّ لَحْيَيْهِ، وَأَمْنَعُ مِنْ تَقَوُّسِ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ إذَا أُلْقِيَ عَلَى الْقَفَا يُرْفَعُ رَأْسُهُ قَلِيلًا لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ دُونَ السَّمَاءِ (قَوْلُهُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ) أَمَّا تَوْجِيهُهُ «؛ فَلِأَنَّهُ عليه السلام لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَلَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَقَالُوا تُوُفِّيَ وَأَوْصَى بِثُلُثِهِ لَكَ، وَأَوْصَى أَنْ يُوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ لَمَّا اُحْتُضِرَ، فَقَالَ عليه السلام أَصَابَ الْفِطْرَةَ، وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلُثَهُ عَلَى وَلَدِهِ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ.

وَأَمَّا أَنَّ السُّنَّةَ كَوْنُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَقِيلَ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِحَدِيثِ النَّوْمِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ وَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي سَلَّمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ، إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ مِتَّ مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ» وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْقِبْلَةِ، وَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أُمِّ سَلْمَى قَالَتْ اشْتَكَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها شَكَوَاهَا الَّتِي قُبِضَتْ فِيهَا فَكُنْتُ أُمَرِّضُهَا، فَأَصْبَحَتْ يَوْمًا كَأَمْثَلِ

ص: 103

«لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالْمُرَادُ الَّذِي قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ (فَإِذَا مَاتَ شُدَّ لَحْيَاهُ وَغُمِّضَ عَيْنَاهُ) بِذَلِكَ جَرَى التَّوَارُثُ، ثُمَّ فِيهِ تَحْسِينُهُ فَيُسْتَحْسَنُ.

مَا رَأَيْتهَا، وَخَرَجَ عَلِيٌّ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَتْ: يَا أُمَّهْ أَعْطِنِي ثِيَابِي الْجُدُدَ، فَأَعْطَيْتهَا فَلَبِسَتْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أُمَّهْ قَدِّمِي لِي فِرَاشِي وَسَطَ الْبَيْتِ، فَفَعَلْت وَاضْطَجَعَتْ فَاسْتَقْبَلَتْ الْقِبْلَةَ، وَجَعَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ خَدِّهَا، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أُمَّهْ إنِّي مَقْبُوضَةٌ الْآنَ وَقَدْ تَطَهَّرْتُ فَلَا يَكْشِفْنِي أَحَدٌ، فَقُبِضَتْ مَكَانَهَا فَضَعِيفٌ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ شَاهِينَ فِي بَابِ الْمُحْتَضَرِ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ لَهُ غَيْرَ أَثَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ " يَسْتَقْبِلُ الْمَيِّتُ الْقِبْلَةَ " وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ نَحْوُهُ بِزِيَادَةِ " عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مَا عَلِمْتُ أَحَدًا تَرَكَهُ مِنْ مَيِّتٍ "، وَلِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ وَمِنْ اضْطِجَاعِهِ فِي مَرَضِهِ.

وَالسُّنَّةُ فِيهِمَا ذَلِكَ فَكَذَا فِيمَا قَرُبَ مِنْهُمَا. وَحَدِيثُ «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ الْخُدْرِيِّ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ نَحْوَهُ سَوَاءً (قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ الَّذِي قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ) مِثْلُ لَفْظِ الْقَتِيلِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» .

وَأَمَّا التَّلْقِينُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ فِي الْقَبْرِ فَقِيلَ يُفْعَلُ لِحَقِيقَةِ مَا رَوَيْنَا، وَنُسِبَ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَخِلَافُهُ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ لَا يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ يَا ابْنَ فُلَانٍ اُذْكُرْ دِينَك الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَيَجِبُ تَعْيِينُهُ.

وَمَا فِي الْكَافِي مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَاتَ مُسْلِمًا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِلَّا لَمْ يُفِدْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ الصَّارِفَ: يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّذْكِيرُ فِي وَقْتِ تَعَرُّضِ الشَّيْطَانِ وَهَذَا لَا يُفِيدُ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَقَدْ يَخْتَارُ الشِّقَّ الْأَوَّلَ وَالِاحْتِيَاجُ إلَيْهِ فِي حَقِّ التَّذْكِيرِ لِتَثْبِيتِ الْجَنَانِ لِلسُّؤَالِ فَنَفْيُ الْفَائِدَةِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ. نَعَمْ الْفَائِدَةُ الْأَصْلِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ. وَعِنْدِي أَنَّ مَبْنَى ارْتِكَابِ هَذَا الْمَجَازِ هُنَا عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا هُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَسْمَعُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي بَابِ الْيَمِينِ بِالضَّرْبِ. لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ مَيِّتًا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَا يُفْهَمُ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِعَدَمِ السَّمَاعِ. وَأَوْرَدَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ الْقَلِيبِ أَقُولُ مِنْهُمْ وَأَجَابُوا تَارَةً بِأَنَّهُ مَرْدُودٌ مِنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَيْفَ يَقُولُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وَتَارَةً بِأَنَّ تِلْكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم مُعْجِزَةٌ وَزِيَادَةُ حَسْرَةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ مِنْ ضَرْبِ الْمِثْلِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه.

وَيَشْكُلُ عَلَيْهِمْ مَا فِي مُسْلِمٍ «إنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إذَا انْصَرَفُوا» اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخُصُّوا ذَلِكَ بِأَوَّلِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ مُقَدِّمَةً لِلسُّؤَالِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ تَحْقِيقَ عَدَمِ سَمَاعِهِمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الْكُفَّارَ بِالْمَوْتَى لِإِفَادَةِ تَعَذُّرِ سَمَاعِهِمْ وَهُوَ فَرْعُ عَدَمِ سَمَاعِ الْمَوْتَى، إلَّا أَنَّهُ عَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي التَّلْقِينُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَ إرْجَاعِ الرُّوحِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ لَفْظُ مَوْتَاكُمْ فِي حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ الْآنَ حَيٌّ، إذْ لَيْسَ مَعْنَى الْحَيِّ إلَّا مَنْ فِي بَدَنِهِ الرُّوحُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ

ص: 104

(فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ)

(وَإِذَا مَا أَرَادُوا غُسْلَهُ

فِي التَّلْقِينِ حَالَةَ الِاحْتِضَارِ، إذْ لَا يُرَادُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا وَلَا مَجَازِيَّانِ، وَلَيْسَ يَظْهَرُ مَعْنَى يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ وَالْمَجَازِيَّ يُعْتَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ؛ لِيَكُونَ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ لِلتَّضَادِّ، وَشَرْطُ إعْمَالِهِ فِيهِمَا أَنْ لَا يَتَضَادَّا.

ثُمَّ يَنْبَغِي فِي التَّلْقِينِ فِي الِاحْتِضَارِ أَنْ يُقَالَ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ وَلَا يُقَالُ لَهُ قُلْ. قَالُوا: وَإِذَا ظَهَرَ مِنْهُ كَلِمَاتٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ، وَلِذَا اخْتَارَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنْ يَذْهَبَ عَقْلُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِهَذَا الْخَوْفِ، وَبَعْضُهُمْ اخْتَارُوا قِيَامَهُ حَالَ الْمَوْتِ، وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ مُؤْلِفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَوَّضَ أَمْرَهُ إلَى الرَّبِّ الْغَنِيِّ الْكَرِيمِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ طَالِبًا مِنْهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ أَنْ يَرْحَمَ عَظِيمَ فَاقَتِي بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِيقَانِ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، ثُمَّ يَقُولُ مُغْمِضُهُ بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اللَّهُمَّ يَسِّرْ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَسَهِّلْ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَأَسْعِدْهُ بِلِقَائِك، وَاجْعَلْ مَا خَرَجَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا خَرَجَ عَنْهُ.

(فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ)

غُسْلُ الْمَيِّتِ فَرْضٌ بِالْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ خُنْثَى مُشْكِلًا فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ: قِيلَ يُيَمَّمُ، وَقِيلَ يُغَسَّلُ فِي ثِيَابِهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَسَنَدُ الْإِجْمَاعِ فِي السُّنَّةِ: قِيلَ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْنَى. أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوَانَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ آدَم رَجُلًا أَشْعَرَ طُوَالًا كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ نَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ بِحَنُوطِهِ وَكَفَنِهِ مِنْ الْجَنَّةِ» فَلَمَّا مَاتَ عليه السلام غَسَّلُوهُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ ثَلَاثًا وَجَعَلُوا فِي الثَّالِثَةِ كَافُورًا، وَكَفَّنُوهُ فِي وِتْرٍ مِنْ الثِّيَابِ، وَحَفَرُوا لَهُ لَحْدًا وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: هَذِهِ سُنَّةُ وَلَدِ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ وَسَكَتَ عَنْهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ عَنْ عَتِيِّ بْنِ ضَمْرَةَ السَّعْدِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا نَحْوُهُ، وَفِيهِ قَالُوا «يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ فَكَذَاكُمْ فَافْعَلُوا» وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ؛ لِأَنَّ عَتِيَّ بْنَ ضَمْرَةَ لَيْسَ لَهُ رَاوٍ غَيْرُ الْحَسَنِ.

وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ

ص: 105

وَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرٍ) لِيَنْصَبَّ الْمَاءُ عَنْهُ (وَجَعَلُوا عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً) إقَامَةً لِوَاجِبِ السَّتْرِ، وَيَكْتَفِي بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ

رَاحِلَتُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِيهِ «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُنَّ فِي ابْنَتِهِ «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَقَدْ غُسِّلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَالنَّاسُ يَتَوَارَثُونَهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ تَرْكُهُ إلَّا فِي الشَّهِيدِ. وَمَا فِي الْكَافِي عَنْهُ عليه السلام «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ثَمَانِيَةُ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْهَا غُسْلَ الْمَيِّتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عليه السلام «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» فَزَادَ «وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ» .

ثُمَّ عَقَلَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ أَنَّ إيجَابَهُ لِقَضَاءِ حَقِّهِ فَكَانَ عَلَى الْكِفَايَةِ لِصَيْرُورَةِ حَقِّهِ مَقْضِيًّا بِفِعْلِ الْبَعْضِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى؛ فَلِأَنَّهُ كَإِمَامِ الْقَوْمِ حَتَّى لَا تَصِحَّ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ، وَطَهَارَةُ الْإِمَامِ شَرْطٌ فَكَذَا طَهَارَتُهُ فَهُوَ فَرْعُ ثُبُوتِ وُجُوبِ غُسْلِهِ سَمْعًا فَلَيْسَ هُوَ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهِ فِي إفَادَةِ وُجُوبِ الْغُسْلِ. هَذَا وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ وُجُوبِهِ قِيلَ لَيْسَ لِنَجَاسَةٍ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ بَلْ لِلْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ سَبَبٌ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْحَيِّ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ لِلْحَرَجِ لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِ سَبَبِ الْحَدَثِ مِنْهُ.

فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْ سَبَبُ الْحَرَجِ فِي الْمَيِّتِ عَادَ الْأَصْلُ؛ وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْحَدَثِ تَزُولُ بِالْغُسْلِ لَا نَجَاسَةُ الْمَوْتِ لِقِيَامِ مُوجِبِهَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ وَهُوَ الْأَقْيَسُ سَبَبُهُ نَجَاسَةُ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ حَيَوَانٌ دَمَوِيٌّ فَيَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَلِذَا لَوْ حَمَلَ مَيِّتًا قَبْلَ غُسْلِهِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَلَوْ كَانَ لِلْحَدَثِ لَصَحَّتْ كَحَمْلِ الْمُحْدِثِ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآدَمِيَّ الْمُسْلِمَ خُصَّ بِاعْتِبَارِ نَجَاسَتِهِ الْمَوْتِيَّةِ زَائِلَةً بِالْغُسْلِ تَكْرِيمًا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ حَامِلِهِ بَعْدَهُ. وَقَوْلُكُمْ نَجَاسَةُ الْمَوْتِ لَا تَزُولُ لِقِيَامِ مُوجِبِهَا مُشْتَرِكَ الْإِلْزَامِ فَإِنَّ سَبَبَ الْحَدَثِ أَيْضًا قَائِمٌ بَعْدَ الْغُسْلِ.

وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» فَإِنْ صَحَّتْ وَجَبَ تَرْجِيحُ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ. وَهَلْ يُغَسَّلُ الْكَافِرُ إنْ كَانَ لَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ، وَهُوَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ؟ غَسَّلَهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ الْغُسْلِ بَلْ كَغَسْلِ الثَّوْبِ النَّجِسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يُغَسَّلُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِلْغُسْلِ النِّيَّةُ؟. الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِإِسْقَاطِ وُجُوبِهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ لَا لِتَحْصِيلِ طَهَارَتِهِ هُوَ، وَشَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَيِّتِ إذَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ أَوْ جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِالْغُسْلِ. انْتَهَى.

وَلِأَنَّا لَمْ نَقْضِ حَقَّهُ بَعْدُ. وَقَالُوا فِي الْغَرِيقِ: يُغَسَّلُ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةٍ: إنْ نَوَى الْغُسْلَ عِنْدَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْمَاءِ يُغَسَّلُ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَثَلَاثًا. جَعَلَ حَرَكَةَ الْإِخْرَاجِ بِالنِّيَّةِ غَسْلَةً، وَعَنْهُ يُغَسَّلُ مَرَّةً وَاحِدَةً كَأَنَّ هَذِهِ ذَكَرَ فِيهَا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ (قَوْلُهُ: وَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرٍ) قِيلَ طِوَالًا إلَى الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ عَرْضًا. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الْأَصَحُّ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ (قَوْلُهُ: وَوَضَعُوا عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً)؛ لِأَنَّ الْعَوْرَةَ لَا يَسْقُطُ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ، قَالَ عليه السلام لِعَلِيٍّ «لَا تَنْظُرْ إلَى فَخْذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَلِذَا لَا يَجُوزُ تَغْسِيلُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَا

ص: 106

هُوَ الصَّحِيحُ تَيْسِيرًا (وَنَزَعُوا ثِيَابَهُ) لِيُمْكِنَهُمْ التَّنْظِيفُ.

(وَوُضُوءُهُ مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَلَا اسْتِنْشَاقٍ)؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ سُنَّةُ

يَجِبُ عَلَى الْغَاسِلِ فِي اسْتِنْجَاءِ الْمَيِّتِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنْ يَلُفَّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً لِيَغْسِلَ سَوْءَتَهُ، وَكَذَا عَلَى الرِّجَالِ إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَلَا امْرَأَةً تُغَسِّلُهَا أَنْ يُيَمِّمَهَا رَجُلٌ وَيَلُفَّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً لِذَلِكَ، وَلَا يُسْتَنْجَى الْمَيِّتُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (قَوْلُهُ: هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَنْ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُسْتَرُ مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ، وَصَحَّحَهَا فِي النِّهَايَةِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ آنِفًا (وَقَوْلُهُ وَنَزَعُوا عَنْهُ ثِيَابَهُ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ وَاسِعِ الْكُمَّيْنِ أَوْ يُشْرَطُ كُمَّاهُ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ.

قُلْنَا: ذَاكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ عليه السلام بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا نُجَرِّدُهُ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ نُغَسِّلُهُ فِي ثِيَابِهِ؟ فَسَمِعُوا هَاتِفًا يَقُولُ: لَا تُجَرِّدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةٍ: اغْسِلُوهُ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَادَتَهُمْ الْمُسْتَمِرَّةَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم التَّجْرِيدُ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَيَتَنَجَّسُ الْمَيِّتُ بِهِ وَيَشِيعُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ إلَّا طِيبٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا.

(قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَاسْتِنْشَاقٍ) وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَلُفَّ الْغَاسِلُ عَلَى أَصَابِعِهِ خِرْقَةً يَمْسَحُ بِهَا أَسْنَانَهُ وَلَهَاتَهُ وَشَفَتَيْهِ وَمَنْخِرَيْهِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَهَلْ يُمْسَحُ رَأْسُهُ فِي رِوَايَةِ صَلَاةِ الْأَثَرِ لَا؟ وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُمْسَحَ وَلَا يُؤَخَّرُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ عَنْ الْغُسْلِ وَلَا يُقَدَّمُ غَسْلُ يَدَيْهِ بَلْ يُبْدَأُ بِوَجْهِهِ، وَبِخِلَافِ الْجُنُبِ؛ لِأَنَّهُ يَتَطَهَّرُ بِهِمَا، وَالْمَيِّتُ يُغَسَّلُ بِيَدِ غَيْرِهِ.

قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: مَا ذُكِرَ مِنْ الْوُضُوءِ

ص: 107

الِاغْتِسَالِ، غَيْرَ أَنَّ إخْرَاجَ الْمَاءِ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَيُتْرَكَانِ (ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ) اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ.

(وَيُجَمَّرُ سَرِيرُهُ وِتْرًا) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يُوتَرُ؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام «إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» .

(وَيَغْلِي الْمَاءَ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرَضِ) مُبَالَغَةً فِي التَّنْظِيفِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ) لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ

فِي حَقِّ الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الصَّلَاةَ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَعْقِلُهَا فَيُغَسَّلُ وَلَا يُوَضَّأُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يُصَلِّي (قَوْلُهُ: ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ) فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ الْغُسْلَ الْمَسْنُونَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَوَضَّأَ ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَيُجَمَّرُ سَرِيرُهُ وِتْرًا) أَيْ يُبَخَّرُ، وَهُوَ أَنْ يَدُورَ مَنْ بِيَدِهِ الْمِجْمَرَةُ حَوْلَ سَرِيرِهِ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، وَإِنَّمَا يُوتَرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عليه السلام «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، إنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ فَأَوْتِرُوا» وَجَمِيعُ مَا يُجَمَّرُ فِيهِ الْمَيِّتُ ثَلَاثٌ: عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ وَعِنْدَ غُسْلِهِ وَعِنْدَ تَكْفِينِهِ، وَلَا يُجَمَّرُ خَلْفَهُ وَلَا فِي الْقَبْرِ؛ لِمَا رُوِيَ «لَا تُتْبِعُوا الْجِنَازَةَ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ» .

(قَوْلُهُ: وَيَغْلِي الْمَاءُ بِالسِّدْرِ إلَخْ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُغْلِي، وَحَدِيثُ غُسْلِ آدَمَ وَقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: كَذَلِكَ فَافْعَلُوا، ثُمَّ تَقْرِيرُهُ فِي شَرِيعَتِنَا بِثُبُوتِ التَّصْرِيحِ بِبَقَاءِ ذَلِكَ وَهُوَ وَقَوْلُهُ عليه السلام فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» وَفِي ابْنَتِهِ «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا» يُفِيدُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنْظِيفِ لَا أَصْلُ التَّطْهِيرِ، وَإِلَّا فَالْمَاءُ كَافٍ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَسْخِينَهُ كَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ فِي تَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ فَكَانَ مَطْلُوبًا شَرْعًا، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْوَجْهِ إلْحَاقُ التَّسْخِينِ بِخَلْطِهِ بِالسِّدْرِ فِي حُكْمٍ هُوَ الِاسْتِحْبَابُ بِجَامِعِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْظِيفِ، وَمَا يُخَالُ مَانِعًا وَهُوَ كَوْنُ سُخُونَتِهِ تُوجِبُ انْحِلَالَ مَا فِي الْبَاطِنِ فَيَكْثُرُ الْخَارِجُ هُوَ عِنْدَنَا دَاعٍ لَا مَانِعٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَتِمُّ إذْ يَحْصُلُ بِاسْتِفْرَاغِ مَا فِي الْبَاطِنِ تَمَامُ النَّظَافَةِ وَالْأَمَانُ مِنْ تَلْوِيثِ الْكَفَنِ عِنْدَ حَرَكَةِ

ص: 108

(وَيُغْسَلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ) لِيَكُونَ أَنْظَفَ لَهُ.

(ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيُغْسَلُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ حَتَّى يُرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ، ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغْسَلُ حَتَّى يُرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هُوَ الْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ (ثُمَّ يُجْلِسُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا) تَحَرُّزًا عَنْ تَلْوِيثِ الْكَفَنِ.

(فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ وَلَا يُعِيدُ غُسْلَهُ وَلَا وُضُوءَهُ)؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَقَدْ حَصَلَ مَرَّةً

الْحَامِلِينَ، وَالْحَرَضُ أُشْنَانٌ غَيْرُ مَطْحُونٍ، وَالْمَاءُ الْقَرَاحُ الْخَالِصُ وَإِنَّمَا يُغْسَلُ رَأْسُهُ بِالْخِطْمِيِّ: أَيْ خِطْمِيِّ الْعِرَاقِ إذَا كَانَ فِيهِ شَعْرٌ.

(قَوْلُهُ: ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالْمَيَامِنِ سُنَّةٌ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ «لَمَّا غَسَّلْنَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» وَهُوَ دَلِيلُ تَقْدِيمِ وُضُوءِ الْمَيِّتِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ غَسَلَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ مِنْ غَيْرِ تَسْرِيحٍ، ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لِتَكُونَ الْبُدَاءَةُ فِي الْغُسْلِ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسَّلُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خَلَصَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ وَهُوَ الْجَانِبُ الْأَيْسَرُ، وَهَذِهِ غَسْلَةٌ، ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ فَيُغْسَلُ بِالْمَاءِ الْمَغْلِيِّ فِيهِ سِدْرٌ أَوْ حَرَضٌ إنْ كَانَ حَتَّى يُنَقِّيَهُ وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ وَهُوَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ وَهَذِهِ ثَانِيَةٌ، ثُمَّ تُقْعِدُهُ وَتُسْنِدُهُ إلَيْك وَتَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلْت ذَلِكَ الْمَحَلَّ الْمُصَابَ ثُمَّ تُضْجِعُهُ عَلَى الْأَيْسَرِ فَتَصُبُّ غَاسِلًا بِالْمَاءِ الَّذِي فِيهِ الْكَافُورُ وَقَدْ تَمَّتْ الثَّلَاثُ. وَلَمْ يَفْصِلْ الْمُصَنِّفُ فِي مِيَاهِ الْغَسَلَاتِ بَيْنَ الْقَرَاحِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ الْحَاكِمِ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالْقَرَاحِ أَوَّلًا لِيَبْتَلَّ مَا عَلَيْهِ الدَّرَنُ بِالْمَاءِ أَوَّلًا فَيَتِمُّ قَلْعُهُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، ثُمَّ يَحْصُلُ تَطْيِيبُ الْبَدَنِ بَعْدَ النَّظَافَةِ بِمَاءِ الْكَافُورِ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُغْسَلَ الْأُولَيَانِ بِالسِّدْرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ هُنَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ «أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْغُسْلَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، يُغْسَلُ بِالسِّدْرِ مَرَّتَيْنِ وَالثَّالِثَ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ» وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، ثُمَّ يُنَشَّفُ ثُمَّ يُقَمَّصُ ثُمَّ يُبْسَطُ الْكَفَنُ عَلَى مَا نَذْكُرُ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهِ، فَإِذَا وُضِعَ مُقَمَّصًا عَلَيْهِ وُضِعَ حِينَئِذٍ الْحَنُوطُ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ، وَالْكَافُورُ عَلَى مَسَاجِدِهِ وَمَا تَيَسَّرَ مِنْ الطِّيبِ إلَّا مَا سَنَذْكُرُ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ الْغُسْلَ) أَيْ الْمَفْعُولَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ عُرِفَ

ص: 109

(ثُمَّ يُنَشِّفُهُ بِثَوْبٍ) كَيْ لَا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ (وَيَجْعَلُهُ) أَيْ الْمَيِّتَ (فِي أَكْفَانِهِ وَيَجْعَلُ الْحَنُوطَ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَالْكَافُورَ عَلَى مَسَاجِدِهِ)؛ لِأَنَّ التَّطَيُّبَ سُنَّةٌ وَالْمَسَاجِدُ أَوْلَى بِزِيَادَةِ الْكَرَامَةِ.

(وَلَا يُسَرَّحُ شَعْرُ الْمَيِّتِ وَلَا لِحْيَتُهُ وَلَا يُقَصُّ ظُفُرُهُ وَلَا شَعْرُهُ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: عَلَامَ تَنْصُونَ مَيِّتَكُمْ،

وُجُوبُهُ بِالنَّصِّ مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ قِيَامِ سَبَبِ النَّجَاسَةِ وَالْحَدَثِ وَهُوَ الْمَوْتُ مَرَّةً وَاحِدَةً أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ قَبْلَ خُرُوجِ شَيْءٍ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يُعَادُ الْوُضُوءُ وَلَا الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بَعْدَ إعَادَتِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ. وَالْحَنُوطُ عِطْرٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَشْيَاءَ طَيِّبَةٍ، وَمَسَاجِدُهُ مَوَاضِعُ سُجُودِهِ جَمْعُ مَسْجَدٍ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، وَهِيَ الْجَبْهَةُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالرِّجْلَانِ، وَلَا بَأْسَ بِسَائِرِ الطِّيبِ إلَّا الزَّعْفَرَانَ وَالْوَرْسَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لَا الْمَرْأَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِسْكٌ فَأَوْصَى أَنْ يُحَنَّطَ بِهِ وَقَالَ: هُوَ فَضْلُ حَنُوطِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 110

وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلزِّينَةِ وَقَدْ اسْتَغْنَى الْمَيِّتُ عَنْهَا، وَفِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا لِاجْتِمَاعِ الْوَسَخِ وَصَارَ كَالْخِتَانِ.

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إسْنَادٌ حَسَنٌ.

(قَوْلُهُ: لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: عَلَامَ تَنْصُونَ مَيِّتَكُمْ) تَنْصُونَ بِوَزْنِ تَبْكُونَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَصَوْت الرَّجُلَ إذَا مَدَدْت نَاصِيَتَهُ، فَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْرِيحِ الرَّأْسِ، وَعَبَّرَتْ بِالْأَخْذِ بِالنَّاصِيَةِ تَنْفِيرًا عَنْهُ، وَبَنَتْ عَلَيْهِ الِاسْتِعَارَةَ التَّبَعِيَّةَ فِي الْفِعْلِ وَالْأَثَرِ.

رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّهَا رَأَتْ امْرَأَةً يَكُدُّونَ رَأْسَهَا بِمُشْطٍ فَقَالَتْ: عَلَامَ تَنْصُونَ مَيِّتَكُمْ " وَرَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بِهِ وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الْمَيِّتِ يُسَرَّحُ رَأْسُهُ فَقَالَتْهُ.

[فُرُوعٌ] لَا يُغَسِّلُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ سَيِّدَهَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْأَوَّلِ وَلِزُفَرَ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أَجْنَبِيَّتَيْنِ، وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ لِلِاسْتِبْرَاءِ لَا أَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْوَصْلَةِ الشَّرْعِيَّةِ، بِخِلَافِ عِدَّةِ الزَّوْجَةِ فَلِذَا تُغَسِّلُ هِيَ زَوْجَهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحْرِمَةً أَوْ صَائِمَةً أَوْ مُظَاهَرًا مِنْهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً عَنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ بِأَنْ تَزَوَّجَتْ الْمَنْكُوحَةُ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَرُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ فَمَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ انْقَضَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ غَسَّلَتْهُ، وَإِلَّا إنْ كَانَتْ أُخْتَانِ أَقَامَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَدَخَلَ بِهَا وَلَا يُدْرَى الْأُولَى مِنْهُمَا، أَوْ كَانَ قَالَ لِنِسَائِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَلَا تُغَسِّلُهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ.

وَلَوْ بَانَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ بِرِدَّتِهَا أَوْ تَمْكِينِهَا ابْنَهُ

ص: 111

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَوْ طَلَاقِهِ لَا تُغَسِّلُهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَلَوْ ارْتَدَّتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَسْلَمَتْ قَبْلَ غُسْلِهِ لَا تُغَسِّلُهُ، خِلَافًا لِزُفَرَ فِي هَذَا. هُوَ يَقُولُ: الرِّدَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَرْفَعُ النِّكَاحَ لِارْتِفَاعِهِ بِالْمَوْتِ وَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ بِالْإِسْلَامِ فِي الْعِدَّةِ بِخِلَافِهَا قَبْلَهُ، وَالْعِدَّةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِبْرَاءِ حَتَّى تُقَدَّرَ بِالْأَقْرَاءِ. قُلْنَا: النِّكَاحُ قَائِمٌ لِقِيَامِ أَثَرِهِ فَارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ.

وَكَذَا لَوْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ فَأَسْلَمَ وَلَمْ تُسْلِمْ هِيَ حَتَّى مَاتَ لَا تُغَسِّلُهُ. فَإِنْ أَسْلَمَتْ غَسَّلَتْهُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ أَيْضًا مِثْلَهُ فِيمَنْ وَطِئَ أُخْتَ زَوْجَتِهِ بِشُبْهَةٍ حَتَّى حُرِّمَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمَوْطُوءَةِ فَمَاتَ فَانْقَضَتْ لَا تُغَسِّلُهُ زَوْجَتُهُ. وَذَكَرَ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالشَّرْحِ فِي هَذِهِ وَمَسْأَلَةِ الْمَجُوسِيَّةِ أَنْ يَحِلَّ لَهَا غُسْلُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي حِلِّهِ عِنْدَنَا حَالَةُ الْغُسْلِ وَعِنْدَهُ حَالَةُ الْمَوْتِ. وَكَذَا لَوْ أَنَّ نَفْسَ الزَّوْجَةِ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَاعْتَدَّتْ فَمَاتَ زَوْجُهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِأَثَرِهِ.

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ وَلَا رَجُلٌ يُغَسِّلُهُ لَا تُغَسِّلُهُ بِنْتُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، بَلْ تُيَمِّمُهُ إحْدَاهُنَّ أَوْ أَمَتُهُ أَوْ أَمَةُ غَيْرِهِ بِغَيْرِ ثَوْبٍ، وَلَا تُيَمِّمُهُ مَنْ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ إلَّا بِثَوْبٍ، وَالصَّغِيرُ وَالصَّغِيرَةُ إذَا لَمْ يَبْلُغَا حَدَّ الشَّهْوَةِ يُغَسِّلُهُمَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَقَدَّرَهُ فِي الْأَصْلِ بِأَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَالْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ كَالْفَحْلِ.

وَإِذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَلَا امْرَأَةَ، فَإِنْ كَانَ مَحْرَمٌ مِنْ الرِّجَالِ يَمَّمَهَا بِالْيَدِ، وَالْأَجْنَبِيُّ بِالْخِرْقَةِ وَيَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ، وَالزَّوْجِ فِي امْرَأَتِهِ أَجْنَبِيٌّ إلَّا فِي غَضِّ الْبَصَرِ.

وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مَاءٌ فَيَمَّمُوا الْمَيِّتَ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدُوهُ غَسَّلُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ ثَانِيًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْهُ يُغَسَّلُ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَفَّنُوهُ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ عُضْوٌ لَمْ يُغْسَلْ يُغْسَلُ ذَلِكَ الْعُضْوُ، وَلَوْ بَقِيَ نَحْوُ الْأُصْبُعِ لَا يُغْسَلُ.

وَلَوْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ وَأَهَالُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ وَلَا يُنْبَشُ، هَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ فَرْقٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِلَا غُسْلٍ قَبْلَ الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ.

وَإِذَا وُجِدَ أَطْرَافُ مَيِّتٍ أَوْ بَعْضُ بَدَنِهِ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ بَلْ يُدْفَنُ إلَّا إنْ وُجِدَ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ مِنْ بَدَنِهِ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، أَوْ وُجِدَ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فَحِينَئِذٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ مَشْقُوقًا نِصْفَيْنِ طُولًا فَوُجِدَ أَحَدُ الشِّقَّيْنِ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ.

وَإِذَا وُجِدَ مَيِّتٌ لَا يُدْرَى أَمُسْلِمٌ هُوَ أَمْ كَافِرٌ؟ فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ سِيمَاهُمْ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الْكُفْرِ وَعَلَيْهِ سِيمَاهُمْ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ.

وَلَيْسَ فِي الْغُسْلِ اسْتِعْمَالُ الْقُطْنِ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْعَلُ الْقُطْنُ الْمَحْلُوجُ فِي مَنْخِرَيْهِ وَفَمِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي صِمَاخَيْهِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي دُبُرِهِ أَيْضًا. قَالَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ: وَاسْتَقْبَحَهُ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ.

وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَيَجُوزُ عَلَى الْحَمْلِ وَالدَّفْنِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْغُسْلِ أَيْضًا.

وَيُكْرَهُ لِلْغَاسِلِ أَنْ يُغَسِّلَ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ.

وَيُنْدَبُ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ.

ص: 112

‌فَصْلٌ فِي تَكْفِينِهِ

(السُّنَّةُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ إزَارٍ وَقَمِيصٍ وَلِفَافَةٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كُفِّنَ

(فَصْلٌ فِي التَّكْفِينِ)

هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلِذَا قُدِّمَ عَلَى الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُوسِرًا وَجَبَ فِي مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَالْكَفَنُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ إلَّا الزَّوْجَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَلَوْ تَرَكَتْ مَالًا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، كَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَإِذَا تَعَدَّدَ مَنْ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي النَّفَقَاتِ فَالْكَفَنُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ كَمَا كَانَتْ النَّفَقَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ. وَلَوْ كَانَ مُعْتَقَ شَخْصٍ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا وَتَرَكَ خَالَةً مُوسِرَةً يُؤْمَرُ مُعْتِقُهُ بِتَكْفِينِهِ؛ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَى خَالَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُعْطَ ظُلْمًا أَوْ عَجْزًا فَعَلَى النَّاسِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْأَلُوا لَهُ، بِخِلَافِ الْحَيِّ إذَا لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يُصَلِّي فِيهِ لَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْأَلُوا لَهُ بَلْ يَسْأَلُ هُوَ؛ فَلَوْ جَمَعَ رَجُلٌ الدَّرَاهِمَ لِذَلِكَ فَفَضَلَ شَيْءٌ مِنْهَا إنْ عَرَفَ صَاحِبَ الْفَضْلِ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ كَفَّنَ مُحْتَاجًا آخَرَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَرْفِهَا إلَى الْكَفَنِ يَتَصَدَّقُ بِهَا. وَلَوْ مَاتَ فِي مَكَان لَيْسَ فِيهِ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَلَا شَيْءَ لِلْمَيِّتِ؛ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ وَلَا يُكَفِّنَ بِهِ الْمَيِّتَ، وَإِذَا نُبِشَ الْمَيِّتُ وَهُوَ طَرِيٌّ كُفِّنَ ثَانِيًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ قُسِّمَ مَالُهُ فَالْكَفَنُ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَضَلَ عَنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْغُرَمَاءُ قَبَضُوا دُيُونَهُمْ بُدِئَ بِالْكَفَنِ، وَإِنْ كَانُوا قَبَضُوا لَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُمْ شَيْءٌ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَلَا يَخْرُجُ الْكَفَنُ عَنْ مِلْكِ الْمُتَبَرِّعِ بِهِ، فَلِذَا لَوْ كَفَّنَ رَجُلًا ثُمَّ رَأَى الْكَفَنَ مَعَ شَخْصٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَكَذَا إذَا افْتَرَسَ الْمَيِّتَ سَبُعٌ كَانَ الْكَفَنُ لِمَنْ كَفَّنَهُ لَا لِلْوَرَثَةِ

(قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ) فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» وَسَحُولُ: قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ، وَفَتْحُ السِّينِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعَنْ الْأَزْهَرِيِّ الضَّمُّ. فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بَلْ خَارِجٌ عَنْهَا كَمَا قَالَ مَالِكٌ رحمه الله لَزِمَ كَوْنُ السُّنَّةِ أَرْبَعَةَ أَثْوَابٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها:«فِي كَمْ ثَوْبٍ كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ» وَإِنْ عُورِضَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ «كُفِّنَ

ص: 113

فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ» وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَلْبَسُهُ عَادَةً فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ (فَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَوْبَيْنِ جَازَ، وَالثَّوْبَانِ إزَارٌ وَلِفَافَةٌ) وَهَذَا كَفَنُ الْكِفَايَةِ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا، وَلِأَنَّهُ أَدْنَى لِبَاسِ

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصٍ، وَإِزَارٍ، وَلِفَافَةٍ» فَهُوَ ضَعِيفٌ بِنَاصِحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، وَلَيَّنَهُ النَّسَائِيّ، ثُمَّ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ لَا يُوَازِي حَدِيثَ عَائِشَةَ. وَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي حُلَّةٍ يَمَانِيَةٍ وَقَمِيصٍ» مُرْسَلٌ، وَالْمُرْسَلُ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً عِنْدَنَا لَكُمْ مَا وَجْهُ تَقْدِيمِهِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعَادَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِحَدِيثِ الْقَمِيصِ بِسَبَبِ تَعَدُّدِ طُرُقِهِ مِنْهَا الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا. وَمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوُهُ مُرْسَلًا. وَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَحُلَّةٍ نَجْرَانِيَّةٍ» وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِيَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ. ثُمَّ تَرَجَّحَ بَعْدَ الْمُعَادَلَةِ بِأَنَّ الْحَالَ فِي تَكْفِينِهِ أَكْشَفُ لِلرِّجَالِ ثُمَّ الْبَحْثُ وَإِلَّا فَفِيهِ تَأَمُّلٌ. وَقَدْ ذَكَرُوا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ» فَكَيْفَ يُلْبِسُونَهُ الْأَكْفَانَ فَوْقَهُ وَفِيهِ بَلَلُهَا؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَالْحُلَّةُ فِي عُرْفِهِمْ مَجْمُوعُ ثَوْبَيْنِ إزَارٍ وَرِدَاءٍ، وَلَيْسَ فِي الْكَفَنِ عِمَامَةٌ عِنْدَنَا، وَاسْتَحْسَنَهَا بَعْضُهُمْ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُعَمِّمُهُ وَيَجْعَلُ الْعَذَبَةَ عَلَى وَجْهِهِ وَأَحَبُّهَا الْبَيَاضُ وَلَا بَأْسَ بِالْبُرُودِ وَالْعَصَبِ وَالْكَتَّانِ لِلرِّجَالِ، وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ الْحَرِيرُ وَالْمُزَعْفَرُ وَالْمُعَصْفَرُ اعْتِبَارًا لِلْكَفَنِ بِاللِّبَاسِ فِي الْحَيَاةِ وَالْمُرَاهِقُ فِي التَّكْفِينِ كَالْبَالِغِ، وَالْمُرَاهِقَةُ كَالْبَالِغَةِ

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ) أَيْ عَدَدَ الثَّلَاثِ أَكْثَرُ مَا يَلْبَسُهُ عَادَةً فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَأَفَادَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ ثَلَاثَةٌ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ وَاحِدِ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ. وَقَدْ يُقَالُ: مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ سِوَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ هُوَ لَابِسُهَا لَيْسَ غَيْرُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ يُعْطَى لِرَبِّ الدَّيْنِ ثَوْبٌ مِنْهَا لِأَنَّ الْأَكْثَرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ الْمَسْنُونُ، وَقَدْ قَالُوا: إذَا كَانَ بِالْمَالِ كَثْرَةٌ وَبِالْوَرَثَةِ قِلَّةٌ فَكَفَنُ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ كَفَنِ الْكِفَايَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كَفَنَ الْكِفَايَةِ وَهُوَ الثَّوْبَانِ جَائِزٌ فِي حَالَةِ السَّعَةِ، فَفِي حَالِ عَدَمِهَا وَوُجُودِ الدَّيْنِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنْهُ تَقْدِيمًا لِلْوَاجِبِ، وَهُوَ الدَّيْنُ عَلَى غَيْرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ، لَكِنَّهُمْ سَطَّرُوا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ مِنْهُ شَيْءٌ لِلدَّيْنِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ إذَا أَفْلَسَ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ هُوَ لَابِسُهَا لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ فَيُبَاعُ وَلَا يَبْعُدُ الْجَوَابُ

(قَوْلُهُ فَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَوْبَيْنِ جَازَ) إلَّا أَنَّهُ كَانَ بِالْمَالِ قِلَّةٌ وَبِالْوَرَثَةِ كَثْرَةٌ فَهُوَ أَوْلَى، وَعَلَى الْقَلْبِ كَفَنُ السُّنَّةِ أَوْلَى، وَكَفَنُ الْكِفَايَةِ أَقَلُّ مَا يَجُوزُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ، وَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ بِحَسَبِ مَا يُوجَدُ

(قَوْلُهُ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ) رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا اُحْتُضِرَ رضي الله عنه تَمَثَّلَتْ بِهَذَا الْبَيْتِ:

أَعَاذِلُ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنْ الْفَتَى

إذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ

فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ قُولِي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} ثُمَّ اُنْظُرُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ فَاغْسِلُوهُمَا ثُمَّ كَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ كَانَ يُمْرَضُ فِيهِمَا: اغْسِلُوهُمَا وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَا نَشْتَرِي لَك جَدِيدًا؟ قَالَ لَا، الْحَيُّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ ". وَفِي الْفُرُوعِ: الْغَسِيلُ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ فِي الْكَفَنِ.

ص: 114

الْأَحْيَاءِ، وَالْإِزَارُ مِنْ الْقَرْنِ إلَى الْقَدَمِ، وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ، وَالْقَمِيصُ مِنْ أَصْلِ الْعُنُقِ إلَى الْقَدَمِ

(فَإِذَا أَرَادُوا لَفَّ الْكَفَنِ ابْتَدَءُوا بِجَانِبِهِ الْأَيْسَرِ فَلَفُّوهُ عَلَيْهِ ثُمَّ بِالْأَيْمَنِ) كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَبَسْطُهُ أَنْ تُبْسَطَ اللِّفَافَةُ أَوَّلًا ثُمَّ يُبْسَطَ عَلَيْهَا الْإِزَارُ ثُمَّ يُقَمَّصَ الْمَيِّتُ وَيُوضَعَ عَلَى الْإِزَارِ ثُمَّ يُعْطَفَ الْإِزَارُ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ ثُمَّ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ، ثُمَّ اللِّفَافَةُ كَذَلِكَ (وَإِنْ خَافُوا أَنْ يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ عَنْهُ عَقَدُوهُ بِخِرْقَةٍ) صِيَانَةً عَنْ الْكَشْفِ.

(وَتُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ دِرْعٍ وَإِزَارٍ وَخِمَارٍ وَلِفَافَةٍ وَخِرْقَةٍ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا) لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ

ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ. هَذَا وَفِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهَا «فِي كَمْ كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، قَالَ فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْتُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، قَالَ أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ فَنَظَرَ إلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يَمْرَضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهَا. قُلْتُ: إنَّ هَذَا خَلَقٌ، قَالَ الْحَيُّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ إنَّمَا هُوَ الْمُهْلَةُ، فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ تُصْبِحَ» . وَالرَّدْعُ بِالْمُهْمَلَاتِ الْأَثَرُ، وَالْمُهْلَةُ مُثَلَّثُ الْمِيمِ: صَدِيدُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا حَتَّى وَجَبَ تَرْكُهُ لِأَنَّ سَنَدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ لَا يَنْقُصُ عَنْ سَنَدِ الْبُخَارِيِّ، فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ قَالَ فِيهِ عليه الصلاة والسلام " وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ " وَفِي لَفْظٍ " وَفِي ثَوْبَيْهِ " وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ، فَلَا يُتْرَكُ بِأَنْ يُحْمَلُ مَا فِي عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ. عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضَ الْمَتْنِ دُونَ كُلِّهِ بِخِلَافِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الشَّاهِدَ، لَكِنَّ رِوَايَةَ ثَوْبَيْهِ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَهُ غَيْرُهُمَا فَلَا يُفِيدُ كَوْنُهُ كَفَنَ الْكِفَايَةِ، بَلْ قَدْ يُقَالُ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الِاقْتِصَارِ عَلَى ثَوْبَيْنِ حَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَكْثَرِ، إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْأُولَى كَمَا هُوَ كَفَنُ الْكِفَايَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ وَالْإِزَارُ مِنْ الْقَرْنِ إلَى الْقَدَمِ، وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ) لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ اللِّفَافَةَ مِنْ الْقَرْنِ إلَى الْقَدَمِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْإِزَارِ كَذَلِكَ فَفِي نُسَخٍ مِنْ الْمُخْتَارِ وَشَرْحِهِ اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِهَا: يُقَمَّصُ أَوَّلًا وَهُوَ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ، وَيُوضَعُ عَلَى الْإِزَارِ وَهُوَ مِنْ الْقَرْنِ إلَى الْقَدَمِ، وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ إلَى آخِرِهِ. وَفِي بَعْضِهَا: يُقَمَّصُ وَيُوضَعُ عَلَى الْإِزَارِ وَهُوَ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ، ثُمَّ يُعْطَفُ، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ وَجْهَ مُخَالَفَةِ إزَارِ الْمَيِّتِ إزَارَ الْحَيِّ مِنْ السُّنَّةِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ الْمُحْرِمِ " كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ " وَهُمَا ثَوْبَا إحْرَامِهِ إزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إزَارَهُ مِنْ الْحَقْوِ، وَكَذَا أَعْطَى اللَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ حَقْوَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ (قَوْلُهُ وَالْقَمِيصُ مِنْ أَصْلِ الْعُنُقِ) بِلَا جَيْبٍ وَدِخْرِيصٍ وَكُمَّيْنِ وَكَذَا فِي الْكَافِي، وَكَوْنُهُ بِلَا جَيْبٍ بَعِيدًا، إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْجَيْبِ الشِّقُّ النَّازِلُ عَلَى الصَّدْرِ

(قَوْلُهُ ابْتَدَءُوا بِجَانِبِهِ الْأَيْسَرِ) لِيَقَعَ الْأَيْمَنُ فَوْقَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِمَامَةَ، وَكَرِهَهَا بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْكَفَنُ بِهَا شَفْعًا، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ وَيَجْعَلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ

(قَوْلُهُ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ) قِيلَ الصَّوَابُ لَيْلَى بِنْتُ قَانِفٍ قَالَتْ: «كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانَا الْحِقَاءَ ثُمَّ الدِّرْعَ ثُمَّ الْخِمَارَ ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ فِي الثَّوْبِ الْآخِرِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَى حَقْوَهُ فِي حَدِيثِ غُسْلِ زَيْنَبَ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَقْعَدُ الْإِزَارِ وَجَمْعُهُ أَحَقٌّ وَأَحْقَاءُ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الْإِزَارُ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ إزَارَ الْمَيِّتِ كَإِزَارِ الْحَيِّ مِنْ الْحَقْوِ فَيَجِبُ كَوْنُهُ فِي الذِّكْرِ كَذَلِكَ

ص: 115

ابْنَتَهُ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ» وَلِأَنَّهَا تَخْرُجُ فِيهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ.

(ثُمَّ هَذَا بَيَانُ كَفَنِ السُّنَّةِ، وَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ جَازَ) وَهِيَ ثَوْبَانِ وَخِمَارٌ (وَهُوَ كَفَنُ الْكِفَايَةِ، وَيُكْرَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي الرَّجُلِ يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ) لِأَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رضي الله عنه حِينَ اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَهَذَا كَفَنُ الضَّرُورَةِ (وَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الدِّرْعَ أَوَّلًا ثُمَّ يُجْعَلُ شَعْرُهَا ضَفِيرَتَيْنِ عَلَى صَدْرِهَا فَوْقَ الدِّرْعِ، ثُمَّ الْخِمَارُ فَوْقَ ذَلِكَ تَحْتَ الْإِزَارِ، ثُمَّ الْإِزَارُ ثُمَّ اللِّفَافَةُ. قَالَ: وَتُجْمَرُ الْأَكْفَانُ قَبْلَ أَنْ يُدْرَجَ فِيهَا وِتْرًا)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِإِجْمَارِ أَكْفَانِ ابْنَتِهِ وِتْرًا» ، وَالْإِجْمَارُ هُوَ التَّطْيِيبُ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهُ صَلَّوْا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ.

لِعَدَمِ الْفَرْقِ فِي هَذَا، وَقَدْ حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ وَإِنْ أَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِجَهَالَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ حُضُورِ أُمِّ عَطِيَّةَ غُسْلَ أُمِّ كُلْثُومٍ بَعْدَ زَيْنَبَ، وَقَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ: أُمُّ كُلْثُومٍ تُوُفِّيَتْ وَهُوَ عليه الصلاة والسلام غَائِبٌ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ: إنَّهَا مَاتَتْ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ زَيْنَبَ بِسَنَةٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا عليه الصلاة والسلام، قَالَ: وَهِيَ الَّتِي غَسَّلَتْهَا أُمُّ عَطِيَّةَ، وَيَشُدُّهُ مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ:«دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إلَيْنَا حَقْوَهُ وَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إيَّاهُ» وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ، وَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي زَيْنَبَ لَا يُنَافِيهِ لِمَا قُلْنَاهُ آنِفًا

(قَوْلُهُ وَهِيَ ثَوْبَانِ وَخِمَارٌ) لَمْ يُعَيِّنْ الثَّوْبَيْنِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: كَفَنُ الْكِفَايَةِ لَهَا ثَلَاثَةٌ: قَمِيصٌ، وَإِزَارٌ، وَلِفَافَةٌ. فَلَمْ يَذْكُرْ الْخِمَارَ، وَمَا فِي الْكِتَابِ مِنْ عَدِّ الْخِمَارِ أَوْلَى، وَيُجْعَلُ الثَّوْبَانِ قَمِيصًا وَلِفَافَةً، فَإِنَّ بِهَذَا يَكُونُ جَمِيعُ عَوْرَتِهَا مَسْتُورَةً بِخِلَافِ تَرْكِ الْخِمَارِ

(قَوْلُهُ وَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الدِّرْعَ إلَخْ) لَمْ يَذْكُرْ مَوْضِعَ الْخِرْقَةِ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: فَوْقَ الْأَكْفَانِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ، وَعَرْضُهَا مَا بَيْنَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ إلَى السُّرَّةِ، وَقِيلَ مَا بَيْنَ الثَّدْيِ إلَى الرُّكْبَةِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ عَنْ الْفَخِذَيْنِ وَقْتَ الْمَشْيِ. وَفِي التُّحْفَةِ: تُرْبَطُ الْخِرْقَةُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الْيَدَيْنِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ) أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: «هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ»

(قَوْلُهُ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِإِجْمَارِ أَكْفَانِ ابْنَتِهِ») غَرِيبٌ، وَقَدَّمْنَا مِنْ الْمُسْتَدْرَكِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ ثَلَاثًا» وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ حِبَّانَ " فَأَوْتِرُوا " وَفِي لَفْظِ الْبَيْهَقِيّ «جَمِّرُوا كَفَنَ الْمَيِّتِ ثَلَاثًا» قِيلَ سَنَدُهُ صَحِيحٌ.

(فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ)

هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ): وَقَوْلُهُ فِي التُّحْفَةِ إنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ فِي وَجْهِ كَوْنِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ

ص: 116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لِأَنَّ مَا هُوَ الْفَرْضُ وَهُوَ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الِافْتِرَاضِ، وَكَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ كَافٍ.

وَقِيلَ فِي مُسْتَنَدِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ أَوْلَى مَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ بِجَعْلِهَا جِنَازَةً، لَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ أَهْلُ التَّفْسِيرِ بِخِلَافِ هَذَا. وَفِي الثَّانِي قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» فَلَوْ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ لَمْ يَتْرُكْهُ عليه الصلاة والسلام. وَشَرْطُ صِحَّتِهَا إسْلَامُ الْمَيِّتِ وَطَهَارَتُهُ وَوَضْعُهُ أَمَامِ الْمُصَلِّي، فَلِهَذَا الْقَيْدِ لَا تَجُوزُ عَلَى غَائِبٍ وَلَا حَاضِرٍ مَحْمُولٍ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا مَوْضُوعٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي، وَهُوَ كَالْإِمَامِ مِنْ وَجْهٍ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ أَفَادَتْ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ إمَامًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَمَا أَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ وَجْهٍ. وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: إذَا دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ وَلَمْ يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِالنَّبْشِ سَقَطَ هَذَا الشَّرْطُ وَصُلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ بِلَا غُسْلٍ لِلضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُهَلْ عَلَيْهِ التُّرَابُ بَعْدُ فَإِنَّهُ يُخْرَجُ فَيُغَسَّلُ، وَلَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِلَا غُسْلٍ جَهْلًا مَثَلًا وَلَا يَخْرُجُ إلَّا بِالنَّبْشِ تُعَادُ لِفَسَادِ الْأُولَى. وَقِيلَ تَنْقَلِبُ الْأُولَى صَحِيحَةً عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَلَا تُعَادُ.

وَأَمَّا صَلَاتُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى النَّجَاشِيِّ كَانَ إمَّا لِأَنَّهُ رَفَعَ سَرِيرَهُ لَهُ حَتَّى رَآهُ عليه الصلاة والسلام بِحَضْرَتِهِ فَتَكُونُ صَلَاةُ مَنْ خَلْفِهِ عَلَى مَيِّتٍ يَرَاهُ الْإِمَامُ وَبِحَضْرَتِهِ دُونَ الْمَأْمُومِينَ وَهَذَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الِاقْتِدَاءِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا لَكِنْ فِي الْمَرْوِيِّ مَا يُومِئُ إلَيْهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:«إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ تُوُفِّيَ فَقُومُوا صَلُّوا عَلَيْهِ، فَقَامَ عليه الصلاة والسلام وَصُفُّوا خَلْفَهُ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَهُمْ لَا يَظُنُّونَ أَنَّ جِنَازَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» فَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ ظَنِّهِمْ لِأَنَّهُ هُوَ فَائِدَتُهُ الْمُعْتَدُّ بِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام أَوْ كُشِفَ لَهُ، وَإِمَّا أَنَّ ذَلِكَ خُصَّ بِهِ النَّجَاشِيُّ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ مَعَ شَهَادَةِ الصِّدِّيقِ.

فَإِنْ قِيلَ: بَلْ قَدْ صَلَّى عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْغَيْبِ وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيّ وَيَقُولُ اللَّيْثِيُّ «نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِتَبُوكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُزَنِيِّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ أَتُحِبُّ أَنْ أَطْوِيَ لَكَ الْأَرْضَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ نَعَمْ، فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَرَفَعَ لَهُ سَرِيرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَخَلْفَهُ صَفَّانِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عليهم السلام، فِي كُلِّ صَفٍّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِجِبْرِيلَ عليه السلام: بِمَ أَدْرَكَ هَذَا؟ قَالَ: بِحُبِّهِ سُورَةَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَقِرَاءَتِهِ إيَّاهَا جَائِيًا وَذَاهِبًا وَقَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى كُلِّ حَالٍ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَجَعْفَرٍ لَمَّا اسْتَشْهَدَ بِمُؤْتَةِ عَلَى مَا فِي مَغَازِي الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَا:«لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ بِمُؤْتَةِ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَكُشِفَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ فَهُوَ يَنْظُرُ إلَى مُعْتَرَكِهِمْ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَمَضَى حَتَّى اُسْتُشْهِدَ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَسْعَى، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَمَضَى حَتَّى اُسْتُشْهِدَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا لَهُ وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ يَطِيرُ فِيهَا بِجَنَاحَيْنِ حَيْثُ شَاءَ» .

قُلْنَا: إنَّمَا ادَّعَيْنَا الْخُصُوصِيَّةَ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ رُفِعَ لَهُ سَرِيرُهُ وَلَا هُوَ مَرْئِيٌّ لَهُ، وَمَا ذُكِرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَعَ ضَعْفِ الطُّرُقِ فَمَا فِي الْمَغَازِي مُرْسَلٌ مِنْ الطَّرِيقِينَ، وَمَا فِي الطَّبَقَاتِ ضَعِيفٌ بِالْعَلَاءِ وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَيُقَالُ ابْنُ يَزِيدَ اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَدْ عَنْعَنَهُ، ثُمَّ دَلِيلُ الْخُصُوصِيَّةِ

ص: 117

(وَأَوْلَى النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ السُّلْطَانُ إنْ حَضَرَ) لِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءٌ بِهِ (فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي) لِأَنَّهُ صَاحِبُ وِلَايَةٍ (فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ إمَامِ الْحَيِّ) لِأَنَّهُ رَضِيَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. قَالَ (ثُمَّ الْوَلِيُّ وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ)،.

أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى غَائِبٍ إلَّا عَلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ سِوَى النَّجَاشِيِّ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ رُفِعَ لَهُ وَكَانَ بِمَرْأًى مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ خَلْقٌ مِنْهُمْ رضي الله عنهم غَيْبًا فِي الْأَسْفَارِ كَأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَالْغَزَوَاتِ وَمِنْ أَعَزِّ النَّاسِ عَلَيْهِ كَانَ الْقُرَّاءُ، وَلَمْ يُؤْثَرْ قَطُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ وَكَانَ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَرِيصًا حَتَّى قَالَ «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ لَهُ» عَلَى مَا سَنَذْكُرُ. .

وَأَمَّا أَرْكَانُهَا فَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا الدُّعَاءُ وَالْقِيَامُ وَالتَّكْبِيرُ لِقَوْلِهِمْ: إنَّ حَقِيقَتَهَا هُوَ الدُّعَاءُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَلَوْ صَلَّى عَلَيْهَا قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ وَكَذَا رَاكِبًا، وَيَجُوزُ الْقُعُودُ لِلْعُذْرِ، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِينَ بِهِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ، وَقَالُوا: كُلُّ تَكْبِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ، وَقَالُوا يُقَدَّمُ الثَّنَاءُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ سُنَّةُ الدُّعَاءِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى شَرْطٌ لِأَنَّهَا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ

(قَوْلُهُ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ إلَخْ) الْخَلِيفَةُ أَوْلَى (إنْ حَضَرَ) ثُمَّ إمَامُ الْمِصْرِ وَهُوَ سُلْطَانُهُ، ثُمَّ الْقَاضِي، ثُمَّ صَاحِبُ الشَّرْطِ، ثُمَّ خَلِيفَةُ الْوَالِي، ثُمَّ خَلِيفَةُ الْقَاضِي، ثُمَّ إمَامُ الْحَيِّ، ثُمَّ وَلِيُّ الْمَيِّتِ. وَهُوَ مَنْ سَنَذْكُرُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْوَلِيُّ أَوْلَى مُطْلَقًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَايَةِ كَالْإِنْكَاحِ فَيَكُونُ الْوَلِيُّ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدَّمَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ وَقَالَ: لَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُك، وَكَانَ سَعِيدُ وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي مُتَوَلِّيهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي هَذَا الزَّمَانِ النَّائِبُ، وَلِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِمْ ازْدِرَاءٌ بِهِمْ وَتَعْظِيمُ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبٌ. وَأَمَّا إمَامُ الْحَيِّ فَلِمَا ذُكِرَ، وَلَيْسَ تَقْدِيمُهُ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَتَعْلِيلُ الْكِتَابِ يُرْشِدُ إلَيْهِ. وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: إمَامُ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْلَى مِنْ إمَامِ الْحَيِّ (قَوْلُهُ وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ إلَخْ) يُسْتَثْنَى مِنْهُ الْأَبُ مَعَ الِابْنِ، فَإِنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ لِلْمَيِّتِ أَبُوهُ وَابْنُهُ فَالْأَبُ أَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ تَقْدِيمُ الْأَبِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَهُمَا الِابْنُ أَوْلَى عَلَى حَسَبَ

ص: 118

(فَإِنْ صَلَّى غَيْرُ الْوَلِيِّ أَوْ السُّلْطَانِ أَعَادَ الْوَلِيُّ) يَعْنِي إنْ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقَّ لِلْأَوْلِيَاءِ (وَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ لَمْ يَجُزْ

اخْتِلَافِهِمْ فِي النِّكَاحِ؛ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبُ الْمَعْتُوهَةِ أَوْلَى بِإِنْكَاحِهَا مِنْ ابْنِهَا، وَعِنْدَهُمَا ابْنُهَا أَوْلَى. وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الصَّلَاةَ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْفَضِيلَةُ وَالْأَبُ أَفْضَلُ، وَلِذَا يُقَدَّمُ الْأَسَنُّ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ كَمَا فِي أَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ أَوْ لِأَبٍ أَسَنُّهُمْ أَوْلَى، وَلَوْ قَدَّمَ الْأَسَنُّ أَجْنَبِيًّا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلِلصَّغِيرِ مَنْعُهُ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الرُّتْبَةِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا الْأَسَنَّ بِالسُّنَّةِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ " لِيَتَكَلَّمْ أَكْبَرُكُمَا " وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْحَقَّ لِلِابْنِ عِنْدَهُمَا، إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُقَدِّمَ هُوَ أَبَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ سَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى مِنْ الزَّوْجِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا ابْنٌ، فَإِنْ كَانَ فَالزَّوْجُ أَوْلَى مِنْهُمْ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلِابْنِ وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ أَبَاهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا شَقِيقًا وَالْآخَرُ لِأَبٍ جَازَ تَقْدِيمُ الشَّقِيقِ الْأَجْنَبِيَّ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَابْنُهُ أَوْلَى مِنْ الزَّوْجِ، وَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى عَبِيدِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ وَلَهُ وَلِيٌّ حُرٌّ فَالْمَوْلَى أَوْلَى عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَإِنْ أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ كَانَ الْوَلِيُّ أَوْلَى، وَلِذَا إنْ كَانَ الْمَالُ حَاضِرًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ التَّوْيُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلِيٌّ فَالزَّوْجُ أَوْلَى ثُمَّ الْجِيرَانُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ أَوْلَى؛ وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فُلَانٌ فَفِي الْعُيُونِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمِ جَائِزَةٌ، وَيُؤْمَرُ فُلَانٌ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ

(قَوْلُهُ فَإِنْ صَلَّى غَيْرُ الْوَلِيِّ وَالسُّلْطَانُ أَعَادَ الْوَلِيُّ) هَذَا إذَا كَانَ هَذَا الْغَيْرُ غَيْرَ مُقَدَّمٍ عَلَى الْوَلِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ كَالْقَاضِي وَنَائِبِهِ لَمْ يُعِدْ

(قَوْلُهُ وَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ) وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ، وَاسْتُفِيدَ عَدَمُ إعَادَةٍ مِنْ بَعْدِ الْوَلِيِّ إذَا

ص: 119

لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ) لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِالْأَوْلَى وَالتَّنَفُّلَ بِهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلِهَذَا رَأَيْنَا النَّاسَ تَرَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الْيَوْمَ كَمَا وُضِعَ.

(وَإِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ

صَلَّى مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَلِيِّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّهَا إذَا مُنِعَتْ الْإِعَادَةُ بِصَلَاةِ الْوَلِيِّ فَبِصَلَاةِ مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَلِيِّ أَوْلَى. وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّ الْفَرْضَ تَأَدَّى، وَالتَّنَفُّلَ بِهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ يَسْتَلْزِمُ مَنْعَ الْوَلِيِّ أَيْضًا مِنْ الْإِعَادَةِ إذَا صَلَّى مَنْ الْوَلِيُّ أَوْلَى مِنْهُ إذْ الْفَرْضُ وَهُوَ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ تَأَدَّى بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مِنْ مَنْعِ التَّنَفُّلِ وَادِّعَاءِ أَنَّ عَدَمَ الْمَشْرُوعِيَّةِ فِي حَقِّ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ، أَمَّا مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَتَبْقَى الشَّرْعِيَّةُ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ شَرْعِيَّةِ التَّنَفُّلِ بِتَرْكِ النَّاسِ عَنْ آخِرِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَمَا أَعْرَضَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالرَّاغِبِينَ فِي التَّقَرُّبِ إلَيْهِ عليه الصلاة والسلام بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ عَنْهُ، فَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَلِذَا قُلْنَا: لَمْ يُشْرَعْ لِمَنْ صَلَّى مَرَّةً التَّكْرِيرُ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَمَا صَلَّى عَلَيْهِ أَهْلُهُ» فَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ لَهُ حَقُّ التَّقَدُّمِ فِي الصَّلَاةِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى قَبْرِ امْرَأَةٍ) رَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ وَالْحَاكِمُ وَسَكَتَ عَنْهُ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا وَرَدْنَا الْبَقِيعَ إذَا هُوَ بِقَبْرٍ فَسَأَلَ عَنْهُ؟ فَقَالُوا فُلَانَةَ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: أَلَا آذَنْتُمُونِي؟ قَالُوا: كُنْتَ قَائِلًا صَائِمًا، قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، لَا أَعْرِفَنَّ مَا مَاتَ مِنْكُمْ مَيِّتٌ مَا كُنْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ إلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَصَفَّفْنَا خَلْفَهُ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا» وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ «أَنَّ مِسْكِينَةً مَرِضَتْ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرَضِهَا، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي بِهَا، فَخَرَجُوا بِجِنَازَتِهَا لَيْلًا فَكَرِهُوا أَنْ يُوقِظُوهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أُخْبِرَ بِشَأْنِهَا فَقَالَ: أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُؤْذِنُونِي بِهَا؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْنَا أَنْ نُخْرِجَكَ لَيْلًا أَوْ نُوقِظَكَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَفَّ بِالنَّاسِ عَلَى قَبْرِهَا وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ» .

وَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَفَّهُمْ خَلْفَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى

ص: 120

صُلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى قَبْرِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ (وَيُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَسَّخَ) وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ هُوَ الصَّحِيحُ لِاخْتِلَافِ الْحَالِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.

(وَالصَّلَاةُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَةً يَحْمَدُ اللَّهَ عَقِيبَهَا،

عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَصَفَّهُمْ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا» قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: مَنْ حَدَّثَك بِهَذَا؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَلِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِنَا، فَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِادِّعَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صُلِّيَ عَلَيْهَا أَصْلًا وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَمِنْ فُرُوعِ عَدَمِ تَكْرَارِهَا عَدَمُ الصَّلَاةِ عَلَى عُضْوٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي فَصْلِ الْغُسْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْبَاقِي صُلِّيَ عَلَيْهِ فَيَتَكَرَّرُ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تُعْرَفْ شَرْعًا إلَّا عَلَى تَمَامِ الْجُثَّةِ، إلَّا أَنَّهُ أَلْحَقَ الْأَكْثَرَ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى فِي غَيْرِهِ عَلَى الْأَصْلِ (قَوْلُهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِهِ) هَذَا إذَا أُهِيلَ التُّرَابُ سَوَاءٌ كَانَ غُسِّلَ أَوْ لَا لَا لِأَنَّهُ صَارَ مُسْلَمًا لِمَالِكِهِ تَعَالَى وَخَرَجَ عَنْ أَيْدِينَا فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بَعْدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُهَلْ فَإِنَّهُ يُخْرَجُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ إذَا دُفِنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْغُسْلِ إنْ أَهَالُوا عَلَيْهِ لَا يُخْرَجُ وَهَلْ يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ، قِيلَ لَا، وَالْكَرْخِيُّ نَعَمْ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا لِتَرْكِ الشَّرْطِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَالْآنَ زَالَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ فَرْضِيَّةُ الْغُسْلِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ وَجْهٍ وَدُعَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ لَا تَجُوزُ بِلَا طَهَارَةٍ أَصْلًا، وَإِلَى الثَّانِي تَجُوزُ بِلَا عَجْزٍ، فَقُلْنَا تَجُوزُ بِدُونِهَا حَالَةَ الْعَجْزِ لَا الْقُدْرَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُصَلَّى إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ

(قَوْلُهُ لِاخْتِلَافِ الْحَالِ) أَيْ حَالِ الْمَيِّتِ مِنْ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَالزَّمَانِ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَكَانِ إذْ مِنْهُ مَا يُسْرِعُ بِالْإِبْلَاءِ وَمِنْهُ لَا، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي رَأْيِهِمْ أَنَّهُ تَفَرَّقْت أَجْزَاؤُهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ لَا يُصَلُّونَ إلَى الثَّلَاثِ

(قَوْلُهُ وَالصَّلَاةُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَةً يَحْمَدُ اللَّهَ عَقِيبَهَا) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ، قَالُوا لَا يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ إلَّا أَنْ

ص: 121

ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يُصَلِّي فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يَدْعُو فِيهَا لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْمُسْلِمِينَ

يَقْرَأهَا بِنِيَّةِ الثَّنَاءِ، وَلَمْ تَثْبُتْ الْقِرَاءَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَيُصَلِّي بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا يُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ، وَهُوَ الْأَوْلَى، وَيَدْعُو فِي الثَّالِثَةِ لِلْمَيِّتِ وَلِنَفْسِهِ وَلِأَبَوَيْهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَوْقِيتَ فِي الدُّعَاءِ سِوَى أَنَّهُ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَإِنْ دَعَا بِالْمَأْثُورِ فَمَا أَحْسَنَهُ وَأَبْلَغَهُ.

وَمِنْ الْمَأْثُورِ حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِنَازَةٍ فَحَفِظَ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ مُنْزَلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ، قَالَ عَوْفٌ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ الْأَشْهَلِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَزَادَ فِيهِ «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد نَحْوُهُ. وَفِي أُخْرَى «وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ» وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَمَّنْ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْف يُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا لَعَمْرُ اللَّهِ أُخْبِرُك: أَتَّبِعُهَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا، فَإِذَا وُضِعَتْ كَبَّرْت وَحَمِدْت اللَّهَ وَصَلَّيْت عَلَى نَبِيِّهِ، ثُمَّ أَقُولُ: اللَّهُمَّ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُك وَرَسُولُك، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ. اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَلَّ فِي جِوَارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْته: يَعْنِي النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا وَأَنْتَ هَدَيْتَهَا

ص: 122

ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَنَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا.

لِلْإِسْلَامِ وَأَنْتَ قَبَضْتَ رُوحَهَا وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهَا»

(قَوْلُهُ ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ) مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ بَعْدَهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أَوْ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وَيَنْوِي بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ الْمَيِّتَ مَعَ الْقَوْمِ، وَلَا يُصَلُّونَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، فَلَوْ فَعَلُوا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ وَارْتَكَبُوا النَّهْيَ، وَإِذَا جِيءَ بِالْجِنَازَةِ بَعْدَ الْغُرُوبِ بَدَءُوا بِالْمَغْرِبِ ثُمَّ بِهَا بِسُنَّةِ الْمَغْرِبِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَبَّرَ أَرْبَعًا إلَخْ).

رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجَنَائِزِ خَمْسًا وَسِتًّا وَأَرْبَعًا حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ كَبَّرُوا كَذَلِكَ فِي وِلَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ثُمَّ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: إنَّكُمْ مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مَتَى تَخْتَلِفُونَ تَخْتَلِفُ النَّاسُ بَعْدَكُمْ وَالنَّاسُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ يَجْمَعُ عَلَيْهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، فَأَجْمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَنْ يَنْظُرُوا آخِرَ جِنَازَةٍ كَبَّرَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قُبِضَ فَيَأْخُذُونَ بِهِ وَيَرْفُضُونَ مَا سِوَاهُ، فَنَظَرُوا فَوَجَدُوا «آخِرَ جِنَازَةٍ كَبَّرَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعًا» .

وَفِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وَعُمَرَ وَهُوَ غَيْرُ ضَائِرٍ عِنْدَنَا، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مَوْصُولًا قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِي التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْعًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَمْسًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرْبَعًا، فَجَمَعَ عُمَرُ عَلَى أَرْبَعٍ كَأَطْوَلِ الصَّلَاةِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«آخِرُ مَا كَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجَنَائِزِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ» ، وَكَبَّرَ عُمَرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى عُمَرَ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَلِيٍّ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْحَسَنِ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَتْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى آدَمَ أَرْبَعًا سَكَتَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْفُرَاتِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ مَتْرُوكٌ.

وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ النَّضْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ إلَّا أَنَّ اجْتِمَاعَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عَلَى الْأَرْبَعِ كَالدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ. وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ عِمْرَانَ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ أَبُو هُرْمُزَ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَعَلَى بَنِي هَاشِمٍ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ كَانَ آخِرُ صَلَاتِهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ إلَى أَنْ خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا» ، وَقَدْ رُفِعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ آخِرُ صَلَاةِ كَبَّرَ فِيهَا أَرْبَعًا» عَنْ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَضَعَّفَهُ.

وَرَوَى أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِذْكَارِ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دُحَيْمٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ فِي الْجَنَائِزِ أَرْبَعًا وَخَمْسًا وَسَبْعًا وَثَمَانِيًا، حَتَّى جَاءَ مَوْتُ النَّجَاشِيِّ فَخَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا، ثُمَّ ثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَرْبَعٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل» وَرَوَاهُ

ص: 123

(وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُؤْتَمُّ) خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِمَا رَوَيْنَا، وَيَنْتَظِرُ تَسْلِيمَةَ الْإِمَامِ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

وَالْإِتْيَانُ بِالدَّعَوَاتِ اسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ سُنَّةِ الدُّعَاءِ،

الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ شَيْئًا.

وَأَخْرَجَ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَعَلَى بَنِي هَاشِمٍ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَكَانَ آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا أَرْبَعًا حَتَّى خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا» وَضُعِّفَ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام كَانَتْ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ مِنْ عِدَّةٍ» فَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا تَوْقِيتَ فِي التَّكْبِيرِ، وَجَمَعُوا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُفَضِّلُ أَهْلَ بَدْرٍ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَكَذَا بَنُو هَاشِمٍ، وَكَانَ يُكَبِّرُ عَلَيْهِمْ خَمْسًا وَعَلَى مَنْ دُونَهُمْ أَرْبَعًا، وَأَنَّ الَّذِي حُكِيَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ لَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ النَّجَاشِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ نَاسِخًا لِأَنَّ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْلَامُهُ مُتَأَخِّرٌ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ نُسِخَ بِالِاجْتِهَادِ وَالْحَقُّ هُوَ النَّسْخُ، فَإِنَّ ضَعْفَ الْإِسْنَادِ غَيْرُ قَاطِعٍ بِبُطْلَانِ الْمَتْنِ بَلْ ظَاهِرٌ فِيهِ، فَإِذَا تَأَيَّدَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ كَانَ صَحِيحًا وَقَدْ تَأَيَّدَ، وَهُوَ كَثْرَةُ الطُّرُقِ وَانْتِشَارُهَا فِي الْآفَاقِ خُصُوصًا مَعَ كَثْرَةِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آخِرَ مَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام الْأَرْبَعُ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي حَنِيفَةَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا لِصِحَّةِ الْمُرْسَلِ بَعْدَ ثِقَةِ الرُّوَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ نُفَاةِ الْمُرْسَلِ إذَا اُعْتُضِدَ بِمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ كَانَ صَحِيحًا، وَهَذَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ اُعْتُضِدَ بِكَثْرَةٍ فِي الطُّرُقِ وَالرُّوَاةِ وَذَلِكَ يَغْلِبُ ظَنَّ الْحَقِيَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ) مَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ لَا؛ فَعِنْدَ زُفَرَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا، بَلْ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَبَّرَ خَمْسًا. قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ النَّسْخُ بِمَا قَرَرْنَاهُ آنِفًا، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ اجْتِهَادُهُ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ، ثُمَّ كَانَ مَذْهَبُهُ التَّكْبِيرَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ سِتًّا، وَعَلَى الصَّحَابَةِ خَمْسًا، وَعَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعًا. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَكُونُ الْكَائِنُ بَيْنَنَا أَرْبَعًا أَرْبَعًا لِانْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَمُخَالَفَتُهُ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ الْمُتَقَرِّرِ فَيُجْزَمُ بِخَطَئِهِ فَلَا يَكُونُ فَصْلًا مُجْتَهِدًا فِيهِ، بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ

(قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَفِي أُخْرَى يُسَلِّمُ كَمَا يُكَبِّرُ فِي الْخَامِسَةِ)، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَقَاءَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ فَرَاغِهَا لَيْسَ بِخَطَأٍ مُطْلَقًا، إنَّمَا الْخَطَأُ فِي الْمُتَابَعَةِ فِي الْخَامِسَةِ. وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: إنَّمَا لَا يُتَابِعُهُ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ إذَا سُمِعَ مِنْ الْإِمَامِ، أَمَّا إذَا لَمْ يُسْمَعْ إلَّا مِنْ الْمُبَلِّغِ فَيُتَابِعُهُ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ

(قَوْلُهُ وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ سُنَّةُ الدُّعَاءِ) يُفِيدُ أَنَّ تَرْكَهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ فَلَا يَكُونُ رُكْنًا. هَذَا وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِي الصَّلَاةِ وَالتِّرْمِذِيُّ

ص: 124

وَلَا يَسْتَغْفِرُ لِلصَّبِيِّ وَلَكِنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرْطًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا أَجْرًا وَذُخْرًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا مُشَفَّعًا.

(وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ لَا يُكَبِّرُ الْآتِي حَتَّى يُكَبِّرَ أُخْرَى بَعْدَ حُضُورِهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكَبِّرُ حِينَ يَحْضُرُ لِأَنَّ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ، وَالْمَسْبُوقُ يَأْتِي بِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، وَالْمَسْبُوقُ لَا يَبْتَدِئُ بِمَا فَاتَهُ

فِي الدَّعَوَاتِ عَنْ فَضَالَةِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ «سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو لَمْ يُمَجِّدْ أَوْ لَمْ يَحْمَدْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَجِلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ أَوْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ) لِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: أَرْبَعٌ كَأَرْبَعِ الظُّهْرِ، وَلِذَا لَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً مِنْهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ، فَلَوْ لَمْ يَنْتَظِرْ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ لَكَانَ قَاضِيًا مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَدَاءِ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ، وَهُوَ مَنْسُوخٌ.

فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَةَ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سُبِقَ الرَّجُلُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ سَأَلَهُمْ فَأَوْمَئُوا إلَيْهِ بِاَلَّذِي سُبِقَ بِهِ، فَيَبْدَأُ فَيَقْضِي مَا سُبِقَ ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ، فَجَاءَ مُعَاذٌ وَالْقَوْمُ قُعُودٌ فِي صَلَاتِهِمْ فَقَعَدَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ قَضَى مَا كَانَ سُبِقَ بِهِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ فَاقْتَدُوا بِهِ، إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَقَدْ سُبِقَ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَلْيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ بِصَلَاتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ فَلْيَقْضِ مَا سَبَقَهُ بِهِ» وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي سَمَاعِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مِنْ مُعَاذِ نَظَرٌ فِي بَابِ الْأَذَانِ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إلَى أَنْ قَالَ: فَجَاءَ مُعَاذٌ وَالْقَوْمُ قُعُودٌ» فَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَضَعَّفَ سَنَدَهُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ كَذَلِكَ.

وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ «كَانَ الرَّجُلُ إذَا جَاءَ وَقَدْ صَلَّى الرَّجُلُ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ» فَسَاقَهُ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الدَّاخِلَ ابْنَ مَسْعُودٍ «فَقَالَ عليه الصلاة والسلام إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً فَاتَّبِعُوهَا» وَهَذَانِ مُرْسَلَانِ وَلَا يَضُرُّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا كَفَى الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ لَا يَقْضِيَ مَا سُبِقَ بِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمَامِ. قَالَ فِي الْكَافِي: إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مَعْنَيَانِ: مَعْنَى الِافْتِتَاحِ وَالْقِيَامِ مَقَامَ رَكْعَةٍ، وَمَعْنَى الِافْتِتَاحِ يَتَرَجَّحُ فِيهَا وَلِذَا خُصَّتْ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ، فَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ مَا كَبَّرَ الرَّابِعَةَ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ جَاءَ بَعْدَ الْأُولَى يُكَبِّرُ بَعْدَ سَلَامِ

ص: 125

إذْ هُوَ مَنْسُوخٌ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَلَمْ يُكَبِّرْ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَنْتَظِرُ الثَّانِيَةَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدْرِكِ.

قَالَ (وَيَقُومُ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ) لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَلْبِ وَفِيهِ نُورُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ الْقِيَامُ عِنْدَهُ إشَارَةً إلَى الشَّفَاعَةِ لِإِيمَانِهِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ الرَّجُلِ بِحِذَاءِ رَأْسِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ وَسَطِهَا لِأَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه فَعَلَ كَذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ السُّنَّةُ. قُلْنَا تَأْوِيلُهُ أَنَّ جِنَازَتَهَا لَمْ تَكُنْ مَنْعُوشَةً فَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ.

(فَإِنْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ رُكْبَانًا

الْإِمَامِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ عِنْدَهُمَا حَتَّى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ بِحُضُورِهِ فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِظَارِهِ صَيْرُورَتُهُ مَسْبُوقًا بِتَكْبِيرَةٍ فَيُكَبِّرُهَا بَعْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْتَظِرُهُ بَلْ يُكَبِّرُ كَمَا حَضَرَ، وَلَوْ كَبَّرَ كَمَا حَضَرَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ لَا تَفْسُدُ عِنْدَهُمَا لَكِنَّ مَا أَدَّاهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، ثُمَّ الْمَسْبُوقُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ التَّكْبِيرَاتِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ نَسَقًا بِغَيْرِ دُعَاءٍ، لِأَنَّهُ لَوْ قَضَاهُ بِهِ تُرْفَعُ الْجِنَازَةُ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا بِحُضُورِهَا، وَلَوْ رُفِعَتْ قَطَعَ التَّكْبِيرَ إذَا رُفِعَتْ عَلَى الْأَكْتَافِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إنْ كَانَ إلَى الْأَرْضِ أَقْرَبَ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ لَا إذَا كَانَ إلَى الْأَكْتَافِ أَقْرَبَ، وَقِيلَ لَا يَقْطَعُ حَتَّى تُبَاعِدَ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدْرِكِ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُدْرِكٍ حَقِيقَةً. بَلْ اُعْتُبِرَ مُدْرِكًا لِحُضُورِهِ التَّكْبِيرَ، دَفْعًا لِلْحَرَجِ، إذْ حَقِيقَةُ إدْرَاكِهِ الرَّكْعَةَ بِفِعْلِهَا مَعَ الْإِمَامِ، وَلَوْ شُرِطَ فِي التَّكْبِيرِ الْمَعِيَّةُ ضَاقَ الْأَمْرُ جِدًّا إذْ الْغَالِبُ تَأَخُّرُ النِّيَّةِ قَلِيلًا عَنْ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَاعْتُبِرَ مُدْرِكًا بِحُضُورِهِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّ أَنَسًا فَعَلَ كَذَلِكَ) رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ قَالَ: «كُنْتُ فِي سِكَّةِ الْمِرْبَدِ فَمَرَّتْ جِنَازَةٌ مَعَهَا نَاسٌ كَثِيرٌ، قَالُوا: جِنَازَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ فَتَبِعْتُهَا فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ عَلَيْهِ كِسَاءٌ رَقِيقٌ عَلَى رَأْسِهِ خِرْقَةٌ تَقِيهِ مِنْ الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا الدِّهْقَانُ: قَالُوا: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَلَمَّا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ قَامَ أَنَسٌ فَصَلَّى عَلَيْهَا وَأَنَا خَلْفَهُ لَا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ لَمْ يُطِلْ وَلَمْ يُسْرِعْ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقْعُدُ فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ الْمَرْأَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ، فَقَرَّبُوهَا وَعَلَيْهَا نَعْشٌ أَخْضَرُ، فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا نَحْوَ صَلَاتِهِ عَلَى الرَّجُلِ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ كَصَلَاتِكَ، يُكَبِّرُ عَلَيْهَا أَرْبَعًا وَيَقُومُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ، قَالَ نَعَمْ» ، إلَى أَنْ قَالَ أَبُو غَالِبٍ: فَسَأَلْت عَنْ صَنِيعِ أَنَسٍ فِي قِيَامِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا فَحَدَّثُونِي أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ النُّعُوشُ، فَكَانَ يَقُومُ حِيَالَ عَجِيزَتِهَا يَسْتُرُهَا مِنْ الْقَوْمِ، مُخْتَصَرٌ مِنْ لَفْظِ أَبِي دَاوُد. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَنَافِعُ هُوَ أَبُو غَالِبٍ الْبَاهِلِيُّ الْخَيَّاطُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: ابْنُ مَعِينٍ صَالِحٌ وَأَبُو حَاتِمٍ شَيْخٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. قُلْنَا: قَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِمَا رَوَى

ص: 126

أَجْزَأَهُمْ) فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا تُجْزِئُهُمْ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ وَجْهٍ لِوُجُودِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ احْتِيَاطًا

(وَلَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ) لِأَنَّ التَّقَدُّمَ حَقُّ الْوَلِيِّ فَيَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا بَأْسَ بِالْأَذَانِ: أَيْ الْإِعْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يُعْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَقْضُوا حَقَّهُ

أَحْمَدُ أَنَّ أَبَا غَالِبٍ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ أَنَسٍ عَلَى جِنَازَةٍ فَقَامَ حِيَالَ صَدْرِهِ. وَالْمَعْنَى الَّذِي عُقِلَ فِي الْقِيَامِ حِيَالَ الصَّدْرِ وَهُوَ مَا عَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ يُرَجِّحُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَيُوجِبُ التَّعَدِّيَةَ إلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَقْدِيمًا لِلْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ فِي الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ كَانَ بِسَبَبِ عَدَمِ النَّعْشِ فَتَقَيَّدَ بِهِ وَالْإِلْحَاقِ مَعَ وُجُودِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا» لَا يُنَافِي كَوْنَهُ الصَّدْرَ بَلْ الصَّدْرُ وَسَطٌ بِاعْتِبَارِ تَوَسُّطِ الْأَعْضَاءِ، إذْ فَوْقَهُ يَدَاهُ وَرَأْسُهُ وَتَحْتَهُ بَطْنُهُ وَفَخِذَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَفَ كَمَا قُلْنَا، إلَّا أَنَّهُ مَالَ إلَى الْعَوْرَةِ فِي حَقِّهَا فَظَنَّ الرَّاوِي ذَلِكَ لِتَقَارُبِ الْمَحَلَّيْنِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ وَجْهٍ) حَتَّى اُشْتُرِطَ لَهَا مَا سِوَى الْوَقْتِ مِمَّا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ؛ فَكَمَا أَنَّ تَرْكَ التَّكْبِيرِ وَالِاسْتِقْبَالِ يَمْنَعُ الِاعْتِدَادَ بِهَا كَذَلِكَ تَرْكُ الْقِيَامِ وَالنُّزُولِ احْتِيَاطًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ النُّزُولُ كَطِينٍ وَمَطَرٍ فَيَجُوزُ. وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَالْمَيِّتُ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ أَيْدِي النَّاسِ لِأَنَّهُ كَالْإِمَامِ، وَاخْتِلَافُ الْمَكَانِ مَانِعٌ مِنْ الِاقْتِدَاءِ

(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ) حَمَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْإِذْنِ لِلْغَيْرِ بِالتَّقَدُّمِ فِي الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا الْإِذْنُ لِلْمُصَلِّينَ بِالِانْصِرَافِ إلَى حَالِهِمْ كَيْ لَا يَتَكَلَّفُوا حُضُورَ الدَّفْنِ وَلَهُمْ مَوَانِعُ، وَهَذَا لِأَنَّ انْصِرَافَهُمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ مَكْرُوهٌ. وَعِبَارَةُ الْكَافِي: إنْ فَرَغُوا فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَمْشُوا خَلْفَ الْجِنَازَةِ إلَى أَنْ يَنْتَهُوا إلَى الْقَبْرِ، وَلَا يَرْجِعُ أَحَدٌ بِلَا إذْنٍ، فَمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فَقَدْ يَتَحَرَّجُونَ، وَالْإِذْنُ الْمُطْلَقُ لِلِانْصِرَافِ لَا مَانِعَ مِنْ حُضُورِ الدَّفْنِ. وَعَلَى هَذَا فَالْأَوْلَى هُوَ الْإِذْنُ وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظٍ لَا بَأْسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَطَّرِدْ فِيهِ كَوْنُ تَرْكِ مَدْخُولِهِ أَوْلَى عُرِفَ فِي مَوَاضِعَ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا بَأْسَ بِالْأَذَانِ: أَيْ الْإِعْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يُعْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَقْضُوا حَقَّهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ يُتَبَرَّكُ بِهَا وَلِيَنْتَفِعَ الْمَيِّتُ بِكَثْرَتِهِمْ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ فِيهِ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُنَادَى عَلَيْهِ فِي الْأَزِقَّةِ وَالْأَسْوَاقِ لِأَنَّهُ نَعْيُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ بَعْدُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ تَنْوِيهٍ بِذِكْرِهِ وَتَفْخِيمٍ

ص: 127

(وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ»

بَلْ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ لِأَنَّ فِيهِ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَلَيْسَ مِثْلُهُ نَعْيَ الْجَاهِلِيَّةِ، بَلْ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ الْإِعْلَامُ بِالْمُصِيبَةِ بِالدَّوَرَانِ مَعَ ضَجِيجٍ وَنِيَاحَةٍ كَمَا يَفْعَلُهُ فَسَقَةُ زَمَانِنَا. قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ «لَعَنَ اللَّهُ الصَّالِقَةَ وَالْحَالِقَةَ وَالشَّاقَّةَ» وَالصَّالِقَةُ الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَلَا بَأْسَ بِإِرْسَالِ الدَّمْعِ وَالْبُكَاءِ مِنْ غَيْرِ نِيَاحَةٍ

(قَوْلُهُ وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً) فِي الْخُلَاصَةِ مَكْرُوهٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ وَالْقَوْمُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالْقَوْمُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ مَعَ بَعْضِ الْقَوْمِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالْقَوْمُ الْبَاقُونَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ الْمَيِّتُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ وَالْقَوْمُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. هَذَا فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى. قَالَ: هُوَ الْمُخْتَارُ خِلَافًا لِمَا أَوْرَدَهُ النَّسَفِيُّ رحمه الله اهـ.

وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِي الْكَرَاهَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَتَوَابِعِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَالذِّكْرِ وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ.

وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِاحْتِمَالِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْفَقُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ الْمُصَنِّفُ، ثُمَّ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ؟ رِوَايَتَانِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأَوْلَى كَوْنُهَا تَنْزِيهِيَّةً، إذْ الْحَدِيثُ لَيْسَ هُوَ نَهْيًا غَيْرَ مَصْرُوفٍ وَلَا قَرَنَ الْفِعْلَ بِوَعِيدٍ بِظَنِّيٍّ بَلْ سَلَبَ الْأَجْرَ، وَسَلْبُ الْأَجْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا سَبَبٌ مَوْضُوعٌ لِلثَّوَابِ فَسَلْبُ الثَّوَابِ مَعَ فِعْلِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ إثْمٍ يُقَاوِمُ ذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ») أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ» وَرُوِيَ «فَلَا شَيْءَ لَهُ» وَرِوَايَةُ «فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» لَا تُعَارِضُ الْمَشْهُورَ، وَمَوْلَى التَّوْأَمَةِ ثِقَةٌ لَكِنَّهُ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، أَسْنَدَ النَّسَائِيّ إلَى ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ ثِقَةٌ لَكِنَّهُ اخْتَلَطَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ثَبْتٌ حُجَّةٌ، وَكُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، بِخِلَافِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ.

وَمَا فِي مُسْلِمٍ

ص: 128

وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ، وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله.

«لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: اُدْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ» قُلْنَا: أَوَّلًا وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجُوزُ كَوْنُ ذَلِكَ كَانَ لِضَرُورَةِ كَوْنِهِ كَانَ مُعْتَكِفًا، وَلَوْ سَلِمَ عَدَمُهَا فَإِنْكَارُهُمْ وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِهِ، وَمَا قِيلَ لَوْ كَانَ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ عِلْمُ هَذَا الْخَبَرِ لَرَوَاهُ وَلَمْ يَسْكُتْ الْمَدْفُوعُ بِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي سُكُوتِهِ مَعَ عِلْمِهِ كَوْنُهُ سَوَّغَ هُوَ وَغَيْرُهُ الِاجْتِهَادَ، وَالْإِنْكَارُ الَّذِي يَجِبُ عَدَمُ السُّكُوتِ مَعَهُ هُوَ الْمُنْكِرُ الْعَاصِي مَنْ قَامَ بِهِ لَا الْفُصُولُ الْمُجْتَهَدُ فِيهَا، وَهُمْ رضي الله عنهم لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ لَجَاجٍ خُصُوصًا مَعَ مَنْ هُوَ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ إنْ كَانَ فِي السُّنَّةِ هُوَ إدْخَالُهُ الْمَسْجِدَ أَوْ لَا فَلَا شَكَّ فِي بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، وَدَلِيلُهُمْ لَا يُوجِبُهُ لِأَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ خَلْقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَوْ كَانَ الْمَسْنُونُ الْأَفْضَلُ إدْخَالَهُمْ أَدْخَلَهُمْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنُقِلَ كَتَوَجُّهِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى نَقْلِ أَوْضَاعِ الدِّينِ فِي الْأُمُورِ خُصُوصًا الْأُمُورَ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى مُلَابَسَتِهَا أَلْبَتَّةَ، وَمِمَّا يَقْطَعُ بِعَدَمِ مَسْنُونِيَّتِهِ إنْكَارُهُمْ، وَتَخْصِيصُهَا رضي الله عنها فِي الرِّوَايَةِ ابْنَيْ بَيْضَاءَ، إذْ لَوْ كَانَ سُنَّةً فِي كُلِّ مَيِّتٍ ذَلِكَ كَانَ هَذَا مُسْتَقَرًّا عِنْدَهُمْ لَا يُنْكِرُونَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ يَتَوَارَثُونَهُ، وَلَقَالَتْ: كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْإِبَاحَةِ وَعَدَمِهَا فَعِنْدَهُمْ مُبَاحٌ وَعِنْدَنَا مَكْرُوهٌ، فَعَلَى تَقْدِيرِ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ يَكُونُ الْحَقُّ عَدَمَهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ كَمَا اخْتَرْنَاهُ فَقَدْ لَا يَلْزَمُ الْخِلَافُ لِأَنَّ مَرْجِعَ التَّنْزِيهِيَّةِ إلَى خِلَافِ الْأَوْلَى فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ مُبَاحٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَخَارِجُ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ فَلَا خِلَافَ.

ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ مُدَّعَاهُمْ الْجَوَازُ وَأَنَّهُ خَارِجُ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ فَلَا خِلَافَ حِينَئِذٍ. وَذَلِكَ قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ صُلِّيَ عَلَيْهِمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ شَهِدُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا، وَفِي تَرْكِهِمْ الْإِنْكَارَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ فَيُتَأَوَّلُ عَلَى نُقْصَانِ الْأَجْرِ، أَوْ يَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى " عَلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} انْتَهَى، فَقَدْ صَرَّحَ بِالْجَوَازِ وَنُقْصَانِ الْأَجْرِ وَهُوَ الْمَفْضُولِيَّةُ؛ وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ ادَّعَى أَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ وَيَنْدَفِعُ بِأَنَّ الْأَدِلَّةَ تُفِيدُ خِلَافَهُ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ سِوَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ.

وَقَوْلُهُ «لَا أَجْرَ لِمَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ» يُفِيدُ سُنِّيَّتَهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَكَذَا الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَّاهُ، وَحَدِيثُ ابْنَيْ بَيْضَاءَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَرْوِيُّ مِنْ صَلَاتِهِمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُمَا أَدْخَلَاهُ.

أَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ فَمَا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " مَا تَرَكَ أَبُو بَكْرٍ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَدُفِنَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ "

ص: 129

(وَمَنْ اسْتَهَلَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ سُمِّيَ وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ فَتَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ سُنَّةُ الْمَوْتَى (وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ أُدْرِجَ فِي خِرْقَةٍ)

وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ فِي سَنَدِهِ إسْمَاعِيلُ الْغَنَوِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ لَا يَسْتَلْزِمُ إدْخَالَهُ الْمَسْجِدَ لِجَوَازِ أَنْ يُوضَعَ خَارِجَهُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ فِيهِ إذَا كَانَ عِنْدَ بَابِهِ مَوْضِعٌ لِذَلِكَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا أَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ وَمَعْمَرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: رَأَى أَبِي رِجَالًا يَخْرُجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِيُصَلُّوا عَلَى جِنَازَةٍ فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ وَاَللَّهِ مَا صُلِّيَ عَلَى أَبِي إلَّا فِي الْمَسْجِدِ، فَتَأَمَّلْهُ. وَهُوَ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" صُلِّيَ عَلَى عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ " وَلَوْ سَلِمَ فَيَجُوزُ كَوْنُهُمْ انْحَطُّوا إلَى الْأَمْرِ الْجَائِزِ لِكَوْنِ دَفْنِهِمْ كَانَ بِحِذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَكَانِ الْمَسْجِدِ مُحِيطٌ بِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهِ قَاطِعٌ فِي أَنَّ سُنَّتَهُ وَطَرِيقَتَهُ الْمُسْتَمِرَّةَ لَمْ تَكُنْ إدْخَالَ الْمَوْتَى الْمَسْجِدَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ كَمَا تَكُونُ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ تَكُونُ عَلَى أَكْثَرَ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ إنْ شَاءَ اسْتَأْنَفَ لِكُلِّ مَيِّتٍ صَلَاةً وَإِنْ شَاءَ وَضَعَ الْكُلَّ وَصَلَّى عَلَيْهِمْ صَلَاةً وَاحِدَةً، وَهُوَ فِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِهِمْ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ وَضَعَهُمْ بِالطُّولِ سَطْرًا وَاحِدًا وَيَقُومُ عِنْدَ أَفْضَلِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ وَضَعَهُمْ وَاحِدًا وَرَاءَ وَاحِدٍ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ.

وَتَرْتِيبُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِمَامِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَلْفَهُ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَيُقَرَّبُ مِنْهُ الْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ وَيُبْعَدُ عَنْهُ الْمَفْضُولُ فَالْمَفْضُولُ، وَكُلُّ مَنْ بَعُدَ مِنْهُ كَانَ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَقْرَبَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ جُعِلَ الرَّجُلُ إلَى جِهَةِ الْإِمَامِ وَالصَّبِيُّ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَرَاءَهُ، وَإِذَا كَانَ مَعَهُمَا خُنْثَى جُعِلَ خَلْفَ الصَّبِيِّ؛ فَيُصَفُّ الرِّجَالُ إلَى جِهَةِ الْإِمَامِ ثُمَّ الصِّبْيَانُ وَرَاءَهُمْ ثُمَّ الْخَنَاثَى ثُمَّ النِّسَاءُ ثُمَّ الْمُرَاهِقَاتُ، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ رِجَالًا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمْ وَأَسَنُّهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَحْسَنُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْفَضْلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَلَوْ اجْتَمَعَ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَالْمَشْهُورُ تَقْدِيمُ الْحُرِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الْعَبْدُ أَصْلَحَ قُدِّمَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَوَضْعُهُمْ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَيُقَدَّمُ الْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَفِي الرَّجُلَيْنِ يُقَدَّمُ أَكْثَرُهُمَا قُرْآنًا وَعِلْمًا كَمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلَى أُحُدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا وُضِعُوا لِلصَّلَاةِ وَاحِدًا خَلْفَ وَاحِدٍ إلَى الْقِبْلَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُجْعَلُ رَأْسُ كُلِّ وَاحِدٍ أَسْفَلَ مِنْ رَأْسِ صَاحِبِهِ هَكَذَا دَرْجًا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ دُفِنُوا هَكَذَا وَالْوَضْعُ لِلصَّلَاةِ كَذَلِكَ. قَالَ: وَإِنْ وَضَعُوا رَأْسَ كُلٍّ بِحِذَاءِ رَأْسِ الْآخَرِ فَحَسَنٌ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ التَّفَاوُتِ فِي الْفَضْلِ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ تَفَاوُتٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ الْمُحَاذَاةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي سُقُوطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ جَمَاعَةٌ: وَعَنْ هَذَا قَالُوا: لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ عَلَى طَهَارَةٍ وَظَهَرَ لِلْمَأْمُومِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ صَحَّتْ، وَلَا يُعِيدُونَ لِلِاكْتِفَاءِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اسْتَهَلَّ إلَخْ) الِاسْتِهْلَالُ: أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ حَرَكَةِ كُلِّ عُضْوٍ أَوْ رَفْعِ صَوْتٍ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ خُرُوجُ أَكْثَرِهِ حَيًّا حَتَّى لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُهُ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَفِي الْأَقَلِّ لَا، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْفَرَائِضِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ

ص: 130

كَرَامَةً لِبَنِي آدَمَ (وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَيُغَسَّلُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

(وَإِذَا سُبِيَ صَبِيٌّ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَمَاتَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمَا (إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ) لِأَنَّهُ صَحَّ إسْلَامُهُ اسْتِحْسَانًا (أَوْ يُسْلِمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ) لِأَنَّهُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا (وَإِنْ لَمْ يُسْبَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ صُلِّيَ عَلَيْهِ)

عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ «إذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَوُرِثَ» قَالَ النَّسَائِيّ: وَلِلْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ غَيْرُ حَدِيثٍ مُنْكَرٍ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ قَالَ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا تَمَامُ مَعْنَى مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فَهُوَ مَا عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ «الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَكَأَنَّ الْمَوْقُوفَ أَصَحُّ انْتَهَى. وَأَنْتَ سَمِعْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ تَقْدِيمُ الرَّفْعِ لَا التَّرْجِيحُ بِالْأَحْفَظِ وَالْأَكْثَرِ بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «السِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ» فَسَاقِطَةٌ، إذْ الْحَظْرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ التَّعَارُضِ (قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ كَفَى فِي نَفْيِهِ كَوْنُهُ نَفْسًا مِنْ وَجْهٍ وَجُزْءًا مِنْ الْحَيِّ مِنْ وَجْهٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يُغَسَّلَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا وَلَا، فَأَعْمَلْنَا الشَّبَهَيْنِ فَقُلْنَا يُغَسَّلُ عَمَلًا بِالْأَوَّلِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ عَمَلًا بِالثَّانِي، وَرَجَّحْنَا خِلَافَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي غُسْلِ السِّقْطِ الَّذِي لَمْ تَتِمَّ خِلْقَةُ أَعْضَائِهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمَا) قَالَ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يَكُونَ لِسَانُهُ يُعْرِبُ عَنْهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (قَوْلُهُ وَهُوَ يَعْقِلُ) أَيْ يَعْقِلُ صِفَةَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مَا فِي الْحَدِيثِ " أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ " أَيْ بِوُجُودِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ " وَمَلَائِكَتِهِ " أَيْ بِوُجُودِ مَلَائِكَتِهِ " وَكُتُبِهِ " أَيْ إنْزَالِهَا " وَرُسُلِهِ " أَيْ بِإِرْسَالِهِمْ عليهم السلام " وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " أَيْ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ " وَالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ " وَهَذَا دَلِيلُ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْإِسْلَامِ مَا لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَاسْتَوْصَفَهَا صِفَةَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ

ص: 131

لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ فَحُكِمَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ.

(وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ) بِذَلِكَ أُمِرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي حَقِّ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ،

تَعْرِفْهُ لَا تَكُونُ مُسْلِمَةً.

وَالْمُرَادُ مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ لَيْسَ مَا يَظْهَرُ مِنْ التَّوَقُّفِ فِي جَوَابِ مَا الْإِيمَانُ مَا الْإِسْلَامُ كَمَا يَكُونُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَامّ لِقُصُورِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ، بَلْ قِيَامُ الْجَهْلِ بِذَلِكَ بِالْبَاطِنِ مَثَلًا بِأَنَّ الْبَعْثَ هَلْ يُوجَدُ أَوْ لَا، وَأَنَّ الرُّسُلَ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ كَانَ أَوْ لَا يَكُونُ فِي اعْتِقَادِهِ اعْتِقَادَ طَرَفِ الْإِثْبَاتِ لِلْجَهْلِ الْبَسِيطِ، فَعَنْ ذَلِكَ قَالَتْ: لَا أَعْرِفُهُ، وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّا نَسْمَعُ مِمَّنْ يَقُولُ فِي جَوَابِ مَا قُلْنَا لَا أَعْرِفُ وَهُوَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِقْرَارِ وَالْخَوْفِ مِنْ النَّارِ وَطَلَبِ الْجَنَّةِ بِمَكَانٍ، بَلْ وَذَكَرَ مَا يَصْلُحُ اسْتِدْلَالًا فِي أَثْنَاءِ أَحْوَالِهِمْ وَتَكَلُّمِهِمْ عَلَى التَّصْرِيحِ بِاعْتِقَادِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَكَأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بِكَلَامٍ خَاصٍّ مَنْظُومٍ وَعِبَارَةٍ عَالِيَةٍ خَاصَّةٍ فَيُحْجِمُونَ عَنْ الْجَوَابِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ) اعْلَمْ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ عَلَى مَرَاتِبَ: أَقْوَاهَا تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَيْ فِي أَحْكَامٍ لَا فِي الْعُقْبَى فَلَا يُحْكَمُ بِأَنَّ أَطْفَالَهُمْ فِي النَّارِ أَلْبَتَّةَ بَلْ فِيهِ خِلَافٌ. قِيلَ يَكُونُونَ خَدَمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ إنْ كَانُوا قَالُوا بَلَى يَوْمَ أُخِذَ الْعَهْدُ عَنْ اعْتِقَادٍ فَفِي الْجَنَّةِ وَإِلَّا فِي النَّارِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهِمْ: إنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَهَذَا نَفْيٌ لِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَاخْتُلِفَ بَعْدَ تَبَعِيَّةِ الْوِلَادَةِ، فَاَلَّذِي فِي الْهِدَايَةِ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ، وَفِي الْمُحِيطِ عِنْدَ عَدَمِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ يَكُونُ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْيَدِ وَعِنْدَ عَدَمِ صَاحِبِ الْيَدِ يَكُونُ تَبَعًا لِلدَّارِ وَلَعَلَّهُ أَوْلَى، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ صَبِيٌّ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ يُصَلِّي عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِصَاحِبِ الْيَدِ

(قَوْلُهُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ) عِبَارَةٌ مَعِيبَةٌ، وَمَا دَفَعَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَرِيبَ لَا يُفِيدُ، لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى نَفْسِ التَّعْبِيرِ بِهِ بَعْدَ إرَادَةِ الْقَرِيبِ بِهِ، وَأَطْلَقَ الْوَلِيَّ: يَعْنِي الْقَرِيبَ فَشَمَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَالْأُخْتِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ. ثُمَّ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِيبٌ كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ خُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ مِنْ بَعِيدٍ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ كُفْرُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ بِارْتِدَادٍ، فَإِنْ كَانَ يُحْفَرُ لَهُ حُفَيْرَةٌ وَيُلْقَى فِيهَا كَالْكَلْبِ وَلَا يُدْفَعُ إلَى مَنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِهِمْ، صَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ (قَوْلُهُ بِذَلِكَ أَمَرَ عَلِيٌّ) رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ

ص: 132

لَكِنْ يُغَسَّلُ غُسْلَ الثَّوْبِ النَّجِسِ وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَتُحْفَرُ حُفَيْرَةٌ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ التَّكْفِينِ وَاللَّحْدِ، وَلَا يُوضَعُ فِيهَا بَلْ يُلْقَى.

فَصْلٌ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ

(وَإِذَا حَمَلُوا الْمَيِّتَ عَلَى سَرِيرِهِ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ) بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ، وَفِيهِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ وَزِيَادَةُ

جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ «لَمَّا أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بَكَى ثُمَّ قَالَ لِي: اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ، قَالَ: فَفَعَلْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ لِي اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ، قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغْفِرُ لَهُ أَيَّامًا وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِهَذِهِ الْآيَةِ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْحَدِيثَ بِسَنَدِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَالَ «إنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الْكَافِرَ قَدْ مَاتَ فَمَا تَرَى فِيهِ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تُغَسِّلَهُ وَتُجِنَّهُ وَأَمَرَهُ بِالْغُسْلِ» .

وَإِنَّمَا لَمْ نَذْكُرْهُ نَحْنُ مِنْ السُّنَنِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِمَا «اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ ثُمَّ لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي، فَذَهَبْتُ فَوَارَيْتُهُ وَجِئْتُهُ، فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي» وَلَيْسَ فِيهِ الْأَمْرُ بِغُسْلِهِ إلَّا مَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْ طَرِيقِ الِالْتِزَامِ الشَّرْعِيِّ بِنَاءً عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ الْغُسْلُ إلَّا مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ دُونَ دَفْنِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ عليه الصلاة والسلام يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَغُسْلِ الْمَيِّتِ» وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَرَوَى هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ عَلِيٍّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ طُرُقَ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَثِيرَةٌ، وَالِاسْتِحْبَابُ يَثْبُتُ بِالضَّعْفِ غَيْرِ الْمَوْضُوعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا إذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَيْسَ لَهُ قَرِيبٌ إلَّا كَافِرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ، أَلَا تَرَى «أَنَّ الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ قَالَ عليه الصلاة والسلام لِأَصْحَابِهِ تَوَلَّوْا أَخَاكُمْ» وَلَمْ يُخِلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ فِي قَبْرِ قَرَابَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيَدْفِنَهُ.

ص: 133

الْإِكْرَامِ وَالصِّيَانَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ: يَضَعُهَا السَّابِقُ عَلَى أَصْلِ عُنُقِهِ، وَالثَّانِي عَلَى أَعْلَى صَدْرِهِ، لِأَنَّ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه هَكَذَا حُمِلَتْ. قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ لِازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ.

(فَصْلٌ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ)

(قَوْلُهُ لِأَنَّ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ هَكَذَا حُمِلَتْ) رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ بَيْتِهِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ حَتَّى خَرَجَ بِهِ مِنْ الدَّارِ» قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَالدَّارُ تَكُونُ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ انْتَهَى. إلَّا أَنَّ الْآثَارَ فِي الْبَابِ ثَابِتَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: " تُوُفِّيَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَشَهِدْنَاهُ، فَلَمَّا خُرِّجَ سَرِيرُهُ مِنْ حُجْرَتِهِ إذَا حَسَنُ بْنُ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ، فَأَمَرَ بِهِ الْحَجَّاجُ أَنْ يَخْرُجَ لِيَقِفَ مَكَانَهُ فَأَبَى، فَسَأَلَهُ بَنُو جَابِرٍ أَلَا خَرَجْت فَخَرَجَ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى وُضِعَ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ، ثُمَّ جَاءَ إلَى الْقَبْرِ فَنَزَلَ حَسَنُ بْنُ حَسَنٍ فِي قَبْرِهِ، فَأَمَرَ بِهِ الْحَجَّاجُ أَنْ يَخْرُجَ لَيَدْخُلَ مَكَانَهُ فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُ بَنُو جَابِرٍ فَخَرَجَ، فَدَخَلَ الْحَجَّاجُ الْحُفْرَةَ حَتَّى فَرَغَ ". وَأَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ قَالَ: تُوُفِّيَ أُسَيْدَ بْنُ حُضَيْرٍ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَحَمَلَهُ عُمَرُ بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ حَتَّى وَضَعَهُ بِالْبَقِيعِ وَصَلَّى عَلَيْهِ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَحْمِلُ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرٍ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه وَمِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: رَأَيْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَحْمِلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ وَاضِعًا السَّرِيرَ عَلَى كَاهِلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عُمَرَ فِي جِنَازَةِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَائِمًا بَيْنَ قَائِمَتَيْ السَّرِيرِ.

وَمِنْ طَرِيقِهِ عَنْ شُرَيْحٍ أَبِي عَوْنٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ يَحْمِلُ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرٍ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ. قُلْنَا: هَذِهِ مَوْقُوفَاتٌ وَالْمَرْفُوعُ مِنْهَا ضَعِيفٌ، ثُمَّ هِيَ وَقَائِعُ أَحْوَالٍ فَاحْتَمَلَ كَوْنُ ذَلِكَ فَعَلُوهُ لِأَنَّهُ السُّنَّةُ أَوْ لِعَارِضٍ اقْتَضَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ حَمْلَ الِاثْنَيْنِ.

وَالْحَقُّ أَنْ نَقُولَ: لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى حَمْلِ الِاثْنَيْنِ لِجَوَازِ حَمْلِ الْأَرْبَعَةِ وَأَحَدُهُمْ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ بِأَنْ يَحْمِلَ الْمُؤَخَّرُ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ يَسَارِ الْمَيِّتِ وَالْمُقَدَّمُ عَلَى الْأَيْسَرِ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ يَمِينِ الْمَيِّتِ فَلْيُحْمَلْ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّ بَعْضَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمْ الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ رُوِيَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ.

رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي عَطَاءٍ عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ قَالَ: " رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ فِي جِنَازَةٍ فَحَمَلَ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعِ ".

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنِي الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الْمِهْزَمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ حَمَلَ الْجِنَازَةَ بِجَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ فَقَدْ قَضَى الَّذِي عَلَيْهِ. ثُمَّ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِلَافَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ. رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ " مَنْ اتَّبَعَ الْجِنَازَةَ فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعَةِ " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَحَدَّثَنَا الْمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ بِهِ قَالَ:«مِنْ السُّنَّةِ حَمْلُ الْجِنَازَةِ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعَةِ» .

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِهِ وَلَفْظُهُ: «مَنْ اتَّبَعَ الْجِنَازَةَ فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ، وَإِنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ ثُمَّ إنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ» فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ وَأَنَّ خِلَافَهُ إنْ تَحَقَّقَ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ فَلِعَارِضٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُنَاظِرِ تَعْيِينُهُ، وَقَدْ يَشَاءُ فَيُبْدِي مُحْتَمَلَاتٍ مُنَاسَبَةً يُجَوِّزُهَا

ص: 134

(وَيَمْشُونَ بِهِ مُسْرِعِينَ دُونَ الْخَبَبِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حِينَ سُئِلَ عَنْهُ قَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ

(وَإِذَا بَلَغُوا إلَى قَبْرِهِ يُكْرَهُ أَنْ يَجْلِسُوا قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ) لِأَنَّهُ قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعَاوُنِ وَالْقِيَامُ أَمْكَنُ مِنْهُ

قَالَ:

تَجْوِيزًا كَضِيقِ الْمَكَانِ أَوْ كَثْرَةِ النَّاسِ أَوْ قِلَّةِ الْحَامِلِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا كَثْرَةُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَقَدْ شَهِدَهُ: يَعْنِي سَعْدًا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَمْ يَنْزِلُوا إلَى الْأَرْضِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَقَدْ ضَمَّهُ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ» . وَمَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ» فَإِنَّمَا يُتَّجَهُ مُحْمَلًا عَلَى تَقْدِيرِ تَجَسُّمِهِمْ عليهم السلام لَا تَجَرُّدِهِمْ عَنْ الْكَثَافَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ خِلْقَتِهِمْ. وَفِي الْآثَارِ: «مَعَ كُلِّ عَبْدٍ مَلَكَانِ، وَفِيهَا أَكْثَرُ إلَى سَبْعِينَ» فَلَمْ تُوجِبْ مُزَاحَمَةً حِسِّيَّةً وَلَا مَنْعًا مِنْ اتِّصَالٍ بَيْنَك وَبَيْنَ إنْسَانٍ، وَلَا حَمْلَ شَيْءٍ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَالرَّأْسِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ بِسَبَبٍ حَمْلِهِمْ عليهم السلام اُكْتُفِيَ عَنْ تَكْمِيلِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْحَامِلِينَ، وَلِأَنَّ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ أَصْوَنُ لِلْجِنَازَةِ عَنْ السُّقُوطِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ أَشَقَّ عَلَى الْحَامِلِينَ مَصْلَحَةٌ مُعَارَضَةٌ بِمَفْسَدَةِ تَعْرِيضِهِ عَلَى السُّقُوطِ خُصُوصًا فِي مَوَاطِنِ الزَّحْمَةِ وَالْمِحْجَنِ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ إكْرَامًا لِلْمَيِّتِ وَأَعْوَنُ عَلَى تَحْصِيلِ سُنَّةِ الْإِسْرَاعِ وَأَبْعَدُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلِذَاكِرِهِ حَمْلُهُ عَلَى الظَّهْرِ وَالدَّابَّةِ

(قَوْلُهُ دُونَ الْخَبَبِ) ضَرْبٌ مِنْ الْعَدْوِ دُونَ الْعُنُقِ وَالْعُنُقُ خَطْوٌ فَسِيحٌ فَيَمْشُونَ بِهِ دُونَ مَا دُونَ الْعُنُقِ، وَلَوْ مَشَوْا بِهِ الْخَبَبَ كُرِهَ لِأَنَّهُ ازْدِرَاءٌ بِالْمَيِّتِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حِينَ سُئِلَ عَنْهُ إلَخْ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمَشْيِ مَعَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ» وَهُوَ مُضَعَّفٌ. وَأَخْرَجَ السِّتَّةُ قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» وَيُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِهِ كُلِّهِ مِنْ حِينِ يَمُوتُ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعَاوُنِ إلَخْ) وَلِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ نَدْبِ الشَّرْعِ لِحُضُورِ دَفْنِهِ إكْرَامُ الْمَيِّتِ، وَفِي جُلُوسِهِمْ قَبْلَ وَضْعِهِ ازْدِرَاءٌ بِهِ وَعَدَمُ الْتِفَاتٍ إلَيْهِ، هَذَا فِي حَقِّ الْمَاشِي مَعَهَا، أَمَّا الْقَاعِدُ عَلَى الطَّرِيقِ إذَا مَرَّتْ بِهِ أَوْ عَلَى الْقَبْرِ إذَا جِيءَ بِهِ فَلَا يَقُومُ لَهَا، وَقِيلَ يَقُومُ، وَاخْتِيرَ الْأَوَّلُ لَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِالْقِيَامِ فِي الْجِنَازَةِ ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ

ص: 135

وَكَيْفِيَّةُ الْحَمْلِ) أَنْ تَضَعَ مُقَدَّمَ الْجِنَازَةِ عَلَى يَمِينِك ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَمِينِك ثُمَّ مُقَدَّمَهَا عَلَى يَسَارِك ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَسَارِك إيثَارًا لِلتَّيَامُنِ، وَهَذَا فِي حَالَةِ التَّنَاوُبِ.

وَأَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ» بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَحْمَدَ

(قَوْلُهُ أَنْ تَضَعَ) هُوَ حِكَايَةُ خِطَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَبِي يُوسُفَ، وَالْمُرَادُ بِمُقَدَّمِ الْجِنَازَةِ يَمِينُهَا، وَيَمِينُ الْجِنَازَةِ بِمَعْنَى الْمَيِّتِ هُوَ يَسَارُ السَّرِيرِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنْ تَضَعَ يَسَارَ السَّرِيرِ الْمُقَدَّمَ عَلَى يَمِينِك ثُمَّ يَسَارَهُ الْمُؤَخَّرَ ثُمَّ يَمِينَهُ الْمُقَدَّمَ عَلَى يَسَارِك ثُمَّ يَمِينَهُ الْمُؤَخَّرَ لِأَنَّ فِي هَذَا إيثَارًا لِلتَّيَامُنِ. (تَتِمَّةٌ)

الْأَفْضَلُ لِلْمُشَيِّعِ لِلْجِنَازَةِ الْمَشْيُ خَلْفَهَا وَيَجُوزُ أَمَامَهَا إلَّا أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْهَا أَوْ يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ فَيُكْرَهُ وَلَا يَمْشِي عَنْ يَمِينِهَا وَلَا عَنْ شِمَالِهَا، وَيُكْرَهُ لِمُشَيِّعِهَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَيَذْكُرُ فِي نَفْسِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ، وَقَدْ نُقِلَ فِعْلُ السَّلَفِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْمَعْنَى. هُوَ يَقُولُ: هُمْ شُفَعَاءُ وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ لِيُمَهِّدَ الْمَقْصُودَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: هُمْ مُشَيِّعُونَ فَيَتَأَخَّرُونَ وَالشَّفِيعُ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَصْحِبُ الْمَشْفُوعَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ شَرْعًا إلْزَامُ تَقْدِيمِهِ حَالَةَ الشَّفَاعَةِ لَهُ أَعْنِي حَالَةَ الصَّلَاةِ، فَثَبَتَ شَرْعًا عَدَمُ اعْتِبَارِ مَا اعْتَبَرَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 136

‌فَصْلٌ فِي الدَّفْنِ

(وَيُحْفَرُ الْقَبْرُ وَيُلْحَدُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَاللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» (وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ) مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يُسَلُّ سَلًّا لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُلَّ سَلًّا» . وَلَنَا أَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ

(فَصْلٌ فِي الدَّفْنِ)

(قَوْلُهُ وَيُلْحَدُ) السُّنَّةُ عِنْدَنَا اللَّحْدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورَةً مِنْ رَخْوِ الْأَرْضِ فَيُخَافُ أَنْ يَنْهَارَ اللَّحْدُ فَيُصَارُ إلَى الشَّقِّ، بَلْ ذُكِرَ لِي أَنَّ بَعْضَ الْأَرْضِينَ مِنْ الرِّمَالِ يَسْكُنُهَا بَعْضُ الْأَعْرَابِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الشَّقُّ أَيْضًا، بَلْ يُوضَعُ الْمَيِّتُ وَيُهَالُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ.

وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَامِرٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِيهِ مَقَالٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ «لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَلْحَدُ وَالْآخَرُ يَضْرَحُ، فَقَالُوا: نَسْتَخِيرُ رَبَّنَا وَنَبْعَثُ إلَيْهِمَا فَأَيُّهُمَا سَبَقَ تَرَكْنَاهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا فَسَبَقَ صَاحِبُ اللَّحْدِ، فَلَحَّدُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَهُوَ مَا أُخْرِجَ " عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْحَدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَهُوَ رِوَايَةٌ مِنْ سَعْدٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَلْحَدَ.

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُلْحِدَ وَنُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنَ نَصْبًا وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنْ الْأَرْضِ نَحْوَ شِبْرٍ» وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يُرْمَسَ فِي التُّرَابِ رَمْسًا، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَقَالَ: لَيْسَ أَحَدُ جَنْبَيَّ أَوْلَى بِالتُّرَابِ مِنْ الْآخَرِ (قَوْلُهُ وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ مِمَّا يَلِي) وَذَلِكَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْ الْقَبْرِ وَيُحْمَلُ الْمَيِّتُ مِنْهُ فَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ فَيَكُونُ الْآخِذُ لَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَالَ الْأَخْذِ (قَوْلُهُ فَإِنَّ عِنْده يُسَلُّ سَلًّا) هُوَ بِأَنْ يُوضَعَ السَّرِيرُ فِي مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الْمَيِّتِ بِإِزَاءِ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ مِنْ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُدْخَلُ رَأْسُ الْمَيِّتِ الْقَبْرَ وَيُسَلُّ كَذَلِكَ فَتَكُونُ رِجْلَاهُ مَوْضِعَ رَأْسِهِ، ثُمَّ تُدْخَلُ رِجْلَاهُ وَيُسَلُّ كَذَلِكَ، قَدْ قِيلَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَالْمَرْوِيُّ لِلشَّافِعِيِّ الْأَوَّلُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «سُلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ» .

وَقَالَ: أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي النَّضْرِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ» ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِسْنَادُ أَبِي دَاوُد صَحِيحٌ، وَهُوَ مَا أُخْرِجَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَالسَّبِيعِيِّ قَالَ: أَوْصَانِي الْحَارِثُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخِطْمِيُّ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ الْقَبْرِ وَقَالَ: هَذَا مِنْ السُّنَّةِ.

وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ،

ص: 137

فَيُسْتَحَبُّ الْإِدْخَالُ مِنْهُ، وَاضْطَرَبَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إدْخَالِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام

(فَإِذَا وُضِعَ فِي لَحْدِهِ يَقُولُ وَاضِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) كَذَا قَالَهُ عليه الصلاة والسلام حِينَ وَضَعَ أَبَا دُجَانَةَ رضي الله عنه فِي الْقَبْرِ

قُلْنَا إدْخَالُهُ عليه الصلاة والسلام مُضْطَرَبٌ فِيهِ، فَكَمَا رُوِيَ ذَلِكَ رُوِيَ خِلَافُهُ.

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ هُوَ النَّخَعِيُّ وَمَنْ قَالَ التَّيْمِيُّ فَقَدْ وَهَمَ، فَإِنَّ حَمَّادًا إنَّمَا يَرْوِي عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فَقَالَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُدْخِلَ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يُسَلَّ سَلًّا» وَزَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَرُفِعَ قَبْرُهُ حَتَّى يُعْرَفَ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُخِذَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَاسْتُقْبِلَ اسْتِقْبَالًا» وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى مَا دَفَعَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ الْأَوَّلَ مِنْ أَنَّ سَلَّهُ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْقَبْرَ فِي أَصْلِ الْحَائِطِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دُفِنَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتَوَفَّ مُلْتَصِقًا إلَى الْحَائِطِ بَلْ مُسْتَنِدًا إلَى عَائِشَةَ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ كَانَتْ تَقُولُ «مَاتَ بَيْنَ حَافِنَتِي وَذَاقِنَتِي» يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُبَاعِدًا مِنْ الْحَائِطِ وَإِنْ كَانَ فِرَاشُهُ إلَى الْحَائِطِ لِأَنَّهُ حَالَةَ اسْتِنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا يُتَوَفَّى مُسْتَقْبِلًا فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ اللَّحْدِ مُلْتَصِقًا إلَى أَصْلِ الْجِدَارِ، وَمَنْزِلُ الْقَبْرِ قِبْلَةً، وَلَيْسَ الْإِدْخَالُ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ إلَّا أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عَلَى سَقْفِ اللَّحْدِ ثُمَّ يُؤْخَذَ الْمَيِّتُ وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: تَعَارَضَ مَا رَوَاهُ وَمَا رَوَيْنَاهُ فَتَسَاقَطَا. وَلَوْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ كَانَ لِلضَّرُورَةِ كَمَا قُلْنَا.

وَغَايَةُ فِعْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ ظَنَّ السُّنَّةَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَجَدْنَا التَّشْرِيعَ الْمَنْقُولَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ خِلَافَهُ، وَكَذَا عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، فَالْأَوَّلُ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا فَأُسْرِجَ لَهُ سِرَاجٌ فَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ رَحِمَكَ اللَّهُ إنْ كُنْتَ لَأَوَّاهًا تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ انْتَهَى.

مَعَ أَنَّ فِيهِ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ وَمِنْهَالَ بْنَ خَلِيفَةَ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا وَذَلِكَ يَحُطُّ الْحَدِيثَ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ لَا الْحَسَنِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي أَمْرِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي بَابِ الْقِرَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالثَّانِي مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ " أَنَّ عَلِيًّا كَبَّرَ عَلَى يَزِيدَ بْنَ الْمُكَفِّفِ أَرْبَعًا وَأَدْخَلَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ". وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ " أَنَّهُ وَلَّى ابْنَ عَبَّاسٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَأَدْخَلَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ "

(قَوْلُهُ هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ وَضَعَ أَبَا دُجَانَةَ) غَلَطٌ، فَإِنَّ أَبَا دُجَانَةَ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ، لَكِنْ

ص: 138

(وَيُوَجَّهُ إلَى الْقِبْلَةِ) بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَتُحَلُّ الْعُقْدَةُ) لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْ الِانْتِشَارِ (وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ اللَّبِنُ

(وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ حَتَّى يُجْعَلَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ وَلَا يُسَجَّى قَبْرُ الرَّجُلِ) لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ وَمَبْنَى حَالِ الرِّجَالِ عَلَى الِانْكِشَافِ (وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَالْخَشَبُ) لِأَنَّهُمَا لِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ وَالْقَبْرُ مَوْضِعُ الْبِلَى، ثُمَّ بِالْآجُرِّ يَكُونُ أَثَرُ النَّارِ فَيُكْرَهُ تَفَاؤُلًا (وَلَا بَأْسَ بِالْقَصَبِ)

رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَدْخَلَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ بِاسْمِ اللَّهِ " وَبِاَللَّهِ " وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَلَفْظُهُ «إذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي قُبُورِهِمْ فَقُولُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ طُرُقٌ أُخْرَى عَدِيدَةٌ (قَوْلُهُ وَيُوَجَّهُ بِذَلِكَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) غَرِيبٌ، وَاسْتُؤْنِسَ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: هِيَ تِسْعٌ» فَذَكَرَ مِنْهَا اسْتِحْلَالَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جُعِلَ فِي قَبْرِهِ اللَّبِنُ) وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْحَدُوا لِي لَحَدًّا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقَدَّمَ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ، وَفِيهِ " نُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نَصْبًا " الْحَدِيثَ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُمَا مِنْ إحْكَامِ الْبِنَاءِ) وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَ بِأَنَّ الْآجُرَّ مَسَّتْهُ النَّارُ وَدُفِعَ بِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُغَسَّلَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ،

ص: 139

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَيُسْتَحَبُّ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ

(ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُسَطَّحُ) أَيْ لَا يُرَبَّعُ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ» وَمَنْ شَاهَدَ قَبْرَهُ عليه الصلاة والسلام أَخْبَرَ أَنَّهُ مُسَنَّمٌ.

فَعُلِمَ أَنَّ مَسَّ النَّارِ لَمْ يُعْتَبَرْ مَانِعًا فِي الشَّرْعِ وَالْأَوْلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَفِي الدَّفْعِ نَوْعُ نَظَرٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَعَلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ) وَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ حُزْمَةٌ. رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ» ) وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَأَسْنَدَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، أَوْصَى أَبُو مَيْسَرَةَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ الْهَمْدَانِيُّ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى لَحْدِهِ طُنًّا مِنْ قَصَبٍ وَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْمُهَاجِرِينَ يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ خَطَأُ هَذَا الْحَدِيثِ لِمُعَارَضَةِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُضِعَ اللَّبِنُ عَلَى قَبْرِهِ عليه الصلاة والسلام نَصْبًا مَعَ قَصَبٍ كُمِّلَ بِهِ لِإِعْوَازٍ فِي اللَّبَنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ) وَمَنْ شَاهَدَ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّهُ مُسَنَّمٌ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا يَرْفَعُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ وَتَجْصِيصِهَا» وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ نَاشِزَةً مِنْ الْأَرْضِ وَعَلَيْهَا فِلْقٌ مِنْ مَدَرٍ أَبْيَضَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّ سُفْيَانَ التَّمَارَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى «قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَلَفْظُهُ عَنْ سُفْيَانَ: وَدَخَلْت الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ قَبْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْت قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُسَنَّمَةً وَمَا عُورِضَ بِهِ مِمَّا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ: يَا أُمَّهْ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءَ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ» ، لَيْسَ مُعَارِضًا لِهَذَا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَأَيْضًا ظَهَرَ أَنَّ الْقَاسِمَ أَرَادَ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ بِرِوَايَةِ أَبِي حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلْت ثَلَاثَةً كُلُّهُمْ لَهُ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبٌ، سَأَلْت أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ سَالِمٍ، وَسَأَلْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَسَأَلْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قُلْت: أَخْبِرُونِي عَنْ قُبُورِ آبَائِكُمْ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَكُلُّهُمْ قَالُوا: إنَّهَا مُسَنَّمَةُ. وَأَمَّا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْهِيَاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: «أَبْعَثُكَ عَلَى

ص: 140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ» فَهُوَ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْقُبُورِ بِالْبِنَاءِ الْحَسَنِ الْعَالِي، وَلَيْسَ مُرَادُنَا ذَلِكَ الْقَدْرَ بَلْ قَدْرَ مَا يَبْدُو مِنْ الْأَرْضِ وَيَتَمَيَّزُ عَنْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

[تَتِمَّةٌ] لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْ النِّسَاءِ الْقَبْرَ وَلَا يُخْرِجُهُنَّ إلَّا الرِّجَالُ وَلَوْ كَانُوا أَجَانِبَ، لِأَنَّ مَسَّ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا بِحَائِلٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ فِي حَيَاتِهَا، فَكَذَا بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِذَا مَاتَتْ وَلَا مَحْرَمَ لَهَا دَفَنَهَا أَهْلُ الصَّلَاحِ مِنْ مَشَايِخِ جِيرَانِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَالشَّبَابُ الصُّلَحَاءُ، أَمَّا إنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَلَوْ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ نَزَلَ وَأَلْحَدَهَا، وَلَا يُنْبَشُ بَعْدَ إهَالَةِ التُّرَابِ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ إلَّا لِعُذْرٍ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: وَالْعُذْرُ أَنَّ الْأَرْضَ مَغْصُوبَةٌ أَوْ يَأْخُذُهَا شَفِيعٌ، وَلِذَا لَمْ يُحَوَّلْ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ دُفِنُوا بِأَرْضِ الْحَرْبِ إذْ لَا عُذْرَ، فَإِنْ أَحَبَّ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يُسَوِّيَ الْقَبْرَ وَيَزْرَعَ فَوْقَهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ حَقَّهُ فِي بَاطِنِهَا وَظَاهِرِهَا. فَإِنْ شَاءَ تَرَكَ حَقَّهُ فِي بَاطِنِهَا.

وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ وَمِنْ الْأَعْذَارِ أَنْ يُسْقَطَ فِي اللَّحْدِ مَالٌ ثَوْبٌ أَوْ دِرْهَمٌ لِأَحَدٍ. وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمَشَايِخِ فِي امْرَأَةٍ دُفِنَ ابْنُهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا فَلَمْ تَصْبِرْ وَأَرَادَتْ نَقْلَهُ أَنَّهُ لَا يَسَعُهَا ذَلِكَ، فَتَجْوِيزُ شَوَاذِّ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّهُ لَا يُنْبَشُ وَقَدْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ أَوْ بِلَا صَلَاةٍ فَلَمْ يُبِيحُوهُ لِتَدَارُكِ فَرْضٍ لَحِقَهُ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِهِ، أَمَّا إذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْ تَسْوِيَةَ اللَّبِنِ فَلَا بَأْسَ بِنَقْلِهِ نَحْوَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إلَى الْمَقَابِرِ قَدْ تَبْلُغُ هَذَا الْمِقْدَارَ. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَقْلَهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ مَكْرُوهٌ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْفَنَ كُلٌّ فِي مَقْبَرَةِ الْبَلْدَةِ الَّتِي مَاتَ بِهَا، وَنُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ مَاتَ بِالشَّامِ وَحُمِلَ مِنْهَا: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِيك إلَيَّ مَا نَقَلْتُك وَلَدَفَنْتُك حَيْثُ مِتَّ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: فِي النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لَا إثْمَ لِمَا نُقِلَ أَنَّ يَعْقُوبَ عليه السلام مَاتَ بِمِصْرٍ فَنُقِلَ إلَى الشَّامِ، وَمُوسَى عليه السلام نَقَلَ تَابُوتَ يُوسُفَ عليه السلام بَعْدَمَا أَتَى عَلَيْهِ زَمَانٌ مِنْ مِصْرٍ إلَى الشَّامِ لِيَكُونَ مَعَ آبَائِهِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا وَلَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ مَاتَ فِي ضَيْعَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ إلَيْهَا ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ فِي بَلْدَةٍ يُكْرَهُ نَقْلُهُ إلَى الْأُخْرَى لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ بِمَا فِيهِ تَأْخِيرُ دَفْنِهِ وَكَفَى بِذَلِكَ كَرَاهَةً. وَمَنْ حَفَرَ قَبْرًا فِي مَقْبَرَةٍ لِيُدْفَنَ فِيهِ فَدُفِنَ غَيْرُهُ لَا يُنْبَشُ لَكِنْ يُضَمَّنُ قِيمَةَ الْحَفْرِ، وَلَا يُدْفَنُ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ بَلْ يُنْقَلُ إلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا يُحْفَرُ قَبْرٌ لِدَفْنِ آخَرَ إلَّا إنْ بَلِيَ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا عَظْمٌ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ بُدٌّ فَيُضَمُّ عِظَامُ الْأَوَّلِ وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ. وَمَنْ مَاتَ فِي سَفِينَةٍ دَفَنُوهُ إنْ أَمْكَنَ الْخُرُوجُ إلَى أَرْضٍ، وَإِلَّا أَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ الْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ وَالصَّلَاةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ يُثَقَّلُ لِيَرْسُبَ، وَعَنْ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ إنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِلَّا شُدَّ بَيْنَ لَوْحَيْنِ لِيَقْذِفَهُ الْبَحْرُ فَيُدْفَنُ وَيُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُسَمَّى فَسَاقِي وَالْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ وَوَطْؤُهُ، وَحِينَئِذٍ فَمَا يَصْنَعُهُ النَّاسُ مِمَّنْ دُفِنَتْ

ص: 141

‌بَابُ الشَّهِيدِ

(الشَّهِيدُ مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا

أَقَارِبُهُ ثُمَّ دُفِنَ حَوَالَيْهِمْ خَلْقٌ مِنْ وَطْءِ تِلْكَ الْقُبُورِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ مَكْرُوهٌ. وَيُكْرَهُ النَّوْمُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ، بَلْ أَوْلَى وَكُلُّ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي السُّنَّةِ، وَالْمَعْهُودُ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا زِيَارَتَهَا وَالدُّعَاءَ عِنْدَهَا قَائِمًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُرُوجِ إلَى الْبَقِيعِ وَيَقُولُ:«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ» .

وَاخْتُلِفَ فِي إجْلَاسِ الْقَارِئِينَ لِيَقْرَءُوا عِنْدَ الْقَبْرِ وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ. وَفِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ النَّوَازِلِ امْرَأَةٌ حَامِلٌ مَاتَتْ وَاضْطَرَبَ فِي بَطْنِهَا شَيْءٌ وَكَانَ رَأْيُهُمْ أَنَّهُ وَلَدٌ حَيٌّ شُقَّ بَطْنُهَا، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ابْتَلَعَ الرَّجُلُ دُرَّةً فَمَاتَ وَلَمْ يَدَعْ مَالًا عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَلَا يُشَقُّ بَطْنُهُ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إبْطَالَ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الْحَيِّ فَيَجُوزُ.

أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إبْطَالُ حُرْمَةِ الْأَعْلَى وَهُوَ الْآدَمِيُّ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الْأَدْنَى وَهُوَ الْمَالُ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى انْتَهَى. وَتَوْضِيحُهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَلَا يُشَقُّ بَطْنُهُ حَيًّا لَوْ ابْتَلَعَهَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْفَضَلَاتِ فَكَذَا مَيِّتًا، بِخِلَافِ شَقِّ بَطْنِهَا لِإِخْرَاجِ الْوَلَدِ إذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ. وَفِي الِاخْتِيَارِ جُعِلَ عَدَمُ شِقِّ بَطْنِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى الْجُرْجَانِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُشَقُّ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الظَّالِمِ الْمُتَعَدِّي انْتَهَى. وَهَذَا أَوْلَى. وَالْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِرَامَ يَزُولُ بِتَعَدِّيهِ. وَيَجُوزُ الْجُلُوسُ لِلْمُصِيبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَيُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَتُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَفْتِنَّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ عَزَّى أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرْدَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» وَيُكْرَهُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي السُّرُورِ لَا فِي الشُّرُورِ، وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصُنْعَهُمْ الطَّعَامَ مِنْ النِّيَاحَةِ. وَيُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَالْأَقْرِبَاءِ الْأَبَاعِدِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لَهُمْ يُشْبِعُهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلِأَنَّهُ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ، وَيُلَحُّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَكْلِ لِأَنَّ الْحُزْنَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَيَضْعُفُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ الشَّهِيدِ)

وَجْهُ فَضْلِهِ، وَتَأْخِيرُهُ ظَاهِرٌ، وَسُمِّيَ شَهِيدًا إمَّا لِشُهُودِ الْمَلَائِكَةِ إكْرَامًا لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَلِشُهُودِهِ أَيْ حُضُورِهِ حَيًّا يُرْزَقُ عِنْدَ رَبِّهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَصِحُّ (قَوْلُهُ الشَّهِيدُ إلَخْ) هَذَا تَعْرِيفٌ لِلشَّهِيدِ الْمَلْزُومِ لِلْحُكْمِ

ص: 142

وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ فَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُغَسَّلُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام فِيهِمْ «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ» فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ بِالْحَدِيدَةِ ظُلْمًا وَهُوَ طَاهِرٌ بَالِغٌ وَلَمْ يَجِبْ بِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَثَرِ الْجِرَاحَةُ لِأَنَّهَا دَلَالَةُ الْقَتْلِ،

الْمَذْكُورِ: أَعْنِي عَدَمَ تَغْسِيلِهِ وَنَزْعِ ثِيَابِهِ لَا لِمُطْلَقِهِ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ مِنْ أَنَّ الْمُرْتَثَّ وَغَيْرَهُ شَهِيدٌ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْأَوْصَافِ يُجْتَنَبُ فِي الْحَدِّ لَكِنْ يُحْتَاجُ إلَى قَيْدٍ مُدْخِلٍ وَهُوَ قَوْلُنَا: إلَّا مَا يَجِبُ بِشُبْهَةِ الْأُبُوَّةِ، وَلَوْ أُرِيدَ تَصْوِيرُهُ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ قِيلَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ قُتِلَ ظُلْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ الْبَغْيِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِأَيِّ آلَةٍ كَانَتْ وَبِجَارِحٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَمْ تَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ بِنَفْسِ الْقَتْلِ وَلَمْ يُرْتَثَّ فَظُلْمًا مُخْرِجٌ لِلْمَقْتُولِ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ أَوْ سَقَطَ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ غَرِقَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَإِنْ كَانَ شَهِيدًا.

وَأَمَّا إذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ كَافِرٍ فَوَطِئَتْ مُسْلِمًا مِنْ غَيْرِ سَائِقٍ، أَوْ رَمَى مُسْلِمٌ إلَى الْكُفَّارِ فَأَصَابَ مُسْلِمًا، أَوْ نَفَرَتْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ مِنْ سَوَادِ الْكُفَّارِ، أَوْ نَفِدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَأَلْجَئُوهُمْ إلَى خَنْدَقٍ أَوْ نَارٍ وَنَحْوِهِ فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ، أَوْ جَعَلُوا حَوْلَهُمْ الْحَسَكَ فَمَشَى عَلَيْهَا مُسْلِمٌ فَمَاتَ بِهِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ فِعْلَهُ وَفِعْلَ الدَّابَّةِ دُونَ حَامِلٍ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ إلَيْهِمْ.

أَمَّا لَوْ طَعَنُوهُمْ حَتَّى أَلْقَوْهُمْ فِي نَارٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ نَفَّرُوا دَابَّةً فَصَدَمَتْ مُسْلِمًا، أَوْ رَمَوْا نَارًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَبَّتْ بِهَا رِيحٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَرْسَلُوا مَاءً فَغَرِقَ بِهِ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّ الْقَتْلَ مُضَافٌ إلَى الْعَدُوِّ تَسْبِيبًا. فَإِنْ قِيلَ فِي الْحَسَكِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَسَّلَ لِأَنَّ جَعْلَهُ تَسْبِيبٌ لِلْقَتْلِ. قُلْنَا: مَا قُصِدَ بِهِ الْقَتْلُ يَكُونُ تَسْبِيبًا وَمَا لَا فَلَا، وَهُمْ قَصَدُوا بِهِ الدَّفْعَ لَا الْقَتْلَ. وَقَوْلُنَا بِجَارِحٍ لَا يَخُصُّ الْحَدِيدَ بَلْ يَشْمَلُ النَّارَ وَالْقَصَبَ. وَقَوْلُنَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا وَجَبَ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ بَعْدَ مَا وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَعَمَّا إذَا قَتَلَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَالْوَاجِبُ الدِّيَةُ، وَالْوَلَدُ شَهِيدٌ لَا يُغَسَّلُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ، فَإِنَّ مُوجِبَ فِعْلِهِ ابْتِدَاءُ الْقِصَاصِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ مَالًا لِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ، وَبَاقِي الْقُيُودِ ظَاهِرَةٌ، وَسَتَخْرُجُ مِمَّا سَيُورَدُ مِنْ الْأَحْكَامِ (قَوْلُهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي شُهَدَاءِ إلَخْ) غَرِيبٌ تَمَامُهُ.

وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَشْرَفَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ فَقَالَ: إنِّي شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ» اهـ. إلَّا أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْغُسْلِ، إذْ مَعَ الْغُسْلِ لَا يَبْقَى.

وَفِي تَرْكِ غُسْلِ الشَّهِيدِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي قَتْلَى أُحُدٍ وَيَقُولُ: أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ» زَادَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ قَالَ

ص: 143

وَكَذَا خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ

النَّسَائِيّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ اللَّيْثَ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَفَرُّدُ اللَّيْثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ قَالَ «رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» (قَوْلُهُ وَكَذَا خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَوُجِدَ مَيِّتًا فِي الْمَعْرَكَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجَدَ بِهِ أَثَرٌ أَوْ لَا، فَإِنْ وُجِدَ فَإِنْ كَانَ خُرُوجُ دَمٍ مِنْ جِرَاحَةٍ ظَاهِرَةً فَهُوَ شَهِيدٌ أَوْ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ مُعْتَادٍ كَالْأَنْفِ وَالدُّبُرِ وَالذَّكَرِ لَمْ نُثْبِتْ شَهَادَتَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبُولُ دَمًا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْأُذُنِ وَالْعَيْنِ حُكِمَ بِهَا وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ مِنْ غَيْرِ رَضٍّ ظَاهِرٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَهِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ أَصْلًا لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ انْخَلَعَ قَلْبُهُ.

وَأَمَّا إنْ ظَهَرَ مِنْ الْفَمِ فَقَالُوا: إنْ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الرَّأْسِ بِأَنْ يَكُونَ صَافِيًا غُسِلَ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَهُ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الْجَوْفِ فَيَكُونُ مِنْ جِرَاحَةٍ فِيهِ فَلَا يُغْسَلُ. وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الْمُرْتَقَى مِنْ الْجَوْفِ قَدْ يَكُونُ عَلَقًا فَهُوَ سَوْدَاءُ بِصُورَةِ الدَّمِ، وَقَدْ يَكُونُ رَقِيقًا مِنْ قُرْحَةٍ فِي الْجَوْفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي طَهَارَةٍ الطَّهَارةِ فَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُهُ مِنْ جِرَاحَةٍ حَادِثَةٍ بَلْ هُوَ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَاتِ (قَوْلُهُ وَيَقُولُ السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ) ذَكَرُوهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ حَدِيثًا، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَإِنَّمَا مُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» وَهَذَا مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ، فَيُعَارِضُ حَدِيثَ جَابِرٍ عِنْدَنَا، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ مُثْبِتٌ وَحَدِيثُ جَابِرٍ نَافٍ، وَنَمْنَعُ أَصْلَ الْمُخَالِفِ فِي تَضْعِيفِ الْمَرَاسِيلِ، وَلَوْ سَلَّمَ فَعِنْدَهُ إذَا اُعْتُضِدَ يَرْفَعُ مَعْنَاهُ.

قِيلَ وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «فَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمْزَةَ حِينَ فَاءَ النَّاسُ مِنْ الْقِتَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ: رَأَيْتُهُ عِنْدَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، فَلَمَّا رَآهُ وَرَأَى مَا مُثِّلَ بِهِ شَهِقَ وَبَكَى، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَرَمَى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، ثُمَّ جِيءَ بِحَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ بِالشُّهَدَاءِ فَيُوضَعُونَ إلَى جَانِبِ حَمْزَةَ فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُرْفَعُونَ وَيُتْرَكُ حَمْزَةُ حَتَّى صَلَّى عَلَى الشُّهَدَاءِ كُلِّهِمْ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» مُخْتَصَرٌ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ إلَّا أَنَّ فِي سَنَدِهِ مُفَضَّلَ بْنَ صَدَقَةَ أَبَا حَمَّادٍ الْحَنَفِيَّ، وَهُوَ وَإِنْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى وَالنَّسَائِيُّ فَقَدْ قَالَ الْأَهْوَازِيُّ: كَانَ عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ يُوَثِّقُهُ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ يُثْنِي عَلَيْهِ ثَنَاءً تَامًّا.

وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، فَلَا يَقْصُرُ الْحَدِيثَ عِنْدَ دَرَجَةِ الْحُسْنِ، وَهُوَ حُجَّةٌ اسْتِقْلَالًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ صَلَاحِيَّتِهِ عَاضِدًا لِغَيْرِهِ. وَأَسْنَدَ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «كَانَ النِّسَاءُ يَوْمَ أُحُدٍ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ يُجْهِزْنَ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ، إلَى أَنْ قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَمْزَةَ وَجِيءَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَوُضِعَ إلَى جَنْبِهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ فَرُفِعَ الْأَنْصَارِيُّ وَتُرِكَ حَمْزَةُ، ثُمَّ جِيءَ بِآخَرَ فَوُضِعَ إلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ وَتُرِكَ حَمْزَةُ

ص: 144

فَأَغْنَى عَنْ الشَّفَاعَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ، وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِهَا، وَالطَّاهِرُ عَنْ الذُّنُوبِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الدُّعَاءِ كَالنَّبِيِّ وَالصَّبِيِّ

(وَمَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ لَمْ يُغَسَّلْ) لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ

(وَإِذَا اُسْتُشْهِدَ الْجُنُبُ غُسِّلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)

صَلَّى يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً» وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَأَرْجُو أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ قَبْلَ التَّغَيُّرِ، فَإِنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ أَخَذَ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَفَاتُهُ تَأَخَّرَتْ عَنْ وَفَاةِ عَطَاءِ بِنَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَبْلَ ابْنِ زَيْدٍ بِنَحْوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَعَلَى الْإِبْهَامِ لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحُسْنِ.

وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ قَتْلَى أُحُدٍ، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمْزَةَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً، وَكَانَتْ الْقَتْلَى يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ» وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْكُلُّ ضَعِيفًا ارْتَقَى الْحَاصِلُ إلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ، ثُمَّ كَانَ عَاضِدُ الْمَرَاسِيلِ سَيِّدَ التَّابِعِينَ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَلَى أَنَّ الْوَاقِدِيَّ فِي الْمَغَازِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ.

وَأَسْنَدَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ: حَدَّثَنِي رُوَيْمُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ الْوَاقِصِي عَنْ سَيْفٍ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ الْيَشْكُرِيِّ قَالَ: كُنْت فِي الْجَيْشِ الَّذِي وَجَّهَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إلَى أَيْلَةَ وَأَرْضِ فِلَسْطِينَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَفِيهَا أَنَّهُ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ وَصَلَّى عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَعَ عَمْرٍو تِسْعَةُ آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ

(قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالشَّفَاعَةُ وَالتَّكْرِيمُ، يُسْتَفَادُ إرَادَتُهُ مِنْ إيجَابِ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَنَقُولُ: إذَا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ تَكْرِيمًا فَلَأَنْ يُوجِبَهَا عَلَيْهِمْ عَلَى الشَّهِيدِ أَوْلَى، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْكَرَامَةِ أَظْهَرُ (قَوْلُهُ كَالنَّبِيِّ أَوْ الصَّبِيِّ) لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى النَّبِيِّ كَانَ أَوْلَى، فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَبَوَيْهِ. هَذَا وَلَوْ اخْتَلَطَ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَتْلَى الْكُفَّارِ أَوْ مَوْتَاهُمْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ فَيُصَلِّي حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالدُّعَاءِ

(قَوْلُهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ كَانَ شَهِيدًا) لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي قِتَالِهِمْ مِثْلُهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ مَأْمُورٌ بِهِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ، قَالَ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَسُمِّيَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مُحَارِبِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْقَطْعُ بِأَنَّ مُحَارِبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَجِبُ قِتَالُهُ عَلَى أَنَّهُمْ بُغَاةٌ فَيَدْخُلُونَ فِي الَّتِي تَبْغِي بِالْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ فَالْمَقْتُولُ مِنْهُمْ بَاذِلٌ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى (قَوْلُهُ مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، إذْ يَكْفِي فِيهِ ثُبُوتُ بَذْلِهِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ

ص: 145

وَقَالَا: لَا يُغَسَّلُ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ سَقَطَ بِالْمَوْتِ وَالثَّانِي لَمْ يَجِبْ لِلشَّهَادَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلَا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ حَنْظَلَةَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَائِضُ

إذْ هُوَ الْمَنَاطُ فِي قَتِيلِ الْمُشْرِكِينَ

(قَوْلُهُ مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ) وَهُوَ الْغُسْلُ (سَقَطَ بِالْمَوْتِ) لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِوُجُوبِ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ. وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ بِالْمَوْتِ لِاحْتِبَاسِ الدِّمَاءِ إنْ قُتِلَ بِغَيْرِ جَارِحٍ، أَوْ لِتَلَطُّخِهِ بِهَا إنْ قُتِلَ بِجَارِحٍ مَعَ قِيَامِ الْمُوجِبِ فَكَذَا الْوَاجِبُ قَبْلَهُ.

وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُهْدَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ ثُبُوتِ التَّنَجُّسِ بِالْمَوْتِ وَبِالتَّلَطُّخِ وَإِلَّا لَرُتِّبَ مُقْتَضَاهُ، أَمَّا رَفْعُهَا لِنَجَاسَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا فَمَوْقُوفٌ عَلَى السَّمْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ إلَّا فِي نَجَاسَةِ الْحَدَثِ لِلْقَطْعِ إجْمَاعًا بِأَنَّهُ لَا يُوَضَّأُ شَهِيدٌ مَعَ الْعِلْمِ بِاسْتِلْزَامِ كُلِّ مَوْتٍ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ أَقَلُّهُ مَا يَحْصُلُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ قُبَيْلَهُ، فَلَوْ بَقِيَ الْحَالُ عَلَى عَدَمِ السَّمْعِ لَكَفَى فِي إيجَابِ الْغُسْلِ فَكَيْفَ وَالسَّمْعُ يُوجِبُهُ، وَهُوَ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ حَنْظَلَةَ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُهُمَا سَقَطَ بِسُقُوطِ مَا وَجَبَ لِأَجْلِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قُلْنَا فِي جَوَابِهِ لِمَ لَمْ يُشْرَعْ غُسْلُ الْجَنَابَةِ لِلْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ عز وجل وَعَلَا وَإِدْخَالِ الْقَبْرِ كَمَا كَانَ مَشْرُوعًا لِلْقِرَاءَةِ وَالْمَسِّ، وَقَدْ لَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِيَتَحَقَّقَ سُقُوطُهُ، فَإِنْ أَصْلَحُوا الْعِبَارَةَ قَالُوا سَقَطَ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ وَهِيَ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى فِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِهِ دُفِعَ بِتَجْوِيزِ تِلْكَ الْفَائِدَةِ وَهِيَ الْعَرْضُ عَلَى الرَّبِّ جل جلاله، فَيَبْقَى الْوُجُوبُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ صِفَةَ تَعَلُّقِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِلتَّوَصُّلِ إلَى حَلِّ مَا لَا يَحِلُّ بِدُونِهِ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَالْعَرْضِ إنْ مَاتَ قَبْلَ الْغُسْلِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الدَّافِعَ لَيْسَ إلَّا بِالنَّصِّ، وَهُوَ حَدِيثُ حَنْظَلَةَ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا هَذَا بِأَنَّ الْوُجُوبَ قَبْلَ الْمَوْتِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَبَعْدَهُ بِغَيْرِهِ فَهُوَ غَيْرُهُ، أَوْ لَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَنَرْجِعُ فِي إيجَادِهِمْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ إلَى حَدِيثِ حَنْظَلَةَ: فَإِنْ قَالُوا: هُوَ إنَّمَا يُفِيدُ إرَادَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَكْرِيمَهُ لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِ غَيْرِ الْآدَمِيِّينَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ. قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ تَعْلِيمٍ لِلْوُجُوبِ وَإِفَادَتِهِ لَهُ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْفِعْلُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْأَوَّلِ، كَغُسْلِ الْمَلَائِكَةِ آدَمَ عليه السلام سَقَطَ بِفِعْلِهِمْ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إفَادَةِ الْوُجُوبِ مَعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ نَفْسَ الْفِعْلِ، وَلَمْ يَسْقُطْ مَا بَعْدَهُ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِينَ.

وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَلَا

ص: 146

وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا وَكَذَا قَبْلَ الِانْقِطَاعِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيّ لَهُمَا أَنَّ الصَّبِيَّ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ.

تُغَسِّلُوهُمْ» فَلَيْسَ بِدَافِعٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَيَيْنِ لَيْسَ حَنْظَلَةُ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ فِي الْكُلِّ وَهُوَ مِنْهُمْ كَانَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ جُنُبًا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانَ مِنْ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِغُسْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ عَلَى مَا يُفِيدُهُ نَصُّ حَدِيثِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَقَدْ قُتِلَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الثَّقَفِيُّ: إنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ عليهم السلام، فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ يَعْنِي زَوْجَتَهُ، وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَكَانَ قَدْ بَنَى بِهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَرَأَتْ فِي مَنَامِهَا كَأَنَّ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ وَأُغْلِقَ دُونَهُ فَعَرَفْت أَنَّهُ مَقْتُولٌ مِنْ الْغَدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ دَعَتْ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ قَوْمِهَا فَأَشْهَدَتْهُمْ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ.

ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَزَادَ «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنِّي رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِمَاءِ الْمُزْنِ فِي صِحَافِ الْفِضَّةِ» قَالَ أَبُو أُسَيْدَ:«ذَهَبْنَا إلَيْهِ فَوَجَدْنَاهُ يَقْطُرُ رَأْسُهُ دَمًا، فَرَجَعْتُ فَأَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» الْحَدِيثَ.

وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلسَّرَقُسْطِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ خَرَجَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ وَقَدْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ، فَخَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمْ يَغْتَسِلْ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَسَقَطَ أَبُو سُفْيَانَ عَنْ فَرَسِهِ فَوَثَبَ عَلَيْهِ حَنْظَلَةُ وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ يَذْبَحُهُ فَمَرَّ بِهِ جَعْوَنَةُ بْنُ شَعُوبٍ الْكِنَانِيُّ فَاسْتَغَاثَ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ فَحَمَلَ عَلَى حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:

لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي

بِطَعْنَةٍ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ

وَفِي الْوَاقِدِيِّ سَمَّى الْقَاتِلَ الْأَسْوَدَ بْنَ شَعُوبَ (قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَنْ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْغُسْلُ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ إذْ لَا يَجِبُ قَبْلَ الِانْقِطَاعِ.

وَجْهُ الْمُخْتَارَةِ أَنَّ الدَّمَ مُوجِبٌ لِلِاغْتِسَالِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ، وَقَدْ حَصَلَ الِانْقِطَاعُ بِالْمَوْتِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْجُنُبِ إذْ قَدْ صَارَ أَصْلًا مُعَلَّلًا بِالْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ (قَوْلُهُ: إنَّ الصَّبِيَّ أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ) وَهِيَ سُقُوطُ الْغُسْلِ، فَإِنَّ سُقُوطَهُ لِإِبْقَاءِ أَثَرِ الْمَظْلُومِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّ مَظْلُومِيَّتَهُ أَشَدُّ حَتَّى قَالَ أَصْحَابُنَا: خُصُومَةُ الْبَهِيمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْمُسْلِمِ (قَوْلُهُ: وَلَهُ أَنَّ السَّيْفَ إلَخْ) حَاصِلُهُ إمَّا إبْدَاءُ قَيْدٍ زَائِدٍ فِي الْعِلِّيَّةِ فَإِنَّهُمَا عَلَّلَا السُّقُوطَ إيفَاءَ أَثَرِ الْمَظْلُومِيَّةِ فَقَالَ هُوَ

ص: 147

وَلَهُ أَنَّ السَّيْفَ كَفَى عَنْ الْغُسْلِ فِي حَقِّ شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِوَصْفِ كَوْنِهِ طُهْرَةً، وَلَا ذَنْبَ عَلَى الصَّبِيِّ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُمْ

(وَلَا يُغْسَلُ عَنْ الشَّهِيدِ دَمُهُ، وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ) لِمَا رَوَيْنَا (وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَالسِّلَاحُ وَالْخُفُّ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ (وَيَزِيدُونَ وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا) إتْمَامًا لِلْكَفَنِ

قَالَ (وَمَنْ اُرْتُثَّ غُسِّلَ) وَهُوَ مَنْ صَارَ خَلْفًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِنَيْلِ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَخِفُّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ (وَالِارْتِثَاثُ: أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُدَاوَى أَوْ يُنْقَلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا) لِأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ. وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ مَاتُوا عَطَاشَى وَالْكَأْسُ تُدَارُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا خَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ، إلَّا إذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ كَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ، لِأَنَّهُ مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ الرَّاحَةِ، وَلَوْ آوَاهُ فُسْطَاطٌ أَوْ خَيْمَةٌ كَانَ مُرْتَثًّا لِمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ بَقِيَ حَيًّا حَتَّى مَضَى وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ

الْعِلَّةُ إبْقَاءُ أَثَرِهَا بِجَعْلِ الْقَتْلِ طُهْرَةً، أَيْ جَعْلِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طُهْرَةً عَنْ الذُّنُوبِ إبْقَاءً لِأَثَرِ الظُّلْمِ، وَلَا ذَنْبَ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ تَأْثِيرُ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِ لِهَذَا الْحُكْمِ، وَأَمَّا مَنْعُ الْعِلَّةِ وَتَعْيِينُهَا مُجَرَّدُ جَعْلِ الشَّهَادَةِ طُهْرَةً إكْرَامًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَوْلُهُ أَوْلَى لِاتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى اعْتِبَارِ التَّكْرِيمِ فِي إسْقَاطِ الْغُسْلِ بِالْقَتْلِ، وَالتَّكْرِيمُ فِي جَعْلِ الْقَتْلِ طُهْرَةً مِنْ الذُّنُوبِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إبْقَاءِ أَثَرِ الظُّلْمِ أَوْ هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُ أَصْلًا

(قَوْلُهُ وَيُزِيدُونَ وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا) أَيْ يُزِيدُونَ إذَا كَانَ مَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْكَفَنِ أَوْ نَاقِصًا عَنْ الْعَدَدِ الْمَسْنُون. وَيُنْقِصُونَ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ

(قَوْلُهُ: لِنَيْلِ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ خَلْفًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ، وَحُكْمُ الشَّهَادَةِ أَنْ لَا يُغَسَّلَ، وَقَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَلْفًا فِي نَفْسِ الشَّهَادَةِ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (قَوْلُهُ وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ إلَخْ) كَوْنُ هَذَا وَقَعَ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ قَالَ: انْطَلَقْت يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمِّي وَمَعَهُ شَنَّةُ مَاءٍ فَقُلْت: إنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْته وَمَسَحْت وَجْهَهُ، فَإِذَا بِهِ يَنْشُدُ، فَقُلْت أَسْقِيك؟ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ آهِ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِّي أَنْ انْطَلِقْ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَتَيْته فَقُلْت أَسْقِيك؟ فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ آهِ فَأَشَارَ هِشَامُ أَنْ انْطَلِقْ إلَيْهِ فَجِئْته فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْت إلَى هِشَامٍ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْت إلَى ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.

وَأَسْنَدَ هُوَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أُثْبِتُوا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِمَاءٍ يَشْرَبُهُ، فَنَظَرَ إلَيْهِ عِكْرِمَةُ فَقَالَ ارْفَعُوهُ إلَى عِكْرِمَةَ، فَرَفَعُوهُ إلَيْهِ فَنَظَرَ إلَيْهِ عَيَّاشُ فَقَالَ عِكْرِمَةُ ارْفَعُوهُ إلَى عَيَّاشٍ، فَمَا وَصَلَ إلَى عَيَّاشٍ وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَتَّى مَاتُوا وَمَا ذَاقُوا (قَوْلُهُ أَوْ يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ يَعْقِلُ) أَيْ وَيَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا حَتَّى يَجِبَ الْقَضَاءُ، كَذَا قَيَّدَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَفِيهِ إفَادَةٌ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَدَاءِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، فَإِنْ أَرَادَ إذَا لَمْ

ص: 148

مُرْتَثٌّ) لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْيَاءِ. قَالَ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ كَانَ ارْتِثَاثًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْوَاتِ

(وَمَنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمِصْرِ غُسِّلَ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ فَخَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ (إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَتَخَلَّصُ عَنْهَا ظَاهِرًا، إمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ الْعُقْبَى. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: مَا لَا يَلْبَثُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ وَيُعْرَفُ فِي الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

يَقْدِرْ لِلضَّعْفِ مَعَ حُضُورِ الْعَقْلِ فَكَوْنُهُ يَسْقُطُ بِهِ الْقَضَاءُ قَوْلُ طَائِفَةٍ، وَالْمُخْتَارُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَإِنْ أَرَادَ لِغَيْبَةِ الْعَقْلِ فَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَمَتَى يَسْقُطُ الْقَضَاءُ مُطْلَقًا لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْجَرِيحِ (قَوْلُهُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) فِي الْكَافِي أَوْ عَاشَ مَكَانَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ إذْ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَيًّا يَوْمًا كَامِلًا أَوْ لَيْلَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلًا يُغَسَّلُ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْيَاءِ. وَعَنْهُ إنْ عَاشَ بَعْدَ الْجُرْحِ أَكْثَرَ الْيَوْمِ أَوْ أَكْثَرَ اللَّيْلَةِ يُغَسَّلُ إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ (قَوْلُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ) قِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِيمَا إذَا أَوْصَى بِأُمُورِ الدُّنْيَا، أَمَّا بِأُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَا يَكُونُ مُرْتَثًّا اتِّفَاقًا. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْوَصِيَّةِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا يَكُونُ مُرْتَثًّا اتِّفَاقًا. وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا، فَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَمُحَمَّدٌ لَا يُخَالِفُهُ. وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُخَالِفُهُ فِيهَا. وَمِنْ الِارْتِثَاثِ أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ، بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ مِمَّنْ شَهِدَ أُحُدًا مَنْ تَكَلَّمَ كَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَلَا يَكُونُ مُرْتَثًّا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا

(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا) أَيْ وَيُعْلَمُ قَاتِلُهُ عَيْنًا، أَمَّا مُجَرَّدُ وِجْدَانِهِ مَذْبُوحًا لَا يَمْنَعُ غُسْلَهُ وَقَدْ يُسْتَفَادُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَلَى الْقَاتِلِ الْمُعَيَّنِ، هَذَا

ص: 149

(وَمَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَقُ بِهِمْ

(وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْبُغَاةِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْبُغَاةِ.

‌بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ

(الصَّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا.

إذَا عَنَى بِالْقِصَاصِ اسْتِيفَاءَهُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ لَا تَسْلِيمَ الْقَاتِلِ نَفْسَهُ لَهُ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ) وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام غَسَّلَ مَاعِزًا»

(قَوْلُهُ لِأَنَّ عَلِيًّا إلَخْ) غَرِيبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَرْعٌ] مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ عَمْدًا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ. قِيلَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَا. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَصَاحِبَيْهِ، فَعِنْدَهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ظَالِمٌ بِالْقَتْلِ فَيَلْحَقُ بِالْبَاغِي. وَلَهُمَا أَنَّ دَمَهُ هَدَرٌ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ» .

(بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ)

(قَوْلُهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) سَهْوٌ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله يَرَى جَوَازَ الصَّلَاةِ فِيهَا وقَوْله تَعَالَى {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ظَاهِرٌ فِيهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّطْهِيرِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ ظَاهِرٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ وَبِلَالٌ

ص: 150

وَلِمَالِكٍ فِي الْفَرْضِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا لِوُجُودِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ

(فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِجَمَاعَةٍ فِيهَا فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ ظَهْرَهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ جَازَ) لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْقِبْلَةِ، وَلَا يَعْتَقِدُ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَأِ

وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ مَكَثَ فِيهَا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى» وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، وَكَانَ هَذَا يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى مَا صَرَّحَا بِهِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فَهَذَا وَغَيْرُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ يُعَارِضُ رِوَايَتَهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَفِيهَا سِتُّ سَوَارٍ، فَقَامَ عِنْدَ سَارِيَةٍ فَدَعَا وَلَمْ يُصَلِّ» وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُثْبِتٌ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ النَّافِي. وَمَنْ تَأَوَّلَ حَدِيثَ بِلَالٍ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءَ فَخُرُوجٌ عَنْ الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: يُرْتَكَبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. قِيلَ تَأْوِيلٌ يَنْفِيهِ الصَّرِيحُ وَهُوَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «فَسَأَلْتُ بِلَالًا: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ» لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ «وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى» وَمَا قَدْ يُقَالُ: عَدَمُ سُؤَالِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ إخْبَارِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِمَنْ تَأَمَّلَ السِّيَاقَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَهَا يَوْمَ النَّحْرِ فَلَمْ يُصَلِّ، وَدَخَلَهَا مِنْ الْغَدِ فَصَلَّى، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ) خَرَجَ بِهِ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ: تَعَارَضَ فِيهِ الْمَانِعُ وَالْمُبِيحُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُسْتَدْبِرٌ بَعْضَهَا

ص: 151

بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ التَّحَرِّي (وَمَنْ جَعَلَ مِنْهُمْ ظَهْرَهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ) لِتَقَدُّمِهِ عَلَى إمَامِهِ

(وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَتَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي جَانِبِ الْإِمَامِ) لِأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِبِ

(وَمَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْعَرْصَةُ، وَالْهَوَاءُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ عِنْدَنَا دُونَ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ يُنْقَلُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ جَازَ وَلَا بِنَاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَمُسْتَقْبِلٌ بَعْضَهَا، فَتَضَمَّنَ مَنْعَ كَوْنِهَا اسْتِدْبَارَ بَعْضِهَا مَانِعًا، بَلْ الْمَانِعُ عَدَمُ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ اسْتِقْبَالُ الْبَعْضِ وَقَدْ وُجِدَ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَانِعٌ

(لِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُنْقَلُ) وَيُحَوَّلُ وَالْقِبْلَةُ لَا تَتَحَوَّلُ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ حَتَّى لَوْ نَقَلَ تِلْكَ الْأَحْجَارَ وَجَبَ التَّوَجُّهُ إلَى خُصُوصِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلٍ أَرْفَعَ مِنْ الْكَعْبَةِ جَازَتْ، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ أَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ تِلْكَ الْعَرْصَةُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ (قَوْلُهُ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ إلَخْ) أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «سَبْعُ مَوَاطِنَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، ظَهْرُ بَيْتِ اللَّهِ، وَالْمَقْبَرَةُ، وَالْمَزْبَلَةُ

ص: 152

‌كِتَابُ الزَّكَاةِ

(الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الْمُسْلِمِ إذَا مَلَكَ نِصَابًا مِلْكًا تَامًّا وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَلِقَوْلِهِ

وَالْمَجْزَرَةُ، وَالْحَمَّامُ وَعَظْمُ الْإِبِلِ وَمَحْجَةُ الطَّرِيقِ» وَأَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَأُعِلَّ بِأَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ وَأَمَّا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ فَقَدْ وَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ وَتَكَلَّمَ فِيهِ آخَرُونَ.

كِتَابُ الزَّكَاةِ

هِيَ فِي اللُّغَةِ الطَّهَارَةُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَالنَّمَاءُ: زَكَا الزَّرْعُ إذَا نَمَا. وَفِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الزُّكَاءُ بِالْهَمْزِ بِمَعْنَى النَّمَاءِ، يُقَالُ زَكَا زَكَاءً فَيَجُوزُ كَوْنُ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ مِنْهُ لَا مِنْ الزَّكَاةِ؛ بَلْ كَوْنُهُ مِنْهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ عَيْنِ لَفْظِ الزَّكَاةِ فِي مَعْنَى النَّمَاءِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهَا نَفْسُ الْمَالِ الْمُخْرَجِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، قَالَ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيتَاءِ هُوَ الْمَالُ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الْإِيتَاءِ لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالْوُجُوبِ، وَمُتَعَلِّقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلُّغَوِيِّ أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ إذْ يَحْصُلُ بِهِ النَّمَاءُ، بِالْإِخْلَافِ مِنْهُ تَعَالَى فِي الدَّارَيْنِ وَالطَّهَارَةُ لِلنَّفْسِ مِنْ دَنَسِ الْبُخْلِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَلِلْمَالِ بِإِخْرَاجِ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ: أَعْنِي الْفُقَرَاءَ. ثُمَّ هِيَ فَرِيضَةٌ مُحَكَّةٌ، وَسَبَبُهَا الْمَالُ الْمَخْصُوصُ: أَعْنِي النِّصَابَ النَّامِيَ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا وَلِذَا يُضَافُ إلَيْهِ فَيُقَالُ زَكَاةُ الْمَالِ. وَشَرْطُهَا الْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْفَرَاغُ مِنْ الدَّيْنِ. وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ مِنْ

ص: 153

تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ الْفَرْضُ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ بِهَا، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِمَا نَذْكُرُهُ، وَالْإِسْلَامُ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مِلْكِ مِقْدَارِ النِّصَابِ

الْكِتَابِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام أَدُّوا إلَخْ) عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا أُمَامَةَ رضي الله عنه يَقُولُ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ وَأَطِيعُوا إذَا أُمِرْتُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» قَالَ: قُلْت لِأَبِي أُمَامَةَ مُنْذُ كَمْ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: سَمِعْته وَإِنَّهُ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِ أَبِي أُمَامَةَ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ الْفَرْضُ) لِقَطْعِيَّةِ الدَّلِيلِ إمَّا مَجَازٌ فِي الْعُرْفِ بِعَلَاقَةِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ لُزُومِ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِتَرْكِهِ عَدَلَ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الْفَرْضُ إلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّ بَعْضَ مَقَادِيرِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا ثَبَتَتْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، أَوْ حَقِيقَةٌ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْوَاجِبَ نَوْعَانِ: قَطْعِيٌّ، وَظَنِّيٌّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْمُ الْوَاجِبِ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَكِّكِ اسْمًا أَعَمَّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ بِهَا) مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِهَا، فَكَأَنَّهُ عَمَّمَ الْمِلْكَ فِي الْمِلْكِ يَدًا، فَلَوْ قَالَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِهَا لَمْ يَصْدُقْ لِثُبُوتِهِ دُونَهَا فِي الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ مَالِكٌ يَدًا إذْ لَيْسَ بِحُرٍّ، ثُمَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى قَيْدِ التَّمَامِ وَهُوَ مُخْرِجٌ لِمِلْكِ الْمُكَاتَبِ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ مَرَّتَيْنِ، وَهَذَا أَعَمُّ إخْرَاجًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ أَيْضًا النِّصَابَ الْمُعَيَّنَ مِنْ السَّائِمَةِ الَّذِي تَزَوَّجَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ وَلَمْ تَقْبِضْهُ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لَهُمَا لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ تَحَقَّقَ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ غَيْرُ كَامِلٍ بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَصَيْرُورَتُهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ يَنْبَنِي عَلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ بِهِ لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْمِلْكِ وَلِذَا لَمْ يَجِبْ فِي الضِّمَارِ. وَيُخْرِجُ أَيْضًا الْمُشْتَرِي لِلتِّجَارَةِ إذَا لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى حَالَ حَوْلٌ لَا زَكَاةَ فِيهِ إذْ لَمْ يَسْتَفِدْ مِلْكَ التَّصَرُّفِ وَكَمَالَ الْمِلْكِ بِكَوْنِهِ مُطْلَقًا لِلتَّصَرُّفِ وَحَقِيقَتُهُ مَعَ كَوْنِهِ حَاجِزًا، وَيُخْرِجُ الْمَالَ الْمُشْتَغِلَ بِالدَّيْنِ لِذَلِكَ، إذْ صَاحِبُ الدَّيْنِ مُسْتَحِقٌّ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ وَهَذَا يُصَيِّرُهُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ، بِخِلَافِ الْمَوْهُوبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَالِ الْهِبَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَإِنْ تَمَكَّنَ الْوَاهِبُ مِنْ الرُّجُوعِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُهُ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضَاءٍ، وَلَا يُخْرِجُ مَا مَلَكَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَلِذَا قَالُوا: لَوْ أَنَّ سُلْطَانًا غَصَبَ مَالًا وَخَلَطَهُ صَارَ مِلْكًا لَهُ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَوُرِثَ عَنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ خَلْطَ دَرَاهِمِهِ بِدَرَاهِمِ غَيْرِهِ اسْتِهْلَاكٌ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ فَرْعُ الضَّمَانِ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ، فَإِنَّمَا يُورَثُ حِصَّةُ الْمَيِّتِ مِنْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَإِذْ قَدْ عَرَفْتَ هَذَا فَلَوْ قِيلَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْمَالِكِ

ص: 154

لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدَّرَ السَّبَبَ بِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا النَّمَاءُ، وَقَدَّرَهَا الشَّرْعُ بِالْحَوْلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَلِأَنَّهُ الْمُتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْغَالِبُ تَفَاوُتُ الْأَسْعَارِ فِيهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ بِهَلَاكِ

لِنِصَابٍ مِلْكًا تَامًّا لَكَانَ أَوْجَزَ، إذْ يُسْتَغْنَى بِالْمَالِكِ عَنْ الْحُرِّ وَبِتَمَامِ الْمِلْكِ يَخْرُجُ الْمُكَاتَبُ وَمَنْ ذَكَرْنَاهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدَّرَ السَّبَبَ بِهِ) لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَسَيَمُرُّ بِك غَيْرُهُ مِنْ الشَّوَاهِدِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ» إلَخْ) رَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ اسْتَفَادَ مَالًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ يَقُولُ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ أَوْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَالْحَارِثُ وَإِنْ كَانَ مُضَعَّفًا لَكِنْ عَاصِمُ ثِقَةٌ، وَقَدْ رَوَى الثِّقَةُ أَنَّهُ رَفَعَهُ مَعَهُ فَوَجَبَ قَبُولُ رَفْعِهِ، وَرَدُّ تَصْحِيحِ وَقْفِهِ. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ) بَيَانٌ لِحِكْمَةِ اشْتِرَاطِ الْحَوْلِ شَرْعًا، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّةِ الزَّكَاةِ مَعَ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنْ الِابْتِلَاءِ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ هُوَ فَقِيرًا بِأَنْ يُعْطِيَ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، وَالْإِيجَابُ فِي الْمَالِ الَّذِي لَا نَمَاءَ لَهُ أَصْلًا يُؤَدِّي إلَى خِلَافِ ذَلِكَ عِنْدَ تَكَرُّرِ السِّنِينَ خُصُوصًا مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِنْفَاقِ، فَشَرْطُ الْحَوْلِ فِي الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ لَهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْقِيقِهَا فِي الْوُجُودِ فَيَحْصُلَ النَّمَاءُ الْمَانِعُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ الْمَقْصُودِ، وَقَوْلُهُمْ فِي النَّقْدَيْنِ خُلِقَا لِلتِّجَارَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا خُلِقَا لِلتَّوَسُّلِ بِهِمَا إلَى تَحْصِيلِ غَيْرِهِمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ مَاسَةٌ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَهَذِهِ غَيْرُ نَفْسِ النَّقْدَيْنِ، وَفِي أَخْذِهَا عَلَى التَّغَالُبِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، فَخُلِقَ النَّقْدَانِ لِغَرَضِ أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِمَا مَا تَنْدَفِعُ الْحَاجَةُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ خَلْقِ الرَّغْبَةِ بِهِمَا فَكَانَا لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً (قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ) الدَّعْوَى مَقْبُولَةٌ وَهِيَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ عَلَيْهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَإِنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَلَا التَّرَاخِيَ، بَلْ مُجَرَّدَ طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ كُلٌّ مِنْ التَّرَاخِي وَالْفَوْرِ فِي الِامْتِثَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ الْفِعْلَ مُقَيَّدًا بِأَحَدِهِمَا فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ فِي الْمُبَاحِ الْأَصْلِيِّ. وَالْوَجْهُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ مَعَهُ قَرِينَةُ الْفَوْرِ وَهِيَ أَنَّهُ لِدَفْعِ حَاجَتِهِ وَهِيَ مُعَجَّلَةٌ، فَمَتَى لَمْ تَجِبْ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِيجَابِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: وُجُوبُ

ص: 155

النِّصَابِ بَعْدَ التَّفْرِيطِ.

(وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زَكَاةٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ يَقُولُ: هِيَ غَرَامَةٌ مَالِيَّةٌ

الزَّكَاةِ عَلَى التَّرَاخِي لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ فَيَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ تَأْخِيرُهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلتَّرَاخِي لَا أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ التَّرَاخِيَ مُقْتَضَاهُ. قُلْنَا إنْ لَمْ يَقْتَضِهِ فَالْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَّاهُ يَقْتَضِيهِ وَهُوَ ظَنِّيٌّ فَتَكُونُ الزَّكَاةُ فَرِيضَةً وَفَوْرِيَّتُهَا وَاجِبَةً فَيَلْزَمُ بِتَأْخِيرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ الْإِثْمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكَرْخِيُّ وَالْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى، وَهُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ هِيَ الْمَحْمَلُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِهَا عَنْهُمْ، وَلِذَا رَدُّوا شَهَادَتَهُ إذَا تَعَلَّقَتْ بِتَرْكِ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا لِأَنَّهُمَا فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِتَأْخِيرِهِمَا حِينَئِذٍ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ مُفَسِّقٌ، وَإِذَا أَتَى بِهِ وَقَعَ أَدَاءً لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَمْ يُوَقِّتْهُ بَلْ سَاكِتٌ عَنْهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ لَا الْحَجِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ عَكْسُهُ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الثَّلَاثَةِ وُجُوبُ فَوْرِيَّةِ الزَّكَاةِ وَالْحَقُّ تَعْمِيمُ رَدِّ شَهَادَتِهِ لِأَنَّ رَدَّهَا مَنُوطٌ بِالْمَأْثَمِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي الْحَجِّ أَيْضًا مَا يُوجِبُ الْفَوْرَ مِمَّا هُوَ غَيْرُ الصِّيغَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الزَّكَاةَ عَلَى التَّرَاخِي يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّظَرِ إلَى دَلِيلِ الِافْتِرَاضِ: أَيْ دَلِيلُ الِافْتِرَاضِ لَا يُوجِبُهَا، وَهُوَ لَا يَنْفِي وُجُودَ دَلِيلِ الْإِيجَابِ، وَعَلَى هَذَا مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّهُ إذَا شَكَّ هَلْ زَكَّى أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى أَمْ لَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يُعِيدُ لِأَنَّ وَقْتَ الزَّكَاةِ الْعُمْرُ، فَالشَّكُّ حِينَئِذٍ فِيهَا كَالشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَالشَّكُّ فِي الْحَجِّ مِثْلُهُ فِي الزَّكَاةِ. هَذَا وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَنْعَمَ التَّأَمُّلَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ دَفْعُ الْحَاجَةِ مَعَ دَفْعِ كُلِّ مُكَلَّفٍ مُتَرَاخِيًا، إذْ بِتَقْدِيرِ اخْتِيَارِ الْكُلِّ لِلتَّرَاخِي وَهُوَ بَعِيدٌ لَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ زَمَانِ أَدَاءِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَتَأَمَّلْ. وَإِذَا أَخَّرَ حَتَّى مَرِضَ يُؤَدِّي سِرًّا مِنْ الْوَرَثَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقْرِضَ لِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ كَانَ الْأَفْضَلُ لَهُ الِاسْتِقْرَاضَ، وَإِنْ كَانَ ظَنُّهُ خِلَافَهُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَسْتَقْرِضَ لِأَنَّ خُصُومَةَ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَشَدُّ.

(قَوْلُهُ هِيَ غَرَامَةٌ) حَاصِلُهُ إلْحَاقُ الزَّكَاةِ بِنَفَقَةِ زَوْجَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَعُشْرِ أَرْضِهِمَا وَخَرَاجِهِمَا فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي أَرْضِهِمَا الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ، وَكَذَا الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَجَمِيعِ جِهَاتِ الْبِرِّ وَالْجَامِعُ أَنَّهَا غَرَامَةٌ: أَيْ حَقٌّ مَالِيٌّ يَلْزَمُ بِسَبَبٍ فِي مَالِهِمَا فَيُخَاطَبُ الْوَلِيُّ بِدَفْعِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ:«أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» قُلْنَا أَمَّا الْحَدِيثُ فَضَعِيفٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّمَا يُرْوَى الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ لِأَنَّ الْمُثَنَّى يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.

قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: قَالَ مُهَنَّأٌ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقَانِ آخَرَانِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَهُمَا

ص: 156

فَتُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْمُؤَنِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَصَارَ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ. وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْعَقْلِ،

ضَعِيفَانِ بِاعْتِرَافِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَنَمْنَعُ كَوْنَ مَا عَيْنُهُ تَمَامُ الْمَنَاطِ فَإِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالذِّمِّيِّ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ زَكَاةٌ، فَلَوْ كَانَ وُجُوبُهَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا حَقًّا مَالِيًّا يَثْبُتُ لِلْغَيْرِ لَصَحَّ أَدَاؤُهَا مِنْهُ بِدُونِ الْإِسْلَامِ، بَلْ وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحِينَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهَا وَصْفٌ آخَرُ لَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِهِ وَهُوَ وَصْفُ الْعِبَادَةِ الزَّائِلُ مَعَ الْكُفْرِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» وَعَدَّ مِنْهَا الزَّكَاةَ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ فَتَكُونُ مَوْضُوعَةً عَنْ الصَّبِيِّ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».

رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَاعْتِبَارُ تَعَلُّقِ خِطَابِ الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ بِالْوَلِيِّ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ لِيَدْفَعَ بِهِ هَذَا، وَمَا يُقَالُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْأَدَاءِ نِيَّةُ الْأَصْلِ لَا النَّائِبُ جَائِزٌ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي ثُبُوتِ مُفِيدِ وُقُوعِ هَذَا الْجَائِزِ، إذْ بِمُجَرَّدِ الْجَوَازِ لَا يَلْزَمُ الْوُجُودُ شَرْعًا فَلَا يُفِيدُ مَا ذَكَرُوهُ الْمَطْلُوبَ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ وَالْقِيَاسُ لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَمِعْت، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَقْتَضِ إلَّا وُجُوبَ الْأَدَاءِ عَلَى الْوَلِيِّ نِيَابَةً كَمَا هُوَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَهَلْ يَكُونُ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ غَيْرِهِ إلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَبِهِ يُفَارِقُ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ.

وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ رضي الله عنهما وَعَائِشَةَ رضي الله عنها مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا فِي مَالِهِمَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عَنْ سَمَاعٍ، إذْ قَدْ عَلِمْت إمْكَانَ الرَّأْيِ فِيهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَيْهِ، فَحَاصِلُهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ عَنْ اجْتِهَادٍ عَارَضَهُ رَأْيُ صَحَابِيٍّ آخَرَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ زَكَاةٌ. وَلَيْثٌ كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ، وَقِيلَ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَكُنْ لِيَذْهَبَ فَيَأْخُذَ عَنْهُ فِي حَالِ اخْتِلَاطِهِ وَيَرْوِيهِ وَهُوَ الَّذِي شَدَّدَ فِي أَمْرِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُشَدِّدُهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا عُرِفَ.

وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَفِي ابْنِ لَهِيعَةَ مَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَحَاصِلُ مَا نَقُولُ فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْهُمَا أَنَّ نَفْيَ الْعِبَادَةِ عَنْهُمَا بِالنَّافِي الثَّابِتِ وَعَنْ وَلِيِّهِمَا ابْتِدَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لِعَدَمِ سَلَامَةِ مَا يُفِيدُ ثُبُوتَهُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً.

وَأَمَّا إلْحَاقُهُمَا بِالْمُكَاتَبِ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ

ص: 157

بِخِلَافِ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ. وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ، وَلَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إفَاقَتِهِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ مِنْ الصَّوْمِ.

بِجَامِعِ نُقْصَانِ الْمِلْكِ لِثُبُوتِ لَازِمِ النُّقْصَانِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ تَبَرُّعَاتِهِمَا بَلْ أَدْنَى لِعَدَمِ نَفَاذِ تَصَرُّفَاتِهِمَا فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْمُكَاتَبِ لَيْسَ عَدَمُ جَوَازِ التَّبَرُّعِ وَلَا النُّقْصَانُ الْمُسَبَّبُ عَنْهُ، بَلْ النُّقْصَانُ الْمُسَبَّبُ عَنْ كَوْنِهِ مَدْيُونًا أَوْ لِأَنَّ مِلْكَهُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ فَقَطْ لِلتَّرَدُّدِ فِي قَرَارِ الْمِلْكِ لِتَجْوِيزِ عَجْزِهِ فَيَصِيرُ لِلسَّيِّدِ مِلْكًا وَهُوَ لَيْسَ مِلْكًا حَقِيقِيًّا أَصْلًا، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بَقِيَ إيرَادُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ يَتَوَجَّهُ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ فَلَوْ تَمَّ وَاعْتَرَفْنَا بِالْخَطَإِ فِي إيجَابِهِمَا فِي أَرْضِهِمَا لَمْ يَضُرَّنَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، ثُمَّ جَوَابُهُ عَدَمُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْخَرَاجِ بَلْ هِيَ مُؤْنَةٌ مَحْضَةٌ فِي الْأَرْضِ وَقُصُورُهُ فِي الْعُشْرِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ. وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ تَابِعٌ.

فَالْمَالِكُ مَلَكَهُمَا بِمُؤْنَتِهِمَا كَمَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ مِلْكًا مُصَاحِبًا بِهَا لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ سَبَبُ بَقَائِهِ فَتَثْبُتُ مَعَ مِلْكِهِ، وَكَذَا الْخَرَاجُ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَرَاضِي فِي أَيْدِ مُلَّاكِهَا لِأَنَّ سَبَبَهُ بَقَاءُ الذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِالْمُقَاتَلَةِ وَبَقَاؤُهُمْ بِمُؤْنَتِهِمْ وَالْخَرَاجُ مُؤْنَتُهُمْ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَعْلِهِ فِي ذَلِكَ وَالْعُشْرُ لِلْفُقَرَاءِ لِذَبِّهِمْ بِالدُّعَاءِ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّمَا تُنْصَرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ» الْحَدِيثَ.

وَالزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَتْ أَيْضًا لِلْفُقَرَاءِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إيجَابِ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ فِي حَقِّهِ الِابْتِلَاءُ بِالنَّصِّ الْمُفِيدِ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً وَهُوَ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ» الْحَدِيثَ. وَفِي حَقِّهِمْ سَدُّ حَاجَتِهِمْ وَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ فِي عُشْرِ الْأَرَاضِيِ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ صَرِيحٌ يُوجِبُ كَوْنَهُ عِبَادَةً مَحْضَةً، وَقَدْ عُهِدَ تَقْرِيرُ الْمُؤْنَةِ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ مَحِلُّ النَّظَرِ عَلَى الْمَعْهُودِ، غَيْرَ أَنَّ خُصُوصَ الْمَصْرِفِ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ يُوجِبُ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ سِوَى أَدْنَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَاهَا وَهُوَ بِكَوْنِهِ تَبَعًا فَكَانَ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَفَاقَ) أَيْ الْمَجْنُونُ. اعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوبَ مُطْلَقًا لَا يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ لِلْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ، بَلْ إذَا كَانَ حُكْمُهُ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَتَعَذَّرُ مُتَعَلِّقُهُ وَهُوَ الْأَدَاءُ امْتِثَالًا مَعَ عَدَمِ الْعَقْلِ بِشَرْطِ تَذَكُّرِهِ نَحْوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ

ص: 158

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْحَوْلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ

مِنْ إيجَابِهَا إيجَابُ نَفْسِ الْفِعْلِ ابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ الْعَاصِي مِنْ الْمُطِيعِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عَنْ اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا انْتَفَى الْوُجُوبُ لِانْتِفَاءِ حُكْمِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَإِنْ وُجِدَ السَّبَبُ كَمَا يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ مَحَلِّهِ، بِخِلَافِ مَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ وَوُصُولُهُ إلَى مُعَيَّنٍ كَالْخَرَاجِ وَالنَّفَقَاتِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَالْعُشْرِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِيصَالُ فَإِنَّهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ فَأَمْكَنَ ثُبُوتُ حُكْمِ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا: أَعْنِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ دُونَ عَقْلٍ، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ فَإِنَّ اخْتِيَارَ النَّائِبِ لَيْسَ هُوَ اخْتِيَارُ الْمُسْتَنِيبِ فَلَا يَظْهَرُ بِفِعْلِهِ طَاعَةُ مَنْ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ اسْتَنَابَهُ عَنْ اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَقْلِ، ثُمَّ مَا يَتَعَذَّرُ الْأَدَاءُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَقْلِ إنَّمَا يُسْقِطُ الْوُجُوبَ بِشَرْطَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا وَهُوَ الْمُتَّصِلُ بِالصَّبِيِّ إنْ بَلَغَ مَجْنُونًا أَوْ عَارِضِيًّا طَالَ، وَأَنْ يَكُونَ تَبْقِيَةُ الْوُجُوبِ يَسْتَلْزِمُ الْحَرَجَ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْعَارِضَ إذَا لَمْ يَطُلْ عُدَّ عَدَمًا شَرْعًا كَالنَّوْمِ لَا يُسْقِطُ الْوُجُوبَ، وَيَجِبُ عَلَى النَّائِمِ الْقَضَاءُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُتَوَقَّعُ زَوَالُهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، بِخِلَافِ الطَّوِيلِ فِي الْعَادَةِ.

وَالْجُنُونُ يَنْقَسِمُ إلَى مَدِيدٍ وَقَصِيرٍ فَأُلْحِقَ الْمَدِيدُ بِالصِّبَا فَيَسْقُطُ مَعَهُ أَصْلُ الْوُجُوبِ، وَالْقَصِيرُ بِالنَّوْمِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا عُذْرٌ يُعْجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ لِفَائِدَتِهِ وَهِيَ الْأَدَاءُ أَوْ الْقَضَاءُ، فَمَا لَمْ يَتَعَذَّرْ الْأَوَّلُ وَيَثْبُتُ طَرِيقُ تَعَذُّرِ الثَّانِي لَا تَنْتَفِي الْفَائِدَةُ فَلَا يَنْتَفِي هُوَ، وَطَرِيقُ تَعَذُّرِهِ أَنْ يَسْتَلْزِمَ حَرَجًا وَهُوَ بِالْكَثْرَةِ وَلَا نِهَايَةَ لَهَا، فَاعْتَبَرْنَا الدُّخُولَ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، فَلِذَا قَدَّرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ بِالسِّتِّ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ، وَفِي الصَّوْمِ بِأَنْ يَسْتَوْعِبَ الشَّهْرَ.

وَفِي الزَّكَاةِ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْحَوْلَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ التَّكْرَارَ بِخُرُوجِ الثَّانِيَةِ لَا بِدُخُولِهَا لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ أَنْ يَتِمَّ الْحَوْلُ، فَالْأَوْلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ نَفْسُ وَقْتِهِمَا وَوَقْتُهُمَا مَدِيدٌ فَاعْتُبِرَ نَفْسُهُ، فَقُلْنَا إنَّمَا يَسْقُطُ بِاسْتِيعَابِ الْجُنُونِ وَقْتُهُمَا، حَتَّى لَوْ كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ وَجُنَّ فِي بَاقِي أَيَّامِهِ لَزِمَهُ قَضَاءُ كُلِّهِ. وَفِي الزَّكَاةِ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا.

وَرَوَى هِشَامُ بْنُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِدَادَ الْجُنُونِ بِوُجُودِهِ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ وَنِصْفِ السَّنَةِ مُلْحَقٌ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتِهَا الْحَوْلُ لَكِنَّهُ مَدِيدٌ جِدًّا فَقَدَّرْنَا بِهِ، وَالْأَكْثَرُ يُقَامُ مَقَامَ الْكُلِّ فَقَدَّرْنَا بِهِ تَيْسِيرًا، فَإِنَّ اعْتِبَارَ أَكْثَرِهِ أَخَفُّ

ص: 159

(وَلَيْسَ عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةٌ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ.

(وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَامٍّ. وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَاعْتُبِرَ مَعْدُومًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَطَشِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ (وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ زَكَّى الْفَاضِلَ إذَا بَلَغَ نِصَابًا) لِفَرَاغِهِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ،

عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ اعْتِبَارِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى السُّقُوطِ، وَالنِّصْفُ مُلْحَقٌ بِالْأَقَلِّ.

ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْمُتَّصِلُ بِزَمَنِ الصِّبَا بِأَنْ جُنَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَبَلَغَ مَجْنُونًا، وَالْعَارِضِ بِأَنْ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَخَصَّ أَبُو يُوسُفَ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ بِالْعَارِضِ لِأَنَّهُ الْمُلْحَقُ بِالْعَوَارِضِ، أَمَّا الْأَصْلِيُّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصِّبَا عِنْدَهُ فَيَسْقُطُ الْوُجُوبُ وَإِنْ قَلَّ، وَيَعْتَبِرُ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ كَمَا يَعْتَبِرُ ابْتِدَاءَهُ مِنْ وَقْتِ الْبُلُوغِ وَيَجِبُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّوْمِ لَا مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، وَلَا يَجِبُ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ مِمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَصَاحِبُ الْإِيضَاحِ. وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَجْنُونَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي وَقْتِ نُقْصَانِ الدِّمَاغِ لِآفَةٍ مَانِعَةٍ لَهُ عَنْ قَبُولِ الْكَمَالِ مُبْقِيَةٍ لَهُ عَلَى ضَعْفِهِ الْأَصْلِيِّ فَكَانَ أَمْرًا أَصْلِيًّا فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْعَدَمِ كَالصَّبِيِّ، بِخِلَافِ الْحَاصِلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ مُعْتَرِضٌ عَلَى الْمَحَلِّ الْكَامِلِ بِلُحُوقِهِ آفَةً عَارِضَةً فَيُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْعَدَمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ كَالنَّوْمِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْجُنُونُ مُطْلَقًا عَارِضِيٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِبِلَّةِ السَّلَامَةُ بَلْ كَانَتْ مُتَحَقِّقَةً فِي الْوُجُودِ وَفَوَاتُهَا إنَّمَا يَكُون بِعَارِضٍ وَالْجُنُونُ يُفَوِّتُهَا فَكَانَ عَارِضًا، وَالْحُكْمُ فِي الْعَارِضِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ إذَا امْتَدَّ وَإِلَّا فَلَا.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) أَحْسَنُ مِنْ تَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ مَصْرِفُ الزَّكَاةَ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ إيجَابِ الصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ جَوَّزَ لَهُ أَخْذَهَا وَلَا فِي الشَّرْعِ كَابْنِ السَّبِيلِ هَذَا. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهُ فَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَنْ دَيْنِهِ قَدْرَ نِصَابٍ فَعَلَى الْمَوْلَى زَكَاتُهُ، وَكَذَا إنْ فَضَلَ أَقَلُّ وَعِنْدَ الْمَوْلَى مَالٌ آخَرُ ضَمَّهُ إلَيْهِ وَزَكَّى الْجَمِيعَ.

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ) يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ أَنَّهُ نِصَابٌ تَامٌّ لِأَنَّهُ مُرْجِعٌ ضَمِيرَ أَنَّهُ ثُمَّ مَنَعَ اسْتِقْلَالَهُ بِالْحُكْمِ بِإِبْدَاءِ انْتِفَاءِ جُزْءِ الْعِلَّةِ بِادِّعَاءِ أَنَّ السَّبَبَ النِّصَابُ الْفَارِغُ عَنْ الشُّغْلِ أَوْ إبْدَاءِ الْمَانِعِ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِقْلَالِهِ عَلَى قَوْلِ مُخَصَّصِي الْعِلَّةِ

ص: 160

وَالْمُرَادُ بِهِ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ دَيْنٌ النَّذْرَ وَالْكَفَّارَةَ، وَدَيْنُ الزَّكَاةِ مَانِعٌ حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ يُنْتَقَصُ بِهِ النِّصَابُ، وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِمَا

وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا عَدَمَ الشُّغْلِ فِي الْمُوجِبِ لِأَنَّ مَعَهُ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ دَفْعُ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ وَالْحَبْسِ فِي الْحَالِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمَآلِ، إذْ الدَّيْنُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ، وَأَيُّ حَاجَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ فَصَارَ كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ الْعَطَشِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ مَعْدُومًا حَتَّى جَازَ التَّيَمُّمُ مَعَ ذَلِكَ الْمَاءِ وَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ وَإِنْ بَلَغَتْ ثِيَابُ الْبِذْلَةِ نُصُبًا.

وَمَا فِي الْكَافِي مِنْ إثْبَاتِ الْمُنَافَاةِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَحِلِّ أَخْذِهَا لَهُ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ عَدَمِهَا شَرْعًا كَمَا فِي ابْنِ السَّبِيلِ يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا. وَتَقْرِيرُهُ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ غَنِيًّا حُرِّمَ الْأَخْذُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَإِلَّا حُرِّمَ الْأَخْذُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا نَخْتَارُ الشِّقَّ الْأَوَّلَ وَنَمْنَعُ كَوْنَ الْغِنَى الشَّرْعِيِّ مُنْحَصِرٌ فِيمَا يُحَرِّمُ الْأَخْذَ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ» لِغَنِيٍّ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ بِابْنِ السَّبِيلِ، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ الْمَشَايِخُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَكَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّ دَيْنَهُ حَتَّى تَخْلُصَ أَمْوَالُهُ، فَيُؤَدِّيَ مِنْهَا الزَّكَاةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، ثُمَّ إذَا سَقَطَ الدَّيْنُ كَأَنْ أَبْرَأَ الدَّائِنُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ اُعْتُبِرَ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ سُقُوطِهِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله: تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لِلْمُطَالَبَةِ، وَبِالْإِبْرَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْحَوْلُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى نِصَابِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِحَاجَتِهِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ (قَوْلُهُ حَتَّى لَا يَمْنَعَ دَيْنَ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ) وَكَذَا دَيْنُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ وَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْأُضْحِيَّةِ لِعَدَمِ الْمُطَالِبِ، بِخِلَافِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَنَفَقَةٍ فُرِضَتْ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْمُطَالِبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ الْتَقَطَ وَعَرَفَهَا سَنَةً ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا حَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ مُتَيَقَّنًا لِاحْتِمَالِ إجَازَةِ صَاحِبِ الْمَالِ الصَّدَقَةَ (قَوْلُهُ وَدَيْنُ الزَّكَاةِ مَانِعٌ حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ) صُورَتُهُ: لَهُ نِصَابٌ حَالَ عَلَيْهِ حَوْلَانِ لَمْ يُزَكِّهِ فِيهِمَا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي لِأَنَّ خَمْسَةً مِنْهُ مَشْغُولَةٌ بِدَيْنِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ الْفَاضِلُ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي عَنْ الدَّيْنِ نِصَابًا كَامِلًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ لَمْ يُزَكِّهَا حَوْلَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الْأُولَى بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلْحَوْلِ الثَّانِي أَرْبَعُ شِيَاهٍ (قَوْلُهُ وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ) صُورَتُهُ: لَهُ نِصَابٌ حَالَ عَلَيْهِ

ص: 161

وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الثَّانِي عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا لِأَنَّهَا وَهُوَ الْإِمَامُ فِي السَّوَائِمِ وَنَائِبُهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ.

(وَلَيْسَ فِي دُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَسِلَاحِ الِاسْتِعْمَالِ زَكَاةٌ) لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ أَيْضًا،

الْحَوْلُ فَلَمْ يُزَكِّهِ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ اسْتَفَادَ غَيْرَهُ وَحَالَ عَلَى النِّصَابِ الْمُسْتَفَادِ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فِيهِ لِاشْتِغَالِ خَمْسَةٍ مِنْهُ بِدَيْنِ الْمُسْتَهْلِكِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَسْتَهْلِكْ بَلْ هَلَكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُسْتَفَادِ لِسُقُوطِ زَكَاةِ الْأَوَّلِ بِالْهَلَاكِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ حَيْثُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ.

وَمِنْ فُرُوعِهِ: إذَا بَاعَ نِصَابَ السَّائِمَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِسَائِمَةٍ مِثْلِهَا أَوْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ يُرِيدُ بِهِ الْفِرَارَ مِنْ الصَّدَقَةِ، أَوْ لَا يُرِيدُ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي الْبَدَلِ إلَّا بِحَوْلٍ جَدِيدٍ أَوْ يَكُونُ لَهُ مَا يَضُمُّهُ إلَيْهِ فِي صُورَةِ الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِبْدَالَ السَّائِمَةِ بِغَيْرِهَا مُطْلَقًا اسْتِهْلَاكٌ، بِخِلَافِ غَيْرِ السَّائِمَةِ (قَوْلُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ) هِيَ رِوَايَةُ أَصْحَابِ الْإِمْلَاءِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَرَّضَهَا.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ دَيْنَ الْمُسْتَهْلِكِ لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ الْعِبَادِ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْقَائِمِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمُرَّ عَلَى الْعَاشِرِ فَيُطَالِبَهُ وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَهْلِكُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا) مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الْآيَةَ تُوجِبُ حَقَّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا لِلْإِمَامِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ وَظَهَرَ تَغَيُّرُ النَّاسِ كَرِهَ أَنْ تُفَتِّشَ السُّعَاةُ عَلَى النَّاسِ مَسْتُورَ أَمْوَالِهِمْ فَفَوَّضَ الدَّفْعَ إلَى الْمُلَّاكِ نِيَابَةً عَنْهُ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ طَلَبَ الْإِمَامِ أَصْلًا، وَلِذَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهُمْ طَالَبَهُمْ بِهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنِ كَوْنِ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ أَوْ الْكَفَالَةِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنْ ضَمِنَ يَرْجِعُ عَلَى غَاصِبِهِ بِخِلَافِ غَاصِبِهِ، وَإِنَّمَا فَارَقَ الْغَصْبُ الْكَفَالَةَ وَإِنْ كَانَ فِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرِ الْأَصِيلِ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ إذَا أَدَّى كَالْغَاصِبِ لِأَنَّ فِي الْغَصْبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا جَمِيعًا، بَلْ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا يَبْرَأُ الْآخَرُ؛ أَمَّا فِي الْكَفَالَةِ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا مَعًا فَكَانَ كُلٌّ مُطَالَبًا بِالدَّيْنِ؛ وَكَمَا يَمْنَعُ دَيْنٌ الزَّكَاةَ يَمْنَعُ دَيْنٌ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا.

وَمِنْ فُرُوعِ دَيْنِ النَّذْرِ: لَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فَنَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ مِنْهُ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ وَجَبَ عَلَيْهِ

ص: 162

وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا

خَمْسَةٌ لِزَكَاتِهِ ثُمَّ يُخْرِجُهُ عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِ تِلْكَ الْمِائَةِ التَّصَدُّقُ بِسَبْعَةٍ وَتِسْعِينَ وَنِصْفٍ لِأَنَّهُ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِعَيْنِ دَرَاهِمَ اسْتَحَقَّ مِنْهَا دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ عَيْنَ الْمَنْذُورِ بِهِ كُلَّهُ سَقَطَ فَكَذَا بَعْضُهُ، وَلَوْ كَانَ أَطْلَقَ النَّذْرَ فَلَمْ يُضِفْ الْمِائَةَ إلَى ذَلِكَ النِّصَابِ لَزِمَهُ بَعْدَ الْخَمْسَةِ تَمَامَ الْمِائَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ لِلْمَدْيُونِ نُصُبٌ يَصْرِفُ الدَّيْنَ إلَى أَيْسَرِهَا قَضَاءً فَإِذَا كَانَ لَهُ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَعُرُوضٌ وَدَيْنُهُ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ صَرَفَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوَّلًا، إذْ الْقَضَاءُ مِنْهُمَا أَيْسَرُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ الْمَصْلَحَةُ بِعَيْنِهِمَا وَلِأَنَّهُمَا لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ أَهَمُّهَا، وَلِأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ مِنْهُمَا جَبْرًا، وَلِلْغَرِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا إذَا ظَفِرَ بِهِمَا وَهُمَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ عَنْهُمَا أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمَا شَيْءٌ صَرَفَ لِلْعُرُوضِ لِأَنَّهَا عُرْضَةٌ لِلْبَيْعِ، بِخِلَافِ السَّوَائِمِ لِأَنَّهَا لِلَّبَنِ وَالنَّسْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُرُوضٌ أَوْ فَضَلَ الدَّيْنُ عَنْهُمَا صَرَفَ إلَى السَّوَائِمِ، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا صَرَفَ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَخَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، وَثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ صَرَفَ إلَى الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ يُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ دُونَ الْبَقَرِ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبَقَرُ تَخَيَّرَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَاجِبِ، وَقِيلَ يَصْرِفُ إلَى الْغَنَمِ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الْإِبِلِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ.

وَهَلْ يَمْنَعُ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ كَمَا يَمْنَعُ الْمُعَجَّلُ فِي طَرِيقَةِ الشَّهِيدِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ، إنْ قُلْنَا لَا فَلَهُ وَجْهٌ، وَإِنْ قُلْنَا نَعَمْ فَلَهُ وَجْهٌ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مَهْرٌ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَدَاءَهُ لَا يُجْعَلُ مَانِعًا مِنْ الزَّكَاةِ ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَعُدُّهُ دَيْنًا، وَذَكَرَ قَبْلَهُ مَهْرَ الْمَرْأَةِ يَمْنَعُ مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ مُعَجَّلًا لِأَنَّهَا مَتَى طَلَبَتْ أَخَذَتْهُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَمْنَعُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً انْتَهَى. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَجَّلُ عُرْفًا لَا شَرْطًا مُصَرَّحًا بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ لِأَنَّهَا مَتَى طَلَبَتْ أَخَذَتْهُ، وَلَا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً لِأَنَّ هَذَا فِي الْمُعَجَّلِ لَا الْمُؤَجَّلِ شَرْطًا فَلَا مَعْنَى لِتَقْيِيدِ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ فِيهِ بِالْعَادَةِ

(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا) لَيْسَ بِقَيْدٍ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَهِيَ تُسَاوِي نُصُبًا لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْأَهْلَ إذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْكُتُبِ لِلتَّدْرِيسِ وَالْحِفْظِ وَالتَّصْحِيحِ لَا يَخْرُجُونَ بِهَا عَنْ الْفَقْرِ، وَإِنْ سَاوَتْ نُصُبًا فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الزَّكَاةَ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ عَنْ حَاجَتِهِمْ نُسَخٌ تُسَاوِي نِصَابًا كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ تَصْنِيفٍ نُسْخَتَانِ، وَقِيلَ بَلْ ثَلَاثٌ، فَإِنَّ النُّسْخَتَيْنِ يُحْتَاجُ إلَيْهِمَا لِتَصْحِيحِ كُلٍّ مِنْ الْأُخْرَى.

وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَهْلِ فَإِنَّهُمْ يُحْرَمُونَ بِهَا أَخْذَ الزَّكَاةِ، إذْ الْحِرْمَانُ تَعَلَّقَ بِمِلْكِ قَدْرِ نِصَابٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَامِيًا، وَإِنَّمَا النَّمَاءُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ.

ص: 163

وَآلَاتُ الْمُحْتَرَفِينَ لِمَا قُلْنَا.

(وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ سِنِينَ ثُمَّ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُزَكِّهِ لِمَا مَضَى) مَعْنَاهُ: صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَالِ الضِّمَارِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ: الْمَالُ الْمَفْقُودُ، وَالْآبِقُ، وَالضَّالُّ

ثُمَّ الْمُرَادُ كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ، أَمَّا كُتُبُ الطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَالنُّجُومِ فَمُعْتَبَرَةٌ فِي الْمَنْعِ مُطْلَقًا. وَفِي الْخُلَاصَةِ فِي الْكُتُبِ: إنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْحِفْظِ وَالدِّرَاسَةِ وَالتَّصْحِيحِ لَا يَكُونُ نِصَابًا وَحَلَّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ فِقْهًا كَانَ أَوْ حَدِيثًا أَوْ أَدَبًا كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمُصْحَفِ، عَلَى هَذَا ذَكَرَهُ فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ: لَوْ كَانَ لَهُ كُتُبٌ إنْ كَانَتْ كُتُبَ النُّجُومِ وَالْأَدَبِ وَالطِّبِّ وَالتَّعْبِيرِ تُعْتَبَرُ، وَأَمَّا كُتُبُ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْمُصْحَفُ الْوَاحِدُ فَلَا يُعْتَبَرُ نِصَابًا. فَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ نُسْخَةً مِنْ النَّحْوِ أَوْ نُسْخَتَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ لَا تُعْتَبَرُ مِنْ النِّصَابِ، وَكَذَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ غَيْرِ الْمَخْلُوطِ بِالْآرَاءِ بَلْ مَقْصُورٌ عَلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُ الْمَخْلُوطِ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ (قَوْلُهُ وَآلَاتُ الْمُحْتَرِفِينَ) الْمُرَادُ بِهَا مَا لَا يُسْتَهْلَكُ عَيْنُهُ فِي الِانْتِفَاعِ كَالْقَدُومِ وَالْمِبْرَدِ، فَمَتَى تَفْنَى عَيْنُهُمَا أَوْ مَا يُسْتَهْلَكُ وَلَا يَبْقَى أَثَرُ عَيْنِهِ، فَلَوْ اشْتَرَى الْغَسَّالُ صَابُونًا لِغَسْلِ الثِّيَابِ أَوْ حُرْضًا يُسَاوِي نِصَابًا وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لَا تَجِبُ فِيهِ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ. وَلَوْ اشْتَرَى الصَّبَّاغُ عُصْفُرًا أَوْ زَعْفَرَانًا يُسَاوِي نُصُبًا لِلصَّبْغِ أَوْ الدَّبَّاغُ دُهْنًا أَوْ عَفْصًا لِلدِّبَاغَةِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ تَجِبُ فِيهِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ. وَقَوَارِيرُ الْعَطَّارِينَ وَلُجُمُ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ الْمُشْتَرَاةِ لِلتِّجَارَةِ وَمَقَاوِدُهَا وَجِلَالُهَا إنْ كَانَ مِنْ غَرَضِ الْمُشْتَرِي بَيْعُهَا بِهِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا

(قَوْلُهُ مَعْنَاهُ صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فِي الْأَصْلِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَإِنَّهُ سَيَذْكُرُ أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ (قَوَّمَهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَالِ الضِّمَارِ) قِيلَ هُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لَا يُرْجَى، فَإِنْ رُجِيَ فَلَيْسَ بِهِ وَأَصْلُهُ مِنْ الْإِضْمَارِ، قَالَ: طَلَبْنَ مَزَارَهُ فَأَصَبْنَ مِنْهُ عَطَاءً لَمْ يَكُنْ عِدَّةً ضِمَارًا وَقِيلَ هُوَ غَيْرُ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَإِنَّهُ أَخَّرَ الِانْتِفَاعَ بِهِ وَصَارَ كَمَالٍ غَائِبٍ (قَوْلُهُ وَمِنْ جُمْلَتِهِ إلَخْ)

ص: 164

وَالْمَغْصُوبُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَالْمَالُ السَّاقِطُ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْمَفَازَةِ إذَا نَسِيَ مَكَانَهُ، وَاَلَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً. وَوُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِسَبَبِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ وَالْمَغْصُوبِ

وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَيْضًا الَّذِي ذَهَبَ بِهِ الْعَدُوُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالْمُودَعُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ إذَا نَسِيَ شَخْصَهُ سِنِينَ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ.

فَإِنْ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ مَعَارِفِهِ فَنَسِيَ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْإِيدَاعَ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ الْأَلْفُ الَّتِي دَفَعَهَا إلَى الْمَرْأَةِ مَهْرًا وَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ عِنْدَهَا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا أَمَةٌ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْن مَوْلَاهَا وَرُدَّتْ الْأَلْفُ عَلَيْهِ، وَدِيَةٌ قَضَى بِهَا فِي حَلْقِ لِحْيَةِ إنْسَانٍ وَدُفِعَتْ إلَيْهِ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ ثُمَّ نَبَتَتْ وَرُدَّتْ الدِّيَةُ، وَمَا أَقَرَّ بِهِ لِشَخْصٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَحَالَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ فَرَدَّ، وَمَا وَهَبَ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا زَكَاةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا غَيْرَ مَرْجُوِّ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَأَمَّا زَكَاةُ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ عَنْ سِنِينَ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ عُقُودًا وَيَشْتَرِطُونَ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ فَتَجِبُ عَلَى الْآجِرِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ وَعِنْدَ الِانْفِسَاخِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ بَلْ قَدْرُهُ فَكَانَ كَدَيْنٍ لَحِقَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيُّ وَمَجْدُ الْأَئِمَّةِ السُّرْخَكَتِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَ مَالَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ دَيْنًا عَلَى الْآجِرِ، وَفِي بَيْعِ الْوَفَاءِ يَجِبُ زَكَاةُ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، وَعَلَى قَوْلِ الزَّاهِدِ وَالسُّرْخَكَتِيِّ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَصَرَّحَ السَّيِّدُ أَبُو شُجَاعٍ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: الِاحْتِيَاطُ أَنْ يُزَكِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ اسْتَشْكَلَ قَوْلُ السُّرْخَكَتِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ دَيْنًا عِنْدَ النَّاسِ وَهُوَ اعْتِبَارٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ. عَلَى الْآجِرِ وَالْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُشْتَرِي أَيْضًا لِأَنَّهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ دَيْنًا لَهُمَا فَلَيْسَ بِمُنْتَفَعٍ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُطَالَبَةُ قَبْلَ الْفَسْخِ وَلَا يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَى الْجَاحِدِ، وَثُمَّ لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ انْتَهَى: يَعْنِي فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الضِّمَارِ.

وَفِي الْكَافِي: لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا عَشْرَ سِنِينَ بِأَلْفٍ وَعَجَّلَهَا إلَى الْمُؤَجِّرِ ثُمَّ لَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعَشْرُ سِنِينَ وَلَا مَالَ لَهُمَا سِوَى الْأَلْفِ كَانَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى زَكَاةُ تِسْعِمِائَةٍ لِظُهُورِ الدَّيْنِ بِمِائَةٍ بِسَبَبِ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ تِلْكَ السَّنَةِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي ثَمَانِمِائَةٍ إلَّا قَدْرَ مَا وَجَبَ مِنْ الزَّكَاةِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَنِصْفٌ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ سَنَةٍ تَنْقُصُ عَنْهُ زَكَاةُ مِائَةٍ وَقَدْرُ مَا وَجَبَ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاقِي خَالِصًا مِنْ دَيْنِ الِانْفِسَاخِ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ.

وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ زَكَاةُ ثَلَاثِمِائَةٍ لِأَنَّهُ مَلَكَ دَيْنًا عَلَى الْمُؤَجِّرِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِائَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ مِائَتَيْنِ لَمْ يَحُلْ حَوْلُهَا، وَفِي الثَّالِثَةِ حَالَ حَوْلُ الْمِائَتَيْنِ، وَاسْتَفَادَ مِائَةً فِي آخِرِ الْحَوْلِ فَيَضُمُّهَا إلَى النِّصَابِ، ثُمَّ تَزِيدُ زَكَاتُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةً لِلِانْفِسَاخِ إذْ بِهِ يَمْلِكُ مِائَةً دَيْنًا فَعَلَيْهِ فِي الرَّابِعَةِ زَكَاةُ أَرْبَعِمِائَةٍ وَهَلُمَّ جَرًّا إلَى الْعَاشِرَةِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ فِيهَا.

وَلَوْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ أَمَةً لِلتِّجَارَةِ فَحِينَ عَجَّلَهَا لِلْمُؤَجِّرِ نَوَى فِيهَا التِّجَارَةَ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ لِشَيْءٍ فِيهَا لِاسْتِحْقَاقِ تَمَامِ عَيْنِ الْأُجْرَةِ، بِخِلَافِ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالِانْفِسَاخِ مِائَةٌ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْمَقْبُوضِ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ زَكَاةُ ثَلَاثَةِ أَعْشَارِهَا تَزِيدُ كُلُّ سَنَةٍ عَشْرًا وَلَا يَخْفَى وَجْهُهُ.

وَلَوْ كَانَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْقَلْبِ: أَعْنِي قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ وَلَمْ يُعَجِّلْ الْأُجْرَةَ فَالْمُؤَجِّرُ هُنَا كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَأْجِرُ كَالْمُؤَجِّرِ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُزَكِّيَ لِلسَّنَةِ الْأُولَى تِسْعَمِائَةٍ وَلِلثَّانِيَةِ بِثَمَانِمِائَةٍ فَتَنْقُصُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةٌ إلَّا زَكَاةَ مَا مَضَى لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأُجْرَةِ يَثْبُتُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَالْمُؤَجِّرُ يُزَكِّي فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ

ص: 165

عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. لَهُمَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ إلَّا بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ. وَابْنُ السَّبِيلِ يَقْدِرُ بِنَائِبِهِ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ نِصَابٌ لِتَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَفِي الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ أَوْ كَرْمٍ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.

ثَلَاثَمِائَةٍ وَالرَّابِعَةِ أَرْبَعَمِائَةٍ إلَّا قَدْرَ زَكَاةِ مَا مَضَى، وَلَوْ كَانَا تَقَابَضَا فِي الْأُجْرَةِ وَالدَّارِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالتَّعْجِيلِ وَلَمْ تُعَدَّ لِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ (قَوْلُهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافُ) عِنْدَنَا لَا فِطْرَةَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الضِّمَارِ) هَكَذَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُنَا عَنْهُ.

وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ الْحَسَنُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا حَضَرَ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ أَدَّى عَنْ كُلِّ مَالٍ وَعَنْ كُلِّ دَيْنٍ إلَّا مَا كَانَ ضِمَارًا لَا يَرْجُوهُ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: أَخَذَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَالَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الرَّقَّةِ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَائِشَةَ عِشْرِينَ أَلْفًا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَاهُ وَلَدُهُ فَرَفَعُوا مَظْلَمَتَهُمْ إلَيْهِ، فَكَتَبَ إلَى مَيْمُونٍ أَنْ ادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَخُذُوا زَكَاةَ عَامِهِمْ هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مَالًا ضِمَارًا أَخَذْنَا مِنْهُ زَكَاةَ مَا مَضَى.

أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: عَلَيْهِ زَكَاةُ ذَلِكَ الْعَامِ انْتَهَى.

وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي مَالٍ قَبَضَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ ظُلْمًا فَأَمَرَ بِرَدِّهِ إلَى أَهْلِهِ، وَيُؤْخَذُ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى مِنْ السِّنِينَ، ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ إلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَارًا. وَفِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ أَيُّوبَ وَعُمَرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ لَيْسَ حُجَّةً فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ.

فَهَذَا لِلْإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِيِّ، وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ بَعْدُ لِلْإِلْزَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ السَّبَبَ إلَخْ، فَفِيهِ مَنَعَ قَوْلَهُمَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ فَقَالَ لَا نُسَلِّمُ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا بِالِاتِّفَاقِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ مِنْ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مَا تُسَاوِي آلَافًا مِنْ الدَّنَانِيرِ وَلَمْ يَنْوِ فِيهَا التِّجَارَةَ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَوِلَايَةُ إثْبَاتِ حَقِيقَةِ التِّجَارَةِ بِالْيَدِ، فَإِذَا فَاتَتْ انْتَفَى تَصَوُّرُ الِاسْتِنْمَاءِ تَحْقِيقًا فَانْتَفَى تَقْدِيرًا فَانْتَفَى النَّمَاءُ تَقْدِيرًا لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ تَقْدِيرًا إذَا تُصَوَّرُ تَحْقِيقًا، وَعَنْ هَذَا انْتَفَى فِي النَّقْدَيْنِ أَيْضًا لِانْتِفَاءِ نَمَائِهِمَا التَّقْدِيرِيِّ بِانْتِفَاءِ تَصَوُّرِ التَّحْقِيقِيِّ بِانْتِفَاءِ الْيَدِ فَصَارَ بِانْتِفَائِهَا

ص: 166

وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ بِهِ الْقَاضِي لِمَا قُلْنَا

كَالتَّأَوِّي، فَلِذَا لَمْ تَجِبْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْ الْآبِقِ وَإِنَّمَا جَازَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعْتَمِدُ مُجَرَّدَ الْمِلْكِ، وَبِالْإِبَاقِ وَالْكِتَابَةِ لَا يَنْقُصُ الْمِلْكُ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَالِ ابْنِ السَّبِيلِ لِثُبُوتِ التَّقْدِيرِيِّ فِيهِ لِإِمْكَانِ التَّحْقِيقِيِّ إذَا وَجَدَ نَائِبًا

(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ) وَكَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَهُوَ: أَيْ الدَّيْنُ نِصَابٌ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ حَالَ كَوْنِ مُسَمَّى الدَّيْنِ فَيَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ إذَا قُبِضَ زَكَاةً لِمَا مَضَى وَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الدَّيْنِ.

وَلْنُوضِحْ ذَلِكَ إذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُصَنِّفُ فَنَقُولُ: قَسَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ الدَّيْنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قَوِيٌّ وَهُوَ بَدَلُ الْقَرْضِ وَمَالِ التِّجَارَةِ، وَمُتَوَسِّطٌ وَهُوَ بَدَلُ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ كَثَمَنِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ وَدَارِ السُّكْنَى، وَضَعِيفٌ وَهُوَ بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَالْوَصِيَّةِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالسِّعَايَةِ.

فَفِي الْقَوِيُّ تَجِبُ الزَّكَاةُ إذَا حَالَ الْحَوْلُ وَيَتَرَاخَى الْأَدَاءُ إلَى أَنْ يَقْبِضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِيهَا دِرْهَمٌ وَكَذَا فِيمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ، وَفِي الْمُتَوَسِّطِ لَا تَجِبُ مَا لَمْ يَقْبِضْ نِصَابًا وَتُعْتَبَرُ لِمَا مَضَى مِنْ الْحَوْلِ فِي صَحِيحِ الرِّوَايَةِ، وَفِي الضَّعِيفِ لَا تَجِبُ مَا لَمْ يَقْبِضْ نِصَابًا وَيَحُولُ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَثَمَنُ السَّائِمَةِ كَثَمَنِ عَبْدِ الْخِدْمَةِ.

وَلَوْ وَرِثَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْوَسَطِ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ كَالضَّعِيفِ. وَعِنْدَهُمَا الدُّيُونُ كُلُّهَا سَوَاءٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكُلَّمَا قَبَضَ شَيْئًا زَكَّاهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إلَّا دَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالسِّعَايَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أَخْرَجَا الدِّيَةَ أَيْضًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا وَأَرْشَ الْجِرَاحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلِذَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَةِ مَنْ مَاتَ مِنْ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةُ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ الصِّلَةِ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ. وَلَوْ أَجَرَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ بِنِصَابٍ إنْ لَمْ يَكُونَا لِلتِّجَارَةِ لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَا لِلتِّجَارَةِ كَانَ حُكْمُهُ كَالْقَوِيِّ لِأَنَّ أُجْرَةَ مَالِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ مَالِ التِّجَارَةِ فِي صَحِيحِ الرِّوَايَةِ (قَوْلُهُ ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ) لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، ابْتِدَاءٌ يَتَّصِلُ بِمَلِيءٍ وَبِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ بِالْمُعْسِرِ.

وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّ مَا عَلَى الْمُعْسِرِ لَيْسَ نِصَابًا لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ دَفْعٌ لَهُ (قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ) يَعْنِي يَكُونُ نِصَابًا.

وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَعَ عِلْمِ الْقَاضِي يَكُونُ نِصَابًا، وَفِيمَا إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ وَلَمْ يُقِمْهَا حَتَّى مَضَتْ سُنُونَ لَا يَكُونُ نِصَابًا، وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى خِلَافِهِ. وَفِي الْأَصْلِ لَمْ يَجْعَلْ الدَّيْنَ نِصَابًا وَلَمْ يُفَصِّلْ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الصَّحِيحُ جَوَابُ الْكِتَابِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ وَلَا كُلُّ بَيِّنَةٍ تَعْدِلُ، وَفِي الْجُثُوِّ بَيْنَ يَدَيْ الْقُضَاةِ ذُلٌّ وَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ فَصَارَ فِي هَذَيْنِ الْبَيِّنَةُ، وَعِلْمُ الْقَاضِي شُمُولُ الْعَدَمِ وَشُمُولُ الْوُجُوبِ وَالتَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ

ص: 167

وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفْلِسٍ فَهُوَ نِصَابٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَجِبُ لِتَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ عِنْدَهُ بِالتَّفْلِيسِ. وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ.

(وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ وَنَوَاهَا لِلْخِدْمَةِ بَطَلَتْ عَنْهَا الزَّكَاةُ) لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ وَهُوَ تَرْكُ التِّجَارَةِ (وَإِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ حَتَّى يَبِيعَهَا فَيَكُونَ فِي ثَمَنِهَا زَكَاةٌ) لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَتَّصِلْ بِالْعَمَلِ إذْ هُوَ لَمْ يَتَّجِرْ فَلَمْ تُعْتَبَرْ، وَلِهَذَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا إلَّا بِالسَّفَرِ

الْمَدْيُونُ يُقِرُّ فِي السِّرِّ وَيَجْحَدُ فِي الْعَلَانِيَةِ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا، وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا فَلَمَّا قَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي جَحَدَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَمَضَى زَمَانٌ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ مِنْ يَوْمِ جَحَدَ إلَى أَنْ عَدَلُوا لِأَنَّهُ كَانَ جَاحِدًا وَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِيمَا كَانَ مُقِرًّا قَبْلَ الْخُصُومَةِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِطْلَاقِ فِي الْمَجْحُودِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّ لَفْظَ مُفَلِّسٍ بِالتَّشْدِيدِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفَلِّسٍ لِأَنَّهُ تَعْلِيلُهُ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمُفْلِسَ بِالتَّخْفِيفِ وَأَعْطَى حُكْمَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ أَوْ مُعْسِرٍ إذْ الْمُعْسِرُ هُوَ الْمُفْلِسُ، وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ فَلَّسَهُ الْقَاضِي.

وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَا عَلَى الْمُقِرِّ الْمُفْلِسِ بِالتَّخْفِيفِ لَيْسَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ نِصَابٌ، وَلَمْ يَشْرُطْ الطَّحَاوِيُّ التَّفْلِيسَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلِ الْمَحْبُوبِيِّ: لَوْ كَانَ الْمَدْيُونُ مُقِرًّا مُفْلِسًا فَعَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ زَكَاةُ مَا مَضَى إذَا قَبَضَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ الْحَاكِمُ فَلَّسَهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ التَّفْلِيسَ يَتَحَقَّقُ فَيَصِيرُ الدَّيْنُ تَاوِيًا بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ مِثْلُهُ فِي الْمَلِيءِ يُوَافِقُ نَافِيَ الْخِلَافِ (قَوْلُهُ وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) وَقِيلَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ (قَوْلُهُ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ) هَذَا مِنْ الْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْ النَّظَرِ فِيهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْوَجْهِ أَصْلًا، إذْ بِمُجَرَّدِ رِعَايَةِ الْفُقَرَاءِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِلْحُكْمِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالَ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ يَتَأَتَّى فِيهِ رِعَايَتُهُمْ، وَكَمْ مِنْ مَوْضِعٍ لَا تَجِبُ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إيجَابٌ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِهِ.

فَالْأَوْلَى مَا قِيلَ إنَّ التَّفْلِيسَ وَإِنْ تَحَقَّقَ لَكِنَّ مَحَلَّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ وَهِيَ وَالْمَطَالِبُ بَاقِيَانِ حَتَّى كَانَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ حَقُّ الْمُلَازَمَةِ فَبَقَاءُ الْمُلَازَمَةِ دَلِيلُ بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَى حَالِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى

(قَوْلُهُ لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ) حَاصِلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ التُّرُوكِ كَفَى فِيهِ مُجَرَّدُهَا فَالتِّجَارَةُ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ النِّيَّةِ بِخِلَافِ تَرْكِهَا، وَنَظِيرُهُ السَّفَرُ وَالْفِطْرُ وَالْإِسْلَامُ وَالْإِسَامَةُ لَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهَا إلَّا بِالْعَمَلِ، وَتَثْبُتُ أَضْدَادُهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا وَلَا مُفْطِرًا وَلَا مُسْلِمًا وَلَا الدَّابَّةُ سَائِمَةً بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بَلْ بِالْعَمَلِ، وَيَصِيرُ

ص: 168

(وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَرِثَ وَنَوَى التِّجَارَةَ) لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ مِنْهُ، وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْخُلْعِ أَوْ الصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِاقْتِرَانِهَا بِالْعَمَلِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَارِنْ عَمَلَ التِّجَارَةِ، وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ.

(وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ، أَوْ مُقَارِنَةٍ لِعَزْلِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ)

الْمُسَافِرُ مُقِيمًا وَالْمُفْطِرُ صَائِمًا وَالْمُسْلِمُ كَافِرًا وَالدَّابَّةُ عَلُوفَةً بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُفْطِرِ الَّذِي لَمْ يَنْوِ صَوْمًا يُعَدُّ فِي وَقْتٍ تَصِحُّ فِيهِ النِّيَّةُ (قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا إلَخْ) الْمُرَادُ مَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لَا عُمُومُ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً أَوْ عُشْرِيَّةً لِيَتَّجِرَ فِيهَا لَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَإِلَّا اجْتَمَعَ فِيهَا الْحَقَّانِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَرْضُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ مَعَ الْعُشْرِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بَقِيَتْ الْأَرْضُ عَلَى وَظِيفَتِهَا الَّتِي كَانَتْ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى بَذْرًا لِلتِّجَارَةِ وَزَرَعَهُ فِي عُشْرِيَّةٍ اسْتَأْجَرَهَا كَانَ فِيهَا الْعُشْرُ لَا غَيْرُ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَرِثَ) الْحَاصِلُ أَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ تَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا يَرِثُهُ لَا تَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ أَصْلًا وَفِيمَا تَمَلَّكَهُ بِقَبُولِ عَقْدٍ مِمَّا ذُكِرَ خِلَافٌ. وَجْهُ الِاعْتِبَارِ أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ اعْتِبَارُ النِّيَّاتِ مُطْلَقًا وَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْأَعْمَالِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» إلَّا أَنَّهَا لَمْ تُعْتَبَرْ لِخَفَائِهَا حَتَّى تَتَّصِلَ بِالْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَقَدْ اتَّصَلَتْ فِي هَذِهِ. وَجْهُ الْآخَرِ أَنَّ اعْتِبَارَهَا إذَا طَابَقَتْ الْمَنْوِيَّ وَهُوَ التِّجَارَةُ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِالْهِبَةِ وَمَا مَعَهَا وَاَلَّذِي فِي نَفْسِي تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ. وَيَلْحَقُ بِالْبَيْعِ بَدَلُ الْمُؤَجَّرِ، فَلَوْ آجَرَهُ وَلَدُهُ بِعَبْدٍ وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ، وَبِالْمِيرَاثِ مَا دَخَلَ لَهُ مِنْ حُبُوبِ أَرْضِهِ فَنَوَى إمْسَاكَهَا لِلتِّجَارَةِ فَلَا تَجِبُ لَوْ بَاعَهَا بَعْدَ حَوْلٍ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ إلَخْ) حَصَرَ الْجَوَازَ فِي الْأَمْرَيْنِ، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الزَّكَاةَ وَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ وَلَوْ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ إلَّا زَكَاةَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ دَفَعَهَا لِلْوَكِيلِ فَالْعِبْرَةُ لِنِيَّةِ

ص: 169

لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ وَالْأَصْلُ فِيهَا الِاقْتِرَانُ، إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَةَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.

(وَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَانَ مُتَعَيِّنًا فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ (وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النِّصَابِ سَقَطَ زَكَاةُ الْمُؤَدَّى عِنْدَ مُحَمَّدٍ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَعْضَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِكَوْنِ الْبَاقِي مَحَلًّا لِلْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.

الْمَالِكِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِبَعْضِهِمْ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. قَالَ: أَعْطَى رَجُلًا دَرَاهِمَ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا تَطَوُّعًا فَلَمْ يَتَصَدَّقْ حَتَّى نَوَى الْآمِرُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْمَأْمُورُ جَازَتْ عَنْ الزَّكَاةِ انْتَهَى. وَكَذَا لَوْ قَالَ عَنْ كَفَّارَتِي ثُمَّ نَوَى الزَّكَاةَ قَبْلَ دَفْعِهِ (قَوْلُهُ كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ إلَخْ) حَاصِلُهُ إلْحَاقُ الزَّكَاةِ بِالصَّوْمِ فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى الشُّرُوعِ بِجَامِعِ لُحُوقِ لُزُومِ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِ الْمُقَارَنَةِ، وَسَبَبُهُ فِي الزَّكَاةِ تَفَرُّقُ الدَّفْعِ لِلْكَثِيرِينَ

(قَوْلُهُ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ) بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْوِيَ بِهَا وَاجِبًا آخَرَ مِنْ نَذْرٍ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ نَوَى النَّفَلَ أَوْ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ، بِخِلَافِ رَمَضَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ دَفْعَ الْمَالِ لِلْفَقِيرِ بِنَفْسِهِ قُرْبَةٌ كَيْفَ كَانَ، بِخِلَافِ الْإِمْسَاكِ انْقَسَمَ إلَى عَادَةٍ وَعِبَادَةٍ فَاحْتَاجَ إلَى تَمْيِيزٍ بِالْقَصْدِ، وَإِذَا وَقَعَ أَدَاءُ الْكُلِّ قُرْبَةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَعْيِينِ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ دَفْعُ الْكُلِّ وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِ الْفَرْضِ لِلْمُزَاحَمَةِ بَيْنَ الْجُزْءِ الْمُؤَدَّى وَسَائِرِ الْأَجْزَاءِ، وَبِأَدَاءِ الْكُلِّ لِلَّهِ تَعَالَى تَحَقَّقَ أَدَاءُ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ) فَصَارَ كَهَلَاكِ الْبَعْضِ فَسَقَطَ زَكَاتُهُ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ)

ص: 170

‌بَابُ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ

(فَصْلٌ فِي الْإِبِلِ)

أَيْ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ لِلتَّيَقُّنِ بِإِخْرَاجِ الْجُزْءِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ، بِخِلَافِ الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى فَقِيرٍ فَأَبْرَأَهُ عَنْهُ سَقَطَ زَكَاتُهُ عَنْهُ نَوَى بِهِ عَنْ الزَّكَاةِ أَوْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّهُ كَالْهَلَاكِ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ سَقَطَ زَكَاةُ ذَلِكَ الْبَعْضِ لِمَا قُلْنَا لَا زَكَاةُ الْبَاقِي. وَلَوْ نَوَى بِهِ الْأَدَاءَ عَنْ الْبَاقِي لِأَنَّ السَّاقِطَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَالًا وَكَانَ خَيْرًا مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ السَّاقِطُ عَنْهُ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ. وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى غَنِيٍّ فَوَهَبَهُ مِنْهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ قِيلَ يَضْمَنُ قَدْرَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ كَأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ أَوْ هَلَاكٌ. هَذَا وَالْأَفْضَلُ فِي الزَّكَاةِ الْإِعْلَانُ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.

(بَابُ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ)

سَامَتْ الْمَاشِيَةُ سَوْمًا وَأَسَامَهَا رَبُّهَا إسَامَةً. بَدَأَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي تَفْصِيلِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ بِالسَّوَائِمِ اقْتِدَاءً بِكُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا كَانَ فِي كُتُبِهِ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ إلَى الْعَرَبِ، وَكَانَ جُلُّ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفَسُهَا الْإِبِلُ فَبَدَأَ بِهَا. وَالسَّائِمَةُ الَّتِي تَرْعَى وَلَا تُعْلَفُ فِي الْأَهْلِ. وَفِي الْفِقْهِ: هِيَ تِلْكَ مَعَ قَيْدِ كَوْنِ ذَلِكَ لِقَصْدِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ حَوْلًا أَوْ أَكْثَرَهُ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ السَّائِمَةِ فِي الْهِدَايَةِ وَنَذْكُرُ هُنَاكَ الْخِلَافَ. فَلَوْ أُسِيمَتْ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ

ص: 171

قَالَ رضي الله عنه (لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا سَائِمَةً، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى تِسْعٍ، فَإِذَا كَانَتْ عَشْرًا فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَإِذَا كَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى تِسْعَ عَشْرَةَ، فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ.

(إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ (فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ (إلَى سِتِّينَ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ (إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى

لَمْ تَكُنْ السَّائِمَةَ الْمُسْتَلْزَمَةَ شَرْعًا لِحُكْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، بَلْ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَوْ أَسَامَهَا لِلتِّجَارَةِ كَانَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ لَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ، وَقَدْ عَيَّنَ فِي الْكِتَابِ أَسْنَانَ الْمُسَمَّيَاتِ. وَأَمَّا اشْتِقَاقُ الْأَسْمَاءِ فَسُمِّيَتْ بِنْتُ الْمَخَاضِ بِهِ لِأَنَّ أُمَّهَا تَكُونُ مَخَاضًا بِغَيْرِهَا عَادَةً: أَيْ حَامِلًا، وَيُسَمَّى أَيْضًا وَجَعُ الْوِلَادَةِ مَخَاضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} وَبِنْتُ اللَّبُونِ لِأَنَّ أُمَّهَا تَكُونُ ذَاتَ لَبَنٍ تُرْضِعُ بِهِ أُخْرَى، وَالْحِقَّةُ لِأَنَّهَا حُقَّ لَهَا أَنْ تُرْكَبَ وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا، وَالْجَذَعَةُ لِمَعْنًى فِي أَسْنَانِهَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ (قَوْلُهُ لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ ذَوْدٌ) الذَّوْدُ: يُقَالُ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْإِبِلِ إلَى عَشَرَةٍ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهَا هُنَا فِي الْوَاحِدِ عَلَى نَظِيرِ اسْتِعْمَالِ الرَّهْطِ فِي قَوْله تَعَالَى {تِسْعَةُ رَهْطٍ} وَقَصَدَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ مُتَابَعَةَ لَفْظِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ النِّصَابِ وَالْوَاجِبِ أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: إنَّ إيجَابَ الشَّاةِ فِي خَمْسَةٍ مِنْ الْإِبِلِ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ رُبْعُ الْعُشْرِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «هَاتُوا رُبْعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ» وَالشَّاةُ تَقْرَبُ مِنْ رُبْعِ عُشْرِ الْإِبِلِ، فَإِنَّ الشَّاةَ كَانَتْ تُقَوَّمُ بِخَمْسَةٍ وَبِنْتَ مَخَاضٍ بِأَرْبَعِينَ، فَإِيجَابُ الشَّاةِ فِي خَمْسٍ كَإِيجَابِ الْخَمْسَةِ فِي مِائَتَيْنِ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ وَضَعَ الْعَشَرَةَ مَوْضِعَ الشَّاةِ عِنْدَ عَدَمِهَا وَهُوَ مُصَرَّحٌ، بِخِلَافِ مَا قَالَ وَسَنُنَبِّهُك عَلَيْهِ. ثُمَّ ظَاهِرُ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ إلَى تِسْعٍ كَوْنُهَا غَايَةً لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّهُ جَعَلَ الزَّكَاةَ وَاجِبَةً فِي النِّصَابِ، وَالْعَفْوُ

ص: 172

وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ) بِهَذَا اشْتَهَرَتْ كُتُبُ الصَّدَقَاتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ)

وَالْغَايَةُ غَايَةُ إسْقَاطٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى وُجُوبُ الشَّاةِ مُسْتَمِرٌّ إلَى تِسْعٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِبِلِ هُوَ الْإِنَاثُ أَوْ قِيمَتُهَا، بِخِلَافِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ (قَوْلُهُ بِهَذَا اشْتَهَرَتْ كُتُبُ الصَّدَقَاتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) مِنْهَا كِتَابُ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفَرَّقَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ عَنْ ثُمَامَةَ: أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيُعْطِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهُ فَلَا يُعْطِهِ. فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، ثُمَّ سَاقَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ فِي الْغَنَمِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ الثَّانِي عَنْ ثُمَامَةَ وَقَالَ فِيهِ: مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةَ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ انْتَهَى.

فَقَدْ جَعَلَ بَدَلَ كُلِّ شَاةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا عَشَرَةً، وَهَذَا يُصَرِّحُ بِخِلَافِ الِاعْتِبَارِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا تُجْعَلُ عِنْدَ عَدَمِهَا قِيمَتُهَا إذْ ذَاكَ.

ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٍ وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ

ص: 173

إذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ (تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ) فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ مَعَ الْحِقَّتَيْنِ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ،

رَبُّهَا، وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ إلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا.

وَفِي الْبَابِ الثَّالِثِ عَنْ ثُمَامَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ فَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ «لَا يَخْرُجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدِّقُ» .

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ حَدِيثًا وَاحِدًا وَزَادَ فِيهِ: «وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ» وَقَدْ يُوهِمُ لَفْظُ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِيهِ الِانْقِطَاعَ لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ صَحِيحٌ، قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَمِنْ الْكُتُبِ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فَذَكَرَهُ عَلَى وِفَاقِ مَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ فِيهِ:«لَا يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرِّقْ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ مَخَافَةَ الصَّدَقَةَ» وَلَمْ يَذْكُرْ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَرْفَعُوهُ، وَإِنَّمَا رَفَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَسُفْيَانُ هَذَا أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ تَابَعَ سُفْيَانَ عَلَى رَفْعِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ مِمَّنْ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ، وَزَادَ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ بَعْدَ قَوْلِهِ وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ: فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ، وَزَادَ فِيهِ أَبُو دَاوُد زِيَادَةً مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَتَبَهُ فِي الصَّدَقَةِ وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَوَعَيْتهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَهِيَ الَّتِي انْتَسَخَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَقَالَ فِيهِ: «فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَخَمْسِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ سِتِّينَ وَمِائَةً فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسِتِّينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَبْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ ثَمَانِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ» .

ثُمَّ ذَكَرَ سَائِمَةَ الْغَنَمِ عَلَى مَا ذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَهَذَا مُرْسَلٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ اشْتَمَلَ كِتَابُ الصِّدِّيقِ وَكِتَابُ عُمَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ: وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ مَخَافَةَ الصَّدَقَةِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيَانِ الْمُرَادِ إذْ كَانَ مَبْنَى بَعْضِ الْخِلَافِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ النِّصَابُ بَيْنَ شُرَكَاءَ وَصَحَّتْ الْخُلْطَةُ بَيْنَهُمْ بِاتِّحَادِ الْمَسْرَحِ وَالْمَرْعِي وَالْمُرَاحِ وَالرَّاعِي وَالْفَحْلِ وَالْمِحْلَبِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ عِنْدَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ» الْحَدِيثَ. وَفِي عَدَمِ وُجُوبِ تَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ، وَعِنْدَنَا لَا تَجِبُ وَإِلَّا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ.

لَنَا هَذَا الْحَدِيثُ، فَفِي الْوُجُوبِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْلَاكِ الْمُتَفَرِّقَةِ إذْ الْمُرَادُ الْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ فِي الْأَمْلَاكِ لَا الْأَمْكِنَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّصَابَ الْمُفَرَّقَ فِي أَمْكِنَةٍ مَعَ وَحْدَةِ الْمِلْكِ تَجِبُ فِيهِ، وَمَنْ مَلَكَ ثَمَانِينَ شَاةً لَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَجْعَلَهَا نِصَابَيْنِ بِأَنْ يُفَرِّقَهَا فِي مَكَانَيْنِ، فَمَعْنَى لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ: أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ السَّاعِي بَيْنَ الثَّمَانِينَ مِثْلًا أَوْ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لِيَجْعَلَهَا نِصَابَيْنِ وَثَلَاثَةً، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ: لَا يَجْمَعُ مَثَلًا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ الْمُتَفَرِّقَةِ بِالْمِلْكِ بِأَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً لِيَجْعَلَهَا نِصَابًا وَالْحَالُ أَنَّ لِكُلٍّ عِشْرِينَ.

قَالَ: وَمَا كَانَ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ إلَخْ، قَالُوا أَرَادَ بِهِ إذَا كَانَ بَيْنَ

ص: 174

إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَيَكُونُ فِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ، ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتًّا وَتِسْعِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ إلَى مِائَتَيْنِ

رَجُلَيْنِ إحْدَى وَسِتُّونَ مِثْلًا مِنْ الْإِبِلِ لِأَحَدِهِمَا سِتٌّ وَثَلَاثُونَ وَلِلْآخَرِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْهَا بِنْتَ لَبُونٍ وَبِنْتَ مَخَاضٍ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةِ مَا أَخَذَهُ السَّاعِي مِنْ مِلْكِهِ زَكَاةَ شَرِيكِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْهَا كِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ فِي الدِّيَاتِ وَأَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وَهَذِهِ نُسْخَتُهَا:«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ قَيْلِ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ، أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ رَجَعَ رَسُولُكُمْ وَأَعْطَيْتُمْ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ، وَمَا كَتَبَ اللَّهُ عز وجل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْعُشْرِ فِي الْعَقَارِ وَمَا سَقَتْ السَّمَاءُ، وَمَا كَانَ سَيْحًا أَوْ كَانَ بَعْلًا فِيهِ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ وَالدَّالِيَةِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَفِي كُلِّ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ سَائِمَةٍ شَاةٌ إلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ، وَسَاقَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ: وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ بَاقُورَةً تَبِيعٌ أَوْ جَذَعَةٌ، وَفِي كُلُّ أَرْبَعِينَ بَاقُورَةً بَقَرَةٌ» . ثُمَّ ذَكَرَ صَدَقَةَ الْغَنَمِ وَفِيهِ: وَفِي «كُلِّ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ شَيْءٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ» وَفِي الْكِتَابِ أَيْضًا: «إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ، وَتَعَلُّمِ السَّحَرِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، ثُمَّ ذَكَرَ جُمَلًا فِي الدِّيَاتِ» قَالَ النَّسَائِيّ: وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ مَتْرُوكٌ.

وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ بِهِ. قَالَ الْحَاكِمُ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَهُوَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ صَحِيحٌ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يُشِيرُ بِالصِّحَّةِ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا إلَى غَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فِي نُسْخَةِ كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَهِيَ مُتَوَارَثَةٌ كَنُسْخَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَهِيَ دَائِرَةٌ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ: لَمْ يَقْبَلُوهُ حَتَّى ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ: لَا أَعْلَمُ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمَنْقُولَةِ أَصَحَّ مِنْهُ، فَإِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَيَدَعُونَ آرَاءَهُمْ اهـ.

وَتَضْعِيفُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْخَوْلَانِيِّ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ أَثْنَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ (قَوْلُهُ إلَى مِائَتَيْنِ) وَإِذَا صَارَتْ

ص: 175

ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ أَبَدًا كَمَا تُسْتَأْنَفُ فِي الْخَمْسِينَ الَّتِي بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِذَا صَارَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ، ثُمَّ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْأَرْبَعِينَاتِ وَالْخَمْسِينَاتِ فَتَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَتَبَ «إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» مِنْ غَيْرِ شَرْطِ عَوْدِ مَا دُونَهَا. وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَتَبَ فِي آخِرِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «فَمَا كَانَ

مِائَتَيْنِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ خَمْسَةَ بَنَاتِ لَبُونٍ (قَوْلُهُ كَمَا تُسْتَأْنَفُ فِي الْخَمْسِينَ الَّتِي بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ) يَعْنِي فِي خَمْسِ شَاةٍ مَعَ الْأَرْبَعِ حِقَاقٍ أَوْ الْخَمْسَةِ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ مَعَهَا، وَفِي خَمْسَةَ عَشَرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ مَعَهَا، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعٌ مَعَهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ.

فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ مَعَهَا، إلَى سِتٍّ وَثَلَاثِينَ فَبِنْتُ لَبُونٍ مَعَهَا إلَى سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسُ حِقَاقٍ حِينَئِذٍ إلَى مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ كَذَلِكَ، فَفِي مِائَتَيْنِ وَسِتٍّ وَتِسْعِينَ سِتَّةُ حِقَاقٍ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَهَكَذَا، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الِاسْتِئْنَافِ الْأَوَّلِ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إلَخْ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَأَحْمَدَ مَعَ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ كَمَذْهَبِنَا وَكَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام) رَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكَلِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: قُلْت لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: خُذْ لِي كِتَابَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَأَعْطَانِي كِتَابًا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَهُ لِجَدِّهِ، فَقَرَأْته فَكَانَ فِيهِ ذِكْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَرَائِضِ الْإِبِلِ، فَقَصَّ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ بَلَغَ عِشْرِينَ وَمِائَةً، فَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ وَمِائَةً فَإِنَّهَا تُعَادُ إلَى أَوَّلِ فَرِيضَةِ الْإِبِلِ، وَدَفَعَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِمُخَالَفَتِهَا الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، وَرِوَايَةُ الصَّحِيحِ مِنْ كِتَابِ الصِّدِّيقِ وَالْأَثَرِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بِمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَنَا طُعِنَ فِيهِ بِالِانْقِطَاعِ مِنْ مَكَانَيْنِ وَضَعُفَ بِخُصَيْفٍ، وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ كَمَذْهَبِنَا عُورِضَ بِأَنَّ شَرِيكًا رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى عَشَرَةٍ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، إلَّا أَنَّ سُفْيَانَ أَحْفَظُ مِنْ شَرِيكٍ. وَلَوْ سَلِمَ لَا يُقَاوَمُ مَا تَقَدَّمَ.

قُلْنَا إنْ سَلِمَ فَإِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ تَعَارَضَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا تُثْبِتُهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَى عَوْدِ الْفَرِيضَةِ لَا يَتَعَرَّضُ مَا تَقَدَّمَ لِنَفْيِهِ لِيَكُونَ مُعَارِضًا، إنَّمَا فِيهِ: إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ لِأَنَّا أَوْجَبْنَا كَذَلِكَ، إذْ الْوَاجِبُ

ص: 176

أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَفِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ» فَنَعْمَلُ بِالزِّيَادَةِ (وَالْبُخْتُ وَالْعِرَابُ سَوَاءٌ) فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُهُمَا.

فِي الْأَرْبَعِينَ هُوَ الْوَاجِبُ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَالْوَاجِبُ فِي خَمْسِينَ هُوَ الْوَاجِبُ فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَلَا يَتَعَرَّضُ هَذَا الْحَدِيثُ لِنَفْيِ الْوَاجِبِ عَمَّا دُونَهُ فَنُوجِبُهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ، وَتُحْمَلُ الزِّيَادَةُ فِيمَا رَوَاهُ عَلَى الزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَتَبَ الصَّدَقَةَ وَلَمْ يُخْرِجْهَا إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ فَأَخْرَجَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ بَعْدِهِ فَعَمِلَ بِهَا حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا عُمَرُ فَعَمِلَ بِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَهَا عُثْمَانُ فَعَمِلَ بِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَهَا عَلِيٌّ فَعَمِلَ بِهَا» ، فَكَانَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: فِي إحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا كَثُرَتْ الْإِبِلُ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.

قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كُلُّهَا تَنُصُّ عَلَى وُجُوبِ الشَّاةِ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ ذَكَرَهَا فِي الْغَايَةِ (قَوْلُهُ وَالْبُخْتُ وَالْعِرَابُ) جَمْعُ عَرَبِيٍّ لِلْبَهَائِمِ وَلِلْأُنَاسِ عَرَبٌ، فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي الْجَمْعِ، وَالْعَرَبُ مُسْتَوْطِنُو الْمُدُنِ وَالْقُرَى الْعَرَبِيَّةِ، وَالْأَعْرَابُ أَهْلُ الْبَدْوِ.

وَاخْتُلِفَ فِي نِسْبَتِهِمْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ نُسِبُوا إلَى عَرَبَةَ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ مِنْ تِهَامَةٍ لِأَنَّ أَبَاهُمْ إسْمَاعِيلُ عليه السلام نَشَأَ بِهَا، كَذَا فِي الْمَغْرِبِ.

وَهَذِهِ تَتِمَّةٌ فِي زَكَاةِ الْعِجَافِ: لَا شَكَّ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْوَسَطُ مَعَ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْفُقَرَاءِ وَرَبِّ الْمَالِ، فَإِيجَابُهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْكُلُّ عِجَافًا إجْحَافٌ بِهِ فَوَجَبَ الْإِيجَابُ بِقَدْرِهِ، وَهَذَا تَفْصِيلُهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَوْ أَعْلَى مِنْهَا سِنًّا لَكِنَّهَا النُّقْصَانُ حَالُهَا تَعْدِلُهَا فَفِيهَا شَاةٌ وَسَطٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُسَاوِيهَا نَظَرَ إلَى قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ وَقِيمَةِ أَفْضَلِهَا، فَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ اُعْتُبِرَ مِثْلُهُ فِي الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّاةِ الْوَسَطِ، مَثَلًا لَوْ كَانَ قِيمَةُ بِنْتِ الْمَخَاضِ خَمْسِينَ وَقِيمَةُ أَفْضَلِهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالتَّفَاوُتُ بِالنِّصْفِ فَتَجِبُ شَاةٌ قِيمَتُهَا نِصْفُ قِيمَةِ الشَّاةِ الْوَسَطِ.

وَعَلَى هَذَا فَقِسْ، فَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حِقَاقٍ أَوْ جِذَاعٍ أَوْ بَنَاتِ مَخَاضٍ أَوْ بَوَازِلَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَوْ مَا يُسَاوِيهَا فِي الْقِيمَةِ وَجَبَتْ بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٍ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الَّتِي تُسَاوِيهَا، وَإِنْ كَانَ حِقَّةً أَوْ أَعْلَى مِنْهَا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُسَاوِيهَا وَلَا هِيَ فَالْوَاجِبُ بِنْتُ مَخَاضٍ تُسَاوِي أَفْضَلَهَا، وَلَوْ كَانَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ بَنَاتِ مَخَاضٍ أَوْ حِقَاقٍ أَوْ جِذَاعٍ أَوْ بَوَازِلَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا ثِنْتَانِ تَعْدِلَانِ بِنْتَيْ مَخَاضٍ وَسَطٍ وَجَبَ فِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَسَطٍ لَمْ يَكْتَفِ هُنَا بِوُجُودِ وَاحِدَةٍ تَعْدِلُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطٍ لِإِيجَابِ بِنْتِ لَبُونٍ وَسَطٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا لَيْسَ بِنْتَ مَخَاضٍ بَلْ بِنْتُ لَبُونٍ، وَرُبَّمَا كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا يَأْتِي عَلَى أَكْثَرِ نِصَابِ الْعِجَافِ فَوَجَبَ ضَمُّ أُخْرَى تَعْدِلُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَعْدِلُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَجَبَ بِنْتُ لَبُونٍ

ص: 177

(فَصْلٌ فِي الْبَقَرِ)

(لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ ثَلَاثِينَ سَائِمَةً وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ (وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنٌّ أَوْ مُسِنَّةٌ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ،

بِقَدْرِهَا، وَطَرِيقُهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ وَإِلَى قِيمَةِ بِنْتِ لَبُونٍ وَسَطٍ، فَمَا تَفَاوَتَ بِهِ اُعْتُبِرَ زِيَادَةً عَلَى بِنْتِ لَبُونٍ تُسَاوِي أَفْضَلَهَا مِمَّا يَلِيهَا فِي الْفَضْلِ مِنْهَا، مَثَلًا كَانَتْ قِيمَةُ بِنْتِ الْمَخَاضِ خَمْسِينَ وَقِيمَةُ بِنْتِ اللَّبُونِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ فَالْوَاجِبُ بِنْتُ لَبُونٍ تُسَاوِي أَفْضَلَهَا وَنِصْفُ قِيمَةِ الَّتِي تَلِيهَا فِي الْفَضْلِ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَفْضَلُهَا يُسَاوِي عِشْرِينَ وَتَلِيهِ أُخْرَى تُسَاوِي عَشَرَةً وَجَبَ بِنْتُ لَبُونٍ تُسَاوِي عِشْرِينَ وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَلَوْ كَانَتْ خَمْسِينَ لَيْسَ فِيهَا مَا يُسَاوِي بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطٍ نَظَرَ إلَى قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ وَقِيمَةِ حِقَّةِ وَسَطٍ، فَمَا وَقَعَ بِهِ التَّفَاوُتُ اُعْتُبِرَ فِي الَّتِي تَلِي أَفْضَلَهَا، فَيَجِبُ ذَلِكَ مَعَ أَفْضَلِهَا أَيْضًا كَمَا ذُكِرَ فِي بِنْتِ اللَّبُونِ مَعَ بِنْتِ الْمَخَاضِ، حَتَّى لَوْ كَانَ قِيمَةُ بِنْتِ الْمَخَاضِ خَمْسِينَ وَالْحِقَّةُ ثَمَانِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ تُسَاوِي أَفْضَلَهَا وَثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الَّتِي تَلِيهَا فِي الْفَضْلِ.

وَلَوْ كَانَتْ الْحِقَّةُ بِتِسْعِينَ وَبِنْتُ الْمَخَاضِ خَمْسِينَ وَفِي الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ تُسَاوِي خَمْسِينَ وَأُخْرَى تُسَاوِي ثَلَاثِينَ فَالْوَاجِبُ حِقَّةٌ تُسَاوِي أَرْبَعَةً وَسَبْعِينَ لِيَكُونَ مِثْلَ أَفْضَلِهَا وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الَّتِي تَلِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ بِنْتِ الْمَخَاضِ خَمْسِينَ وَالْحِقَّةُ مِائَةٌ وَفِي الْإِبِلِ ثَلَاثٌ تُسَاوِي كُلٌّ ثَلَاثِينَ ثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ تُسَاوِي سِتِّينَ مِثْلِ ثِنْتَيْنِ مِنْ أَفْضَلِهَا لِأَنَّ التَّفَاوُتَ الَّذِي بَيْنَ الْحِقَّةِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ الضِّعْفُ.

وَإِنَّمَا جَعَلْنَا بِنْتَ الْمَخَاضِ حُكْمًا فِي الْبَابِ فِي كُلِّ الصُّوَرِ لِأَنَّهَا أَدْنَى سِنٍّ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا عَفْوٌ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِوُجُودِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُسَاوِي بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطٍ لِإِيجَابِ مَا زَادَ عَلَى بِنْتِ الْمَخَاضِ لِمَا ذَكَرْنَا

(فَصْلٌ فِي الْبَقَرِ)

قَدَّمَهَا عَلَى الْغَنَمِ لِقُرْبِهَا مِنْ الْإِبِلِ فِي الضَّخَامَةِ، وَالْبَقَرُ مِنْ بَقَرَ إذَا شَقَّ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَشُقُّ الْأَرْضَ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالتَّاءُ فِي بَقَرَةٍ لِلْوَحْدَةِ فَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لَا لِلتَّأْنِيثِ (قَوْلُهُ فَفِيهَا تَبِيعٌ) سُمِّيَ الْحَوْلِيُّ مِنْ أَوْلَادِ الْبَقَرِ بِهِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ بَعْدُ، وَالْمُسِنُّ مِنْ الْبَقَرِ وَالشَّاةِ مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَتَانِ، وَفِي الْإِبِلِ مَا دَخَلَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ. ثُمَّ لَا تَتَعَيَّنُ الْأُنُوثَةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا فِي الْغَنَمِ، بِخِلَافِ الْإِبِلِ لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ فَضْلًا فِيهِمَا بِخِلَافِ الْإِبِلِ. ثُمَّ إنْ وُجِدَ فِي الثَّلَاثِينَ تَبِيعٌ وَسَطٌ وَجَبَ هُوَ، أَوْ مَا يُسَاوِيهِ وَجَبَ تَبِيعٌ يُسَاوِي الْوَسَطَ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ عَنْ تَبِيعٍ؛ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ عِجَافًا لَيْسَ فِيهَا مَا يُسَاوِي تَبِيعًا وَسَطًا وَجَبَ أَفْضَلُهَا، وَلَوْ كَانَتْ الْبَقَرُ أَرْبَعِينَ وَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَسَطٌ أَوْ مَا يُسَاوِيهَا

ص: 178

بِهَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا رضي الله عنه (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى أَرْبَعِينَ وَجَبَ فِي الزِّيَادَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ إلَى سِتِّينَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَفِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ رُبْعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، وَفِي الِاثْنَتَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، وَفِي الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ عُشْرِ مُسِنَّةٍ.

فَعَلَى مَا عُرِفَ فِي الثَّلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ عِجَافًا وَجَبَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ تَبِيعٍ وَسَطٍ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي نِصَابِ الْبَقَرِ وَمَا فَضَلَ عَنْهُ عَفْوٌ وَإِلَى قِيمَةِ مُسِنَّةٍ وَسَطٍ، فَمَا وَقَعَ بِهِ التَّفَاوُتُ وَجَبَ نِسْبَتُهُ فِي أُخْرَى تَلِي أَفْضَلَهَا فِي الْفَضْلِ؛ مَثَلًا لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ التَّبِيعِ الْوَسَطِ أَرْبَعِينَ وَقِيمَةُ الْمُسِنَّةِ الْوَسَطِ خَمْسِينَ تَجِبُ مُسِنَّةٌ تُسَاوِي أَفْضَلَهَا وَرُبْعَ الَّتِي تَلِيهَا فِي الْفَضْلِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ أَفْضَلِهَا ثَلَاثِينَ وَاَلَّتِي تَلِيهَا عِشْرِينَ تَجِبُ مُسِنَّةٌ تُسَاوِي خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، وَلَوْ كَانَتْ سِتِّينَ عِجَافًا لَيْسَ فِيهَا مَا يُسَاوِي تَبِيعَانِ وَسَطًا فَفِيهَا تَبِيعَانِ مِنْ أَفْضَلِهَا إنْ كَانَا، وَإِلَّا فَاثْنَانِ مِنْ أَفْضَلِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَبِيعٌ وَسَطٌ أَوْ مَا يُسَاوِيهِ وَجَبَ التَّبِيعُ الْوَسَطُ وَآخَرُ مِنْ أَفْضَلِ الْبَاقِي.

(قَوْلُهُ بِهَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا) أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ يَعْنِي مُحْتَلِمًا دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ ثِيَابٌ تَكُونُ بِالْيَمَنِ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُرْسَلًا وَهَذَا أَصَحُّ. وَيَعْنِي بِالدِّينَارِ مِنْ الْحَالِمِ الْجِزْيَةَ.

وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَأَعَلَّهُ عَبْدُ الْحَقِّ بِأَنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا، وَصَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ، وَأَمَّا ابْنُ حَزْمٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ إنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَإِنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَجَدْنَا حَدِيثَ مَسْرُوقٍ إنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ فِعْلَ مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ، وَمَسْرُوقٌ عِنْدَنَا بِلَا شَكٍّ أَدْرَكَ مُعَاذًا بِسِنِّهِ وَعَقْلِهِ وَشَاهَدَ أَحْكَامَهُ يَقِينًا وَأَفْتَى فِي زَمَنِ عُمَرَ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَجُلٌ كَانَ بِالْيَمَنِ أَيَّامَ مُعَاذٍ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ عَنْ مُعَاذٍ فِي أَخْذِهِ لِذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاذٍ، وَهُوَ مَا فَشَا مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ أَنَّ مُعَاذًا أَخَذَ كَذَا وَكَذَا. وَالْحَقُّ قَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ إنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِحَدِيثِهِ عَنْ مُعَاذٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْمُعَاصَرَةِ مَا لَمْ

ص: 179

وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْعَفْوَ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَا نَصَّ هُنَا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ، ثُمَّ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبْعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ، لِأَنَّ مَبْنَى هَذَا النِّصَابِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ عَقْدَيْنِ وَقْصٌ، وَفِي كُلِّ عَقْدٍ وَاجِبٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِمُعَاذٍ «لَا تَأْخُذْ مِنْ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا» وَفَسَّرُوهُ بِمَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ. قُلْنَا: قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الصِّغَارُ

يُعْلَمْ عَدَمُ اللُّقِيِّ.

وَأَمَّا عَلَى مَا شَرَطَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ مِنْ الْعِلْمِ بِاجْتِمَاعِهِمَا وَلَوْ مَرَّةً فَكَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مَا وَجَّهَهُ ابْنُ حَزْمٍ (قَوْلُهُ وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْأَصْلِ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: هَذِهِ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ أَنْ لَا شَيْءَ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ كَقَوْلِهِمَا. وَجْهُ الْأُولَى عَدَمُ الْمُسْقِطِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُخَلَّى الْمَالُ عَنْ شُكْرِ نِعْمَتِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ النِّصَابَ.

وَجْهُ هَذِهِ مَنْعُهُ بَلْ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، قَالُوا فَالْأَوْقَاصُ؟ قَالَ: مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا بِشَيْءٍ. وَسَأَسْأَلُهُ إذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ» قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: وَالْأَوْقَاصُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إلَى أَرْبَعِينَ وَالْأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ. وَفِي السَّنَدِ ضَعْفٌ.

وَفِي الْمِنَنِ أَنَّهُ رَجَعَ فَوَجَدَهُ عليه الصلاة والسلام حَيًّا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ. وَفِيهِ أَعْنِي مُعْجَمَ الطَّبَرَانِيِّ حَدِيثٌ آخَرُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُصَدِّقُ أَهْلَ الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ السِّتِّينَ تَبِيعَيْنِ، وَمِنْ السَّبْعِينَ مُسِنَّةً وَتَبِيعًا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا آخُذَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَبْلُغَ مُسِنَّةً أَوْ جَذَعًا» وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَسَلَمَةُ بْنُ أُسَامَةَ وَيَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ غَيْرُ مَشْهُورَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِهِ. وَاعْتَرَضَ أَيْضًا بِأَنَّ مُعَاذًا لَمْ يُدْرِكْهُ عليه الصلاة والسلام حَيًّا.

فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ مُعَاذًا الْحَدِيثَ وَفِيهِ " فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مُعَاذٌ " وَطَاوُسٌ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا. وَأَخْرَجَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ " كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ شَابًّا جَمِيلًا حَلِيمًا سَمْحًا مِنْ أَفْضَلِ شَبَابِ قَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ يُمْسِكُ شَيْئًا، وَلَمْ يَزَلْ يَدَّانُ حَتَّى أَغْرَقَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي الدَّيْنِ، فَلَزِمَهُ غُرَمَاؤُهُ حَتَّى تَغَيَّبَ عَنْهُمْ أَيَّامًا فِي بَيْتِهِ، فَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ، فَجَاءَ مَعَهُ غُرَمَاؤُهُ " فَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ " فَبَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْبُرَك وَيُؤَدِّيَ عَنْك دَيْنَك، فَخَرَجَ مُعَاذٌ إلَى الْيَمَنِ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَجَعَ مُعَاذٌ " الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.

قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى «أَنَّهُ قَدِمَ فَسَجَدَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا مُعَاذُ مَا هَذَا؟ قَالَ: وَجَدْتُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْيَمَنِ يَسْجُدُونَ لِعُظَمَائِهِمْ وَقَالُوا هَذَا تَحِيَّةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: كَذَبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، لَوْ كُنْتُ آمُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» وَفِي هَذَا أَنَّ مُعَاذًا أَدْرَكَهُ عليه الصلاة والسلام حَيًّا (قَوْلُهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا الصِّغَارُ) فَتَعَارَضَ التَّفْسِيرَانِ، فَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِالشَّكِّ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ، ثُمَّ إنْ كَانَ خِلَافَ الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ

ص: 180

(ثُمَّ فِي السِّتِّينَ تَبِيعَانِ أَوْ تَبِيعَتَانِ، وَفِي سَبْعِينَ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ، وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ، وَفِي الْمِائَةِ تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٌ. وَعَلَى هَذَا يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ فِي كُلِّ عَشْرٍ مِنْ تَبِيعٍ إلَى مُسِنَّةٍ وَمِنْ مُسِنَّةٍ إلَى تَبِيعٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنٌّ أَوْ مُسِنَّةٌ» (وَالْجَوَامِيسُ وَالْبَقَرُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ اسْمَ الْبَقَرِ يَتَنَاوَلُهُمَا إذْ هُوَ نَوْعٌ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ أَوْهَامَ النَّاسِ لَا تَسْبِقُ إلَيْهِ فِي دِيَارِنَا لِقِلَّتِهِ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْنَثُ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ بَقَرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ فِي الْغَنَمِ)

(لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ سَائِمَةً وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ) هَكَذَا وَرَدَ الْبَيَانُ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ (وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ لَفْظَ الْغَنَمِ شَامِلَةٌ لِلْكُلِّ

إنَّهُ إيجَابُ الْكُسُورِ فَقَوْلُهُمَا مُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إثْبَاتُ الْعَفْوِ بِالرَّأْيِ، وَكَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ النَّظِيرِ فِي بَابِهِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي هَذَا الْبَابِ جَعْلُ الْعَفْوِ تِسْعًا تِسْعًا، وَالْكُسُورُ فِي الْجُمْلَةِ لَهَا وُجُودٌ فِي النَّقْدَيْنِ، لَكِنَّ دَفْعَ الْمُصَنِّفِ هَذَا يَنْتَفِي بِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ قَوْلِهِ «وَأَمَرَنِي أَنْ لَا آخُذَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنْ تَبْلُغَ مُسِنَّةً أَوْ جَذَعًا» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ، لَكِنَّ تَمَامَ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَوْ حُسْنِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ صَدَقَةِ الْغَنَمِ)

سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا آلَةٌ الدِّفَاعِ فَكَانَتْ غَنِيمَةً لِكُلِّ طَالِبٍ (قَوْلُهُ هَكَذَا وَرَدَ الْبَيَانُ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ تَقَدَّمَ فِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ فَارْجِعْ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ سَوَاءٌ) أَيْ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ لَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ آخِرَ الْبَابِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ ظَبْيٍ وَنَعْجَةٍ لَهُ حُكْمُ أُمِّهِ فَيَكُونُ شَاةً. وَفِي الْعِجَافِ إنْ كَانَتْ ثَنِيَّةَ وَسَطٍ تَعَيَّنَتْ وَإِلَّا وَاحِدَةً مِنْ أَفْضَلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ نِصَابَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً كَمِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ وَفِيهَا عَدَدُ الْوَاجِبِ وَسَطٌ تَعَيَّنَتْ هِيَ أَوْ قِيمَتُهَا، وَإِنْ بَعْضُهُ تَعَيَّنَ هُوَ وَكَمَّلَ مِنْ أَفْضَلِهَا بَقِيَّةَ الْوَاجِبِ فَتَجِبُ الْوَاحِدَةُ الْوَسَطُ وَوَاحِدَةٌ أَوْ ثِنْتَانِ عَجْفَاوَانِ بِحَسَبِ مَا يَكُونُ الْوَاجِبُ وَالْمَوْجُودُ مَثَلًا لَهُ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ وَعِنْدَهُ ثَنِيَّةٌ وَسَطٌ وَجَبَتْ هِيَ وَأُخْرَى عَجْفَاءُ، أَوْ مِائَتَانِ وَوَاحِدَةٌ وَعِنْدَهُ

ص: 181

وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهِ. وَيُؤْخَذُ الثَّنِيُّ فِي زَكَاتِهَا وَلَا يُؤْخَذُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّنِيُّ مِنْهَا مِنْهَا مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ، وَالْجَذَعُ مَا أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ عَنْ الْجَذَعِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّمَا حَقُّنَا الْجَذَعُ وَالثَّنِيُّ» وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ الْأُضْحِيَّةَ فَكَذَا الزَّكَاةُ. وَجْهُ الظَّاهِرِ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا «لَا يُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا» وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْوَسَطُ وَهَذَا مِنْ الصِّغَارِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهَا الْجَذَعُ مِنْ الْمَعْزِ، وَجَوَازُ التَّضْحِيَّةِ بِهِ عُرِفَ نَصًّا. وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ الْجَذَعَةُ مِنْ الْإِبِلِ (وَيُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ) لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَنْتَظِمُهُمَا، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» .

ثِنْتَانِ سَمِينَتَانِ تَعَيَّنَتَا مَعَ عَجْفَاءَ، أَوْ وَاحِدَةٌ تَعَيَّنَتْ مَعَ عَجْفَاوَيْنِ مِنْ أَفْضَلِ الْبَوَاقِي، وَلَوْ هَلَكَتْ السَّمِينَةُ بَعْدَ الْوُجُوبِ جُعِلَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَجَبَتْ عَجْفَاوَانِ بِنَاءً عَلَى صَرْفِ الْهَالِكِ إلَى النِّصَابِ الْأَخِيرِ وَجَعْلِ الْهَالِكِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.

وَعِنْدَهُمَا بِهَلَاكِ السَّمِينَةِ ذَهَبَ فَضْلُ السِّمَنِ فَكَأَنَّ الْكُلَّ كَانَتْ عِجَافًا وَوَجَبَ فِيهَا ثَلَاثُ عِجَافٍ فَتَسْقُطُ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثِ شِيَاهٍ كُلُّ شَاةٍ مِائَتَا جُزْءٍ وَجُزْءٍ، وَيَبْقَى الْبَاقِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ وَاجِبٌ فِي الْكُلِّ مِنْ النِّصَابِ وَالْعَفْوِ وَصَرْفِ الْهَلَاكِ إلَى الْكُلِّ عَلَى الشُّيُوعِ، وَلَوْ هَلَكَ الْعِجَافُ كُلُّهَا وَبَقِيَتْ السَّمِينَةُ فَعِنْدَهُ لَمَّا وَجَبَ الصَّرْفُ إلَى النِّصَابِ الزَّائِدِ عَلَى الْأَوَّلِ صَارَ كَأَنَّهُ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى أَرْبَعِينَ ثُمَّ هَلَكَ الْكُلُّ إلَّا السَّمِينَةَ فَيَبْقَى الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ وَسَطٍ وَسَقَطَ الْبَاقِي. وَعِنْدَهُمَا تَبْقَى حِصَّتُهَا مِنْ كُلِّ الْوَاجِبِ وَكُلُّ الْوَاجِبِ سَمِينَةٌ وَعَجْفَاوَانِ كُلُّ شَاةٍ مِائَتَا جُزْءٍ وَجُزْءٍ، وَحِصَّتُهَا جُزْءٌ مِنْ السَّمِينَةِ وَجُزْءَانِ مِنْ الْعَجْفَاوَيْنِ (قَوْلُهُ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهِ) أَيْ بِاسْمِ الْغَنَمِ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مَا مَرَّ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّمَا حَقُّنَا الْجَذَعُ») غَرِيبٌ بِلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ «جَاءَنِي رَجُلَانِ مُرْتَدِفَانِ فَقَالَا: إنَّا رَسُولَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 182

(فَصْلٌ فِي الْخَيْلِ)

(إذْ كَانَتْ الْخَيْلُ سَائِمَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَعْطَى عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَقَالَا: لَا زَكَاةَ فِي الْخَيْلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» وَلَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ» وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ فَرَسُ الْغَازِي، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.

بَعَثَنَا إلَيْكَ لِتُؤْتِيَنَا صَدَقَةَ غَنَمِكَ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَا شَاةٌ، قَالَ: فَعَمَدْتُ إلَى شَاةٍ مُمْتَلِئَةٍ مَخَاضًا وَشَحْمًا فَقَالَا: هَذِهِ شَافِعٌ وَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَأْخُذَ شَافِعًا، وَالشَّافِعُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدُهَا، قُلْت: فَأَيَّ شَيْءٍ تَأْخُذَانِ؟ قَالَا: عَنَاقًا جَذَعَةً أَوْ ثَنِيَّةً، فَأَخْرَجْتُ إلَيْهِمَا عَنَاقًا فَتَنَاوَلَاهَا» وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا فَكَانَ يَعُدُّ السَّخْلَ، فَقَالُوا: أَتَعُدُّ عَلَيْنَا السَّخْلَ وَلَا تَأْخُذُهُ؟ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ نَعُدُّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةَ يَحْمِلُهَا الرَّاعِي وَلَا نَأْخُذُهَا، وَلَا نَأْخُذُ الْأَكُولَةَ وَلَا الرَّبِيَّ وَلَا الْمَاخِضَ وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَنَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ، وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْغَنَمِ وَخِيَارِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: سَنَدُهُ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: لَا يُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ فَغَرِيبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ صَرِيحٌ فِي رَدِّ التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيَّيْنِ نَأْخُذُ عَنَاقًا جَذَعَةً أَوْ ثَنِيَّةً لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَيَجِبُ تَرْجِيحُ غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَعْنِي مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ جَوَازِ أَخْذِ الْجَذَعَةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي تَعْيِينِ الثَّنِيِّ.

(فَصْلٌ فِي الْخَيْلِ)

فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالُوا: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَكَذَا رَجَّحَ قَوْلَهُمَا فِي الْأَسْرَارِ، وَأَمَّا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَصَاحِبُ التُّحْفَةِ فَرَجَّحَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْخُذُ صَدَقَةَ الْخَيْلِ جَبْرًا، وَحَدِيثُ «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» رَوَوْهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ «إلَّا صَدَقَةَ الْفِطْرِ» (قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ فَرَسُ الْغَازِي) لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لِلْفَرَسِ الْمُفْرَدِ لِصَاحِبِهَا فِي قَوْلِنَا فَرَسُهُ وَفَرَسُ زَيْدٍ كَذَا، وَكَذَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ الْفَرَسُ

ص: 183

وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الدِّينَارِ وَالتَّقْوِيمِ مَأْثُورٌ عَنْ عُمَرَ

الْمُلَابِسُ لِلْإِنْسَانِ رُكُوبًا ذَهَابًا وَمَجِيئًا عُرْفًا، وَإِنْ كَانَ لُغَةً أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْعُرْفُ أَمْلَكُ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْإِرَادَةَ قَوْلُهُ فِي عَبْدِهِ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَبْدَ لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّفْيَ عَنْ عُمُومِ الْعَبْدِ بَلْ عَبْدِ الْخِدْمَةِ.

وَقَدْ رُوِيَ مَا يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ لَوْ لَمْ تَكُنْ هَاتَانِ الْقَرِينَتَانِ الْعُرْفِيَّةُ وَاللَّفْظِيَّةُ، وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِطُولِهِ، وَفِيهِ «الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلِ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ».

وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ «فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ سِتْرٌ» الْحَدِيثَ، فَقَوْلُهُ وَلَا فِي رِقَابِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا يَرُدُّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ بِالْعَارِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ عَلَى بُعْدِهِ فِي ظُهُورِهَا، فَعَطْفُ رِقَابِهَا يَنْفِي إرَادَةَ ذَلِكَ، إذْ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي رِقَابِ الْمَاشِيَةِ لَيْسَ إلَّا الزَّكَاةَ وَهُوَ فِي ظُهُورِهَا حَمْلُ مُنْقَطِعِي الْغُزَاةِ وَالْحَاجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَأْوِيلَنَا فِي الْفَرَسِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ لِمَا حَفَّهُ مِنْ الْقَرِينَتَيْنِ وَلِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ، وَمَا مِنْ عَامٍّ إلَّا وَقَدْ خُصَّ بِخِلَافِ حَمْلِ الْحَقِّ الثَّابِتِ لِلَّهِ فِي رِقَابِ الْمَاشِيَةِ عَلَى الْعَارِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْ الْحَمِيرِ بَعْدَ الْخَيْلِ فَقَالَ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ» فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ فِي الْخَيْلِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ لَمْ يَصِحَّ نَفْيُهَا فِي الْحَمِيرِ، وَمَا قِيلَ إنَّهُ كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ بِدَلِيلِ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَدْ عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ» وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: كِلَاهُمَا عِنْدِي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُوِيَ عَنْهُمَا، وَالْعَفْوُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ شَيْءٍ لَازِمٍ فَمَمْنُوعٌ، بَلْ يَصْدُقُ أَيْضًا مَعَ تَرْكِ الْأَخْذِ مِنْ الِابْتِدَاءِ تَفَضُّلًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ أَحَدٍ وَكَانَ مُحِقًّا فِي الْأَخْذِ غَيْرَ مَلُومٍ فِيهِ فَتَرَكَهُ مَعَ ذَلِكَ تَكَرُّمًا وَرِفْقًا بِهِ صَدَقَ مَعَهُ ذَلِكَ وَيُقَدَّمُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لِلْقُوَّةِ، وَقَدْ رَأَيْنَا هَذَا الْأَمْرَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي زَمَنِ عُمَرَ فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْسُوخًا؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَى فِيهِ جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ حَدِيثًا صَحِيحً أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جُوَيْرِيَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ قَالَ: رَأَيْت أَبِي يُقَيِّمُ الْخَيْلَ ثُمَّ يَدْفَعُ صَدَقَتَهَا إلَى عُمَرَ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ جُبَيْرُ بْنُ يَعْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ يَقُولُ: ابْتَاعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمَيَّةَ أَخُو يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَرَسًا أُنْثَى بِمِائَةِ قَلُوصٍ، فَنَدِمَ الْبَائِعُ فَلَحِقَ بِعُمَرَ، فَقَالَ: غَصَبَنِي يَعْلَى وَأَخُوهُ فَرَسًا لِي، فَكَتَبَ إلَى يَعْلَى أَنْ الْحَقْ بِي، فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ:

ص: 184

(وَلَيْسَ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً زَكَاةٌ) لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاسَلُ (وَكَذَا فِي الْإِنَاثِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي رِوَايَةٍ) وَعَنْهُ الْوُجُوبُ فِيهَا

إنَّ الْخَيْلَ لَتَبْلُغُ هَذَا عِنْدَكُمْ مَا عَلِمْتُ أَنَّ فَرَسًا يَبْلُغُ هَذَا فَنَأْخُذُ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً وَلَا نَأْخُذُ مِنْ الْخَيْلِ شَيْئًا، خُذْ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، فَقَرَّرَ عَلَى الْخَيْلِ دِينَارًا دِينَارًا.

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يُصْدِقُ الْخَيْلَ، وَأَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنْ كَانَ يَأْتِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِصَدَقَةِ الْخَيْلِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَنَّ صَدَقَةَ الْخَيْلِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ الَّتِي يُطْلَبُ نَسْلُهَا، إنْ شِئْت فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَإِنْ شِئْت فَالْقِيمَةَ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ فَرَسٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فَقَدْ ثَبَتَ أَصْلُهَا عَلَى الْإِجْمَالِ فِي كَمِّيَّةِ الْوَاجِبِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَثَبَتَتْ الْكَمِّيَّةُ، وَتَحَقَّقَ الْأَخْذُ فِي زَمَنِ الْخَلِيفَتَيْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ بَعْدَ اعْتِرَافِ عُمَرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى مَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ حَارِثَةَ بْنَ مُضَرِّبٍ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إلَى عُمَرَ فَقَالُوا: إنَّا قَدْ أَصَبْنَا أَمْوَالًا خَيْلًا وَرَقِيقًا وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تُزَكِّيَهُ، فَقَالَ: مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي فَأَفْعَلُهُ أَنَا ثُمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا حَسَنٌ، وَسَكَتَ عَلِيٌّ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ لَوْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً رَاتِبَةً يُؤْخَذُونَ بِهَا بَعْدَك، فَأَخَذَ مِنْ الْفَرَسِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَعَادَهُ قَرِيبًا مِنْهُ بِذَلِكَ السَّنَدِ وَالْقِصَّةِ.

وَقَالَ فِيهِ: فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، فَفِي هَذَا أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فَاسْتَحْسَنُوهُ، وَكَذَا اسْتَحْسَنَهُ عَلِيٌّ بِشَرْطٍ شَرَطَهُ وَهُوَ أَنْ لَا يُؤْخَذُونَ بِهِ بَعْدَهُ، وَقَدْ قُلْنَا بِمُقْتَضَاهُ إذْ قُلْنَا لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ صَدَقَةَ سَائِمَةِ الْخَيْلِ جَبْرًا، فَإِنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ يُؤْخَذُونَ بِهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْسَانُهُ مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا يَتَبَرَّعُوا بِهَا لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِأَنَّهُ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَهَذَا حِينَئِذٍ فَوْقَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.

فَإِنْ قِيلَ: اسْتِحْسَانُهُمْ إنَّمَا هُوَ لِقَبُولِهَا مِنْهُمْ إذَا تَبَرَّعُوا بِهَا وَصَرَفَهَا إلَى الْمُسْتَحَقِّينَ لَا لِلْإِيجَابِ. قُلْنَا رِوَايَةٌ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا مُرَتَّبًا عَلَى اسْتِحْسَانِهِمْ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ لِيَعْلَى: خُذْ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا فَقَرَّرَ عَلَى كُلٍّ دِينَارًا يُوجِبُ خِلَافَ مَا قُلْت، وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَبْدَأُ اجْتِهَادِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ رَأَوْا أَنَّ مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ مَانِعِي الزَّكَاةِ يُفِيدُ الْوُجُوبَ حَيْثُ أَثْبَتَ فِي رِقَابِهَا حَقًّا لِلَّهِ، وَرَتَّبَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ كَوْنَهَا لَهُ حِينَئِذٍ سِتْرًا يَعْنِي مِنْ النَّارِ، هَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ كَقَوْلِهِ فِي عَائِلِ الْبَنَاتِ «كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ» وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْمُرَادِ سِتْرًا فِي الدُّنْيَا بِمَعْنَى ظُهُورِ النِّعْمَةِ، إذْ لَا مَعْنَى لِتَرْتِيبِ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ نِسْيَانِ حَقِّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا فَإِنَّهُ ثَابِتٌ، وَإِنْ نَسِيَ فَثَبَتَ الْوُجُوبُ وَعَدَمُ أَخْذِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَصْحَابُ الْخَيْلِ السَّائِمَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَهْلُ الْإِبِلِ، وَمَا تَقَدَّمَ إذْ أَصْحَابُ هَذِهِ إنَّمَا هُمْ أَهْلُ الْمَدَائِنِ وَالدَّشْتِ وَالتَّرَاكِمَةِ، وَإِنَّمَا فُتِحَتْ بِلَادُهُمْ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلَعَلَّ مَلْحَظَهُمْ فِي خُصُوصِ تَقْدِيرِ الْوَاجِبِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ» كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْإِمَامِ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَدِّثِينَ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ عَلَى طَرِيقِهِمْ إلَّا عَدَمُهَا ظَاهِرًا دُونَ نَفْسِ الْأَمْرِ، عَلَى أَنَّ الْفَحْصَ عَنْ مَأْخَذِهِمْ لَا يَلْزَمُنَا إذْ يَكْفِي الْعِلْمُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي ذُكُورِهَا إلَخْ) فِي كُلٍّ مِنْ الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدَةِ وَالْإِنَاثِ الْمُنْفَرِدَةِ رِوَايَتَانِ، وَالرَّاجِحُ فِي الذُّكُورِ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَفِي الْإِنَاثِ الْوُجُوبُ.

ص: 185

لِأَنَّهَا تَتَنَاسَلُ بِالْفَحْلِ الْمُسْتَعَارِ بِخِلَافِ الذُّكُورِ، وَعَنْهُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدَةِ أَيْضًا (وَلَا شَيْءَ فِي الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَمْ يَنْزِلْ عَلِيَّ فِيهِمَا شَيْءٌ» وَالْمَقَادِيرُ تَثْبُتُ سَمَاعًا (إلَّا أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ) لِأَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ)

(وَلَيْسَ فِي الْفُصْلَانِ وَالْحُمْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ صَدَقَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كِبَارٌ، وَهَذَا آخِرُ أَقْوَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْمَسَانِّ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَمَالِكٍ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

فَصْلٌ)

(قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي الْفِصْلَانِ) جَمْعُ فَصِيلٍ: وَلَدُ النَّاقَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ ابْنَ مَخَاضٍ. وَالْعَجَاجِيلُ جَمْعُ عِجَّوْلٍ وَلَدُ الْبَقَرَةِ. وَالْحُمْلَانُ جَمْعُ حَمَلٍ بِالتَّحْرِيكِ: وَلَدُ الشَّاةِ. صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: اشْتَرَى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَصِيلًا أَوْ حَمَلَا أَوْ عُجُولًا أَوْ وُهِبَ لَهُ لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، حَتَّى إذَا مَضَى حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ الْمِلْكِ لَا تَجِبُ فِيهَا بَلْ إذَا تَمَّ مِنْ حِينِ صَارَتْ كِبَارًا وَتُصَوِّرَ أَيْضًا إذَا كَانَ لَهُ نِصَابُ سَائِمَةٍ فَمَضَى سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَوَلَدَتْ نِصَابًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ وَتَمَّ

ص: 186

وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ فِي الْخِطَابِ يَنْتَظِمُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ. وَوَجْهُ الثَّانِي تَحْقِيقُ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا

الْحَوْلُ عَلَى الْأَوْلَادِ (قَوْلُهُ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ فِي الْخِطَابِ) يَعْنِي اسْمَ الشَّاةِ (قَوْلُهُ تَحْقِيقُ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) جَانِبِ صَاحِبِ الْمَالِ بِعَدَمِ إخْرَاجِ مُسِنَّةٍ، وَجَانِبِ الْفُقَرَاءِ بِعَدَمِ إخْرَاجٍ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا يَجِبُ فِي الْمَهَازِيلِ إلْحَاقًا لِنُقْصَانِ السِّنِّ بِنُقْصَانِ الْوَصْفِ لَمَّا رَأَيْنَا النُّقْصَانَ بِالْهُزَالِ رَدَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ وَهُوَ الْوَسَطُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا وَلَمْ يَبْطُلْ أَصْلًا فَكَذَلِكَ النُّقْصَانُ بِالسِّنِّ مَعَ قِيَامِ الْإِسَامَةِ وَاسْمِ الْإِبِلِ، إلَّا أَنَّ الرَّدَّ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَمْنَعُنَا مِنْ تَرْتِيبِ السِّنِّ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ بِأَنْ يَجِبَ بِنْتُ مَخَاضٍ ثُمَّ بِنْتُ لَبُونٍ ثُمَّ حِقَّةٌ.

وَهَكَذَا تَبِيعٌ ثُمَّ مُسِنَّةٌ، وَلَمْ يَمْنَعْنَا فِي الْمَهَازِيلِ فَعَمِلْنَا بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَقُلْنَا لَا شَيْءَ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَصِيلًا فَيَكُونَ فِيهَا فَصِيلٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ حَتَّى تَبْلُغَ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا فَصِيلَانِ، وَهَكَذَا فِي ثَلَاثِينَ عَجُولًا عِجَّوْلٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَفِيهَا عَجُولَانِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ عَجَاجِيلٍ لِأَنَّ السَّبَبَ مَتَى ثَبَتَ ثَبَتَ حُكْمُهُ إلَّا بِقَدْرِ الْمَانِعِ، هَذَا عَلَى أَقْوَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ.

وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ اسْتِبْعَادُ مُحَمَّدٍ إذْ قَالَ: إنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَوْجَبَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فِي مَالٍ اُعْتُبِرَ قَبْلَهُ أَرْبَعَةَ نُصُبٍ، وَفِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ ثِنْتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ اُعْتُبِرَ ثَلَاثَ نُصُبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، فَفِي الْمَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ هَذِهِ النُّصُبِ فِيهِ لَوْ أَوْجَبْنَا كَانَ بِالرَّأْيِ لَا بِالنَّصِّ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ هُنَا

ص: 187

يَجِبُ فِي الْمَهَازِيلِ وَاحِدٌ مِنْهَا وَوَجْهُ الْأَخِيرِ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ فَإِذَا امْتَنَعَ إيجَابُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ امْتَنَعَ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ الْمَسَانِّ

قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْأَخِيرِ) أَيْ مِنْ أَقَاوِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ، فَإِذَا امْتَنَعَ إيجَابُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ امْتَنَعَ أَصْلًا.

وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّاقَةِ لَا مُطْلَقًا بَلْ ذَاتُ السِّنِّ الْمُعَيَّنِ مِنْ الثَّنِيَّةِ وَالتَّبِيعِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ مَثَلًا وَلَمْ يُوجَدْ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ الصِّغَارَ أَصْلًا، فَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ: لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ. فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ يُعْطَى فِي الزَّكَاةِ: سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ إيجَابَ الْأَسْنَانِ الْمُعَيَّنَةِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى وُجُودِهَا فِي الْمُوجَبِ فِيهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةً، وَلَيْسَتْ فِيهَا فَلَمْ يَتَوَقَّفْ إيجَابُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحْدِثَ مِلْكَهَا بِطَرِيقِهِ وَيَدْفَعَهَا، فَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحْدِثَ مِلْكَ مُسِنَّةٍ وَيَدْفَعَهَا.

قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ «أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ فَجَلَسْتُ إلَيْهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فِي عَهْدِي: يَعْنِي فِي كِتَابِي أَنْ لَا آخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ» الْحَدِيثَ دَلَّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى عَدَمِ أَخْذِهَا مُطْلَقًا، وَبِالِالْتِزَامِ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِي الصِّغَارِ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، إذْ لَوْ كَانَ لَأَخَذْت الرَّاضِعَ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ لَا يُعَارِضُهُ لِأَنَّ أَخْذَ الْعَنَاقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ مِنْ الصِّغَارِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ الْمُرْتَدِفِينَ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ أَنَّ الْعَنَاقَ يُقَالُ عَلَى الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ وَلَوْ مَجَازًا، فَارْجِعْ إلَيْهِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ، وَلَوْ سَلِمَ جَازَ أَخْذُهَا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ لَا أَنَّهَا هِيَ نَفْسُ الْوَاجِبِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ أَوْ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ لَا التَّحْقِيقِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عِقَالًا مَكَانَ الْعَنَاقِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ الْكَرَائِمِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِمَا فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِمُعَاذٍ «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» وَرُوِيَ مَعْنَاهُ كَثِيرًا حَتَّى صَارَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الزَّكَاةِ وَمُنَاقِضٌ لِمَا عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ فِي أُصُولِ الزَّكَوَاتِ مِنْ كَوْنِ الْوَاجِبِ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، وَرُبَّمَا نَأْتِي الْمُسِنَّةَ عَلَى غَالِبِ الْحُمْلَانِ أَوْ كُلِّهَا خُصُوصًا إذَا كَانَتْ أَسْنَانُهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَيَكُونُ هَذَا إيجَابُ إخْرَاجِ كُلِّ الْمَالِ مَعْنَى وَهُوَ مَعْلُومُ النَّفْيِ بِالضَّرُورَةِ، بَلْ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ زَكَاةَ الْمَالِ فَإِنَّ إضَافَةَ اسْمِ زَكَاةِ الْمَالِ يَأْبَى كَوْنَهُ إخْرَاجَ الْكُلِّ.

وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ إخْرَاجَ الْكَرَائِمِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ يَلْزَمُكُمْ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَاقِي كَذَلِكَ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ لُزُومَ إخْرَاجِ الْكُلِّ مَعْنًى مُنْتَفٍ لَكِنَّ ثُبُوتَ انْتِفَاءِ إخْرَاجِ الْأَكْثَرِ فِي الشَّرْعِ كَثُبُوتِ انْتِفَاءِ إخْرَاجِ الْكُلِّ، فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ عَنْ هَذَا فَهُوَ جَوَابُنَا عَنْ ذَلِكَ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فِي صُورَةِ وُجُودِ مُسِنَّةٍ مَعَ الْحُمْلَانِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ: أَعْنِي مَا قَدَّمْنَا مِنْ

ص: 188

جَعَلَ الْكُلَّ تَبَعًا لَهُ فِي انْعِقَادِهَا نِصَابًا دُونَ تَأْدِيَةِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ مِنْ الْحُمْلَانِ وَفِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْعَجَاجِيلِ، وَيَجِبُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْفُصْلَانِ وَاحِدٌ ثُمَّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ يُثْنِي الْوَاجِبَ، ثُمَّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ يُثَلِّثُ الْوَاجِبَ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فِي رِوَايَةٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسِ خُمْسُ فَصِيلٍ، وَفِي الْعَشَرِ خُمُسَا فَصِيلٍ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ خُمْسِ فَصِيلٍ وَسَطٍ وَإِلَى قِيمَةِ شَاةٍ فِي الْخَمْسِ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي الْعَشَرِ إلَى قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قِيمَةِ خُمْسَيْ فَصِيلٍ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارُ.

قَالَ (وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ وَلَمْ تُوجَدْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ أَعْلَى مِنْهَا وَرَدَّ الْفَضْلَ

ضَرُورِيَّةِ الِانْتِفَاءَيْنِ فِي غَيْرِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِهَا (قَوْلُهُ جَعَلَ الْكُلَّ تَبَعًا لَهُ فِي انْعِقَادِهَا نِصَابًا دُونَ تَأْدِيَةِ الزَّكَاةِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ مِنْ الثَّنِيَّاتِ، هَذَا إذَا كَانَ عَدَدُ الْوَاجِبِ مِنْ الْكِبَارِ مَوْجُودًا فِيهَا، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا يَجِبُ بَيَانُهُ، لَوْ كَانَتْ مُسِنَّتَانِ وَمِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشَرَ حَمَلًا يَجِبُ فِيهَا مُسِنَّتَانِ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَمَلًا؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُسِنَّةٌ وَحَمَلٌ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فَصِيلُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْمُسِنَّةُ دُفِعَتْ وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْوَسَطِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِهَا فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، فَإِنْ هَلَكَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ بَطَلَتْ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِهَا كَانَ هَلَاكُهَا كَهَلَاكِ الْكُلِّ، وَالْحُكْمُ لَا يَبْقَى فِي التَّبَعِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْقَى فِي الصِّغَارِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْحَمَلِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الصِّغَارَ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ، إلَّا أَنَّ فَضْلَ الْكَبِيرِ كَانَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْمُسِنَّةِ فَيَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا وَيَكُونُ هَذَا نُقْصَانًا لِلنِّصَابِ، وَلَوْ هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ يُؤْخَذُ قِسْطُهَا وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْمُسِنَّةِ جَعَلَ هَلَاكَ الْمُسِنَّةِ كَهَلَاكِ الْكُلِّ وَلَمْ يَجْعَلْ قِيَامَهَا كَقِيَامِ الْكُلِّ، وَالْفَرْقُ يُطْلَبُ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ (قَوْلُهُ ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ) تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ وَجْهِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ

(قَوْلُهُ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ) أَيْ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ إلَخْ يُفِيدُ أَنَّ

ص: 189

أَوْ أَخَذَ دُونَهَا) وَأَخَذَ الْفَضْلَ، وَهَذَا يَبْتَنِي عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْقِيمَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ

الْخِيَارَ فِي أَخْذِ الْأَعْلَى وَرَدِّ الْفَضْلِ أَوْ الْأَدْنَى وَإِعْطَاءِ الْفَضْلِ لِلْمُصَدِّقِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْخِيَارَ لِرَبِّ الْمَالِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَطْ. وَأَطْلَقَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْخِيَارَ لِرَبِّ الْمَالِ إذْ الْخِيَارُ شُرِعَ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ الْخِيَارَ إلَيْهِ مَعَ تَحَقُّقِ قَوْلِهِمْ يُجْبَرُ الْمُصَدِّقُ عَلَى قَبُولِ الْأَدْنَى مَعَ الْفَضْلِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْأَعْلَى وَرَدِّ الْفَضْلِ، لِأَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ بَيْعَ الْفَضْلِ مِنْ الْمُصَدِّقِ، وَمَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى التَّرَاضِي لَا الْجَبْرِ وَهَذَا يُحَقِّقُ أَنْ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْأَعْلَى، إذْ مَعْنَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ مُطْلَقًا لَهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَعْطِ مَا شِئْت أَعْلَى أَوْ أَدْنَى، فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ الْأَعْلَى لَمْ يَجْعَلْ الْخِيَارَ إلَيْهِ فِيهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ لَوْ طَلَبَ السَّاعِي مِنْهُ الْأَعْلَى فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ أَوْ يُعْطِيَ الْأَدْنَى. وَقَوْلُهُ وَأَعْطَى الْفَضْلَ وَأَخَذَ الْفَضْلَ مُطْلَقًا يُفِيدُ أَنَّ جُبْرَانَ مَا بَيْنَ السِّنَّيْنِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، بَلْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَوْقَاتِ غَلَاءً وَرُخْصًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مُقَدَّرٌ بِشَاتَيْنِ أَوْ عَشَرَةٍ لِمَا قَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الصِّدِّيقِ مِنْ أَنَّهُ إذْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ بِنْتَ مَخَاضٍ فَلَمْ تُوجَدْ أَعْطَى إمَّا بِنْتَ لَبُونٍ وَأَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عَشَرَةً أَوْ ابْنَ لَبُونٍ لَيْسَ غَيْرُ. قُلْنَا: هَذَا كَانَ قِيمَةَ التَّفَاوُتِ فِي زَمَانِهِمْ وَابْنُ اللَّبُونِ يَعْدِلُ بِنْتَ الْمَخَاضِ، إذْ ذَاكَ جَعْلًا لِزِيَادَةِ السِّنِّ مُقَابَلًا بِزِيَادَةِ الْأُنُوثَةِ، فَإِذَا تَغَيَّرَ تَغَيَّرَ وَإِلَّا لَزِمَ عَدَمُ الْإِيجَابِ مَعْنًى بِأَنْ تَكُونَ الشَّاتَانِ أَوْ الْعِشْرُونَ الَّتِي يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُصَدِّقِ تُسَاوِي السِّنَّ الَّذِي يُعْطِيهِ خُصُوصًا إذَا فَرَضْنَا الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَهَازِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ كَوْنُ الشَّاتَيْنِ تُسَاوَيَانِ بِنْتَ لَبُونٍ مَهْزُولَةٍ جِدًّا فَإِعْطَاؤُهَا فِي بِنْتِ مَخَاضٍ مَعَ اسْتِرْدَادِ شَاتَيْنِ إخْلَاءٌ مَعْنًى أَوْ الْإِجْحَافُ بِرَبِّ الْمَالِ بِأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَهُوَ الدَّافِعُ لِلْأَدْنَى، وَكُلٌّ مِنْ اللَّازِمَيْنِ مُنْتَفٍ شَرْعًا فَيَنْتَفِي مَلْزُومُهُمَا وَهُوَ تَعَيُّنُ الْجَابِرِ.

[فُرُوعٌ]

عَجَّلَ عَنْ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً فَهَلَكَ مِنْ بَقِيَّةِ النِّصَابِ وَاحِدَةٌ وَلَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا حَتَّى تَمَّ الْحَوْلُ يُمْسِكُ السَّاعِي مِنْ الْمُعَجَّلِ قَدْرَ تَبِيعٍ وَيَرُدُّ الْبَاقِيَ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمُسِنَّةَ وَيُعْطِيَهُ مِمَّا عِنْدَهُ تَبِيعًا لِأَنَّ قَدْرَ التَّبِيعِ مِنْ الْمُسِنَّةِ صَارَ زَكَاةً حَقًّا لِلْفُقَرَاءِ فَلَا يُسْتَرَدُّ، وَمِثْلُهُ فِي تَعْجِيلِ بِنْتِ الْمَخَاضِ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ إذَا انْتَقَصَ الْبَاقِي وَاحِدَةً فَتَمَّ الْحَوْلُ أَمْسَكَ السَّاعِي قَدْرَ أَرْبَعِ شِيَاهٍ.

وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرُدُّهَا وَلَا يَحْبِسُ شَيْئًا وَيُطَالَبُ بِأَرْبَعِ شِيَاهٍ لِأَنَّهُ فِي إمْسَاكِ الْبَعْضِ وَرَدِّ الْبَعْضِ ضَرَرُ التَّشْقِيصِ بِالشَّرِكَةِ. وَقِيَاسُ هَذِهِ فِي الْبَقَرَةِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمُسِنَّةَ لَكِنْ فِي هَذَا نَظَرٌ إذْ لَا شَرِكَةَ بَعْدَ دَفْعِ قِيمَةِ الْبَاقِي، وَلَوْ كَانَ اسْتَهْلَكَ الْمُعَجَّلَ أَمْسَكَ مِنْ قِيمَتِهَا قَدْرَ التَّبِيعِ وَالْأَرْبَعِ شِيَاهٍ وَرَدَّ الْبَاقِيَ. وَلَوْ تَمَّ الْحَوْلُ وَقَدْ زَادَتْ الْأَرْبَعُونَ إلَى سِتِّينَ فَحَقُّ السَّاعِي فِي تَبِيعَيْنِ فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ اسْتِرْدَادُ الْمُسِنَّةِ بَلْ يُكَمِّلُ الْفَضْلَ لِلسَّاعِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذَ الْمُسِنَّةَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا أَرْبَعُونَ فَإِذَا هِيَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمُسِنَّةَ وَيَأْخُذُ تَبِيعًا، لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْغَلَطِ يُعْدِمُ الرِّضَا أَمَّا هُنَاكَ فَدَفَعَ عَنْ رِضًا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَصِيرَ زَكَاةً، وَلَمْ يَظْهَرْ أَنَّ الِاحْتِمَالَ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ الْغَلَطُ حَتَّى تَصَدَّقَ بِهَا السَّاعِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا كَرْهًا عَلَى ذَلِكَ

ص: 190

تَعَالَى، إلَّا أَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ وَيُطَالِبَ بِعَيْنِ الْوَاجِبِ أَوْ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُجْبَرُ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ فِيهِ بَلْ هُوَ إعْطَاءٌ بِالْقِيمَةِ.

(وَيَجُوزُ دَفْعُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ) عِنْدَنَا وَكَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ

الظَّنِّ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيمَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ، فَضَمَانُ خَطَئِهِ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْعَمَلُ لَهُ، فَإِنْ وَجَدَ الْفَقِيرَ ضَمَّنَهُ مَا زَادَ عَلَى التَّبِيعِ وَإِلَّا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَجْمُوعِ فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَهُوَ بَيْتُ مَالِ الْفُقَرَاءِ، كَالْقَاضِي إذَا أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَضَمَانُهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْقَضَاءُ لَهُ أَوْ بَيْتِ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَ السَّاعِي تَعَمَّدَ الْأَخْذَ فَضَمَانُهُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ، هَذَا وَلَوْ لَمْ يُزِدْ وَلَمْ يُنْقِصْ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَدْرُ أَرْبَعٍ مِنْ الْغَنَمِ زَكَاةً وَيَرُدَّ الْبَاقِيَ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ وَقْتَ التَّعْجِيلِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الْكُلُّ زَكَاةً لِمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ جَعَلَ كُلَّ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً مِنْ وَقْتِ التَّعْجِيلِ يُجْعَلُ زَكَاةً مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِّ، هَذَا وَلَوْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْغَنَمِ فَسَيَأْتِي.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ دَفْعُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ) فَلَوْ أَدَّى ثَلَاثَ شِيَاهٍ سِمَانٍ عَنْ أَرْبَعٍ وَسَطٍ أَوْ بَعْضَ بِنْتِ لَبُونٍ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ جَازَ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْوَسَطُ فَلَمْ يَكُنْ الْأَعْلَى دَاخِلًا فِي النَّصِّ وَالْجُودَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ فَتَقُومُ مَقَامَ الشَّاةِ الرَّابِعَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مِثْلِيًّا بِأَنْ أَدَّى أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ جَيِّدَةٍ عَنْ خَمْسَةٍ وَسَطٍ وَهِيَ تُسَاوِيهَا لَا يَجُوزُ أَوْ كِسْوَةً بِأَنْ أَدَّى ثَوْبًا يَعْدِلُ ثَوْبَيْنِ لَمْ يَجُزْ إلَّا عَنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، أَوْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ أَوْ يَعْتِقَ عَبْدَيْنِ وَسَطَيْنِ فَأَهْدَى شَاةً أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا يُسَاوِي كُلٌّ مِنْهُمَا وَسَطَيْنِ لَا يَجُوزُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْجُودَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا فَلَا تَقُومُ الْجُودَةُ مَقَامَ الْقَفِيزِ الْخَامِسِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الثَّوْبِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا بِقَيْدِ الْوَسَطِ فَكَانَ الْأَعْلَى وَغَيْرُهُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الْإِرَاقَةِ وَالتَّحْرِيرِ وَقَدْ الْتَزَمَ إرَاقَتَيْنِ وَتَحْرِيرَيْنِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَهْدَةِ بِوَاحِدٍ، بِخِلَافِ النَّذْرِ بِالتَّصَدُّقِ بِأَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ فَتَصَدَّقَ بِشَاةٍ تَعْدِلُهُمَا جَازَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ وَبِهِ تَحْصُلُ الْقُرْبَةُ

ص: 191

وَالنَّذْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ اتِّبَاعًا لِلْمَنْصُوصِ كَمَا فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا. وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ إيصَالًا لِلرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إلَيْهِ فَيَكُونُ إبْطَالًا لِقَيْدِ الشَّاةِ

وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ، وَعَلَى مَا قُلْنَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقَفِيزِ دَقَلٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهِ جَيِّدًا يُسَاوِي تَمَامَهُ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْجُودَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا هُنَا لِلرِّبَوِيَّةِ وَالْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ، بِخِلَافِ جِنْسٍ آخَرَ لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ قَفِيزٍ مِنْهُ يُسَاوِيهِ جَازَ الْكُلُّ مِنْ الْكَافِي (قَوْلُهُ وَالنَّذْرِ) بِأَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّينَارِ فَتَصَدَّقَ بِعَدْلِهِ دَرَاهِمَ أَوْ بِهَذَا الْخُبْزِ فَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ جَازَ عِنْدَنَا (قَوْلُهُ اتِّبَاعًا لِلْمَنْصُوصِ) وَهُوَ اسْمُ الشَّاةِ وَبِنْتُ الْمَخَاضِ وَالتَّبِيعُ إلَى آخِرِهَا.

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَدَاءِ) أَيْ أَدَاءِ الشَّاةِ وَغَيْرِهَا لِغَرَضِ إيصَالِ الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ أَرْزَاقَ الْكُلِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَبَّبَ لَهُ سَبَبًا كَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَهُ عَنْ الْأَسْبَابِ ثُمَّ أَمَرَ الْأَغْنِيَاءَ أَنْ يُعْطُوهُمْ مِنْ مَالِهِ تَعَالَى مِنْ كُلٍّ كَذَا كَذَا، فَعُرِفَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ إيصَالٌ لِلرِّزْقِ الْمَوْعُودِ لَهُمْ وَابْتِلَاءٌ لِلْمُكَلَّفِ بِهِ بِالِامْتِثَالِ لِيَظْهَرَ مِنْهُ مَا عَلِمَهُ تَعَالَى مِنْ الطَّاعَةِ أَوْ الْمُخَالَفَةِ فَيُجَازِيَ بِهِ فَيَكُونَ الْأَمْرُ بِصَرْفِ الْمُعَيَّنِ مَصْحُوبًا بِهَذَا الْغَرَضِ مَصْحُوبًا بِإِبْطَالِ الْقَيْدِ وَمُفِيدٌ أَنَّ الْمُرَادَ قَدْرُ الْمَالِيَّةِ إذْ أَرْزَاقُهُمْ مَا انْحَصَرَتْ فِي خُصُوصِ الشَّاةِ بَلْ لِلْإِنْسَانِ حَاجَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَنْوَاعِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ إبْطَالَ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ إبْطَالَ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الشَّاةِ يَنْفِي غَيْرَهَا مِمَّا هُوَ قَدْرُهَا فِي الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ مَجْمُوعُ نَصَّيْ الْوَعْدِ بِالرِّزْقِ وَالْأَمْرِ بِالدَّفْعِ إلَى الْمَوْعُودِ بِهِ مِمَّا يَنْسَاقُ الذِّهْنُ مِنْهُ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّك إذَا سَمِعْت قَوْلَ الْقَائِلِ يَا فُلَانُ مُؤْنَتُك عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا فُلَانُ أَعْطِهِ مِنْ مَالِي عِنْدَك مِنْ كُلٍّ كَذَا كَذَا لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْ فَهْمِك مِنْ مَجْمُوعِ وَعْدِ ذَاكَ وَأَمْرِ الْآخِرِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْجَازَ الْوَعْدُ فَيَكُونُ جَوَازُ الْقِيمَةِ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا لِمَجْمُوعِ مَعْنَى النَّصَّيْنِ لِانْتِقَالِ الذِّهْنِ عِنْدَ سَمَاعِهِمَا مِنْ مَعْنَاهُمَا إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ مَدْلُولًا لَا تَعْلِيلًا، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعْلِيلًا لَمْ يَكُنْ مُبْطِلًا لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بَلْ تَوْسِعَةً لِمَحَلِّ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الشَّاةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّعْلِيلِ مَحَلٌّ لِلدَّفْعِ، كَمَا أَنَّ قِيمَتَهَا مَحَلٌّ أَيْضًا وَلَيْسَ التَّعْلِيلُ حَيْثُ كَانَ إلَّا لِتَوْسِعَةِ الْمَحَلِّ.

ثُمَّ قَدْ رَأَيْنَا فِي الْمَنْقُولِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " وَمَنْ تَكُونُ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْجَذَعَةُ وَعِنْدَهُ الْحِقَّةُ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَعَ شَاتَيْنِ

ص: 192

وَصَارَ كَالْجِزْيَةِ، بِخِلَافِ الْهَدَايَا لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ. وَوَجْهُ الْقُرْبَةِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ سَدُّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَهُوَ مَعْقُولٌ.

(وَلَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَالْعَلُوفَةِ صَدَقَةٌ) خِلَافًا لِمَالِكٍ. لَهُ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْحَوَامِلِ وَالْعَوَامِلِ وَلَا فِي الْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي

إنْ اسْتَيْسَرَتَا أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا " فَانْتَقَلَ إلَى الْقِيمَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَعَلِمْنَا أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ خُصُوصَ عَيْنِ السِّنِّ الْمُعَيَّنِ وَإِلَّا لَسَقَطَ إنْ تَعَذَّرَ أَوْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَدْفَعَهُ.

وَقَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: آتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا وَتَعْلِيقُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ الصُّنَابِحِ الْأَحْمَسِيِّ قَالَ «أَبْصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً حَسَنَةً فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ: إنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ حَوَاشِي الْإِبِلِ، قَالَ: نَعَمْ إذًا» فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْأَسْنَانِ الْمَخْصُوصَةِ وَالشَّاةِ لِبَيَانِ قَدْرِ الْمَالِيَّةِ وَتَخْصِيصُهَا فِي التَّعْبِيرِ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي (قَوْلُهُ وَصَارَ كَالْجِزْيَةِ) يُؤْخَذُ فِيهَا قَدْرُ الْوَاجِبِ كَمَا تُؤْخَذُ عَيْنُهُ.

(قَوْلُهُ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ) مِثْلُ «فِي خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ» (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْحَوَامِلِ» إلَخْ) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَالْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ زُهَيْرٌ: وَأَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ حَتَّى تَتِمَّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَمَا زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَوَامِلِ شَيْءٌ» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَجْزُومًا لَيْسَ فِيهِ قَالَ زُهَيْرٌ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ هَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحَدِيثُ بَعْدَ صِحَّتِهِ يَحْتَمِلُ كَوْنُهُ مُقَارِنًا لِأَصْلِ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ فَيَكُونُ مُخَصَّصًا، وَيَحْتَمِلُ كَوْنُهُ مُتَأَخِّرًا فَيَكُونُ نَاسِخًا، وَيَحْتَمِلُ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا فَيَكُونُ مَنْسُوخًا بِالْعَامِ عَلَى أَصْلِنَا أَعْنِي نَحْوَ قَوْلِهِ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ضَبْطِ التَّارِيخِ، فَإِنْ لَمْ يُضْبَطْ انْتَصَبَ مُعَارِضًا، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَقَدُّمُ عُمُومُ الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ الِاحْتِيَاطُ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْعُمُومَ لَيْسَ عَلَى صِرَافَتِهِ بِالِاتِّفَاقِ لِتَخْصِيصِ غَيْرِ السَّائِمَةِ فَيَتَرَجَّحُ

ص: 193

وَدَلِيلُهُ الْإِسَامَةُ أَوْ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِأَنَّ فِي الْعَلُوفَةِ تَتَرَاكَمُ الْمُؤْنَةُ فَيَنْعَدِمُ النَّمَاءُ مَعْنًى. ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ عَلَفَهَا نِصْفَ الْحَوْلِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَتْ عَلُوفَةً لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ.

حَدِيثُ الْعَوَامِلِ بِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمْ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ مُطْلَقًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّقْرِيرِ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعَوَامِلَ تَصْدُقُ عَلَى الْحَوَامِلِ وَالْمُثِيرَةِ فَالنَّفْيُ عَنْهَا نَفْيٌ عَنْهُمَا.

وَقَدْ رُوِيَ فِي خُصُوصِ اسْمِ الْمُثِيرَةِ حَدِيثٌ مُضَعَّفٌ فِي الدَّارَقُطْنِيِّ «لَيْسَ فِي الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِي الْعَلُوفَةِ إلَخْ) دَفْعٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ: إنَّ النَّمَاءَ فِي الْعَلُوفَةِ أَكْثَرُ فَهِيَ أَوْلَى بِشَرْعِيَّةِ الزَّكَاةِ فِيهَا، فَقَالَ لَا بَلْ يَنْعَدِمُ بِالْكُلِّيَّةِ ظَاهِرًا فَضْلًا عَنْ الْأَكْثَرِيَّةِ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَزِيدُ بِالسِّمَنِ لَا يَفِي بِخُرْجِ الْمُؤْنَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا الزِّيَادَةُ.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْعَلُوفَةُ لِلتِّجَارَةِ وَجَبَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ، فَلَوْ انْعَدَمَ النَّمَاءُ بِالْعَلَفِ امْتَنَعَ فِيهَا. قُلْنَا: النَّمَاءُ فِي مَالِ التِّجَارَةِ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَلَمْ تَنْحَصِرْ زِيَادَةُ ثَمَنِهَا فِي السِّمَنِ الْحَادِثِ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ بِالتَّأْخِيرِ مِنْ فَصْلٍ إلَى فَصْلٍ أَوْ بِالنَّقْلِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَنْوِيَّةِ لِلتِّجَارَةِ النَّمَاءُ فِيهَا مُنْحَصِرٌ فِي السِّمَنِ فَثَبَتَ أَنَّ عَلْفَهَا لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ نَمَائِهَا، إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ (قَوْلُهُ هِيَ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ) اعْتَرَضَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ مُرَادَهُمْ تَفْسِيرُ السَّائِمَةِ الَّتِي فِيهَا الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ تَعْرِيفٌ بِالْأَعَمِّ إذْ بَقِيَ قَيْدُ كَوْنِ ذَلِكَ لِغَرَضِ النَّسْلِ وَالدَّرِّ وَالتَّسْمِينِ، وَإِلَّا فَتَشْمَلُ الْإِسَامَةَ لِغَرَضِ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَلَيْسَ فِيهَا زَكَاةٌ. وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ: يُشْتَرَطُ الرَّعْيُ فِي كُلِّ الْحَوْلِ

ص: 194

(وَلَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ خِيَارَ الْمَالِ وَلَا رَذَالَتَهُ وَيَأْخُذُ الْوَسَطَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ» أَيْ كَرَائِمَهَا «وَخُذُوا مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ» أَيْ أَوْسَاطَهَا وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ.

قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فَاسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِهِ ضَمَّهُ إلَيْهِ وَزَكَّاهُ بِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضُمُّ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي حَقِّ

وَفِي بَعْضِهَا إنْ عَلَفَهَا بِقَدْرِ مَا تَبِينَ فِيهِ مُؤْنَةُ عَلْفِهَا أَكْثَرُ مِمَّا لَوْ كَانَتْ سَائِمَةً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا. قُلْنَا: لَا يَزُولُ اسْمُ السَّائِمَةِ بِالْعَلْفِ الْيَسِيرِ شَرْعًا لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَوْجَبَ عَلَى أَهْلِ دِيَارِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تَكْتَفِي بِالسَّوْمِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إذْ لَا يُوجَدُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ فِي دِيَارِهِمْ بَلْ وَلَا غَيْرِهَا مَا تَكْتَفِي بِهِ، وَلَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِهَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَالثَّلْجِ وَالْأَمْطَارِ الْمُسْتَمِرَّةِ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ انْتَفَتْ الزَّكَاةُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعَلَفَ الْيَسِيرَ لَا يَزُولُ بِهِ اسْمُ السَّوْمِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْحُكْمِ. وَإِذَا كَانَ مُقَابِلُهُ كَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ كَانَ هُوَ يَسِيرًا، وَالنِّصْفُ لَيْسَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّصْفِ كَثِيرًا، فَلَوْ أَسَامَهَا نِصْفَ الْحَوْلِ لَا زَكَاةَ فِيهَا وَلِأَنَّهُ يَقَعُ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ سَبَبِ الْإِيجَابِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالتَّبَعِيَّةِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ تَعْلِيلُ قَوْلِهِ أَوْ أَكْثَرُ، وَمَا ذَكَرْنَا يَعُمُّهُ مَعَ نِصْفِ الْحَوْلِ

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ شَيْئًا» إلَخْ) هُوَ بِالْفَتَحَاتِ جَمْعُ حَزْرَةٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَقْدِيمِ الزَّايِ الْمَنْقُوطَةِ عَلَى الرَّاءِ فِي اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ. وَحَرَزَةُ الْمَالِ خِيَارُهُ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كَأَنَّهُ الشَّيْءُ الْمَحْبُوبُ لِلنَّفْسِ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُصَدِّقِهِ «لَا تَأْخُذْ مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ شَيْئًا، خُذْ الشَّارِفَ وَالْبِكْرَ وَذَاتَ الْعَيْبِ» وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ " مَرَّ عُمَرُ رضي الله عنه بِغَنَمِ الصَّدَقَةِ فَرَأَى فِيهَا شَاةً حَافِلًا ذَاتَ ضَرْعٍ عَظِيمٍ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذِهِ الشَّاةُ؟ فَقَالُوا: شَاةٌ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْطَى هَذِهِ أَهْلُهَا وَهُمْ طَائِعُونَ، لَا تَفْتِنُوا النَّاسَ لَا تَأْخُذُوا حَزَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ " وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ مُعَاذٌ الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْأَخْذِ مِنْ الْعِجَافِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا وَسَطٌ اعْتِبَارُ أَعْلَاهَا وَأَفْضَلِهَا وَقَدَّمْنَا عَنْهُمْ خِلَافَهُ فِي صَدَقَةِ السَّوَائِمِ

(قَوْلُهُ فَاسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِهِ) بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ شِرَاءٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضُمُّ بَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَوْلٌ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِذَا

ص: 195

الْمِلْكِ فَكَذَا فِي وَظِيفَتِهِ، بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ فِي الْمِلْكِ حَتَّى مُلِكَتْ بِمِلْكِ الْأَصْلِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَتَعَسَّرُ الْمَيْزُ فَيَعْسُرُ اعْتِبَارُ الْحَوْلِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ، وَمَا شَرْطُ الْحَوْلِ إلَّا

تَمَّ الْحَوْلُ زَكَّاهُ سَوَاءٌ كَانَ نِصَابًا أَوْ أَقَلَّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ جِنْسِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اسْتَفَادَ مَالًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ، بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْأَصْلِ نَفْسِهِ فَيَنْسَحِبُ حَوْلُهُ عَلَيْهَا وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: لَوْ قَدَّرَ تَسْلِيمَ ثُبُوتِهِ فَعُمُومُهُ لَيْسَ مُرَادًا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى خُرُوجِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ، وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ مِمَّا يُعَلَّلُ وَيَخْرُجُ بِالتَّعْلِيلِ ثَانِيًا فَعَلَّلْنَا بِالْمُجَانَسَةِ فَقُلْنَا: إخْرَاجُ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ مِنْ ذَلِكَ وَوُجُوبُ ضَمِّهَا إلَى حَوْلِ الْأَصْلِ لِمُجَانَسَتِهَا إيَّاهُ لَا لِلتَّوَلُّدِ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ الْمُسْتَفَادُ إذَا كَانَ مُجَانِسًا أَيْضًا فَيُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِمَّا يُجَانِسُهُ، وَكَانَ اعْتِبَارُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِهِ فِي أَصْحَابِ الْغَلَّةِ الَّذِينَ يَسْتَغِلُّونَ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ فَإِنَّ فِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ مِنْ دِرْهَمٍ وَنَحْوِهِ حَرَجًا عَظِيمًا، وَشُرِعَ الْحَوْلُ لِلتَّيْسِيرِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِبْطَالِ اعْتِبَارِهِ جَازَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ بِعِلَّتَيْنِ، وَإِحْدَاهُمَا تَقْتَضِي مَا قُلْنَا، وَالْأُخْرَى أَعْنِي عِلَّتَهُ قَاصِرَةٌ عَلَى الْأَصْلِ: أَعْنِي الْأَوْلَادَ وَالْأَرْبَاحَ، وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ اللَّامِ فِي الْحَوْلِ لِلْحَوْلِ الْمَعْهُودِ قِيَامُهُ لِلْأَصْلِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ، بَلْ يَكُونُ لِلْمَعْهُودِ كَوْنُهُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمُسْتَفَادَ ابْتِدَاءً وَهُوَ النِّصَابُ الْأَصْلِيُّ: أَعْنِي أَوَّلَ مَا اسْتَفَادَهُ وَغَيْرَهُ، وَالتَّخْصِيصُ وَقَعَ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُجَانِسُ وَبَقِيَ تَحْتَ الْعُمُومِ الْأَصْلِيِّ وَاَلَّذِي لَمْ يُجَانِسْ وَلَا يُصَدِّقْ فِي الْأَصْلِيِّ إلَّا إذَا كَانَ الْحَوْلُ مُرَادًا بِهِ الْمَعْهُودَ الْمُقَدَّرَ.

[فَرْعٌ]

لَا يَضُمُّ إلَى النَّقْدَيْنِ ثَمَنَ إبِلٍ مُزَكَّاةٍ بِأَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ، فَزَكَّى الْإِبِلَ بَعْدَ الْحَوْلِ ثُمَّ بَاعَهَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ الْآخَرِ بِدَرَاهِمَ لَا يَضُمُّهَا إلَى مَا عِنْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَضُمُّهَا لِوُجُودِ عِلَّةِ الضَّمِّ وَهِيَ الْمُجَانَسَةُ. وَلَهُ أَنَّهُ بَدَلُ مَالِ الزَّكَاةِ، وَلِلْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، فَلَوْ ضَمَّ لَأَدَّى إلَى الثَّنِيِّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى ضَمِّ ثَمَنِ طَعَامٍ أَدَّى عُشْرَهُ ثُمَّ بَاعَهُ وَثَمَنَ أَرْضٍ مَعْشُورَةٍ وَثَمَنَ عَبْدٍ أَدَّى صَدَقَةَ فِطْرِهِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ

ص: 196

لِلتَّيْسِيرِ.

قَالَ (وَالزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي النِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ فِيهِمَا: حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَفْوُ وَبَقِيَ النِّصَابُ بَقِيَ كُلُّ الْوَاجِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ. لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَالْكُلُّ نِعْمَةٌ. وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا» وَهَكَذَا قَالَ فِي كُلِّ نِصَابٍ، وَنَفَى الْوُجُوبَ عَنْ الْعَفْوِ، وَلِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ، فَيُصْرَفُ الْهَلَاكُ أَوَّلًا إلَى التَّبَعِ كَالرِّبْحِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصْرَفُ الْهَلَاكُ بَعْدَ الْعَفْوِ إلَى النِّصَابِ الْأَخِيرِ ثُمَّ إلَى الَّذِي يَلِيهِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ النِّصَابُ الْأَوَّلُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ تَابِعٌ. وَعِنْدَ

لَيْسَ بَدَلًا لِمَالِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْعُشْرَ لَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا يَجِبُ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ وَالْمُكَاتَبِ، وَالْفِطْرَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا تَجِبُ عَنْ وَلَدِهِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهَا بِعَبْدٍ لِلتِّجَارَةِ وَعِنْدَهُ أَلْفٌ لَا يَضُمُّ عِنْدَهُ. وَلَوْ نَوَى الْخِدْمَةَ ثُمَّ بَاعَهُ قِيلَ يَضُمُّ لِأَنَّهُ بِنِيَّةِ الْخِدْمَةِ خَرَجَ عَنْ مَالِ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَكُنْ بَدَّلَهُ بَدَلَ مَالِ الزَّكَاةِ لِيُؤَدِّيَ إلَى الثَّنِيِّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ نِصَابَانِ نَقْدَانِ مِمَّا لَمْ يَجِبْ ضَمَّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ كَثَمَنِ إبِلٍ أَدَّى زَكَاتَهَا وَنِصَابِ آخَرَ ثُمَّ وُهِبَ لَهُ أَلْفٌ ضُمَّتْ إلَى أَقْرَبِهِمَا حَوْلًا مِنْ حِينِ الْهِبَةِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ. وَلَوْ رَبِحَ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ وَلَدَ أَحَدُهُمَا ضَمَّ إلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالذَّاتِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْحَالِ

(قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَفْوُ وَبَقِيَ النِّصَابُ بَقِيَ كُلُّ الْوَاجِبِ إلَخْ) بِأَنْ كَانَ لَهُ تِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَهَلَكَ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعٌ وَمِنْ الْغَنَمِ ثَمَانُونَ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ الزَّكَاةِ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَسْقُطُ فِي الْأَوَّلِ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ، وَفِي الثَّانِي ثُلُثَا شَاةٍ (قَوْلُهُ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ) الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغِنَى وَالْكُلُّ بَعْدَ وُجُوبِ النِّصَابِ فِيهِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ فِي الْكُلِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ قَوْلِهِ إذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَكَذَا قَالَ فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ.

وَقَالَ فِي الْغَنَمِ: إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ الْحَدِيثَ. وَهَذَا يَنُصُّ عَلَى مَا قُلْنَا، وَهَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِ عُمَرَ الْمَرْوِيِّ فِي أَبِي دَاوُد (قَوْلُهُ وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ، وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى بَلَغَ عَشْرًا» إلَخْ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِيهِمَا فِي الثُّبُوتِ إنْ ثَبَتَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.

وَإِنَّمَا نَسَبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ إلَى رِوَايَةِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ فِي كِتَابَيْهِمَا، فَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ جَعْلَ الْهَالِكِ غَيْرَ النِّصَابِ تَحَكُّمٌ لِأَنَّ النِّصَابَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فِي الْكُلِّ فَيَجْعَلَ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْكُلِّ ضَرُورَةَ عَدَمِ تَعَيُّنِ بَعْضِهَا لِذَلِكَ، وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ يُسَمَّى عَفْوًا فِي الشَّرْعِ يَتَضَاءَلُ عَنْ مُعَارَضَةِ النَّصِّ الصَّحِيحِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَخْ) مِثَالُهُ: إذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْإِبِلِ فَهَلَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ أَرْبَعُ

ص: 197

أَبِي يُوسُفَ يُصْرَفُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى النِّصَابِ شَائِعًا.

(وَإِذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ الْخَرَاجَ وَصَدَقَةَ السَّوَائِمِ لَا يُثَنِّي عَلَيْهِمْ)

شِيَاهٍ كَأَنَّ الْحَوْلَ حَالَ عَلَى عِشْرِينَ فَقَطْ جَعْلًا لِلْهَالِكِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ نِصْفُ بِنْتِ لَبُونٍ وَيَسْقُطُ النِّصْفُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ وَيَسْقُطُ سِتَّةَ عَشَرَ جُزْءًا لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ عَفْوٌ فَيُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَيْهَا وَبَقِيَ الْوَاجِبُ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَبْقَى الْوَاجِبُ بِقَدْرِ الْبَاقِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَمَانُونَ شَاةً فَهَلَكَ نِصْفُهَا بَعْدَ الْحَوْلِ تَجِبُ شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ نِصْفُ شَاةٍ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَهَلَكَ ثَمَانُونَ تَجِبُ شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ثُلُثُ شَاةٍ. وَلَوْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَهَلَكَ إحْدَى وَثَمَانُونَ تَجِبُ شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَرْبَعُونَ جُزْءًا مِنْ مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ شَاتَيْنِ، فَلَوْ كُنَّ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةً عِجَافًا إلَّا وَاحِدَةً وَسَطًا تَجِبُ الْوَسَطُ وَثِنْتَانِ مِنْ أَفْضَلِهَا، فَإِنْ هَلَكَتْ الْوَسَطُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ عَجْفَاوَانِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مِائَتَانِ عِجَافٌ، وَعِنْدَهُمَا سَقَطَ الْفَضْلُ بِهَلَاكِ الْوَسَطِ وَجُعِلَ كَأَنَّ الْكُلَّ عِجَافٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ ثَلَاثًا عِجَافًا، فَإِذَا هَلَكَ وَاحِدَةٌ سَقَطَ مِنْ كُلِّ شَاةٍ مِنْ الثَّلَاثِ جُزْءٌ مِنْ مِائَتَيْ جُزْءٍ وَجُزْءٍ وَيَبْقَى مِنْ كُلِّ شَاةٍ عَجْفَاءَ مِائَتَا جُزْءٍ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى النُّصُبِ شَائِعًا، وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ إلَّا الْوَسَطَ يَجِبُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ وَسَطٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَرْبَعُونَ هَلَكَ الْكُلُّ إلَّا وَاحِدَةٌ وَسَطٌ، وَعِنْدَهُمَا ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ مِائَتَيْ جُزْءٍ مِنْ ثَلَاثِ شِيَاهٍ جُزْءٌ مِنْ السَّمِينَةِ وَجُزْءَانِ مِنْ الْعَجْفَاوَيْنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ شَاةٍ جُزْءٌ.

وَلَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ سِمَانٌ أَوْ أَوْسَاطٌ وَعِشْرُونَ عِجَافٌ هَلَكَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ السِّمَانِ بَعْدَ الْحَوْلِ يَبْقَى تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ وَسَطٍ لِأَنَّ الْفَضْلَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ عَفْوٌ فَصَارَ كَأَنَّ الْكُلَّ سِمَانٌ وَهَلَكَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَتْ عَشَرَةٌ مِنْ السِّمَانِ يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ وَسَطٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْقَى نِصْفُ شَاةٍ وَسَطٍ وَرُبْعُ شَاةٍ عَجْفَاءَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي الْمَالِ وَكَانَ نِصْفُ السَّمِينَةِ فِي عَشْرٍ مِنْ السِّمَانِ وَعَشْرٍ مِنْ الْعِجَافِ وَذَلِكَ النِّصْفُ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَبَقِيَ الْوَاجِبُ فِيهِ كَمَا كَانَ بَاقِيًا، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ فِي عَشْرٍ سِمَانٍ وَعَشْرٍ عِجَافٍ ذَهَبَتْ سِمَانُهُ وَبَقِيَتْ عِجَافُهُ فَكَانَ فَضْلُ السِّمَنِ فِي عِجَافِ هَذَا النِّصْفِ بِسَبَبِ سِمَانُ هَذَا النِّصْفِ فَيَبْطُلُ بِهَلَاكِ السِّمَانِ فَبَقِيَ رُبْعُ شَاةٍ عَجْفَاءَ، وَإِنْ هَلَكَتْ سَمِينَةٌ وَاحِدَةٌ يَضُمُّ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ السِّمَانِ مِثْلَهَا مِنْ الْعِجَافِ، وَذَلِكَ تِسْعَ عَشْرَةَ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ فَيَجِبُ فِيهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ سَمِينَةٍ، وَفِي الْعَجْفَاءِ الْبَاقِيَةِ

ص: 198

لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَحْمِهِمْ وَالْجِبَايَةُ بِالْحِمَايَةِ، وَأَفْتَوْا بِأَنْ يُعِيدُوهَا دُونَ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُ الْخَرَاجِ لِكَوْنِهِمْ مُقَاتِلَةً، وَالزَّكَاةُ مَصْرِفُهَا الْفُقَرَاءُ وَهُمْ لَا يَصْرِفُونَهَا إلَيْهِمْ. وَقِيلَ إذَا نَوَى بِالدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ سَقَطَ عَنْهُ، وَكَذَا الدَّفْعُ إلَى كُلٍّ جَائِرٌ لِأَنَّهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فُقَرَاءُ،

جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ عَجْفَاءَ لِأَنَّ فَضْلَ السِّمَنِ فِيهَا كَانَ بِسَبَبِ السَّمِينَةِ الَّتِي هَلَكَتْ فَتَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا.

رَجُلٌ لَهُ خَمْسُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ عِجَافٍ إلَّا وَاحِدَةٌ سَمِينَةٌ تَعْدِلُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقِيمَةُ الْبَاقِي عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ، وَقِيمَةُ الْحِقَّةِ الْوَسَطِ مِائَةٌ تَجِبُ حِقَّةٌ تُسَاوِي سِتِّينَ دِرْهَمًا لِأَنَّهَا كَثِنْتَيْنِ مِنْ أَفْضَلِهَا، لِأَنَّ زَكَاتَهَا تَعْدِلُ بِنْتَيْ مَخَاضٍ وَسَطَيْنِ لَوْ كَانَ فِيهَا بِنْتَا مَخَاضٍ وَسَطَانِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا وَاحِدَةٌ وَسَطٌ وَجَبَ حِقَّةٌ تَعْدِلُ هَذِهِ الْوَاحِدَةَ وَوَاحِدَةَ مِنْ أَفْضَلِ الْبَاقِي، فَلَوْ هَلَكَتْ السَّمِينَةُ تَجِبُ حِقَّةٌ تَعْدِلُ بِنْتَيْ مَخَاضٍ عَجْفَاوَيْنِ لِأَنَّ الْمَالَ اشْتَمَلَ عَلَى النِّصَابِ وَالْعَفْوِ، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ عَفْوٌ فَيُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ عِجَافًا وَهُنَاكَ تَجِبُ حِقَّةٌ تَعْدِلُ بِنْتَيْ مَخَاضٍ عَجْفَاوَيْنِ مِنْ أَفْضَلِهِنَّ فَيَجِبُ هُنَا حِقَّةٌ تُسَاوِي عِشْرِينَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْقُطُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنْ الْحِقَّةِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ الَّتِي تُسَاوِي بِنْتَيْ مَخَاضٍ عَجْفَاوَيْنِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ فِي الْكُلِّ وَفَضْلُ السِّمَنِ كَانَ بِاعْتِبَارِ السَّمِينَةِ فَإِذَا هَلَكَتْ هَلَكَتْ بِزَكَاتِهَا وَبَقِيَ الْبَاقِي. وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ وَبَقِيَتْ السَّمِينَةُ فَفِيهَا خُمْسُ شَاةٍ وَسَطٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْهَلَاكَ عِنْدَهُ يُصْرَفُ إلَى النُّصُبِ الزَّائِدَةِ فَكَأَنَّ الْحَوْلَ حَالَ عَلَى خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ هَلَكَ الْكُلُّ إلَّا الْوَاحِدَةَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْحِقَّةِ الَّتِي تُسَاوِي سِتِّينَ، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ عَفْوٌ فَكَأَنَّ الْحَوْلَ حَالَ عَلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فِيهَا جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنْ تِلْكَ الْحِقَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ لِكَوْنِهِمْ مُقَاتِلَةٌ) لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ (قَوْلُهُ وَلَا يَصْرِفُونَهَا) أَيْ لَا يَصْرِفُهَا الْخَوَارِجُ إلَى الْفُقَرَاءِ (قَوْلُهُ وَكَذَا الدَّفْعُ إلَى كُلٍّ جَائِرٌ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَمَا يَأْخُذُهُ ظَلَمَةُ زَمَانِنَا مِنْ الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورِ وَالْجَزَاءِ وَالْخَرَاجِ وَالْجِبَايَاتِ وَالْمُصَادَرَاتِ فَالْأَصَحُّ أَنْ يَسْقُطَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إذَا نَوَوْا عِنْدَ الدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فَوْقَ أَمْوَالِهِمْ، فَلَوْ رَدُّوا مَا عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ شَيْءٌ فَكَانُوا فُقَرَاءَ انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: يَجُوزُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَالِي خُرَاسَانَ وَكَانَ أَمِيرًا بِبَلْخٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَسَأَلَ فَأَفْتَوْهُ بِالصِّيَامِ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ لِحَشَمِهِ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ لِي مَا عَلَيْك مِنْ التَّبِعَاتِ فَوْقَ مَا لَك مِنْ الْمَالِ فَكَفَّارَتُك كَفَّارَةُ يَمِينِ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ فَدُفِعَ إلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ سَقَطَ. ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَعَلَى هَذَا فَإِنْكَارُهُمْ عَلَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى تِلْمِيذِ مَالِكٍ حَيْثُ أَفْتَى بَعْضَ مُلُوكِ الْمَغَارِبَةِ فِي كَفَّارَةٍ بِالصَّوْمِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَتَعْلِيلُهُمْ بِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ لِلْمُنَاسِبِ الْمَعْلُومِ الْإِلْغَاءِ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ

ص: 199

وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ.

(وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ فِي سَائِمَتِهِ شَيْءٌ وَعَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُمْ مَا عَلَى الرَّجُلِ) لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى ضِعْفِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ صِبْيَانِهِمْ

لِلِاعْتِبَارِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَقْرِهِمْ لَا لِكَوْنِهِ أَشَقَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِعْتَاقِ لِيَكُونَ هُوَ الْمُنَاسِبَ الْمَعْلُومَ الْإِلْغَاءِ وَكَوْنُهُمْ لَهُمْ مَالٌ وَمَا أَخَذُوهُ خَلَطُوهُ بِهِ وَذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَمْلِكُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ حَتَّى قَالُوا تَجِبُ عَلَيْهِمْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَيُورَثُ عَنْهُمْ غَيْرُ ضَائِرٍ لِاشْتِغَالِ ذِمَّتِهِمْ بِمِثْلِهِ، وَالْمَدْيُونُ بِقَدْرِ مَا فِي يَدِهِ فَقِيرٌ (قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ) أَيْ الْإِفْتَاءُ بِالْإِعَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِلْمَ مَنْ يَأْخُذُ لِمَا يَأْخُذُ شَرْطٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ فِي الْإِعَادَةِ لِلْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ سِوَى الْخَرَاجِ. وَقَدْ لَا يُبْتَنَى عَلَى ذَلِكَ بَلْ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّةِ الزَّكَاةِ سَدُّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِ عَلَى مَا مَرَّ وَذَلِكَ يَفُوتُ بِالدَّفْعِ إلَى هَؤُلَاءِ. وَقَالَ الشَّهِيدُ: هَذَا يَعْنِي السُّقُوطَ فِي صَدَقَاتِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، أَمَّا إذَا صَادَرَهُ فَنَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ إلَيْهِ. فَعَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّالِبِ وِلَايَةُ أَخْذِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى إلَخْ) بَنُو تَغْلِبَ عَرَبٌ نَصَارَى هَمَّ عُمَرُ رضي الله عنه

ص: 200

(وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ فَصَارَ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَلِأَنَّهُ مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ

أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ فَأَبَوْا وَقَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ، وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا مَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: يَعْنُونَ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا، هَذِهِ فَرْضُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَالُوا: فَزِدْ مَا شِئْت بِهَذَا الِاسْمِ لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ فَعَلَ، فَتَرَاضَى هُوَ وَهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ

، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: هِيَ جِزْيَةٌ سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَا يَمْنَعُوا أَحَدًا أَنْ يُسْلِمَ وَلَا يَغْمِسُوا أَوْلَادَهُمْ. وَفِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: هَمَّ يَعْنِي عُمَرَ رضي الله عنه أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ فَنَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ أَوْ زُرْعَةُ بْنُ النُّعْمَانِ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بَنِي تَغْلِبَ قَوْمٌ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ وَلَيْسَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ، إنَّمَا هُمْ أَصْحَابُ حُرُوثٍ وَمَوَاشِي وَلَهُمْ نِكَايَةٌ فِي الْعَدُوِّ فَلَا تُعِنْ عَدُوَّك عَلَيْك بِهِمْ، قَالَ: فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ. هَذَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَرْأَةِ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بَدَلُ الْجِزْيَةِ، بَلْ قَدْ اعْتَبَرَهَا عُمَرُ نَفْسَ الْجِزْيَةِ حَيْثُ قَالَ: هِيَ جِزْيَةٌ سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَلَا يَلْزَمُهَا بَدَلُهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ اللَّازِمَ فِي الْأَصْلِ كَانَ الْجِزْيَةَ، فَلَمَّا وَقَعَ التَّرَاضِي بِإِسْقَاطِهَا بِمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مُضَاعَفًا صَارَ اللَّازِمُ عَيْنَ مَا صُيِّرَ إلَيْهِ فَوَجَبَ شُمُولُهُ النِّسَاءَ لِأَنَّهُمْ رَضُوا فِي إسْقَاطِ ذَلِكَ بِذَلِكَ ظَاهِرًا

قَوْلُهُ وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ) يَعْنِي حَالَ الْحَوْلُ فَفَرَّطَ فِي الْأَدَاءِ حَتَّى هَلَكَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ: أَعْنِي مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ مِنْهُ (قَوْلُهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ) بِأَنْ طَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ أَوْ وَجَدَ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ) أَيْ طَلَبَ الْفَقِيرِ إذَا فَرَضَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُطَالِبًا لِنَفْسِهِ نِيَابَةً عَنْهُ، أَوْ هُوَ مُطَالَبٌ بِالْأَدَاءِ عَلَى

ص: 201

فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ. وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ تَحْقِيقًا لِلتَّيْسِيرِ فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِ مَحَلِّهِ كَدَفْعِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَالْمُسْتَحِقُّ فَقِيرٌ يُعِينُهُ الْمَالِكُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الطَّلَبُ، وَبَعْدَ طَلَبِ

الْفَوْرِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ وَلَمْ يُؤَدِّ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ النِّصَابَ وَكَالْمُودَعِ إذَا طُولِبَ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ فَلَمْ يَرُدَّهَا حَتَّى هَلَكَتْ (قَوْلُهُ وَلَنَا) الْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ تَمْلِيكُ شَطْرٍ مِنْ النِّصَابِ ابْتِدَاءً، وَمَنْ أُمِرَ بِتَمْلِيكِ مَالٍ مَخْصُوصٍ كَمَنْ قِيلَ لَهُ تَصَدَّقْ بِمَا لِي عِنْدَك فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى هَلَكَ لَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَلَا إقَامَةُ مَالٍ آخَرَ مَقَامَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى مُسْتَحِقٍّ يَدًا وَلَا مِلْكًا لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ فَقِيرٌ بِعَيْنِهِ لَا فَقِيرٌ يَطْلُبُ بِنَفْسِهِ، وَفِي الِاسْتِهْلَاكِ وُجِدَ التَّعَدِّي بِخِلَافِ مُجَرَّدِ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَانٍ فِيهِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ الْمُطْلَقَةَ تُجَوِّزُ التَّرَاخِيَ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْفَوْرِ وَلَيْسَ هُوَ بِحَقٍّ، فَتَعَدِّيهِ بِالتَّأْخِيرِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ إهْلَاكِ الْمَالِ وَلَا سَبَبًا لَهُ، فَإِنَّ التَّأْخِيرَ لَمْ يُوضَعْ لِلْهَلَاكِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ تَحْقِيقًا لِلتَّيْسِيرِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ لَمَّا وَجَبَتْ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ بَعْضِ الْأَمْوَالِ لَا مِنْ كُلِّ مَالٍ، بَلْ مِمَّا بِحَيْثُ يَنْمُو لِيَنْجَبِرَ الْمُؤَدِّي بِالنَّمَاءِ.

وَشُرِطَ مَعَ ذَلِكَ الْحَوْلُ تَحْقِيقًا لِقَصْدِ النَّمَاءِ كَانَتْ وَاجِبَةً بِصِفَةِ الْيُسْرِ، وَالْحَقُّ مَتَى وَجَبَ بِصِفَةٍ لَا يَبْقَى إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ بِأَنْ يُعْتَبَرَ الْوَاجِبُ أَدَاءَ جُزْءٍ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ غَيْرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ فَيَسْقُطَ بِهَلَاكِهِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، وَالْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْوَاجِبِ بَعْدَ هَلَاكِهِ يُحِيلُهُ إلَى صِفَةِ الْعُسْرِ فَلَا يَكُونُ الْبَاقِي ذَلِكَ الَّذِي وَجَبَ بَلْ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْوَاجِبَ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ جُزْءٌ مِنْهَا وَالشَّاةُ تَقْدِيرُ مَالِيَّتِهِ لِعُسْرِ نَحْرِ أَحَدِهَا لِيُعْطِيَ بَعْضَهَا، بَلْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ رُبْعَ عُشْرٍ كُلَّهَا تَوَقَّفَ تَحْقِيقُهُ عَلَى نَحْرِ كُلِّهَا، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى ثُمَّ الظَّوَاهِرُ تُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا مِثْلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» .

وَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ بَابِ صَدَقَةِ الْبَقَرِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ «بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً» (قَوْلُهُ كَدَفْعِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ يَسْقُطُ) فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهُ

ص: 202

السَّاعِي قِيلَ يَضْمَنُ وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ لِانْعِدَامِ التَّفْوِيتِ، وَفِي الِاسْتِهْلَاكِ وُجِدَ التَّعَدِّي، وَفِي هَلَاكِ الْبَعْضِ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لَهُ بِالْكُلِّ.

الْمَوْلَى حَتَّى هَلَكَ سَقَطَ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إقَامَةُ عَبْدٍ مَقَامَهُ (قَوْلُهُ قِيلَ يَضْمَنُ) وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ (وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُهَيْلٍ الزَّجَّاجِيِّ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْفِقْهِ لِأَنَّ السَّاعِيَ وَإِنْ تَعَيَّنَ لَكِنْ لِلْمَالِكِ رَأْيٌ فِي اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْقِيمَةِ، ثُمَّ الْقِيمَةُ شَائِعَةٌ فِي مَحَالَّ كَثِيرَةٍ، وَالرَّأْيُ يَسْتَدْعِي زَمَانًا فَالْحَبْسُ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى أَحَدٍ مِلْكًا وَلَا يَدًا، بِخِلَافِ مَنْعِ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِهَا فَإِنَّهُ بَدَلُ الْيَدِ بِذَلِكَ فَصَارَ مُفَوِّتًا لِيَدِ الْمَالِكِ.

(فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ)

اسْتِبْدَالُ مَالِ التِّجَارَةِ بِمَالِ التِّجَارَةِ لَيْسَ اسْتِهْلَاكًا بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ اسْتِهْلَاكٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْوِيَ فِي الْبَدَلِ عَدَمَ التِّجَارَةِ عِنْدَ الِاسْتِبْدَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِ فِي الْبَدَلِ عَدَمَ التِّجَارَةِ وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ لِلتِّجَارَةِ يَقَعُ الْبَدَلُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهَا عِنْدَ مَالِكِهِ.

فِي الْكَافِي: لَوْ تَقَايَضَا عَبْدًا بِعَبْدٍ وَلَمْ يَنْوِيَا شَيْئًا فَإِنْ كَانَا لِلتِّجَارَةِ فَهُمَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلْخِدْمَةِ فَهُمَا لِلْخِدْمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لِلتِّجَارَةِ وَالْآخَرُ لِلْخِدْمَةِ فَبَدَلُ مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ لِلتِّجَارَةِ وَبَدَلُ مَا كَانَ لِلْخِدْمَةِ لِلْخِدْمَةِ، فَلَوْ اسْتَبْدَلَ بَعْدَ الْحَوْلِ ثُمَّ هَلَكَ الْبَدَلُ بِغَيْرِ صُنْعٍ مِنْهُ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عَنْ الْأَصْلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَدَلُ مَالَ تِجَارَةٍ لَا يَضْمَنُ زَكَاةَ الْأَصْلِ بِهَلَاكِ الْبَدَلِ، وَاسْتِبْدَالُ السَّائِمَةِ اسْتِهْلَاكٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اسْتَبْدَلَهَا بِسَائِمَةٍ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ سَائِمَةِ دَرَاهِمَ أَوْ عُرُوضٍ لِتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ وَقَدْ تَبَدَّلَتْ، فَإِذَا هَلَكَتْ سَائِمَةُ الْبَدَلِ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إذَا اسْتَبْدَلَ بِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ، أَمَّا إذَا بَاعَهَا قَبْلَهُ فَلَا حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الْبَدَلِ إلَّا بِحَوْلٍ جَدِيدٍ أَوْ يَكُونَ لَهُ دَرَاهِمُ وَقَدْ بَاعَهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ.

وَإِقْرَاضُ النِّصَابِ الدَّرَاهِمَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ، فَلَوْ تَوَى الْمَالَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ لَا تَجِبُ وَمِثْلُهُ إعَارَةُ ثَوْبِ التِّجَارَةِ. رَجُلٌ لَهُ أَلْفٌ حَالَ حَوْلُهَا فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدَ التِّجَارَةِ فَمَاتَ أَوْ عُرُوضًا لِلتِّجَارَةِ فَهَلَكَتْ بَطَلَتْ عَنْهُ زَكَاةُ الْأَلْفِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِلْخِدْمَةِ لَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ ضَمِنَ. فِي الْوَجْهُ الْأَوَّلِ عُلِمَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا فِي قَدْرِ الْغَبْنِ إذْ لَمْ يَحْصُلْ بِإِزَائِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا اسْتَوَى الْعِلْمُ وَعَدَمُهُ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ وَهَبَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ثُمَّ رَجَعَ بِقَضَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَوْ هَلَكَتْ عِنْدَهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَالنُّقُودُ تَتَعَيَّنُ فِي مِثْلِهِ فَعَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ ثُمَّ هَلَكَ فَلَا ضَمَانَ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَمَا حَالَ الْحَوْلُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَكَذَلِكَ، خِلَافًا لِزُفَرَ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ فَكَانَ تَمْلِيكًا.

قُلْنَا: بَلْ غَيْرُ مُخْتَارٍ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ الرَّدِّ أُجْبِرَ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَوْ رَدَّ عَبْدَ الْخِدْمَةِ بِعَيْبٍ وَاسْتَرَدَّ الْأَلْفَ لَمْ يَبْرَأْ لَوْ هَلَكَتْ لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ فَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِعَرْضِ التِّجَارَةِ وَحَالَ حَوْلُهُ فَرَدَّ بِقَضَاءٍ لِأَنَّهُ

ص: 203

(وَإِنْ قَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى الْحَوْلِ وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ جَازَ) لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا كَفَّرَ بَعْدَ

عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ لِأَنَّهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ وَعَنْ هَذَا قُلْنَا لَوْ بَاعَ عَبْدَ الْخِدْمَةِ بِأَلْفٍ فَحَالَ عَلَى الثَّمَنِ الْحَوْلُ فَرَدَّ بِهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ رِضَاءٍ زَكَّى الثَّمَنَ لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ، وَلَوْ بَاعَهُ بِعُرُضٍ لِلتِّجَارَةِ فَرَدَّ بِعَيْبٍ بَعْدَ الْحَوْلِ إنْ كَانَ بِقَضَاءٍ لَمْ يُزَكِّ الْبَائِعُ الْعَرْضَ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ، وَلَا الْعَبْدَ لِأَنَّهُ كَانَ لِلْخِدْمَةِ وَقَدْ عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ بِلَا قَضَاءٍ لَمْ يُزَكِّ الْمُشْتَرِي الْعَرْضَ وَزَكَّاهُ الْبَائِعُ لِأَنَّهُ كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ حَتَّى يَصِيرَ الْعَبْدُ الَّذِي اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ لِلتِّجَارَةِ، فَكَذَا الْبَدَلُ فَإِنْ نَوَى فِيهِ الْخِدْمَةَ كَانَ زَكَاةُ الْعَرْضِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ حَيْثُ اسْتَبْدَلَهُ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ) تَنْصِيصٌ عَلَى شَرْطِ جَوَازِ التَّعْجِيلِ فَلَوْ مَلَكَ أَقَلَّ فَعَجَّلَ خَمْسَةً عَنْ مِائَتَيْنِ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى مِائَتَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَفِيهِ شَرْطَانِ آخَرَانِ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، فَلَوْ عَجَّلَ خَمْسَةً مِنْ مِائَتَيْنِ ثُمَّ هَلَكَ مَا فِي يَدِهِ إلَّا دِرْهَمًا ثُمَّ اسْتَفَادَ فَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى مِائَتَيْنِ جَازَ مَا عَجَّلَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَبْقَ الدِّرْهَمُ وَأَنْ يَكُونَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي آخِرِ الْحَوْلِ، فَلَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ وَحَالَ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى أَنَّهُ إنْ كَانَ صَرَفَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَقَعَتْ نَفْلًا، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ السَّاعِي أَوْ الْإِمَامِ أَخَذَهَا، وَلَوْ كَانَ الْأَدَاءُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَقَعَ عَنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ انْتَقَصَ النِّصَابُ بِأَدَائِهِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا مِنْ الْإِيضَاحِ وَهُوَ فِي فَصْلِ السَّاعِي خِلَافُ الصَّحِيحِ، بَلْ الصَّحِيحُ فِيمَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ السَّاعِي وُقُوعُهَا زَكَاةً فَلَا يَسْتَرِدُّهَا كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ.

رَجُلٌ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ إلَّا يَوْمًا فَعَجَّلَ مِنْ زَكَاتِهَا شَيْئًا ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَا بَقِيَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَصَدَّقَ بِشَاةٍ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً فَتَمَّ الْحَوْلُ لَا تَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ. أَمَّا لَوْ عَجَّلَ شَاةً عَنْ أَرْبَعِينَ إلَى الْمُصَدِّقِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالشَّاةُ فِي يَدِ الْمُصَدِّقِ جَازَ، هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْمُصَدِّقِ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْ الْمَدْفُوعِ.

وَبَسَطَهُ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ إذَا عَجَّلَ خَمْسَةً مِنْ مِائَتَيْنِ فَأَمَّا إنْ حَالَ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ أَوْ اسْتَفَادَ خَمْسَةً أُخْرَى فَحَالَ عَلَى مِائَتَيْنِ أَوْ انْتَقَصَ مِنْ الْبَاقِي دِرْهَمٌ فَصَاعِدًا: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: إذَا لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْخَمْسَةُ قَائِمَةً فِي يَدِ السَّاعِي فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ وَيَأْخُذَ الْخَمْسَةَ مِنْ السَّاعِي لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِالدَّفْعِ إلَى السَّاعِي، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَهِيَ فِي مَعْنَى الضِّمَارِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ قَبْلَ الْحَوْلِ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ يَدَ السَّاعِي فِي الْمَقْبُوضِ يَدُ الْمَالِكِ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَقِيَامُهَا فِي يَدِهِ كَقِيَامِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ، وَلِأَنَّ الْمُعَجَّلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ زَكَاةً فَتَكُونَ يَدُهُ يَدَ الْفُقَرَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِيرَ زَكَاةً فَتَكُونَ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ، فَاعْتَبَرْنَا يَدَهُ يَدَ الْمَالِكِ احْتِيَاطًا، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ يُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ. بَيَانُهُ أَنَّا لَوْ لَمْ نُوجِبْ الزَّكَاةَ بَقِيَتْ الْخَمْسَةُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ حَالَ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى عَدَمِ تَقْدِيرِ إيجَابِ الزَّكَاةِ، وَإِذَا قُلْنَا تَجِبُ تَجِبُ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِّ لَا مُسْتَنِدًا لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَنَدَ الْوُجُوبُ إلَى أَوَّلِ

ص: 204

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْحَوْلِ بَقِيَ النِّصَابُ نَاقِصًا فِي آخِرِ الْحَوْلِ فَيَبْطُلُ الْوُجُوبُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَمْلِكْ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا زَكَاةً مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَا دَامَ احْتِمَالُ الْوُجُوبِ قَائِمًا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ، كَمَنْ نَقَدَ الثَّمَنَ فِي بَيْعٍ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِرْدَادُ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ بِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْمَالِكِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِرْ ضِمَارًا لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِغَرَضٍ وَالْمُعَدُّ لِغَرَضٍ لَيْسَ ضِمَارًا فَجَعْلُهَا ضِمَارًا مُبْطِلٌ لِغَرَضِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ السَّاعِي اسْتَهْلَكَهَا أَوْ أَنْفَقَهَا عَلَى نَفْسِهِ قَرْضًا لِأَنَّ بِذَلِكَ وَجَبَ الْمِثْلُ فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ كَقِيَامِ الْعَيْنِ فِي يَدِهِ، وَكَذَا لَوْ أَخَذَهَا السَّاعِي، عِمَالَةً، لِأَنَّ الْعِمَالَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْوَاجِبِ لِأَنَّ قَبْضَهُ لِلْوَاجِبِ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ فَيَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ سَبَبُ الْعِمَالَةِ وَمَا قَبَضَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.

وَلَا يُقَالُ: مَا فِي ذِمَّةِ السَّاعِي دَيْنٌ وَأَدَاءُ الدَّيْنِ مِنْ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى غَيْرِ السَّاعِي، أَمَّا إذَا كَانَ عَلَى السَّاعِي فَيَجُوزُ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ فَلَا يُفِيدُ الطَّلَبَ مِنْهُ ثُمَّ دَفْعَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ السَّاعِي صَرَفَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ لِأَنَّ السَّاعِيَ مَأْمُورٌ بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ، وَلَوْ صَرَفَ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ يَصِيرُ مِلْكًا وَيُنْتَقَصُ بِهِ النِّصَابُ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَلَوْ ضَاعَتْ مِنْ السَّاعِي قَبْلَ الْحَوْلِ وَوَجَدَهَا بَعْدَهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا، كَمَا لَوْ ضَاعَتْ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ نَفْسِهِ فَوَجَدَهُ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا لِزَكَاةِ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ تَصِرْ. قُلْت: لِأَنَّ بِالضَّيَاعِ صَارَ ضِمَارًا، فَلَوْ لَمْ يَسْتَرِدَّهَا حَتَّى دَفَعَهَا السَّاعِي إلَى الْفُقَرَاءِ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا إنْ كَانَ الْمَالِكُ نَهَاهُ. قِيلَ هَذَا. عِنْدَهُمَا، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ، وَأَصْلُهُ الْوَكِيلُ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ إذَا أَدَّى بَعْدَ أَدَاءِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ يَضْمَنُ عِنْدَهُ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَا، وَعِنْدَهُمَا لَا إلَّا إنْ عَلِمَهُ. الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا اسْتَفَادَ خَمْسَةً فَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى مِائَتَيْنِ يَصِيرُ الْمُؤَدَّى زَكَاةً فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا مِنْ وَقْتِ التَّعْجِيلِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ هُنَا كَوْنُ الدَّيْنِ زَكَاةً عَنْ الْعَيْنِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ تِلْكَ الْخَمْسَةِ وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَ السَّاعِي، أَمَّا عِنْدَ فَلِأَنَّهُ لَا يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْكُسُورِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهَا ظَهَرَ خُرُوجُهَا مِنْ مِلْكِهِ مِنْ وَقْتِ التَّعْجِيلِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ إنَّمَا يَخُصُّهُمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ. فَأَمَّا لَوْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ فَعَجَّلَهَا كُلَّهَا صَحَّ وَلَا يَسْتَرِدُّهَا قَبْلَ الْحَوْلِ كَمَا فِي غَيْرِهَا لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا زَكَاةً بِأَنْ يَسْتَفِيدَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، فَلَوْ اسْتَفَادَهَا لَا تَجِبُ زَكَاةُ هَذِهِ الْمِائَتَيْنِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بِالِاتِّفَاقِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ: إذَا انْتَقَصَ عَمَّا فِي يَدِهِ فَلَا تَجِبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَيَسْتَرِدُّ إنْ كَانَتْ فِي يَدِ السَّاعِي، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا أَوْ أَكَلَهَا قَرْضًا أَوْ بِجِهَةِ الْعِمَالَةِ ضَمِنَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ نَفْسِهِ وَهُوَ فَقِيرٍ لَا يَضْمَنُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ إلَّا إنْ تَصَدَّقَ بِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَيَضْمَنُ عِنْدَهُ عَلِمَ بِالنُّقْصَانِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعِنْدَهُمَا إنْ عَلِمَ، وَلَوْ كَانَ نَهَاهُ ضَمِنَ عِنْدَ الْكُلِّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَّ السَّاعِيَ إذَا أَخَذَ الْخَمْسَةَ عِمَالَةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ وَلَمْ يَكْمُلْ النِّصَابُ فِي يَدِ الْمَالِكِ تَقَعُ الْخَمْسَةُ زَكَاةً بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِسَبَبِ لُزُومِ الضَّمَانِ عَلَى السَّاعِي لِأَنَّهُ لَا عِمَالَةَ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ ذَكَرَ فِي مِثْلِهِ مِنْ السَّائِمَةِ خِلَافَهُ بَعْدَ قَرِيبٍ وَقَالَ مَا حَاصِلُهُ: إذَا عَجَّلَ شَاةً عَنْ أَرْبَعِينَ فَتَصَدَّقَ بِهَا السَّاعِي قَبْلَ الْحَوْلِ وَتَمَّ الْحَوْلُ وَلَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا يَقَعُ تَطَوَّعَا وَلَا يَضْمَنُ، وَلَوْ بَاعَهَا السَّاعِي لِلْفُقَرَاءِ وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا فَكَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا فِي يَدِهِ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ لِأَنَّ نِصَابَ السَّائِمَةِ نَقَصَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَلَا يَكْمُلُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَتْ الشَّاةُ قَائِمَةً

ص: 205

الْجُرْحِ، وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ

(وَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ) لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَيَجُوزُ لِنُصُبٍ إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَاحِدٌ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ النِّصَابَ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّبَبِيَّةِ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ تَابِعٌ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فِي يَدِ السَّاعِي صَارَتْ زَكَاةً كَمَا قَدَّمْنَا لِأَنَّ قِيَامَهَا فِي يَدِهِ كَقِيَامِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ.

وَلَوْ كَانَ السَّاعِي أَخَذَهَا مِنْ عِمَالَتِهِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ جَعَلَهَا الْإِمَامُ لَهُ عِمَالَةً فَتَمَّ الْحَوْلُ وَعِنْدَ الْمَالِكِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَالْمُعَجَّلُ قَائِمٌ فِي يَدِ السَّاعِي فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. وَيَسْتَرِدُّهَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهَا مِنْ الْعِمَالَةِ زَالَتْ عَنْ مِلْكِهِ فَانْتَقَصَ النِّصَابُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ. وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ، فَإِنْ كَانَ السَّاعِي بَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ كَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَاعَ جَازَ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلْمَالِكِ وَيَكُونُ الثَّمَنُ لَهُ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ.

فَإِنْ قُلْت: لِمَ كَانَ هَذَا الِاخْتِلَافُ، قُلْت: لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْمُعَجِّلِ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَحِينَ تَمَّ الْحَوْلُ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالْقِيمَةِ وَالسَّائِمَةُ لَا يَكْمُلُ نِصَابُهَا بِالدَّيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا، هَذَا وَمَهْمَا تَصَدَّقَ السَّاعِي مِمَّا عَجَّلَ مِنْ نَقْدٍ أَوْ سَائِمَةٍ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، بَلْ إمَّا أَنْ يَقَعَ نَفْلًا إنْ لَمْ يَكْمُلْ. أَوْ بَعْضُهُ إنْ كَانَ عَنْ نُصُبٍ فِي يَدِهِ فَهَلَكَ بَعْضُهَا أَوْ قَرْضًا أَوْ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ. كَمَا لَوْ انْتَقَضَ النِّصَابُ ضَمِنَ عَلِمَ أَوْ لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا إنْ عَلِمَ بِالِانْتِقَاصِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ نَهَاهُ بَعْدَ الْحَوْلِ ضَمِنَ عِنْدَ الْكُلِّ وَقَبْلَهُ لَا (قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ) هُوَ يَقُولُ الزَّكَاةُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ وَلَا إسْقَاطَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَصَارَ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ بِجَامِعِ أَنَّهُ أَدَاءٌ قَبْلَ السَّبَبِ إذْ السَّبَبُ هُوَ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ وَلَمْ يُوجَدْ. قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ اعْتِبَارَ الزَّائِدِ عَلَى مُجَرَّدِ النِّصَابِ جُزْءًا مِنْ السَّبَبِ بَلْ هُوَ النِّصَابُ فَقَطْ. وَالْحَوْلُ تَأْجِيلٌ فِي الْأَدَاءِ بَعْدَ أَصْلِ الْوُجُوبِ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. وَتَعْجِيلُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ، فَالْأَدَاءُ بَعْدَ النِّصَابِ كَالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ، وَكَصَوْمِ الْمُسَافِرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ بَعْدَ السَّبَبِ، بِخِلَافِ الْعُشْرِ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ السَّبَبِ، إذْ السَّبَبُ فِيهِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ تَحْقِيقًا، فَمَا لَمْ يَخْرُجْ بِالْفِعْلِ لَا يَتَحَقَّقُ السَّبَبُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه «أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ زَكَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مُسَارَعَةً إلَى الْخَيْرِ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ» وَلَوْ سَلِمَ مَا ذُكِرَ فَصِفَةُ الْحَوْلِيِّ تَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ مَا حَالَ عَلَيْهِ.

وَالْحَوْلُ اسْمٌ لِأَوَّلِهِ إلَى آخِرٍ، فَفِي أَوَّلِهِ يَثْبُتُ جُزْءٌ مِنْ السَّبَبِ وَقَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ وُجُودِ جُزْئِهِ إذَا كَانَ الْبَاقِي مُتَرَقَّبًا وَاقِعًا ظَاهِرًا كَالتَّرَخُّصِ فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ قَدْ يُقَالُ عَلَى مَا أَوْرَدْنَاهُ فِيمَا غَيْرُ عِلَّةِ الرُّخْصَةِ قَصْدُ أَقَلِّ السَّفَرِ آخِذًا فِيهِ لَا وُجُودَ أَقَلِّهِ فَالتَّرَخُّصُ فِي ابْتِدَائِهِ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ، عَلَى أَنَّا لَا نَجْزِمُ بِوُقُوعِ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً فِي الْحَالِّ بَلْ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ إلَى آخِرِ الْحَوْلِ، فَإِنْ تَمَّ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ تَبَيَّنَ ذَلِكَ وَإِلَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ نَفْلًا

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ) وَعَلَيْهِ يَتَفَرَّعُ مَا لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ فَعَجَّلَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ ظَانًّا أَنَّهَا فِي مِلْكِهِ لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَ الزِّيَادَةَ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ حَالَ عَلَى مِائَتَيْنِ فَأَدَّى خَمْسَةً وَعَجَّلَ خَمْسَةً ثُمَّ اسْتَفَادَ عَشْرَةً جَازَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ الْمُعَجَّلُ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَّ الْحَوْلُ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فَانْتَقَصَ النِّصَابُ فَقَدْ وُجِدَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَالنِّصَابُ مُنْتَقِصٌ.

قُلْنَا: الْوُجُوبُ يُقَارِنُ دُخُولَ الْحَوْلِ الثَّانِي فَيَكُونُ الِانْتِقَاصُ بَعْدَهُ فَلَمْ يَمْقَعْ انْعِقَادَ الْحَوْلِ (قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِنُصُبٍ إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَاحِدٌ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ إلَّا عَمَّا فِي مِلْكِهِ وَإِلَّا لَزِمَ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ

ص: 206

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَلَى السَّبَبِ.

وَجَوَابُهُ أَنَّ النِّصَابَ الْأَوَّلَ هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ وَمَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ السَّبَبُ. وَفِيهِ أَنْ يُقَالَ: إنْ اُعْتُبِرَ سَبَبًا لِوُجُوبِ عَشَرَةٍ مَثَلًا فَبَاطِلٌ وَإِلَّا لَا يُفِيدُ، وَكَوْنُهُ الْأَصْلَ بِمَعْنَى أَوَّلِ مَكْسُوبٍ لَا يُوجِبُ لُزُومَ هَذَا الِاعْتِبَارِ شَرْعًا إلَّا بِسَمْعِيٍّ لَكِنَّهُ قَدْ وُجِدَ فَهُوَ الدَّلِيلُ. فَلَوْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ فَجَعَلَ مِنْهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ عَنْ أَلْفٍ ثُمَّ اسْتَفَادَهَا فَتَمَّ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ أَلْفٌ جَازَ عَنْ الْأَلْفِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ الْحَوَامِلِ: يَعْنِي الْحَبَالَى فَعَجَّلَ شَاتَيْنِ عَنْهَا وَعَمَّا فِي بُطُونِهَا ثُمَّ نَتَجَتْ خَمْسًا قَبْلَ الْحَوْلِ أَجْزَأَهُ عَمَّا عَجَّلَ، وَإِنْ عَجَّلَ عَمَّا تَحْمِلُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَجُوزُ اهـ.

وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ كَوْنِهِ عَيْنَ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ فِي يَدِهِ فَأَخْرَجَ عَنْهُ عَيْنًا قَدْرَ زَكَاتِهِ وَعِنْدَهُ مِنْ جِنْسِهِ غَيْرُهُ أَيْضًا لَا يَضُرُّ وَيَلْغُوا تَعْيِينُهُ، فَكَذَا هَذَا إذْ لَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ الْمُخْرَجَ عَنْهُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِّ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ لِأَنَّ جَوَازَ التَّعْجِيلِ لِنُصُبٍ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ يَسْتَلْزِمُ جَوَازَهُ وَالْمَلْزُومُ ثَابِتٌ فَكَذَا الْآخَرُ، وَإِذْ قَدْ انْسَقْنَا إلَى ذِكْرِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّ التَّعْيِينَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ فَلْنَذْكُرْ مِنْ فُرُوعِهِ. رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٍ وَأَلْفٌ سُودٌ فَعَجَّلَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ عَنْ الْبِيضِ فَهَلَكَتْ الْبِيضُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي السُّودِ وَيَكُونُ الْمُخْرَجَ عَنْهَا، وَكَذَا لَوْ عَجَّلَ عَنْ السُّودِ فَهَلَكَتْ وَتَمَّ عَلَى الْبِيضِ وَلَوْ حَالَ وَهُمَا عِنْدَهُ ثُمَّ ضَاعَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ كَانَ نِصْفُ مَا عَجَّلَ عَمَّا بَقِيَ وَعَلَيْهِ تَمَامُ زَكَاةِ مَا بَقِيَ، وَكَذَا لَوْ أَدَّى عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَ الْأَدَاءُ عَنْهَا.

وَفِي النَّوَادِرِ خِلَافُ هَذَا قَالَ: إذَا عَجَّلَ عَنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ بِعَيْنِهِ ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْمُعَجَّلِ عَنْ الْبَاقِي وَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ فَعَجَّلَ عِشْرِينَ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ مِنْهَا ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَقِيَتْ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْعِشْرِينَ تَشِيعُ فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ قَدْ أَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَبَقِيَ لِكُلِّ مِائَتَيْنِ دِرْهَمٌ، وَلَوْ هَلَكَتْ الثَّمَانِمِائَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إلَّا فِي مِائَتَيْنِ.

وَلَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ فَعَجَّلَ عَنْ الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الْحَوْلِ دِينَارَيْنِ وَنِصْفًا ثُمَّ ضَاعَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ وَحَالَ عَلَى الدَّرَاهِمِ جَازَ مَا عَجَّلَ عَنْ الدَّرَاهِمِ إذَا كَانَ يُسَاوِي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَإِلَّا كَمَّلَ، وَكَذَا لَوْ عَجَّلَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ عَنْ الدَّرَاهِمِ ثُمَّ هَلَكَتْ جَازَ عَنْ الدَّنَانِيرِ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَهْلَكْ أَحَدُهُمَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ فَالْمَالُ الَّذِي عَجَّلَ عَنْهُ كَانَ الْمُعَجَّلُ عَنْ الْمَالَيْنِ إلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا فِي الْبِيضِ وَالسُّودِ.

وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي النَّقْدَيْنِ بِدَلِيلِ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ لِيَكْمُلَ النِّصَابُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَعَجَّلَ شَاةً عَنْ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ ثُمَّ هَلَكَ لَا يَكُونُ عَنْ الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَيْنٌ وَدَيْنٌ فَعَجَّلَ عَنْ الْعَيْنِ فَهَلَكَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ جَازَ عَنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ هَلَكَتْ بَعْدَهُ لَا يَقَعُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 207

‌بَابُ زَكَاةِ الْمَالِ

‌فَصْلٌ فِي الْفِضَّةِ

(لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا (فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ) «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام

بَابُ زَكَاةِ الْمَالِ)

مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا زَكَاةُ مَالٍ إلَّا أَنَّ فِي عُرْفِنَا يَتَبَادَرُ مِنْ اسْمِ الْمَالِ النَّقْدُ وَالْعُرُوضُ، وَقَدَّمَ الْفِضَّةَ عَلَى الذَّهَبِ اقْتِدَاءً بِكُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ») أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَخْذًا مِنْ تَقْدِيرِ أَصْدِقَةِ أَزْوَاجِهِ عليه الصلاة والسلام " قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةٍ، قَالَ أَبُو مَسْلَمَةَ: قُلْت مَا النَّشُّ؟ قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ ".

رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِيثِ، وَشَاهِدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفِضَّةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقٍ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا» مُخْتَصَرٌ وَفِيهِ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ أَبُو فَرْوَةَ: ضُعِّفَ، وَالْأُوقِيَّةُ أُفْعُولَةٌ فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ زَائِدَةً، وَهِيَ مِنْ الْوِقَايَةِ لِأَنَّهَا تَقِي صَاحِبَهَا الْحَاجَةَ.

وَقِيلَ هِيَ فَعِيلَةٌ فَالْهَمْزَةُ أَصْلِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ الْأَوْقِ وَهُوَ الثِّقَلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ إلَّا الْأَوَّلَ قَالَ: وَهَمْزَتُهَا زَائِدَةٌ وَيُشَدَّدُ الْجَمْعُ وَيُخَفَّفُ مِثْلُ أُثْفِيَّةٍ وَأَثَافِيَّ وَأَثَافٍ، وَرُبَّمَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ وَقِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ

(قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَخْ) سَوَاءٌ كَانَتْ

ص: 208

كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنْ خُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ نِصْفَ مِثْقَالٍ». قَالَ (وَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ عَلِيِّ «وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِهِ» وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَاشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لَتَحَقُّق الْغِنَى وَبَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا»

مَصْكُوكَةً أَوْ لَا، وَكَذَا عَشَرَةُ الْمَهْرِ، وَفِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ نِصَابًا مَصْكُوكًا مِنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ لُزُومَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقَوُّمِ، وَالْعُرْفُ أَنْ يُقَوَّمَ بِالْمَصْكُوكِ، وَكَذَا نِصَابُ السَّرِقَةِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ (قَوْلُهُ كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ) اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ، وَإِنَّمَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا، وَمِنْ كُلٍّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَبِيبٍ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالْمُدَّعِي فَإِنَّ أَحَادِيثَ أَخْذِ رُبْعِ الْعُشْرِ مِنْ الرِّقَةِ مُفَسِّرَةٌ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ (قَوْلُهُ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ) فَفِي الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَمِمَّا يُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ مَضَى عَلَيْهَا عَامَانِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَعِنْدَهُمَا خَمْسَةٌ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَثُمُنٌ فَيَبْقَى السَّالِمُ مِنْ الدَّيْنِ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِائَتَانِ إلَّا ثُمُنَ دِرْهَمٍ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَعِنْدَهُ لَا زَكَاةَ فِي الْكُسُورِ فَيَبْقَى السَّالِمُ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةٌ أُخْرَى.

(قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ) تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي زَكَاةِ الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَفِي أَوَّلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَوْلِ (قَوْلُهُ وَبَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّهُ قَدْ عُفِيَ بَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ أَعْدَادٌ فَقَالَ ذَلِكَ فِيهَا تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ، أَيْ إيجَابِ الشِّقْصِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ عَلَى الْمُلَّاكِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ هُنَا (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا»

ص: 209

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ، وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ،

وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالْمِنْهَالِ بْنِ الْجَرَّاحِ. وَأَمَّا مَا نَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ إلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ: رَوَى أَبُو أُوَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ جَدِّهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْحَدِيثَ، وَذَكَرَ فِي الْفِضَّةِ فِيهِ «لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» وَلَمْ يَعْزُهُ عَبْدُ الْحَقِّ لِكِتَابٍ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِهِ، وَالْمَوْجُودُ فِي كِتَابِ ابْنِ حَزْمٍ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمْ «وَفِي كُلِّ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ " فَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ " وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» .

فَقَوْلُهُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ فَيُفِيدُ هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الْمَفْعُولِ فَتَكُونُ قَيْدًا فِي عَامِلِهِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِعْطَاءِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: قُصَارَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلنَّفْيِ عَمَّا دُونَهَا إلَّا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ عِنْدَنَا أَوْ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ مُتَعَرِّضٌ لِإِيجَابِهِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَفْهُومُ كَانَ الْمَنْطُوقُ مُقَدَّمًا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، خُصُوصًا وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ. فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ إثْبَاتُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ

ص: 210

وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، بِذَلِكَ جَرَى التَّقْدِيرُ فِي دِيوَانِ عُمَرَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ

حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَأَثَرِ عُمَرَ فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ أَنَّ تَمَامَ حُكْمِ مَا زَادَ أَنْ يَجِبَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ فَلَا يَكُونُ مِنْ حُكْمِ مَا زَادَ خِلَافُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِحُكْمِ مَا زَادَ بَلْ لِبَعْضِهِ فَإِنْ قِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى إرَادَةِ مَا زَادَ مِنْ الْأَرْبَعِينَاتِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ.

قُلْنَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مِثْلِهِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ بِأَنْ يُحْمَلَ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ: أَيْ مَا زَادَ مِنْ الْأَرْبَعِينَاتِ فَبِحِسَابِ الْخَمْسَةِ فِي الْمِائَتَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دِرْهَمٌ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ الْحَمْلُ فِي مُعَارِضِ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ فَيَكُونُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ، وَظَنُّ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ نَهْيٌ فَيُقَدَّمُ غَلَطٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهْيُ الْمُصَدِّقِ، وَكَلَامُنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ أَنْ يُعْطِيَ بَلْ الْوَاقِعُ فِي حَقِّهِ تَعَارُضُ السُّقُوطِ وَالْوُجُوبِ.

قُلْنَا: ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَلْزُومًا لِلْحَرَجِ الْعَظِيمِ وَالتَّعَذُّرِ فِي بَعْضِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَجَبَ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِهِمَا خَمْسَةٌ وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٍ وَزَكَاةَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ، وَلِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِقِيَاسِ الزَّكَوَاتِ لِأَنَّهَا تَدُورُ بِعَفْوٍ وَنِصَابٍ (قَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدِّرْهَمِ إلَخْ) هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي الزَّكَاةِ وَنِصَابِ الصَّدَقَةِ وَالْمَهْرِ وَتَقْدِيرِ الدِّيَاتِ، وَإِذْ قَدْ أُخِذَ الْمِثْقَالُ فِي تَعْرِيفِ الدِّرْهَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِيهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي صَدَقَةِ الذَّهَبِ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَزَلْ الْمِثْقَالُ فِي آبَادِ الدَّهْرِ مَحْدُودًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَكَلَامُ السَّجَاوَنْدِيِّ فِي كِتَابِ قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ خِلَافُهُ، قَالَ الدِّينَارُ: بِسَنْجَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ عِشْرُونَ قِيرَاطًا وَالْقِيرَاطُ خَمْسَةُ شَعِيرَاتٍ، فَالدِّينَارُ عِنْدَهُمْ مِائَةُ شَعِيرَةٍ وَعِنْدَ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ شَعِيرَةً، فَيَكُونُ الْقِيرَاطُ عِنْدَهُمْ طَسُّوجًا وَخُمُسَهُ. وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا فِي تَحْدِيدِ الدِّينَارِ مُطْلَقًا فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الدِّينَارَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ وَالدَّانِقُ أَرْبَعُ طَسُّوجَاتٍ وَالطَّسُّوجُ حَبَّتَانِ وَالْحَبَّةُ شَعِيرَتَانِ وَالشَّعِيرَةُ سِتَّةُ خَرَادِلَ وَالْخَرْدَلَةُ اثْنَا عَشَرَ فَلْسًا وَالْفَلْسُ سِتُّ فَتِيلَاتٍ وَالْفَتِيلُ سِتُّ نَقِيرَاتٍ

ص: 211

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَالنَّقِيرُ ثَمَانُ قِطْمِيرَاتٍ وَالْقِطْمِيرَةُ اثْنَتَا عَشْرَةَ ذَرَّةً انْتَهَى.

فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْخَرَادِلِ أَوْ الشَّعِيرَةِ الْمَعْرُوفُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ وَهُوَ تَعْرِيفُ الدِّينَارِ عَلَى عُرْفِ سَمَرْقَنْدَ، وَتَعْرِيفُ دِينَارِ الْحِجَازِ هُوَ الْمَقْصُودُ إذْ الْحُكْمُ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ» لَفْظُ النَّسَائِيّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ وَوَثَّقَهُ

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ لَهُمْ فِيهِ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ فَلَمْ يَحْصُلْ مِمَّا ذَكَرَهُ تَحْدِيدٌ وَلَا تَمْيِيزٌ عِنْدَ الْعَقْلِ لِأَنَّ الذَّرَّةَ حِينَئِذٍ هِيَ مَبْدَأُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ وَلَا يُعْرَفُ شَخْصُهَا، وَقَدْ لَا يُقَدَّرُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا لَوْ عُرِفَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْدِيرُ كَمِّيَّةِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ ثَابِتٍ، وَالتَّوَصُّلُ إلَى ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ مَقْصُودٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ اقْتَصَرَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ فِي إفَادَةِ التَّقْدِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوَسَطَ بَيْنَ الشَّعِيرَاتِ الْمَعْرُوفَةِ وَإِلَّا يَكُونُ تَجْهِيلًا

وَلَوْ انْتَهَى إلَى الْخَرْدَلِ كَانَ حَسَنًا إذْ لَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ وَكَذَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الدِّينَارِ وَالْمِثْقَالِ مُتَرَادِفَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِثْقَالَ اسْمٌ لِلْمِقْدَارِ الْمُقَدَّرِ بِهِ وَالدِّينَارُ اسْمٌ لِلْمُقَدَّرِ بِهِ بِقَيْدِ ذَهَبِيَّتِهِ، وَإِذْ قَدْ عَرَفْت هَذَا فَقَالُوا: كَانَتْ الدَّرَاهِمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ عَشَرَةِ مَثَاقِيلَ، وَصِنْفٌ كُلِّ عَشَرَةٍ وَزْنُ خَمْسَةٍ، وَصِنْفٌ كُلُّ عَشَرَةٍ بِوَزْنِ سِتَّةٍ، فَلَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ، وَقِيلَ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ بِالصِّنْفِ الْأَوَّلِ فَالْتَمَسُوا التَّخْفِيفَ، فَجَمَعَ حِسَابَ زَمَانِهِ فَأَخْرَجُوا عَشَرَةً وَزْنَ سَبْعَةٍ

وَقِيلَ أَخَذَ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ كُلِّ صِنْفٍ دِرْهَمًا فَخَلَطَهُ فَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مُتَسَاوِيَةً فَخَرَجَ الدِّرْهَمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ فَبَقِيَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ كَوْنَ الدَّرَاهِمِ بِهَذِهِ الزِّنَةِ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي زَمَانِهِ عليه الصلاة والسلام وَتَقْدِيرِهِ لَهَا وَاقْتِضَاءِ عُمَّالِهِ إيَّاهَا خَمْسَةً مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ

فَإِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي زَمَانِهِ الصِّنْفَ الْأَعْلَى لَمْ يَجُزْ النَّقْصُ، وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ لَمْ يَجُزْ تَعْيِينُ هَذِهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْمُقَدَّرِ تُوجِبُ نَفْيَ الْوُجُوبِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَتَحَقَّقُ فِي مِائَتَيْنِ وَزْنُ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ، فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ مَا لَمْ تَبْلُغْ وَزْنُ مِائَتَيْنِ وَزْنَ سَبْعَةٍ مَلْزُومٌ لِمَا ذَكَرْنَا.

وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّ أَيُّهَا وُجِدَ كَانُوا يُزَكُّونَهُ قَالَ: كَانَتْ الدَّرَاهِمُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كِبَارًا وَصِغَارًا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَرَادُوا ضَرْبَ الدَّرَاهِمِ وَكَانُوا يُزَكُّونَهَا مِنْ النَّوْعَيْنِ فَنَظَرُوا إلَى الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ فَإِذَا هُوَ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ وَإِلَى الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ فَإِذَا هُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ، فَوَضَعُوا زِيَادَةَ الْكَبِيرِ عَلَى نُقْصَانِ الصَّغِيرِ فَجَعَلُوهَا دِرْهَمَيْنِ سَوَاءً كُلُّ وَاحِدٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، ثُمَّ اُعْتُبِرُوهَا بِالْمَثَاقِيلِ، وَلَمْ يَزَلْ الْمِثْقَالُ فِي آبَادِ الدَّهْرِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَوَجَدُوهَا عَشَرَةً مِنْ هَذِهِ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ انْتَهَى.

وَإِنَّمَا سُقْنَا بَقِيَّةَ كَلَامِهِ لِيَظْهَرَ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَيَقْتَضِي أَنَّ النِّصَابَ يَنْعَقِدُ مِنْ الصِّغَارِ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَفَاوُتِ الدَّرَاهِمِ صِغَرًا وَكِبَرًا فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِالضَّرُورَةِ تَكُونُ الْأُوقِيَّةُ مُخْتَلِفَةً أَيْضًا بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَقَدْ «أَوْجَبَ عليه الصلاة والسلام فِي

ص: 212

(وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْفِضَّةَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْغِشُّ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعُرُوضِ يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا) لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إلَّا بِهِ وَتَخْلُو عَنْ الْكَثِيرِ، فَجَعَلْنَا الْغَلَبَةَ فَاصِلَةً وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الصَّرْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إلَّا أَنَّ فِي غَالِبِ الْغِشِّ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ التِّجَارَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ، إلَّا إذَا كَانَ تَخْلُصُ مِنْهَا فِضَّةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي عَيْنِ الْفِضَّةِ الْقِيمَةُ وَلَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ.

خَمْسِ أَوَاقٍ الزَّكَاة» مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِصِنْفِ، فَإِذَا صَدَقَ عَلَى الصَّغِيرَةِ خَمْسُ أَوَاقٍ وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ بِالنَّصِّ، وَيُؤَيِّدُهُ نَقْلُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُزَكُّونَ النَّوْعَيْنِ، وَعَنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ دَرَاهِمُهُمْ.

ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ، إلَّا أَنِّي أَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا إذَا كَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ لَا تَنْقُصُ عَنْ أَقَلِّ مَا كَانَ وَزْنًا فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام وَهِيَ مَا تَكُونُ الْعَشَرَةُ وَزْنَ خَمْسَةٍ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا قُدِّرَ النِّصَابُ بِمِائَتَيْنِ مِنْهَا حَتَّى لَا تَجِبَ فِي مِائَتَيْ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَسْعُودِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِمَكَّةَ مَثَلًا وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ قَوْمٍ، وَكَأَنَّهُ أَعْمَلَ إطْلَاقَ الدَّرَاهِمِ وَالْأَوَاقِي فِي الْمَوْجُودِ وَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَيُسْتَحْدَثَ، وَنَحْنُ أَعْمَلْنَاهُ فِي الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْكَلَامِ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ الثَّابِتُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَرَاهِمُ إلَّا كَبِيرَةٌ كَوَزْنِ سَبْعَةٍ فَالِاحْتِيَاطُ عَلَى هَذَا أَنْ تُزَكَّى، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ إذَا بَلَغَ ذَلِكَ الْأَقَلُّ قَدْرَ نِصَابٍ هُوَ وَزْنُ خَمْسَةٍ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّرَاهِمُ إلَّا وَزْنَ عَشْرَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ وَجَبَ الزَّكَاةُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ مِنْهَا بِحِسَابِ وَزْنِ السَّبْعَةِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْغَايَةِ: دَرَاهِمُ مِصْرَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ حَبَّةً، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ دِرْهَمِ الزَّكَاةِ فَالنِّصَابُ مِنْهُ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ وَحَبَّتَانِ انْتَهَى.

فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ دِرْهَمَ الزَّكَاةِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا بِمَا هُوَ وَزْنُ سَبْعَةٍ بَلْ بِأَقَلَّ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَقَلُّ فِي الدَّرَاهِمِ الْكَبِيرَةِ فَتُزَكَّى إذَا بَلَغَتْ قَدْرَ مِائَتَيْنِ مِنْ الصِّغَارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ مَا ذُكِرَ فِي الْغَايَةِ مِنْ دَرَاهِمِ مِصْرَ فِيهِ نَظَرٌ عَلَى مَا اعْتَبَرُوهُ فِي دِرْهَمِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْحَبَّةِ الشَّعِيرَةَ فَدِرْهَمُ الزَّكَاةِ سَبْعُونَ شَعِيرَةً إذْ كَانَ الْعَشَرَةُ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَالْمِثْقَالُ مِائَةَ شَعِيرَةٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَهُوَ إذًا أَصْغَرُ لَا أَكْبَرُ

وَإِنْ أَرَادَ بِالْحَبَّةِ أَنَّهُ شَعِيرَتَانِ كَمَا وَقَعَ تَفْسِيرُهَا فِي تَعْرِيفِ السَّجَاوَنْدِيِّ الطَّوِيلِ فَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، إذْ الْوَاقِعُ أَنَّ دِرْهَمَ مِصْرَ لَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ شَعِيرَةً لِأَنَّ كُلَّ رُبْعٍ مِنْهُ مُقَدَّرٌ بِأَرْبَعِ خَرَانِيبَ وَالْخُرْنُوبَةُ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِ قَمْحَاتٍ وَسَطٍ (قَوْلُهُ فَهُوَ فِضَّةٌ) أَيْ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَأَنَّهُ كُلَّهُ فِضَّةٌ لَا زَكَاةَ الْعُرُوضِ وَلَوْ كَانَ أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْغِشُّ غَالِبًا، فَإِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا فِضَّةً تَبْلُغُ نِصَابًا وَحْدَهَا أَوْ لَا تَبْلُغُ، لَكِنْ عِنْدَهُ مَا يَضُمُّهُ

ص: 213

‌فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ

(لَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ. فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ) لِمَا رَوَيْنَا

إلَيْهَا فَيَبْلُغُ نِصَابًا وَجَبَ فِيهَا لِأَنَّ عَيْنَ النَّقْدَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ وَلَا الْقِيمَةُ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْفِضَّةَ هَلَكَتْ فِيهِ، إذْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهَا لَا حَالًا وَلَا مَآلًا فَبَقِيَ الْعِبْرَةُ لِلْغِشِّ. وَهِيَ عُرُوضٌ يُشْتَرَطُ فِي الْوُجُوبِ فِيهَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الذَّهَبُ الْمَغْشُوشُ.

وَإِذَا اسْتَوَى الْغِشُّ فِيهِمَا قِيلَ تَجِبُ فِيهِ احْتِيَاطًا وَقِيلَ لَا تَجِبُ وَقِيلَ يَجِبُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ. كَذَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْوُجُوبِ أَنَّهُ تَجِبُ فِي الْكُلِّ الزَّكَاةُ. فَفِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ كَأَنَّهَا كُلَّهَا فِضَّةٌ. أَلَا تَرَى إلَى تَعْلِيلِهِ بِالِاحْتِيَاطِ، وَقَوْلُ النَّفْيِ مَعْنَاهُ لَا تَجِبُ كَذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَخْلُصَ وَعِنْدَهُ مَا يَضُمُّهُ إلَيْهِ فَيَخُصُّهُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ. وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَانِ؛ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ. فَحِكَايَةُ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ غَيْرُ وَاقِعٍ.

وَالذَّهَبُ الْمَخْلُوطُ بِالْفِضَّةِ إنْ بَلَغَ الذَّهَبُ نِصَابًا فَفِيهِ زَكَاةُ الذَّهَبِ وَإِنْ بَلَغَتْ الْفِضَّةُ نِصَابَهَا فَزَكَاةُ الْفِضَّةِ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْفِضَّةِ، أَمَّا إنْ كَانَتْ مَغْلُوبَةً فَهُوَ كُلُّهُ ذَهَبٌ لِأَنَّهُ أَعَزُّ وَأَغْلَى قِيمَةً. كَذَا ذَكَرَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ)

(قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي حَدِيثَ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِضَّةِ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالدَّعْوَى فَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الذَّهَبِ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا» . وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ شَيْءٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ شَيْءٌ، وَفِي الْمِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا نِصْفُ مِثْقَالٍ» وَفِيهِ الْعَزْرَمِيُّ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي فَصْلِ الْإِبِلِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ» وَهُوَ حَدِيثٌ لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ

ص: 214

وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ (ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ صَدَقَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ، وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ مَثَاقِيلَ فِي هَذَا كَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.

قَالَ (وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَحُلِيِّهِمَا وَأَوَانِيهِمَا الزَّكَاةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَشَابَهُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ.

(قَوْلُهُ وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ إلَخْ) قِيلَ هُوَ دَوْرٌ لِأَنَّهُ أَخَذَ كُلًّا مِنْ الْمِثْقَالِ وَالدِّرْهَمِ فِي تَعْرِيفٍ آخَرَ فَتَوَقَّفَ تَصَوُّرُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى تَصَوُّرِ الْآخَرِ. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا تَعْرِيفًا لِأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمِثْقَالَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي تَدَاوَلَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ مِثْقَالًا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَعْرِيفِهِ كَمَا لَا يُعَرَّفُ مَا هُوَ بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ إذْ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةٍ إنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ بِالْمِثْقَالِ غَيْرَ الْمَذْكُورِ فِي تَعْرِيفِ الدِّرْهَمِ، فَحَاصِلُ كَلَامِهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمِثْقَالِ ذَاكَ الَّذِي تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ لَا شَيْءٌ آخَرُ، وَهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْسَنُ مِمَّا حَاوَلَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الدَّفْعِ مِمَّا لَوْ أَوْرَدْته أَدَّى إلَى طُولٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.

(قَوْلُهُ وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ) أَيْ مُقَوَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةٍ كَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا مَلَكَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَقَدْ مَلَكَ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ فِيهِ عَلَى نِيَّةِ التِّجَارَةِ فَيَجِبُ فِيهِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَهُوَ قِيرَاطَانِ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الدِّينَارِ عِشْرِينَ قِيرَاطًا، فَلَا يَرُدُّ مَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ (قَوْلُهُ وَحُلِيِّهِمَا) سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ لَا حَتَّى يَجِبَ أَنْ يُضَمَّ الْخَاتَمُ مِنْ الْفِضَّةِ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفُ وَكُلُّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ (قَوْلُهُ فَشَابَهُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ) حَاصِلُهُ قِيَاسُ الْحُلِيِّ بِثِيَابِ الْبِذْلَةِ بِجَامِعِ الِابْتِذَالِ فِي مُبَاحٍ وَدَفَعَهُ اعْتِبَارُ مَا عَيَّنَهُ مَانِعًا مِنْ الْوُجُوبِ فِي الْفَرْعِ، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَانِعِيَّتَهُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُودَ السَّبَبِ بِمَنْعِ جُزْئِهِ: أَعْنِي النَّمَاءَ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِأَمْرٍ آخَرَ، وَمَنْعُهُ ذَلِكَ فِي النَّقْدَيْنِ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا لِيُتَوَصَّلَ بِهِمَا إلَى الْإِبْدَالِ، وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِنْمَاءِ فَقَدْ خُلِقَا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَلَمْ يُخْرِجْهُمَا الِابْتِذَالُ عَنْ ذَلِكَ، فَالنَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ حَاصِلٌ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ تَوَقُّفِ الْوُجُوبِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِذَا انْتَفَتْ مَانِعِيَّتَهُ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ الْمَنْقُولَاتُ مِنْ الْعُمُومَاتِ وَالْخُصُوصَاتِ تُصَرِّحُ بِهِ.

فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «هَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ. وَمِنْ الْخُصُوصَاتِ

ص: 215

وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً، وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الثِّيَابِ.

مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ «امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِي يَدِ بِنْتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُمَا: أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ قَالَتْ لَا، قَالَ: أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارًا مِنْ نَارٍ؟ قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» قَالَ أَبُو الْحَسَنُ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، إسْنَادُهُ لَا مَقَالَ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ رَجُلًا رَجُلًا.

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ أَتَتْ امْرَأَتَانِ فَسَاقَهُ، وَفِيهِ «أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّر كَمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ قَالَتَا لَا، قَالَ: فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ» وَتَضْعِيفُ التِّرْمِذِيِّ وَقَوْلُهُ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ مُؤَوَّلٌ وَإِلَّا فَخَطَأٌ.

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لَعَلَّ التِّرْمِذِيَّ قَصَدَ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا وَإِلَّا فَطَرِيقُ أَبِي دَاوُد لَا مَقَالَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ تَصْحِيحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد: وَإِنَّمَا ضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّ عِنْدَهُ فِيهِ ضَعِيفَيْنِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ.

وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ «دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتِ وَرِقٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ فَقُلْتُ: صُغْتُهُنَّ لِأَتَزَيَّنَ لَك بِهِنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: هُنَّ حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ» وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَطَاءٍ مَجْهُولٌ، وَتَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَحَدُ الثِّقَاتِ، وَلَكِنْ لَمَّا نُسِبَ فِي سَنَدِ الدَّارَقُطْنِيِّ إلَى جَدِّهِ ظَنَّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد بَيَّنَهُ شَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيّ وَهُوَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ إمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ.

وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ «كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ ثَابِتٍ بِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُهُ «إذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ ثَابِتُ بْنُ عَجْلَانَ. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: وَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ ثَابِتَ بْنَ عَجْلَانَ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ.

وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ. وَمِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَنَسَبَهُ فِي ذَلِكَ إلَى التَّحَامُلِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى الثِّقَاتِ. قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ فِيهِ: هَذَا وَهْمٌ قَبِيحٌ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُهَاجِرِ الْكَذَّابَ لَيْسَ هُوَ هَذَا، فَهَذَا الَّذِي يَرْوِي عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ ثِقَةٌ شَامِيٌّ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَدُحَيْمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ.

وَعَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَرَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ مُتَابَعَةً.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، إنَّمَا يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَّا الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ فَمَوْقُوفَاتٌ وَمُعَارَضَاتٌ بِمِثْلِهَا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنهما: أَنْ مُرْ مَنْ قِبَلَك مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ وَلَا يَجْعَلْنَ الزِّيَادَةَ وَالْهَدِيَّةَ

ص: 216

‌فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ

بَيْنَهُنَّ تَقَارُضًا.

رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ إلَى خَازِنِهِ سَالِمٍ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حُلِيِّ بَنَاتِهِ كُلَّ سَنَةٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةُ. زَادَ ابْنُ شَدَّادٍ: حَتَّى فِي الْخَاتَمِ.

وَأَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الزَّكَاةَ. وَفِي الْمَطْلُوبِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَرْفُوعَةٌ غَيْرَ أَنَّا اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى مَا لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ الْمُخَالِفِينَ مِمَّا يَنْبَغِي صَوْنُ النَّفْسِ عَنْ أَخْطَارِهَا وَالِالْتِفَاتِ إلَيْهَا. وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَا يُصَرِّحُ بِرَدِّهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يُعَكِّرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَلِي بَنَاتِ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ، وَعَائِشَةُ رَاوِيَةُ حَدِيثِ الْفَتَخَاتِ، وَعَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنْسُوخًا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلنَّسْخِ عِنْدَنَا هُوَ إذَا لَمْ يُعَارِضْ مُقْتَضَى النَّسْخِ مُعَارِضٌ يَقْتَضِي عَدَمَهُ، وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا فَإِنَّ كِتَابَةَ عُمَرَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ، وَكَذَا مَنْ ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ. فَإِذَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي النَّسْخِ، وَالثُّبُوتُ مُتَحَقِّقٌ لَا يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ هَذَا كُلُّهُ عَلَى رَأَيْنَا. وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الْخَصْمِ فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ أَصْلًا، إذْ قُصَارَى فِعْلِ عَائِشَةَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَارَضًا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَعَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِمَا رَوَى لَا لِمَا رَأَى عِنْدَهُ. وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا لَمْ تُؤَدِّ مِنْ حُلِيِّهِنَّ لِأَنَّهُنَّ يَتَامَى، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّ مَذْهَبَهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَلِذَا عَدَلْنَا فِي الْجَوَابِ إلَى مَا سَمِعْت، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

هَذَا وَيُعْتَبَرُ فِي الْمُؤَدَّى الْوَزْنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْخَيْرِيَّةُ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْقِيمَةُ، فَلَوْ أَدَّى عَنْ خَمْسَةٍ جِيَادٍ خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكُرِهَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَيُؤَدَّى الْفَضْلُ، وَلَوْ أَدَّى أَرْبَعَةً جَيِّدَةً عَنْ خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ لِاعْتِبَارِ مُحَمَّدٍ الْخَيْرِيَّةَ وَاعْتِبَارِهِمَا الْقَدْرَ، وَيَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ لِلْقِيمَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ)

الْعُرُوض جَمْعُ عَرَضٍ بِفَتْحَتَيْنِ: حُطَامُ الدُّنْيَا، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالصِّحَاحِ. وَالْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ الْمَتَاعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ عَرْضٌ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعُرُوض الْأَمْتِعَةُ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا كَيْلٌ وَلَا وَزْنٌ وَلَا يَكُونُ حَيَوَانًا وَلَا عَقَارًا، فَعَلَى هَذَا جَعْلُهَا هُنَا جَمْعَ عَرْضٍ بِالسُّكُونِ أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ النَّقْدَيْنِ وَالْحَيَوَانَاتِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ (قَوْلُهُ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالْحَيَوَانِ مَمْنُوعٌ) بَلْ فِي بَيَانِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ حَيَوَانًا

ص: 217

(الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا مِنْ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهَا «يُقَوِّمُهَا فَيُؤَدِّي مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ» ، وَلِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ بِإِعْدَادِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْمُعَدَّ بِإِعْدَادِ الشَّرْعِ، وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لِيَثْبُتَ الْإِعْدَادُ، قَالَ

أَوْ غَيْرَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ السَّائِمَةَ الْمَنْوِيَّةَ لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْإِبِلِ أَوْ لَا كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، فَالصَّوَابُ اعْتِبَارُهَا هُنَا جَمْعَ عَرْضٍ بِالسُّكُونِ عَلَى تَفْسِيرِ الصِّحَاحِ فَتَخْرُجُ النُّقُودُ فَقَطْ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَإِيَّاهُ عَنَى فِي النِّهَايَةِ بِقَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ إخْرَاجَ الْحَيَوَانِ (قَوْلُهُ كَائِنَةً مَا كَانَتْ) كَائِنَةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَلَفْظُ مَا مَوْصُولٌ خَبَرُهَا وَاسْمُهَا الْمُسْتَتِرُ فِيهَا الرَّاجِعُ إلَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَكَانَتْ صِلَةُ مَا وَاسْمُهَا الْمُسْتَتِرُ الرَّاجِعُ إلَى الْعُرُوضِ أَيْضًا، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمَنْصُوبُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ تَقْدِيرُهُ كَائِنَةً أَوْ كَانَتْ إيَّاهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَوْلَى فِي هَذَا الضَّمِيرِ مِنْ وَصْلِهِ أَوْ فَصْلِهِ، وَالْمَعْنَى: كَائِنَةً الَّذِي كَانَتْ إيَّاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ، وَاَلَّذِي عَامٌّ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: كَائِنَةً أَيَّ شَيْءٍ كَانَتْ إيَّاهُ. (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " يُقَوِّمُهَا " إلَخْ) غَرِيبٌ

وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ، فَمِنْ الْمَرْفُوعَةِ: مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ» اهـ. سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ، وَهَذَا تَحْسِينٌ مِنْهُمَا، وَصَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ إسْنَادَهُ حَسَنٌ، وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاقِعُ فِي سَنَدِهِ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَلَا يُعْلَمُ رَوَى عَنْهُ إلَّا جَعْفَرُ بْنُ سَعْدٍ وَلَيْسَ جَعْفَرُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لَا يَخْرُجُ حَدِيثُهُ عَنْ الْحَسَنِ، فَإِنَّ نَفْيَ الشُّهْرَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْجَهَالَةِ وَلِذَلِكَ رَوَى هُوَ نَفْسُهُ حَدِيثَهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ «مَنْ كَتَمَ غَالًّا فَهُوَ مِثْلُهُ» عَنْ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَهَذَا تَصْحِيحٌ مِنْهُ، وَبِهَذَا تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. وَمِنْهَا فِي الْمُسْتَدْرِكِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ، وَمَنْ رَفَعَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يَعُدُّهَا لِغَرِيمٍ وَلَا يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَأَعَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ بِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْإِمَامِ فِي أَنَّهُ بِالزَّايِ أَوْ الرَّاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رَآهُ فِي أَصْلٍ مِنْ نُسَخِ الْمُسْتَدْرَكِ بِضَمِّ الْبَاءِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ، لَكِنْ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ أَنَّهُ بِالزَّايِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ صَحَّفَهُ بِالرَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ اهـ وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ «وَفِي الْبَزِّ صَدَقَةٌ» قَالَهَا بِالزَّايِ هَكَذَا مُصَرِّحًا فِي الرِّوَايَةِ غَيْرَ أَنَّهَا ضُعِّفَتْ (قَوْلُهُ وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً فَلَا يَصِيرُ لَهَا إلَّا بِقَصْدِهَا فِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ نِيَّةُ التِّجَارَةِ، فَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مَثَلًا لِلْخِدْمَةِ نَاوِيًا بَيْعَهُ إنْ وَجَدَ رِبْحًا لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الْخَرَاجُ لَا الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَتْ عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا حَكَى صَاحِبُ الْإِيضَاحِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْعُشْرُ وَالزَّكَاةُ، وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ فِي الْأَصْلِ تُعْتَبَرُ ثَابِتَةً فِي بَدَلِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَخْصُهَا فِيهِ،

ص: 218

(يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ) احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَيْنِ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ بِهِمَا سَوَاءٌ، وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا تَبْلُغُ نِصَابًا.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ

وَهُوَ مِمَّا يُلْغَزُ فَيُقَالُ عَرْضٌ اُشْتُرِيَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ تَقْوِيمُهُ وَزَكَاتُهُ وَهُوَ مَا قُوِّضَ بِهِ مَالُ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فِيهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ بِنِيَّةِ عَدَمِهَا، وَعَنْ هَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ فَقَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً وَدَفَعَ بِهِ يَكُونُ الْمَدْفُوعُ لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَصُولِحَ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْقِصَاصِ لَا الْمَقْتُولِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَلَيْنَا لَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ وَمِنْ الدِّيَةِ

وَلَوْ ابْتَاعَ مُضَارِبٌ عَبْدًا وَثَوْبًا لَهُ وَطَعَامًا وَحَمُولَةً وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ إلَّا لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ رَبِّ الْمَالِ حَيْثُ لَا يُزَكَّى الثَّوْبُ وَالْحَمُولَةُ: لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ، كَذَا فِي الْكَافِي، وَمَحْمَلُ عَدَمِ تَزْكِيَةِ الثَّوْبِ لِرَبِّ الْمَالِ مَا دَامَ لَمْ يَقْصِدْ بَيْعَهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ النَّخَّاسُ إذَا اشْتَرَى دَوَابَّ لِلْبَيْعِ وَاشْتَرَى لَهَا مَقَاوِدَ وَجِلَالًا، فَإِنْ كَانَ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ مَعَ الدَّابَّةِ إلَى الْمُشْتَرَى لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُهَا مَعَهَا وَجَبَ فِيهَا، وَكَذَا الْعَطَّارُ إذَا اشْتَرَى قَوَارِيرَ (قَوْلُهُ يُقَوِّمُهَا) أَيْ الْمَالِكُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ حَتَّى لَوْ كَانَ بَعَثَ عِنْدَ التِّجَارَةِ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى لِحَاجَةٍ فَحَالَ الْحَوْلُ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَلَوْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ الْأَمْصَارِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَكَذَا فِي الْفَتَاوَى.

ثُمَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ: إنَّهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْوُجُوبِ وَعِنْدَهُمَا يَوْمَ الْأَدَاءِ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمَا جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَهُ وِلَايَةُ مَنْعِهَا إلَى الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمَنْعِ كَمَا فِي مَنْعِ الْوَدِيعَةِ وَوَلَدِ الْمَغْصُوبِ، وَعِنْدَهُ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءً، وَلِذَا يُجْبَرُ الْمُصَدِّقُ عَلَى قَبُولِهَا فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ. وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ رُبْعَ عُشْرِ عَيْنِهِ فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ أَحَبَّ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ جَرَى الْخِلَافُ حِينَئِذٍ، وَكَذَا إذَا اُسْتُهْلِكَ ثُمَّ تَغَيَّرَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلٌ فِي الذِّمَّةِ فَصَارَ كَأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ، وَلَوْ كَانَ نُقْصَانُ السِّعْرِ لِنَقْصٍ فِي الْعَيْنِ بِأَنْ ابْتَلَّتْ الْحِنْطَةُ اُعْتُبِرَ يَوْمَ الْأَدَاءِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ هَلَاكُ بَعْضِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ، أَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ لِزِيَادَتِهَا اُعْتُبِرَ يَوْمَ الْوُجُوبِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا تُضَمُّ، نَظِيرُهُ، اعْوَرَّتْ أَمَةُ التِّجَارَةِ مَثَلًا بَعْدَ الْحَوْلِ فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ، أَوْ كَانَتْ عَوْرَاءَ فَانْجَلَى الْبَيَاضُ بَعْدَهُ فَازْدَادَتْ قِيمَتُهَا اُعْتُبِرَ يَوْمَ تَمَامِ الْحَوْلِ (قَوْلُهُ وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا بَلَغَ نِصَابًا) صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ وَأَقْوَالِ الصَّاحِبَيْنِ

ص: 219

يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَى إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ النُّقُودِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ النُّقُودِ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ (وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) لِأَنَّهُ يَشُقُّ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ لِلِانْعِقَادِ وَتَحَقُّقِ

فِي التَّقْوِيمِ أَنَّهُ بِالْأَنْفَعِ عَيْنًا أَوْ بِالتَّخْيِيرِ أَوْ بِمَا اشْتَرَى بِهِ إنْ كَانَ مِنْ النُّقُودِ وَإِلَّا فَبِالنَّقْدِ الْغَالِبِ أَوْ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ مُطْلَقًا. ثُمَّ فَسَّرَ الْأَنْفَعَ الَّذِي هُوَ أَحَدُهَا بِأَنْ يُقَوَّمَ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ إذَا قَوَّمَهَا بِأَحَدِهِمَا لَا تَبْلُغُ نِصَابًا وَالْآخَرُ تَبْلُغُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّقْوِيمُ بِمَا يَبْلُغُ فَأَفَادَ أَنَّ بَاقِيَ الْأَقْوَالِ يُخَالِفُ هَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا خِلَافَ فِي تَعَيُّنِ الْأَنْفَعِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ النِّهَايَةِ وَالْخُلَاصَةِ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي وَجْهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إنَّ الْمَالَ كَانَ فِي يَدِ الْمَالِكِ يَنْتَفِعُ بِهِ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ التَّقْوِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُقَوِّمُهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا فَإِنَّهُ يُقَوِّمُهُ بِمَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ بِالِاتِّفَاقِ فَهَذَا مِثْلُهُ انْتَهَى. وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: إنْ شَاءَ قَوَّمَهَا بِالذَّهَبِ وَإِنْ شَاءَ بِالْفِضَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقَوِّمُ بِمَا هُوَ الْأَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقَوِّمُ بِمَا اشْتَرَى، هَذَا إذَا كَانَ يَتِمُّ النِّصَابُ بِأَيِّهِمَا قُوِّمَ، فَلَوْ كَانَ يَتِمُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قُوِّمَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ نِصَابًا انْتَهَى. فَإِنَّمَا يُتَّجَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضَ الْمُرَادِ بِالْأَنْفَعِ، فَالْمَعْنَى يُقَوِّمُ الْمَالِكُ بِالْأَنْفَعِ مُطْلَقًا فَيَتَعَيَّنُ مَا يَبْلُغُ بِهِ نِصَابًا دُونَ مَا لَا يَبْلُغُ: فَإِنْ بَلَغَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَأَحَدُهُمَا أَرْوَجُ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ بِالْأَرْوَجِ، وَإِنْ اسْتَوَيَا رَوَاجًا حِينَئِذٍ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ الْكَافِي فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْأَنْفَعُ بِهَذَا الْمَعْنَى صَحَّ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَابِلَهُ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ مُطْلَقًا، وَالْقَوْلُ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَيَلْزَمُ التَّقْوِيمُ بِهِ أَوَّلًا فَبِالنَّقْدِ الْغَالِبِ، وَقَدْ يُقَالُ: عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَصِحُّ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَعْيِينِ مَا يَبْلُغُ بِهِ النِّصَابُ، لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ كَوْنِ النَّقْدِ أَرْوَجَ كَوْنُهُ أَغْلَبَ وَأَشْهَرَ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْمُطْلَقُ فِي الْبَيْعِ إلَيْهِ، وَلَا يُدْفَعُ إلَّا بِأَنَّ الْأَرْوَجَ مَا النَّاسُ لَهُ أَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَغْلَبَ: أَيْ أَكْثَرَ، وَيَكُونُ سُكُوتُهُ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا إلَيْهِ لِعَدَمِ خِلَافِهِ، هَذَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ، فَلِذَا أَفَادَتْ عِبَارَةُ الْخُلَاصَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْكَافِي أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَنْفَعِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ مِنْ التَّخْيِيرِ هُوَ مَا إذَا كَانَ التَّقْوِيمُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَتَفَاوَتُ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ) لِأَنَّهُ بَدَلُهُ وَلِلْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعُرْفَ صَلُحَ مُعِينًا وَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَقْدٍ مُطْلَقٍ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ، وَلِأَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ يُعْتَبَرُ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، وَمَتَى قَوَّمْنَا الْمَغْصُوبَ أَوْ الْمُسْتَهْلَكَ نُقَوِّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ كَذَا هَذَا (قَوْلُهُ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) حَتَّى لَوْ بَقِيَ

ص: 220

الْغِنَى وَفِي انْتِهَائِهِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالَةُ الْبَقَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ حَيْثُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ لِانْعِدَامِ النِّصَابِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ بَعْضَ النِّصَابِ بَاقٍ فَيَبْقَى الِانْعِقَادُ

قَالَ (وَتُضَمُّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَتِمَّ النِّصَابُ)

دِرْهَمٌ أَوْ فَلْسٌ مِنْ ثَمَّ اسْتَفَادَ قَبْلَ فَرَاغِ الْحَوْلِ حَتَّى تَمَّ عَلَى نِصَابٍ زَكَّاهُ، وَشَرَطَ زُفَرُ كَمَالَهُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي السَّوَائِمِ وَالنَّقْدَيْنِ وَفِي غَيْرِهِمَا اُعْتُبِرَ آخِرٌ فَقَطْ.

وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ السَّبَبَ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ وَهُوَ الَّذِي حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَهَذَا فَرْعُ بَقَاءِ اسْمِهِ فِي تَمَامِ الْحَوْلِ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ مَالَ التِّجَارَةِ لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ مِنْ إلْزَامِ التَّقْوِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاعْتِبَارِهَا فِيهِ. قُلْنَا: لَمْ يَرِدْ مِنْ لَفْظِ الشَّارِعِ السَّبَبُ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ بَلْ لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَبِظَاهِرِهِ نَقُولُ، وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ نَفْيَ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْحَوْلِ لَا نَفْيَ سَبَبِيَّةِ الْمَالِ قَبْلَهُ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى التَّرَاخِي وَانْتِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ، بَلْ قَدْ تَثْبُتُ السَّبَبِيَّةُ مَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِفَقْدِ شَرْطِ عَمَلِ السَّبَبِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَصْلُ الْوُجُوبِ مُؤَجَّلًا إلَى تَمَامِ الْحَوْلِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ انْعَقَدَ الْحَوْلُ حِينَئِذٍ وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ وَهُوَ النِّصَابُ، ثُمَّ الْحَاجَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى كَمَالِهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ لِيَنْزِلَ الْحُكْمُ الْآخَرُ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَكَمَالُهُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ وَصَارَ كَالْيَمِينِ بِطَلَاقِهَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْيَمِينِ لِيَنْعَقِدَ، وَعِنْدَ الشَّرْطِ فَقَطْ لِيَثْبُتَ الْجَزَاءُ لَا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ كُلُّهُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَجَعْلُ السَّائِمَةِ عَلُوفَةً كَهَلَاكِ الْكُلِّ لِوُرُودِ الْمُغَيِّرِ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، بِخِلَافِ النُّقْصَانِ فِي الذَّاتِ. وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا كَانَ لَهُ غَنَمٌ لِلتِّجَارَةِ تُسَاوِي نِصَابًا فَمَاتَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ فَسَلَخَهَا وَدَبَغَ جِلْدَهَا فَتَمَّ الْحَوْلُ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا.

وَلَوْ كَانَ لَهُ عَصِيرٌ لِلتِّجَارَةِ فَتَخَمَّرَ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ صَارَ خَلًّا يُسَاوِي نِصَابًا فَتَمَّ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، قَالُوا: لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ الصُّوفَ الَّذِي عَلَى الْجِلْدِ مُتَقَوِّمٌ فَيَبْقَى الْحَوْلُ بِبَقَائِهِ. وَالثَّانِي بَطَلَ تَقَوُّمُ الْكُلِّ بِالْخَمْرِيَّةِ فَهَلَكَ كُلُّ الْمَالِ انْتَهَى إلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ اشْتَرَى عَصِيرًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتَخَمَّرَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا مَضَتْ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا صَارَ خَلًّا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتَمَّتْ السُّنَّةُ كَانَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ عَادَ لِلتِّجَارَةِ كَمَا كَانَ

(قَوْلُهُ وَتُضَمُّ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا، وَكَذَا تُضَمُّ هِيَ إلَى النَّقْدَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالسَّوَائِمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ لَا تُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالنَّقْدَانِ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله.

ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ فِيهِمَا عَلَى مَا نَذْكُرُ ثُمَّ إنَّمَا يُضَمُّ الْمُسْتَفَادُ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَلَوْ أُخِّرَ الْأَدَاءُ فَاسْتَفَادَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يَضُمُّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَيَضُمُّ الدَّيْنَ إلَى الْعَيْنِ،

ص: 221

لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ الْإِعْدَادِ (وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ) لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا، ثُمَّ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، حَتَّى إنَّ مَنْ

فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَةٌ وَلَهُ دَيْنٌ مِائَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَقَوْلُهُ: كَمَا فِي السَّوَائِمِ إفَادَةٌ لِلْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِجَامِعِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَحُكْمًا بِدَلِيلِ عَدَمِ جَرَيَانِ رِبَا الْفَضْلِ بَيْنَهُمَا مَعَ كَوْنِ الرِّبَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فَاسْتَفَدْنَا عَدَمَ اعْتِبَارِ شُبْهَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ بَيْنَهُمَا، وَالِاتِّحَادُ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ لَا يُوجِبُ اتِّحَادَ الْجِنْسِ كَالرُّكُوبِ فِي الدَّوَابِّ، بِخِلَافِ ضَمِّ الْعُرُوضِ إلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ضَمُّ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ هُمَا فَالضَّمُّ لَمْ يَقَعْ إلَّا فِي النُّقُودِ. قُلْنَا: إنَّمَا كَانَا نِصَابَ الزَّكَاةِ بِسَبَبِ الثَّمَنِيَّةِ لِأَنَّهُ الْمُفِيدُ لِتَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ وَسَدِّ الْحَاجَاتِ لَا لِخُصُوصِ اللَّوْنِ أَوْ الْجَوْهَرِ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْغِنَى وَهُوَ السَّبَبُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ بِذَلِكَ لَا بِغَيْرِهِ وَقَدْ اتَّحَدَا فِيهِ فَكَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي حَقِّ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ الِاتِّحَادُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالتَّفَاضُلِ فِي الْبَيْعِ فَحَقِيقَةُ السَّبَبِ الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ بِكَذَا إذَا كَانَ بِصُورَةِ كَذَا وَبِكَذَا إذَا كَانَ بِصُورَةِ كَذَا، بِخِلَافِ الرُّكُوبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُحَقِّقَ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي السَّوَائِمِ، فَإِنَّ الْغِنَى لَمْ يَثْبُتْ بِاعْتِبَارِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَنَافِعَ شَتَّى تَسْتَدُّ بِهَا الْحَاجَاتُ أَعْظَمُهَا مَنْفَعَةً الْأَكْلُ الَّتِي بِهَا يُقَوَّمُ ذَاتُ الْمُنْتَفَعِ وَنَفْسُهُ، ثُمَّ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُنَا عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُضَمَّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَحُكْمُ مِثْلِ هَذَا الرَّفْعُ

(قَوْلُهُ وَعِنْدَهُمَا بِالْإِجْزَاءِ) بِأَنْ يُعْتَبَرَ تَكَامُلُ أَجْزَاءِ النِّصَابِ مِنْ الرُّبْعِ وَالنِّصْفِ وَبَاقِيهَا، فَإِذَا كَانَ مِنْ الذَّهَبِ عَشَرَةٌ يُعْتَبَرُ مَعَهُ نِصْفُ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَهُوَ مِائَةٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ تَبْلُغُ مِائَةً لَا زَكَاةَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْمِائَةَ نِصْفُ نِصَابٍ وَالْخَمْسَةَ رُبْعُ نِصَابٍ، فَالْحَاصِلُ أَجْزَاءُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصَابٍ وَعِنْدَهُ تَجِبُ لِأَنَّ الْحَاصِلَ تَمَامُ نِصَابِ الْفِضَّةِ مَعْنًى، ثُمَّ قَالَ فِي الْكَافِي: وَلَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ كَمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اُنْتُقِصَ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا تَزْدَادُ قِيمَةُ الْآخَرِ فَيُمْكِنُ تَكْمِيلُ مَا يُنْتَقَصُ قِيمَتُهُ بِمَا زَادَ انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُؤَدَّى الضَّابِطِ أَنَّ عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ أَصْلًا لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَجِبَ خَمْسَةٌ فِي مِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَشَرَةِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ أَوْ أَكْثَرَ كَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ.

وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يُلَاقِي الضَّابِطَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ اعْتِبَارِ قِيمَةِ

ص: 222

كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، هُمَا يَقُولَانِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْقَدْرُ دُونَ الْقِيمَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَصُوغٍ وَزْنُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ فَوْقَهَا، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الضَّمَّ لِلْمُجَانَسَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ دُونَ الصُّورَةِ فَيُضَمُّ بِهَا.

‌بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ

مَا زَادَ عِنْدَ انْتِقَاصِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ دَفْعًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ لَا تُسَاوِي مِائَةً لَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْقِيمَةَ، وَعَلَى اعْتِبَارِهَا لَا يَتِمُّ النِّصَابُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَدُفِعَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ مُطْلَقِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ اعْتِبَارُ قِيمَةِ أَحَدِهِمَا عَيْنًا، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِاعْتِبَارِ تَقْوِيمِ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْعَشَرَةَ تُسَاوِي ثَمَانِينَ فَالْمِائَةُ مِنْ الْفِضَّةِ تُسَاوِي اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَنِصْفًا فَيَتِمُّ بِذَلِكَ مَعَ الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِينَارًا وَنِصْفٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ.

وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ مِنْ جِهَةِ كُلٍّ مِنْ النَّقْدَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا عَيْنًا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَةُ الْآخَرِ كَمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ تُسَاوِي مِائَةً وَثَمَانِينَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ سَبْعَةٌ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْكُورِ فِي دَلِيلِهِ مِنْ أَنَّ الضَّمَّ لَيْسَ إلَّا لِلْمُجَانَسَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ لَا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ فَيُضَمَّانِ بِالْقِيمَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَعَيُّنَ الضَّمِّ بِهَا مُطْلَقًا عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِلْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّا بِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَصُوغِ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ شَرْعًا هُوَ الْقَدْرُ فَقَطْ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيمَةَ فِيهِمَا إنَّمَا تَظْهَرُ إذَا قُوبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَوْ عِنْدَ الضَّمِّ لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ بِالْمُجَانَسَةِ وَهِيَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ انْفِرَادِ الْمَصُوغِ حَتَّى لَوْ وَجَبَ تَقْوِيمُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِأَنْ اُسْتُهْلِكَ قُوِّمَ بِخِلَافِ جِنْسِهِ وَظَهَرَتْ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ وَالْجَوْدَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ وَالصَّنْعَةَ سَاقِطَتَا الِاعْتِبَارِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا.

(بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ)

أُخِّرَ هَذَا الْبَابُ عَمَّا قَبْلَهُ لِتَمَحُّضِ مَا قَبْلَهُ فِي الْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّ الْمُرَادَ بَابُ مَا يُؤْخَذُ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ وَذَلِكَ يَكُونُ زَكَاةً كَالْمَأْخُوذِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَغَيْرِهَا كَالْمَأْخُوذِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ الْعِبَادَةُ قَدَّمَهُ عَلَى

ص: 223

(إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ فَقَالَ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَشْهُرٍ أَوْ عَلَيَّ دَيْنٌ وَحَلَفَ صُدِّقَ) وَالْعَاشِرُ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ، فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ تَمَامَ الْحَوْلِ أَوْ الْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ مُنْكِرًا لِلْوُجُوبِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ

مَا بَعْدَهُ مِنْ الْخُمُسِ. وَالْعَاشِرُ فَاعِلٌ مِنْ عَشَرْت أَعْشُرُ عُشْرًا بِالضَّمِّ فِيهِمَا. وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَدُورُ اسْمُ الْعُشْرِ فِي مُتَعَلَّقِ أَخْذِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْعُشْرَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَا الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ

(قَوْلُهُ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ إلَخْ) مَفْهُومُ شَرْطِهِ لَوْ اُعْتُبِرَ اسْمُ الْمَالِ عَلَى ظَاهِرِهِ إذَا لَمْ يَمُرَّ بِمَالٍ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْعَاشِرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ بِهَا فَوَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِالْبَاطِنِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ مَفْهُومُ شَرْطِهِ: أَيْ إذَا يَمُرُّ عَلَيْهِ بِمَالٍ بَاطِنٍ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ فَيَصْدُقُ (قَوْلُهُ وَالْعَاشِرُ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ إلَخْ) فِيهِ قَيْدٌ زَادَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ بِهِ التُّجَّارُ مِنْ اللُّصُوصِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَلِأَنَّ أَخْذَهُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ لَيْسَ إلَّا لِلْحِمَايَةِ وَثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَخْذِ مِنْ الْمُسْلِمِ أَيْضًا لِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ تَغْلِيبًا لِاسْمِ الْعِبَادَةِ عَلَى غَيْرِهَا

(قَوْلُهُ وَالْقَوْلُ الْمُنْكَرُ مَعَ الْيَمِينِ) وَالْعِبَادَاتُ وَإِنْ كَانَتْ يَصْدُقُ فِيهَا بِلَا تَحْلِيفٍ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ هُنَا حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْعَاشِرُ فِي الْأَخْذِ فَهُوَ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَيَحْلِفُ لِرَجَاءِ النُّكُولِ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ مُتَعَذِّرٌ فِي الْحُدُودِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَبِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهَا،

ص: 224

(وَكَذَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ)، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ فِي تِلْكَ السُّنَّةِ عَاشِرٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى وَضْعَ الْأَمَانَةِ مَوْضِعَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاشِرٌ آخَرُ فِي تِلْكَ السَّنَةَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ (وَكَذَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُهَا أَنَا) يَعْنِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ مُفَوَّضًا إلَيْهِ فِيهِ، وَوِلَايَةُ الْأَخْذِ بِالْمُرُورِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْحِمَايَةِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي صَدَقَةِ السَّوَائِمِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُ بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ حَلَفَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ. وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ. ثُمَّ قِيلَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ. وَقِيلَ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا

فَانْدَفَعَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لَا يَحْلِفُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَكَذَا إذَا قَالَ: هَذَا الْمَالُ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ هُوَ بِضَاعَةٌ لِفُلَانٍ وَكُلُّ مَا وُجُودُهُ مُسْقِطٌ

(قَوْلُهُ يَعْنِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ) قَيْدٌ بِالْمِصْرِ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى إلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى السَّفَرِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ أَخْذِ الْعَاشِرِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ إنَّمَا كَانَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْمِصْرِ وَبِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ مُسَافِرًا انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ عَنْهُ إلَى الْإِمَامِ (قَوْلُهُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ) هِيَ السَّابِقَةُ عَلَى قَوْلِهِ: أُدِّيَتْ إلَى الْفُقَرَاءِ (قَوْلُهُ إلَى الْمُسْتَحَقِّ) فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ) يُمْكِنُ بِأَنْ يَضْمَنَ مَنْعَ كَوْنِهِ أَوْصَلَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ بَلْ الْمُسْتَحِقُّ الْإِمَامُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِمَامَ مُسْتَحِقٌّ الْأَخْذَ وَالْفَقِيرَ مُسْتَحِقٌّ التَّمَلُّكَ وَالِانْتِفَاعَ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ هُنَاكَ مُسْتَحِقَّيْنِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَرُّ الْحَقِّ الَّذِي فَوَّتَهُ لَيْسَ إلَّا بِإِعَادَةِ الدَّفْعِ إلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَجِيءُ النَّظَرُ فِي الْمَدْفُوعِ مَا هُوَ الْوَاقِعُ زَكَاةً مِنْهُمَا، قِيلَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ السِّيَاسَةِ هُنَا كَوْنُ الْآخِذِ لِيَنْزَجِرَ عَنْ ارْتِكَابِ تَفْوِيتِ حَقِّ الْإِمَامِ.

وَقِيلَ الثَّانِي وَيَنْقَلِبُ الْأَوَّلُ نَفْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَوْنُ الزَّكَاةِ فِي صُورَةِ الْمُرُورِ مَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ وَيَدْفَعُهُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي السَّابِقِ وَوُجِدَ فِي اللَّاحِقِ، وَانْفِسَاخُ السَّابِقِ النَّاقِصِ لِلَّاحِقِ الْكَامِلِ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ كَبُطْلَانِ الظُّهْرِ الْمُؤَدَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فَيَنْفَسِخُ مِثْلُهُ بِجَامِعِ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بَعْدَ الْأَدَاءِ بِفِعْلِ الثَّانِي مَعَ امْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْفَرْضِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثَانِيًا وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُ، وَلَا يُنَافِي كَوْنُ الْأَخْذِ لِلسِّيَاسَةِ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ وَوُقُوعَ الثَّانِي زَكَاةً بِأَدْنَى

ص: 225

وَهُوَ الصَّحِيحُ، ثُمَّ فِيمَا يُصَدَّقُ فِي السَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ لَمْ يَشْتَرِطْ إخْرَاجَ الْبَرَاءَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَشَرَطَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى، وَلِصِدْقِ دَعْوَاهُ عَلَامَةٌ فَيَجِبُ إبْرَازُهَا. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَا يُعْتَبَرُ عَلَامَةً.

قَالَ (وَمَا صُدِّقَ فِيهِ الْمُسْلِمُ صُدِّقَ فِيهِ الذِّمِّيُّ)؛ لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَتُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ

تَأَمُّلٍ (قَوْلُهُ ثُمَّ فِيمَا يَصْدُقُ إلَخْ) أَطْلَقَ فِيمَا يَصْدُقُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي الْأَصْلِ إخْرَاجَهَا فِي قَوْلِهِ: أُدِّيَتْ إلَى الْفُقَرَاءِ وَأَخَوَاتِهَا لَكِنَّهُ اعْتَمَدَ فِي تَقْيِيدِهِ عَلَى عَدَمِ تَأَتِّي صِحَّتِهِ، إذْ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْفُقَرَاءِ بَرَاءَةً وَلَا مِنْ الدَّائِنِ. وَلَا تُمْكِنُ فِي قَوْلِهِ: أَصَبْتُهُ مُنْذُ شَهْرٍ.

وَتَأْخِيرُ الْمُصَنِّفِ وَجْهَ الْأَوَّلِ يُفِيدُ تَرَجُّحَهُ عِنْدَهُ، وَحَاصِلُهُ مَنْعُ كَوْنِهِ عَلَامَةً إذْ لَا يَلْزَمُ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إلَى الْجَزْمِ بِكَوْنِهِ دُفِعَ إلَى الْعَاشِرِ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يَنْطِقُ وَهُوَ مُتَشَابِهٌ، ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ الْيَمِينُ مَعَ الْبَرَاءَةِ عَلَى قَوْلِ مُشْتَرِطِهَا؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ. قِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَصْدُقْ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَصْدُقْ.

وَلَا يَخْفَى بَعْدَ قَوْلِهِمَا إنْ كَانَ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِ الْمُتَدَيِّنِ أَدَلُّ مِنْ الْخَطِّ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَرْكُهَا إلَيْهَا، وَلْيَذْكُرْ هُنَا قَوْلَهُ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: وَالِاسْتِخْبَارُ فَوْقَ التَّحَرِّي بَيَانًا لِلُزُومِهِ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَاجِبٌ عِنْدَ انْعِدَامِ دَلِيلٍ فَوْقَهُ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعِيَّ لِأَنَّ الِاسْتِخْبَارَ لَا يُفِيدُ قَطْعًا.

(قَوْلُهُ فَتُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ) مِنْ الْحَوْلِ وَالنِّصَابِ وَالْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ وَكَوْنُهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزَّكَاةِ كَصَدَقَةِ بَنِي تَغْلِبَ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ، فَإِنَّ تَضْعِيفَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ وَإِلَّا كَانَ تَبْدِيلًا، لَكِنْ بَقِيَ أَنَّهُ أَيُّ دَاعٍ إلَى اعْتِبَارِهِ تَضْعِيفًا لَا ابْتِدَاءَ وَظِيفَةٍ عِنْدَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْحِمَايَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ، وَبَنُو تَغْلِبَ رَوْعِي فِيهِمْ ذَلِكَ لِوُقُوعِ الصُّلْحِ عَلَيْهِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إلَى عَيْنِ التَّمْرِ مُصَدِّقًا، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا بِهَا لِلتِّجَارَةِ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ أَمْوَالِ

ص: 226

(وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ إلَّا فِي الْجَوَارِي يَقُولُ: هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي، أَوْ غِلْمَانٍ مَعَهُ يَقُولُ: هُمْ أَوْلَادِي)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ مَنْ فِي يَدِهِ مِنْهُ صَحِيحٌ، فَكَذَا بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا تَبْتَنِي عَلَيْهِ فَانْعَدَمَتْ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِيهِنَّ، وَالْأَخْذُ لَا يَجِبُ إلَّا مِنْ الْمَالِ.

قَالَ (وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعُ الْعُشْرِ

أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ، لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ، وَكَذَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ وَغَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى الْحِمَايَةِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ مَا ذَكَرَ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ وَاخْتِيرَ مِثْلَاهُ، أَلَا يَرَى أَنَّ بَاقِيَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُهُمْ وَالْحَرْبِيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ وَلَهُ جَائِزَةٌ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ لَمْ يُوجِبْ اعْتِبَارَ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّ. فَلَوْ اقْتَضَى هَذَا الْمَعْنَى اعْتِبَارَهُ تَضْعِيفَ عَيْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الذِّمِّيِّ لَزِمَ مُرَاعَاتُهَا

(قَوْلُهُ وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ إلَّا فِي الْجَوَارِي إلَخْ) الْعِبَارَةُ الْجَيِّدَةُ أَنْ يُقَالَ: وَلَا يُلْتَفَتُ أَوْ لَا يُتْرَكُ الْأَخْذُ مِنْهُ، لَا وَلَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَوْ صُدِّقَ بِأَنْ ثَبَتَ صِدْقُهُ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَافِرِينَ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أُخِذَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ لَيْسَ زَكَاةً لِيَكُفَّ عَنْهُ

ص: 227

وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ) هَكَذَا أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه سُعَاتَهُ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْ مِثْلِهَا)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ أَوْ ضِعْفُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّصَابِ وَهَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لَا نَأْخُذُ مِنْ الْقَلِيلِ وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَزَلْ عَفْوًا وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ. قَالَ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ) لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ (وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبْعَ

لِعَدَمِ الْحَوْلِ وَوُجُودِ الدَّيْنِ، وَإِنْ قَالَ: هُوَ بِضَاعَةٌ فَهُوَ أَحْوَجُ إلَى الْحِمَايَةِ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ إذْ لَا أَمْنَ لِصَاحِبِ الْمَالِ بَلْ لِلْمَارِّ، بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا، فَإِذَا كَانُوا يَدِينُونَ ذَلِكَ كَمَا إذَا مَرَّ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ عَنْهَا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إلَّا مِنْ مَالٍ، وَإِنْ قَالَ: هُمْ مُدَبَّرُونَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَصِحُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ) أَيْ أَخْذَهُمْ بِكَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ لَا أَصْلَ الْأَخْذِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مِنَّا وَبَاطِلٌ مِنْهُمْ فَالْحَاصِلُ أَنَّ دُخُولَهُ فِي الْحِمَايَةِ أَوَجَبَ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إنْ عُرِفَ كَمِّيَّةُ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِثْلَهُ مُجَازَاةً، إلَّا إنْ عُرِفَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْكُلَّ فَلَا نَأْخُذُهُ عَلَى الْمُخْتَارِ بَلْ نُبْقِي مَعَهُ قَدْرَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى مَأْمَنِهِ.

وَقِيلَ نَأْخُذُ الْكُلَّ مُجَازَاةً زَجْرًا لَهُمْ عَنْ مِثْلِهِ مَعَنَا، قُلْنَا: ذَلِكَ بَعْدَ إعْطَاءِ الْأَمَانِ غَدْرٌ وَلَا نَتَخَلَّقُ نَحْنُ بِهِ لِتَخَلُّقِهِمْ بِهِ بَلْ نُهِينَا عَنْهُ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلُوا الدَّاخِلَ إلَيْهِمْ بَعْدَ إعْطَائِهِ الْأَمَانَ نَفْعَلُ ذَلِكَ لِذَلِكَ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَزُلْ عَفْوًا وَلِأَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ لِلنَّفَقَةِ وَدَفْعِ الْحَاجَةِ فَكَانَ كَالْمَعْدُومِ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ يُجَازَوْنَ بِالْأَخْذِ

ص: 228

الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ نَأْخُذُ بِقَدَرِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْكُلَّ لَا نَأْخُذُ الْكُلَّ)؛ لِأَنَّهُ غَدْرٌ (وَإِنْ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ أَصْلًا لَا نَأْخُذُ) لِيَتْرُكُوا الْأَخْذَ مِنْ تُجَّارِنَا وَلِأَنَّا أَحَقُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

قَالَ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ عَلَى عَاشِرٍ فَعَشَرَهُ ثُمَّ مَرَّ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يَعْشُرْهُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتِئْصَالُ الْمَالِ وَحَقُّ الْأَخْذِ لِحِفْظِهِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بَاقٍ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ يَتَجَدَّدُ الْأَمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ إلَّا حَوْلًا، وَالْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يَسْتَأْصِلُ الْمَالَ (فَإِنْ عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ عَشَرَهُ أَيْضًا)؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ.

وَكَذَا الْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يُفْضِي إلَى الِاسْتِئْصَالِ

مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ كَمِّيَّةُ مَا يَأْخُذُونَ، فَالْعُشْرُ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْأَخْذِ بِالْحِمَايَةِ وَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْمُجَازَاةِ فَقُدِّرَ بِمِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى الْحِمَايَةِ مِنْهُ وَلِمَا قُلْنَاهُ آنِفًا وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْأَخْذَ مِنْ تُجَّارِنَا تَرَكْنَا نَحْنُ حَقَّنَا لِتَرْكِهِمْ ظُلْمَهُمْ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ إيَّاهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَخَلُّقٌ مِنْهُمْ بِالْإِحْسَانِ إلَيْنَا، وَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهُمْ

(قَوْلُهُ لَمْ يَعْشُرْهُ إلَخْ) هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أُخِذَ مِنْهُ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِقُرْبِ الدَّارَيْنِ وَاتِّصَالِهِمَا كَمَا فِي جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتِئْصَالٌ لِلْمَالِ) فَيَعُودُ عَلَى مَوْضِعِ الْأَمَانِ بِالنَّقْضِ

(قَوْلُهُ إلَّا حَوْلًا) لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالصَّوَابُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ لَفَظَّةِ إلَّا نَقَلَهَا نُسْخَةً فِي الْكَافِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ مِنْ سَهْوِ الْكَاتِبِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَوْلًا بَلْ دُونَهُ، وَيَقُولُ: لَهُ الْإِمَامُ إذَا دَخَلَ إنْ أَقَمْت حَوْلًا ضَرَبْت عَلَيْك الْجِزْيَةَ، فَإِنْ فَعَلَ ضَرَبَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْعَوْدِ أَبَدًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِزْيَةِ وَجَعْلِهِ عَيْنًا عَلَيْنَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَدَاخِلِنَا وَمَخَارِجِنَا، وَذَلِكَ زِيَادَةُ شَرٍّ عَلَيْنَا فَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِمَقَامِهِ حَوْلًا عَشَرَهُ ثَانِيًا زَجْرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَرُدُّهُ إلَى دَارِنَا.

وَالْأَصْلُ أَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ لَا يَتَجَدَّدُ إلَّا بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ أَوْ تَجَدُّدِ الدُّخُولِ إلَى دَارِ

ص: 229

(وَإِنْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ) وَقَوْلُهُ عَشَرَ الْخَمْرَ: أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْشُرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُمَا. وَقَالَ زُفَرُ: يَعْشُرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُمْ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَعْشُرُهُمَا إذَا مَرَّ بِهِمَا جُمْلَةً كَأَنَّهُ جَعَلَ الْخِنْزِيرَ تَبَعًا لِلْخَمْرِ، فَإِنْ مَرَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ وَالْخِنْزِيرُ مِنْهَا، وَفِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَيْسَ لَهَا هَذَا الْحُكْمُ

الْإِسْلَامِ لِانْتِهَاءِ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بِالْعَوْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَمَانٍ جَدِيدٍ إذَا خَرَجَ

(قَوْلُهُ أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا) فَسَّرَ بِهِ كَيْ لَا يَذْهَبَ الْوَهْمُ إلَى مَذْهَبِ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ عَيْنِ الْخَمْرِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ قِيمَتِهَا أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ (قَوْلُهُ تَبَعًا لِلْخَمْرِ) دُونَ الْعَكْسِ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ مَالِيَّةً لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّخَمُّرِ مَالٌ وَبَعْدَهُ كَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ التَّخَلُّلِ وَلَيْسَ الْخِنْزِيرُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَمَعَهُ حُمُرٌ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى لَا الْخِنْزِيرُ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ تَبَعًا لَا قَصْدًا كَوَقْفِ الْمَنْقُولِ (قَوْلُهُ: إنَّ الْقِيمَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ) اُسْتُشْكِلَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى مَا فِي الشُّفْعَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا مُسْلِمٌ أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.

ثَانِيهَا لَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ خِنْزِيرَ ذِمِّيٍّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ. ثَالِثُهَا لَوْ أَخَذَ ذِمِّيٌّ قِيمَةَ خِنْزِيرِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ وَقَضَى بِهَا دَيْنًا لِمُسْلِمٍ عَلَيْهِ طَابَ لِلْمُسْلِمِ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ عَنْ

ص: 230

وَالْخَمْرُ مِنْهَا، وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْحِمَايَةِ وَالْمُسْلِمُ يَحْمِي خَمْرَ نَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَكَذَا يَحْمِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَحْمِي خِنْزِيرَ نَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ تَسْيِيبُهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَذَا لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ

(وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ بِمَالٍ فَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ مَا عَلَى الرَّجُلِ) لِمَا ذَكَرْنَا فِي السَّوَائِمِ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ مِائَةً أُخْرَى قَدْ حَالَ عَلَيْهَا لَمْ يُزَكِّ الَّتِي مَرَّ بِهَا) لِقِلَّتِهَا وَمَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ (وَلَوْ مَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً لَمْ يَعْشُرْهَا)؛ لِأَنَّهُ غَيْرَ مَأْذُونٍ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ. قَالَ (وَكَذَا الْمُضَارَبَةُ) يَعْنِي إذَا مَرَّ الْمُضَارِبُ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا يَعْشُرُهَا لِقُوَّةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ مَا صَارَ عُرُوضًا فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ يَبْلُغُ نَصِيبُهُ نِصَابًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ

(وَلَوْ مَرَّ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ

الْأَخِيرِ بِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ شَرْعًا، وَمِلْكُ الْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ قَبْضُهُ عَنْ الدَّيْنِ، وَعَمَّا قَبْلَهُ بِأَنَّ الْمَنْعَ لِسُقُوطِ الْمَالِيَّةِ فِي الْعَيْنِ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا لَا إلَيْهِمْ فَيَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ لَا عِنْدَ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَكُونَ كَدَفْعِ عَيْنِهَا وَهُوَ تَبْعِيدٌ وَإِزَالَةٌ فَهُوَ كَتَسْيِيبِ الْخِنْزِيرِ وَالِانْتِفَاعِ بِالسِّرْقِينِ بِاسْتِهْلَاكِهِ (قَوْلُهُ لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ غَصْبَ خِنْزِيرِ ذِمِّيٍّ فَرَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي يَأْمُرُهُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ حِمَايَةٌ عَلَى الْغَيْرِ أُجِيبَ بِتَخْصِيصِ الْإِطْلَاقِ: أَيْ لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ لِغَرَضٍ يَسْتَوْفِيهِ فَخَرَجَ حِمَايَةُ الْقَاضِي

(قَوْلُهُ لِقُوَّةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ) حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ الْمَالِ فَصَارَ كَالْمَالِكِ فَكَانَ حُضُورُهُ كَحُضُورِ الْمَالِكِ (قَوْلُهُ وَلَا نَائِبَ عَنْهُ) وَالزَّكَاةُ تَسْتَدْعِي نِيَّةَ مَنْ عَلَيْهِ وَهُوَ كَالْمِلْكِ فِي التَّصَرُّفِ الِاسْتِرْبَاحِيِّ لَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ، بِخِلَافِ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَنْهَا، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ الْجُعْلِ فَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ

ص: 231

وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَدْرِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ هَذَا أَمْ لَا. وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الثَّانِي فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّهُ لَا يَعْشُرُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيمَا فِي يَدِهِ لِلْمَوْلَى وَلَهُ التَّصَرُّفُ فَصَارَ كَالْمُضَارِبِ. وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ هُوَ الْمُحْتَاجَ إلَى الْحِمَايَةِ، وَالْمُضَارِبُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُحْتَاجَ. فَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعًا مِنْهُ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مَعَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ أَوْ لِلشُّغْلِ. قَالَ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ فِي أَرْضٍ قَدْ غَلَبُوا عَلَيْهَا فَعَشَرَهُ يُثَنَّى عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ) مَعْنَاهُ: إذَا مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ إنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ.

‌بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ

كَعِمَالَةِ عَامِلِ الصَّدَقَةِ

(قَوْلُهُ وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا) لَا يَخْفَى عَدَمُ تَأْثِيرِ هَذَا الْفَرْقِ، فَإِنَّ مَنَاطَ عَدَمِ الْأَخْذِ مِنْ الْمُضَارِبِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا نِيَّةَ حِينَئِذٍ، وَمُجَرَّدُ دُخُولِهِ فِي الْحِمَايَةِ لَا يُوجِبُ الْأَخْذَ إلَّا مَعَ وُجُودِ شُرُوطِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ أَوَّلَ الْبَابِ فَلَا أَثَرَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمَأْذُونِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْكَافِي (قَوْلُهُ: لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ فِيمَا فِي يَدِهِ) أَيْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ الشُّغْلِ عَلَى قَوْلِهِمَا (قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ إلَخْ) بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى بَلْدَةٍ فَأَخَذُوا زَكَاةَ سَوَائِمِهِمْ لَا يُثَنِّي عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ الْمَالِكِ بَلْ مِنْ الْإِمَامِ. وَمَنْ مَرَّ بِرِطَابٍ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَعْشُرْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَعْشُرُهُ لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ وَهُوَ حَاجَتُهُ إلَى الْحِمَايَةِ وَهُوَ يَقُولُ: اتِّحَادُ الْجَامِعِ إنَّمَا يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ، وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا فَإِنَّهَا تَفْسُدُ بِالِاسْتِبْقَاءِ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْعَامِلِ فُقَرَاءُ فِي الْبَرِّ لِيَدْفَعَ لَهُمْ، فَإِذَا بَقِيَتْ لِيَجِدَهُمْ فَسَدَتْ فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ، فَلَوْ كَانُوا عِنْدَهُ أَوْ أَخَذَ لِيَصْرِفَ إلَى عِمَالَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ.

(بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ) الْمَعْدِنُ مِنْ الْعَدْنِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ، وَمِنْهُ يُقَالُ عَدَنَ بِالْمَكَانِ إذَا أَقَامَ بِهِ، وَمِنْهُ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَرْكَزُ كُلِّ شَيْءٍ مَعْدِنُهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَأَصْلُ الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ، ثُمَّ اُشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الْأَجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا

ص: 232

قَالَ (مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ صُفْرٍ

اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ حَتَّى صَارَ الِانْتِقَالُ مِنْ اللَّفْظِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلَا قَرِينَةٍ، وَالْكَنْزُ لِلْمُثْبَتِ فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ، وَالرِّكَازُ يَعُمُّهُمَا لِأَنَّهُ مِنْ الرَّكْزِ مُرَادًا بِهِ الْمَرْكُوزُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوْ الْمَخْلُوقَ فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا وَلَيْسَ خَالِصًا بِالدَّفِينِ، وَلَوْ دَارَ الْأَمْرُ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مَجَازًا فِيهِ أَوْ مُتَوَاطِئًا إذْ لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدِنِ كَانَ التَّوَاطُؤُ مُتَعَيِّنًا، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ الْمَعْدِنِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحَدِيدِ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَهُ، وَجَامِدٌ لَا يَنْطَبِعُ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ وَسَائِرِ الْأَحْجَارِ كَالْيَاقُوتِ وَالْمِلْحِ، وَمَا لَيْسَ بِجَامِدٍ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ.

وَلَا يَجِبُ الْخُمُسُ إلَّا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجِبُ إلَّا فِي النَّقْدَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَطْلُوبِهِ بِمَا رَوَى أَبُو حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فِي الرِّكَازِ الْعُشُورُ» قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ نَافِعٍ وَيَزِيدَ كِلَاهُمَا مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَوَصَفَهُمَا النَّسَائِيّ بِالتَّرْكِ انْتَهَى. فَلَمْ يُفِدْ مَطْلُوبًا.

وَبِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ مَعَادِنَ بِالْقَبَلِيَّةِ» وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ، فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَّا الزَّكَاةُ إلَى الْيَوْمِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُنْقَطِعٌ فِي الْمُوَطَّإِ.

وَقَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ، وَمَعَ انْقِطَاعِهِ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهُ إلَى الْيَوْمِ انْتَهَى: يَعْنِي فَيَجُوزُ كَوْنُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْقِيَاسِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ

ص: 233

وُجِدَ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ) عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ كَالصَّيْدِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَخْرَجُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِي قَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ كُلُّهُ وَالْحَوْلُ

مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَلَا شَكَّ فِي صِدْقِ الْغَنِيمَةِ عَلَى هَذَا الْمَالِ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ مَحَلِّهِ مِنْ الْأَرْضِ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ، وَقَدْ أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَكَانَ غَنِيمَةً، كَمَا أَنَّ مَحَلَّهُ أَعْنِي الْأَرْضَ كَذَلِكَ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» .

أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ، وَالرِّكَازُ يَعُمُّ الْمَعْدِنَ وَالْكَنْزَ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فَكَانَ إيجَابًا فِيهِمَا، وَلَا يُتَوَهَّمُ عَدَمُ إرَادَةِ الْمَعْدِنِ بِسَبَبِ عَطْفِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ إفَادَةِ أَنَّهُ جُبَارٌ: أَيْ هَدَرٌ لَا شَيْءَ فِيهِ وَإِلَّا لَتَنَاقَضَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَعْدِنِ لَيْسَ هُوَ الْمُعَلَّقُ بِهِ فِي ضِمْنِ الرِّكَازِ لِيَخْتَلِفَ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ، إذًا الْمُرَادُ أَنَّ إهْلَاكَهُ أَوْ الْهَلَاكَ بِهِ لِلْأَجِيرِ الْحَافِرِ لَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، لَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ نَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ أَصْلًا، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إذْ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي كَمِّيَّتِهِ لَا فِي أَصْلِهِ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْبِئْرِ وَالْعَجْمَاءِ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْمَعْدِنِ بِخُصُوصِهِ حُكْمًا فَنَصَّ عَلَى خُصُوصِ اسْمِهِ ثُمَّ أَثْبَتَ لَهُ حُكْمًا آخَرَ مَعَ غَيْرِهِ فَعَبَّرَ بِالِاسْمِ الَّذِي يَعُمُّهُمَا لِيَثْبُتَ فِيهَا فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ: أَعْنِي وُجُوبَ الْخُمُسِ بِمَا يُسَمَّى رِكَازًا، فَمَا كَانَ مِنْ أَفْرَادِهِ وَجَبَ فِيهِ، وَلَوْ فُرِضَ مَجَازًا فِي الْمَعْدِنِ وَجَبَ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ تَعْمِيمُهُ لِعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ لِمَا قُلْنَا مِنْ انْدِرَاجِهِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ عَدَمِ مَا يَقْوَى عَلَى مُعَارِضَتِهِمَا فِي ذَلِكَ.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، قِيلَ: وَمَا الرِّكَازُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّهَبُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خُلِقَتْ الْأَرْضُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَذَكَرَهُ فِي الْإِمَامِ، فَهُوَ وَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ فِي الْإِمَامِ مُضَعَّفٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ. وَفِي الْإِمَامِ أَيْضًا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «فِي السُّيُوبِ الْخُمُسُ» وَالسُّيُوبُ: عُرُوقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ، وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُمَا شَاهِدَيْنِ عَلَى الْمُرَادِ بِالرِّكَازِ كَمَا ظَنُّوا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ خَصَّ الذَّهَبَ، وَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ لَا يَخُصُّهُ فَإِنَّمَا نَبَّهَ حِينَئِذٍ عَلَى مَا كَانَ مِثْلَهُ فِي أَنَّهُ جَامِدٌ مُنْطَبِعٌ، وَالثَّانِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ لَفْظَ الرِّكَازِ بَلْ السُّيُوبُ، فَإِذَا كَانَتْ السُّيُوبُ تَخُصُّ النَّقْدَيْنِ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إفْرَادُ فَرْدٍ مِنْ الْعَامِّ وَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَصِّصٍ لِلْعَامِّ.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى الْكَنْزِ الْجَاهِلِيِّ بِجَامِعِ ثُبُوتِ مَعْنَى الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمَأْخُوذِ بِعَيْنِهِ قَهْرًا فَيَجِبُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ وُجُوبُ الْخُمُسِ لِوُجُودِهِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ أُخِذَ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ، وَإِطْلَاقُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» مَخْصُوصٌ بِالْمُسْتَخْرَجِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى خُرُوجِ الْكَنْزِ الْجَاهِلِيِّ مِنْ عُمُومِ الْفِضَّةِ (قَوْلُهُ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ) قَيَّدَ بِهِ لِيُخْرِجَ الدَّارَ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ، لَكِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ الْأَرْضُ الَّتِي لَا وَظِيفَةَ فِيهَا كَالْمَفَازَةِ، إذْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ أَنْ لَا يُجْعَلَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ بَلْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ وَظِيفَتَهُمَا الْمُسْتَمِرَّةَ لَا تَمْنَعُ الْأَخْذَ مِمَّا يُوجَدُ

ص: 234

لِلتَّنْمِيَةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَهُوَ مِنْ الرَّكْزِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْمَعْدِنِ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَحَوَتْهَا أَيْدِينَا غَلَبَةً فَكَانَتْ غَنِيمَةً. وَفِي الْغَنَائِمِ الْخُمُسُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً لِثُبُوتِهَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْحَقِيقِيَّةُ فَلِلْوَاجِدِ فَاعْتَبَرْنَا الْحُكْمِيَّةَ فِي حَقِّ الْخُمُسِ وَالْحَقِيقَةَ فِي حَقِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ حَتَّى كَانَتْ لِلْوَاجِدِ

(وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ

فِيهِمَا

(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: لَوْ كَانَ غَنِيمَةً لَكَانَ أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ لَا لِلْوَاحِدِ. فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ شَرْعًا فِيمَا لَا إذَا كَانَ لَهُمْ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ عَلَى الْمَغْنُومِ، أَمَّا إذَا كَانَ الثَّابِتُ لَهُمْ يَدًا حُكْمِيَّةً وَالْحَقِيقَةُ لِغَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ إعْطَائِهِمْ شَيْئًا بَلْ إعْطَاءُ الْوَاجِدِ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ فَلَزِمَ مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ اعْتِبَارُهُ غَنِيمَةً فِي حَقِّ إخْرَاجِ الْخُمُسِ لَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهِ عَدَمِ إعْطَاءِ الْغَانِمِينَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ هُوَ تَعْيِينٌ لِسَنَدِ الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَالَ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْإِيجَافِ عَلَيْهِ.

وَالْمَالُ الْمُبَاحُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً كَالصَّيْدِ، وَيَدُ الْغَانِمِينَ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الظَّاهِرِ يَدٌ عَلَى الْبَاطِنِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً. أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِلْوَاجِدِ فَكَانَ لَهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَالِ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَكُلُّ مَنْ سَمَّيْنَا لَهُ حَقٌّ فِيهَا سَهْمًا أَوْ رَضْخًا، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَأْمَنُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لَوْ وُجِدَ فِي دَارِنَا

(قَوْلُهُ وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ إلَخْ) اسْتَدَلَّ لَهُمَا بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَقَدَّمَ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْمَعْدِنِ، وَلَهُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا مُؤْنَةَ فِي أَرْضِ الدَّارِ فَكَذَا فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنْهَا. وَأُجِيبَ عَنْ

ص: 235

مَعْدِنًا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا فِيهِ الْخُمُسُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلَهُ أَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ مُرَكَّبٌ فِيهَا وَلَا مُؤْنَةَ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَكَذَا فِي هَذَا الْجُزْءِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ لَا يُخَالِفُ الْجُمْلَةَ، بِخِلَافِ الْكَنْزِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَكَّبٍ فِيهَا (وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الدَّارَ مُلِكَتْ خَالِيَةً عَنْ الْمُؤَنِ دُونَ الْأَرْضِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْعُشْرُ، وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الدَّارِ فَكَذَا هَذِهِ الْمُؤْنَةُ

(وَإِنْ وَجَدَ رِكَازًا) أَيْ كَنْزًا (وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ) عِنْدَهُمْ لِمَا رَوَيْنَا وَاسْمُ الرِّكَازِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَنْزِ لِمَعْنَى الرَّكْزِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ

الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالدَّارِ، وَصِحَّتُهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى إبْدَاءِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ، وَكَوْنُ الدَّارِ خُصَّتْ مِنْ حُكْمَيْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً مِنْ كُلِّ حُكْمٍ إلَّا بِدَلِيلٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ، عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا قَدْ يَمْنَعُ كَوْنَ الْمَعْدِنِ جُزْءًا مِنْ الْأَرْضِ وَلِذَا لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِهِ، وَتَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ فِيهَا مَعَ خَلْقِهَا لَا يُوجِبُ الْجُزْئِيَّةَ، وَعَلَى حَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ يَصِحُّ الْإِخْرَاجُ مِنْ حُكْمِ الْأَرْضِ لَا عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا التَّأْوِيلِ

(قَوْلُهُ رِوَايَتَانِ) رِوَايَةُ الْأَصْلِ لَا يَجِبُ كَمَا فِي الدَّارِ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَجِبُ، وَالْفَرْقُ عَلَى هَذِهِ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالدَّارِ أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُمْلَكْ خَالِيَةً عَنْ الْمُؤَنِ بَلْ فِيهَا الْخَرَاجُ أَوْ الْعُشْرُ وَالْخُمُسُ مِنْ الْمُؤَنِ، بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ خَالِيَةً عَنْهَا. قَالُوا: لَوْ كَانَ فِي دَارِهِ نَخْلَةٌ تَغُلُّ أَكْوَارًا مِنْ الثِّمَارِ لَا يَجِبُ فِيهَا

(قَوْلُهُ وَجَبَ الْخُمُسُ عِنْدَهُمْ) أَيْ عِنْدَ الْكُلِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ ذَهَبًا كَانَ أَوْ رَصَاصًا أَوْ زِئْبَقًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الزِّئْبَقِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَعْدِنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا كَمَا ذَكَرْنَا

ص: 236

ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ وَقَدْ عُرِفَ حُكْمُهَا فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَالْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ الصَّنَمُ فَفِيهِ الْخُمُسُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْإِحْرَازُ مِنْهُ إذْ لَا عِلْمَ بِهِ لِلْغَانِمِينَ فَيَخْتَصُّ هُوَ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتَمَامِ الْحِيَازَةِ وَهِيَ مِنْهُ،

فِي الْمَعْدِنِ إلَّا الْحَرْبِيَّ لِمَا قَدَّمْنَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ أَنْ يَذْهَبَ بِغَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إلَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَشَرَطَ مُقَاطَعَتَهُ عَلَى شَيْءٍ فَيَفِي بِشَرْطِهِ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» غَيْرَ أَنَّهُ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ

(قَوْلُهُ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ) ذَكَرَهُ بِكَافٍ التَّشْبِيهِ، وَكَذَا فِي ضَرْبِ الْكُفَّارِ لِيُفِيدَ عَدَمَ الْحَصْرِ، فَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ نَقْشٌ آخَرُ مَعْرُوفٌ أَوْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ نَقْشٌ غَيْرُ الصَّنَمِ كَاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ اُعْتُبِرَ بِهِ (قَوْلُهُ وَقَدْ عَرَفَ حُكْمَهَا) وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا ثُمَّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ إنْ كَانَ فَقِيرًا، وَعَلَى غَيْرِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا، وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا أَبَدًا (قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا) أَيْ مِنْ النَّصِّ، وَالْمَعْنَى أَوَّلَ الْبَابِ

(قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ إلَخْ) أَيْ الْكَنْزَ الْجَاهِلِيَّ لِأَنَّ الْإِسْلَامِيَّ لَيْسَ حُكْمُهُ مَا ذُكِرَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُخْتَطَّةٍ غَيْرِ مُبَاحَةٍ فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ، أَمَّا الْمُبَاحَةُ فَمَا فِي ضِمْنِهَا مُبَاحٌ إذْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَيَتَمَلَّكُوهُ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ (قَوْلُهُ فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) أَيْ الْخُمُسُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ، سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا لِلْأَرْضِ أَوْ لَا لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ لِعَدَمِ الْمُعَادَلَةِ فَبَقِيَ مُبَاحًا فَيَكُونُ لِمَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، قُلْنَا لَا نَقُولُ: إنَّ الْإِمَامَ يُمَلِّكُ الْمُخْتَطَّ لَهُ الْكَنْزَ بِالْقِسْمَةِ بَلْ يُمَلِّكُهُ الْبُقْعَةَ وَيُقَرِّرُ يَدَهُ فِيهَا وَيَقْطَعُ مُزَاحَمَةَ سَائِرِ الْغَانِمِينَ فِيهَا، وَإِذَا صَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا أَقْوَى

ص: 237

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ وَهُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ أَوَّلَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَهِيَ يَدُ الْخُصُوصِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الظَّاهِرِ، كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ الدُّرَّةَ ثُمَّ بِالْبَيْعِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفُ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَالُوا وَلَوْ اشْتَبَهَ الضَّرْبُ يُجْعَلُ جَاهِلِيًّا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَقِيلَ يُجْعَلُ إسْلَامِيًّا فِي زَمَانِنَا لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ

(وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ) تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الدَّارِ فِي يَدِ صَاحِبِهَا خُصُوصًا (وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ فَهُوَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ

الِاسْتِيلَاءَاتِ وَهُوَ بِيَدِ خُصُوصِ الْمِلْكِ السَّابِقَةِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْمَالِ الْمُبَاحِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى أَنَّ الْغَانِمِينَ لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُمْ مِلْكٌ فِي هَذَا الْكَنْزِ بَعْدَ الِاخْتِطَاطِ وَإِلَّا لَوَجَبَ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ أَوْ إلَى ذَرَارِيِّهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا وُضِعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ، ثُمَّ إذَا مَلَكَهُ لَمْ يَصِرْ مُبَاحًا فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ فَلَا يَمْلِكُهُ مُشْتَرِي الْأَرْضِ كَالدُّرَّةِ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ يَمْلِكُهَا الصَّائِدُ لِسَبْقِ يَدِ الْخُصُوصِ إلَى السَّمَكَةِ حَالَ إبَاحَتِهَا، ثُمَّ لَا يَمْلِكُهَا مُشْتَرِي السَّمَكَةِ لِانْتِفَاءِ الْإِبَاحَةِ.

هَذَا وَمَا ذُكِرَ فِي السَّمَكَةِ مِنْ الْإِطْلَاقِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ: إذَا كَانَتْ الدُّرَّةُ غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْمَثْقُوبَةِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي بَطْنِهَا عَنْبَرٌ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا تَأْكُلُهُ وَكُلُّ مَا تَأْكُلُهُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الدُّرَّةُ فِي صَدَفَةٍ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي: قُلْنَا هَذَا الْكَلَامُ لَا يُفِيدُ إلَّا مَعَ دَعْوَى أَنَّهَا تَأْكُلُ الدُّرَّةَ غَيْرَ الْمَثْقُوبَةِ كَأَكْلِهَا الْعَنْبَرَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ. نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ أَنَّهَا تَبْتَلِعُهَا مَرَّةً بِخِلَافِ الْعَنْبَرِ فَإِنَّهُ حَشِيشٌ وَالصَّدَفُ دَسَمٌ وَمِنْ شَأْنِهَا أَكْلُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا) يُفِيدُ الْخِلَافَ عَلَى عَادَتِهِ، قِيلَ يُصْرَفُ إلَى أَقْصَى مَلِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ، وَقِيلَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَهَذَا أَوْجَهُ لِلْمُتَأَمِّلِ (قَوْلُهُ لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَ الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خِلَافُهُ، وَالْحَقُّ مَنْعُ هَذَا الظَّاهِرِ بَلْ دَفِينُهُمْ إلَى الْيَوْمِ يُوجَدُ بِدِيَارِنَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى

(قَوْلُهُ فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ) سَوَاءٌ كَانَ مَعْدِنًا أَوْ كَنْزًا (قَوْلُهُ فِي الصَّحْرَاءِ) أَيْ أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا،

ص: 238

فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا وَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُتَلَصِّصٍ غَيْرِ مُجَاهِرٍ (وَلَيْسَ فِي الْفَيْرُوزَجِ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ خُمُسٌ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ» (وَفِي الزِّئْبَقِ الْخُمُسُ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ

كَذَا فَسَّرَهُ فِي الْمُحِيطِ، وَتَعْلِيلُ الْكِتَابِ يُفِيدُهُ (قَوْلُهُ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا) يَعْنِي أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ إبَاحَةٍ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنْ الْغَدْرِ فَقَطْ وَيَأْخُذُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ مِنْ أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لَمْ يُعْذَرْ بِأَحَدٍ بِخِلَافِهِ مِنْ الْمَمْلُوكَةِ. نَعَمْ لَهُمْ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ عَلَى مَا فِي صَحْرَاءِ دَارِهِمْ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ دَارَ أَحْكَامٍ فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهَا إلَّا الْحَقِيقَةُ، بِخِلَافِ دَارِنَا فَلِذَا لَا يُعْطِي الْمُسْتَأْمَنُ مِنْهُمْ مَا وَجَدَهُ فِي صَحْرَائِنَا (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُتَلَصِّصٍ) وَلَوْ دَخَلَ الْمُتَلَصِّصُ دَارَهُمْ فَأَخَذَ شَيْئًا لَا يَأْخُذُ لِانْتِفَاءِ مُسَمَّى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا مَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ غَلَبَةً وَقَهْرًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: غَايَةُ مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ وَالْقِيَاسُ وُجُوبُ الْخُمُسِ فِي مُسَمَّى الْغَنِيمَةِ، فَانْتِفَاءُ مُسَمَّى الْغَنِيمَةِ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْ ذَلِكَ الْكَنْزِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْخُمُسِ إلَّا بِالْإِسْنَادِ إلَى الْأَصْلِ، وَقَدْ وُجِدَ دَلِيلٌ يَخْرُجُ عَنْ الْأَصْلِ وَهُوَ عُمُومُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ فَإِنَّ مَا أَصَابَهُ لَيْسَ غَنِيمَةً وَلَا رِكَازًا. فَلَا دَلِيلَ يُوجِبُهُ فِيهِ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ

(قَوْلُهُ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ) قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ أُصِيبَ فِي خَزَائِنِ الْكُفَّارِ وَكُنُوزِهِمْ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ وَسَيَأْتِي (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ») غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا زَكَاةَ فِي حَجَرٍ» مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ: الْأَوَّلُ بِعُمَرَ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْكَلَاعِيِّ. وَالثَّانِي بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ «لَيْسَ فِي حَجَرِ اللُّؤْلُؤِ وَلَا حَجَرِ الزُّمُرُّدِ زَكَاةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ» (قَوْلُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ) وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا، حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله

ص: 239

(وَلَا خُمُسَ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ: فِيهِمَا وَفِي كُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ خُمُسٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ. وَلَهُمَا أَنَّ قَعْرَ الْبَحْرِ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْقَهْرُ فَلَا يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ

يَقُولُ: لَا خُمُسَ فِيهِ، فَلَمْ أَزَلْ بِهِ أُنَاظِرُهُ وَأَقُولُ هُوَ كَالرَّصَاصِ إلَى أَنْ رَجَعَ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَا أَنْ لَا شَيْءَ فِيهِ فَقُلْتُ بِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ الزِّئْبَقُ الْمُصَابُ فِي مَعْدِنِهِ احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرْنَا، وَالزِّئْبَقُ بِالْيَاءِ وَقَدْ يُهْمَزُ، وَمِنْهَا حِينَئِذٍ مَنْ يَكْسِرُ الْمُوَحَّدَةَ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مِثْلُ زِئْبِرِ الثَّوْبِ وَهُوَ مَا يَعْلُو جَدِيدَهُ مِنْ الْوَبَرَةِ.

وَجْهُ النَّافِي أَنَّهُ يُتَّبَعُ مِنْ عَيْنِهِ وَيُسْتَقَى بِالدِّلَاءِ كَالْمَاءِ وَلَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَصَارَ كَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ. وَجْهُ الْمُوجَبِ أَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ مِنْ عَيْنِهِ وَيَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ مَا لَمْ يُخَالِطْهُمَا شَيْءٌ

(قَوْلُهُ وَلَا خُمُسَ فِي اللُّؤْلُؤِ إلَخْ) يَعْنِي إذَا اُسْتُخْرِجَا مِنْ الْبَحْرِ لَا إذَا وُجِدَا دَفِينًا لِلْكُفَّارِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَنْبَرَ حَشِيشٌ وَاللُّؤْلُؤَ إمَّا مَطَرُ الرَّبِيعِ يَقَعُ فِي الصَّدَفِ فَيَصِيرُ لُؤْلُؤًا، أَوْ الصَّدَفُ حَيَوَانٌ يُخْلَقُ فِيهِ اللُّؤْلُؤُ، وَلَا شَيْءَ فِي الْمَاءِ وَلَا فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَيَوَانِ كَظَبْيِ الْمِسْكِ، وَالْمُصَنِّفُ عَلَّلَ النَّفْيَ بِنَفْيِ كَوْنِهِ غَنِيمَةً لِأَنَّ اسْتِغْنَامَهُ فَرْعُ تَحَقُّقِ كَوْنِهِ كَانَ فِي مَحَلِّ قَهْرِهِمْ وَلَا يَرِدُ قَهْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى الْبَحْرِ الْأَعْظَمِ وَلَا دَلِيلَ آخَرَ يُوجِبُهُ فَبَقِيَ عَلَى الْعَدَمِ، وَقِيَاسُ الْبَحْرِ عَلَى الْبَرِّ فِي إثْبَاتِ الْوُجُوبِ فِيمَا يُسْتَخْرَجُ قِيَاسٌ بِلَا جَامِعٍ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْإِيجَابِ كَوْنُهُ غَنِيمَةً لَا غَيْرُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيمَا فِي الْبَحْرِ، وَلِذَا لَوْ وُجِدَ فِيهِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لَمْ يَجِبْ فِيهِمَا شَيْءٌ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ فِيهِ دَلِيلًا وَهُوَ مَا عَنْ عُمَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ فَدَفَعَهُ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ مُدَّعَاهُ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخَذَ مِمَّا دَسَرَهُ بَحْرُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ بَابِ طَلَبٍ: أَيْ دَفَعَهُ وَقَذَفَهُ فَأَصَابَهُ عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ لَا مَا اُسْتُخْرِجَ وَلَا مَا دَسَرَهُ فَأَصَابَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ مُتَلَصِّصٌ، عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهُ عَنْ عُمَرَ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا بَلْ

ص: 240

غَنِيمَةً وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِيمَا دَسَرَهُ الْبَحْرُ وَبِهِ نَقُولُ (مَتَاعٌ وُجِدَ رِكَازًا فَهُوَ لِلَّذِي وَجَدَهُ وَفِيهِ الْخُمُسُ) مَعْنَاهُ: إذَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

(بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ)

إنَّمَا عُرِفَ بِطَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ رَوَاهَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ: أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْعَنْبَرِ الْخُمُسَ. وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ قَالَا: فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ.

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ رضي الله عنه عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ عَامِلًا بِعَدَنَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْعَنْبَرِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَالْخُمُسُ وَهَذَا لَيْسَ جَزْمًا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْجَوَابِ، بَلْ حَقِيقَتُهُ التَّوَقُّفُ فِي أَنَّ فِيهِ شَيْئًا أَوْ لَا، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ غَيْرَ الْخُمُسِ، وَلَيْسَ فِيهِ رَائِحَةُ الْجَزْمِ بِالْحُكْمِ فَسَلِمَ مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ دَاوُد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعَنْبَرِ خُمُسٌ. عَنْ الْمُعَارِضِ قَالَ: وَحَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ، فَهَذَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَهُمَا مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَوْ تَعَارَضَا كَانَ قَوْلُ النَّافِي أَرْجَحَ لِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِالْوَجْهِ (قَوْلُهُ مَتَاعٌ إلَخْ) الْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ غَيْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَاتِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَالْفُصُوصِ وَالزِّئْبَقِ وَالْعَنْبَرِ، وَكُلِّ مَا يُوجَدُ كَنْزًا فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ بِشَرْطِهِ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ.

(بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ) قِيلَ تَسْمِيَتُهُ زَكَاةً عَلَى قَوْلِهِمَا لِاشْتِرَاطِهِمَا النِّصَابَ وَالْبَقَاءَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَأْخُوذَ عُشْرًا أَوْ نِصْفَهُ زَكَاةٌ حَتَّى يُصْرَفَ مَصَارِفَ الزَّكَاةِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي إثْبَاتِ بَعْضِ شُرُوطٍ لِبَعْضِ

ص: 241

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: فِي قَلِيلِ مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ الْعُشْرُ، سَوَاءٌ سُقِيَ سَيْحًا أَوْ سَقَتْهُ السَّمَاءُ، إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ. وَقَالَا: لَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ عِنْدَهُمَا عُشْرٌ) فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْبَقَاءِ. لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»

أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وَنَفْيِهَا، وَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ زَكَاةً (قَوْلُهُ: إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ) ظَاهِرُهُ كَوْنُ مَا سِوَى مَا اُسْتُثْنِيَ دَاخِلًا فِي الْوُجُوبِ، وَسَيَنُصُّ عَلَى إخْرَاجِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُ إدْرَاجُهُمَا فِي مُسَمَّى الْحَشِيشِ عَلَى مَا فِيهِ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ إخْرَاجِ الطَّرْفَاءِ وَالدُّلْبِ وَشَجَرِ الْقُطْنِ وَالْبَاذِنْجَانِ فَيُدْرَجُ فِي الْحَطَبِ، لَكِنْ بَقِيَ مَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الْأَدْوِيَةِ كَالْهَلِيلِجِ وَالْكُنْدُرِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَشْجَارِ كَالصَّمْغِ وَالْقَطِرَانِ، وَلَا فِيمَا هُوَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ كَالنَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ لِأَنَّهَا كَالْأَرْضِ وَلِذَا تَسْتَتْبِعُهَا الْأَرْضُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا فِي كُلِّ بِزْرٍ لَا يُطْلَبُ بِالزِّرَاعَةِ كَبِزْرِ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَقْصُودَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَيَجِبُ فِي الْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ وَبِزْرِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْصُودٌ، وَعَدَمُ الْوُجُوبِ فِي بَعْضِ هَذِهِ مِمَّا لَا يَرِدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ

(قَوْلُهُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ) وَهِيَ مَا تَبْقَى سَنَةً بِلَا عِلَاجٍ غَالِبًا، بِخِلَافِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَالْعِنَبِ فِي بِلَادِهِمْ وَالْبِطِّيخِ الصَّيْفِيِّ فِي دِيَارِنَا، وَعِلَاجُهُ الْحَاجَةُ إلَى تَقْلِيبِهِ وَتَعْلِيقِ الْعِنَبِ (قَوْلُهُ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَكُلُّ صَاعٍ أَرْبَعَةُ أَمْنَاءٍ، فَخَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا مَنٍّ. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: الْوَسْقُ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ، وَكَوْنُ الْوَسْقِ سِتِّينَ صَاعًا مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ لِحَدِيثِ الْأَوْسَاقِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَلَوْ كَانَ الْخَارِجُ نَوْعَيْنِ كُلٌّ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لَا يُضَمُّ، وَفِي نَوْعٍ وَاحِدٍ يُضَمُّ الصِّنْفَانِ كَالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، وَالنَّوْعُ الْوَاحِدُ هُوَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا (قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ) كَالرَّيَاحِينِ وَالْأَوْرَادِ وَالْبُقُولِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُ يَجِبُ فِي كُلِّ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ») رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ «لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى

ص: 242

وَلِأَنَّهُ صَدَقَةٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ وَقِيمَةُ الْوَسْقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِيهِ فَكَيْفَ بِصِفَتِهِ وَهُوَ الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِنْمَاءِ وَهُوَ كُلُّهُ نَمَاءٌ. وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَالزَّكَاةُ غَيْرُ مَنْفِيَّةٍ فَتَعَيَّنَ

تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ» ثُمَّ أَعَادَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ التَّمْرِ ثَمَرٌ يَعْنِي بِالْمُثَلَّثَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ بِالْمُثَنَّاةِ، وَزَادَ أَبُو دَاوُد فِيهِ: وَالْوَسْقُ سِتُّونَ مَخْتُومًا، وَابْنُ مَاجَهْ. وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عليه الصلاة والسلام «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ») أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَفِيهِ مِنْ الْآثَارِ أَيْضًا مَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: فِيمَا أَنْبَتَتْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ الْعُشْرُ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ وَعَنْ النَّخَعِيِّ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ النَّخَعِيِّ: حَتَّى فِي كُلِّ عَشْرِ دُسْتُجَاتِ بَقْلٍ أُسْتُجَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَارَضَ عَامٌّ وَخَاصٌّ، فَمَنْ يُقَدِّمُ الْخَاصَّ مُطْلَقًا كَالشَّافِعِيِّ قَالَ بِمُوجِبِ حَدِيثِ الْأَوْسَاقِ، وَمَنْ يُقَدِّمُ الْعَامَّ أَوْ يَقُولُ يَتَعَارَضَانِ وَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ إنْ لَمْ يَعْرِفْ التَّارِيخَ وَإِنْ عَرَفَ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ كَقَوْلِنَا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ بِمُوجِبِ هَذَا الْعَامِّ هُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ مَعَ حَدِيثِ الْأَوْسَاقِ فِي الْإِيجَابِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ كَانَ الْإِيجَابُ أَوْلَى لِلِاحْتِيَاطِ، فَمَنْ تَمَّ لَهُ الْمَطْلُوبُ فِي نَفْسِ الْأَصْلِ الْخِلَافِيِّ تَمَّ لَهُ هُنَا، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْخُرُوجِ عَنْ الْغَرَضِ لَأَظْهَرْنَا صِحَّتَهُ أَيَّ إظْهَارٍ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْبَحْثُ يَتِمُّ عَلَى الصَّاحِبَيْنِ لِالْتِزَامِهِمَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَمْلِ مَرْوِيِّهِمَا عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. قِيلَ وَلَفْظُ الصَّدَقَةِ يُشْعِرُ بِهِ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْوَاجِبِ فِيمَا أَخْرَجَتْ اسْمًا الْعُشْرُ لَا الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ

(قَوْلُهُ وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام) رَوَى

ص: 243

الْعُشْرُ وَلَهُ مَا رَوَيْنَا، وَمَرْوِيُّهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةٍ يَأْخُذُهَا الْعَاشِرُ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تُسْتَنْمَى بِمَا لَا يَبْقَى وَالسَّبَبُ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ

نَفْيَ الْعُشْرِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ سَوْقُهَا يَطُولُ فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَقَالَ: إسْنَادُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ. وَرَوَى الْحَاكِمُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وَصَحَّحَهُ، وَغُلِّطَ بِأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ يَحْيَى تَرَكَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ مُعَاذٍ مُرْسَلٌ عَنْ عُمَرَ، وَمُعَاذٌ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَرِوَايَةُ مُوسَى عَنْهُ مُرْسَلَةٌ. وَمَا قِيلَ: إنَّ مُوسَى هَذَا وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَمَّاهُ لَمْ يَثْبُتْ. وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا مَا رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ» وَأَحْسَنُ مَا فِيهَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا لَكِنْ يَجِيءُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمٍ مِنْ الْعَامِّ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْمَنْفِيَّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْعَاشِرُ إذَا مَرَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ هَذَا الْمُرْسَلِ. إذْ قَالَ نَهَى أَنْ يُؤْخَذَ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ وُجُوبِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالِكُ لِلْفُقَرَاءِ. وَالْمَعْقُولُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ أَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ لَيْسُوا مُقِيمِينَ عِنْدَ الْعَاشِرِ وَلَا بَقَاءَ لِلْخُضْرَوَاتِ فَتَفْسُدُ قَبْلَ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ؛ وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ أَخَذَ مِنْهَا الْعَاشِرُ لِيَصْرِفَهُ إلَى عِمَالَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَالسَّبَبُ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ) أَيْ بِالْخَارِجِ تَحْقِيقًا فِي حَقِّ الْعُشْرِ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَبْلَ السَّبَبِ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لَوْ لَمْ نُوجِبْ شَيْئًا لَكَانَ إخْلَاءً لِلسَّبَبِ عَنْ الْحُكْمِ، وَحَقِيقَةُ الِاسْتِدْلَالِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَامِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلِ الْجُعْلِ، وَالْمُفِيدُ لِسَبَبِيَّتِهَا كَذَلِكَ هُوَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ الْخَاصُّ أَفَادَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِإِخْرَاجِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ هَذَا مُسْتَقِلًّا بَلْ هُوَ فَرْعُ الْعَامِّ الْمُفِيدِ سَبَبِيَّتَهَا مُطْلَقًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَنْعِ تَعْجِيلِ الْعُشْرِ فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ أَجَازَهُ بَعْدَ الزَّرْعِ قَبْلَ النَّبَاتِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الثَّمَرَةِ فِي الشَّجَرِ، هَكَذَا حَكَى مَذْهَبَهُ فِي

ص: 244

وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ أَمَّا الْحَطَبُ وَالْقَصَبُ وَالْحَشِيشُ فَلَا تُسْتَنْبَتُ فِي الْجِنَانِ عَادَةً بَلْ تُنَقَّى عَنْهَا حَتَّى لَوْ اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً أَوْ مُشَجَّرَةً أَوْ مَنْبَتًا لِلْحَشِيشِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ أَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ فَفِيهِمَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِمَا اسْتِغْلَالَ الْأَرْضِ، بِخِلَافِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَبُّ وَالتَّمْرُ دُونَهُمَا

الْكَافِي. وَفِي الْمَنْظُومَةِ خَصَّ خِلَافَهُ بِثَمَرِ الْأَشْجَارِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ السَّبَبِ نَظَرًا إلَى أَنَّ بِنُمُوِّ الْأَشْجَارِ يَثْبُتُ نَمَاءُ الْأَرْضِ تَحْقِيقًا فَيَثْبُتُ السَّبَبُ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَمْ يَتَحَقَّقْ نَمَاءُ الْأَرْضِ، ثُمَّ إذَا ظَهَرَ فَأَدَّى يَجُوزُ اتِّفَاقًا وَهَلْ يَكُونُ تَعْجِيلًا يَنْبَنِي عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ مَتَى هُوَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ فَلَا يَكُونُ تَعْجِيلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقْتَ الْإِدْرَاكِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عِنْدَ تَصْفِيَتِهِ وَحُصُولِهِ فِي الْحَظِيرَةِ فَيَكُونُ تَعْجِيلًا. وَثَمَرَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ. قَالَ الْإِمَامُ: يَجِبُ عَلَيْهِ عُشْرُ مَا أَكَلَ أَوْ أَطْعَمَ، وَمُحَمَّدٌ يَحْتَسِبُ بِهِ فِي تَكْمِيلِ الْأَوْسُقِ: يَعْنِي إذَا بَلَغَ الْمَأْكُولُ مَعَ مَا بَقِيَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْبَاقِي لَا فِي التَّأَلُّفِ.

وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَعْتَبِرُ الذَّاهِبَ بَلْ يَعْتَبِرُ فِي الْبَاقِي خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إلَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمَالِكُ مِنْ الْمُتْلِفِ ضَمَانَ مَا أَتْلَفَهُ فَيُخْرِجُ عُشْرَهُ وَعُشْرَ مَا بَقِيَ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ) أَيْ لِكَوْنِهَا السَّبَبَ، إلَّا أَنَّ سَبَبِيَّتَهَا تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، فَفِي الْخَرَاجِ بِالنَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ فَلِذَا يَجِبُ وَيُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ وَفِي الْعُشْرِ بِالتَّحْقِيقِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا (قَوْلُهُ وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ) نَوْعٌ مِنْ الْقَصَبِ فِي مَضْغِهِ حَرَافَةٌ وَمَسْحُوقُهُ عَطِرٌ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ) وَإِنَّمَا

ص: 245

قَالَ: (وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَكْثُرُ فِيهِ وَتَقِلُّ فِيمَا يُسْقَى بِالسَّمَاءِ أَوْ سَيْحًا وَإِنْ سُقِيَ سَيْحًا وَبِدَالِيَةٍ فَالْمُعْتَبَرُ أَكْثَرُ السَّنَةِ كَمَا مَرَّ فِي السَّائِمَةِ. (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: فِيمَا لَا يُوسَقُ كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْقُطْنِ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يُوسَقُ) كَالذُّرَةِ فِي زَمَانِنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ فِيهِ فَاعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَجِبُ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ الْخَارِجُ خَمْسَةَ أَعْدَادٍ مِنْ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ. فَاعْتُبِرَ فِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ)؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ

(وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ إذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله

لَمْ يَجِبْ فِي التِّبْنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِزِرَاعَةِ الْحَبِّ غَيْرَ أَنَّهُ قَصَلَهُ قَبْلَ انْعِقَادِ الْحَبِّ وَجَبَ الْعُشْرُ فِيهِ لِأَنَّهُ صَارَ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُقَالَ كَانَ الْعُشْرُ فِيهِ قَبْلَ الِانْعِقَادِ ثُمَّ تَحَوَّلَ عِنْدَ الِانْعِقَادِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي التِّبْنِ إذَا يَبِسَ فِيهِ الْعُشْرُ

(قَوْلُهُ بِغَرْبٍ) الْغَرْبُ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ وَالدَّالِيَةُ الدُّولَابُ، وَالسَّانِيَةُ النَّاقَةُ يُسْتَقَى بِهَا (قَوْلُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ) يَعْنِي مُطْلَقًا كَمَا هُوَ قَوْلُهُ أَوْ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) لَمَّا اشْتَرَطَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيمَا لَا يُوسَقُ كَيْفَ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُمَا، اخْتَلَفَا فِيهِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِنْ الْحُبُوبِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَنْ يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَعْدَادٍ: أَيْ أَمْثَالِ كُلِّ وَاحِدٍ هُوَ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ النَّوْعُ الَّذِي لَا يُوسَقُ، فَاعْتُبِرَ فِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ وَخَمْسَةُ أَمْنَاءٍ فِي السُّكَّرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَخَمْسَةُ أَفْرَاقٍ فِي الْعَسَلِ

(قَوْلُهُ إذَا أَخَذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ

ص: 246

لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ فَأَشْبَهَ الْإِبْرَيْسَمَ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ» وَلِأَنَّ النَّخْلَ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَنْوَارِ وَالثِّمَارِ وَفِيهِمَا الْعُشْرُ فَكَذَا فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا بِخِلَافِ دُودِ الْقَزِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَوْرَاقِ وَلَا عُشْرَ فِيهَا. ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ النِّصَابَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ) يَعْنِي الْقَزَّ وُجُوبُ الْعُشْرِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ») أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ «عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَهْلِ الْعَسَلِ الْعُشْرُ» وَلَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ.

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَكْذِبُ وَلَا يَعْلَمُ وَيَقْلِبُ الْأَخْبَارَ وَلَا يَفْهَمُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَغْلَطُ كَثِيرًا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ» وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ الدَّوْسِيِّ قَالَ:«أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَفَعَلَ، وَاسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ قَالَ: يَا قَوْمِ أَدُّوا زَكَاةَ الْعَسَلِ فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مَالٍ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، قَالُوا: كَمْ تَرَى؟ قَالَ: الْعُشْرُ، فَأَخَذْتُ مِنْهُمْ الْعُشْرَ فَأَتَيْت بِهِ عُمَرَ رضي الله عنه فَبَاعَهُ وَجَعَلَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عِيسَى بِهِ.

وَرَوَاهُ الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ مُنِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ، وَلَمْ يَعْرِفْ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالِدَ مُنِيرٍ، وَسُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ أَيَصِحُّ حَدِيثُهُ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام يَأْمُرُهُ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْعَسَلِ» ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ رَآهُ فَتَطَوَّعَ بِهِ أَهْلُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ «أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي نَحْلًا قَالَ: أَدِّ الْعُشْرَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِهَا لِي، فَحَمَاهَا» وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْعَنْبَرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ «جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ لَهُ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَلَبَةُ فَحَمَاهُ لَهُ» ، فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ لَهُ عُمَرُ: إنْ أَدَّى إلَيْك مَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 247

أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ قِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَ قِرَبٍ لِحَدِيثِ «بَنِي شَبَّابَةَ أَنَّهُمْ

فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ، وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيّ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَفَّافُ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ بَنِي سَيَّارَةَ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ: صَوَابُهُ شَبَّابَةَ بِعُجْمَةٍ وَبِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ فَهْمٍ «كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَحْلٍ كَانَ لَهُمْ الْعُشْرَ عَنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ، وَكَانَ يَحْمِي وَادِيَيْنِ لَهُمْ» ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ عَلَى مَا هُنَاكَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ شَيْئًا وَقَالُوا: إنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَتَبَ سُفْيَانُ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: إنَّمَا النَّحْلُ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ عز وجل رِزْقًا إلَى مَنْ يَشَاءُ، فَإِنْ أَدَّوْا إلَيْك مَا كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحْمِ لَهُمْ أَوْدِيَتَهُمْ، وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَأَدَّوْا إلَيْهِ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَمَى لَهُمْ أَوْدِيَتَهُمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ لَهِيعَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْخَذُ فِي زَمَانِهِ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِنْ أَوْسَطِهَا» وَإِذْ قَدْ وُجِدَ مَا أَوْجَدْنَاك غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ الْوُجُوبُ فِي الْعَسَلِ، وَأَنَّ أَخْذَ سَعْدٍ لَيْسَ رَأْيًا مِنْهُ وَتَطَوُّعًا مِنْهُمْ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَدُّوا زَكَاةَ الْعَسَلِ.

وَالزَّكَاةُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ فَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَوْنَهُ رَأْيًا مِنْهُ، وَحَمْلُهُ عَلَى السَّمَاعِ أَوْلَى. وَقَوْلُهُمْ: كَمْ تَرَى لَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَهُمْ بِأَنَّهُ عَنْ رَأْيٍ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ عَنْ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الرَّأْيَ فِي خُصُوصٍ مِنْ الْكَمِّيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مَا عَلِمَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْلَ الْوُجُوبِ مَعَ إجْمَالِ الْكَمِّيَّةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يَكُونُونَ قَاصِدِي التَّطَوُّعِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْكَمِّيَّةِ أَوْ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ إذْ قَدْ قَلَّدُوهُ فِي رَأْيِهِ فَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ إذْ كَانَ رَأْيُهُ الْوُجُوبُ. ثُمَّ كَوْنُ عُمَرَ رضي الله عنه قَبِلَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ حِينَ أَتَاهُ بِعَيْنِ الْعَسَلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ إلَّا عَلَى أَنَّهُ زَكَاةٌ أَخَذَهَا مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا الْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي ثُبُوتِهِ، وَفِيهِ الْأَمْرُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام بِأَدَاءِ الْعُشُورِ، وَالْمُرْسَلُ بِانْفِرَادِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَا أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُحْتَجَّ بِهِ بِانْفِرَادِهِ فَتُعَدُّ طُرُقُ الضَّعِيفِ ضَعْفًا بِغَيْرِ فِسْقِ الرُّوَاةِ يُفِيدُ حُجِّيَّتَهُ، إذْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إجَادَةُ كَثِيرِ الْغَلَطِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْمَتْنِ وَهُنَا كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ الْمَذْكُورُ مَعَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَابْنِ مَاجَهْ، وَحَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَحَدِيثِ الشَّافِعِيِّ، فَتَثْبُتُ الْحُجِّيَّةُ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ وَرُجُوعًا وَإِلَّا فَإِلْزَامًا وَجَبْرًا، ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهِ. وَغَايَةُ مَا فِي حَدِيثِ الْقِرَبِ أَنَّهُ كَانَ أَدَاؤُهُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَهُوَ فَرْعُ بُلُوغِ عَسَلِهِمْ هَذَا الْمَبْلَغَ، أَمَّا النَّفْيُ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ قِرَبٍ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «فِي الْعَسَلِ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَزُقٍّ زِقٌّ» فَضَعِيفٌ (قَوْلُهُ لِحَدِيثِ بَنِي شَبَّابَةَ) قَالَ

ص: 248

كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ» وَعَنْهُ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرَقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا؛ لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ. وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الْعَسَلِ وَالثِّمَارِ فَفِيهِ الْعُشْرُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ.

فِي الْعِنَايَةِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَبِي سَيَّارَةَ وَهُوَ الصَّوَابُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ صَوَابَهُ بَنِي شَبَّابَةَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَاسْتَجْهَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ، وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ صَوَابًا مَعَ قَوْلِهِ كَانُوا يُؤَدُّونَ اهـ. وَلَيْسَ هَذَا الدَّفْعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ: إنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَ لَمْ يُحْكَمْ بِخَطَأِ الْعِبَارَةِ فَإِنَّهُ أُسْلُوبٌ مُسْتَمِرٌّ فِي أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يُؤَدُّونَ أَوْ أَنَّهُ مَعَ بَاقِي الْقَوْمِ كَانُوا يُؤَدُّونَ، بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ هُنَا لَيْسَ بِصَوَابٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَيَّارَةَ ذِكْرُ الْقِرَبِ بَلْ مَا تَقَدَّمَ إنَّ لِي نَحْلًا فَقَالَ عليه الصلاة والسلام «أَدِّ الْعُشُورَ» لَا لِمَا اسْتَبْعَدَهُ بِهِ.

فَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ الْمُتَعِيَّ ثَابِتٌ، وَكَذَا بَنَى شَبَّابَةَ، وَهُوَ الصَّوَابُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَالَ بَنِي سَيَّارَةَ لَا مُطْلَقًا، فَارْجِعْ تَأَمَّلْ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْكَلَامِ الطَّوِيلِ حِينَئِذٍ. [فَرْعٌ]

اُخْتُلِفَ فِي الْمَنِّ إذَا سَقَطَ عَلَى الشَّوْكِ الْأَخْضَرِ: قِيلَ لَا يَجِبُ فِيهِ عُشْرٌ، وَقِيلَ يَجِبُ، وَلَوْ سَقَطَ عَلَى الْأَشْجَارِ لَا يَجِبُ (قَوْلُهُ وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ) قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: فِي قَصَبِ السُّكَّرِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ السُّكَّرِ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصَابُ السُّكَّرِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ. اهـ. وَهَذَا تَحَكُّمٌ بَلْ إذَا بَلَغَ قِيمَةُ نَفْسِ الْخَارِجِ مِنْ الْقَصَبِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يُوسَقُ، كَانَ ذَلِكَ نِصَابَ الْقَصَبِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَوْلُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصَابُ السُّكَّرِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ يُرِيدُ فَإِذَا بَلَغَ الْقَصَبُ قَدْرًا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَمْنَاءِ سُكَّرٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَإِلَّا فَالسُّكَّرُ نَفْسُهُ لَيْسَ مَالَ الزَّكَاةِ إلَّا إذَا أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ وَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا.

وَإِذًا فَالصَّوَابُ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ يَبْلُغَ الْقَصَبُ الْخَارِجُ خَمْسَةَ مَقَادِيرَ مِنْ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ الْقَصَبُ نَفْسُهُ كَخَمْسَةِ أَطْنَانٍ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْفَرَقُ بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُسَكِّنُونَهَا، وَهُوَ مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ هُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا. وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: إنَّهُ لَمْ يَرَ تَقْدِيرَهُ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ أُصُولِ اللُّغَةِ. (قَوْلُهُ: إنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ) فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى كَوْنِهِ مَالِكًا

ص: 249

قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ لَا يُحْتَسَبُ فِيهِ أَجْرُ الْعُمَّالِ وَنَفَقَةُ الْبَقَرِ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ فَلَا مَعْنَى لِرَفْعِهَا.

قَالَ (تَغْلِبِيٌّ لَهُ أَرْضٌ عُشْرٍ عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا)

لِلْأَرْضِ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ، كَمَا إذَا أَجَّرَ الْعُشْرِيَّةَ عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ وَعِنْدَهُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَكَمَا إذَا اسْتَعَارَهَا وَزَرَعَ يَجِبُ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِالِاتِّفَاقِ خِلَافًا لِزُفَرَ. هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذْ قَدْ ذَكَرْنَا هَاتَيْنِ فَلْنَذْكُرْ الْوَجْهَ تَتْمِيمًا لَهُمَا فِي الْأُولَى أَنَّ الْعُشْرَ مَنُوطٌ بِالْخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا وَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ. وَلَهُ أَنَّهَا كَمَا تُسْتَنْمَى بِالزِّرَاعَةِ تُسْتَنْمَى بِالْإِجَارَةِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ مَقْصُودَةً كَالثَّمَرَةِ فَكَانَ النَّمَاءُ لَهُ مَعْنًى مَعَ مِلْكِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ. وَلِزُفَرَ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّبَبَ مِلْكُهَا وَالنَّمَاءُ لَهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْمُسْتَعِيرَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الِاسْتِنْمَاءِ فَكَانَ كَالْمُؤَجِّرِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ قَامَ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي الِاسْتِنْمَاءِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعُشْرِ، بِخِلَافِ الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ عِوَضُ مَنَافِعِ أَرْضِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى زَرْعًا وَتَرَكَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَأَدْرَكَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عُشْرُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عُشْرُ قِيمَةِ الْقَصِيلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْبَاقِي عَلَى الْمُشْتَرِي.

لَهُ أَنَّ بَدَلَ الْقَصِيلِ حَصَلَ لِلْبَائِعِ فَعُشْرُهُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتْرُكْهُ وَقَصْلَهُ كَانَ عُشْرُهُ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي فَعُشْرُهُ عَلَيْهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْعُشْرَ وَاجِبٌ فِي الْحَبِّ وَقَدْ حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا كَانَ يَجِبُ فِي الْقَصِيلِ لَوْ قَصَلَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ هُوَ الْمُسْتَنْمَى بِهِ فَلَمَّا لَمْ يُقْصَلْ كَانَ الْمُسْتَنْمَى بِهِ الْحَبَّ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا إنْ نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ كَانَ الْعُشْرُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ ضَمَانَ نُقْصَانِهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نَمَائِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْمُؤَجِّرِ، وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَعَلَى الْغَاصِبِ فِي زَرْعِهِ.

وَلَوْ زَارَعَ بِالْعُشْرِيَّةِ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْعُشْرُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ فِي الزَّرْعِ كَالْإِجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ فَهُوَ رَبُّ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِمْ.

(قَوْلُهُ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ كَيْ لَا يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ قَيْدٌ مُعْتَبَرٌ. (قَوْلُهُ لَا يُحْتَسَبُ فِيهِ أَجْرُ الْعُمَّالِ وَنَفَقَةُ الْبَقَرِ) وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ وَأُجْرَةُ الْحَارِسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، يَعْنِي لَا يُقَالُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي قَدْرِ الْخَارِجِ الَّذِي بِمُقَابَلَةِ الْمُؤْنَةِ بَلْ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْكُلِّ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ النَّظَرُ إلَى قَدْرِ قِيَمِ الْمُؤْنَةِ فَيُسَلَّمُ لَهُ بِلَا عُشْرٍ ثُمَّ يُعْشَرُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ

ص: 250

عُرِفَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: أَنَّ فِيمَا اشْتَرَاهُ التَّغْلِبِيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ عُشْرًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ

قَدْرَ الْمُؤْنَةِ بِمَنْزِلَةِ السَّالِمِ بِعِوَضٍ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ سُلِّمَ لَهُ قَدْرُ مَا غَرِمَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَطَابَ لَهُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ. وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِيمَا سُقِيَ سَيْحًا» إلَخْ حُكْمٌ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ، فَلَوْ رُفِعَتْ الْمُؤْنَةُ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا وَهُوَ الْعُشْرُ دَائِمًا فِي الْبَاقِي لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ إلَى نِصْفِهِ إلَّا لِلْمُؤْنَةِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ رَفْعِ قَدْرِ الْمُؤْنَةِ لَا مُؤْنَةَ فِيهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ دَائِمًا الْعُشْرَ، لَكِنَّ الْوَاجِبَ قَدْ تَفَاوَتَ شَرْعًا مَرَّةً الْعُشْرُ وَمَرَّةً نِصْفُهُ بِسَبَبِ الْمُؤْنَةِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا عَدَمُ عَشْرِ بَعْضِ الْخَارِجِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسَاوِي لِلْمُؤْنَةِ أَصْلًا.

وَفِي النِّهَايَةِ مَا حَاصِلُهُ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى اتِّحَادِ الْوَاجِبِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُؤْنَةِ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ شَرْعًا فَيَنْتَفِي مَلْزُومُهُ، وَهُوَ عَدَمُ تَعْشِيرِ الْبَعْضِ الْمُسَاوِي لِقَدْرِ الْمُؤْنَةِ. بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْخَارِجَ مَثَلًا أَرْبَعُونَ قَفِيزًا فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَاسْتُحِقَّ قِيمَةُ قَفِيزَيْنِ لِلْعُمَّالِ وَالثِّيرَانِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْفِزَةٍ اعْتِبَارُ الْمَجْمُوعِ الْخَارِجِ، وَعَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ قَفِيزَانِ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْمُؤْنَةَ مِنْ الْخَارِجِ لَا يَجِبُ فِي قَدْرِ مُقَابَلَةِ شَيْءٍ فَلَوْ فُرِضَ إخْرَاجُ أَرْبَعِينَ قَفِيزًا فِيمَا سُقِيَ بِدَالِيَةٍ أَوْ غَرْبٍ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قَفِيزَانِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَلْزَمُ اتِّحَادُ الْوَاجِبِ فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ، وَفِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَهُوَ خِلَافُ حُكْمِ الشَّرْعِ اهـ.

وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَعْنَى الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُقَابِلُ الْمُؤْنَةَ لَا يُعْشَرُ وَيُعْشَرُ الْبَاقِي، فَيُعْشَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي فَرَضَهَا فِي النِّهَايَةِ أَوَّلًا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ قَفِيزًا لِأَنَّ الْقَفِيزَيْنِ الْأَخِيرِينَ اُسْتُغْرِقَا فِي الْمُؤْنَةِ فَلَا يُعْشَرَانِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ إلَّا خُمُسَ قَفِيزٍ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الْمَذْكُورُ فِي النِّهَايَةِ يُفِيدُ أَنَّهُ يُرْفَعُ قَدْرُ الْمُؤْنَةِ وَهُوَ الْقَفِيزَانِ مِنْ نَفْسِ عُشْرِ جَمِيعِ الْخَارِجِ حَتَّى يَصِيرَ الْوَاجِبُ قَفِيزَيْنِ، فَأَسْقَطُوا عُشْرَ عِشْرِينَ قَفِيزًا، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ، نَعَمْ إنْ كَانَ قَوْلُهُمْ فِي الْوَاقِعِ هُوَ هَذَا فَذَلِكَ دَفْعُهُ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَالتَّصْوِيرُ الصَّحِيحُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي فَرَضَهَا أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْمُؤْنَةُ عِشْرِينَ قَفِيزًا

(قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله إلَخْ) ضَبْطُ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى تَمَامِهِ أَنَّ الْأَرْضَ إمَّا

ص: 251

(فَإِنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ ذِمِّيٌّ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا عِنْدَهُمْ) لِجَوَازِ التَّضْعِيفِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ (وَكَذَا إذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) سَوَاءٌ كَانَ التَّضْعِيفُ أَصْلِيًّا أَوْ حَادِثًا؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةً لَهَا. فَتَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ بِمَا فِيهَا كَالْخَرَاجِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَعُودُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ) لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ قَالَ فِي الْكِتَابِ

عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً أَوْ تَضْعِيفِيَّةً، وَالْمُشْتَرُونَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَتَغْلِبِيٌّ فَالْمُسْلِمُ إذَا اشْتَرَى الْعُشْرِيَّةَ أَوْ الْخَرَاجِيَّةَ بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا، أَوْ تَضْعِيفِيَّةً فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ التَّضْعِيفُ أَصْلِيًّا بِأَنْ كَانَتْ مِنْ أَرَاضِي بَنِي تَغْلِبَ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ حَادِثًا اسْتَحْدَثُوا مِلْكَهَا فَضُعِّفَتْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَرْجِعُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ وَهُوَ الْكُفْرُ مَعَ التَّغْلِبِيَّةِ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ اشْتَرَى الْمُسْلِمُ خُمُسًا مِنْ سَائِمَةِ إبِلِ التَّغْلِبِيِّ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى شَاةٍ وَاحِدَةٍ اتِّفَاقًا. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصَحِّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى قَوْلُهُ فِي التَّضْعِيفِ الْحَادِثِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةَ الْأَرْضِ فَلَا يَتَبَدَّلُ إلَّا فِي صُورَةٍ يَخُصُّهَا دَلِيلٌ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ اشْتَرَى الْمُسْلِمُ الْخَرَاجِيَّةَ حَيْثُ تَبْقَى خَرَاجِيَّةً، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يُبْتَدَأُ بِالْخَرَاجِ. وَقَوْلُهُ: زَالَ الْمَدَارُ، وَهُوَ الْكُفْرُ. قُلْنَا: هَذَا مَدَارُ ثُبُوتِهِ ابْتِدَاءً، وَحُكْمُ الشَّرْعِيِّ يُسْتَغْنَى عَنْ قِيَامِ عِلَّتِهِ الشَّرْعِيَّةِ فِي بَقَائِهِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهَا فِي ابْتِدَائِهِ كَالرِّقِّ أَثَرَ الْكُفْرِ ثُمَّ يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ، بِخِلَافِ سَائِمَتِهِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي السَّائِمَةِ لَيْسَتْ وَظِيفَةً مُتَقَرِّرَةً فِيهَا، وَلِهَذَا تَنْتَفِي بِجَعْلِهَا عَلُوفَةً وَبِكَوْنِهَا لِغَيْرِ التَّغْلِبِيِّ بِخِلَافِ الْأَرَاضِيِ، وَتَقْيِيدُنَا بِالشَّرْعِيِّ فِي الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ لِإِخْرَاجِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي بَقَائِهِ إلَى عِلَّتِهِ الْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَسَتَظْهَرُ فَائِدَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ وَلَهُ أَرْضٌ تَضْعِيفِيَّةٌ، وَإِذَا اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ الْخَرَاجِيَّةَ بَقِيَتْ خَرَاجِيَّتُهُ، أَوْ التَّضْعِيفِيَّةَ فَهِيَ تَضْعِيفِيَّةٌ، أَوْ الْعُشْرِيَّةَ مِنْ مُسْلِمٍ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لَهُ أَنَّ الْوَظِيفَةَ بَعْدَ مَا قُرِّرَتْ فِي الْأَرْضِ لَا تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ عَلَى مَا عُلِمَ فِيمَا إذَا اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ خَرَاجِيَّةً لَا يُضَعَّفُ الْخَرَاجُ. وَلَهُمَا أَنَّ فِي هَذِهِ دَلِيلًا يَخُصُّهَا

ص: 252

وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: قَالَ رحمه الله: اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي بَقَاءِ التَّضْعِيفِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ الْحَادِثَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْوَظِيفَةِ

(وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُسْلِمٍ بَاعَهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ) يُرِيدُ بِهِ ذِمِّيًّا غَيْرَ تَغْلِبِيٍّ (وَقَبَضَهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله)؛ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا) وَيُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ اعْتِبَارًا بِالتَّغْلِبِيِّ وَهَذَا أَهْوَنُ مِنْ التَّبْدِيلِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله. هِيَ عُشْرِيَّةٌ عَلَى حَالِهَا)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْنَةً لَهَا فَلَا يَتَبَدَّلُ كَالْخَرَاجِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ: يُصْرَفُ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ (فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ،

يَقْتَضِي تَغَيُّرَهَا وَهُوَ وُقُوعُ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَوَجَبَ تَضْعِيفُ الْعُشْرِ دُونَ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُسْلِمُ.

فَإِنْ قِيلَ: الصُّلْحُ وَقَعَ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يَأْخُذُهُ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِقَيْدِ كَوْنِهِ مِمَّا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُسْلِمُ. فَمِمَّا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُوجِدُوا فِيهِ دَلِيلًا، وَهَذَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ لِأَنَّ الصُّلْحَ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ. قُلْنَا سَوْقُ الصُّلْحِ وَهُوَ الْأَنَفَةُ مِنْ إعْطَائِهِمْ الْجِزْيَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّغَارِ يُفِيدُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى مَا لَا يَلْزَمُهُمْ بِهِ مَا أَنِفُوا مِنْهُ فَيُقَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا، إذًا ابْتِدَاءُ الْخَرَاجِ ذُلٌّ وَصَغَارٌ وَلِهَذَا لَا يُبْتَدَأُ الْمُسْلِمُ بِهِ،

وَإِذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ غَيْرُ تَغْلِبِيٍّ خَرَاجِيَّةً أَوْ تَضْعِيفِيَّةً بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا، وَلَوْ اشْتَرَى عُشْرِيَّةً مِنْ مُسْلِمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

ص: 253

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِحُكْمِ الْفَسَادِ جَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَذَا الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقَّ الرَّدِّ (وَإِذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ دَارُ خُطَّةٍ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ)

تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً إنْ اسْتَقَرَّتْ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِرَّ بَلْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ بِفَسَادِ الْبَيْعِ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ اسْتَحَقَّهَا مُسْلِمٌ بِشُفْعَتِهِ عَادَتْ عُشْرِيَّةً وَلَوْ بَعْدَ وَضْعِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ هَذَا الرَّدَّ فَسْخٌ فَيُجْعَلُ الْبَيْعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ بِالشُّفْعَةِ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ الشَّفِيعِ الصَّفْقَةُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ، وَكَذَا إذَا رَدَّهَا بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ الْفَسْخِ، وَأَمَّا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَهُوَ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهَا فَصَارَ شِرَاءُ الْمُسْلِمِ مِنْ الذِّمِّيِّ بَعْدَ مَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً فَتَصِيرُ عَلَى حَالِهَا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ، كَمَا إذَا أَسْلَمَ هُوَ وَاشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ آخَرُ، وَفِي نَوَادِرِ:(زَكَاةِ) الْمَبْسُوطِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَيْبٌ حَدَثَ فِيهَا فِي مِلْكِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَيْبٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ فَلَا يَمْنَعُ الرَّدَّ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي النَّوَادِرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ بِالرَّدِّ بِالْقَضَاءِ لِلْمَانِعِ فَمَنْعُهُ بِأَنَّهُ مَانِعٌ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ، وَهَذَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّدَّ بِالتَّرَاضِي إقَالَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ لِلْعَيْبِ. هَذَا التَّفْرِيعُ كُلُّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِصَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُضَاعَفُ عَلَيْهِ عُشْرُهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ عَلَى حَالِهَا عُشْرِيَّةً. ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ: تُصْرَفُ مَصَارِفَ الْعُشْرِ، وَفِي أُخْرَى: مَصَارِفَ الْخَرَاجِ، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَبْقِيَتِهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَبْقَى بَلْ يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا كَقَوْلِهِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا وَفِي قَوْلٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ مَعًا. وَعَنْ شَرِيكٍ: لَا شَيْءَ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى السَّوَائِمِ إذَا اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْعُشْرِ وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لَهُ، فَالْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ الْمُمْتَنِعَ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْعُشْرَ كَانَ وَظِيفَتَهَا فَتَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِمَا فِيهَا ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُوَظَّفَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لِمَا نَذْكُرُ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَجِبَانِ عَلَيْهِ جَمِيعًا. وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ مَالَهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعُشْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِيهَا فَيَجِبُ إجْبَارُهُ عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ إبْقَاءً لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعُشْرِ تَابِعٌ فَيُمْكِنُ إلْغَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى الْخَرَاجِ لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ تَابِعًا أُلْغِيَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ بَقَاءً.

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَضْعِيفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِبَلَهُ فَعَلِمَ أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا ثَبَتَ أَخْذُهُ مِنْ الذِّمِّيِّ يُضَعَّفُ عَلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّضْعِيفُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحُكْمِ الصُّلْحِ أَوْ التَّرَاضِي كَمَا فِي التَّغْلِبِيِّينَ، وَتَعَذَّرَ الْعُشْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَإِنْ سَلِمَ كَوْنُهُ تَابِعًا فَإِنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِشَيْءٍ مِنْهَا، وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو عَنْ وَظِيفَةٍ مُقَرَّرَةٍ فِيهَا شَرْعًا بِخِلَافِ السَّائِمَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَبِهِ يَنْتَفِي قَوْلُ شَرِيكٍ فَتَعَيَّنَ الْخَرَاجُ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِمَّا مَنَعَ

ص: 254

مَعْنَاهُ إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُسْقَى بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَفِيهَا الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَدُورُ مَعَ الْمَاءِ

(وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ فِي دَارِهِ شَيْءٌ)

بَقَاءَ الْوَظِيفَةِ فِيهِ مَانِعٌ فَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ السَّابِقُ.

هَذَا ثُمَّ إلَى الْآنَ لَمْ يَحْصُلْ جَوَابُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ التَّغْيِيرَ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ بَعْدَ تَعَلُّقِهِ فَلَا يَجُوزُ وَالتَّضْعِيفُ أَيْضًا إبْطَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ الْمُضَاعَفِ مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ، وَإِبْقَاءُ حَقِّهِمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ مَالَهُ غَيْرُ صَالِحٍ لَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إحْدَى الْوَظَائِفِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا إخْلَاؤُهَا مُطْلَقًا وَجَبَ إجْبَارُهُ عَلَى إخْرَاجِهَا، كَمَا إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا عِنْدَنَا يَصِحُّ، وَيُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ. فَإِنْ قُلْت: فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ حِينَئِذٍ أَوَّلٌ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَتْ الْوَظَائِفُ وَالْإِخْلَاءُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْقَى فَلَا فَائِدَةَ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ ثُمَّ الْإِجْبَارُ عَلَى الْإِخْرَاجِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَفْيَ الْفَائِدَةِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ إذْ قَدْ يَسْتَتْبِعُ فَائِدَةَ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ أَوْ قَصْدَ الْهِبَةِ فِي أَغْرَاضٍ كَثِيرَةٍ فَيَجِبُ التَّصْحِيحُ.

(قَوْلُهُ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْعَلْهَا بُسْتَانًا وَفِيهَا نَخْلٌ تَغُلُّ أَكْرَارًا لَا شَيْءَ فِيهَا. (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ تَدُورُ فِي مِثْلِهِ مَعَ الْمَاءِ)، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَرَاجِيًّا فَفِيهَا الْخَرَاجُ وَإِنْ كَانَتْ عُشْرِيَّةً فِي الْأَصْلِ سَقَطَ عُشْرُهَا بِاخْتِطَاطِهَا دَارًا، وَإِنْ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ خَرَاجِيَّةً سَقَطَ خَرَاجُهَا بِالِاخْتِطَاطِ أَيْضًا، فَالْوَظِيفَةُ فِي حَقِّهِ تَابِعَةٌ لِلْمَاءِ، وَلَيْسَ فِي جَعْلِهَا خَرَاجِيَّةً إذَا سُقِيَتْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ ابْتِدَاءً تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَمَا ظَنَّهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ حُسَامُ الدِّينِ السِّغْنَاقِيُّ فِي النِّهَايَةِ، وَأَيَّدَ عَدَمَ امْتِنَاعِهِ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو الْيُسْرِ مِنْ أَنَّ ضَرْبَ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً جَائِزٌ، وَقَوْلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ لَا صَغَارَ فِي خَرَاجِ الْأَرَاضِيِ إنَّمَا الصَّغَارُ فِي خَرَاجِ الْجَمَاجِمِ بَلْ إنَّمَا هُوَ انْتِقَالُ مَا تَقَرَّرَ فِيهِ الْخَرَاجُ بِوَظِيفَتِهِ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَاءُ فَإِنَّ فِيهِ وَظِيفَةَ الْخَرَاجِ، فَإِذَا سُقِيَ بِهِ انْتَقَلَ هُوَ بِوَظِيفَتِهِ إلَى أَرْضِ الْمُسْلِمِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى خَرَاجِيَّةً، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَاتِلَةَ هُمْ الَّذِينَ حَمَوْا هَذَا الْمَاءَ فَثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ وَحَقُّهُمْ هُوَ الْخَرَاجُ، فَإِذَا سَقَى بِهِ مُسْلِمٌ أُخِذَ مِنْهُ حَقُّهُمْ، كَمَا أَنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِمْ فِي الْأَرْضِ أَعَنَى خَرَاجَهَا لِحِمَايَتِهِمْ إيَّاهَا يُوجِبُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ مُحَمَّدٌ فِي أَبْوَابِ السِّيَرِ مِنْ الزِّيَادَاتِ: بِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ وَحَمَلَهُ السَّرَخْسِيُّ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُبَاشِرْ سَبَبَ ابْتِدَائِهِ بِذَلِكَ لِيَخْرُجَ هَذَا الْمَوْضِعُ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْهُ.

وَقَوْلُهُ الْوَظِيفَةُ فِي مِثْلِهِ أَيْ فِيمَا هُوَ ابْتِدَاءُ تَوْظِيفٍ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ هَذَا وَمِنْ الْأَرْضِ الَّتِي أَحْيَاهَا لَا كُلِّ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ أَمْرُهُ فِي وَظِيفَةٍ كَمَا فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ جَعَلَ دَارَ خُطَّتِهِ بُسْتَانًا أَوْ أَحْيَا أَرْضًا أَوْ رَضَخَتْ لَهُ لِشُهُودِهِ الْقِتَالَ كَانَ فِيهَا الْخَرَاجُ وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

(قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ)

ص: 255

لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَعَلَ الْمَسَاكِنَ عَفْوًا (وَإِنْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ) وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْعُشْرِ إذْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ الْخَرَاجُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْمَاءِ الْعُشْرِيِّ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله عُشْرًا وَاحِدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله عُشْرَانِ وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ، ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِيُّ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْبِحَارِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ، وَالْمَاءُ الْخَرَاجِيُّ مَاءُ الْأَنْهَارِ الَّتِي

قَيَّدَ بِهِ لِيُفِيدَ النَّفْيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّ الْمَجُوسَ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ حُرْمَةِ مُنَاكَحَتِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَعَلَ الْمَسَاكِنَ عَفْوًا) هَكَذَا هُوَ مَأْثُورٌ فِي الْقَصَصِ وَكُتُبِ الْآثَارِ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه جَعَلَ الْخَرَاجَ عَلَى الْأَرْضِينَ الَّتِي تَغُلُّ وَاَلَّتِي تَصْلُحُ لِلْغَلَّةِ مِنْ الْعَامِرَةِ، وَعَطَّلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَسَاكِنَ وَالدُّورَ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُهُمْ وَتَوَارَثَهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ، وَحَكَى عَلَيْهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ) لِأَنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْكُفْرُ يُنَافِيهِ. وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: فِيمَا إذَا اتَّخَذَ الذِّمِّيُّ دَارِهِ بُسْتَانًا أَوْ رَضَخَتْ لَهُ أَرْضٌ أَوْ أَحْيَاهَا فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ، وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهِمَا الْعُشْرُ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا سَقَى دَارِهِ الَّذِي جَعَلَهَا بُسْتَانًا بِمَاءِ الْخَرَاجِ حَيْثُ يَجِبُ الْخَرَاجُ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهَا عُشْرَانِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عُشْرٌ وَاحِدٌ كَمَا مَرَّ مِنْ أَصْلِهِمَا ثُمَّ نَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَرْضٍ اسْتَقَرَّ فِيهَا الْعُشْرُ. وَصَارَ وَظِيفَةً لَهَا بِأَنْ كَانَتْ فِي يَدِ مُسْلِمٍ اهـ. وَقَدْ قَرَّرَ هُوَ ثُبُوتَ الْوَظِيفَةِ فِي الْمَاءِ وَهُوَ حَقٌّ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُدْفَعُ مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ بِمَا أَوْرَدَهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِي مَاءُ السَّمَاءِ) وَالْعُيُونُ وَالْبِحَارُ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ وُرُودُ يَدِ أَحَدٍ عَلَيْهَا، وَمَاءُ الْخَرَاجِ

ص: 256

شَقَّهَا الْأَعَاجِمُ، وَمَاءُ جَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عُشْرِيٌّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْمِيهَا أَحَدٌ كَالْبِحَارِ، وَخَرَاجِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْقَنَاطِرَ مِنْ السُّفُنِ وَهَذَا يَدٌ عَلَيْهَا (وَفِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ التَّغْلِبِيَّيْنِ مَا فِي أَرْضِ الرَّجُلِ التَّغْلِبِيِّ) يَعْنِي الْعُشْرَ الْمُضَاعَفَ فِي الْعُشْرِيَّةِ وَالْخَرَاجَ الْوَاحِدَ فِي الْخَرَاجِيَّةِ،

مَاءُ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ كَنَهْرِ الْمَلِكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَيَحُونَ نَهْرِ التُّرْكِ وَجَيْحُونَ نَهْرِ تِرْمِذَ وَدِجْلَةَ نَهْرِ بَغْدَادَ وَالْفُرَاتِ نَهْرِ الْكُوفَةِ هَلْ هِيَ خَرَاجِيَّةٌ أَوْ لَا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَرُدُّ عَلَيْهَا يَدَ أَحَدٍ أَوْ لَا فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ نَعَمْ، فَإِنَّ السُّفُنَ يُشَدُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ حَتَّى تَصِيرَ جِسْرًا يَمُرُّ عَلَيْهِ كَالْقَنْطَرَةِ، وَهَذَا يَدٌ عَلَيْهَا فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ.

قِيلَ: مَا ذُكِرَ فِي مَاءِ الْخَرَاجِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ مَاءَ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْكَفَرَةُ كَانَ لَهُمْ يَدٌ عَلَيْهَا ثُمَّ حَوَيْنَاهَا قَهْرًا وَقَرَرْنَا يَدَ أَهْلِهَا عَلَيْهَا كَأَرَاضِيِهِمْ، وَأَمَّا فِي مَاءِ الْعُشْرِ فَلَيْسَ بِظَاهِرِ فَإِنَّ الْآبَارَ وَالْعُيُونَ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ وَحَوَيْنَاهَا قَهْرًا خَرَاجِيَّةٌ، صَرَّحُوا بِذَلِكَ مُعَلِّلِينَ بِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ وَعَلَّلُوا الْعُشْرِيَّةَ بِعَدَمِ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا فَلَمْ تَكُنْ غَنِيمَةً وَلَا يَتِمُّ هَذَا إلَّا فِي الْبِحَارِ وَالْأَمْطَارِ، ثُمَّ قَالُوا فِي مَائِهِمَا: لَوْ سَقَى كَافِرٌ بِهِمَا أَرْضَهُ يَكُونُ فِيهَا الْخَرَاجُ بَلْ الْبِحَارُ أَيْضًا خَرَاجِيَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَاءُ الْمَطَرِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْكَافِرَ إذَا سَقَى بِهِ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَرْضٍ عُشْرِيَّةٍ اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ الَّتِي كَانَتْ حِينَ كَانَتْ الْأَرْضُ دَارَ حَرْبٍ خَرَاجِيَّةً لَا يَنْفِي الْعُشْرِيَّةَ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَبِئْرٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ احْتَفَرَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْأَرْضِ دَارَ إسْلَامٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ التَّعْمِيمُ فَإِنَّ مَا نَرَاهُ مِنْهَا الْآنَ إمَّا مَعْلُومُ الْحُدُوثِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا مَجْهُولُ الْحَالِ، أَمَّا ثُبُوتُ مَعْلُومِيَّةِ أَنَّهُ جَاهِلِيٌّ فَمُتَعَذِّرٌ، إذْ أَكْثَرُ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِمْ قَدْ دُثِرَ وَسَفَتْهُ الرِّيَاحُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ إلَّا قَوْلُ الْعَوَامّ غَيْرَ مُسْتَنِدِينَ فِيهِ إلَى نَبْتٍ فَيَجِبُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا نَرَاهُ بِأَنَّهُ إسْلَامِيٌّ إضَافَةً لِلْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ وَقْتَيْهِ

ص: 257

لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ، ثُمَّ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا كَانَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعُشْرُ فَيُضَعَّفُ ذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْهُمْ قَالَ:(وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْقِيرِ وَالنَّفْطِ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ عَيْنٌ فَوَّارَةٌ كَعَيْنِ الْمَاءِ (وَعَلَيْهِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ خَرَاجٌ) وَهَذَا (إذَا كَانَ حَرِيمُهُ صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ)؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ.

(بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ)

الْمُمَكَّنَيْنِ وَيَكُونُ ظُهُورُ الْقِسْمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَقْي الْمُسْلِمِ مَا لَمْ تَسْبِقْ فِيهِ وَظِيفَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (قَوْلُهُ فِي عَيْنِ الْقِيرِ) هُوَ الزِّفْتُ وَيُقَالُ الْقَارُ، وَالنَّفْطُ دُهْنٌ يَعْلُو الْمَاءَ.

(قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ حَرِيمُهَا صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ) ثُمَّ يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقِيرِ فِي رِوَايَةٍ تَبَعًا، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَمْسَحُ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ. [فَرْعٌ] لَا يُجْمَعُ عَلَى مَالِكِ أَرْضٍ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ لِمَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُجْمَعُ عَلَى مُسْلِمٍ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضٍ» وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ إذْ قَدْ فَتَحُوا السَّوَادَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ قَطُّ جَمْعُهَا عَلَى مَالِكٍ

(بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ)

ص: 258

قَالَ رحمه الله (الْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَزّ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْهُمْ)

قَوْلُهُ الْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِيمَنْ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَمَنْ لَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ فَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ كَانَ مَصْرِفًا وَمَنْ لَا فَلَا لِأَنَّ إنَّمَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فَيَثْبُتُ النَّفْيُ عَنْ غَيْرِهِمْ. (قَوْلُهُ: سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ) كَانُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ كُفَّارٌ كَانَ عليه الصلاة والسلام يُعْطِيهِمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقِسْمٌ كَانَ يُعْطِيهِمْ لِيَدْفَعَ شَرَّهُمْ، وَقِسْمٌ أَسْلَمُوا وَفِيهِمْ ضَعِيفٌ فِي الْإِسْلَامِ. فَكَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ لِيَثْبُتُوا، وَلَا حَاجَةَ إلَى إيرَادِ السُّؤَالِ الْقَائِلِ كَيْفَ يَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى الْكُفَّارِ، وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَادِ الْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ مِنْ الْجِهَادِ لِأَنَّهُ تَارَةً بِالسِّنَانِ، وَمَرَّةً بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّ الَّذِي إلَيْهِ نُصِبَ الشَّرْعُ إذَا نَصَّ عَلَى الصَّرْفِ إلَيْهِمْ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ هُمْ بِالْإِعْطَاءِ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ وَالْأَسْئِلَةُ عَلَى مَا يُجْتَهَدُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ نُبُوٍّ عَنْ الْمَنْصُوصِ أَوْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي تُعْطِيهَا الْعُمُومَاتُ حَتَّى يُجَابَ بِمَا يُفِيدُ إدْرَاجَهَا فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ أَوْ قَوَاعِدِهِ الْمُفَادَةُ بِالْعُمُومَاتِ أَوْ بِاللَّوَازِمِ لِأَحَدِهِمَا فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ نَفْسُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قُلْت: السُّؤَالُ مَعْنَاهُ طَلَبُ حِكْمَةِ الْمَشْرُوعِ الْمَنْصُوصِ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَوَابُهُ بِنَفْسِ مَا عَلَّلْنَا بِهِ إعْطَاءَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لَا بِمَا أَجَابُوا بِهِ فَتَأَمَّلْ مُسْتَعِينًا. ثُمَّ رَوَى الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ «يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ سُفْيَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَمِنْ بَنَى مَخْزُومٍ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمِنْ فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَمِنْ بَنِي نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَمِنْ ثَقِيفٍ الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِائَةَ نَاقَةٍ إلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَرْبُوعٍ، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، فَإِنَّهُ أَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ» وَأَسْنَدَ أَيْضًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ جَاءَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} يَعْنِي لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ إنَّمَا كَانَتْ الْمُؤَلَّفَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 259

وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ

فَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ انْقَطَعَتْ. (قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ) أَيْ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ عُمَرَ رَدَّهُمْ، وَقَالَ مَا ذَكَرْنَا لِعُيَيْنَةَ وَقِيلَ جَاءَ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ يَطْلُبَانِ أَرْضًا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَتَبَ لَهُ الْخَطَّ، فَمَزَّقَهُ عُمَرُ وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيكُمُوهُ لِيَتَأَلَّفَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْآنَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأُغْنِيَ عَنْكُمْ، فَإِنْ ثُبْتُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ السَّيْفُ، فَرَجَعُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: الْخَلِيفَةُ أَنْتَ أَمْ عُمَرُ؟ فَقَالَ: هُوَ إنْ شَاءَ، وَوَافَقَهُ فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِإِثَارَةِ الثَّائِرَةِ أَوْ ارْتِدَادِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْلَا اتِّفَاقُ عَقَائِدِهِمْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ مَفْسَدَةَ مُخَالَفَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ لَبَادَرُوا لِإِنْكَارِهِ نَعَمْ يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا إجْمَاعَ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدِ عِلْمِهِمْ بِدَلِيلٍ أَفَادَ نَسْخَ ذَلِكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَوْ أَفَادَ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِحَيَّاتِهِ عليه الصلاة والسلام أَوْ عَلَى كَوْنِهِ حُكْمًا مُغَيَّا بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ،، وَقَدْ اتَّفَقَ انْتِهَاؤُهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِ عَطَاءٍ أَعْطَاهُمُوهُ حَالَ حَيَاتِهِ أَمَّا مُجَرَّدُ تَعْلِيلِهِ بِكَوْنِهِ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ انْتَهَتْ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا يُعْتَمَدُ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ فِي مَسَائِلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَحْتَاجُ فِي بَقَائِهِ إلَى بَقَاءِ عِلَّتِهِ لِثُبُوتِ اسْتِغْنَائِهِ فِي بَقَائِهِ عَنْهَا شَرْعًا لِمَا عُلِمَ فِي الرِّقِّ وَالِاضْطِبَاعِ وَالرَّمَلِ فَلَا بُدَّ فِي خُصُوصِ مَحَلٍّ يَقَعُ فِيهِ الِانْتِفَاءُ عِنْدَ الِانْتِفَاءِ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مِمَّا شُرِعَ مُقَيَّدًا ثُبُوتُهُ بِثُبُوتِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا تَعْيِينُهُ فِي مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ بَلْ إنْ ظَهَرَ وَإِلَّا وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا عُمَرُ رضي الله عنه تَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ فِي قَوْلِنَا حُكْمٌ مُغَيَّا بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّفْعَ لِلْمُؤَلَّفَةِ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْإِعْزَازِ إذْ يُفْعَلُ الدَّفْعُ لِيَحْصُلَ الْإِعْزَازُ فَإِنَّمَا انْتَهَى تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِعْزَازُ عَلَى الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ.

وَعَنْ هَذَا قِيلَ عَدَمُ الدَّفْعِ الْآنَ لِلْمُؤْتَلِفَةِ تَقْرِيرًا لِمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام لَا نَسْخَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ الْإِعْزَازَ، وَكَانَ بِالدَّفْعِ وَالْآنَ هُوَ فِي عَدَمِ الدَّفْعِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي النَّسْخَ لِأَنَّ

ص: 260

(وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ) وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَدْ قِيلَ عَلَى الْعَكْسِ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ

إبَاحَةَ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَانَ ثَابِتًا وَقَدْ ارْتَفَعَ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمٍ آخَرَ شَرْعِيٌّ فَنُسِخَ الْأَوَّلُ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ.

(قَوْلُهُ وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ) وَهُوَ مَا دُونَ النِّصَابِ أَوْ قَدْرُ نِصَابٍ غَيْرَ نَامٍ وَهُوَ مُسْتَغْرَقٌ فِي الْحَاجَةِ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فَيَحْتَاجُ لِلْمَسْأَلَةِ لِقُوتِهِ أَوْ مَا يُوَارِي بَدَنَهُ وَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ حَيْثُ لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ لَهُ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمَنْ يَمْلِكُ قُوتَ يَوْمِهِ بَعْدَ سُتْرَةِ بَدَنِهِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: لَا تَحِلُّ لِمَنْ كَانَ كَسُوبًا أَوْ يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَيَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ بَعْدَ كَوْنِهِ فَقِيرًا وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْفَقْرِ مِلْكُ نُصُبٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ نَامِيَةٍ إذَا كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالْحَاجَةِ وَلِذَا قُلْنَا: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ وَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِي نُصُبًا كَثِيرَةً عَلَى تَفْصِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِيهَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا لِلتَّدْرِيسِ أَوْ بِالْحِفْظِ أَوْ التَّصْحِيحِ، وَلَوْ كَانَتْ مِلْكَ عَامِّيٍّ وَلَيْسَ لَهُ نِصَابٌ نَامٍ لَا يَحِلُّ دَفْعُ الزَّكَاةِ لَهُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَغْرَقَةٍ فِي حَاجَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ آلَاتِ الْمُحْتَرِفِينَ إذَا مَلَكَهَا صَاحِبُ تِلْكَ الْحِرْفَةِ وَغَيْرُهُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّصُبَ ثَلَاثَةٌ: نِصَابٌ يُوجِبُ الزَّكَاةَ عَلَى مَالِكِهِ وَهُوَ النَّامِي خِلْقَةً أَوْ إعْدَادًا وَهُوَ سَالِمٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَنِصَابٌ لَا يُوجِبُهَا وَهُوَ مَا لَيْسَ أَحَدَهُمَا فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا بِحَاجَةِ مَالِكِهِ حَلَّ لَهُ أَخْذُهَا وَإِلَّا حَرُمَتْ عَلَيْهِ كَأَثْيَابٍ تُسَاوِي نِصَابًا لَا يَحْتَاجُ إلَى كُلِّهَا أَوْ أَثَاثٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ كُلِّهِ فِي بَيْتِهِ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ وَرُكُوبِهِ وَدَارٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَكَنِهَا، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَا ذَكَرْنَا حَاجَةً أَصْلِيَّةً فَهُوَ فَقِيرٌ يَحِلُّ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَتَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ.

وَنِصَابٌ يَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ وَهُوَ مَلَكَ قُوتَ يَوْمِهِ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ أَوْ يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ) وَجْهُ كَوْنِ الْفَقِيرِ أَسْوَأَ حَالًا قَوْله تَعَالَى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} أَثْبَتَ لِلْمَسَاكِينِ سَفِينَةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بَلْ هُمْ أُجَرَاءُ فِيهَا أَوْ عَارِيَّةٌ لَهُمْ أَوْ قِيلَ لَهُمْ مَسَاكِينُ تَرَحُّمًا.

وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» مَعَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ الْفَقْرِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفَقْرَ الْمُتَعَوَّذَ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا فَقْرُ النَّفْسِ لِمَا صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ الْعَفَافَ وَالْغِنَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ غِنَى النَّفْسِ لَا كَثْرَةُ الدُّنْيَا، فَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُمْ فِي الْآيَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَدَلَّ عَلَى زِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ زِيَادَةِ حَاجَتِهِمْ. وَقَدْ يُمْنَعُ بِأَنَّهُ قَدَّمَ الْعَامِلِينَ عَلَى الرِّقَابِ مَعَ أَنَّ حَالَهُمْ أَحْسَنُ ظَاهِرًا وَأَخَّرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى زِيَادَةِ تَأْكِيدِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ حَيْثُ أَضَافَ إلَيْهِمْ بِلَفْظَةِ فِي فَدَلَّ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِاعْتِبَارٍ آخَرَ غَيْرِ زِيَادَةِ الْحَاجَةِ، وَالِاعْتِبَارَاتُ الْمُنَاسَبَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ ضَبْطٍ خُصُوصًا مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ بِمَعْنَى الْمَفْقُودِ، وَهُوَ الْمَكْسُورُ الْفَقَارِ فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا، وَمُنِعَ بِجَوَازِ كَوْنِهِ

ص: 261

ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَالْعَامِلُ يَدْفَعُ إلَيْهِ الْإِمَامُ إنْ عَمِلَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانُهُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالثَّمَنِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله

مِنْ فَقُرَتْ لَهُ فِقْرَةٌ مِنْ مَالِي: أَيْ قِطْعَةٌ مِنْهُ فَيَكُونُ لَهُ شَيْءٌ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

هَلْ لَك فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهُ

تُعِينُ مِسْكِينًا كَثِيرًا عَسْكَرُهُ

عَشْرَ شِيَاهٍ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ

عُورِضَ بِقَوْلِ الْآخَرِ:

أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ

وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ

يُقَالُ مَالَهُ سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ أَيْ شَيْءٌ وَأَصْلُ السَّبَدِ الشَّعْرُ كَذَا فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ، وَقَوْلُ الْأَوَّلِ عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعَهُ. . . إلَخْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ هِيَ سَمْعُهُ لِجَوَازِ عَشْرٍ تَحْصُلُ لَهُ تَكُونُ سَمْعَهُ فَيَكُونُ سَائِلًا مِنْ الْمُخَاطَبِ عَشْرَ شِيَاهٍ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى عَسْكَرِهِ أَيْ عِيَالِهِ وَيُؤْجَرُ فِيهَا الْمُخَاطَبُ الدَّافِعُ لَهَا. وَجْهُ الْأُخْرَى قَوْله تَعَالَى {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أَيْ أَلْصَقَ جِلْدَهُ بِالتُّرَابِ مُحْتَفِرًا حُفْرَةً جَعَلَهَا إزَارَهُ لِعَدَمِ مَا يُوَارِيهِ أَوْ أَلْصَقَ بَطْنَهُ بِهِ لِلْجُوعِ، وَتَمَامُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ كَاشِفَةٌ، وَالْأَكْثَرُ خِلَافُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ فَتَكُونُ مُصَنَّفَةً وَخَصَّ هَذَا الصِّنْفَ بِالْحَضِّ عَلَى إطْعَامِهِمْ كَمَا خَصَّ الْيَوْمَ بِكَوْنِهِ ذَا مَسْغَبَةٍ: أَيْ مَجَاعَةٍ لِقَحْطٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ تَخْصِيصِ الْيَوْمِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحَضُّ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي حَالِ زِيَادَةِ الْحَاجَةِ زِيَادَةَ حَضٍّ. وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُعْطَى وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَمَحْمَلُ الْإِثْبَاتِ أَعْنِي قَوْلَهُ «وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى» مُرَادٌ مَعَهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ نَفَى الْمَسْكَنَةَ عَمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى لُقْمَةٍ وَلُقْمَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْمَسْأَلَةِ وَأَثْبَتَهَا لِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ مَنْ لَا يَسْأَلُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ لَكِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مُبَالَغَةٍ فِي الْمَسْكَنَةِ، وَلِذَا صَرَّحَ الْمَشَايِخُ فِي عَرْضِ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ الْكَامِلَ فِي الْمَسْكَنَةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَسْكَنَةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنْ غَيْرِهِ هِيَ الْمَسْكَنَةُ الْمُبَالَغُ فِيهَا لَا مُطْلَقُ الْمَسْكَنَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.

الثَّالِثُ مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ السُّكُونُ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ كَأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْحَرَكَةِ فَلَا يَبْرَحُ. (قَوْلُهُ ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ) ثَمَرَتُهُ فِي الْوَصَايَا، وَالْأَوْقَافِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِزَيْدٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَوْ وَقَفَ فَلِزَيْدٍ ثُلُثُ الثُّلُثِ وَلِكُلٍّ ثُلُثُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِفُلَانٍ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَلِلْفَرِيقَيْنِ نِصْفُهُ، بِنَاءً عَلَى جَعْلِهِمَا صِنْفًا وَاحِدًا.

وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، (قَوْلُهُ فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانَهُ) مِنْ كِفَايَتِهِمْ بِالْوَسَطِ إلَّا إنْ اسْتَغْرَقَتْ كِفَايَتُهُ الزَّكَاةَ فَلَا يُزَادُ عَلَى النِّصْفِ

ص: 262

لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ، وَلِهَذَا يَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الصَّدَقَةِ فَلَا يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ الْهَاشِمِيُّ تَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام عَنْ شُبْهَةِ الْوَسَخِ، وَالْغَنِيُّ لَا يُوَازِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ فِي حَقِّهِ.

قَالَ (وَفِي الرِّقَابِ يُعَانُ الْمُكَاتَبُونَ مِنْهَا فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ) وَهُوَ الْمَنْقُولُ

(وَالْغَارِمُ مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ وَلَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله مَنْ تَحَمَّلَ غَرَامَةً فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ

لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ. وَتَقْدِيرُ الشَّافِعِيِّ بِالثُّمُنِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَى كُلِّ الْأَصْنَافِ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ سُقُوطِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ فِيمَا عَمِلَ فِيهِ كَالْمُضَارِبِ إذَا هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ (قَوْلُهُ فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ) أَيْ شُبْهَةُ الصَّدَقَةِ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْهَاشِمِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَازِي الْهَاشِمِيَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَمَنْعُ الْهَاشِمِيِّ مِنْ الْعِمَالَةِ صَرِيحٌ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَيَأْتِي وَنُنَبِّهُك عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(قَوْلُهُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ) أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ مُكَاتَبًا قَامَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ حُثَّ النَّاسَ عَلَيَّ. فَحَثَّ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى، فَأَلْقَى النَّاسُ عَلَيْهِ، هَذَا يُلْقِي عِمَامَةً وَهَذَا يُلْقِي مُلَاءَةً وَهَذَا يُلْقِي خَاتَمًا حَتَّى أَلْقَى النَّاسُ عَلَيْهِ سَوَادًا كَثِيرًا، فَلَمَّا رَأَى أَبُو مُوسَى مَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ قَالَ: اجْمَعُوهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَبِيعَ، فَأُعْطِيَ الْمُكَاتَبُ مُكَاتَبَتَهُ ثُمَّ أَعْطَى الْفَضْلَ فِي الرِّقَابِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا الَّذِي أُعْطُوهُ فِي الرِّقَابِ.

وَأَخْرَجَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالُوا: فِي الرِّقَابِ هُمْ الْمُكَاتَبُونَ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ، فَقَالَ: أَعْتِقْ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ، فَقَالَ: أَوَلَيْسَا سَوَاءً؟ قَالَ لَا أَعْتِقْ الرَّقَبَةَ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفُكَّ النَّسَمَةَ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.

فَقِيلَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ هَذَا هُوَ مَعْنَى وَفِي الرِّقَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ

(قَوْلُهُ: وَالْغَارِمُ مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ) أَوْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَاضِلٌ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى فَقِيرَةٍ لَهَا مَهْرٌ دَيْنٌ عَلَى زَوْجِهَا يَبْلُغُ نِصَابًا وَهُوَ مُوسِرٌ بِحَيْثُ لَوْ طَلَبَتْ أَعْطَاهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يُعْطِي لَوْ طَلَبَتْ جَازَ.

(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مَنْ تَحَمَّلَ إلَخْ) فَيَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَعِنْدَنَا لَا يَأْخُذُ إلَّا إذَا لَمْ

ص: 263

(وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَفَاهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله مُنْقَطِعُ الْحَاجِّ) لِمَا رَوَى «أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ» .

وَلَا يَصْرِفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ هُوَ الْفُقَرَاءُ (وَابْنُ السَّبِيلِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ) وَهُوَ فِي مَكَان لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِ. قَالَ: (فَهَذِهِ جِهَاتُ الزَّكَاةِ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ،

يَفْضُلْ لَهُ بَعْدَ مَا ضَمِنَهُ قَدْرَ نِصَابٍ. وَالنَّائِرَةُ بِالنُّونِ قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ رَجُلًا» إلَخْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْعُمْرَةِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ مَرْوَانَ الَّذِي أُرْسِلَ إلَى أُمِّ مَعْقِلٍ. فَسَاقَهُ إلَى أَنْ ذَكَرَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيَّ حَجَّةً وَلِأَبِي مَعْقِلٍ بَكْرًا. قَالَ أَبُو مَعْقِلٍ: جَعَلْتُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطِهَا فَلْتَحُجَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَأَعْطَاهَا الْبَكْرَ» وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي مَعْقِلٍ، ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا. اعْتَمِرِي عَلَيْهِ ثُمَّ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِسَبِيلِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ. وَالْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ إيَّاهُ لِجَوَازِ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَمْرَ الْأَعَمَّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ بَلْ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ، وَإِلَّا فَكُلُّ الْأَصْنَافِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى. ثُمَّ لَا يُشْكِلُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ لَا يُوجِبُ خِلَافًا فِي الْحُكْمِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْطَى الْأَصْنَافُ كُلُّهُمْ سِوَى الْعَامِلِ بِشَرْطِ الْفَقْرِ فَمُنْقَطِعٌ الْحَاجُّ يُعْطَى اتِّفَاقًا

(قَوْلُهُ وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا) يُشْعِرُ بِالْخِلَافِ، وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ مِنْ قَرِيبٍ (قَوْلُهُ وَابْنُ السَّبِيلِ) وَهُوَ الْمُسَافِرُ سُمِّيَ بِهِ لِثُبُوتِهِ فِي السَّبِيلِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ

ص: 264

وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَصْرِفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِعِلَّةِ الْفَقْرِ صَارُوا مَصَارِفَ

وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ، وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ إنْ قَدَرَ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِجَوَازِ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ، وَأُلْحِقَ كُلُّ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ ابْنَ السَّبِيلِ التَّصَدُّقُ بِمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَالِهِ كَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَالْمُكَاتَبِ إذَا عَجَزَ وَعِنْدَهُمَا مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ لَا يَلْزَمُهُمَا التَّصَدُّقُ (قَوْلُهُ وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ) وَكَذَا لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ) وَذَكَرَ كُلَّ صِنْفٍ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَوَجَبَ أَنْ يُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَإِنْ كَانَ مُحَلًّى بِاللَّامِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيهِ الِاسْتِغْرَاقُ فَتَبْقَى الْجَمْعِيَّةُ عَلَى حَالِهَا.

قُلْنَا: حَقِيقَةُ اللَّامِ الِاخْتِصَاصُ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الثَّابِتُ فِي ضِمْنِ الْخُصُوصِيَّاتِ مِنْ الْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَقَدْ يَكُونُ مُجَرَّدًا، فَحَاصِلُ التَّرْكِيبِ إضَافَةُ الصَّدَقَاتِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِكُلِّ صَدَقَةِ مُتَصَدِّقٍ إلَى الْأَصْنَافِ الْعَامِّ كُلٍّ مِنْهَا الشَّامِلِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أَخَصُّ بِهَا كُلِّهَا، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي لُزُومَ كَوْنِ كُلِّ صَدَقَةٍ وَاحِدَةً تَنْقَسِمُ عَلَى أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَحَالَ ذَلِكَ فَلَزِمَ أَقَلُّ الْجَمْعِ مِنْهُ، بَلْ إنَّ الصَّدَقَاتِ كُلَّهَا لِلْجَمِيعِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ كُلِّ صَدَقَةٍ. صَدَقَةً لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ لَوْ أَمْكَنَ، أَوْ كُلَّ صَدَقَةٍ جُزْئِيَّةٍ لِطَائِفَةٍ أَوْ لِوَاحِدٍ. وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْجَمْعَ إذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ أَفَادَ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ انْقِسَامَ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ نَحْوُ {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وَرَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، فَالْإِشْكَالُ أَبْعَدُ حِينَئِذٍ إذْ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ صَدَقَةٍ لِوَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا حَاجَةَ إلَى نَفْيِ أَنَّهَا لِلِاسْتِحْقَاقِ بَلْ مَعَ كَوْنِهَا لَهُ يَجِيءُ هَذَا الْوَجْهُ فَلَا يُفِيدُ الْجَمْعَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، إلَّا أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِصَرْفِ اسْتِحْقَاقِهِ إلَيْهِمْ عَلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمَالِكِ فِي تَعْيِينِ مَنْ يَصْرِفُهُ إلَيْهِ فَلَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الِاسْتِحْقَاقِ لِوَاحِدٍ إلَّا بِالصَّرْفِ إلَيْهِ إذْ قَبْلَهُ لَا تَعَيُّنَ لَهُ وَلَا اسْتِحْقَاقَ إلَّا لِمُعَيَّنٍ، وَجَبْرُ الْإِمَامِ لِقَوْمٍ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ عَلَى إعْطَاءِ الْفُقَرَاءِ لَيْسَ إلَّا لِلْخُرُوجِ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّهِمْ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْمَرْوِيَّ عَنْ الصَّحَابَةِ نَحْوَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ.

وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ، قَالَ: فِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْته

ص: 265

فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهِ، وَاَلَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم

(وَلَا يَجُوزُ أَنَّهُ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى ذِمِّيٍّ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِمُعَاذٍ رضي الله عنه خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» . قَالَ (وَيَدْفَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَدْفَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا»

أَجْزَأَك اهـ. أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ، قَالَ: أَيُّمَا صِنْفٍ أَعْطَيْته مِنْ هَذَا أَجْزَأَ عَنْك. حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَيَجْعَلُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ.

وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا وَضَعْتهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَك، وَأَخْرَجَ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» .

وَالْفُقَرَاءُ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَفِيهِ نَظَرٌ تَسْمَعُهُ قَرِيبًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ، فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ وَهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَسَّمَ فِيهِمْ الذَّهَبِيَّةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا مُعَاذٌ مِنْ الْيَمَنِ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ، ثُمَّ أَتَاهُ مَالٌ آخَرُ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ آخَرَ، وَهُمْ الْغَارِمُونَ، فَقَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ حِينَ أَتَاهُ، وَقَدْ تَحَمَّلَ حِمَالَةً «يَا قَبِيصَةُ قُمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا». وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّتِي يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ. قِيلَ: وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ مَا يُخَالِفُهُمْ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ إلَخْ) رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» .

(قَوْلُهُ وَيُدْفَعُ لَهُمْ) أَيْ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ (مَا سِوَى ذَلِكَ) كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَلَا يُدْفَعُ ذَلِكَ لِحَرْبِيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ، فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا»)

ص: 266

وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي الزَّكَاةِ.

(وَلَا يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلَا يُكَفَّنُ بِهَا مَيِّتٌ) لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الرُّكْنُ (وَلَا يُقْضَى بِهَا دَيْنُ مَيِّتٍ)

رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُرْسَلًا حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَصَدَّقُوا إلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلَى قَوْلِهِ {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا» .

وَقَالَ أَيْضًا مُرْسَلًا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ سَالِمِ الْمَكِّيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: كَرِهَ النَّاسُ أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} قَالَ: فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ.

وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ النَّسَائِيّ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصَدَّقَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ الْيَهُودِ بِصَدَقَةٍ فَهِيَ تَجْرِي عَلَيْهِمْ» (قَوْلُهُ وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ) أَيْ بِجَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى الذِّمِّيِّ، لَكِنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ مَشْهُورٌ فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى إطْلَاقِ الْكِتَابِ. أَعْنِي إطْلَاقَ الْفُقَرَاءِ فِي الْكِتَابِ أَوْ هُوَ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيُّ بِالْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدِينَ إلَى قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ

(قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الرُّكْنُ) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا صَدَقَةً، وَحَقِيقَةُ الصَّدَقَةِ تَمْلِيكُ الْمَالِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَهَذَا فِي الْبِنَاءِ ظَاهِرٌ وَكَذَا فِي التَّكْفِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَمْلِيكًا لِلْكَفَنِ مِنْ الْمَيِّتِ وَلَا

ص: 267

لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ لَا سِيَّمَا مِنْ الْمَيِّتِ

الْوَرَثَةِ، وَلِذَا لَوْ أَخْرَجَتْ السِّبَاعُ الْمَيِّتَ فَأَكَلَتْهُ كَانَ الْكَفَنُ لِصَاحِبِهِ لَا لَهُمْ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ) وَلِذَا لَوْ تَصَادَقَ الدَّائِنُ وَالْمَدْيُونُ عَلَى أَنْ لَا دِينَ كَانَ لِلْمُزَكِّي أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْقَابِضِ، وَمَحْمَلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَيِّ، أَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَيَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْهُ وَالدَّائِنُ يَقْبِضُهُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْهُ ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ.

وَفِي الْغَايَةِ نَقْلًا مِنْ الْمُحِيطِ وَالْمُفِيدِ: لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ بِأَمْرِهِ جَازَ، وَمَعْلُومٌ إرَادَةُ قَيْدِ فَقْرِ الْمَدْيُونِ، وَظَاهِرُ فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ يُوَافِقُهُ، لَكِنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِ الْكِتَابِ وَكَذَا عِبَارَةُ الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ بَنَى مَسْجِدًا بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ أَوْ حَجَّ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَيِّ لَا يَجُوزُ عَدَمُ الْجَوَازِ فِي الْمَيِّتِ مُطْلَقًا؛ أَلَا تَرَى إلَى تَخْصِيصِ الْحَيِّ فِي حُكْمِ عَدَمِ الْجَوَازِ بِعَدَمِ الْإِذْنِ وَإِطْلَاقِهِ فِي الْمَيِّتِ وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ تَمْلِيكًا لِلْمَدْيُونِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَقَعُ عِنْدَ أَمْرِهِ بَلْ عِنْدَ أَدَاءِ الْمَأْمُورِ وَقَبْضِ النَّائِبِ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ الْمَدْيُونُ أَهْلًا لِلتَّمْلِيكِ لِمَوْتِهِ.

وَقَوْلُهُمْ: الْمَيِّتُ يَبْقَى مِلْكُهُ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ جِهَازِهِ وَنَحْوِهِ حَاصِلُهُ بَقَاؤُهُ بَعْدَ ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ حَالَةَ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ حُدُوثِ مِلْكِهِ بِالتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكُ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ.

وَعَمَّا قُلْنَا يُشْكِلُ اسْتِرْدَادُ الْمُزَكِّي عِنْدَ التَّصَادُقِ إذَا وَقَعَ بِأَمْرِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ بِالتَّمْلِيكِ وَقَبْضِ النَّائِبِ: أَعْنِي الْفَقِيرَ. وَعَدَمُ الدَّيْنِ فِي الْوَاقِعِ إنَّمَا يَبْطُلُ بِهِ صَيْرُورَتُهُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ نِيَابَةً لَا التَّمْلِيكِ، الْأَوَّلِ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَلَّكَ فَقِيرًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مَدْيُونٌ وَظُهُورُ عَدَمِهِ لَا يُؤَثِّرُ عَدَمُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْفَقِيرِ إذَا عَجَّلَ لَهُ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَلَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ الْمُعَجَّلُ عَنْهُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالدَّفْعِ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ الِاسْتِرْدَادُ هُنَا أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا إذَا عَجَّلَ لِلسَّاعِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا حَيْثُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِعَدَمِ زَوَالِ الْمِلْكِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ وَالْفَتَاوَى، لَوْ جَاءَ الْفَقِيرُ إلَى الْمَالِكِ بِدَرَاهِمَ سَتُّوقَةٍ لِيَرُدَّهَا فَقَالَ الْمَالِكُ: رُدَّ الْبَاقِيَ فَإِنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ النِّصَابَ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْفَقِيرِ فَيَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً مِنْ الْفَقِيرِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ صَبِيًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَإِنْ رَضِيَ فَهُنَا أَوْلَى.

[فَرْعٌ] لَوْ أَمَرَ فَقِيرًا بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ نَوَاهُ عَنْ زَكَاةِ عَيْنٍ عِنْدَهُ جَازَ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَقْبِضُ عَيْنًا فَكَانَ عَيْنًا

ص: 268

(وَلَا تُشْتَرَى بِهَا رَقَبَةٌ تُعْتَقُ) خِلَافًا لِمَالِكٍ ذَهَبَ إلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} وَلَنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ.

(وَلَا تُدْفَعُ إلَى غَنِيٍّ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَهُوَ بِإِطْلَاقٍ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي غَنِيِّ الْغُزَاةِ. وَكَذَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رضي الله عنه عَلَى مَا رَوَيْنَا.

قَالَ (وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَإِنْ عَلَا، وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ

عَنْ عَيْنٍ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ يَنْوِيهِ عَنْ زَكَاتِهِ جَازَ عَنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ نَفْسِهِ لَا عَنْ عَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ آخَرَ.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ») أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِيهِ رَيْحَانُ بْنُ زَيْدٍ تُكُلِّمَ فِيهِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ أَعْرَابِيٌّ صَدَقَ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَحْسَنُهَا عِنْدِي مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ هُوَ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا، فَهَذَا مَعَ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُفِيدُ مَنْعَ غَنِيِّ الْغُزَاةِ وَالْغَارِمِينَ عَنْهَا، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ لِغَنِيِّ الْغُزَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْفَيْءِ.

وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ صِنْفٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ مَقَامُ إرْسَالِ الْبَيَانِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ فُقَرَائِهِمْ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ غَارِمًا أَوْ غَازِيًا، فَلَوْ كَانَ الْغَنِيُّ مِنْهُمَا مَصْرِفًا كَانَ فَوْقَ الْبَيَانِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْقَاءً لِلْجَهْلِ الْبَسِيطِ، وَفِي هَذَا إيقَاعُهُمْ فِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْغِنَى مُطْلَقًا لَيْسَ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ غَازِيًا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ خِلَافُ الْوَاقِعِ لَزِمَ مَا قُلْنَا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَجُوزُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ مَعَ أَنَّ نَفْسَ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ تُفِيدُ أَنَّ الْمَنَاطَ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِمْ الْحَاجَةُ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ أَنَّ مَبْدَأَ اشْتِقَاقِهِ عِلَّتُهُ، وَمَأْخَذُ الِاشْتِقَاقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تُنَبِّهُ عَلَى قِيَامِ الْحَاجَةِ، فَالْحَاجَةُ هِيَ الْعِلَّةُ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إلَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، فَإِنَّ مَأْخَذَ اشْتِقَاقِهِ يُفِيدُ أَنَّ الْمَنَاطَ التَّأْلِيفُ وَإِلَّا الْعَامِلُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ الْعَمَلُ، وَفِي كَوْنِ الْعَمَلِ سَبَبًا لِلْحَاجَةِ تَرَدُّدٌ فَإِنَّهُ ظَاهِرًا يَكُونُ لَهُ أَعْوِنَةٌ وَخَدَمٌ وَيُهْدَى إلَيْهِ وَغَالِبًا تَطِيبُ نَفْسُ إمَامِهِ لَهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُهْدَى إلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْفَقْرُ فِي حَقِّهِ بِالشَّكِّ.

وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَمَالِكٌ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: الْعَامِلِ عَلَيْهَا وَرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، وَغَارِمٍ وَغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا إلَى الْغَنِيِّ» قِيلَ: لَمْ يَثْبُتْ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَقْوَ قُوَّةَ حَدِيثِ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ.

وَلَوْ قَوِيَ قُوَّتَهُ تَرَجَّحَ حَدِيثُ مُعَاذٍ بِأَنَّهُ مَانِعٌ، وَمَا رَوَاهُ مُبِيحٌ مَعَ أَنَّهُ دَخَلَهُ التَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَيَّدَ الْأَخْذَ لَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَا أَخَذَ مِنْ الْفَيْءِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُضْعِفُ الدَّلَالَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَدْخُلْهُ تَأْوِيلٌ

(قَوْلُهُ وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَخْ) الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الْمُزَكِّي بِالْوِلَادِ أَوْ انْتَسَبَ هُوَ لَهُ بِهِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا لَهُ، فَلَا يَجُوزُ لِأَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا إلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا،

ص: 269

عَلَى الْكَمَالِ (وَلَا إلَى امْرَأَتِهِ) لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ عَادَةً (وَلَا تَدْفَعُ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَا: تَدْفَعُ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ «عليه الصلاة والسلام لَكِ أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الصِّلَةِ» قَالَهُ لِامْرَأَةِ

وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَخْلُوقٍ مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا وَلَا إلَى أُمِّ وَلَدِهِ الَّذِي نَفَاهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ الْغَائِبِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْأَوْلَادُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ لِلْأَوَّلِ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ، وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ غَيْرُ الْوِلَادِ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ مَعَ الصَّدَقَةِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي عِيَالِهِ وَلَمْ يَفْرِضْ الْقَاضِي النَّفَقَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ يَنْوِي الزَّكَاةَ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ فَرَضَهَا عَلَيْهِ فَدَفَعَهَا يَنْوِي الزَّكَاةَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَدَاءُ وَاجِبٍ فِي وَاجِبٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا لَمْ يَحْتَسِبْهَا بِالنَّفَقَةِ لِتَحْقِيقِ التَّمْلِيكِ عَلَى الْكَمَالِ.

وَفِي الْفَتَاوَى وَالْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ لَهُ أَخٌ قَضَى عَلَيْهِ بِنَفَقَتِهِ فَكَسَاهُ وَأَطْعَمَهُ يَنْوِي بِهِ الزَّكَاةَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ فِي الْكِسْوَةِ لَا فِي الْإِطْعَامِ.

وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِطْعَامِ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهَذَا خِلَافُ مَا قَبْلَهُ. وَيُمْكِنُ بِنَاءُ الِاخْتِلَافِ فِي الطَّعَامِ عَلَى أَنَّهُ إبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكٌ، وَفِي الْكَافِي عَائِلٌ يَتِيمٌ أَطْعَمَهُ عَنْ زَكَاتِهِ صَحَّ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الرُّكْنِ، وَهُوَ التَّمْلِيكُ، وَهَذَا إذَا سَلَّمَ الطَّعَامَ إلَيْهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ اهـ.

وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مُحَمَّدًا لَا يُجِيزُهُ وَإِنْ سَلَّمَ الطَّعَامَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله (قَوْلُهُ وَلَا إلَى امْرَأَتِهِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} أَيْ بِمَالِ خَدِيجَةَ. وَإِنَّمَا كَانَ مِنْهَا إدْخَالُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ أَحْيَانًا فَكَانَ الدَّافِعُ إلَى هَؤُلَاءِ كَالدَّافِعِ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ إذْ كَانَ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ ثَابِتًا، وَكَذَا لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ صَدَقَةَ فِطْرِهِ وَكَفَّارَتِهِ وَعُشْرَهُ، بِخِلَافِ خُمْسِ الرِّكَازِ يَجُوزُ دَفْعُهُ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إلَّا الْفَقْرُ. وَلِهَذَا لَوْ افْتَقَرَ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ جَازَ أَنْ يُمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ. فَصَارَ الْأَصْلُ فِي الدَّفْعِ الْمُسْقِطِ كَوْنَهُ عَلَى وَجْهٍ تَنْقَطِعُ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الدَّافِعِ ذَكَرُوا مَعْنَاهُ وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ مَعَ قَبْضٍ مُعْتَبَرٍ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ دَفَعَ لِلصَّبِيِّ الْفَقِيرِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ دَفَعَهَا الصَّبِيُّ إلَى أَبِيهِ قَالُوا: لَا يَجُوزُ. كَمَا لَوْ وَضَعَ زَكَاتَهُ عَلَى دُكَّانٍ فَجَاءَ الْفَقِيرُ وَقَبَضَهَا لَا يَجُوزُ، فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقْبِضَهَا لَهُمَا الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ مَنْ كَانَا فِي عِيَالِهِ مِنْ الْأَقَارِبِ أَوْ الْأَجَانِبِ الَّذِينَ يَعُولُونَهُ، وَالْمُلْتَقِطُ يَقْبِضُ لِلَّقِيطِ، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا أَوْ يَعْقِلُ الْقَبْضَ بِأَنْ كَانَ لَا يَرْمِي بِهِ وَيُخْدَعُ عَنْهُ يَجُوزُ. وَلَوْ وَضَعَ الزَّكَاةَ عَلَى يَدِهِ فَانْتَهَبَهَا الْفُقَرَاءُ جَازَ، وَكَذَا إنْ سَقَطَ مَالُهُ مِنْ يَدِهِ فَرَفَعَهُ فَقِيرٌ فَرَضِيَ بِهِ جَازَ وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ وَالْمَالُ قَائِمٌ، وَالدَّفْعُ إلَى الْمَعْتُوهِ مُجْزِئٌ.

(قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا) أَيْ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْخُرُوجُ عَنْهُ عَلَى الْكَمَالِ، وَهُمَا قَالَ: لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ مَعَ النَّصِّ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، وَقَالَتْ فَرَجَعْتُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ. وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنِّي وَإِلَّا صَرَفْتُهَا إلَى غَيْرِكُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: بَلْ ائْتِيهِ أَنْتِ. قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتِي

ص: 270

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ؛ قُلْنَا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ.

قَالَ (وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ) لِفُقْدَانِ التَّمْلِيكِ إذَا كَسَبَ الْمَمْلُوكُ لِسَيِّدِهِ وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ (وَلَا إلَى عَبْدٍ قَدْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَقَالَا: يَدْفَعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ

حَاجَتُهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْت: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلَانِكَ هَلْ تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ هُمَا:؟ قَالَ: امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ».

وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ فِيهِ «فَلَمَّا انْصَرَفَ وَجَاءَ إلَى مَنْزِلِهِ: يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْهُ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: إنَّكَ أَمَرْتَنَا بِالصَّدَقَةِ وَعِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدُهُ أَحَقُّ مَنْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكَ وَوَلَدُكَ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَيْهِمْ» وَلَا مُعَارِضَةَ لَازِمَةً بَيْنَ هَذِهِ الْأُولَى فِي شَيْءٍ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.

قَوْلُهُ " وَوَلَدُك " يَجُوزُ كَوْنُهُ مَجَازًا عَنْ الرَّبَائِبِ وَهُمْ الْأَيْتَامُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَكَوْنُهُ حَقِيقَةً وَالْمَعْنَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ إذَا تَمَلَّكَهَا أَنْفَقَهَا عَلَيْهِمْ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدَقَةِ نَافِلَةٍ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَ عليه الصلاة والسلام يَتَخَوَّلُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ هَلْ يُجْزِئُ إنْ كَانَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الْحَادِثُ لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إلَّا فِي الْوَاجِبِ، لَكِنْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهِمْ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ النَّفْلِ لِأَنَّهُ لُغَةً الْكِفَايَةُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ يَكْفِي التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ مُسَمَّى الصَّدَقَةِ وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِهَا مِنْ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْلَمُ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ عَنْ الْمُعَارِضِ

(قَوْلُهُ: وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ) وَلِذَا لَوْ تَزَوَّجَ بِأَمَةِ مُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ بِمَنْزِلَةِ تَزَوُّجِهِ بِأَمَةِ نَفْسِهِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ) أَمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ أَعْتَقَ بَعْضُهُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَوْ لِلْمَفْعُولِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَصْلُحُ التَّعْلِيلُ لَهُمَا بِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ، إذْ هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ بِلَا دَيْنٍ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَإِعْتَاقُ بَعْضِهِ إعْتَاقُ كُلِّهِ وَعَلَى الثَّانِي لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ عَدَمَ الْإِعْطَاءِ بِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُكَاتَبٌ لِلْغَيْرِ، وَهُوَ مُصَرَّفٌ بِالنَّصِّ، فَلَا يَعْرَى عَنْ الْإِشْكَالِ وَيَحْتَاجُ فِي دَفْعِهِ إلَى تَخْصِيصِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قُرِئَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ فَالْمُرَادُ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَعْتَقَ هُوَ نَصِيبَهُ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِلِابْنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ كَمُكَاتَبِ ابْنِهِ، وَكَمَا لَا يَدْفَعُ لِابْنِهِ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ لِمُكَاتَبِهِ.

وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ لِلِابْنِ. وَإِنْ قُرِئَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَالْمُرَادُ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَيَسْتَسْعِيهِ السَّاكِتُ فَلَا يَجُوزُ لِلسَّاكِتِ الدَّفْعُ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَمُكَاتَبِ نَفْسِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَدْيُونُهُ وَهُوَ حُرٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الْإِنْسَانُ

ص: 271

عِنْدَهُمَا (وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لِمَوْلَاهُ (وَلَا إلَى وَلَدِ غَنِيٍّ إذَا كَانَ صَغِيرًا) لِأَنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ كَبِيرًا فَقِيرًا لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَبِخِلَافِ امْرَأَةِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَقِيرَةً لَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِيَسَارِ زَوْجِهَا، وَبِقَدْرِ النَّفَقَةِ لَا تَصِيرُ مُوسِرَةً.

(وَلَا يَدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام

إلَى مَدْيُونِهِ أَمَّا لَوْ اخْتَارَ السَّاكِتُ التَّضْمِينَ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْ الْعَبْدِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ كَمُكَاتَبِ الْغَيْرِ.

(قَوْلُهُ وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ) فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا مَدْيُونًا بِمَا يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ وَكَسْبَهُ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُ فَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ، وَلَا إلَى مُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، بِخِلَافِ مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ مَصْرِفٌ بِالنَّصِّ.

وَفِي الذَّخِيرَةِ: إذَا كَانَ الْعَبْدُ زَمِنًا وَلَيْسَ فِي عِيَالِ مَوْلَاهُ وَلَا يَجِدُ شَيْئًا أَوْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا يَجُوزُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي وُقُوعُ الْمِلْكِ لِمَوْلَاهُ بِهَذَا الْعَارِضِ وَهُوَ الْمَانِعُ، وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْوُجُوبِ كِفَايَتُهُ عَنْ السَّيِّدِ وَتَأْثِيمُهُ بِتَرْكِهِ وَاسْتِحْبَابُ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ عِنْدَ غَيْبَةِ مَوْلَاهُ الْغَنِيِّ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَسْبِ لَا يَنْزِلُ عَنْ حَالِ ابْنِ السَّبِيلِ.

(قَوْلُهُ وَلَا إلَى وَلَدِ غَنِيٍّ إذَا كَانَ صَغِيرًا) وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِيَالِ الْأَبِ أَوْ لَا فِي الصَّحِيحِ، وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى ابْنَةِ غَنِيٍّ يَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَكَذَا إذَا دَفَعَ إلَى فَقِيرٍ لَهُ ابْنٌ مُوسِرٌ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَ فِي عِيَالٍ الْغَنِيُّ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ) بِأَنْ كَانَ زَمِنًا أَوْ أَعْمَى وَنَحْوَهُ بِخِلَافِ بِنْتِ الْغَنِيِّ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا هَذِهِ الْأَعْذَارُ وَتُصْرَفُ الزَّكَاةُ إلَيْهَا لِمَا ذُكِرَ فِي الِابْنِ الْكَبِيرِ.

(قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ امْرَأَةٍ إلَخْ) هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَسَوَاءٌ فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ أَوْ لَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهَا مَكْفِيَّةٌ بِمَا تُوجِبُهُ عَلَى الْغَنِيِّ فَالصَّرْفُ إلَيْهَا كَالصَّرْفِ إلَى ابْنِ الْغَنِيِّ. وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا فِي الْكِتَابِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِيجَابَهَا النَّفَقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ، بِخِلَافِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ، لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ الْجُزْئِيَّةِ فَكَانَ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ، فَالدَّفْعُ إلَيْهِ كَالدَّفْعِ إلَى نَفْسِ الْغَنِيِّ

(قَوْلُهُ وَلَا يَدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ) هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُ بَنِي هَاشِمٍ إلَى بَعْضٍ زَكَاتَهُمْ. وَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَرْوِيِّ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَأَوْسَاخِهِمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ» لَا يَنْفِيهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّاسِ غَيْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِالْخِطَابِ الْمَذْكُورِ عَنْ آخِرِهِمْ، وَالتَّعْوِيضُ بِخُمْسِ الْخُمْسِ عَنْ صَدَقَاتِ النَّاسِ لَا يَسْتَلْزِمُ

ص: 272

«يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخِهِمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ»

كَوْنُهُ عِوَضًا عَنْ صَدَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ، لَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَرِيبٌ، وَالْمَعْرُوفُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ:«اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَا: لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ لِي وَلِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ فَأَصَابَا مِنْهَا كَمَا يُصِيبُ النَّاسُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تُرْسِلُوهُمَا فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ وَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَجِئْنَاكَ لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّيَ إلَيْكَ كَمَا تُؤَدِّي النَّاسُ وَنُصِيبُ كَمَا يُصِيبُونَ، قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، اُدْعُوا لِي مَحْمِيَّةَ بْنَ جَزْءٍ، رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْأَخْمَاسِ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَتَيَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ: أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ لِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَأَنْكَحَهُ، وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ، فَأَنْكَحَنِي، وَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ: أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنْ الْخُمْسِ كَذَا وَكَذَا» .

وَهَذَا مَا وَعَدْنَاك مِنْ النَّصِّ عَلَى عَدَمِ حِلِّ أَخْذِهَا لِلْعَامِلِ الْهَاشِمِيِّ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ لَفْظِ الْهِدَايَةِ، وَلَفْظُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ «لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ إنَّمَا هِيَ غُسَالَةُ أَيْدِي النَّاسِ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمْ» يُوجِبُ تَحْرِيمَ صَدَقَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَكَذَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ «عَنْهُ عليه الصلاة والسلام نَحْنُ أَهْلُ الْبَيْتِ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ تَنْتَظِمُ الصَّدَقَةَ النَّافِلَةَ وَالْوَاجِبَةَ فَجَرَوْا عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ صَرْفُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَعُشْرِ الْأَرْضِ وَغَلَّةِ الْوَقْفِ إلَيْهِمْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ فِي غَلَّةِ الْوَقْفِ إذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَمْ يُسَمِّ بَنِي هَاشِمٍ لَا يَجُوزُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ فِي مَنْعِ صَدَقَةِ الْأَوْقَافِ لَهُمْ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إذَا وَقَفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ النَّافِلَةُ فِي النِّهَايَةِ: وَيَجُوزُ النَّفَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا يَجُوزُ النَّفَلُ لِلْغَنِيِّ، كَذَا فِي فَتَاوَى الْعَتَّابِيِّ انْتَهَى.

وَصَرَّحَ فِي الْكَافِي بِدَفْعِ صَدَقَةِ الْوَقْفِ إلَيْهِمْ عَلَى أَنَّهُ بَيَانُ الْمَذْهَبِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ خِلَافٍ، فَقَالَ: وَأَمَّا التَّطَوُّعُ وَالْوَقْفُ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ فِي الْوَاجِبِ يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ فَيَتَدَنَّسُ الْمُؤَدَّى كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَفِي النَّفْلِ يَتَبَرَّعُ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَدَنَّسُ بِهَا الْمُؤَدَّى كَمَنْ تَبَرَّدَ بِالْمَاءِ اهـ وَالْحَقُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ إجْرَاءُ صَدَقَةِ الْوَقْفِ مَجْرَى النَّافِلَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي النَّافِلَةِ جَوَازُ الدَّفْعِ يَجِبُ دَفْعُ الْوَقْفِ وَإِلَّا فَلَا إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوَاقِفَ مُتَبَرِّعٌ بِتَصَدُّقِهِ بِالْوَقْفِ إذْ لَا إيقَافَ وَاجِبٌ، وَكَأَنَّ مَنْشَأَ الْغَلَطِ وُجُوبُ دَفْعِهَا عَلَى النَّاظِرِ وَبِذَلِكَ لَمْ تَصِرْ وَاجِبَةً عَلَى الْمَالِكِ بَلْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِ شَرْطِ الْوَاقِفِ عَلَى النَّاظِرِ. فَوُجُوبُ الْأَدَاءِ هُوَ نَفْسُ هَذَا الْوُجُوبِ فَلْنَتَكَلَّمْ فِي النَّافِلَةِ، ثُمَّ يُعْطَى مِثْلُهُ لِلْوَقْفِ فَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالتَّطَوُّعِ.

ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضٌ: يَحِلُّ لَهُمْ التَّطَوُّعُ اهـ. فَقَدْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِتَرْجِيحِ حُرْمَةِ النَّافِلَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْعُمُومَاتِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ النَّافِلَةَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ مَعَ الْأَدَبِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ تَكْرِمَةً لِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَأَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إلَيْكَ حَدِيثُ «لَحْمِ بَرِيرَةَ الَّذِي تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا لَمْ يَأْكُلْهُ حَتَّى اعْتَبَرَهُ هَدِيَّةً مِنْهَا، فَقَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةً نَافِلَةً. وَأَيْضًا

ص: 273

بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا كَالْمَاءِ يَتَدَنَّسُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ. أَمَّا التَّطَوُّعُ فَبِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ. قَالَ:(وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَبَّاسٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهِمْ) أَمَّا هَؤُلَاءِ فَلِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَنِسْبَةُ الْقَبِيلَةِ إلَيْهِ. وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ أَتَحِلُّ لِي الصَّدَقَةُ؟ فَقَالَ: لَا أَنْتَ مَوْلَانَا»

لَا تَخْصِيصَ لِلْعُمُومَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يَخُصُّ بِهِ ابْتِدَاءً بَلْ بَعْدَ إخْرَاجِ شَيْءٍ بِسَمْعِيٍّ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ فِي الْقِيَاسِ الْمَقْصُودُ وَغَيْرُ الْمَقْصُودِ. وَأَمَّا الثَّانِي لَمْ يَتِمَّ لَهُ أَصْلٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ الْمَالُ هُنَا كَالْمَاءِ يَتَدَنَّسُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ حُكْمُ الْأَصْلِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ مُجْمَعًا، وَلَيْسَ ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ لِلْمَاءِ كَذَلِكَ بَلْ الْمَالُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَى حُكْمِهِ هَذَا مِنْ التَّدَنُّسِ فَهُوَ أَصْلٌ لِلْمَاءِ فِي ذَلِكَ. فَإِثْبَاتُ مِثْلِهِ شَرْعًا لِلْمَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَالِ، إذْ لَا نَصَّ فِي الْمَاءِ، وَنَفْسُ الْمُصَنِّفِ مَشَى عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ فِي بَحْثِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ حَيْثُ قَالَ فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى إلَّا أَنَّهُ يَعْنِي الْمَاءَ أُقِيمَتْ بِهِ قُرْبَةٌ فَتَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ كَمَالِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَ مَالَ الصَّدَقَةِ أَصْلًا فَكَيْفَ يَجْعَلُ هُنَا الْمَاءَ أَصْلًا لِمَالِ الصَّدَقَةِ.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمَقْصُودُ هُنَا فِي قَوْلِهِ التَّطَوُّعُ بِالصَّدَقَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إلْحَاقُ قُرْبَةٍ بِغَيْرِ قُرْبَةٍ، وَالصَّوَابُ فِي الْإِلْحَاقِ أَنْ يُقَالَ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ لِيَكُونَ إلْحَاقُ قُرْبَةِ نَافِلَةٍ بِقِرْبَةِ نَافِلَةٍ، وَبَعْدَ هَذَا إنْ ادَّعَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عَدَمُ تَدَنُّسِ مَا أُقِيمَ بِهِ هَذِهِ الْقُرْبَةُ مَنَعْنَا حُكْمَ الْأَصْلِ فَإِنَّ التَّدَنُّسَ لِلْآلَةِ بِوَاسِطَةِ خُرُوجِ الْأَثَامِ وَإِزَالَةِ الظُّلْمَةِ، وَالْقُرْبَةُ النَّافِلَةُ تُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَدْرِهِ. وَقَدْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ» أَنَّهُ يُفِيدُ إزَالَةَ الظُّلْمَةِ بِقَدْرِ إفَادَةِ زِيَادَةِ ذَلِكَ النُّورِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْوُضُوءَ النَّفَلَ إذَا كَانَ مَنْوِيًّا يَصِيرُ الْمَاءُ بِهِ مُسْتَعْمَلًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي قَوْلِهِ الْمُسْتَعْمَلُ: هُوَ مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ إلَخْ) لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الَّذِينَ لَهُمْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ كُلُّهُمْ بَيَّنَ الْمُرَادَ مِنْهُمْ بِعَدَدِهِمْ فَخَرَجَ أَبُو لَهَبٍ بِذَلِكَ حَتَّى يَجُوزَ الدَّفْعُ إلَى بَنِيهِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ لِبَنِي هَاشِمٍ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَلِذُرِّيَّتِهِمْ حَيْثُ نَصَرُوهُ عليه الصلاة والسلام فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ وَأَبُو لَهَبٍ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَذَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَسْتَحِقَّهَا بِنُورِهِ (قَوْلُهُ وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ إلَخْ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ

ص: 274

بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْقُرَشِيُّ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا حَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَيُعْتَبَرُ حَالُ الْمُعْتَقِ لِأَنَّهُ الْقِيَاسُ وَالْإِلْحَاقُ بِالْمَوْلَى بِالنَّصِّ وَقَدْ خَصَّ الصَّدَقَةَ.

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى رَجُلٍ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ دَفَعَ فِي ظُلْمَةٍ فَبَانَ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ وَإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ. وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ

مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا، قَالَ: حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلُهُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَكَذَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَبُو رَافِعٍ هَذَا اسْمُهُ أَسْلَمَ، وَاسْمُ ابْنِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه (قَوْلُهُ: وَقَدْ خَصَّ الصَّدَقَةَ) يَعْنِي فَيَبْقَى فِيمَا رَوَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا يَكُونُ كُفْئًا لَهُمْ

(قَوْلُهُ: لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ) فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ بِخِلَافِ الدَّفْعِ لِمَنْ ظَهَرَ غِنَاهُ وَأَخَوَاتُهُ (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) وَلَكِنْ لَا يَسْتَرِدُّ مَا أَدَّاهُ، وَهَلْ يَطِيبُ لِلْقَابِضِ إذَا ظَهَرَ الْحَالُ، وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ يَتَصَدَّقُ بِهِ.

وَقِيلَ: يَرُدُّهُ عَلَى الْمُعْطِي عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ لِيُعِيدَ الْأَدَاءَ (قَوْلُهُ وَصَارَ كَالْأَوَانِي) يُفِيدُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي صُورَةِ الْخِلَافِيَّةِ كَوْنُ الْأَدَاءِ بِالتَّحَرِّي وَإِلَّا قَالَ: وَصَارَ كَالْمَاءِ وَالثِّيَابِ: يَعْنِي إذَا تَحَرَّى

ص: 275

فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِيهِ «يَا يَزِيدُ لَكَ مَا نَوَيْتَ، وَيَا مَعْنُ لَكَ مَا أَخَذْتَ» وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ وَكِيلُ أَبِيهِ صَدَقَتَهُ؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْقَطْعِ فَيَبْتَنِي الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي غَيْرِ الْغَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَهَذِهِ إذَا تَحَرَّى فَدَفَعَ وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَصْرِفٌ، أَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ أَوْ تَحَرَّى فَدَفَعَ، وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ لَا يَجْزِيهِ إلَّا إذَا

فِي الْأَوَانِي فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهَا بِأَنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطَّاهِرَةِ مِنْهَا أَوْ فِي الثِّيَابِ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا وَإِنْ كَانَ الطَّاهِرُ مَغْلُوبًا فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى إنَاءٍ أَوْ ثَوْبٍ فِيهِ وَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ نَجَاسَتُهُ يُعِيدُ اتِّفَاقًا فَكَذَا هَذَا، وَمِثْلُهُ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنٍ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ «مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلِيٌّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا إيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» اهـ.

وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَاقِعَةَ حَالٍ يَجُوزُ فِيهَا كَوْنُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ كَانَتْ نَفْلًا، لَكِنَّ عُمُومَ لَفْظِ مَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَكَ مَا نَوَيْتَ» يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالِاجْتِهَادِ لَا الْقَطْعِ فَيُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِفَادَةِ كَانَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَلَوْ فُرِضَ تَكَرُّرُ خَطَئِهِ فَتَكَرَّرَتْ الْإِعَادَةُ أَفْضَى إلَى الْحَرَجِ لِإِخْرَاجِ كُلِّ مَالِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ خُصُوصًا مَعَ كَوْنِ الْحَرَجِ مَدْفُوعًا شَرْعًا عُمُومًا بِخِلَافِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَوُجُودِ النَّصِّ فَإِنَّهُ مِمَّا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِالْأَخْبَارِ (قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا تَحَرَّى إلَخْ) تَحْرِيرٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ: دَفَعَ لِشَخْصٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ فَهُوَ عَلَى الْجَوَازِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ غِنَاهُ مَثَلًا فَيُعِيدُ، وَإِنْ شَكَّ فَلَمْ يَتَحَرَّ وَدَفَعَ أَوْ تَحَرَّى فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غِنَاهُ وَدَفَعَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى

ص: 276

عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى شَخْصٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَا يُجْزِيهِ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ وَهُوَ الرُّكْنُ عَلَى مَا مَرَّ.

(وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ) لِأَنَّ الْغِنَى الشَّرْعِيَّ مُقَدَّرٌ بِهِ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ

يَظْهَرَ أَنَّهُ مَصْرِفٌ فَيُجْزِيهِ فِي الصَّحِيحِ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا كَمَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ إلَى غَيْرِ جِهَةِ التَّحَرِّي فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنَّ ظَهَرَ صَوَابُهُ، وَالْحَقُّ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْجَوَازِ هُنَا، وَالْفَرْقُ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ مَعْصِيَةٌ لِتَعَمُّدِهِ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ إذْ هِيَ التَّحَرِّي، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: أَخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرَ، فَلَا تَنْقَلِبُ طَاعَةً، وَهُنَا نَفْسُ الْإِعْطَاءِ لَا يَكُونُ بِهِ عَاصِيًا فَصَلُحَ وُقُوعُهُ مُسْقِطًا إذَا ظَهَرَ صَوَابُهُ.

الثَّالِثُ: إذَا شَكَّ فَتَحَرَّى فَظَنَّهُ مَصْرِفًا فَدَفَعَ فَظَهَرَ خِلَافُهُ، وَهِيَ الْخِلَافِيَّةُ.

(قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ لِمَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ) مِنْ فُرُوعِهَا: قَوْمٌ دَفَعُوا الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَجْمَعُهَا لِفَقِيرٍ فَاجْتَمَعَ عِنْدَ الْآخِذِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ جَمَعَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ، قَالُوا: كُلُّ مَنْ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَا فِي يَدِ الْجَانِي مِائَتَيْنِ جَازَتْ زَكَاتُهُ، وَمَنْ دَفَعَ بَعْدَهُ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مَدْيُونًا فَيُعْتَبَرُ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي مِائَتَيْنِ تَفْضُلُ بَعْدَ دَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ الْكُلُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ هُوَ وَكِيلٌ عَنْ الْفَقِيرِ فَمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ يَمْلِكُهُ، وَفِي الثَّانِي وَكِيلُ الدَّافِعِينَ فَمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِلْكُهُمْ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا أَلْفًا وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَوَزَنَهَا مِائَةً مِائَةً وَقَبَضَهَا كَذَلِكَ يُجْزِيهِ كُلُّ الْأَلْفِ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا كَانَتْ كُلُّهَا حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ وَدَفَعَ كُلَّهَا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَهَا جُمْلَةً، وَلَوْ كَانَتْ غَائِبَةً فَاسْتَدْعَى بِهَا مِائَةً مِائَةً كُلَّمَا حَضَرَتْ مِائَةٌ دَفَعَهَا إلَيْهِ لَا يَجُوزُ مِنْهَا إلَّا مِائَتَانِ وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ.

(قَوْلُهُ: وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ) أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ لَيْسَ نَامِيًا وَهُوَ مُسْتَغْرَقٌ بِحَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَا فِيمَنْ يَمْلِكُ كُتُبًا

ص: 277

وَإِنَّمَا شَرَطَ الْوُجُوبَ (وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا) لِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَالْفُقَرَاءُ هُمْ الْمَصَارِفُ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ

(وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا وَإِنْ دَفَعَ جَازَ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْغِنَى قَارَنَ الْأَدَاءَ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ إلَى

تُسَاوِي نِصَابًا، وَهُوَ عَالِمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَوْ هُوَ جَاهِلٌ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا، فِيمَنْ لَهُ آلَاتٌ وَفَرَسٌ وَدَارٌ وَعَبْدٌ يَحْتَاجُهَا لِلْخِدْمَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ أَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ نَامٍ إلَّا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ، وَعَنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ: رَجُلٌ لَهُ أَلْفٌ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ تُسَاوِي عَشَرَةَ آلَافٍ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْكِتَابِ: أَرَأَيْت لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلصَّدَقَةِ، وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ كَانَ لَهُ حَوَانِيتُ أَوْ دَارُ غَلَّةٍ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَغَلَّتُهَا لَا تَكْفِي لِقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَهَذَا التَّخْصِيصُ يُفِيدُ الْخِلَافَ، وَفِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ مِنْ الْخُلَاصَةِ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الضَّيْعَةِ وَالْكَرْمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَعَلَّهُ هُوَ الْخِلَافُ الْمُرَادُ فِي الْفَتَاوَى.

وَلَوْ اشْتَرَى قُوتَ سَنَةٍ يُسَاوِي نِصَابًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ نِصَابًا. وَقِيلَ: إنْ كَانَ طَعَامَ شَهْرٍ يُسَاوِي نِصَابًا جَازَ الصَّرْفُ إلَيْهِ لَا إنْ زَادَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ كِسْوَةُ الشِّتَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ جَازَ الصَّرْفُ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ الْمَزَارِعِ مَا زَادَ عَلَى ثَوْرَيْنِ (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا) وَعِنْدَ غَيْرِ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ لِلْكَسُوبِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» . «وَقَوْلُهُ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ أَمَا إنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهَا وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا» . وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حُرْمَةُ سُؤَالِهِمَا لِقَوْلِهِ «وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا» وَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ مُحَرَّمًا غَيْرَ مُسْقِطٍ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ لَمْ يَفْعَلْهُ.

(قَوْلُهُ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا) إلَّا أَنْ يَكُونَ مَدْيُونًا لَا يَفْضُلُ لَهُ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ نِصَابٌ، أَوْ يَكُونَ مَعِيلًا إذَا وَزَّعَ الْمَأْخُوذَ عَلَى عِيَالِهِ لَمْ يُصِبْ كُلًّا

ص: 278

الْغِنَى. وَلَنَا أَنَّ الْغِنَى حُكْمُ الْأَدَاءِ فَيَتَعَقَّبُهُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِقُرْبِ الْغِنَى مِنْهُ كَمَنْ صَلَّى وَبِقُرْبِهِ نَجَاسَةٌ (قَالَ: وَأَنْ تُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ) مَعْنَاهُ الْإِغْنَاءُ عَنْ السُّؤَالِ يَوْمَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ. .

قَالَ (وَيُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ) وَإِنَّمَا تُفَرَّقُ صَدَقَةُ كُلِّ فَرِيقٍ فِيهِمْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه، وَفِيهِ رِعَايَةُ حَقِّ الْجِوَارِ

مِنْهُمْ نِصَابٌ وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا.

وَقَوْلُهُ: فَيَتَعَقَّبُهُ صَرِيحٌ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ إيَّاهَا فِي الْخَارِجِ، وَالْأَحَبُّ أَنْ يُغْنِيَ بِهَا فَقِيرًا يَوْمَهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ» وَالْأَوْجَهُ غَيْرُ هَذَا الْإِطْلَاقِ، بَلْ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْأَحْوَالُ فِي كُلِّ فَقِيرٍ مِنْ عِيَالٍ وَحَاجَةٍ أُخْرَى كَدَيْنٍ وَثَوْبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ كَانَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.

(قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ) وَهُوَ قَوْلُهُ فَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ هَذَا وَالْمُعْتَبَرُ

ص: 279

(إلَّا أَنْ يَنْقُلَهَا الْإِنْسَانُ إلَى قَرَابَتِهِ أَوْ إلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ: أَوْ زِيَادَةِ دَفْعِ الْحَاجَةِ، وَلَوْ نَقَلَ إلَى غَيْرِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ مُطْلَقُ الْفُقَرَاءِ بِالنَّصِّ.

فِي الزَّكَاةِ مَكَانُ الْمَالِ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَكَانُ الرَّأْسِ الْمُخْرَجِ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مُرَاعَاةً لِإِيجَابِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ وُجُودِ سَبَبِهِ، قَالُوا: الْأَفْضَلُ فِي صَرْفِهَا أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى إخْوَانِهِ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ أَعْمَامِهِ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ أَخْوَالِهِ ثُمَّ ذَوِي أَرْحَامِهِ ثُمَّ جِيرَانِهِ ثُمَّ أَهْلِ سَكَنِهِ ثُمَّ أَهْلِ مِصْرِهِ.

(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَنْقُلَهَا) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كَرَاهَةِ النَّقْلِ، وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ دَفْعِ الْقِيَمِ مِنْ قَوْلِ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابِ خَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَيَجِبُ كَوْنُ مَحْمَلِهِ كَوْنَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ أَحْوَجُ أَوْ ذَلِكَ مَا يَفْضُلُ بَعْدَ إعْطَاءِ فُقَرَائِهِمْ، وَأَمَّا النَّقْلُ لِلْقَرَابَةِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ زِيَادَةً عَلَى قُرْبَةِ الزَّكَاةِ، هَذَا وَيُنَاسِبُ إيلَاءَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ فَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهَا تَكْمِيلًا لِلْوَضْعِ، تَلْزَمُ الصَّدَقَةُ بِالنَّذْرِ فَإِنْ عَيَّنَ دِرْهَمًا أَوْ فَقِيرًا بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَوْ عَلَى هَذَا الْفَقِيرِ لَمْ يَلْزَمْ، فَلَوْ تَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخُبْزِ كَذَا وَكَذَا فَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ جَازَ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ غَيْرُهَا وَلَوْ لَمْ تَهْلَكْ فَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهَا جَازَ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَنْفَعَةٍ تَصِلُ إلَيَّ مِنْ مَالِكَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَا لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَا مَلَكَهُ لَا بِمَا أَبَاحَهُ كَطَعَامٍ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ لَا يَدْخُلُ مَا لَهُ مِنْ الدُّيُونِ عَلَى النَّاسِ وَدَخَلَ مَا سِوَاهَا.

وَهَلْ يَتَقَيَّدُ بِمَالِ الزَّكَاةِ نَذْكُرُهُ فِي آخَرِ كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَالَ: إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا فَعَلَيَّ زَكَاتُهُ لِكُلِّ مِائَتَيْنِ عَشَرَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ سِوَى خَمْسَةٍ إذَا رُزِقَهُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي صَدَقَةٌ فَفَعَلَهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مِائَةً مَثَلًا الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّصَدُّقُ إلَّا بِمَا مَلَكَ، لِأَنَّ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْ لَمْ يَكُنْ النَّذْرُ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ وَلَا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ. كَمَا لَوْ قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ وَلَا مَالَ لَهُ لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَكَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ لُقْمَةٍ مِنْهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ كُلَّ لُقْمَةٍ أَكْلَةٌ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا شَرِبْت فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِكُلِّ نَفَسٍ لَا بِكُلِّ مَصَّةٍ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ فَتَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِمْ جَازَ لِأَنَّ لُزُومَ النَّذْرِ إنَّمَا هُوَ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَذَلِكَ بِالصَّدَقَةِ فَبِاعْتِبَارِهَا يَلْزَمُ لَا بِمَا زَادَ، وَأَيْضًا الصَّرْفُ

ص: 280

‌بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

قَالَ رحمه الله: (صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ مَالِكًا لِمِقْدَارِ النِّصَابِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ وَثِيَابِهِ

إلَى كُلِّ فَقِيرٍ صَرْفٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْتَحِقُّ فَيَجُوزُ، وَصَارَ نَظِيرُ مَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً بِمَكَّةَ فَصَامَ وَصَلَّى فِي غَيْرِهَا حَيْثُ يَجُوزُ عِنْدَنَا.

(بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ)

الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّتِهَا وَكَمِّيَّتِهَا وَشَرْطِهَا وَسَبَبِهَا وَسَبَبِ شَرْعِيَّتِهَا وَرُكْنِهَا وَوَقْتِ وُجُوبِهَا وَوَقْتِ الِاسْتِحْبَابِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ نَفْسُ الْأَدَاءِ إلَى الْمَصْرِفِ، وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ فِي رُوَاتِهِ مَجْرُوحٌ وَالْبَاقِي يَأْتِي فِي الْكِتَابِ بَحْثًا بَحْثًا.

فَالْأَوَّلُ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ لِحَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعَدَوِيِّ وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيٌّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَمُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فِي الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ وَالْمَتْنِ، فَالْأَوَّلُ: أَهُوَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي صُعَيْرٍ أَوْ هُوَ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ، وَالثَّانِي: أَهُوَ الْعَدَوِيُّ أَوْ الْعُذْرِيُّ فَقِيلَ الْعَدَوِيُّ نِسْبَةً إلَى جَدِّهِ الْأَكْبَرِ عَدِيٍّ وَقِيلَ: الْعُذُرِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ فِي تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ: الْعُذُرِيُّ بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالرَّاءِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَبُو مُحَمَّدٍ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَغِيرٌ، وَالْعَدَوِيُّ تَصْحِيفُ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ.

وَالثَّالِثُ: أَهُوَ أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، أَوْ هُوَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ. قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُحَرَّفَ لَفْظُ رَأْسٍ إلَى اثْنَيْنِ اهـ. لَكِنْ تُبْعِدُهُ رِوَايَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهِيَ مِنْ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا طَرِيقُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ

ص: 281

وَأَثَاثِهِ وَفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ وَعَبِيدِهِ) أَمَّا وُجُوبُهَا فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي خُطْبَتِهِ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» رَوَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ الْعَدَوِيُّ أَوْ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَبِمِثْلِهِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ الْقَطْعِ

وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّمْلِيكُ وَالْإِسْلَامُ لِيَقَعَ قُرْبَةً، وَالْيَسَارُ لِقَوْلِهِ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَقَالَ: أَدُّوا صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ» وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ.

وَفِي غَيْرِ هَذِهِ مِنْ أَيْنَ يُجَاءُ بِالرَّاءِ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى نَفْسِ الْوُجُوبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ وَسَيَأْتِي اسْتِدْلَالُهُ فِي قَدْرِهِ بِحَدِيثٍ آخَرَ، وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَى الِافْتِرَاضِ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ» فَإِنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُتَعَيِّنٌ مَا لَمْ يَقُمْ صَارِفٌ عَنْهُ، وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْفَرْضِ غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّقْدِيرِ خُصُوصًا وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ النَّاسُ عَدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ وَمَعْنَى لَفْظِ " فَرَضَ " هُوَ مَعْنَى " أَمَرَ " أَمْرَ إيجَابٍ، وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ بِظَنِّي إنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ الِافْتِرَاضَ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهٍ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ الَّذِي نَقُولُ بِهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْفَرْضَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ أَعَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ فِي عُرْفِنَا فَأَطْلَقُوهُ عَلَى أَحَدِ جُزْأَيْهِ وَمِنْهُ مَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ صَارِخًا بِبَطْنِ مَكَّةَ يُنَادِي: أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ» الْحَدِيثَ.

فَإِنْ قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِالْفَرْضِ مَا هُوَ عُرْفُنَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى الْوُجُوبِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ إذَا نُقِلَ الْإِجْمَاعُ تَوَاتُرًا لِيَكُونَ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ كَالْخَمْسِ عِنْدَ كَثِيرٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ إنَّمَا يَظُنُّ الْإِجْمَاعَ ظَنًّا فَلَا، وَلِذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ مُنْكِرَ وُجُوبِهَا لَا يُكَفَّرُ فَكَانَ الْمُتَيَقَّنُ الْوُجُوبَ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ عِنْدَنَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ: وَشَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِيَتَحَقَّقَ التَّمْلِيكُ) إذْ لَا يَمْلِكُ إلَّا الْمَالِكُ وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِ الْحُرِّ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الرُّكْنُ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا عَلَى الْعَبْدِ وَيَتَحَمَّلُهُ السَّيِّدُ، لَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ التَّكْلِيفِ أَنْ يَصْرِفَ الْمُكَلَّفُ نَفْسَ مَنْفَعَتِهِ لِمَالِكِهِ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى ابْتِلَاءً لَهُ لِتَظْهَرَ طَاعَتُهُ مِنْ عِصْيَانِهِ، وَلِذَا لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، فَإِذَا فُرِضَ كَوْنُ الْمُكَلَّفِ لَا يَلْزَمُهُ شَرْعًا صَرْفُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِعْلُ الْإِعْطَاءِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ شَخْصًا آخَرَ لَزِمَ انْتِفَاءُ الِابْتِلَاءِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التَّكْلِيفِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ، وَثُبُوتُ الْفَائِدَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْآخَرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الَّذِي لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ وَالْإِعْدَامِ تَعَالَى يُمْكِنُ أَنْ يُكَلِّفَ ابْتِدَاءً السَّيِّدَ بِسَبَبِ عَبْدِهِ الَّذِي مَلَّكَهُ لَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَوَجَبَ لِهَذَا

ص: 282

عليه الصلاة والسلام «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ: تَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَقَدْرُ الْيَسَارِ بِالنِّصَابِ لِتَقْدِيرِ الْغِنَى فِي الشَّرْعِ بِهِ فَاضِلًا عَمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَشْيَاءِ

الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ لُزُومُ انْتِفَاءِ مَقْصُودِ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ مِنْ لَفْظِ " عَلَى " فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ عَلَى مَعْنَى كَقَوْلِهِ:

إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ

لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا

وَهُوَ كَثِيرٌ، وَيَطَّرِدُ بَعْدَ أَلْفَاظٍ وَهِيَ خَفِيَ عَلَيَّ، وَبَعُدَ عَلَيَّ، وَاسْتَحَالَ عَلَيَّ، وَغَضِبَ عَلَيَّ، كُلُّهَا بِمَعْنَى عَنِّي هَذَا لَوْ لَمْ يَجِئْ شَيْءٌ مِنْ أَلْفَاظِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ " عَنْ " كَيْ لَا يُنَافِيه الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ، فَكَيْفَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صَرَّحَ بِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ، عَلَى أَنَّ الْمُتَأَمِّلَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: كُلِّفَ بِكَذَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ يَجُرُّ إلَى التَّنَاقُضِ فَضْلًا عَنْ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى») رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مُقْتَصِرًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَتَعْلِيقَاتُهُ الْمَجْزُومَةُ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ. وَرَوَاهُ مَرَّةً مُسْنَدًا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَفْظَةُ الظَّهْرِ مَقْحَمَةٌ كَظَهْرِ الْقَلْبِ، وَظَهْرِ الْغَيْبِ فِي الْمُغْرِبِ (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ زِيَادَةً عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ).

وَمَا رَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَفَّانَ قَالَ: سَأَلْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَحَدَّثَنِي عَنْ نُعْمَانَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَدُّوا صَاعًا مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ شَكَّ حَمَّادٌ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ، وَأَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِي» فَقَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بِالنُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ وَجَهَالَةِ ابْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، وَلَوْ صَحَّ لَا يُقَاوَمُ مَا رَوَيْنَاهُ فِي الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ مَا لَا يَنْضَبِطُ كَثْرَةً مِنْ الرِّوَايَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ فِيهَا الْفَقِيرُ فَكَانَتْ تِلْكَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ فَلَا تُقْبَلُ خُصُوصًا مَعَ نُبُوٍّ عَنْ

ص: 283

لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْمَعْدُومِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النُّمُوُّ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا النِّصَابِ حِرْمَانُ الصَّدَقَةِ وَوُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ وَالْفِطْرَةِ.

قَالَ (يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى» الْحَدِيثَ (وَ) يُخْرِجُ عَنْ (أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ) لِأَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ يُقَالُ زَكَاةُ الرَّأْسِ، وَهِيَ أَمَارَةُ السَّبَبِيَّةِ،

قَوَاعِدِ الصَّدَقَاتِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهَا (قَوْلُهُ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا النِّصَابِ إلَخْ) وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا وُجُوبُ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا النِّصَابِ، وَحَدِيثُ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ.

(قَوْلُهُ وَالسَّبَبُ رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ) الْمُفِيدُ لِسَبَبِيَّةِ الرَّأْسِ الْمَذْكُورِ لَفْظُ " عَنْ " فِي قَوْلِهِ «عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى» وَكَذَا لَفْظُ " عَلَى " بَعْدَ مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَعْنَى عَنْ اسْتَفَدْنَا مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ هَؤُلَاءِ، وَالْقَطْعُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي مُؤْنَتِهِ وَوِلَايَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ عَبْدِ غَيْرِهِ وَوَلَدِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ فِي آخِرِهِ «مِمَّنْ تَمُونُونَ» وَلَوْ مَانَ صَغِيرًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ إجْمَاعًا فَلَزِمَ أَنَّهُمْ السَّبَبُ إذَا كَانُوا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَالْمُصَنِّفُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ زَكَاةُ الرَّأْسِ وَتَمَامُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَسْمُوعًا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِوَضْعِهِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَبِمَا ذُكِرَ فِي ضِمْنِ تَأْوِيلِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ: زَكَاةُ الرَّأْسِ أَوْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِأَنَّهَا إلَى الشَّرْطِ لِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ تَعَدُّدِ الْوَاجِبِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْيَوْمِ وَتَعَدُّدِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اعْتِبَارُ الشَّارِعِ السَّبَبِيَّةَ لِلرَّأْسِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِتَعَدُّدِ الْوَاجِبِ مَعَ اتِّحَادِ الرَّأْسِ وَتَعَدُّدِ الْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ السِّنِينَ، فَلَوْ كَانَ السَّبَبُ الرَّأْسَ لَمْ يَتَكَرَّرْ عِنْدَ تَكَرُّرِهَا، كَالْحَجِّ لَمَّا اتَّحَدَ سَبَبُهُ وَهُوَ الْبَيْتُ لَمْ يَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ. وَأُجِيبَ بِمَنْعِهِ وَإِسْنَادِهِ بِتَكَرُّرِ الْوَاجِبِ مَعَ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَتَكَرُّرِ الْوَقْتِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْمَالُ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَالَ لَمْ يُعْتَبَرْ سَبَبًا إلَّا بِاعْتِبَارِ النَّمَاءِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، وَالنَّمَاءُ مُتَكَرِّرٌ نَظَرًا إلَى

ص: 284

وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتُهُ، وَلِهَذَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الرَّأْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْيَوْمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْوُجُوبِ رَأْسُهُ وَهُوَ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ فَيَلْحَقُ بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ كَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ لِأَنَّهُ يُمَوِّنُهُمْ وَيَلِي عَلَيْهِمْ (وَمَمَالِيكِهِ) لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ، وَهَذَا إذَا كَانُوا لِلْخِدْمَةِ وَلَا مَالَ لِلصِّغَارِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ يُؤَدِّي مِنْ مَالِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ الشَّرْعَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ.

(وَلَا يُؤَدِّي عَنْ زَوْجَتِهِ)

دَلِيلِهِ وَهُوَ الْحَوْلُ، فَكَانَ السَّبَبُ وَهُوَ الْمَالُ النَّامِي مُتَكَرِّرًا لِأَنَّهُ بِنَمَاءِ هَذَا الْحَوْلِ غَيَّرَهُ بِالنَّمَاءِ الْآخَرِ فِي الْحَوْلِ الْآخَرِ، بَلْ الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُدَّعِي أَنَّ تَضَاعُفَ الْوَاجِبِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَ تَعَدُّدِ شَيْءٍ دَلِيلُ سَبَبِيَّةِ الْمُتَعَدِّدِ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ التَّكَرُّرِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَكَرِّرَةٍ فَالثَّابِتُ هُنَاكَ وَاجِبٌ وَاحِدٌ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ مَعَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَأَنَّى يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مُحْوِجًا لِلْجَوَابِ؟ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إثْبَاتُ سَبَبِيَّةِ شَيْءٍ لِهَذَا مِثْلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّوَرَانِ عَلَى عِلِّيَّةِ شَيْءٍ بِلَا فَرْقٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَنَا فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ.

فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَا إذْ لَا فَرْقَ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ السَّبَبِيَّةِ حِينَئِذٍ مَا سَلَكْنَاهُ مِنْ إفَادَةِ السَّمْعِ، ثُمَّ إعْطَاءِ الضَّابِطِ بِأَنَّهُ رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ فِي الْجَدِّ إذَا كَانَتْ نَوَافِلُهُ صِغَارًا فِي عِيَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَدَفَعَهُ بِادِّعَاءِ انْتِفَاءِ جُزْءِ السَّبَبِ بِسَبَبِ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ مُنْتَقِلَةٌ مِنْ الْأَبِ إلَيْهِ، فَكَانَتْ كَوِلَايَةِ الْوَصِيِّ غَيْرِ قَوِيٍّ إذْ الْوَصِيُّ لَا يَمُونُهُ إلَّا مِنْ مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، بِخِلَافِ الْجَدِّ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ مَالٌ فَكَانَ كَالْأَبِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ انْتِقَالِ الْوِلَايَةِ وَلَا أَثَرَ لَهُ كَمُشْتَرِي الْعَبْدِ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ، أَنَّ عَلَى الْجَدِّ صَدَقَةَ فِطْرِهِمْ.

وَهَذِهِ مَسَائِلُ يُخَالِفُ فِيهَا الْجَدُّ الْأَبَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَا يُخَالِفُهُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ هَذِهِ وَالتَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ وَجَرُّ الْوَلَاءِ وَالْوَصِيَّةِ لِقَرَابَةِ فُلَانٍ (قَوْلُهُ فَيَلْحَقُ بِهِ) هَذَا بَيَانُ حُكْمِهِ الْمَنْصُوصِ يَعْنِي إنَّمَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَاهُ بِمَا قُلْنَا لَا أَنَّهُ إلْحَاقٌ لِإِفَادَةِ حُكْمِهِمْ، إذْ حُكْمُهُمْ ذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ يُؤَدِّي مِنْ مَالِهِمْ) الْأَبُ كَالْوَصِيِّ، وَكَذَا يُؤَدِّي عَنْ مَمَالِيكِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُؤَدِّي عَنْ مَمَالِيكِهِ أَصْلًا، وَالْمَجْنُونُ كَالصَّغِيرِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ) هَذَا دَلِيلُ قَوْلِهِمَا وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ لَهُ

ص: 285

لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَلَا فِي غَيْرِ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا يُمَوِّنُهَا فِي غَيْرِ الرَّوَاتِبِ كَالْمُدَاوَاةِ. (وَلَا عَنْ أَوْلَادِ الْكِبَارِ وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ) لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ وَلَوْ أَدَّى عَنْهُمْ أَوْ عَنْ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِثُبُوتِ الْإِذْنِ عَادَةً.

(وَلَا) يُخْرِجُ (عَنْ مُكَاتَبِهِ) لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَلَا الْمُكَاتَبِ عَنْ نَفْسِهِ لِفَقْرِهِ. وَفِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وِلَايَةُ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ فَيُخْرِجُ عَنْهُمَا.

(وَلَا) يُخْرِجُ (عَنْ مَمَالِيكِهِ لِلتِّجَارَةِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّ عِنْدَهُ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَبْدِ وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا تَنَافِي، وَعِنْدَنَا وُجُوبُهَا عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِهِ كَالزَّكَاةِ

مَالٌ فِي مَالِهِ فَكَذَا هَذَا، وَالْأَوْلَى كَوْنُ الْمُرَادِ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ لِأَنَّ وَجْهَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا كَالزَّكَاةِ، وَقَدْ وَجَبَ إخْرَاجُ الْأَبِ عَنْهُ فَيَكُونُ فِي مَالِهِ، فَيَقُولَانِ فِي جَوَابِهِ، هِيَ عِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» إذْ قَدْ قَبِلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ، أَوْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مِمَّنْ تَمُونُونَ» فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَأَلْحَقَهَا بِالْمُؤْنَةِ فَكَانَتْ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ تَجِبُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ غَنِيًّا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً.

(قَوْلُهُ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ. وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فِيمَا فِيهِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ. بِخِلَافِ مَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ كَالزَّكَاةِ لَا تَسْقُطُ عَنْهَا إلَّا بِإِذْنِهَا صَرِيحًا إذْ لَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الطَّاعَةِ وَالِابْتِلَاءِ إلَّا بِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ لَا يَنْفِي مَا فِيهِ الْعِبَادَةُ الْمُتَفَرِّعَةُ عَنْ الِابْتِلَاءِ وَاخْتِيَارِ الطَّاعَةِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَنَعْنَاهُ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْغَالِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ. نَعَمْ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُوَجَّهَ هَكَذَا بِأَنَّ الثَّابِتَ عَادَةً لَمَّا كَانَ كَالثَّابِتِ نَصًّا كَانَ أَدَاؤُهُ مُتَضَمِّنًا اخْتِيَارَهَا وَنِيَّتَهَا، وَبِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا لَا عَادَةَ فِيهَا، وَلَوْ قُدِّرَ فِيهَا عَادَةٌ قُلْنَا بِالْإِجْزَاءِ فِيهَا أَيْضًا لَكِنَّهَا مُنْتَفِيَةٌ فِيهَا

ص: 286

فَيُؤَدِّي إلَى الثَّنْيِ

(وَالْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا) لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَكَذَا الْعَبِيدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ مِنْ الرُّءُوسِ دُونَ الْأَشْقَاصِ

ثُمَّ الْوَجْهُ وَإِلَّا فَلَا

(قَوْلُهُ فَيُؤَدِّي إلَى الثَّنْيِ) هُوَ مَكْسُورُ الْمُثَلَّثَةِ مَقْصُورًا، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّنْيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَثْنِيَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ لِاخْتِلَافِ الْوَاجِبِينَ كَمًّا وَسَبَبًا فَإِنَّهُ فِي الْفِطْرِ الرَّأْسُ، وَفِي الزَّكَاةِ مَالِيَّتُهَا لَا هِيَ نَفْسُهَا وَمَحَلًّا، فَفِي الْفِطْرِ الذِّمَّةُ حَتَّى لَا تَسْقُطَ بِعُرُوضِ الْفَقْرِ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَفِي الزَّكَاةِ الْمَالُ حَتَّى تَسْقُطَ بِهِ بِأَنْ هَلَكَ الْمَالُ فَلَا ثَنْيَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَزِمَ قَبُولُهُ بَعْدَ لُزُومِهِ شَرْعًا بِثُبُوتِهِ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلزَّكَاةِ مُطْلَقًا، وَالدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِلْفِطْرَةِ مُطْلَقًا وَعَدَمِ ثُبُوتِ نَافِيهِ.

وَقِيلَ فِي الْوَجْهِ غَيْرُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّ الِانْتِفَاءَ لِانْتِفَاءِ السَّبَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَأْسًا أُعِدَّ لِلْمُؤْنَةِ بَلْ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَائِهِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنْ الرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ سِوَى عَلَى أَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يَمُونُهُ. . . إلَخْ لَا يُفِيدُ كَوْنَهُ أُعِدَّ لَأَنْ يُمَانَ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الرَّأْسَ الْوَاحِدَ جُعِلَتْ سَبَبًا فِي الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا وَفِي صَدَقَةٍ أُخْرَى بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ) يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ هُوَ رَأْسٌ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ، لِأَنَّ الْمُفَادَ بِالنَّصِّ مِنْ قَوْلِهِ «مِمَّنْ تَمُونُونَ» مِمَّنْ عَلَيْكُمْ مُؤْنَتُهُ، وَلَيْسَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مُؤْنَتُهُ، بَلْ بَعْضُهَا وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ إيَّاهُ، وَلَا سَبَبَ إلَّا هَذَا فَعِنْدَ انْتِفَائِهِ يَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنَّ الْعَدَمَ يُؤَثِّرُ شَيْئًا.

(قَوْلُهُ وَقَالَا) هَذَا بِنَاءً عَلَى كَوْنِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ بَلْ الْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ أَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ قِسْمَةِ الرَّقِيقِ جَبْرًا وَلَمْ يَجْتَمِعْ لِوَاحِدٍ مَا يُسَمَّى رَأْسًا، وَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي الْقِسْمَةِ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِسْمَةِ بِنَاءً عَلَى الْمَالِكِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ عَنْ وِلَايَةٍ لَا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَلِذَا تَجِبُ عَنْ الْوَالِدِ وَلَا مِلْكَ وَلَا تَجِبُ عَنْ الْآبِقِ مَعَ الْمِلْكِ فِيهِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَجَوَازُ الْقِسْمَةِ لَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً لِثُبُوتِهَا، وَكَلَامُنَا فِيمَا قَبْلَهَا وَقَبْلَهَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ رَأْسٌ كَامِلٌ.

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْعَبْدِ وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحَالُ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَكَانَ

ص: 287

بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ وَهُمَا يَرَيَانِهِمَا، وَقِيلَ: هُوَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ النَّصِيبُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَمْ تَتِمَّ الرَّقَبَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَيُؤَدِّي الْمُسْلِمُ الْفِطْرَةَ عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ» الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِهِ،

يَجِبُ عَلَى سَيِّدَيْ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ هَذَا قِيلَ: هُوَ أَعْنِي عَدَمَ الْوُجُوبِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبِيدِ بِالْإِجْمَاعِ أَيْ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ كَانَ لَهُمَا جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ أَوْ ادَّعَيَا لَقِيطًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا عَنْ الْأُمِّ لِمَا قُلْنَا وَتَجِبُ عَنْ الْوَلَدِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِطْرَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ ثَابِتَةٌ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا إذْ ثُبُوتُ النَّسَبِ لَا يَتَجَزَّأُ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ وَلَدًا لِلْبَاقِي مِنْهُمَا.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِمَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُمَا وَالْمُؤْنَةَ عَلَيْهِمَا فَكَذَا الصَّدَقَةُ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّجَزُّؤِ وَالْمُؤْنَةِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا أَوْ مَيِّتًا فَعَلَى الْآخَرِ صَدَقَةٌ تَامَّةٌ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ آبِقٌ أَوْ مَأْسُورٌ أَوْ مَغْصُوبٌ مَجْحُودٌ وَلَا بَيِّنَةَ فَحَلَفَ لِلْغَاصِبِ فَعَادَ الْآبِقُ، وَرُدَّ الْمَغْصُوبُ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ كَانَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ مَا مَضَى، وَيُؤَدِّي عَنْ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ إذَا كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ: يَعْنِي وَلَهُ نِصَابٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَتَّى يَفْتَكَّهُ فَإِذَا افْتَكَّهُ أَعْطَى لِمَا مَضَى، وَيَجِبُ عَلَيْهِ فِطْرَةُ عَبْدِهِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمَأْذُونِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ، وَلَا تَجِبُ عَنْ عَبْدِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى عَبْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ لِلتِّجَارَةِ، فَلَوْ اشْتَرَاهُ الْمَأْذُونُ لِلْخِدْمَةِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَعَلَى الْمَوْلَى فِطْرَتُهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى لِلْإِكْسَابِ وَعَدَمِهِ وَفِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمُسْتَعَارُ الْوَدِيعَةُ وَالْجَانِي عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ، وَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ لَا تَجِبُ فِطْرَتُهُ مِنْ سَهْوِ الْقَلَمِ، وَلَوْ بِيعَ الْعَبْدُ بَيْعًا فَاسِدًا فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ قَبْلَ قَبْضِهِ ثُمَّ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَأَعْتَقَهُ فَالْفِطْرَةُ عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوْ مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَهُوَ مَقْبُوضُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْبَائِعُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ بَاعَهُ فَالصَّدَقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ.

(قَوْلُهُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) اسْتَدَلَّ

ص: 288

وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَلَا وُجُوبَ بِالِاتِّفَاقِ.

(وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَأَحَدُهُمَا بِالْخِيَارِ فَفِطْرَتُهُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ لَهُ) مَعْنَاهُ إذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالْخِيَارُ بَاقٍ، وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِهِ كَالنَّفَقَةِ، وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ

بِأَمْرَيْنِ ثَانِيهِمَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ فَيَبْقَى الْأَوَّلُ سَالِمًا، أَمَّا الْحَدِيثُ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ» وَهُوَ ضَعِيفٌ بَلْ عُدَّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ قِبَلِ سَلَّامٍ الطَّوِيلِ فَإِنَّهُ مَتْرُوكٌ مَرْمِيٌّ بِالْوَضْعِ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَفْظُهُ مَجُوسِيٌّ لَمْ تُعْلَمْ مَرْوِيَّةٌ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْعَبْدِ فِي الصَّحِيحِ يُوجِبُهَا فِي الْكَافِرِ وَالتَّقْيِيدُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُعَارِضُهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ عَدَمِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْأَسْبَابِ لِأَنَّهُ تَزَاحُمٌ فِيهَا فَيُمْكِنُ بِهِمَا فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ سَبَبًا بِخِلَافِ وُرُودِهِمَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ إفْرَادَ فَرْدٍ مِنْ الْعَامِّ لَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ إنَّ تَعْلِيقَ حُكْمٍ بِمُطْلَقٍ ثُمَّ تَعْلِيقَهُ بِعَيْنِهِ بِمُقَيَّدٍ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْمُطْلَقَ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، نَعَمْ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِهِمَا صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةً.

(قَوْلُهُ: وَأَحَدُهُمَا بِالْخِيَارِ) أَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا وَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالْخِيَارُ بَاقٍ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ الْعَبْدُ لَهُ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ فُسِخَ فَعَلَى الْبَائِعِ، وَقَالَ زُفَرُ: تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ كَيْفَمَا كَانَ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ،

ص: 289

لِأَنَّهُ لَوْ رُدَّ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَوْ أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَيَتَوَقَّفُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا لِلْحَاجَةِ النَّاجِزَةِ فَلَا تَقْبَلُ التَّوَقُّفَ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.

‌فَصْلٌ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَوَقْتِهِ

(الْفِطْرَةُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، الزَّبِيبُ بِمَنْزِلَةِ الشَّعِيرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ،

وَالزَّوَالَ فِي اخْتِيَارِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حُكْمٍ عَلَيْهِ كَالْمُقِيمِ إذَا سَافَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حَيْثُ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ إنْشَاءَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِهِ كَالنَّفَقَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ وَالْوِلَايَةَ مَوْقُوفَانِ فَيَتَوَقَّفُ مَا يُبْنَى عَلَيْهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فُسِخَ يَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَوْ أُجِيزَ يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِهِ الزَّوَائِدَ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَتَمَّ الْحَوْلُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَعِنْدَنَا يُضَمُّ إلَى مَنْ يَصِيرُ لَهُ إنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَيُزَكِّيهِ مَعَ نِصَابِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى مَضَى يَوْمُ الْفِطْرِ فَقَبَضَهُ فَالْفِطْرَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا صَدَقَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِقُصُورِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَعَوْدُهُ إلَى الْبَائِعِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ كَالْآبِقِ بَلْ أَشَدَّ، وَلَوْ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِيَارِ عَيْبٍ أَوْ رُؤْيَةٍ بِقَضَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَتَأَكُّدِهِ.

(فَصْلٌ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَوَقْتِهِ)

(قَوْلُهُ: أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ) أَيْ دَقِيقِ الْبُرِّ وَسَوِيقِهِ، أَمَّا دَقِيقُ الشَّعِيرِ وَسَوِيقُهُ فَمُعْتَبَرٌ بِالشَّعِيرِ (قَوْلُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) رَوَاهَا الْحَسَنُ عَنْهُ وَصَحَّحَهَا أَبُو الْيُسْرِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَقْدِيرِهَا بِصَاعٍ كَمَا سَتَقِفُ

ص: 290

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ صَاعٌ لِحَدِيثِ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَهُوَ مَذْهَبُ

عَلَيْهِ عَنْ قَرِيبٍ، وَدَفْعُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِعِزَّةِ الزَّبِيبِ فِي زَمَانِهِ كَالْحِنْطَةِ لَا يَقْوَى لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَى قَدْرٍ فِيهِ لَا يَنْقُصُ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِيهِ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ.

(قَوْلُهُ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ تَعَارَضَتْ فِي مِقْدَارِ الْحِنْطَةِ وَلَا بَأْسَ بِسَوْقِ نُبْذَةٍ مِنْهَا لِنُطْلِعكَ عَلَى الْحَالِ، أَمَّا مَا مِنْ طَرَفِنَا فَسَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَأَمَّا مَا مِنْ طَرَفِ الْمُخَالِفِ لَنَا فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كُنَّا نَخْرُجُ إذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ. أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: إنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ. رَوَاهُ السِّتَّةُ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا.

وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِلَفْظَةِ طَعَامٍ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَبَادَرُ مِنْهَا الْبُرُّ، وَأَيْضًا فَقَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ هُنَا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَغَيْرُهُمَا فَلَمْ يَبْقَ مُرَادُهُ مِنْهُ إلَّا الْحِنْطَةُ، وَلِأَنَّهُ أَبَى أَنْ يُخْرِجَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهُ وَقَالَ: لَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ، فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ مِنْهُ صَاعًا، وَأَيْضًا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ عَنْهُ «صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ» ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَذَكَرَ عِنْدَهُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ فَقَالَ: لَا أُخْرِجُ إلَّا مَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ، فَقَالَ: لَا تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْمَلُ بِهَا وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ» الْحَدِيثَ وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَيُّوبَ إلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَرَضَ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَدَقَةَ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي الْمُشْكِلِ عَنْ ابْنِ شَوْذَبٍ عَنْ أَيُّوبَ يَبْلُغُ بِهِ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَرَضَ عليه الصلاة والسلام صَدَقَةَ الْفِطْرِ إلَى أَنْ قَالَ: أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ، قَالَ: ثُمَّ عَدَلَ النَّاسُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِصَاعٍ مِمَّا سِوَاهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَضَّ عَلَى صَدَقَةِ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ» وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ أُمِرْنَا عليه الصلاة والسلام أَنْ نُعْطِيَ صَدَقَةَ رَمَضَانَ عَنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، مَنْ أَدَّى بُرًّا قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ أَدَّى شَعِيرًا قُبِلَ مِنْهُ» الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَفِيهِ أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» .

وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَخْرِجُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» قَالَ: وَطَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الْبُرُّ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَاعُ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ» (قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: وَلَنَا مَا رَوَيْنَا إلَخْ) يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ، وَأَنَّهُ

ص: 291

جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -،

يُفِيدُ أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَالْجَوَابُ عَمَّا أَوْرَدَ، أَمَّا الْأَخِيرُ فَالْحَارِثُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَفِي رِوَايَتِهِ «أَوْ نِصْفَ صَاعٍ» وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُك نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ فَانْدَفَعَ.

وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَضَعِيفٌ جِدًّا بِعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَهْبَانَ مَتْرُوكٌ، قَالَهُ النَّسَائِيّ وَالرَّازِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا يُسَاوِي فَلْسًا، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ فَانْدَفَعَ. وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَضَعِيفٌ جِدًّا بِكَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَجْمَعٌ عَلَى تَضْعِيفِهِ.

وَنَفْسُ الشَّافِعِيِّ قَالَ: فِيهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْكَذِبِ فَانْدَفَعَ، وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَمُنْقَطِعٌ لِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ فِيهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَهُمْ يُضَعِّفُونَ بِمِثْلِ هَذَا. وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَفِيهِ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى تَضْعِيفِهِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

وَأَمَّا مَا يَلِيهِ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ أَيُّوبَ تَابَعَ بْنَ شَوْذَبٍ عَلَى زِيَادَةِ الْبُرِّ فِيهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ وَقَدْ اجْتَمَعَا، وَأَيْضًا فَفِي حَدِيثِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خَطَئِهِ وَهُوَ قَوْلُ: ثُمَّ عَدَلَ النَّاسُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِصَاعٍ مِمَّا سِوَاهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلُوا صِنْفًا مَفْرُوضًا بِبَعْضِ صِنْفٍ مَفْرُوضٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ الْمَفْرُوضُ بِمَا لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ اهـ.

لَكِنْ قَدْ تَابَعَهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ أَيُّوبَ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَهِيَ الَّتِي تَلِي رِوَايَةَ الطَّحَاوِيِّ فِيمَا كَتَبْنَاهُ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسَادِ، لَكِنَّ مُبَارَكًا لَا يَعْدِلُ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ فَإِنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَوَثَّقَهُ عَفَّانَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: يُدَلِّسُ كَثِيرًا فَإِذَا قَالَ: حَدَّثَنَا فَهُوَ ثِقَةٌ، وَاَلَّذِي رَأَيْته هَكَذَا عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَيُّوبَ. وَأَمَّا مَا يَلِيهِ: أَعْنِي رِوَايَةَ الْحَاكِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَفِيهِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ، لَكِنْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ كَانَ يَهِمُ فِي الشَّيْءِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَحَدِيثُهُ، هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى الْخَطَأِ فِيهِ، لَا أَعْنِي خَطَأَهُ هُوَ بَلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُنْشِئِهِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ.

فَصَرَّحَ بِأَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ إنَّمَا عَلِمَهُ ابْنُ عُمَرَ مِنْ تَعْدِيلِ النَّاسِ بِهِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَّا لَرَفَعَهُ، وَبِنَفْسِ هَذَا رَدَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى مَا رَوَاهُ هُوَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ «أَمَرَ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ» فَقَالَ كَيْفَ يَصِحُّ؟ وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ تَعْدِيلَ الصَّاعِ بِمُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَرِوَايَةُ الْحَاكِمِ فِيهِ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ لَيْسَتْ صَحِيحَةً، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهَا أَبُو دَاوُد حَيْثُ قَالَ: وَذُكِرَ فِيهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ أَوْ صَاعٌ مِنْ حِنْطَةٍ وَلَيْسَ بِمَحْظُوظٍ، وَذَكَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ أَوْ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ اهـ.

وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فَذِكْرُ الْحِنْطَةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَلَا أَدْرِي مِمَّنْ الْوَهْمُ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ لَهُ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ أَوَّلَ الْخَبَرِ خَطَأٌ إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ مَعْنًى اهـ. وَأَمَّا بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ كَمَا هُوَ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ فَدَلِيلٌ لَنَا فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي مُوَافَقَةِ النَّاسِ لِمُعَاوِيَةَ وَالنَّاسُ إذْ ذَاكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقْدِيرُ الْحِنْطَةِ بِصَاعٍ لَمْ يَسْكُتْ،

ص: 292

وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزِّيَادَةِ تَطَوُّعًا.

وَلَمْ يُعَوِّلْ عَلَى رَأْيِهِ أَحَدٌ، إذْ لَا يُعَوَّلُ عَلَى الرَّأْيِ مَعَ مُعَارِضَةِ النَّصِّ لَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ أَحَدٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ حَضَرَهُ خِلَافَهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ " مَعَ بَعْضِهِمْ " مِنْ إخْرَاجِ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهِ وَلَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، بَلْ إمَّا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ أَوْ مَعَ وُجُودِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنْ فَعَلَ الْبَعْضُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ تَطَوُّعًا، هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ الْحِنْطَةَ فِي زَمَانِهِ عليه الصلاة والسلام، وَهُوَ مَمْنُوعٌ.

فَقَدْ رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلٍ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمْ تَكُنْ الصَّدَقَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالشَّعِيرُ وَلَمْ تَكُنْ الْحِنْطَةُ» وَمِمَّا يُنَادِي بِهِ مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَفْسِهِ كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ وَالتَّمْرُ»

، فَلَوْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ مِنْ طَعَامِهِمْ الَّذِي يُخْرَجُ لَبَادَرَ إلَى ذِكْرِهِ قَبْلَ الْكُلِّ إذْ فِيهِ صَرِيحُ مُسْتَنَدِهِ فِي خِلَافِ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ كَوْنُ الطَّعَامِ فِي حَدِيثِهِ الْأَوَّلِ مُرَادًا بِهِ الْأَعَمَّ لَا الْحِنْطَةَ بِخُصُوصِهَا فَيَكُونُ الْأَقِطُ وَمَا بَعْدَهُ فِيهِ عَطْفُ الْخَاصِرِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ دَعَا إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ خِلَافُ الظَّاهِرِ هَذَا الصَّرِيحَ عَنْهُ، وَيَلْزَمُهُ كَوْنُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ لَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ إلَخْ لَا أَزَالُ أُخْرِجُ الصَّاعَ: أَيْ كُنَّا إنَّمَا نُخْرِجُ مِمَّا ذَكَرْته صَاعًا وَحِينَ كَثُرَ هَذَا الْقُوتُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا أُخْرِجُ مِنْهُ أَيْضًا ذَلِكَ الْقَدْرُ.

وَحَاصِلُهُ فِي التَّحْقِيقِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ ذَلِكَ التَّقْوِيمَ بَلْ أَنَّ الْوَاجِبَ صَاعٌ، غَيْرَ أَنَّهُ اُتُّفِقَ أَنَّ مَا مِنْهُ الْإِخْرَاجُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ غَيْرَ الْحِنْطَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا لَأُخْرِجَ صَاعٌ، ثُمَّ يَبْقَى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي فِجَاجِ مَكَّةَ: أَلَا إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٌ مِمَّا سِوَاهُ مِنْ الطَّعَامِ» وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ اهـ. وَهُوَ مُرْسَلٌ، فَإِنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ فِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ فِي الْمُرْسَلِ.

وَمَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَطَاءٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ صَارِخًا بِمَكَّةَ: إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَقٌّ وَاجِبٌ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَتَمْرٍ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ: «أَوْ صَاعٌ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ» صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَعَلَّهُ غَيْرُهُ بِيَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ضَعَّفَهُ الْعُقَيْلِيُّ. وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ.

وَمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ صَائِحًا فَصَاحَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ» وَإِعْلَانُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لَهُ بِعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: ضَعَّفُوهُ.

قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: هَذَا خَطَأٌ مِنْهُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ضَعَّفَهُ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورِ الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَكِّيٌّ مَعْرُوفٌ أَحَدُ الْعُبَّادِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْحَسَنِ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ رَوَوْا عَنْهُ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ وَمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ وَقَالَ: يُعْرَفُ اهـ. فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا إرْسَالٌ وَهُوَ حُجَّةٌ بِانْفِرَادِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا اعْتَضَدَ بِمُرْسَلٍ آخَرَ يَرْوِي مِنْ غَيْرِ شُيُوخِ الْآخَرِ كَانَ حُجَّةً، وَقَدْ اعْتَضَدَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ الْحَسَنِ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ خَطَبَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ بِالْبَصْرَةِ إلَى أَنْ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ

ص: 293

وَلَهُمَا فِي الزَّبِيبِ أَنَّهُ وَالتَّمْرُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَقْصُودِ، وَلَهُ أَنَّهُ

شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعِ قَمْحٍ» الْحَدِيثَ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ، إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَهْلُ الْأُصُولِ يَعُمُّ نَحْوَ هَذَا، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ» رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُزَنِيّ حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ» قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ كَالشَّمْسِ، وَكَوْنُهُ مُرْسَلًا لَا يَضُرُّ فَإِنَّهُ مُرْسَلُ سَعِيدٍ وَمَرَاسِيلُهُ حُجَّةٌ اهـ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ حَدِيثُ مُدَّيْنِ خَطَأٌ حَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الثَّابِتَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْدِيلَ بِمُدَّيْنِ كَانَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ رَجَّحَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ الْقَدْرُ اللَّازِمُ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَمُعَاوِيَةَ أَوْ حَضَرَ وَقْتَ خُطْبَتِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ فَرْضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحِنْطَةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ عِلْمِ أُولَئِكَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام عَدَمُهُ عَنْهُ فِي الْوَاقِعِ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ مَظِنَّةُ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَ عَدَمِهِ مَا لَمْ يُنْقَلْ وُجُودُهُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَيَجِبُ قَبُولُهُ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فَإِنَّ الْأَخْبَارَ تُفِيدُ أَنَّ فَرْضَهُ فِي الْحِنْطَةِ كَانَ بِمَكَّةَ بِإِرْسَالِ الْمُنَادَى بِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَمِنْ الْجَائِزِ غَيْبَتُهُ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ أَوْ شُغْلُهُ عَنْهُ خُصُوصًا وَهُمْ إنَّمَا كَانُوا فِيهَا عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ آخِذِينَ فِي أُهْبَتِهِ.

وَمِمَّا رُوِيَ فِيهِ مِمَّا يَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ بِهِ مَا أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ «عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَعَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا نُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ بِالْمُدِّ الَّذِي يَقْتَاتُونَ بِهِ» .

وَحَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ صَالِحٌ لِلْمُتَابَعَاتِ سِيَّمَا وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ إمَامٍ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ، ثُمَّ قَدْ رَوَى عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ فَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ، وَأَنَّ رَجُلًا أَدَّى إلَيْهِ صَاعًا بَيْنَ اثْنَيْنِ. وَهُوَ مُنْقَطِعٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ سُلْتٍ أَوْ زَبِيبٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه وَكَثُرَتْ الْحِنْطَةُ جَعَلَ عُمَرُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ مَكَانَ صَاعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ» . وَأُعِلَّ سَنَدُهُ بِابْنِ أَبِي رَوَّادٍ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ، وَمَتْنُهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّعْدِيلَ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا هُوَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُك نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.

وَرَوَى أَيْضًا حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ فَقِيرٍ أَوْ غَنِيٍّ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ، قَالَ مَعْمَرُ: بَلَغَنِي أَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يَرْفَعُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ صَاحِبُ

ص: 294

وَالْبُرُّ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلُّهُ، بِخِلَافِ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤْكَلُ وَيُلْقَى مِنْ التَّمْرِ النَّوَاةُ وَمِنْ الشَّعِيرِ النُّخَالَةُ، وَبِهَذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ، وَمُرَادُهُ مِنْ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْبُرِّ، أَمَّا دَقِيقُ الشَّعِيرِ فَكَالشَّعِيرِ، الْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ احْتِيَاطًا، وَإِنْ نَصَّ عَلَى الدَّقِيقِ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ.

وَالْخُبْزُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ هُوَ الصَّحِيحُ،

الْإِمَامِ: هَذَا الْخَبَرُ الْوَقْفُ فِيهِ مُتَحَقِّقٌ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَإِنَّهُ بَلَاغٌ لَمْ يُبَيِّنْ مَعْمَرٌ فِيهِ مَنْ حَدَّثَهُ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ سِوَى الْحِنْطَةِ فَفِيهِ صَاعٌ وَفِي الْحِنْطَةِ نِصْفُ صَاعٍ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ طَاوُسٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ وَقَالَ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَوَى عَنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ اهـ.

كَأَنَّ إخْرَاجَ أَبِي سَعِيدٍ ظَاهِرٌ فَلَمْ يَحْتَرِزْ عَنْهُ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى ثُبُوتِ التَّكَافُؤِ فِي السَّمْعِيَّاتِ كَانَ ثُبُوتُ الزِّيَادَةِ عَلَى مُدَّيْنِ مُنْتَفِيًا إذْ لَا يُحْكَمُ بِالْوُجُوبِ مَعَ الشَّكِّ (قَوْلُهُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَقْصُودِ) وَهُوَ التَّفَكُّهُ وَالِاسْتِحْلَاءُ، وَقَوْلُهُ: يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى: هُوَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُؤْكَلُ كُلُّهُ (قَوْلُهُ وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا) أَيْ فِي الدَّقِيقِ (الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ جَمِيعًا احْتِيَاطًا وَإِنْ نَصَّ عَلَى الدَّقِيقِ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ) وَهُوَ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَتَصَدَّقْ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ سُلْتٍ» وَالْمُرَادُ دَقِيقُ الشَّعِيرِ.

قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ بِأَنْ يُعْطِيَ نِصْفَ صَاعٍ دَقِيقَ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعًا دَقِيقَ شَعِيرٍ يُسَاوِيَانِ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ وَصَاعِ شَعِيرٍ لَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ أَوْ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ يُسَاوِي صَاعَ شَعِيرٍ، وَلَا نِصْفٌ لَا يُسَاوِي نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ لَا يُسَاوِي صَاعَ شَعِيرٍ (قَوْلُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ) أَيْ وُجُوبَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ (فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ اعْتِبَارٌ لِلْغَالِبِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ كَوْنُ نِصْفِ صَاعِ دَقِيقٍ لَا يُنْقِصُ قِيمَتَهُ نِصْفَ صَاعٍ مَا هُوَ دَقِيقُهُ بَلْ يَزِيدُ حَتَّى لَوْ فُرِضَ نَقْصُهُ كَمَا قَدْ يَتَّفِقُ فِي أَيَّامِ الْبِدَارِ كَانَ الْوَاجِبُ مَا قُلْنَا.

(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازً كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، يُرَاعَى فِيهِ الْقَدْرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَنَوَيْنِ مِنْ

ص: 295

ثُمَّ يُعْتَبَرُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَزْنًا فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَيْلًا وَالدَّقِيقُ أَوْلَى مِنْ الْبُرِّ، وَالدَّرَاهِمُ أَوْلَى مِنْ الدَّقِيقِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ رحمه الله لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلْحَاجَةِ وَأَعْجَلُ بِهِ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ تَفْضِيلُ الْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْخِلَافِ إذْ فِي الدَّقِيقِ وَالْقِيمَةِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَالَ (وَالصَّاعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ» .

الْخُبْزِ، لِأَنَّهُ لَمَّا رُوعِيَ الْقَدْرُ فِيمَا هُوَ أَصْلُهُ فَفِيهِ، وَأَنَّهُ يَزْدَادُ ذَلِكَ الْقَدْرُ صَنْعَةً وَقِيمَةً أَوْلَى، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لَمَّا أَنَّ الْقَدْرَ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْمَكِيلِ، وَالْخُبْزُ لَيْسَ مِنْهُ فَكَانَ إخْرَاجُهُ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ. (وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُعْتَبَرُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَجْهُهُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الصَّاعَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ أَوْ خَمْسَةٌ وَثُلُثٌ كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْوَزْنِ، إذْ لَا مَعْنَى لِاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ إلَّا إذَا اُعْتُبِرَ بِهِ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالْكَيْلِ لَوْ وَزَنَ أَرْبَعَةَ أَرْطَالٍ فَدَفَعَهَا إلَى الْقَوْمِ لَا يَجْزِيهِ لِجَوَازِ كَوْنِ الْحِنْطَةِ ثَقِيلَةً لَا تَبْلُغُ نِصْفَ صَاعٍ وَإِنْ وُزِنَتْ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ عَنْ الْخِلَافِ) أُجِيبَ: بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْحِنْطَةِ لِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي قَدْرِهَا أَيْضًا لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ أَقَلُّ شُبْهَةً.

(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ) وَالرِّطْلُ زِنَةُ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَيُعْتَبَرُ وَزْنُ ذَلِكَ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ وَهُوَ الْعَدَسُ وَالْمَاشُّ، فَمَا وَسِعَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ أَوْ خَمْسَةً وَثُلُثًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الصَّاعُ كَذَا قَالُوا. وَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ آنِفًا فِي تَقْدِيرِ الصَّاعِ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا إذَا تُؤُمِّلَ.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ») وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافٌ فِي قَدْرِ

ص: 296

وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ» وَهَكَذَا كَانَ صَاعُ عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ الْهَاشِمِيِّ، وَكَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْهَاشِمِيَّ.

قَالَ (وَوُجُوبُ الْفِطْرَةِ يَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى إنَّ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ وُلِدَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ تَجِبُ فِطْرَتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَجِبُ، وَعَلَى عَكْسِهِ مَنْ مَاتَ فِيهَا مِنْ مَمَالِيكِهِ أَوْ وَلَدِهِ.

صَاعِهِ عليه الصلاة والسلام إلَّا مَا قَالَهُ الْحِجَازِيُّونَ وَالْعِرَاقِيُّونَ وَمَا قَالَهُ الْحِجَازِيُّونَ أَصْغَرُ فَهُوَ الصَّحِيحُ، إذْ هُوَ أَصْغَرُ الصِّيعَانِ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ رَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ وَمُدُّنَا أَكْبَرُ الْأَمْدَادِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي قَلِيلِنَا وَكَثِيرِنَا وَاجْعَلْ لَنَا مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ» اهـ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: وَفِي تَرْكِهِ إنْكَارُ كَوْنِهِ أَصْغَرَ الصِّيعَانِ بَيَانُ أَنَّ صَاعَ الْمَدِينَةِ كَذَلِكَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ كَوْنِ السُّكُوتِ حُجَّةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ حَتَّى يَلْزَمَ رَدُّهُ إنْ كَانَ خَطَأً، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو يُوسُفَ رحمه الله مِنْ الْحَجِّ فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَفْتَحَ عَلَيْكُمْ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ أَهَمَّنِي، فَفَحَصْت عَنْهُ فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ فَسَأَلْت عَنْ الصَّاعِ فَقَالُوا: صَاعُنَا هَذَا صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْت لَهُمْ: مَا حُجَّتُكُمْ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: نَأْتِيك بِالْحُجَّةِ غَدًا، فَلَمَّا أَصْبَحْت أَتَانِي نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ شَيْخًا مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ الصَّاعُ تَحْتَ رِدَائِهِ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ أَبِيهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَنَّ هَذَا صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرْت فَإِدَا هِيَ سَوَاءُ، قَالَ فَعَيَّرْته فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ وَنُقْصَانٌ يَسِيرٌ. قَالَ: فَرَأَيْت أَمْرًا قَوِيًّا فَتَرَكْت قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الصَّاعِ.

وَرُوِيَ أَنَّ مَالِكًا نَاظَرَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالصِّيعَانِ الَّتِي جَاءَ بِهَا أُولَئِكَ فَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى قَوْلِهِ.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُدِّ يَقْتَاتُونَ بِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ اهـ وَصَحَّحَهُ (وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ») هَكَذَا وَقَعَ مُفَسَّرًا عَنْ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ فِي ثَلَاثَةِ طُرُقٍ رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَضَعَّفَهَا.

وَعَنْ جَابِرٍ أَسْنَدَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ وَضَعَّفَهُ بِعُمَرَ بْنِ مُوسَى

ص: 297

لَهُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْفِطْرِ وَهَذَا وَقْتُهُ. وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَالِاخْتِصَاصُ الْفِطْرُ بِالْيَوْمِ دُونَ اللَّيْلِ

وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ الْوَزْنُ، وَأَمَّا كَوْنُ صَاعِ عُمَرَ كَذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: سَمِعْت حَسَنَ بْنَ صَالِحٍ يَقُولُ: صَاعُ عُمَرَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ.

وَقَالَ شَرِيكٌ: أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ وَأَقَلُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: الْحَجَّاجِيُّ صَاعُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه. وَهَذَا الثَّانِي أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: عَيَّرْنَا صَاعًا فَوَجَدْنَاهُ حَجَّاجِيًّا، وَالْحَجَّاجِيُّ عِنْدَهُمْ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْبَغْدَادِيِّ. وَعَنْهُ قَالَ: وَضَعَ الْحَجَّاجُ قَفِيزَهُ عَلَى صَاعِ عُمَرَ. قَالُوا: كَانَ الْحَجَّاجُ يَفْتَخِرُ بِإِخْرَاجِ صَاعِ عُمَرَ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ مَا رَوَوْهُ أَوَّلًا لَا يَلْزَمُ كَوْنُ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ صَاعَهُ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ، بَلْ الْحَاصِلُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ صَاعَهُ كَانَ أَصْغَرَ الصِّيعَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْهَاشِمِيَّ، وَهُوَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا. ثُمَّ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَصْغَرَ مَا قَدْرُهُ ثَابِتٌ فَلَا يَلْزَمُ صِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: تَقْدِيرُهُ أَقَلُّ، إذْ خَصْمُهُ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ هُوَ الَّذِي كَانَ الصَّاعُ الْأَصْغَرُ إذْ ذَاكَ، وَلَا أَعْجَبَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ شَيْءٌ، وَالْجَمَاعَةُ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ أَبُو يُوسُفَ لَا تَقُومُ بِهِمْ حُجَّةٌ لِكَوْنِهِمْ نَقَلُوا عَنْ مَجْهُولِينَ، وَقِيلَ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ لَمَّا حَرَّرَهُ وَجَدَهُ خَمْسَةً وَثُلُثًا بِرِطْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ رِطْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ لِأَنَّهُ ثَلَاثُونَ إسْتَارًا، وَالْبَغْدَادِيُّ عِشْرُونَ، وَإِذَا قَابَلْت ثَمَانِيَةً بِالْبَغْدَادِيِّ بِخَمْسَةٍ وَثُلُثٍ بِالْمَدَنِيِّ وَجَدْتهمَا سَوَاءً، وَهُوَ أَشْبَهُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ كَانَ لِذِكْرِهِ عَلَى الْمُعْتَادِ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَصْلُ كَوْنُ الصَّاعِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا بِالِاسْتِصْحَابِ إلَى أَنْ يَثْبُتَ خِلَافًا، وَلَمْ يَثْبُتْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ الَّتِي فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَهِيَ لَفْظُ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ وَرِطْلَانِ صَحِيحَةٌ اجْتِهَادًا.

وَإِنْ كَانَ فِيمَنْ فِي طَرِيقِهَا ضَعْفٌ إذْ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ الرَّاوِي سِوَى ضَعْفِهَا ظَاهِرًا لَا الِانْتِفَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَرْوِيهِ الضَّعِيفُ خَطَأً. وَهَذَا لِتَأَيُّدِهَا بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْحُكْمِ الِاجْتِهَادِيِّ بِكَوْنِ صَاعِ عُمَرَ هُوَ صَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، هَذَا وَلَا يَخْفَى مَا فِي تَضْعِيفِ وَاقِعَةِ أَبِي يُوسُفَ بِكَوْنِ النَّقْلِ عَنْ مَجْهُولِينَ مِنْ النَّظَرِ بَلْ الْأَقْرَبُ مِنْهُ عَدَمُ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ لِخِلَافِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ ضَعْفِ أَصْلِ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ لِأَبِي يُوسُفَ وَلَوْ كَانَ رَاوِيهَا ثِقَةً لِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَمُشَافَهَتِهِ إيَّاهُمْ بِهِ مِمَّا يُوهِمُ شُهْرَةَ رُجُوعِهِ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يَعُمَّهُ مُحَمَّدٌ فَهُوَ عِلَّةٌ بَاطِنَةٌ.

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ) يَعْنِي إضَافَةَ صَدَقَةٍ إلَى الْفِطْرِ، وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا يَقُولُ كَذَلِكَ. لَكِنَّ إضَافَةَ الصَّدَقَةِ إلَى الْفِطْرِ إنَّمَا تُفِيدُ اخْتِصَاصَ الْفِطْرِ بِهَا، أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ الْفِطْرِ فِطْرَ الْيَوْمِ لَا فِطْرَ لَيْلَتِهِ فَلَا دَلَالَةَ لِهَذِهِ الْإِضَافَةِ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ أَمْرٍ آخَرَ فَيُقَالُ: لَمَّا أَفَادَتْ اخْتِصَاصًا بِالْفِطْرِ وَتَعَلُّقَهَا بِهِ كَانَ جَعْلُ ذَلِكَ الْفِطْرِ الْفِطْرَ الْمُخَالِفِ لِلْعَادَةِ، وَهُوَ فِطْرُ النَّهَارِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ الْمُوَافِقَ لَهَا لِأَنَّ فِطْرَ اللَّيْلِ لَمْ يُعْهَدْ فِيهِ زَكَاةٌ وَلِذَا لَمْ يَجِبْ فِي فِطْرِ اللَّيَالِي السَّابِقَةِ صَدَقَةٌ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ فِطْرَ آخِرِ لَيْلَةٍ يَتِمُّ بِهِ صَوْمُ الشَّهْرِ وَوُجُوبُ الْفِطْرَةِ إنَّمَا كَانَ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ عَمَّا عَسَاهُ يَقَعُ فِي صَوْمِهِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِتَعْلِيقِهَا بِفِطْرِ لَيْلَةِ

ص: 298

(وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْرِجَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُخْرِجُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ لِلْمُصَلَّى» ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِغْنَاءِ كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ الْفَقِيرُ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ بِالتَّقْدِيمِ (فَإِنْ قَدَّمُوهَا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ جَازَ) لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فَأَشْبَهَ التَّعْجِيلَ فِي الزَّكَاةِ، وَلَا تَفْصِيلَ بَيْنَ مُدَّةٍ وَمُدَّةٍ هُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَقِيلَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ (وَإِنْ أَخَّرُوهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا) لِأَنَّ وَجْهَ الْقُرْبَةِ فِيهَا مَعْقُولٌ

شَوَّالٍ إذْ بِهِ يَتِمُّ الصَّوْمُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُخْرِجُ الْفِطْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمُصَلَّى، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِغْنَاءِ كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ الْفَقِيرُ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ) يَتَضَمَّنُ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام وَقَوْلُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِهِ [عُلُومُ الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْأَحَادِيثِ] الَّتِي انْفَرَدَ بِزِيَادَةٍ فِيهَا رَاوٍ وَاحِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ السَّمُرِيُّ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ «ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ، وَكَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَسِّمُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْمُصَلَّى وَيَقُولُ: أَغْنُوهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ» (قَوْلُهُ فَإِنْ قَدَّمُوهَا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ جَازَ لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ) يَعْنِي الرَّأْسَ الَّذِي يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ.

(فَأَشْبَهَ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ) يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا الْقِيَاسُ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّبَبِ هُوَ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَسُقُوطِ مَا سَيَجِبُ إذَا وَجَبَ بِمَا يُعْمَلُ قَبْلَ الْوُجُوبِ خِلَافُ الْقِيَاسِ فَلَا يَتِمُّ فِي مِثْلِهِ إلَّا السَّمْعُ، وَفِيهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ إلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِهِ وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ» وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ بِإِذْنٍ سَابِقٍ فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ قَبْلَ الْوُجُوبِ مِمَّا لَا يُعْقَلُ فَلَمْ يَكُونُوا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ إلَّا بِسَمْعٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ خَلَفٍ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ لَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَلَا فِطْرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَعَمَّا قِيلَ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَهُ، وَمَا قِيلَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَهُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ أَصْلًا (قَوْلُهُ لِأَنَّ وَجْهَ الْقُرْبَةِ فِيهَا مَعْقُولٌ إلَخْ) ظَاهِرٌ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهَا تَسْقُطُ كَالْأُضْحِيَّةِ بِمُضِيِّ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ مِنْ

ص: 299

فَلَا يَتَقَدَّرُ وَقْتُ الْأَدَاءِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

‌كِتَابُ الصَّوْمِ

كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَمَا قِيلَ مِنْ مَنْعِ سُقُوطِ الْأُضْحِيَّةِ بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى التَّصْدِيقِ بِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ لَا يَنْتَفِي بِذَلِكَ كَوْنُ نَفْسِ الْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ إرَاقَةُ دَمٍ سِنٌّ مُقَدَّرٌ قَدْ سَقَطَ، وَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ، وَرُبَّمَا يُؤْخَذُ سُقُوطُهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْبَابِ حَدِيثُ قَالَ:«مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» لَكِنْ قَدْ يُدْفَعُ بِاتِّحَادِ مَرْجِعِ ضَمِيرِ أَدَّاهَا فِي الْمَرَّتَيْنِ إذْ يُفِيدُ أَنَّهَا هِيَ الْمُؤَدَّاةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ غَيْرَ أَنَّهُ نَقَصَ الثَّوَابَ فَصَارَتْ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّدَقَاتِ، عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ ظَاهِرِهِ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ فِي بَاقِي الْيَوْمِ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُهُ فَهُوَ مَصْرُوفٌ عَنْهُ عِنْدَهُ.

[فَرْعٌ]

اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ فِطْرَةِ كُلِّ شَخْصٍ إلَى أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ، فَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِجَمَاعَةٍ، لَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ لَا يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَهَا إلَّا وَاحِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا صَدَقَةَ جَمَاعَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كِتَابُ الصَّوْمِ

هَذَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ لِفَوَائِدَ أَعْظَمُهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا شَيْئَيْنِ: أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ سُكُونَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ، وَكَسْرَ سَوْرَتِهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ مِنْ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْفَرْجِ، فَإِنَّ بِهِ تَضْعُفُ حَرَكَتُهَا فِي مَحْسُوسَاتِهَا، وَلِذَا قِيلَ: إذَا جَاعَتْ النَّفْسُ شَبِعَتْ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا شَبِعَتْ جَاعَتْ كُلُّهَا، وَمَا عَنْ هَذَا صَفَاءُ الْقَلْبِ مِنْ الْكَدَرِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِكُدُورَاتِهِ فُضُولُ اللِّسَانِ

ص: 300

قَالَ رحمه الله (الصَّوْمُ ضَرْبَانِ: وَاجِبٌ وَنَفْلٌ، وَالْوَاجِبُ ضَرْبَانِ: مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَيَجُوزُ صَوْمُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ حَتَّى أَصْبَحَ أَجْزَأَهُ النِّيَّةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ)

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِيهِ. اعْلَمْ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وَعَلَى فَرْضِيَّتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَالْمَنْذُورُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}

وَالْعَيْنِ وَبَاقِيهَا، وَبِصَفَائِهِ تُنَاطُ الْمَصَالِحُ وَالدَّرَجَاتُ، وَمِنْهَا: كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَتُسَارِعُ إلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ حَقِيقَتُهَا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ نَوْعُ أَلَمٍ بَاطِنٍ فَيُسَارِعُ لِدَفْعِهِ عَنْهُ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ فَيَنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ. وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا حَكَى بِشْرٌ الْحَافِيُّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعُدُ وَثَوْبُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ. فَقَالَ لَهُ: فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ يُنْزَعُ الثَّوْبُ؟ وَمَعْنَاهُ، فَقَالَ: يَا أَخِي الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ كَمَا يَتَحَمَّلُونَ.

وَالصَّوْمُ لُغَةً: الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا، صَامَ عَنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:

ص: 301

وَسَبَبُ الْأَوَّلِ الشَّهْرُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ،

خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ

تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُك اللُّجُمَا

وَفِي الشَّرْعِ: إمْسَاكٌ عَنْ الْجِمَاعِ، وَعَنْ إدْخَالِ شَيْءٍ بَطْنًا لَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنْ الْفَجْرِ إلَى الْغُرُوبِ عَنْ نِيَّةٍ، وَذَكَرْنَا الْبَطْنَ وَوَصَفْنَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَلَ إلَى بَاطِنِ دِمَاغِهِ شَيْئًا فَسَدَ وَإِلَى بَاطِنِ فَمِهِ وَأَنْفِهِ لَا يَفْسُدُ،

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِ الْقُدُورِيِّ، وَذَلِكَ الْإِمْسَاكُ رُكْنُهُ وَسَبَبُهُ مُخْتَلِفٌ، فَفِي الْمَنْذُورِ النَّذْرُ، وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ، أَوْ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، فَصَامَ عَنْهُ جُمَادَى وَيَوْمًا آخَرَ أَجْزَأَ عَنْ الْمَنْذُورِ، لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَيَلْغُو تَعْيِينُ الْيَوْمِ لِأَنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ وَلُزُومَهُ عَمَّا بِهِ يَكُونُ الْمَنْذُورُ عِبَادَةً إذْ لَا نَذْرَ بِغَيْرِهَا، وَالْمُتَحَقِّقُ لِذَلِكَ الصَّوْمُ لَا خُصُوصُ الزَّمَانِ وَلَا بِاعْتِبَارِهِ، وَسَبَبُ صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ أَسْبَابُهَا مِنْ الْحِنْثِ وَالْقَتْلِ، وَسَبَبُ الْقَضَاءِ هُوَ سَبَبُ وُجُودِ الْأَدَاءِ، وَسَبَبُ رَمَضَانَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ لَيْلِهِ أَوْ نَهَارِهِ، وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبُ وُجُوبِ أَدَائِهِ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ كَتَفَرُّقِ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ، بَلْ أَشَدُّ لِتَخَلُّلِ زَمَانٍ لَا يَصْلُحُ لِلصَّوْمِ وَهُوَ اللَّيْلُ، وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فَشُهُودُ جُزْءٍ مِنْهُ سَبَبٌ لِكُلِّهِ ثُمَّ كُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ صَوْمِ الْيَوْمِ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِهِ وَدُخُولِهِ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ، وَشَرْطُ وُجُوبِهِ الْإِسْلَامُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ. وَشَرْطُ وُجُوبِ أَدَائِهِ: الصِّحَّةُ، وَالْإِقَامَةُ. وَشَرْطُ صِحَّتِهِ: الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَالنِّيَّةُ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي الشُّرُوطِ: الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ، أَوْ الْكَوْنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُرَادُ بِالْعِلْمِ الْإِدْرَاكُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْمُوجِبُ بِإِخْبَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ

ص: 302

وَسَبَبُ الثَّانِي النَّذْرُ

وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ وَسَنُبَيِّنُهُ وَتَفْسِيرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فَسَدَ الثَّانِي ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ

وَعِنْدَهُمَا لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَلَا الْبُلُوغُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلِمَ بِالْوُجُوبِ أَوْ لَا، وَحُكْمُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ، وَنَيْلُ ثَوَابِهِ، وَإِنْ كَانَ صَوْمًا لَازِمًا وَإِلَّا فَالثَّانِي.

وَأَقْسَامُهُ: فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ، وَمَسْنُونٌ، وَمَنْدُوبٌ، وَنَفْلٌ، وَمَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَتَحْرِيمًا. فَالْأَوَّلُ رَمَضَانُ، وَقَضَاؤُهُ، وَالْكَفَّارَاتُ لِلظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْيَمِينِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى فِي الْإِحْرَامِ لِثُبُوتِ هَذِهِ بِالْقَاطِعِ سَنَدًا وَمَتْنًا وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا. وَالْوَاجِبُ: الْمَنْذُورُ وَالْمَسْنُونُ عَاشُورَاءَ مَعَ التَّاسِعِ، وَالْمَنْدُوبُ: صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيَنْدُبُ فِيهَا كَوْنُهَا الْأَيَّامَ الْبِيضَ، وَكُلُّ صَوْمٍ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ طَلَبُهُ وَالْوَعْدُ عَلَيْهِ كَصَوْمِ دَاوُد عليه الصلاة والسلام وَنَحْوِهِ.

وَالنَّفَلُ: مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَرَاهَتُهُ. وَالْمَكْرُوهُ تَنْزِيهًا: عَاشُورَاءُ مُفْرَدًا عَنْ التَّاسِعِ وَنَحْوَ يَوْمِ الْمِهْرَجَانِ.

وَتَحْرِيمًا: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْعِيدَيْنِ، وَسَنَعْقِدُ بِذَيْلِ هَذَا الْبَابِ فُرُوعًا لِتَفْصِيلِ هَذِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَانَ الْمَنْذُورُ وَاجِبًا مَعَ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فَإِنَّهُ خَصَّ النَّذْرَ بِالْمَعْصِيَةِ وَبِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، أَوْ كَانَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَلْزَمْ فَصَارَتْ ظَنِّيَّةً كَالْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ فَيُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا شُرُوطُ لُزُومِ النَّذْرِ وَهِيَ: كَوْنُ الْمَنْذُورِ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ لَا لِغَيْرِهِ، عَلَى هَذَا تَضَافَرَتْ كَلِمَاتُ الْأَصْحَابِ، فَقَوْلُ صَاحِبِ الْمَجْمَعِ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْبَدَائِعِ: يُفْتَرَضُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ الْمَنْذُورِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى غَيْرِ مَا يَنْبَغِي عَلَى هَذَا لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ فَرْضٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِهِ.

، وَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْكُلِّ وَالْكَلَامِ فِي وَقْتِهَا الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ فَقُلْنَا فِي رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ وَالنَّفَلِ تَجْزِيهِ النِّيَّةُ مِنْ بَعْدِ الْغُرُوبِ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ فِي صَوْمِ ذَلِكَ النَّهَارِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَالْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ كَنَذْرِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا فِي اللَّيْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجْزِي فِي غَيْرِ النَّفْلِ إلَّا مِنْ اللَّيْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجْزِي إلَّا مِنْ اللَّيْلِ فِي النَّفْلِ وَغَيْرِهِ. وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ. (وَقَوْلُهُ وَجْهٌ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَا صِيَامَ لِمَنْ إلَخْ) اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا الْحَدِيثُ

ص: 303

بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ. وَلَنَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَعْرَابِيُّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ، أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ صَوْمٌ مِنْ اللَّيْلِ،

فَمَا ذَكَرَهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي لَفْظِهِ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» يُجْمَعُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ يُبَيِّتْ «وَلَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنْ اللَّيْلِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَلَمْ يَرْوِهِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ إلَّا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَكْثَرُ عَلَى وَقْفِهِ، وَقَدْ رَفَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه عَنْ الزُّهْرِيِّ يَبْلُغُ بِهِ حَفْصَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يَجْمَعْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» وَوَقَفَهُ عَنْهُ عَلَى حَفْصَةَ مَعْمَرٌ وَالزُّبَيْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ الْأَيْلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ثِقَةٌ، وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَلَفْظُ " يُبَيِّتْ " عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» .

قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ الْفَضْلِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَأَقَرَّهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهِ.

وَنَظَرَ فِيهِ: بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّادٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ الْبَصْرِيُّ يُقَلِّبُ الْأَخْبَارَ. قَالَ: رَوَى عَنْهُ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ نُسْخَةً مَوْضُوعَةً، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فِيهِ إذْ الْفَرْضُ اشْتِرَاطُهَا فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ، وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْأَجْزَاءِ الْأُوَلِ مِنْ النَّهَارِ فَسَدَ الْبَاقِي، وَإِنْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِيهِ ضَرُورَةُ عَدَمِ انْقِلَابِ الْفَاسِدِ صَحِيحًا، وَعَدَمُ تَجَزِّي الصَّوْمِ صِحَّةً وَفَسَادًا، لَا يُقَالُ لِمَا لَمْ يَتَجَزَّأْ صِحَّةً وَفَسَادًا وَقَدْ صَحَّ مَا اُقْتُرِنَ بِالنِّيَّةِ صَحَّ الْكُلُّ ضَرُورَةً ذَاكَ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُقَدَّمٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُنَجَّزٌ عِنْدِي لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّشَاطِ وَقَدْ يَنْشَطُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ، أَوْ نَقُولُ: تَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكَاتُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ فِي بَاقِيهِ فِي النَّفْلِ اعْتِبَارًا لَهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ الْفَرْضِ، حَتَّى جَازَتْ صَلَاتُهُ قَاعِدًا وَرَاكِبًا غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: إنِّي إذًا صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَى يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: أَرِنِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ».

(قَوْلُهُ وَلَنَا) حَاصِلُ اسْتِدْلَالِهِ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ عَلَى النَّفْلِ ثُمَّ تَأْوِيلِ مَرْوِيِّهِ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ مُسْتَغْرَبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ بَلْ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ «شَهِدَ عِنْدَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَأَمَرَ

ص: 304

وَلِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ وَالنِّيَّةُ لِتَعْيِينِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَتَرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ جَنْبَةُ الْوُجُودِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ

أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فِيهِ، وَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ يَعْنِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا» مُحْتَمَلٌ لِكَوْنِهِ شَهِدَ فِي النَّهَارِ أَوْ اللَّيْلِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ» .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ قَبْلَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ، إذْ لَا يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ إلَّا فِي يَوْمٍ مَفْرُوضِ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ وَلَمْ يَنْوِهِ لَيْلًا أَنَّهُ يَجْزِيهِ نِيَّتُهُ نَهَارًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَقَدْ مَنَعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْنَا صِيَامُهُ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ فَإِنِّي صَائِمٌ فَصَامَ النَّاسُ» قَالَ: وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ، وَيُدْفَعُ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ فَإِنْ كَانَ سَمِعَ هَذَا بَعْدَ إسْلَامِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ سَمِعَهُ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ نَسْخِهِ بِإِيجَابِ رَمَضَانَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى لَمْ يُفْرَضْ بَعْدَ إيجَابِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي وُجُوبِهِ أَيْ فَرِيضَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَمِعَهُ قَبْلَهُ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ قَبْلَ افْتِرَاضِهِ، وَنَسَخَ عَاشُورَاءَ رَمَضَانُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا يَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» وَكَوْنُ لَفْظِ " أَمَرَ " مُشْتَرَكًا بَيْنَ الصِّيغَةِ الطَّالِبَةِ نَدْبًا وَإِيجَابًا مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقَوْلُهَا: فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ إلَخْ: دَلِيلٌ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الصِّيغَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ النَّدْبِ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى الْآنِ بَلْ مَسْنُونٌ فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَأَمْرُهُ مَنْ أَكَلَ بِالْإِمْسَاكِ فَثَبَتَ أَنَّ الِافْتِرَاضَ لَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ مُجْزِئَةً مِنْ النَّهَارِ شَرْعًا.

وَيَلْزَمُهُ عَدَمُ

ص: 305

لِأَنَّ لَهُمَا أَرْكَانًا فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا، وَبِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ النَّفَلُ وَبِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اقْتِرَانُهَا بِالْأَكْثَرِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الْفَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَنِصْفِهِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى لَا إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ قَبْلَهَا لِتَتَحَقَّقَ فِي الْأَكْثَرِ،

الْحُكْمِ بِفَسَادِ الْجُزْءِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ الشَّارِعِ، بَلْ اعْتِبَارُهُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْحَالُ مِنْ وُجُودِهَا بَعْدَهُ أَوَّلًا فَإِذَا وُجِدَتْ ظَهَرَ اعْتِبَارُهُ عِبَادَةً لَا أَنَّهُ انْقَلَبَ صَحِيحًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ فَبَطَلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ لِقِيَامِ مَا رَوَيْنَاهُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا، ثُمَّ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَى مَرْوِيِّهِ لِقُوَّةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا رَوَاهُ بَعْدَ نَقْلِنَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهِ فَيَلْزَمُ، إذْ قُدِّمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ كَمَا فِي أَمْثَالِهِ مِنْ نَحْوِ: لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ، أَوْ الْمُرَادُ لَمْ يَنْوِ كَوْنَ الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَهُوَ مِنْ اللَّيْلِ مُتَعَلِّقًا بِصِيَامِ الثَّانِي لَا " بيَنْوِ " أَوْ يَجْمَعُ فَحَاصِلُهُ: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ اللَّيْلِ أَيْ مِنْ آخِرِ أَجْزَائِهِ فَيَكُونُ نَفْيًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ نَوَى مِنْ النَّهَارِ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ.

وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى صِحَّتِهِ وَكَوْنِهِ لِنَفْيِ الصِّحَّةِ وَجَبَ أَنْ يَخُصَّ عُمُومَهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا وَعِنْدَنَا لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا خَصَّ بَعْضَهُ خُصِّصَ بِهِ، فَكَيْفَ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّنِّيَّةُ وَالتَّخْصِيصُ: إذْ قَدْ خَصَّ مِنْهُ النَّفَلَ وَيَخُصُّ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي تَعْيِينِ أَصْلِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ فَجَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ النَّفَلَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّخْفِيفِ فِي النَّفْلِ بِذَلِكَ ثُبُوتُ مِثْلِهِ فِي الْفَرْضِ، أَلَا يَرَى إلَى جَوَازِ النَّافِلَةِ جَالِسًا بِلَا عُذْرٍ، وَعَلَى الدَّابَّةِ بِلَا عُذْرٍ مَعَ عَدَمِهِ فِي الْفَرْضِ، وَالْحَقُّ أَنَّ صِحَّتَهُ فَرْعُ ذَلِكَ النَّصِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّوْمِ فِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ عَلِمَ عَدَمَ اعْتِبَارِ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالْقِيَاسُ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ قِيَاسُ النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ الْغُرُوبِ بِجَامِعِ التَّيْسِيرِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ بَيَانُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمُقَارَنَةِ أَوْ مُقَدَّمَةً مَعَ عَدَمِ اعْتِرَاضِ مَا يُنَافِي الْمَنْوِيَّ بَعْدَهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ اعْتِبَارَهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَجِبْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا الْمُقَارَنَةُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى عِنْدَ الْغُرُوبِ أَجْزَأَهُ، وَلَا عَدَمُ تَخَلُّلِ الْمُنَافِي لِجَوَازِ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مَعَ انْتِفَاءِ حُضُورِهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ يَوْمِ الصَّوْمِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ صَحَّتْ الْمُتَقَدِّمَةُ لِذَلِكَ التَّيْسِيرِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ

ص: 306

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله، لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ

اللَّازِمِ لَوْ أَلْزَمَ أَحَدُهُمَا.

وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي تَجْوِيزَهَا مِنْ النَّهَارِ لِلُزُومِ الْحَرَجِ لَوْ أُلْزِمَتْ مِنْ اللَّيْلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَاَلَّذِي نَسِيَهَا لَيْلًا، وَفِي حَائِضٍ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ تَعْلَمْ إلَّا بَعْدَهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا، فَإِنَّ عَادَتَهُنَّ وَضْعُ الْكُرْسُفِ عِشَاءً ثُمَّ النَّوْمُ، ثُمَّ رَفْعُهُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَفْعَلُ كَذَا تُصْبِحُ فَتَرَى الطُّهْرَ وَهُوَ مَحْكُومٌ بِثُبُوتِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلِذَا تَلْزَمُهَا بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَفِي صَبِيٍّ بَلَغَ بَعْدَهُ وَمُسَافِرٍ أَقَامَ وَكَافِرٍ أَسْلَمَ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا نَهَارًا، وَتَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَاهُ قَصْرُ الْجَوَازِ عَلَى هَؤُلَاءِ أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُكْثِرُونَ كَثْرَةَ غَيْرِهِمْ بَعِيدٌ عَنْ النَّظَرِ إذْ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ كَمِّيَّةِ الْمَنَاطِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحَرَجِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِقَدْرِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمَةُ بَلْ يَكْفِي ثُبُوتُهُ فِي جِنْسِ الصَّائِمِينَ، وَكَيْفَ وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمُصَحِّحُ الْحَرَجَ الزَّائِدَ وَلَا ثُبُوتَهُ فِي أَكْثَرِ الصَّائِمِينَ فِي الْأَصْلِ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْفَرْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّائِمِينَ يَكُونُونَ مُفِيقِينَ قَرِيبِ الْفَجْرِ فَقَوْمٌ لِتَهَجُّدِهِمْ وَقَوْمٌ لِسُحُورِهِمْ، فَلَوْ أُلْزِمَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ الْفَجْرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَخَلَّلُ الْمُنَافِي بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لَمْ يَلْزَمْ بِذَلِكَ حَرَجٌ فِي كُلِّ الصَّائِمِينَ وَلَا فِي أَكْثَرِهِمْ، بَلْ فِيمَنْ لَا يُفِيقُ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ وَهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الْبَاقِينَ قَبْلَهُ إذْ يُمْكِنُهُمْ تَأْخِيرُ النِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ فَتَحْصُلُ بِذَلِكَ نِيَّةٌ سَابِقَةٌ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ بِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّيْسِيرُ بِدَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَعَنْ كُلِّ صَائِمٍ وَيَلْزَمُ الْمَطْلُوبُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَخُصُّ الْمُعَيَّنَ، بَلْ يَجْرِي فِي كُلِّ صَوْمٍ لَكِنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِلْخَبَرِ لَا نَاسِخًا، وَلَوْ جَرَيْنَا عَلَى تَمَامِ لَازِمِ هَذَا الْقِيَاسِ كَانَ نَاسِخًا لَهُ إذْ لَمْ يَبْقَ تَحْتَهُ شَيْءٌ حِينَئِذٍ فَوَجَبَ أَنْ يُحَاذِيَ بِهِ مَوْرِدَ النَّصِّ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ مِنْ رَمَضَانَ وَنَظِيرُهُ مِنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْغِيَ قَيْدَ التَّعْيِينِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْطَالًا لِحُكْمِ لَفْظٍ بِلَا لَفْظٍ يَنُصُّ فِيهِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَانْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابُ مَالِكٍ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ اخْتَصَّ اعْتِبَارُهَا بِوُجُودِهَا فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَمَا رَوَيْتُمْ لَا يُوجِبُهُ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ مَا رَوَيْنَاهُ وَاقِعَةَ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ احْتَمَلَ كَوْنَ إجَازَةِ الصَّوْمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ فِيهَا فِي أَكْثَرِهِ بِأَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ عليه الصلاة والسلام الْأَسْلَمِيُّ بِالنِّدَاءِ كَانَ الْبَاقِي مِنْ النَّهَارِ أَكْثَرَهُ، وَاحْتَمَلَ كَوْنُهَا لِلتَّجْوِيزِ مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا فِي الْوَاجِبِ، فَقُلْنَا بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ خُصُوصًا، وَمَعْنَاهُ نَصٌّ يَمْنَعُهَا مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ مِنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَارِدِ الْفِقْهِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ هَذَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ كُلِّ النَّهَارِ بِلَا نِيَّةٍ لَوْ اكْتَفَى بِهَا فِي أَقَلِّهِ، فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِالصَّوْمِ فَلَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ فَبِالْوُجُودِ فِي أَكْثَرِهِ يُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي كُلِّهِ بِخِلَافِهِمَا، فَإِنَّهُمَا أَرْكَانٌ فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا.

وَإِلَّا خَلَتْ بَعْضُ الْأَرْكَانِ عَنْهَا فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الرُّكْنُ عِبَادَةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.

(قَوْلُهُ خِلَافًا لِزُفَرِ) فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ رَمَضَانُ مِنْ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمَا كَالْقَضَاءِ

ص: 307

وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الصَّوْمِ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي نِيَّةِ النَّفْلِ عَابِثٌ، وَفِي مُطْلَقِهَا لَهُ قَوْلَانِ: لِأَنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ مُعْرِضٌ عَنْ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْفَرْضُ. وَلَنَا أَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيَّنٌ فِيهِ،

لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ عَلَيْهِمَا. قُلْنَا لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ، ثُمَّ هُمَا إنَّمَا خُولِفَ بِهِمَا الْغَيْرُ شَرْعًا فِي التَّخْفِيفِ لَا التَّغْلِيظِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ بِنَفْسِهِ عَلَى الْكُلِّ غَيْرَ أَنَّهُ جَازَ لَهُمَا تَأْخِيرُهُ تَخْفِيفًا لِلرُّخْصَةِ، فَإِذَا صَامَا وَتَرَكَا التَّرْخِيصَ الْتَحَقَا بِالْمُقِيمِ.

(قَوْلُهُ وَهَذَا الضَّرْبُ) أَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ مِنْ الْوَاجِبِ (يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ) وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَا يَتِمُّ فِي الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ، أَمَّا لَوْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ كَكَفَّارَةٍ يَقَعُ عَمَّا نَوَى، وَعَلَّلَ بِأَنَّ تَعْيِينَ النَّاذِرِ الْيَوْمَ يُعْتَبَرُ فِي إبْطَالِ مَحَلِّيَّتِهِ لِحَقٍّ لَهُ وَهُوَ النَّفَلُ لَا مَحَلِّيَّتِهِ فِي حَقٍّ حُقَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لَا تَتَجَاوَزُ حَقَّهُ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ التَّعْيِينَ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّارِعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى إلَى حَقِّهِ لِإِذْنِهِ بِإِلْزَامِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَذِنَ مُقْتَصِرًا عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَعْنِي الْعَبْدَ، وَأَوْرَدَ لَمَّا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَقِيَ مُحْتَمِلًا لِصَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْيِينَ، وَلَا يَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ كَالظُّهْرِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْوَقْتِ، وَأَصْلُ الْمَشْرُوعِ فِيهِ النَّفَلُ الَّذِي صَارَ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ، وَكَذَا نِيَّةُ النَّفْلِ بِخِلَافِ الظُّهْرِ الْمَضِيقِ فَإِنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ يُعَارِضُ التَّقْصِيرَ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْوَقْتُ بَعْدَهُ لَهُ بَعْدَمَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ لَهُ

ص: 308

فَيُصَابُ بِأَصْلِ النِّيَّةِ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يُصَابُ بِاسْمِ جِنْسِهِ، وَإِذَا نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ فَقَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَزِيَادَةَ جِهَةٍ، وَقَدْ لَغَتْ الْجِهَةُ فَبَقِيَ الْأَصْلُ وَهُوَ كَافٍ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَيْ لَا تَلْزَمَ الْمَعْذُورَ مَشَقَّةٌ فَإِذَا تَحَمَّلَهَا اُلْتُحِقَ

قَوْلُهُ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يَنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ) عُلِمَ مِنْ وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ الشَّارِعِ تَعْيِينُ الْمَحَلِّ وَهُوَ الزَّمَانُ لِقَبُولِ الْمَشْرُوعِ الْمُعَيَّنِ، وَلَازِمُهُ نَفْيُ صِحَّةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ لُزُومِ التَّعْيِينِ عَنْ الْمُكَلَّفِ، لِأَنَّ إلْزَامَ التَّعْيِينِ لَيْسَ لِتَعْيِينِ الْمَشْرُوعِ لِلْمَحَلِّ بَلْ لِيَثْبُتَ الْوَاجِبُ عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فِي أَدَائِهِ لَا جَبْرًا.

وَتَعَيُّنُ الْمَحَلِّ شَرْعًا لَيْسَ عِلَّةً لِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَنِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ كَذَلِكَ قَوْلُكُمْ، الْمُتَوَحِّدُ يَنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ كَزَيْدٍ يُنَادَى بِيَا حَيَوَانُ وَيَا رَجُلُ، قُلْنَا: إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَا حَيَوَانُ زَيْدًا مَثَلًا فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ نَظَرُهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِمُطْلَقِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ النِّيَّةِ صَوْمَ رَمَضَانَ، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ قَصَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ بِعَيْنِهِ بِهِ بَلْ أَرَادَ فَرْدًا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَمْ يَخْطِرْ بِخَاطِرِهِ سِوَى ذَلِكَ، كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ إرَادَةِ الْمُطْلَقِ مِثْلَ قَوْلِ الْأَعْمَى: يَا رَجُلًا خُذْ بِيَدِي، فَلَيْسَ هُوَ إرَادَةُ ذَلِكَ الْمُتَعَيَّنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ، بَلْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ، فَلُزُومُ ثُبُوتِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ يَكُونُ لَا عَنْ قَصْدٍ إلَيْهِ إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ جَبْرًا.

لَكِنْ لَا بُدَّ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَاخْتِيَارُ الْأَعَمِّ لَيْسَ اخْتِيَارُ الْأَخَصِّ بِخُصُوصِهِ، وَإِذَا بَطَلَ فِي الْمُطْلَقِ بَطَلَ فِي إرَادَةِ النَّفْلِ وَوَاجِبٍ آخَرَ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِهِمَا إنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الصِّحَّةِ بِالْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى لَغْوِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ فَيَبْقَى هُوَ بِهِ يَتَأَدَّى، بَلْ الْبُطْلَانُ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ قَصْدِ الْمُتَعَيَّنِ بِقَصْدِ الْأَعَمِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَصَدَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ مِنْهَا بِخِلَافِ هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ قَصْدُ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، ثُمَّ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ الَّذِي فِي ضِمْنِهِ بَعْدَمَا لَغَا مُصَابًا بِهِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنِّي لَمْ أُرِدْ الْمُطْلَقَ بَلْ الْكَائِنَ بِقَيْدِ كَذَا جُبِرَ عَلَى إيقَاعِهِ، وَهُوَ النَّافِي لِلصِّحَّةِ، فَكَيْفَ يُسْقِطُ صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُنَادِي وَيَقُولُ: لَمْ أُرِدْهُ بَلْ صَوْمُ كَذَا وَأَرَدْت عَدَمَهُ، فَإِنَّهُ مَعَ إرَادَةِ عَدَمِهِ إذَا أَرَادَ صَوْمًا آخَرَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَكُمْ.

(قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ) أَيْ أَنَّهُ يَتَأَدَّى رَمَضَانُ

ص: 309

بِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْوَقْتَ بِالْأَهَمِّ لِتَحَتُّمِهِ لِلْحَالِ وَتَخَيُّرِهِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ. وَعَنْهُ فِي نِيَّةِ التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ، وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَنَّهُ مَا صَرَفَ الْوَقْتَ إلَى الْأَهَمِّ. قَالَ (وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ

مِنْهُمَا بِالْمُطْلَقَةِ وَنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ وَالنَّفَلِ عِنْدَهُمَا، وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ. (قَوْلُهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ) جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إخْرَاجَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ بِلَا اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ. وَلَهُ فِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرْخِيصَ بِتَرْكِ الصَّوْمِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِلْمَشَقَّةِ، وَمَعْنَى التَّرْخِيصِ أَنْ يَدَعَ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ بِالْمَيْلِ إلَى الْأَخَفِّ، فَإِذَا اشْتَغَلَ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَانَ مُتَرَخِّصًا لِأَنَّ إسْقَاطَهُ مِنْ ذِمَّتِهِ أَهَمُّ مِنْ إسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِفَرْضِ الْوَقْتِ، وَيُؤَاخَذُ بِوَاجِبٍ آخَرَ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ، إذْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مَعْنَى التَّرَخُّصِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي النَّفْلِ لَيْسَ إلَّا الثَّوَابُ، وَهُوَ فِي الْفَرْضِ أَكْثَرُ، فَكَانَ هَذَا مَيْلًا إلَى الْأَثْقَلِ فَيَلْغُو وَصْفُ النَّفْلِيَّةِ وَيَبْقَى مُطْلَقُ الصَّوْمِ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ انْتِفَاءَ شَرْعِيَّةِ الصِّيَامَاتِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بَلْ هُوَ مِنْ حُكْمِ تَعْيِينِ هَذَا الزَّمَانِ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَلَا تَعَيُّنَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّأْخِيرِ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فَيَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ وَاجِبٍ آخَرَ كَمَا فِي شَعْبَانَ. وَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ اللَّتَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ. وَأَمَّا إخْرَاجُ الْمَرِيضِ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَجَعْلُهُ كَالْمُسَافِرِ، فَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَأَكْثَرِ مَشَايِخِ بُخَارَى

ص: 310

فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ مِنْ الِابْتِدَاءِ (وَالنَّفَلُ كُلُّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ)

لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ لَا بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ، فَكَانَ كَالْمُسَافِرِ فِي تَعَلُّقِ الرُّخْصَةِ فِي حَقَّةِ بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ، وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ. قِيلَ: مَا قَالَاهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَكَشَفَ هَذَا أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرَضِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَنَوَّعُ إلَى مَا يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ نَحْوَ الْحُمَّيَاتِ وَوَجَعِ الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهَا، وَمَا لَا يَضُرُّ بِهِ كَالْأَمْرَاضِ الرُّطُوبِيَّةِ وَفَسَادِ الْهَضْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالتَّرَخُّصُ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْمَشَقَّةِ فَيَتَعَلَّقُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْعَجْزَ الْحَقِيقِيَّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَفِي الثَّانِي بِحَقِيقَتِهِ فَإِذَا صَامَ هَذَا الْمَرِيضُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ النَّفَلَ وَلَمْ يَهْلَك ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ التَّرَخُّصُ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ، وَإِذَا صَامَ ذَلِكَ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِتَعَلُّقِهَا بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ ازْدِيَادُ الْمَرَضِ كَالْمُسَافِرِ، فَيَسْتَقِيمُ جَوَابُ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهَذَا سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ ازْدِيَادَ الْمَرَضِ، فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا.

(قَوْلُهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ) لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ إنْ نَوَى مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالصَّوْمِ لَا تَقْدِيمُهَا، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ) وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ثُبُوتَ التَّوَقُّفِ إنَّمَا كَانَ بِالنَّصِّ وَمَوْرِدُهُ كَانَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ فَعَقَلَ أَنَّ ثُبُوتَ التَّوَقُّفِ بِوَاسِطَةِ التَّعَيُّنِ مَعَ لُزُومِ النِّيَّةِ وَاشْتِرَاطِهَا فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخَلِّي الزَّمَنَ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الْعِبَادَةُ عَنْ النِّيَّةِ وَكَانَ هَذَا رِفْقًا بِالْمُكَلَّفِ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ فِي دِينِهِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْرِيرِهِ، وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ اعْتِبَارِ خُلُوِّهِ عَنْ النِّيَّةِ لِلْخُلُوِّ الْخَالِي عَنْهَا وَهُوَ الْأَصْلُ أَعْنِي اعْتِبَارَ الْخُلُوِّ لِلْخُلُوِّ الْخَالِي ضَرَرٌ دِينِيٌّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَأْثَمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيهِ فَلَا مُوجِبَ لِلتَّوَقُّفِ، لَا يُقَالُ تَوَقَّفَ فِي النَّفْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ الْمُوجِبُ الَّذِي ذَكَرْت بَلْ مُجَرَّدُ طَلَبِ الثَّوَابِ وَهُوَ مَعَ إسْقَاطِ الْفَرْضِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي حَقِّ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّا نَقُولُ: يَمْنَعُ مِنْهُ لُزُومُ كَوْنِ الْمَعْنَى نَاسِخًا بِالنَّصِّ، أَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» إذْ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ بِالنَّصِّ مُقَارِنًا لِلْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَاهُ، وَهُوَ لَا يَتَعَدَّاهُ فَلَوْ أَخْرَجَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ النَّفَلَ قَدْ خَرَجَ أَيْضًا بِالنَّصِّ بِمَا ذَكَرْت مِمَّا عَقَلْت فِي إخْرَاجِ النَّفْلِ لَمْ يَبْقَ تَحْتَ الْعَامِّ شَيْءٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنْته وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلَازِمُهُ كَوْنِ مَا عَيَّنْته فِي النَّفْلِ لَيْسَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الصِّحَّةِ فِي النَّفْلِ بَلْ مَقْصُودُهُ زِيَادَةُ تَخْفِيفِ النَّفْلِ عَلَى تَخْفِيفِ الْوَاجِبِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ التَّوَقُّفُ فِيهِ لِمُجَرَّدِ تَحْصِيلِ الثَّوَابِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ جَازَتْ نَافِلَتُهَا عَلَى الدَّابَّةِ وَجَالِسًا بِلَا عُذْرٍ، بِخِلَافِ فَرِيضَتِهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا. لَا يُقَالُ مَا عَلَّلْتُمْ بِهِ فِي الْمُعَيَّنِ قَاصِرٌ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ.

لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ لَا مُجَرَّدِ إبْدَاءِ مَعْنًى هُوَ حِكْمَةُ الْمَنْصُوصِ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَالنِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ التَّعْلِيلِ بِمَا يُسَاوِي الْقِيَاسَ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ لَا يُشَكُّ فِي هَذَا، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا كَتَبْنَاهُ [عَلَى الْبَدِيعِ] وَمِنْ فُرُوعِ لُزُومِ التَّبْيِيتِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ: لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ مِنْ النَّهَارِ فَلَمْ يَصِحَّ هَلْ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ: فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ نَعَمْ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؟ قِيلَ: هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ عَنْ الْقَضَاءِ لَمْ يَصِحَّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَمَا فِي

ص: 311

خِلَافًا لِمَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا. وَلَنَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا كَانَ يُصْبِحُ غَيْرَ صَائِمٍ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ» وَلِأَنَّ الْمَشْرُوعَ خَارِجَ رَمَضَانَ هُوَ النَّفَلُ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى إذْ هُوَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى النَّشَاطِ، وَلَعَلَّهُ يَنْشَطُ بَعْدَ الزَّوَالِ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَعِنْدَنَا يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ قَهْرِ النَّفْسِ، وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِإِمْسَاكٍ مُقَدَّرٍ فَيُعْتَبَرُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِأَكْثَرِهِ.

الْمَظْنُونِ (قَوْلُهُ فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ. وَمِنْ فُرُوعِ النِّيَّةِ أَنَّ الْأَفْضَلَ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ الْأَوْلَى أَنْ يَنْوِيَ أَوَّلَ يَوْمٍ وَجَبَ عَلَيَّ قَضَاؤُهُ مِنْ هَذَا الرَّمَضَانِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَوَّلُ جَازَ وَكَذَا لَوْ كَانَا مِنْ رَمَضَانَيْنِ عَلَى الْمُخْتَارِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ لَا غَيْرُ جَازَ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ فِطْرٍ فَصَامَ أَحَدًا وَسِتِّينَ يَوْمًا عَنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ يَوْمُ الْقَضَاءِ جَازَ، وَهَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْقَضَاءِ؟ قِيلَ: يَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ سَنَةَ كَذَا فَصَامَ شَهْرًا يَنْوِي الْقَضَاءَ عَنْ الشَّهْرِ الَّذِي عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ نَوَى أَنَّهُ رَمَضَانُ سَنَةَ كَذَا لِغَيْرِهِ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يَجْزِيهِ. وَلَوْ صَامَ شَهْرًا يَنْوِي الْقَضَاءَ عَنْ سَنَةِ كَذَا عَلَى الْخَطَإِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ أَفْطَرَ ذَلِكَ قَالَ: لَا يَجْزِيهِ، وَلَوْ نَوَى بِاللَّيْلِ أَنْ يَصُومَ غَدًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي اللَّيْلِ وَعَزَمَ عَلَى الْفِطْرِ لَمْ يُصْبِحْ صَائِمًا فَلَوْ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ رَمَضَانُ، وَلَوْ مَضَى عَلَيْهِ لَا يَجْزِيهِ لِأَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ انْتَقَضَتْ بِالرُّجُوعِ، وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت صَوْمَ غَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ: يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ إنَّمَا تُبْطِلُ اللَّفْظَ، وَالنِّيَّةُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَلَوْ جَمَعَ فِي نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ صَوْمَيْنِ نَذْكُرُهُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ رَمَضَانُ تَحَرَّى وَصَامَ، فَإِنْ ظَهَرَ صَوْمُهُ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ لَا تَسْبِقُ الْوُجُوبَ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَهُ جَازَ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ شَوَّالًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ، فَلَوْ كَانَ نَاقِصًا فَقَضَاءُ يَوْمَيْنِ، أَوْ ذَا الْحِجَّةِ قَضَى أَرْبَعَةً لِمَكَانِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ فَإِنْ اتَّفَقَ كَوْنُهُ نَاقِصًا عَنْ ذَلِكَ الرَّمَضَانِ قَضَى خَمْسَةً ثُمَّ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ: هَذَا إذَا نَوَى أَنْ يَصُومَ مَا عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ، أَمَّا إذَا نَوَى صَوْمَ أَدَاءً لِصِيَامِ رَمَضَانَ فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ رَمَضَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْجَوَازَ وَهُوَ حَسَنٌ.

ص: 312

‌فَصْلٌ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ

قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْهِلَالَ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا، وَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الْهِلَالُ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ فَلَا يُنْقَلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ.

(فَصْلٌ)

(قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» .

وَقَوْلُهُ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ فِيهِ تَسَاهُلٌ، فَإِنَّ التَّرَائِيَ إنَّمَا يَجِبُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ لَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي هِيَ عَشِيَّتُهُ، نَعَمْ لَوْ رُئِيَ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَالِ كَانَ كَرُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي رُؤْيَتِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: هُوَ مِنْ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ فَيَجِبُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِطْرُهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ فِي الْإِيضَاحِ، وَحَكَاهُ فِي الْمَنْظُومَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَقَطْ، وَفِي التُّحْفَةِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: إذَا كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ إلَى الْعَصْرِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَهُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ رضي الله عنهم كَقَوْلِهِمَا، وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما مِثْلَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ اهـ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ مَجْرَاهُ أَمَامَ الشَّمْسِ، وَالشَّمْسُ تَتْلُوهُ فَهُوَ لِلْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَ خَلْفَهَا فَلِلْمُسْتَقْبِلَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إذَا غَابَ بَعْدَ الشَّفَقِ فَلِلْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَلِلرَّاهِنَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ إلَّا وَهُوَ لِلَيْلَتَيْنِ فَيُحْكَمُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ، وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» فَوَجَبَ سَبْقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، وَالْمَفْهُومُ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ عِنْدَ عَشِيَّةِ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ الثَّلَاثِينَ، وَالْمُخْتَارُ قَوْلُهُمَا، وَهُوَ كَوْنُهُ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، إلَّا أَنَّ وَاحِدًا لَوْ رَآهُ فِي نَهَارِ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَظَنَّ انْقِضَاءَ مُدَّةِ الصَّوْمِ وَأَفْطَرَ عَمْدًا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ رَآهُ بَعْدَ الزَّوَالِ ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ. هَذَا وَتُكْرَهُ الْإِشَارَةُ إلَى الْهِلَالِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، لِأَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي مِصْرَ لَزِمَ سَائِرَ النَّاسِ فَيَلْزَمُ أَهْلَ الْمَشْرِقِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَقِيلَ: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ لِأَنَّ السَّبَبَ الشَّهْرُ، وَانْعِقَادُهُ فِي حَقِّ قَوْمٍ لِلرُّؤْيَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْعِقَادَهُ فِي حَقِّ آخَرِينَ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ زَالَتْ أَوْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ عَلَى قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِينَ الظُّهْرُ

ص: 313

(وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ:

وَالْمَغْرِبُ دُونَ أُولَئِكَ، وَجْهُ الْأَوَّلِ عُمُومُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ " صُومُوا " مُعَلَّقًا بِمُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ فِي قَوْلِهِ لِرُؤْيَتِهِ، وَبِرُؤْيَةِ قَوْمٍ يَصْدُقُ اسْمُ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ، فَيَعُمُّ الْوُجُوبَ بِخِلَافِ الزَّوَالِ وَالْغُرُوبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَعَلُّقُ عُمُومِ الْوُجُوبِ بِمُطْلَقِ مُسَمَّاهُ فِي خِطَابٍ مِنْ الشَّارِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ إنَّمَا يَلْزَمُ مُتَأَخِّرِي الرُّؤْيَةِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ رُؤْيَةُ أُولَئِكَ بِطَرِيقٍ مُوجِبٍ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ أَنَّ أَهْلَ بَلَدِ كَذَا رَأَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَبْلَكُمْ بِيَوْمٍ فَصَامُوا وَهَذَا الْيَوْمُ ثَلَاثُونَ بِحِسَابِهِمْ، وَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْهِلَالَ لَا يُبَاحُ لَهُمْ فِطْرُ غَدٍ، وَلَا تُتْرَكُ التَّرَاوِيحُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ لَمْ يَشْهَدُوا بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا حَكَوْا رُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا شَهِدَ عِنْدَهُ اثْنَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي لَيْلَةِ كَذَا، وَقَضَى بِشَهَادَتِهِمَا جَازَ لِهَذَا الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهَا لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي حُجَّةٌ وَقَدْ شَهِدُوا بِهِ، وَمُخْتَارُ صَاحِبِ التَّجْرِيدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ اعْتِبَارُ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، وَعُورِضَ لَهُمْ بِحَدِيثِ كُرَيْبٌ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ قَالَ: فَقَدِمْت الشَّامَ فَقَضَيْت حَاجَتَهَا، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْت الْهِلَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُوهُ؟ فَقُلْت: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْت: نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ فَقُلْت: أَوْ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه وَصَوْمِهِ، فَقَالَ: لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، شَكَّ أَحَدُ رُوَاتِهِ فِي تَكْتَفِي بِالنُّونِ أَوْ بِالتَّاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ نَصٌّ وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لِكَوْنِ الْمُرَادِ أَمْرَ كُلِّ أَهْلِ مَطْلَعٍ بِالصَّوْمِ لِرُؤْيَتِهِمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ لِلْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ هَكَذَا إلَى نَحْوِ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ أُمِّ الْفَضْلِ، وَحِينَئِذٍ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ مِثْلَ مَا وَقَعَ مِنْ كَلَامِهِ لَوْ وَقَعَ لَنَا لَمْ نَحْكُمْ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَلَا عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ.

فَإِنْ قِيلَ: إخْبَارُهُ عَنْ صَوْمِ مُعَاوِيَةَ يَتَضَمَّنُهُ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَهُوَ وَاحِدٌ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

وَالْأَخْذُ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَحْوَطُ.

(قَوْلُهُ وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا) الْكَلَامُ هُنَا فِي تَصْوِيرِ يَوْمِ

ص: 314

أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَيْنَا،

الشَّكِّ وَبَيَانِ حُكْمِهِ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ قَالَ هُوَ اسْتِوَاءُ طَرَفَيْ الْإِدْرَاكِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَمُوجِبُهُ هُنَا أَنْ يُغَمَّ الْهِلَالُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَيَشُكُّ فِي الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ أَمِنْ رَمَضَانَ هُوَ أَوْ مِنْ شَعْبَانَ؟ أَوْ يُغَمَّ مِنْ رَجَبٍ هِلَالُ شَعْبَانَ فَأُكْمِلَتْ عِدَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ رُئِيَ هِلَالُ رَمَضَانَ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَهُوَ الثَّلَاثُونَ أَوْ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ، وَمِمَّا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِ أَصْحَابِنَا مَا إذَا شَهِدَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الصَّحْوِ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِغَلَطِهِ عِنْدَنَا لِظُهُورِهِ، فَمُقَابِلُهُ مَوْهُومٌ لَا مَشْكُوكٌ.

وَإِنْ كَانَ فِي غَيْمٍ فَهُوَ شَكٌّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّهْرَ لَيْسَ الظَّاهِرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثِينَ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَكُونُ مَجِيئًا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، بَلْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ كَمَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ تَسْتَوِي هَاتَانِ الْحَالَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَمَا يُعْطِيهِ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّهْرِ، فَاسْتَوَى الْحَالُ حِينَئِذٍ فِي الثَّلَاثِينَ أَنَّهُ مِنْ الْمُنْسَلِخِ أَوْ الْمُسْتَهَلِّ إذَا كَانَ غَيْمٌ فَيَكُونُ مَشْكُوكًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْمُسْتَهَلِّ لَرُئِيَ عِنْدَ التَّرَائِيِ، فَلَمَّا لَمْ يُرَ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُنْسَلِخَ ثَلَاثُونَ، فَيَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ مِنْهُ غَيْرَ مَشْكُوكٍ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ صَوْمِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقْطَعَ النِّيَّةَ أَوْ يُرَدِّدَهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ صَوْمَ رَمَضَانَ أَوْ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ التَّطَوُّعِ ابْتِدَاءً أَوْ لِاتِّفَاقِ يَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ أَوْ أَيَّامٍ، بِأَنْ كَانَ يَصُومُ مَثَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ، وَعَلَى الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُضْجَعَ فِيهَا، فَأَمَّا فِي أَصْلِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِيَ مِنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَلَا يَصُومُ، أَوْ فِي وَصْفِهَا بِأَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَعَنْ وَاجِبٍ كَذَا قَضَاءٌ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ نَذْرٌ أَوْ رَمَضَانُ إنْ كَانَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَعَنْ النَّفْلِ وَالْكُلُّ مَكْرُوهٌ إلَّا فِي التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ صَائِمًا وَإِلَّا فِي النَّفْلِ بِلَا إضْجَاعٍ بَلْ فِي صُورَةِ قَطْعِ النِّيَّةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ لِمُوَافَقَةِ صَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ أَوْ ابْتِدَاءٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ إذَا لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قِيلَ: الْفِطْرُ، وَقِيلَ: الصَّوْمُ، ثُمَّ فِيمَا يُكْرَهُ تَتَفَاوَتُ الْكَرَاهَةُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.

وَهَذَا فِي عَيْنِ يَوْمِ الشَّكِّ، فَأَمَّا صَوْمُ مَا قَبْلَهُ فَفِي التُّحْفَةِ قَالَ: وَالصَّوْمُ قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَكْرُوهٌ أَيُّ صَوْمٍ كَانَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» . قَالَ: وَإِنَّمَا كَرِهَ عليه الصلاة والسلام خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا اعْتَادُوا ذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكْرَهُ وَصْلُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَذَكَرَ قَبْلَهُ بِأَسْطُرٍ عَدَمَ كَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ تَطَوُّعًا، ثُمَّ قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْلَمُ الْعَوَامُّ ذَلِكَ كَيْ لَا يَعْتَادُوا صَوْمَهُ فَيَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً فِي رَمَضَانَ اهـ.

وَظَاهِرُ الْكَافِي فِي خِلَافِهِ قَالَ: إنْ وَافَقَ يَعْنِي يَوْمَ الشَّكِّ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ، وَكَذَا إذَا صَامَ كُلَّهُ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ ثَلَاثَةً مِنْ آخِرِهِ اهـ. وَلَمْ يُقَيِّدْ بِكَوْنِ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ عَادَةً وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا، حَيْثُ حَمَلَ حَدِيثَ التَّقَدُّمِ عَلَى التَّقَدُّمِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ صَوْمُهَا لِمَعْنَى مَا فِي التُّحْفَةِ فَتَأَمَّلْ.

وَمَا فِي التُّحْفَةِ أَوْجَهُ. وَأَمَّا

ص: 315

وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِي مُدَّةِ صَوْمِهِمْ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِأَنَّهُ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ تَطَوُّعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَقْضِهِ

الثَّالِثُ: فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَذْهَبَنَا إبَاحَتُهُ وَمَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا لَهُ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وُجُوبُ صَوْمِهِ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ. وَلْنَأْتِ الْآنَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِدْلَالُ الْمَذَاهِبِ لِيَظْهَرَ مُطَابَقَتُهَا لِأَيِّ الْمَذَاهِبِ. وَالْأَوَّلُ: حَدِيثُ «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» لَمْ يُعْرَفْ قِيلَ: وَلَا أَصْلَ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي ثُبُوتُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إبَاحَةُ الصَّوْمِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الثَّانِي: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَيَصُومُهُ» رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ. الثَّالِثُ: مَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا بَقِيَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا تَصُومُوا» وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُفْطِرَ الرَّجُلُ حَتَّى إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ أَخَذَ فِي الصَّوْمِ.

الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَا أَبَا الْقَاسِمِ» وَإِنَّمَا ثَبَتَ مَوْقُوفًا عَلَى عَمَّارٍ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْهُ، فَقَالَ: وَقَالَ: صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ» إلَخْ وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ فِي كُتُبِهِمْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَأُتِيَ بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَا أَبَا الْقَاسِمِ رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْآدَمِيِّ.

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ " ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ " ثُمَّ قَالَ: تَابَعَ الْآدَمِيُّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ وَكِيعٍ الْخَامِسُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ «فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَكَمِّلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا» .

السَّادِسُ: مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِرَجُلٍ هَلْ صُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ وَفِي لَفْظٍ فَصُمْ يَوْمًا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَإِنَّهُ صَوْمُ دَاوُد» وَسِرَارُ الشَّهْرِ آخِرُهُ سُمِّيَ بِهِ لِاسْتِسْرَارِ الْقَمَرِ فِيهِ، قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ السِّرَارَ قَدْ يُقَالُ عَلَى الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ مِنْ لَيَالِيِ الشَّهْرِ، لَكِنْ دَلَّ قَوْلُهُ " صُمْ يَوْمًا " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صُمْ آخِرَهَا لَا كُلَّهَا، وَإِلَّا قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَكَانَهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ مِنْ سَرَرِ الشَّهْرِ لِإِفَادَةِ التَّبْعِيضِ

وَعِنْدَنَا هَذَا يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ صَوْمِهِ لَا وُجُوبَهُ، لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَهْيِ التَّقَدُّمِ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ التَّقَدُّمَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَيَصِيرُ حَدِيثُ السَّرَرِ

ص: 316

لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِوُجُودِ أَصْلِ النِّيَّةِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَقَدْ قِيلَ: يَكُونُ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ

لِلِاسْتِحْبَابِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُعْقَلُ فِيهِ هُوَ أَنْ يَخْتِمَ شَعْبَانَ بِالْعِبَادَةِ كَمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ كُلَّ شَهْرٍ.

فَهُوَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَهُوَ خَتْمُ الشَّهْرِ بِعِبَادَةِ الصَّوْمِ لَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِ شَعْبَانَ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِهِ بِخِلَافِ حَمْلِ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ عَلَى صَوْمِ النَّفْلِ، فَيُجْعَلُ هُوَ الْمَمْنُوعُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ هُوَ الْوَاجِبُ بِحَدِيثِ السَّرَرِ، فَيَكُونُ مَنْعُ النَّفْلِ بِسَبَبِ الْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبِ الْمُفَادِ بِحَدِيثِ السَّرَرِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَتْحِ مَفْسَدَةِ ظَنِّ الزِّيَادَةِ فِي رَمَضَانَ عِنْدَ تَكَرُّرِهِ مَعَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ، وَهُوَ مُكَفِّرٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا شَرَعَ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ حَيْثُ زَادُوا فِي مُدَّةِ صَوْمِهِمْ، فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ حِلِّ صَوْمِهِ مُخْفِيًا عَنْ الْعَوَامّ، وَكُلُّ مَا وَافَقَ حَدِيثَ التَّقَدُّمِ فِي مَنْعِهِ كَحَدِيثِ إكْمَالِ الْعِدَّةِ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا إكْمَالٌ لِعِدَّةِ شَعْبَانَ، وَحَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ مَوْقُوفٌ لَا يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ السَّرَرِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى إرَادَةِ صَوْمِهِ عَنْ رَمَضَانَ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْمُتَنَحِّي قَصْدَ ذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ أَصْلًا.

وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لَا يُكْرَهُ صَوْمُ وَاجِبٍ آخَرَ فِي يَوْمِ الشَّكِّ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ صَوْمُ رَمَضَانَ لَيْسَ غَيْرُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ غَيْرُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ التُّحْفَةِ حَيْثُ قَالَ: أَمَّا الْمَكْرُوهُ فَأَنْوَاعٌ، إلَى أَنْ قَالَ: وَصَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ أَوْ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ صُورَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ، وَعَنْ التَّطَوُّعِ مُطْلَقًا لَا يُكْرَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا قُلْنَا، يَعْنِي صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِينَ، وَالْكَافِي وَغَيْرِهِمْ، حَيْثُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، قَالُوا: وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُكْرَهَ وَاجِبٌ آخَرُ أَصْلًا وَإِنَّمَا كُرِهَ لِصُورَةِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ الْعِصْيَانِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتْرُكَ صَوْمُهُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ تَوَرُّعًا وَإِلَّا فَبَعْدَ تَأَدِّي الِاجْتِهَادِ إلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّقَدُّمِ صَوْمَ رَمَضَانَ كَيْفَ يُوجِبُ حَدِيثُ الْعِصْيَانِ مَنْعَ غَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ وَبَيْنَهُ، فَمَا وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَجَبَ حَمْلُ الْآخَرِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ إذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى سِوَى تَعَدُّدِ السَّنَدِ هَذَا بَعْدَ حَمْلِهِ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ) وَلَمْ يَقُلْ مَظْنُونٌ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى تَيَقُّنِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ الشَّكِّ فِي إسْقَاطِهِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ لَكِنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمًا (قَوْلُهُ: وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ إلَّا تَطَوُّعًا، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ)

ص: 317

فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ، وَقِيلَ: يَجْزِيهِ عَنْ الَّذِي نَوَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى رَمَضَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَقُومُ بِكُلِّ صَوْمٍ، بِخِلَافِ يَوْمِ الْعِيدِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الْإِجَابَةِ بِلَازِمِ كُلِّ صَوْمٍ، وَالْكَرَاهِيَةُ هَهُنَا لِصُورَةِ النَّهْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ وَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَا رَوَيْنَا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ» الْحَدِيثَ، التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ قَبْلَ أَوَانِهِ،

لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ مَثَارُ النَّهْيِ.

(قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ) لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَقُومُ بِكُلِّ صَوْمٍ بَلْ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فَقَطْ، وَعَنْ هَذَا لَا يُكْرَهُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ لِصُورَةِ النَّهْيِ: أَيْ النَّهْيِ الْمَحْمُولِ عَلَى رَمَضَانَ فَإِنَّهُ وَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ فَصُورَتُهُ اللَّفْظِيَّةُ قَائِمَةٌ فَالتَّوَرُّعُ أَنْ لَا يَحِلَّ بِسَاحَتِهَا أَصْلًا.

وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ الَّتِي مَرْجِعُهَا إلَى خِلَافِ الْأَوْلَى لَا غَيْرُ لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الصَّوْمِ، فَلَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي ذَاتِهِ لِيَمْنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ

ص: 318

ثُمَّ إنْ وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ: وَكَذَا إذَا صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فَصَاعِدًا، وَإِنْ أَفْرَدَهُ فَقَدْ قِيلَ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ احْتِرَازًا عَنْ ظَاهِرِ النَّهْيِ وَقَدْ قِيلَ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما فَإِنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، وَيُفْتِي الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ.

وَالرَّابِعُ: أَنْ يُضْجَعَ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِي أَنْ يَصُومَ غَدًا إنْ كَانَ مِنْ

عَنْ الْكَامِلِ وَلَا يَكُونُ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، بَلْ دُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ آنِفًا (قَوْلُهُ: وَقَدْ قِيلَ الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما فَإِنَّهُمَا كَانَ يَصُومَانِهِ) قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ، وَقَالَ فِي الْغَايَةِ رَدًّا عَلَى صَاحِبِ الْهِدَايَةِ إنَّ مَذْهَبَ عَلِيٍّ رضي الله عنه خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ يُنَازِعُ فِيمَا ذَكَرَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي صَوْمِهَا لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَهَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ أَنَّهَا تَصُومُهُ عَلَى أَنَّهُ يَوْمٌ مِنْ شَعْبَانَ كَيْ لَا تَقَعَ فِي إفْطَارِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَقْصِدَ بِهِ رَمَضَانَ بَعْدَ حُكْمِهَا بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ احْتِمَالٌ، وَالْأَوْلَى فِي التَّمَسُّكِ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ حَدِيثُ السَّرَرِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ بَعْدَ الْجَمْعِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ الِاسْتِحْبَابَ لَا الْإِبَاحَةَ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِلْمَفْسَدَةِ فِي الِاعْتِقَادِ، فَلِذَا كَانَ الْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، وَيُفْتِي الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ حَسْمًا لِمَادَّةِ اعْتِقَادِ الزِّيَادَةِ، وَيَصُومُ فِيهِ الْمُفْتِي سِرًّا لِئَلَّا يُتَّهَمَ بِالْعِصْيَانِ فَإِنَّهُ أَفْتَاهُمْ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ لِحَدِيثِ الْعِصْيَانِ وَهُوَ مُشْتَهِرٌ بَيْنَ الْعَوَامّ.

فَإِذَا خَالَفَ إلَى الصَّوْمِ اتَّهَمُوهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَقِصَّةُ أَبِي يُوسُفَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ صَامَهُ مِنْ الْخَاصَّةِ لَا يُظْهِرُهُ لِلْعَامَّةِ وَهِيَ مَا حَكَاهُ أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: أَتَيْت بَابَ الرَّشِيدِ فَأَقْبَلَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَمِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَخُفٌّ أَسْوَدُ وَرَاكِبٌ عَلَى فَرَسٍ أَسْوَدَ، وَمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَيَاضِ إلَّا لِحْيَتَهُ الْبَيْضَاءُ، وَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ فَأَفْتَى النَّاسَ بِالْفِطْرِ

ص: 319

رَمَضَانَ وَلَا يَصُومُهُ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِيرُ صَائِمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ عَزِيمَتَهُ فَصَارَ كَمَا إذَا نَوَى أَنَّهُ إنْ وَجَدَ غَدًا غَدَاءً يُفْطِرُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَصُومُ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يُضْجَعَ فِي وَصْفِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ يَصُومُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَعَنْ وَاجِبٍ آخَرَ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ. ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ لَا يَجْزِيهِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ لِأَنَّ الْجِهَةَ لَمْ تَثْبُتْ لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا، وَأَصْلُ النِّيَّةِ لَا يَكْفِيهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ تَطَوُّعًا غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْقَضَاءِ لِشُرُوعِهِ فِيهِ مُسْقِطًا، وَإِنْ نَوَى عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْهُ وَعَنْ التَّطَوُّعِ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ نَاوٍ لِلْفَرْضِ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ جَازَ عَنْ نَفْلِهِ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِأَصْلِ النِّيَّةِ، وَلَوْ أَفْسَدَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْضِيَهُ لِدُخُولِ الْإِسْقَاطِ فِي عَزِيمَتِهِ مِنْ وَجْهٍ.

قَالَ (وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ صَامَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ

فَقُلْت لَهُ: أَمُفْطِرٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: اُدْنُ إلَيَّ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ فِي أُذُنِي: أَنَا صَائِمٌ، وَقَوْلُهُ الْمُفْتِي لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الْخَاصَّةِ وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ ضَبْطِ نَفْسِهِ عَنْ الْإِضْجَاع فِي النِّيَّةِ وَمُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ عَنْ الْفَرْضِ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ (قَوْلُهُ أَجْزَأَهُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ) وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ: لَا يَجْزِيهِ عَنْ رَمَضَانَ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَأَصْلُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَبَّرَ يَنْوِي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الظُّهْرِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا لَكِنَّ الْمَسْطُورَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ وَالتَّطَوُّعَ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَقْوَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَنْ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ النِّيَّتَيْنِ تَدَافَعَتَا فَبَقِيَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ فَيَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ لِلْمُتَطَوِّعِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فَلَغَتْ وَتَعَيَّنَتْ نِيَّةُ الْقَضَاءِ

ص: 320

الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَقَدْ رَأَى ظَاهِرًا وَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إنْ أَفْطَرَ بِالْوِقَاعِ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ حَقِيقَةً لِتَيَقُّنِهِ بِهِ وَحُكْمًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَلَنَا أَنَّ الْقَاضِيَ رَدَّ شَهَادَتَهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تُهْمَةُ الْغَلَطِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ،

فَيَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ التَّدَافُعَ لَمَّا أَوْجَبَ بَقَاءَ مُطْلَقِ النِّيَّةِ حَتَّى وَقَعَ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ لِتَأَدِّيهِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ الْفُرُوعِ الْمَنْقُولَةِ أَيْضًا لَوْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ.

وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ: يَكُونُ تَطَوُّعًا لِتَدَافُعِ النِّيَّتَيْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ صَامَ مُطْلَقًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْقَضَاءَ أَقْوَى لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ فِيهِ حَقٌّ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَنَوَى النَّذْرَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ يَقَعُ عَنْ النَّذْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَفِي هَذِهِ كُلِّهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ مُطْلَقِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ وَصِحَّةِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ نَفْلٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فِي نِيَّةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لَكَانَ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْلٍ، وَهُوَ يَمْنَعُهُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا بَطَلَ وَصْفُ الْفَرْضِيَّةِ لَا يَبْقَى أَصْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْفَرْقِ أَوْ يَجْعَلُ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي الصَّوْمِ رِوَايَةً تُوَافِقُ قَوْلَهُمَا فِي الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ وَقَدْ رَأَى ظَاهِرًا) فَصَارَ شَاهِدًا لِلشَّهْرِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ هَذَا الرَّجُلِ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ أَوْ كَانَ الْإِمَامُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا رَآهُ وَحْدَهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ، وَكَذَا الْفِطْرُ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ (قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ) لِأَنَّهَا اُلْتُحِقَتْ بِالْعُقُوبَاتِ بِدَلِيلِ عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمَعْذُورِ وَالْمُخْطِئِ (قَوْلُهُ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ: لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَائِمَةٌ قَبْلَ رَدِّ شَهَادَتِهِ.

ص: 321

وَلَوْ أَكْمَلَ هَذَا الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ، يَوْمًا لَمْ يُفْطِرْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ، وَالِاحْتِيَاطُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْخِيرِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا) لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ، فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الْإِخْبَارِ وَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا وَالْعِلَّةُ غَيْمٌ أَوْ غُبَارٌ أَوْ نَحْوُهُ، وَفِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ

رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ» فَقَامَ دَلِيلًا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيمَا إذَا أَفْطَرَ الرَّائِي وَحْدَهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَسْتَقِيمُ الْأَخْبَارُ أَنَّ الصَّوْمَ الْمَفْرُوضَ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسُ، وَالْفِطْرُ الْمَفْرُوضُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، أَعْنِي بِقَيْدِ الْعُمُومِ.

(قَوْلُهُ: اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ) فَالْحَاصِلُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ مُوجِبَةٌ عَلَيْهِ الصَّوْمَ، وَعَدَمُ صَوْمِ النَّاسِ الْمُتَفَرِّعِ عَنْ تَكْذِيبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ قَامَ فِيهِ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ لِحُكْمِ النَّصِّ مِنْ الصَّوْمِ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسُ، وَعَدَمُ فِطْرِ النَّاسِ الْيَوْمَ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ صَوْمِهِ مُوجِبٌ لِلصَّوْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ النَّصِّ أَيْضًا، وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَهُ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ، وَكَوْنُهُ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بِالنَّصِّ شُبْهَةٌ فِيهِ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَهُوَ فَاسِقٌ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَأَفْطَرَ هُوَ أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، خِلَافًا لِلْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ لِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمِ النَّاسِ، فَلَوْ كَانَ عَدْلًا لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ خِلَافًا لِأَنَّ وَجْهَ النَّفْيِ كَوْنُهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ) أَيْ فِي الَّتِي يَتَيَسَّرُ تَلَقِّيهَا مِنْ الْعُدُولِ كَرِوَايَاتِ الْأَخْبَارِ، بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَنَحْوِهِ، حَيْثُ يَتَحَرَّى فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَلَقِّيهَا مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ إذْ قَدْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَاصِّ عَدْلٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ الْفَاسِقِ بِمُفْرَدِهِ، بَلْ مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي صِدْقِهِ، وَلَا يُعَسِّرُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَامَّتَهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إلَى طَلَبِهِ وَفِي عُدُولِهِمْ كَثْرَةٌ فَلَمْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إلَى قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ مَعَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ (قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ إلَخْ) الْمُرَادُ أَنَّ بِهَذَا التَّأْوِيلِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ لَا أَنَّهُ

ص: 322

يَدْخُلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَمَا تَابَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَشْتَرِطُ الْمَثْنَى وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ» ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ وَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا يُفْطِرُونَ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِلِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ

يَرْتَفِعُ بِهِ خِلَافٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ فَرْعُ ثُبُوتِهَا، وَلَا ثُبُوتَ فِي الْمَسْتُورِ.

وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَسْتُورِ وَبِهِ أَخَذَ الْحَلْوَانِيُّ فَصَارَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ أَمَّا مَعَ تَبَيُّنِ الْفِسْقِ فَلَا قَائِلَ بِهِ عِنْدَنَا، وَعَلَى هَذَا تَفَرَّعَ مَا لَوْ شَهِدُوا فِي تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَبْلَ صَوْمِهِمْ بِيَوْمٍ إنْ كَانُوا فِي هَذَا الْمِصْرِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْحِسْبَةَ وَإِنْ جَاءُوا مِنْ خَارِجٍ قُبِلَتْ (قَوْلُهُ: وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ (قَوْلُهُ وَقَدْ صَحَّ إلَخْ) يَعْنِي بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا» .

وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ لِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ فِي قَبُولِ الْمَسْتُورِ، لَكِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَمَسَّكُ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الزَّمَانِ لِأَنَّ ذِكْرَهُ الْإِسْلَامَ بِحَضْرَتِهِ عليه الصلاة والسلام حِينَ سَأَلَهُ عَنْ الشَّهَادَتَيْنِ إنْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ إسْلَامِهِ فَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ أَسْلَمَ عَدْلًا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خِلَافُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ إخْبَارًا عَنْ حَالِهِ السَّابِقِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ قَدْ ثَبَتَتْ بِإِسْلَامِهِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِبَقَائِهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ الْخِلَافُ، وَلَمْ يَكُنْ الْفِسْقُ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَانِهِ عليه الصلاة والسلام، فَتُعَارِضُ الْغَلَبَةُ ذَلِكَ الْأَصْلَ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ إلَى ظُهُورِهَا (قَوْلُهُ: ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ إلَخْ) هَكَذَا الرِّوَايَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ قَبِلَهُ لِغَيْمٍ أَوْ فِي صَحْوٍ وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا إذَا لَمْ يَرَ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، ثُمَّ خَصَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي الْخُلَاصَةِ وَالْكَافِي وَالْفَتَاوَى أَضَافُوا مَعَهُ أَبَا يُوسُفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ فِي صَحْوٍ، وَفِي قَبُولِهِ لِغَيْمٍ أَخَذَ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا لَوْ صَامُوا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ إذَا صَامُوا ثَلَاثِينَ وَلَمْ يَرَوْا، ذَكَرَهُ فِي التَّجْرِيدِ.

وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ السُّغْدِيِّ

ص: 323

لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ وَيَثْبُتُ الْفِطْرُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهَا ابْتِدَاءً كَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. قَالَ (وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَرَاهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ) لِأَنَّ التَّفَرُّدَ بِالرُّؤْيَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوهِمُ الْغَلَطَ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ جَمْعًا كَثِيرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْشَقُّ الْغَيْمُ عَنْ مَوْضِعِ الْقَمَرِ فَيَتَّفِقُ لِلْبَعْضِ النَّظَرُ، ثُمَّ قِيلَ فِي حَدِّ الْكَثِيرِ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله خَمْسُونَ رَجُلًا اعْتِبَارًا بِالْقَسَامَةِ

لَا يُفْطِرُونَ، وَهَكَذَا فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنْ قَبِلَهَا فِي الصَّحْوِ لَا يُفْطِرُونَ أَوْ فِي غَيْمٍ أَفْطَرُوا لِتَحَقُّقِ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الثُّبُوتِ فِي الثَّانِي وَالِاشْتِرَاكِ فِي عَدَمِ الثُّبُوتِ أَصْلًا فِي الْأَوَّلِ فَصَارَ كَالْوَاحِدِ لَمْ يَبْعُدْ (قَوْلُهُ: بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ) مُتَّصِلٌ بِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ لَا بِثُبُوتِ الْفِطْرِ فَهُوَ مَعْنَى مَا أَجَابَ بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ سِمَاعَةَ حِينَ قَالَ لَهُ: يَثْبُتُ الْفِطْرُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ فَقَالَ: لَا بَلْ بِحُكْمِ الْوَاحِدِ بِثُبُوتِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِثُبُوتِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَبِالضَّرُورَةِ يَثْبُتُ الْفِطْرُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا (قَوْلُهُ كَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ) فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا عَلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ بِهِ مَعَ الْمُؤَيِّدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا مُطْلَقًا، ثُمَّ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ ابْتِدَاءً بِشَهَادَتِهَا وَحْدَهَا.

[فَرْعٌ] إذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِ رُؤْيَةٍ بَلْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ إنْ كَانُوا أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ إذَا لَمْ يَرَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَضَوْا يَوْمًا وَاحِدًا حَمْلًا عَلَى نُقْصَانِ شَعْبَانَ، غَيْرَ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَإِنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ عَنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ قَضَوْا يَوْمَيْنِ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ نُقْصَانِ شَعْبَانَ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَرَوْا هِلَالَ شَعْبَانَ كَانُوا بِالضَّرُورَةِ مُكَمِّلِينَ رَجَبَ (قَوْلُهُ: يُوهِمُ الْغَلَطَ) الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ ظَاهِرٌ فِي الْغَلَطِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْوَهْمِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْبَيِّنَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ قَبُولَهَا بَلْ التَّفَرُّدُ مِنْ بَيْنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ تَوَجُّهِهِمْ طَالِبِينَ لِمَا تَوَجَّهَ هُوَ إلَيْهِ مَعَ فَرْضِ عَدَمِ الْمَانِعِ وَسَلَامَةِ الْأَبْصَارِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ الْأَبْصَارُ فِي الْحِدَّةِ ظَاهِرٌ فِي غَلَطِهِ كَتَفَرُّدِ نَافِلِ زِيَادَةٍ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ مَجْلِسٍ مُشَارِكِينَ لَهُ فِي السَّمَاعِ، فَإِنَّهَا تُرَدُّ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً مَعَ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي حِدَّةِ السَّمْعِ أَيْضًا وَاقِعٌ كَمَا هُوَ فِي الْبِصَارِ مَعَ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لِمُشَارِكِيهِ فِي السَّمَاعِ بِمُشَارِكِيهِ فِي التَّرَائِيِ كَثْرَةً، وَالزِّيَادَةُ الْمَقْبُولَةُ مَا عُلِمَ فِيهِ تَعَدُّدُ الْمَجَالِسِ أَوْ جُهِلَ فِيهِ الْحَالُ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالتَّعَدُّدِ، وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّفَرُّدَ، لَا يُرِيدُ تَفَرُّدَ الْوَاحِدِ وَإِلَّا لَأَفَادَ قَبُولَ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بَلْ الْمُرَادُ تَفَرُّدُ مَنْ لَمْ يَقَعْ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِهِمْ مِنْ الْخَلَائِقِ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الَّذِينَ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْحُكْمَ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْحَالَةِ خَمْسُونَ اعْتِبَارًا بِالْقَسَامَةِ. وَعَنْ خَلَفٍ خَمْسُمِائَةٍ بِبَلْخَ قَلِيلٌ، فَبُخَارَى لَا تَكُونُ أَدْنَى مِنْ بَلْخَ فَلِذَا قَالَ الْبَقَّالِيُّ: الْأَلْفُ بِبُخَارَى قَلِيلٌ، وَالْحَقُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ وَمَجِيئِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهِلَالُ الْفِطْرِ

ص: 324

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ لِقِلَّةِ الْمَوَانِعِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ فِي الْمِصْرِ.

قَالَ (وَمَنْ رَأَى هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ لَمْ يُفْطِرْ) احْتِيَاطًا، وَفِي الصَّوْمِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ. قَالَ (وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعَبْدِ وَهُوَ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِ، وَالْأَضْحَى كَالْفِطْرِ فِي هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ كَهِلَالِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ وَهُوَ التَّوَسُّعُ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ

فِي الصَّحْوِ كَرَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ بِخِلَافٍ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِاثْنَيْنِ وَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.

(قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ) يَعْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَا عَنْ الطَّحَاوِيِّ مِنْ الْفَرْقِ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا مَا يُشِيرُ إلَيْهِ كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَشْهَدُ بِذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَلَا عِلَّةَ فِي السَّمَاءِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْقُيُودَ الْمَذْكُورَةَ تُفِيدُ بِمَفْهُومَاتِهَا الْمُخَالِفَةِ الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِهَا.

(قَوْلُهُ لَمْ يُفْطِرْ) قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُفْطِرُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ. وَلَكِنْ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ وَالتَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ فِي حَقِّهِ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالِاحْتِيَاطِ يُنَافِي تَأْوِيلَ قَوْلِهِ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إنْ أَيْقَنَ أَفْطَرَ وَيَأْكُلُ سِرًّا وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ لَوْ أَفْطَرَ يَقْضِي، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِي لُزُومِهَا الْخِلَافَ بَعْدَ رَدِّ شَهَادَتِهِ وَقَبْلَهُ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ لُزُومِهَا فِيهَا، وَلَوْ شَهِدَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَ صَدِيقٍ لَهُ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَدِيقَهُ.

(قَوْلُهُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِ) وَعَنْ هَذَا شَرْطُ الْعَدَدِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي الرَّأْيِ، وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: يَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ كَمَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَدُ، وَأَمَّا الدَّعْوَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ كَمَا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الْكُلِّ، وَعِتْقِ الْعَبْدِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: فَيَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ الدَّعْوَى فِي هِلَالِ الْفِطْرِ وَهِلَالِ رَمَضَانَ اهـ.

وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ مَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ فِي الرُّسْتَاقِ وَلَيْسَ هُنَاكَ وَالٍ وَلَا قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً يَصُومُ النَّاسُ بِقَوْلِهِ، وَفِي الْفِطْرِ إنْ أَخْبَرَ عَدْلَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْطِرُوا يَكُونُ الثُّبُوتُ فِيهِ دَعْوَى، وَحُكْمٌ لِلضَّرُورَةِ، أَرَأَيْت لَوْ لَمْ يُنَصَّبْ فِي الدُّنْيَا إمَامٌ وَلَا قَاضٍ حَتَّى عَصَوْا بِذَلِكَ أَمَا كَانَ يُصَامُ بِالرُّؤْيَةِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِي مُحَالِ وُجُودِهِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ) تَعْلِيلٌ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي التُّحْفَةِ رَجَّحَ رِوَايَةَ النَّوَادِرِ فَقَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ

ص: 325

(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ إلَّا شَهَادَةَ جَمَاعَةٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ) كَمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ (وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} إلَى أَنْ قَالَ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَالْخَيْطَانِ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ (وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ نَهَارًا مَعَ النِّيَّةِ) لِأَنَّهُ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ: هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِوُرُودِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ فِي الشَّرْعِ لِتَتَمَيَّزَ بِهَا الْعِبَادَةُ مِنْ الْعَادَةِ، وَاخْتَصَّ بِالنَّهَارِ لِمَا تَلَوْنَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوِصَالُ كَانَ تَعْيِينُ النَّهَارِ أَوْلَى لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَعَلَيْهِ مَبْنَى الْعِبَادَةِ، وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.

شَهَادَةُ الْوَاحِدِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُخْبِرَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ اهـ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَهُوَ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةَ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَصَارَ كَهِلَالِ رَمَضَانَ فِي تَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ فَيُقْبَلُ فِي الْغَيْمِ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الصَّحْوِ إلَّا التَّوَاتُرُ.

(قَوْلُهُ: وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ إلَخْ) نُقِضَ طَرْدُهُ بِإِمْسَاكِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ وَلَا يَصْدُقُ الْمَحْدُودُ، وَبِمَنْ أَمْسَكَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ بَعْدَمَا أَكَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهَارَ اسْمٌ لِمَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الْغُرُوبِ، وَعَكْسُهُ يَأْكُلُ النَّاسِي فَإِنَّهُ يَصْدُقُ مَعَهُ الْمَحْدُودُ، وَهُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ وَلَا يَصْدُقُ الْحَدُّ وَهَذَا فَسَادُ الْعَكْسِ، وَجَعَلَ فِي النِّهَايَةِ إمْسَاكَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ مُفْسِدًا لِلْعَكْسِ، وَجَعَلَ أَكْلَ النَّاسِي مُفْسِدًا لِلطَّرْدِ وَالتَّحْقِيقِ مَا أَسْمَعْتُك. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مَوْجُودٌ مَعَ أَكْلِ النَّاسِي، فَإِنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ أَكْلَهُ عَدَمًا وَالْمُرَادُ مِنْ النَّهَارِ الْيَوْمُ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ، وَبِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ خَرَجَتْ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ لِلصَّوْمِ شَرَفًا، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ مِنْ الْعِنَايَةِ، وَالْحَدُّ الصَّحِيحُ إمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ مَنْوِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى بِإِذْنِهِ فِي وَقْتِهِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مَعْنَاهُ وَهُوَ تَفْصِيلُ هَذَا.

ص: 326

‌بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ

قَالَ (وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَهَارًا نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُفْطِرَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ مَا يُضَادُّ الصَّوْمَ فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ «قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِلَّذِي أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا تِمَّ عَلَى صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ»

بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ)

(قَوْلُهُ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ) إلَّا فِيمَا إذَا أَكَلَ نَاسِيًا فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَائِمٌ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَاسْتَمَرَّ ثُمَّ تَذَكَّرَ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّ الْأَكْلَ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى تَأَمُّلِ الْحَالِ، وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ: لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ نَاسٍ.

(قَوْلُهُ فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ) وَكَتَرْكِ النِّيَّةِ فِيهِ وَكَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ نَاسِيًا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَفْسُدُ مَعَ النِّسْيَانِ (قَوْلُهُ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام إلَخْ) فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ فَيَكُونُ أَمْرًا بِالْإِمْسَاكِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ كَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ، وَنَحْوُهُ مَدْفُوعٌ أَوَّلًا بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ أَمْكَنَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ وَاجِبٌ. فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ ذَلِكَ لِلدَّلِيلِ عَلَى الْبُطْلَانِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

قُلْنَا: حَقِيقَةُ النَّصِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ لَوْ تَمَّ فَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَتِمُّ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْبُطْلَانِ مَعَ النِّسْيَانِ فِيمَا لَهُ هَيْئَةٌ مُذَكِّرَةٌ الْبُطْلَانَ مَعَهُ فِيمَا لَا مُذَكِّرَ فِيهِ، وَهَيْئَةُ الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ، فَإِنَّهَا تُخَالِفُ الْهَيْئَةَ الْعَادِيَّةَ وَلَا كَذَلِكَ الصَّوْمُ، وَالنِّسْيَانُ غَالِبٌ لِلْإِنْسَانِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ عُذْرِهِ بِالنِّسْيَانِ مَعَ تِلْكَ عَدَمُ عُذْرِهِ بِهِ مَعَ

ص: 327

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي الْوِقَاعِ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يَغْلِبُ النِّسْيَانُ وَلَا مُذَكِّرَ فِي الصَّوْمِ فَيَغْلِبُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَضِّلْ وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي، وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَعُذْرُ النِّسْيَانِ

الصَّوْمِ، وَثَانِيًا: بِأَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ يَدْفَعُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ " فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ " وَصَوْمُهُ إنَّمَا كَانَ الشَّرْعِيَّ، فَإِتْمَامُ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالشَّرْعِيِّ. وَثَالِثًا: بِأَنَّ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَسُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي كُنْتُ صَائِمًا فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ نَاسِيًا فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَتِمَّ صَوْمَكَ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ وَفِي لَفْظٍ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْكَ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ وَزَادَ فِيهِ " وَلَا تُفْطِرْ ".

وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: تَفَرَّدَ بِهِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ (قَوْلُهُ: لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ) الرُّكْنُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ كُلٍّ مِنْهَا، فَتَسَاوَتْ كُلُّهَا فِي أَنَّهَا مُتَعَلِّقُ الرُّكْنِ لَا يَفْضُلُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَلَى أَخَوَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي فَوَاتِ الْكَفِّ عَنْ بَعْضِهَا نَاسِيًا عُذْرُهُ بِالنِّسْيَانِ وَإِبْقَاءُ صَوْمِهِ كَانَ ثَابِتًا أَيْضًا فِي فَوَاتِ الْكَفِّ نَاسِيًا عَنْ أَخَوَيْهِ. يَحْكُمُ بِذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءَ، ثُمَّ عَلِمَ ذَلِكَ الثُّبُوتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، هَذَا وَمَنْ رَأَى صَائِمًا يَأْكُلُ نَاسِيًا إنْ رَأَى قُوَّةً تُمْكِنُهُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ بِلَا ضَعْفٍ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ يَضْعُفُ بِالصَّوْمِ، وَلَوْ أَكَلَ يَتَقَوَّى عَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ يَسَعُهُ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ، وَلَوْ بَدَأَ بِالْجِمَاعِ نَاسِيًا فَتَذَكَّرَ إنْ نَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يُفْطِرْ وَإِنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، ثُمَّ قِيلَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَقِيلَ: هَذَا إذَا لَمْ يُحَرِّكْ نَفْسَهُ بَعْدَ التَّذَكُّرِ حَتَّى أَنْزَلَ، فَإِنْ حَرَّكَ نَفْسَهُ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ نَزَعَ ثُمَّ أَدْخَلَ، وَلَوْ جَامَعَ عَامِدًا قَبْلَ الْفَجْرِ وَطَلَعَ وَجَبَ النَّزْعُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ حَرَّكَ نَفْسَهُ بَعْدَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا نَظِيرُهُ مَا لَوْ أَوْلَجَ ثُمَّ قَالَ لَهَا: إنْ جَامَعْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ حُرَّةٌ إنْ نَزَعَ أَوْ لَمْ يَنْزِعْ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ حَتَّى أَنْزَلَ لَا تَطْلُقُ وَلَا تَعْتِقُ، وَإِنْ حَرَّكَ نَفْسَهُ طَلُقَتْ وَعَتَقَتْ وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْحَرَكَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَجِبُ لِلْأَمَةِ الْعُقْرُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا (قَوْلُهُ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي) يُجَامِعْ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْجِنَايَةِ فَيُعْذَرُ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلشُّرْبِ وَلَا لِلْجِنَايَةِ، وَالنَّاسِي قَاصِدٌ لِلشُّرْبِ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْجِنَايَةِ، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» لِلْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ تَخْرِيجُهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إلْحَاقِهِ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَنَا أَنَّهُ) أَيْ عُذْرُ الْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ (لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ) أَمَّا الْإِكْرَاهُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْخَطَأُ إذْ مَعَ التَّذَكُّرِ وَعَدَمِ قَصْدِ الْجِنَايَةِ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِفْسَادِ قَائِمٌ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَقَلَّمَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ مَعَ ذَلِكَ بِخِلَافِ حَالَةِ عَدَمِ التَّذَكُّرِ مَعَ قِيَامِ مُطَالَبَةِ الطَّبْعِ بِالْمُفْطِرَاتِ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ

ص: 328

غَالِبٌ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَالْإِكْرَاهَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فَيَفْتَرِقَانِ كَالْمُقَيَّدِ وَالْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ.

قَالَ (فَإِنْ نَامَ فَاحْتَلَمَ لَمْ يُفْطِرْ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ» ، وَلِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِنْزَالُ عَنْ شَهْوَةٍ بِالْمُبَاشَرَةِ (وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَأَمْنَى) لِمَا بَيَّنَّا فَصَارَ كَالْمُتَفَكِّرِ إذَا أَمْنَى

مَعَهُ الْإِفْسَادُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عُذِرَ فِيمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ مِثْلُهُ فِيمَا لَا يَكْثُرُ، وَلِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْجَوْفِ مَعَ التَّذَكُّرِ فِي الْخَطَأِ لَيْسَ إلَّا لِتَقْصِيرِهِ فِي الِاحْتِرَازِ فَيُنَاسِبُ الْفَسَادَ إذْ فِيهِ نَوْعُ إضَافَةٍ إلَيْهِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ، فَإِنَّهُ بِرُمَّتِهِ مُنْدَفِعٌ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ مَنْ الْإِمْسَاكُ حَقُّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، فَكَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ هُوَ الْمُفَوِّتُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ، وَلِذَا أَضَافَهُ عليه الصلاة والسلام إلَيْهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ «أَتِمَّ عَلَى صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ» وَحَقِيقَةُ هَذَا التَّعْلِيلِ يَقْطَعُ نِسْبَتَهُ إلَى الْمُكَلَّفِ فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا عَلَيْهِ شَيْئًا إذْ لَمْ يَقَعْ مِنْ جِهَتِهِ تَفْوِيتٌ، فَظَهَرَ ظُهُورًا سَاطِعًا عَدَمُ لُزُومِ اعْتِبَارِ الصَّوْمِ قَائِمًا مَعَ الْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ لِاعْتِبَارِهِ قَائِمًا مَعَ النِّسْيَانِ، وَصَارَ مَعَ النَّاسِي كَالْمُقَيَّدِ مَعَ الْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّيَاهَا قَاعِدَيْنِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَا الْمَرِيضِ، وَحُكْمُ النَّائِمِ إذَا صُبَّ فِي حَلْقِهِ مَا يُفْطِرُ حُكْمُ الْمُكْرَهِ فَيُفْطِرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْجِمَاعِ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ إمَارَةُ الِاخْتِيَارِ، ثُمَّ رَجَعَ. وَقَالَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ يَتَحَقَّقُ بِالْإِيلَاجِ وَهُوَ مُكْرَهٌ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ انْتَشَرَ آلَتُهُ يُجَامِعُ.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامَ») رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ، وَالْقَيْءُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَفِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ مُسْنَدًا، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ كَابْنِ مَعِينٍ لِسُوءِ حِفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِطَرِيقٍ آخَرَ فِيهِ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهِشَامٌ هَذَا ضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَلَيَّنَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَقَالَ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، لَكِنْ قَدْ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» .

قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِهَا إسْنَادًا وَأَصَحِّهَا اهـ. وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: صَدُوقٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، وَقَالَ: لَا يُرْوَى عَنْ ثَوْبَانَ إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَقَرَّدَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَجِبُ أَنْ يَرْتَقِيَ إلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ، وَضَعْفُ رُوَاتِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْحِفْظِ لَا الْعَدَالَةِ فَالتَّضَافُرُ دَلِيلُ الْإِجَادَةِ فِي خُصُوصِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْقَيْءِ مَا ذَرَعَ الصَّائِمَ عَلَى مَا سَيَظْهَرُ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَةً) بِشَهْوَةٍ إلَى وَجْهِهَا أَوْ فَرْجِهَا كَرَّرَ النَّظَرَ أَوْ لَا لَا يُفْطِرُ إذَا أَنْزَلَ (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ وَهُوَ لِلْإِنْزَالِ عَنْ مُبَاشَرَةٍ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ:

ص: 329

وَكَالْمُسْتَمْنِي بِالْكَفِّ عَلَى مَا قَالُوا (وَلَوْ ادَّهَنَ لَمْ يُفْطِرْ) لِعَدَمِ الْمُنَافِي (وَكَذَا إذَا احْتَجَمَ) لِهَذَا وَلِمَا رَوَيْنَا (وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدِّمَاغِ مَنْفَذٌ وَالدَّمْعُ يَتَرَشَّحُ كَالْعَرَقِ وَالدَّاخِلُ مِنْ الْمَسَامِّ لَا يُنَافِي

إذَا كَرَّرَهُ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ.

وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَكَ الْأُولَى» وَالْمُرَادُ بِهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ الْحَظْرِ الْإِفْطَارُ بَلْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِ الرُّكْنِ، وَهُوَ بِالْجِمَاعِ لَا بِكُلِّ إنْزَالٍ لِعَدَمِ الْفِطْرِ فِيمَا إذَا أَنْزَلَ بِالتَّفَكُّرِ فِي جَمَالِ امْرَأَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ. وَغَايَةُ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعْنَى الْجِمَاعِ كَالْجِمَاعِ. وَهُوَ أَيْضًا مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ الْإِنْزَالُ عَنْ مُبَاشَرَةٍ لَا مُطْلَقًا لِمَا ذَكَرْنَا (قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا) عَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ إفَادَةُ الضَّعْفِ مَعَ الْخِلَافِ. وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْإِفْطَارِ.

وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: أَنَّهُ الْمُخْتَارُ كَأَنَّهُ اُعْتُبِرَتْ الْمُبَاشَرَةُ الْمَأْخُوذَةُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا مُبَاشَرَةَ الْغَيْرِ أَوَّلًا بِأَنْ يُرَادَ مُبَاشَرَةٌ هِيَ سَبَبُ الْإِنْزَالِ سَوَاءٌ كَانَ مَا بُوشِرَ مِمَّا يُشْتَهَى عَادَةً أَوْ لَا، وَلِهَذَا أَفْطَرَ بِالْإِنْزَالِ فِي فَرْجِ الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ وَلَيْسَ مِمَّا يُشْتَهَى عَادَةً، هَذَا وَلَا يَحِلُّ الِاسْتِمْنَاءُ بِالْكَفِّ ذَكَرَ الْمَشَايِخُ فِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ، فَإِنْ غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ فَفَعَلَ إرَادَةَ تَسْكِينِهَا بِهِ فَالرَّجَاءُ أَنْ لَا يُعَاقَبَ» (قَوْلُهُ لِهَذَا) أَيْ عَدَمِ الْمُنَافِي (وَلِمَا رَوَيْنَا) مِنْ حَدِيثِ «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ» وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ الْحِجَامَةَ تُفَطِّرُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ، وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ لِأَنَسٍ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لَا إلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ أَنَسٌ: «أَوَّلُ مَا كُرِهَتْ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَا ثُمَّ رَخَّصَ عليه الصلاة والسلام فِي الْحِجَامَةِ بَعْدُ لِلصَّائِمِ» ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً (قَوْلُهُ وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ) سَوَاءٌ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ أَوْ لَا لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي حَلْقِهِ أَثَرُهُ دَاخِلًا مِنْ الْمَسَامِّ وَالْمُفْطِرُ الدَّاخِلُ مِنْ الْمَنَافِذِ كَالْمُدْخَلِ وَالْمُخْرَجِ لَا مِنْ الْمَسَامِّ الَّذِي هُوَ خَلَلُ الْبَدَنِ لِلِاتِّفَاقِ فِيمَنْ شَرَعَ فِي الْمَاءِ يَجِدُ بَرْدَهُ فِي بَطْنِهِ وَلَا يُفْطِرُ. وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ أَعْنِي الدُّخُولَ فِي الْمَاءِ وَالتَّلَفُّفَ بِالثَّوْبِ الْمَبْلُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الضَّجَرِ فِي إقَامَةِ الْعِبَادَةِ لَا لِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْإِفْطَارِ وَلَوْ بَزَقَ فَوَجَدَ لَوْنَ الدَّمِ فِيهِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ. وَقِيلَ: يُفْطِرُ لِتَحَقُّقِ وُصُولِ دَمٍ إلَى بَطْنٍ مِنْ بُطُونِهِ، وَهُوَ

ص: 330

كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ (وَلَوْ قَبَّلَ لَا يَفْسُدُ صَوْمٌ) يُرِيدُ بِهِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ لِعَدَمِ الْمُنَافِي صُورَةً وَمَعْنًى بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ أُدِيرَ عَلَى السَّبَبِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. (وَإِنْ أَنْزَلَ بِقُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَوُجُودِ الْمُنَافِي صُورَةً أَوْ مَعْنًى يَكْفِي لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ احْتِيَاطًا، أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ (وَلَا بَأْسَ بِالْقُبْلَةِ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ الْجِمَاعَ أَوْ الْإِنْزَالَ (وَيُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ) لِأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِمُفْطِرٍ وَرُبَّمَا يَصِيرُ فِطْرًا بِعَاقِبَتِهِ فَإِنْ أَمِنَ يُعْتَبَرُ عَيْنُهُ وَأُبِيحَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ تُعْتَبَرُ عَاقِبَتُهُ وَكُرِهَ لَهُ، وَالشَّافِعِيُّ أَطْلَقَ فِيهِ فِي الْحَالَيْنِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا

قَوْلُ مَالِكٍ وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ فِيهَا (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ إلَخْ) أَيْ لَوْ قَبَّلَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ صَارَ مُرَاجِعًا وَبِالْقُبْلَةِ أَيْضًا مَعَ شَهْوَةٍ يَنْتَشِرُ لَهَا الذَّكَرُ تَثْبُتُ حُرْمَةُ أُمَّهَاتِ الْمُقَبَّلَةِ وَبَنَاتِهَا (لِأَنَّ الْحُكْمَ) وَهُوَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ (أَدْبَرَ عَلَى السَّبَبِ) لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالِاحْتِيَاطِ فَتَعَدَّى مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الشُّبْهَةِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ فِيهِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ أَعْنِي الْوَطْءَ (قَوْلُهُ أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ) فَكَانَتْ عُقُوبَةً وَهُوَ أَعْلَى عُقُوبَةٍ لِلْإِفْطَارِ فِي الدُّنْيَا فَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهَا عَلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ، وَلَوْ قَالَ بِالْوَاوِ كَانَا تَعْلِيلَيْنِ وَهُوَ أَحْسَنُ وَيَكُونُ نَفْسُ قَوْلِهِ تَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ تَعْلِيلًا أَيْ لَا تَجِبُ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ إذْ كَانَتْ أَعْلَى الْعُقُوبَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ مُفَطِّرًا شُبْهَةٌ حَيْثُ كَانَ مَعْنَى الْجِمَاعِ لَا صُورَتُهُ فَلَا تَجِبُ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ عَيْنَهُ) ذَكَرَ عَلَى مَعْنَى التَّقْبِيلِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام: كَانَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ» «وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُقَبِّلُهَا. وَهُوَ صَائِمٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْمَسُّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا كَالتَّقْبِيلِ

ص: 331

وَالْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ مِثْلُ التَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ.

(وَلَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ ذُبَابٌ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ لَمْ يُفْطِرْ) وَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَغَذَّى بِهِ كَالتُّرَابِ وَالْحَصَاةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَفْسُدُ لِإِمْكَانِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ إذَا آوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ (وَلَوْ أَكَلَ لَحْمًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يُفْطِرْ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُفْطِرُ) وَقَالَ زُفَرُ: يُفْطِرُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْفَمَ

قَوْلُهُ مِثْلُ التَّقْبِيلِ) وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ. وَأَتَاهُ آخَرُ فَنَهَاهُ. فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ، وَاَلَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ» وَهَذَا يُفِيدُ التَّفْصِيلَ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ (وَالْمُبَاشَرَةُ كَالتَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْفَاحِشَةِ) وَهِيَ تَجَرُّدُهُمَا مُتَلَازِقَيْ الْبَطْنَيْنِ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُبَاشَرَةِ وَهُوَ الْمُفَادُ فِي الْحَدِيثِ، فَجَعْلُ الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى مُحَمَّدٍ مَحَلُّ نَظَرٍ، إذْ لَا عُمُومَ لِلْفِعْلِ الْمُثْبِتِ فِي أَقْسَامِهِ بَلْ وَلَا فِي الزَّمَانِ وَفَهْمُهُ فِيهِ مِنْ إدْخَالِ الرَّاوِي لَفْظَ كَانَ عَلَى الْمُضَارِعِ.

وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ) قُلْنَا: الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ بِحَالٍ يَأْمَنُ. فَإِنْ خَافَ قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ وَالْأَوْجَهُ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ سَبَبًا غَالِبًا تَنْزِلُ سَبَبًا فَأَقَلُّ الْأُمُورِ لُزُومُ الْكَرَاهَةِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ تَحَقُّقِ الْخَوْفِ بِالْفِعْلِ. كَمَا هُوَ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ

(قَوْلُهُ فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ) إذَا دَخَلَا فِي الْحَلْقِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْ دُخُولِهِمَا لِدُخُولِهِمَا مِنْ الْأَنْفِ إذَا طَبَّقَ الْفَمَ وَصَارَ أَيْضًا كَبَلَلٍ يَبْقَى فِي فِيهِ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ.

وَنَظِيرُهُ فِي الْخِزَانَةِ إذَا دَخَلَ دُمُوعُهُ أَوْ عَرَقُهُ حَلْقَهُ وَهُوَ قَلِيلٌ كَقَطْرَةٍ أَوْ قَطْرَتَيْنِ لَا يُفْطِرُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ بِحَيْثُ يَجِدُ مُلُوحَتَهُ فِي الْحَلْقِ فَسَدَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقَطْرَةَ يَجِدُ مُلُوحَتَهَا، فَالْأَوْلَى عِنْدِي الِاعْتِبَارُ بِوِجْدَانِ الْمُلُوحَةِ لِصَحِيحِ الْحِسِّ، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ دَخَلَ دَمْعُهُ أَوْ عَرَقُ جَبِينِهِ أَوْ دَمُ رُعَافِهِ حَلْقَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْتُهُ، فَإِنَّهُ عَلَّقَ بِوُصُولِهِ إلَى الْحَلْقِ وَمُجَرَّدُ وُجْدَانِ الْمُلُوحَةِ دَلِيلُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: إذَا أَوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ) يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ سَائِرًا مُسَافِرًا لَمْ يَفْسُدْ، فَالْأَوْلَى تَعْلِيلُ الْإِمْكَانِ بِتَيَسُّرِ طَبْقِ الْفَمِ وَفَتْحِهِ أَحْيَانًا مَعَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الدُّخُولِ، وَلَوْ دَخَلَ فَمَهُ الْمَطَرُ فَابْتَلَعَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ خَرَجَ دَمٌ مِنْ أَسْنَانِهِ فَدَخَلَ حَلْقَهُ إنْ سَاوَى الرِّيقَ فَسَدَ وَإِلَّا لَا، وَلَوْ اسْتَشَمَّ الْمُخَاطَ مِنْ أَنْفِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ إلَى فَمِهِ وَابْتَلَعَهُ عَمْدًا لَا يُفْطِرُ، وَلَوْ خَرَجَ رِيقُهُ مِنْ فِيهِ فَأَدْخَلَهُ وَابْتَلَعَهُ إنْ كَانَ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ فِيهِ بَلْ مُتَّصِلٌ بِمَا فِي فِيهِ كَالْخَيْطِ فَاسْتَشْرَبَهُ

ص: 332

لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ بِالْمَضْمَضَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِيمَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ، وَالْفَاصِلُ مِقْدَارُ الْحِمَّصَةِ وَمَا دُونَهَا قَلِيلٌ (وَإِنْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ أَكَلَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُهُ) لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ سِمْسِمَةً بَيْنَ أَسْنَانِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَهَا ابْتِدَاءً يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ مَضَغَهَا لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهَا تَتَلَاشَى وَفِي مِقْدَارِ الْحِمَّصَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُتَغَيِّرٌ، وَلِأَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ.

(فَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ)

لَمْ يُفْطِرْ، وَإِنْ كَانَ انْقَطَعَ فَأَخَذَهُ وَأَعَادَهُ أَفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ابْتَلَعَ رِيقَ غَيْرِهِ.

وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي فِيهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ يُكْرَهُ وَلَا يُفْطِرُ، وَلَوْ اخْتَلَطَ بِالرِّيقِ لَوْنُ صَبْغِ إبْرَيْسَمٍ يَعْمَلُهُ لِلْخَيْطِ مِنْ فِيهِ فَابْتَلَعَ هَذَا الرِّيقَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ (قَوْلُهُ: لَهُ حُكْمٌ ظَاهِرٌ) فَالْإِدْخَالُ مِنْهُ كَالْإِدْخَالِ مِنْ خَارِجِهِ وَلَوْ شَدَّ الطَّعَامَ بِخَيْطٍ فَأَرْسَلَهُ فِي حَلْقِهِ وَطَرَفُهُ بِيَدِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ إلَّا إذَا انْفَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ (قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ) كَمَا لَا يَفْسُدُ بِالرِّيقِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا تَابِعًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ عَنْ بَقَاءِ أَثَرٍ مَا مِنْ الْمَآكِلِ حَوَالَيْ الْأَسْنَانِ وَإِنْ قَلَّ، ثُمَّ يَجْرِي مَعَ الرِّيقِ التَّابِعِ مِنْ مَحَلِّهِ إلَى الْحَلْقِ، فَامْتَنَعَ تَعْلِيقُ الْإِفْطَارِ بِعَيْنِهِ فَيُعَلَّقُ بِالْكَثِيرِ وَهُوَ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ كَثِيرًا فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ جَعَلَ الْفَاصِلَ كَوْنَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ فِي ابْتِلَاعِهِ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالرِّيقِ أَوْ لَا. الْأَوَّلُ قَلِيلٌ، وَالثَّانِي كَثِيرٌ، وَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُصُولِ كَوْنُهُ لَا يَسْهُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِيمَا يَجْرِي بِنَفْسِهِ مَعَ الرِّيقِ إلَى الْجَوْفِ لَا فِيمَا يَتَعَمَّدْ فِي إدْخَالِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِيهِ (قَوْلُهُ ثُمَّ أَكَلَهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ) الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظَةِ أَكَلَهُ الْمَضْغُ وَالِابْتِلَاعُ أَوْ الْأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ مُجَرَّدِ الِابْتِلَاعِ فَيُفِيدُ حِينَئِذٍ خِلَافَ مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ أَنَّهُ إذَا مَضَغَ مَا أَدْخَلَهُ وَهُوَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَا يُفَطِّرُهُ، لَكِنَّ تَشْبِيهَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله مِنْ عَدَمِ الْفَسَادِ فِي ابْتِلَاعِ سِمْسِمَةٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ، وَالْفَسَادُ إذَا أَكَلَهَا مِنْ خَارِجٍ وَعَدَمُهُ إذَا مَضَغَهَا يُوجِبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْلِ الِابْتِلَاعُ فَقَطْ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ لِعَطَاءِ النَّظِيرِ، وَفِي الْكَافِي فِي السِّمْسِمَةِ قَالَ: إنْ مَضَغَهَا لَا يَفْسُدُ إلَّا أَنْ يَجِدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ. وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا فَلْيَكُنْ الْأَصْلَ فِي كُلِّ قَلِيلٍ مَضَغَهُ، وَإِذَا ابْتَلَعَ السِّمْسِمَةَ حَتَّى فَسَدَ هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؟ قِيلَ: لَا، وَالْمُخْتَارُ وُجُوبُهَا لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ.

وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ. (قَوْلُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ) فَصَارَ نَظِيرَ التُّرَابِ، وَزُفَرُ يَقُولُ: بَلْ نَظِيرُ اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ، وَفِيهِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ

ص: 333

لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» وَيَسْتَوِي فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ فَمَا دُونَهُ فَلَوْ عَادَ وَكَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّهُ خَارِجٌ حَتَّى انْتَقَضَ بِهِ الطَّهَارَةُ وَقَدْ دَخَلَ

الْمُفْتِيَ فِي الْوَقَائِعِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضَرْبِ اجْتِهَادٍ وَمَعْرِفَةٍ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ فَيَنْظُرُ فِي صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَعَافُ طَبْعُهُ ذَلِكَ أَخَذَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ عِنْدَهُ أَخَذَ بِقَوْلِ زُفَرَ رحمه الله.

وَلَوْ ابْتَلَعَ حَبَّةَ عِنَبٍ لَيْسَ مَعَهَا تَفْرُوقُهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنْ مَضَغَهَا وَهُوَ مَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ» .

وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا لِهَذَا، يَعْنِي لِلْغَرَابَةِ وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ الرَّاوِي فَإِنَّهُ هُوَ الشَّاذُّ الْمَقْبُولُ وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَكُلٌّ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَابْنُ حِبَّانَ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

وَقَالَ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، ثُمَّ قَدْ تَابَعَ عِيسَى بْنَ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ أَيْضًا.

وَمَا رُوِيَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ فِي يَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَشَرِبَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا يَوْمٌ كُنْتَ تَصُومُ، قَالَ: أَجَلْ وَلَكِنِّي قِئْتُ» مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الشُّرُوعِ أَوْ عُرُوضِ الضَّعْفِ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ آثَارِ الْفِطْرِ مِمَّا دَخَلَ وَبَيْنَ آثَارِ الْقَيْءِ أَنَّ فِي الْقَيْءِ يَتَحَقَّقُ رُجُوعُ شَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ وَإِنْ قَلَّ فَلِاعْتِبَارِهِ يُفْطِرُ وَفِيمَا إذَا ذَرَعَهُ إنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ أَيْضًا لَكِنْ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَكَانَ كَالنِّسْيَانِ لَا الْإِكْرَاهِ وَالْخَطَأِ (قَوْلُهُ فَلَوْ عَادَ) أَيْ الْقَيْءُ الَّذِي ذَرَعَهُ.

وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إمَّا إنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ أَوْ اسْتِقَاءَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مِلْءُ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ. وَالْكُلُّ إمَّا أَنْ خَرَجَ أَوْ عَادَ أَوْ أَعَادَهُ، فَإِنْ ذَرَعَهُ وَخَرَجَ لَا يُفْطِرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَإِنْ عَادَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ خَارِجٌ شَرْعًا حَتَّى انْتَقَضَتْ بِهِ الطَّهَارَةُ وَقَدْ دَخَلَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْإِفْطَارِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَلَا مَعْنَاهُ إذْ لَا يَتَغَذَّى بِهِ.

فَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَوْدِ وَالْإِعَادَةِ اعْتِبَارُ الْخُرُوجِ وَهُوَ بِمِلْءِ الْفَمِ، وَأَصْلُ مُحَمَّدٍ فِيهِ الْإِعَادَةُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَإِنْ أَعَادَ فَسَدَ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلدُّخُولِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْخُرُوجِ شَرْعًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلصُّنْعِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَعَادَ لَمْ يَفْسُدْ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَعَادَهُ لَمْ يَفْسُدْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لِعَدَمِ الْخُرُوجِ شَرْعًا، وَيَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الصُّنْعِ، وَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا

ص: 334

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْفِطْرِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَكَذَا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَذَّى بِهِ عَادَةً، إنْ أَعَادَهُ فَسَدَ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَتَتَحَقَّقُ صُورَةُ الْفِطْرِ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَعَادَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي الْإِدْخَالِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ فِي الْإِدْخَالِ (فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا مِلْءَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِمَا رَوَيْنَا وَالْقِيَاسُ مَتْرُوكٌ بِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لَا يَفْسُدُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ حُكْمًا ثُمَّ إنْ عَادَ لَمْ يَفْسُدْ عِنْدَهُ لِعَدَمِ سَبْقِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَعَنْهُ: أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِمَا ذَكَرْنَا،

وَخَرَجَ إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رَوَيْنَا وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَفْرِيعُ الْعَوْدِ وَالْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِمُجَرَّدِ الْقَيْءِ قَبْلَهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ أَفْطَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَاهُ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ التَّفْرِيعُ أَيْضًا عِنْدَهُ، وَلَا يُفْطِرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

لَكِنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي، ثُمَّ إنْ عَادَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَتَحَقَّقُ الدُّخُولُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يُفْطِرُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ. وَفِي رِوَايَةٍ يُفْطِرُ لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ، وَزُفَرُ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي أَنَّ قَلِيلَهُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ جَرْيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِقَلِيلِهِ (قَوْلُهُ: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ) ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّحِيحُ (قَوْلُهُ عَادَةً) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَغَذَّى بِهِ فَإِنَّهُ بِحَسَبِ الْأَصْلِ مَطْعُومٌ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْمَعِدَةِ يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي، بِخِلَافِ الْحَصَى وَنَحْوِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ فِيهِ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحِلِّ وَنُفُورِ الطَّبْعِ (قَوْلُهُ: فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْمُصَحَّحُ (قَوْلُهُ فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا) قَيَّدَ بِهِ لِيُخْرِجَ مَا إذَا اسْتَقَى نَاسِيًا لِصَوْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ (قَوْلُهُ: وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَفْسُدُ) صَحَّحَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ، وَعَلِمْت أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْقَيْءُ طَعَامًا أَوْ مَاءً أَوْ مُرَّةً، فَإِنْ كَانَ بَلْغَمًا غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ إذَا مَلَأَ الْفَمَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ إنَّهُ نَاقِضٌ. وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمَا بِخِلَافِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ إنَّمَا نِيطَ بِمَا يَدْخُلُ أَوْ بِالْقَيْءِ عَمْدًا، إمَّا نَظَرًا إلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَادَةً دُخُولَ شَيْءٍ أَوْ لَا بِاعْتِبَارِهِ بَلْ ابْتِدَاءِ شَرْعِ تَفْطِيرِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ تَحَقُّقَ كَوْنِهِ خَارِجًا نَجَسًا أَوْ طَاهِرًا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَلْغَمِ وَغَيْرِهِ حِينَئِذٍ، بِخِلَافِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ، وَلَوْ اسْتَقَاءَ مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ مِلْءَ فِيهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ أَوْ غَدْوَةٍ ثُمَّ نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ عَشِيَّةٍ لَا يَلْزَمُهُ، كَذَا

ص: 335

وَعَنْهُ: أَنَّهُ يَفْسُدُ فَأَلْحَقَهُ بِمِلْءِ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ.

قَالَ: (وَمَنْ ابْتَلَعَ الْحَصَاةَ أَوْ الْحَدِيدَ أَفْطَرَ) لِوُجُودِ صُورَةِ الْفِطْرِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِعَدَمِ الْمَعْنَى.

(وَمَنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) اسْتِدْرَاكًا لِلْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ (وَالْكَفَّارَةُ) لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ فِي الْمَحَلَّيْنِ

نَقَلَ مِنْ خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ.

(قَوْلُهُ: لِعَدَمِ الْمَعْنَى) أَيْ مَعْنَى الْفِطْرِ وَهُوَ إيصَالُ مَا فِيهِ نَفْعُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ فَقَصُرَتْ الْجِنَايَةُ فَانْتَفَتْ الْكَفَّارَةُ، وَكُلُّ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى بِهِ عَادَةً كَالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ، كَذَلِكَ لَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَلَا تَجِبُ فِي الدَّقِيقِ وَالْأُرْزِ وَالْعَجِينِ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَلَا فِي الْمِلْحِ إلَّا إذَا اعْتَادَ أَكْلَهُ وَحْدَهُ. وَقِيلَ: تَجِبُ فِي قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ، وَلَا فِي النَّوَاةِ وَالْقُطْنِ وَالْكَاغِدِ وَالسَّفَرْجَلِ إذَا لَمْ يُدْرِكْ، وَلَا هُوَ مَطْبُوخٌ. وَلَا فِي ابْتِلَاعِ الْجَوْزَةِ الرَّطْبَةِ، وَتَجِبُ لَوْ مَضَغَهَا وَبَلَعَ الْيَابِسَةَ وَمَضَغَهَا عَلَى هَذَا، وَكَذَا يَابِسُ اللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ. وَقِيلَ: هَذَا إنْ وَصَلَ الْقِشْرُ أَوَّلًا إلَى حَلْقِهِ، أَمَّا إذَا وَصَلَ اللُّبُّ أَوَّلًا كَفَّرَ، وَفِي ابْتِلَاعِ اللَّوْزَةِ الرَّطْبَةِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا تُؤْكَلُ كَمَا هِيَ، بِخِلَافِ الْجَوْزَةِ فَلِذَا افْتَرَقَا، وَابْتِلَاعُ التُّفَّاحَةِ كَاللَّوْزَةِ وَالرُّمَّانَةِ وَالْبَيْضَةِ كَالْجَوْزَةِ. وَفِي ابْتِلَاعِ الْبِطِّيخَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْخَوْخَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالهَلَيْلَجَةِ. رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ، وَتَجِبُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ النِّيءِ، وَإِنْ كَانَ مَيْتَهً مُنْتِنًا إلَّا إنْ دَوَّدَ فَلَا تَجِبُ. وَاخْتُلِفَ فِي الشَّحْمِ، وَاخْتَارَ أَبُو اللَّيْثِ الْوُجُوبَ، فَإِنْ كَانَ قَدِيدًا وَجَبَتْ بِلَا خِلَافٍ، وَتَجِبُ بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ وَقَضْمِهَا لَا إنْ مَضَغَ قَمْحَةً لِلتَّلَاشِي وَتَجِبُ بِالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ وَبِغَيْرِهِ عَلَى مَنْ يَعْتَادُ أَكْلَهُ كَالْمُسَمَّى بِالطِّفْلِ لَا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ، وَلَا بِأَكْلِ الدَّمِ إلَّا عَلَى رِوَايَةٍ، وَلَوْ مَضَغَ لُقْمَةً نَاسِيًا فَتَذَكَّرَ فَابْتَلَعَهَا قِيلَ تَجِبُ، وَقِيلَ لَا، وَقِيلَ، إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا إلَّا إنْ أَخْرَجَهَا ثُمَّ ابْتَلَعَهَا، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. وَصَحَّحَهُ أَبُو اللَّيْثِ لِأَنَّهَا بَعْدَ إخْرَاجِهَا تُعَافُ وَقَبْلَهُ تُلَذُّ، وَقِيلَ إنْ كَانَتْ سُخْنَةً بَعْدُ فَعَلَيْهِ لَا إنْ تَرَكَهَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ حَتَّى بَرَدَتْ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تُعَافُ لَا قَبْلَهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ عِنْدَ الْكُلِّ فِي السُّقُوطِ الْعِيَافَةُ غَيْرَ أَنَّ كُلًّا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ الِاسْتِكْرَاهَ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ كَذَا لَا كَذَا.

(قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اسْتِدْرَاكًا لِلْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ وَالْكَفَّارَةِ) فَلَوْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فَصَامَ أَحَدًا وَسِتِّينَ يَوْمًا عَنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ يَوْمِ الْقَضَاءِ مِنْهَا قَالُوا يُجْزِئُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَفِي تَصْوِيرِهِ عِنْدِي ضَرْبُ إشْكَالٍ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ، فَإِذَا كَانَ الْوَاقِعُ نِيَّتَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ بِالتَّرْجِيحِ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا إذَا نَوَى الْقَضَاءَ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُمَا يُرَجِّحَانِ فِي مِثْلِهِ وَرَجَّحَا فِي هَذِهِ الْقَضَاءَ بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنَّهَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حَقِّ نَفْسِهِ فَيُرَجَّحُ الْقَضَاءُ هُنَا عَلَى كَفَّارَةِ الْفِطْرِ بِقُوَّةِ ثُبُوتِهِ وَلُزُومِهِ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَقَعُ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ عَنْ الْقَضَاءِ وَمَا بَعْدَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ فَيَلْغُوا جَمْعُ الْقَضَاءِ مَعَ الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ نِيَّةَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَهَكَذَا، أَوْ فِي

ص: 336

اعْتِبَارًا بِالِاغْتِسَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ يَتَحَقَّقُ دُونَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شِبَعٌ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ لَا تَجِبُ

الْأَخِيرِ فَقَطْ تَعَيَّنَ الْأَخِيرُ لِلْقَضَاءِ لِلَغْوِ جَمْعِ الْكَفَّارَةِ إذْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ تَعَيَّنَ الْيَوْمُ الَّذِي نَوَى كَذَلِكَ لِلْقَضَاءِ، وَبَطَلَ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ فِي الْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ. وَلَوْ جَامَعَ مِرَارًا فِي أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَتَكَرَّرُ فِي الْكُلِّ لِتَكَرُّرِ السَّبَبِ، وَلَنَا إطْلَاقُ جَوَابِهِ عليه الصلاة والسلام لِلْأَعْرَابِيِّ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ " وَقَعْت عَلَى امْرَأَتِي " يَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ وَالْكَثْرَةَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِهَا بِالْعَمْدِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الزَّجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأَوَّلِ، وَلَوْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي آخَرَ فَأَعْتَقَ ثُمَّ فِي آخَرَ فَأَعْتَقَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَجْزِيهِ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الثَّالِثَةُ فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَا يُجْزِي عَمَّا تَأَخَّرَ.

وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ أَيْضًا فَعَلَيْهِ وَاحِدَةٌ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى أَيْضًا فَكَذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِالِاسْتِحْقَاقِ يُلْتَحَقُ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ أَعْتَقَ وَاحِدَةً لِلثَّالِثَةِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَفَتْ عَنْ الْأُولَى، وَالْأَصْلُ أَنَّ الثَّانِيَ يَجْزِي عَمَّا قَبْلَهُ لَا عَمَّا بَعْدَهُ، وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ مُقِيمٌ بَعْدَ النِّيَّةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ فِي يَوْمِهِ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ، وَلَوْ مَرِضَ فِيهِ سَقَطَتْ لِأَنَّ الْمَرَضَ مَعْنًى يُوجِبُ تَغَيُّرَ الطَّبِيعَةِ إلَى الْفَسَادِ وَيَحْدُثُ أَوَّلًا فِي الْبَاطِنِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَلَمَّا مَرِضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ الْمُرَخِّصُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْفِطْرِ فَمَنَعَ انْعِقَادَهُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ.

أَوْ نَقُولُ: وُجُودُ أَصْلِهِ شُبْهَةٌ، وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَهَا، أَمَّا السَّفَرُ فَبِنَفْسِ الْخُرُوجِ الْمَخْصُوصِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ فَلَمْ يَظْهَرْ الْمَانِعُ حَالَ الْفِطْرِ، وَلَوْ أَفْطَرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي الرَّحِمِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَتَهَيَّأَ لِلْبُرُوزِ فَلَمَّا بَرَزَ مِنْ يَوْمِهِ ظَهَرَ تَهَيُّؤُهُ وَيَجِبُ الْفِطْرُ، أَوْ تَهَيُّؤُ أَصْلِهِ فَيُوَرِّثُ الشُّبْهَةَ، وَلَوْ سَافَرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُكْرَهًا لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَمَرِضَ مَرَضًا مُرَخِّصًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ، وَالْمُخْتَارُ لَا تَسْقُطُ لِأَنَّ الْمَرَضَ مِنْ الْجُرْحِ، وَأَنَّهُ وُجِدَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ شِبَعٌ) أَفَادَ تَكَامُلَ الْجِنَايَةِ قَبْلَهُ فَبِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ حَصَلَ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْفَرْجِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْإِنْزَالِ شِبَعٌ أَكْمَلُ، وَلَا

ص: 337

الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ اعْتِبَارًا بِالْحَدِّ عِنْدَهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَجِبُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَكَامِلَةٌ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ (وَلَوْ جَامَعَ مَيْتَةً أَوْ بَهِيمَةً فَلَا كَفَّارَةَ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَكَامُلُهَا بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى وَلَمْ يُوجَدْ، ثُمَّ عِنْدَنَا كَمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوِقَاعِ عَلَى الرَّجُلِ تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي قَوْلٍ: لَا تَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ وَهُوَ فِعْلُهُ وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَفِي قَوْلٍ: تَجِبُ، وَيَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ عَنْهَا اعْتِبَارًا بِمَاءِ الِاغْتِسَالِ. وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَكَلِمَةُ مَنْ تَنْتَظِمُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةُ الْإِفْسَادِ لَا نَفْسُ الْوِقَاعِ وَقَدْ شَارَكْته فِيهَا وَلَا يَتَحَمَّلُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهَا التَّحَمُّلُ.

(وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يَتَغَذَّى بِهِ أَوْ يَتَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ)

تَتَوَقَّفُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ كَمَا بِالْأَكْلِ تَجِبُ بِلُقْمَةٍ لَا بِالشِّبَعِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِطْ الْإِنْزَالَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَهُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَأَنْ لَا يَشْتَرِطَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَفِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ الَّتِي يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا أَوْلَى فَعَدَمُ الِاشْتِرَاطِ عَلَى هَذَا ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ نَصِّ الْحَدِّ (قَوْلُهُ: تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ) لَوْ قَالَ: عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَانَ أَفْيَدَ إذْ يَدْخُلُ الْمُلَاطُ بِهِ طَائِعًا، وَفِي الْكَافِي: إنْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ كَامِلًا حَتَّى لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَلَا شُبْهَةَ فِي جَانِبِ الْمَفْعُولِ بِهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ.

وَعَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَكَامِلَةٌ، وَإِنَّمَا ادَّعَى أَبُو حَنِيفَةَ النُّقْصَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْفِرَاشَ وَلَا عِبْرَةَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهِ.

(قَوْلُهُ وَفِي قَوْلٍ يَتَحَمَّلُ) يَعْنِي إذَا كَفَّرَ بِالْمَالِ (قَوْلُهُ: وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ») اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.

وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْإِفْطَارِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ وَاقِعَةِ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجِبُ

ص: 338

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي الْوِقَاعِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ،

كَوْنُ ذَلِكَ الْمُفْطِرِ. بِأَمْرٍ خَاصٍّ لَا بِالْأَعَمِّ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ أَنَّهُ بِالْجِمَاعِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلَا مُتَمَسِّكَ بِهِ لِأَحَدٍ، بَلْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ جِمَاعُ الرَّجُلِ وَهُوَ السَّائِلُ لِمَجِيئِهِ مُفَسَّرًا كَذَلِكَ بِرِوَايَةٍ مِنْ نَحْوِ عِشْرِينَ رَجُلًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

قُلْنَا: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ تَعْلِيقُهَا بِالْإِفْطَارِ فِي عِبَارَةِ الرَّاوِي أَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ، إذْ أَفَادَ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ خُصُوصِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُشَاهِدُهَا فِي قَضَائِهِ عليه الصلاة والسلام، أَوْ سَمِعَ مَا يُفِيدُ أَنَّ إيجَابَهَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إفْطَارٌ لَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ الْإِفْطَارِ فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِي أُصُولِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا نَقَلَ الرَّاوِي بِلَفْظٍ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فَإِنَّهُمْ اخْتَارُوا اعْتِبَارَهُ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ الرَّاوِي قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فَهَذَا مِثْلُهُ بِلَا تَفَاوُتٍ لِمَنْ تَأَمَّلَ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَيْهَا إذَا طَاوَعَتْهُ فَالْكَفَّارَةُ أَوْلَى عَلَى نَظِيرِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَتَكُونُ ثَابِتَةً بِدَلَالَةِ نَصِّ حَدِّهَا.

(قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ) مَأْخُوذٌ ذَلِكَ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ «مَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ» الْحَدِيثَ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْتِقَ» الْحَدِيثَ وَأَعَلَّهُ بِأَبِي مَعْشَرٍ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْعِلَلِ فِي حَدِيثِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْتَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا» الْحَدِيثَ وَهَذَا مُرْسَلُ سَعِيدٍ، وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ لِلْمُرْسَلِ، وَعِنْدَنَا هُوَ حُجَّةٌ مُطْلَقًا.

وَأَيْضًا دَلَالَةُ نَصِّ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ تُفِيدُهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ عَلِمَ اسْتِوَاءَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ الْكَفُّ عَنْ كُلِّهَا، ثُمَّ عَلِمَ لُزُومَ عُقُوبَةٍ عَلَى مَنْ فَوَّتَ الْكَفَّ عَنْ بَعْضِهَا جَزَمَ بِلُزُومِهَا عَلَى مَنْ فَوَّتَ الْكَفَّ عَنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ

ص: 339

وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ تَكْفِيرًا عُرِفَ أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ.

ثُمَّ قَالَ (وَالْكَفَّارَةُ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِحَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ. فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتَ. قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَعْتِقْ رَقَبَةً. فَقَالَ: لَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ، فَقَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَقَالَ: وَهَلْ جَاءَنِي مَا جَاءَنِي إلَّا مِنْ الصَّوْمِ فَقَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. فَقَالَ: لَا أَجِدُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْتَى بِفَرْقٍ مِنْ تَمْرٍ. وَيُرْوَى بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَقَالَ: فَرِّقْهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي، فَقَالَ: كُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ، يَجْزِيكَ وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ»، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ يُخَيَّرُ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ وَعَلَى مَالِكٍ فِي نَفْيِ التَّتَابُعِ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ.

حُكْمًا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ، أَعْنِي بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمَيْنِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ الثَّالِثُ، وَيَفْهَمُ كُلُّ عَالِمٍ بِهِمَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي لُزُومِهَا تَفْوِيتُ الرُّكْنِ لَا خُصُوصُ رُكْنٍ (قَوْلُهُ: وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فِي وَجْهِ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ دَافِعٍ لِكَلَامِهِ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَعْنِي الْقَاعِدَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ فِي الشَّرْعِ.

(قَوْلُهُ: وَلِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ) فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ: لَا، قَالَ اجْلِسْ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ، قَالَ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ، أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ عليه الصلاة والسلام حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ وَفِي لَفْظٍ أَنْيَابُهُ وَفِي لَفْظٍ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد زَادَ الزُّهْرِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا رُخْصَةً لَهُ خَاصَّةً، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ تَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ التَّكْفِيرِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَعَنْ ذَلِكَ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِأَيِّ شَيْءٍ أَفْطَرَ.

قَالَ: لِانْتِسَاخِهِ بِمَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ «كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُكَ» اهـ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَمَا رَفَعَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ «يَجْزِيكَ

ص: 340

(وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِوُجُودِ الْجِمَاعِ مَعْنًى (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً

(وَلَيْسَ فِي إفْسَادِ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ) لِأَنَّ الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ.

(وَمَنْ احْتَقَنَ أَوْ اسْتَعَطَ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ أَفْطَرَ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ»

وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ» فَلَمْ يُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ، وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا لَفْظُ الْفَرْقِ بِالْفَاءِ بَلْ بِالْعَيْنِ. وَهُوَ مِكْتَلٌ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا عَلَى مَا قِيلَ. قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ أَخَّرَ عَنْهُ إلَى الْمَيْسَرَةِ إذْ كَانَ فَقِيرًا فِي الْحَالِ عَاجِزًا عَنْ الصَّوْمِ بَعْدَمَا ذَكَرَ لَهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ. كَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خُصُوصِيَّةٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «فَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْكَ» ، وَلَفْظُ وَأَهْلَكْت لَيْسَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، لَكِنْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ» الْحَدِيثَ.

قَالَ: تَفَرَّدَ أَبُو ثَوْرٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِقَوْلِهِ " وَأَهْلَكْت " وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَفِيهِ " وَأَهْلَكْت ". وَقَالَ: ضَعَّفَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَكَافَّةُ أَصْحَابِ الْأَوْزَاعِيِّ رَوَوْهُ عَنْهُ دُونَهَا. وَاسْتَدَلَّ الْحَاكِمُ عَلَى أَنَّهَا خَطَأٌ بِأَنَّهُ نَظَرَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ تَصْنِيفِ ابْنِ مَنْصُورٍ فَوَجَدَ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثَ دُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَأَنَّ كَافَّةَ أَصْحَابِ سُفْيَانَ رَوَوْهُ دُونَهَا

(قَوْلُهُ وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ) أَرَادَ بِالْفَرْجِ كُلًّا مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ فَمَا دُونَهُ حِينَئِذٍ التَّفْخِيذُ وَالتَّبْطِينُ، وَعَمَلُ الْمَرْأَتَيْنِ أَيْضًا كَعَمَلِ الرِّجَالِ جِمَاعٌ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا قَضَاءَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا إذَا أَنْزَلَتْ، وَلَا كَفَّارَةَ مَعَ الْإِنْزَالِ

(قَوْلُهُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ) فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِهِ إذْ الْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ، وَكَذَا الدَّلَالَةُ لِأَنَّ إفْسَادَ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ فِي مَعْنَى إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ ذَاكَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ لِوُقُوعِهِ فِي شَرَفِ الزَّمَانِ، وَلُزُومُ إفْسَادِ الْحَجِّ النَّفْلِ وَالْقَضَاءِ بِالْجِمَاعِ لَيْسَ إلْحَاقًا بِفَسَادِ الْحَجِّ الْفَرْضِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ ابْتِدَاءً بِعُلُومِ نَصِّ الْقَضَاءِ وَالْإِجْمَاعِ

(قَوْلُهُ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ) سَيُقَيِّدُهُ بِمَا إذَا كَانَ دُهْنًا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ») رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ؛ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ رَزِينٍ الْبَكْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَتْنَا مَوْلَاةٌ لَنَا يُقَالُ لَهَا سَلْمَى مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ «عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ هَلْ مِنْ كِسْرَةٍ؟ فَأَتَيْتُهُ بِقُرْصٍ فَوَضَعَهُ عَلَى فِيهِ، فَقَالَ:

ص: 341

وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ، وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً. (وَلَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ الْمَاءَ أَوْ دَخَّلَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ) لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَهُ الدُّهْنُ (وَلَوْ دَاوَى جَائِفَةً أَوْ آمَّةً بِدَوَاءٍ

يَا عَائِشَةُ هَلْ دَخَلَ بَطْنِي مِنْهُ شَيْءٌ؟ كَذَلِكَ قُبْلَةُ الصَّائِمِ. إنَّمَا الْإِفْطَارُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ» وَلِجَهَالَةِ الْمَوْلَاةِ لَمْ يُثْبِتْهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا عَلَى جَمَاعَةٍ. فَفِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَأَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَقَالَ: إنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ وَالْفِطْرُ فِي الصَّوْمِ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ.

وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ مَخْصُوصًا بِحَدِيثِ الِاسْتِقَاءِ أَوْ الْفِطْرِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعُودُ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ حَتَّى لَا يُحِسَّ بِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ (قَوْلُهُ وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ) قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْفِطْرُ إلَّا بِصُورَتِهِ أَوْ مَعْنَاهُ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّ صُورَتَهُ الِابْتِلَاعُ. وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَاهُ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ فَاقْتَضَى فِيمَا لَوْ طُعِنَ بِرُمْحٍ أَوْ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَبَقِيَ الْحَدِيدُ فِي بَطْنِهِ، أَوْ أَدْخَلَ خَشَبَةً فِي دُبُرِهِ وَغَيَّبَهَا، أَوْ احْتَشَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْفَرْجِ الدَّاخِلِ أَوْ اسْتَنْجَى فَوَصَلَ الْمَاءُ إلَى دَاخِلِ دُبُرِهِ لِمُبَالَغَتِهِ فِيهِ عَدَمُ الْفِطْرِ لِفُقْدَانِ الصُّورَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَالْمَعْنَى وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ مِنْ التَّغْذِيَةِ أَوْ التَّدَاوِي، لَكِنَّ الثَّابِتَ فِي مَسْأَلَتَيْ الطَّعْنَةِ وَالرَّمْيَةِ اخْتِلَافٌ، وَصَحَّحَ عَدَمَ الْإِفْطَارِ جَمَاعَةٌ. وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي ثُبُوتِ الْإِفْطَارِ فِيمَا بَعْدَهُمَا. بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ طَرَفُ الْخَشَبَةِ بِيَدِهِ وَطَرْفُ الْحَشْوَةِ فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ وَالْمَاءُ لَمْ يَصِلْ إلَى كَثِيرِ دَاخِلٍ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ. وَالْحَدُّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ الْفَسَادُ قَدْرُ الْمِحْقَنَةِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ اهـ. نَعَمْ لَوْ خَرَجَ سُرْمُهُ فَغَسَلَهُ ثَبَتَ ذَلِكَ الْوُصُولُ بِلَا اسْتِبْعَادٍ.

فَإِنْ قَامَ قَبْلَ أَنْ يُنَشِّفَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَشَّفَهُ. لِأَنَّ الْمَاءَ اتَّصَلَ بِظَاهِرٍ ثُمَّ زَالَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَاطِنِ بِعَوْدِ الْمَقْعَدَةِ.

لَا يُقَالُ: الْمَاءُ فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ. لِأَنَّا نَقُولُ: ذَكَرُوا أَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى هُنَاكَ يُوَرِّثُ دَاءً عَظِيمًا. لَا يُقَالُ: يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ عَلَى مَاءِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ بِهِ وَتَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ عِنْدَهُ ضَرَرٌ أَحْيَانًا فَيَنْدَفِعُ إشْكَالُ الِاسْتِنْجَاءِ. لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ عَلَّلَ الْمُصَنِّفُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ عَدَمِ الْفَسَادِ فِيمَا إذَا دَخَلَ الْمَاءُ أُذُنَهُ أَوْ أَدْخَلَهُ بِقَوْلِهِ لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ، وَذَلِكَ إفَادَةُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِ دِمَاغِهِ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ مَا ذَكَرْت لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّعْلِيلُ.

وَبَسَطَهُ فِي الْكَافِي فَقَالَ: لِأَنَّ الْمَاءَ يَفْسُدُ بِمُخَالَطَةِ خَلْطٍ دَاخِلِ الْأُذُنِ فَلَمْ يَصِلْ إلَى الدِّمَاغِ شَيْءٌ يَصْلُحُ لَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْفِطْرِ فَلَا يَفْسُدُ، فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الصُّورَةِ بِالْإِدْخَالِ بِصُنْعِهِ كَمَا هُوَ فِي عِبَارَة الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ فِي تَعْلِيلِ مَا اخْتَارَهُ مِنْ ثُبُوتِ الْفَسَادِ إذَا أَدْخَلَ الْمَاءَ أُذُنَهُ لَا إذَا دَخَلَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَمَا إذَا خَاضَ نَهْرًا حَيْثُ قَالَ: إذَا خَاضَ الْمَاءَ فَدَخَلَ أُذُنَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ. وَإِنْ صَبَّ الْمَاءَ فِيهَا اخْتَلَفُوا فِيهِ

ص: 342

فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ أَفْطَرَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَاَلَّذِي يَصِلُ هُوَ الرَّطْبُ، وَقَالَا: لَا يُفْطِرُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالْوُصُولِ لِانْضِمَامِ الْمَنْفَذِ مَرَّةً وَاتِّسَاعِهِ أُخْرَى، كَمَا فِي الْيَابِسِ مِنْ الدَّوَاءِ. وَلَهُ أَنَّ رُطُوبَةَ الدَّوَاءِ تَلَاقِي رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَزْدَادُ مَيْلًا إلَى الْأَسْفَلِ فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ، بِخِلَافِ الْيَابِسِ لِأَنَّهُ يُنَشِّفُ رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَنْسَدُّ فَمُهَا

وَالصَّحِيحُ هُوَ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إلَى الْجَوْفِ بِفِعْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ، كَمَا لَوْ أَدْخَلَ خَشَبَةً وَغَيَّبَهَا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَبِهِ تَنْدَفِعُ الْإِشْكَالَاتُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي الْمَاءِ التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي رحمه الله فَعَلَى هَذَا فَاعْتِبَارُ مَا بِهِ مِنْ الصَّلَاحِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْفِطْرِ إمَّا عَلَى مَعْنَى مَا بِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ فِي السُّؤَالِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ لِتَعْمِيمِ عَدَمِ الْإِفْسَادِ فِي دُخُولِ الْمَاءِ الْأُذُنَ فَيَصِحُّ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِيهِ.

وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَازِمٌ فِيمَا لَوْ احْتَقَنَ بِحُقْنَةٍ ضَارَّةٍ بِخُصُوصِ مَرَضِ الْمُحْتَقِنِ أَوْ أَكَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الشِّبَعِ وَالِامْتِلَاءِ قَرِيبًا مِنْ التُّخَمَةِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُضِرٌّ وَمَعَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ فَضْلًا عَنْ الْقَضَاءِ الْكَفَّارَةُ، وَأَمَّا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِصْلَاحِ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْكَافِي وَالْمُصَنِّفِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ تَعْمِيمُ الْفَسَادِ فِي الْمَاءِ الدَّاخِلِ فِي الْأُذُنِ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ تَعْمِيمُ عَدَمِهِ فِيهِ. وَهَذَا وَلَوْ أَدْخَلَ الْإِصْبَعَ فِي دُبُرِهِ أَوْ فَرْجِهَا الدَّاخِلِ لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَبْلُولَةً بِمَاءٍ أَوْ دُهْنٍ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَالْقَضَاءُ.

(قَوْلُهُ: فَوَصَلَ) أَيْ الدَّوَاءُ (إلَى جَوْفِهِ) يَرْجِعُ إلَى الْجَائِفَةِ لِأَنَّهَا الْجِرَاحَةُ فِي الْبَطْنِ (أَوْ دِمَاغِهِ) يَرْجِعُ إلَى الْآمَّةِ لِأَنَّهَا الْجِرَاحَةُ فِي الرَّأْسِ مِنْ أَمَمْته بِالْعَصَا ضَرَبْت أُمَّ رَأْسِهِ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي هِيَ مَجْمَعُ الرَّأْسِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَحْرِيرَ فِي الْعِبَارَةِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْوُصُولَ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ يَمْتَنِعُ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ، وَإِذًا لَا خِلَافَ فِي الْإِفْطَارِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُصُولِ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا فَقَالَ: يُفْطِرُ لِلْوُصُولِ عَادَةً، وَقَالَا: لَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ فَلَا يُفْطِرُ بِالشَّكِّ، وَهُوَ يَقُولُ: سَبَبُ الْوُصُولِ قَائِمٌ وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْوُصُولِ فَيَحْكُمُ بِهِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ إذْ قَدْ يَخْفَى حَقِيقَةُ الْمُسَبَّبِ بِخِلَافِ الْيَابِسِ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلُ الْوُصُولِ فِيهِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.

وَإِذَا حَقَّقْت هَذَا التَّصْوِيرَ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ مَشَايِخِ بُخَارَى، كَمَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ عِبَارَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ: فَرَّقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْوُصُولِ حَتَّى إذَا عَلِمَ أَنَّ الْيَابِسَ وَصَلَ فَسَدَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الطَّرِيَّ لَمْ يَصِلْ لَمْ يَفْسُدْ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَنَى الْفَسَادَ فِي الرَّطْبِ عَلَى الْوُصُولِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهِ عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ عَدَمَ الْوُصُولِ لَا يَفْسُدُ لِتَحَقُّقِ خِلَافِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالدَّلِيلِ الْأَمَارَةُ وَهِيَ مَا قَدَّمَ يَجْزِمُ بِتَخَلُّفِ مُتَعَلِّقِهَا مَعَ قِيَامِهَا، كَوُقُوفِ بَغْلَةِ الْقَاضِي عَلَى بَابِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي دَارِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَ مُقْتَضَاهُ، فَإِنَّ الظَّنَّ حِينَئِذٍ بِثُبُوتِهِ فَالْقِسْمَانِ اللَّذَانِ ذَكَرُوهُمَا لَا خِلَافَ فِيهِمَا، وَالْحَصْرُ فِيهِمَا مُنْتَفٍ إذْ بَقِيَ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا أَحَدَهُمَا، وَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَأَفْسَدَهُ حُكْمًا بِالْوُصُولِ نَظَرًا إلَى

ص: 343

(وَلَوْ أَقْطَرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفْطِرُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: مُضْطَرِبٌ فِيهِ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَوْفِ مَنْفَذًا، وَلِهَذَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمَثَانَةَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ وَالْبَوْلُ يَتَرَشَّحُ مِنْهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ

(وَمَنْ ذَاقَ شَيْئًا بِفَمِهِ لَمْ يُفْطِرْ) لِعَدَمِ الْفِطْرِ صُورَةً وَمَعْنًى (وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ.

(وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيِّهَا الطَّعَامَ

دَلِيلِهِ وَنَفَيَاهُ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ أَقَطَرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفْطِرُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرَبٌ فِيهِ) وَالْإِفْطَارُ فِي أَقْبَالِ النِّسَاءِ، قَالُوا أَيْضًا هُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسُدُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْحُقْنَةِ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ (قَوْلُهُ: فَكَأَنَّهُ وَقَعَ إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى تَشْرِيحِ هَذَا الْعُضْوِ فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِالْإِفْسَادِ إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى قِيَامِ الْمَنْفَذِ بَيْنَ الْمَثَانَةِ وَالْجَوْفِ، فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ مَا يَقْطُرُ فِيهَا، وَقَوْلُهُ بِعَدَمِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِهِ، وَالْبَوْلُ يَتَرَشَّحُ مِنْ الْجَوْفِ إلَى الْمَثَانَةِ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا، أَوْ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَنْفَذًا مُسْتَقِيمًا أَوْ شِبْهَ الْحَاءِ فَيُتَصَوَّرُ الْخُرُوجُ وَلَا يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ لِعَدَمِ الدَّافِعِ الْمُوجِبِ لَهُ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى إنَاطَةِ الْفَسَادِ بِالْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ. وَيُفِيدُ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ بَلْ هُوَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ لَا يَفْسُدُ، وَبِهِ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْمَثَانَةَ نَفْسَهَا جَوْفًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ مَا دَامَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ وَلَيْسَا بِشَيْءٍ اهـ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ وُصُولِهِ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى جَوْفِ الْمَثَانَةِ، بَلْ يَصِحُّ إنَاطَتُهُ بِالثَّانِي بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَصِلُ إذْ ذَاكَ إلَى الْجَوْفِ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ.

وَمَا نُقِلَ عَنْ خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ فِيمَا إذَا حَشَا ذَكَرَهُ بِقُطْنَةٍ فَغَيَّبَهَا أَنَّهُ يَفْسُدُ كَاحْتِشَائِهَا مِمَّا يَقْضِي بِبُطْلَانِ حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْفَسَادِ فِي الْإِفْطَارِ مَا دَامَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ. وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إلَى التَّعْلِيلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَيْفَ هُوَ بِالْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ وَعَدَمِهِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْمَنْفَذِ أَوْ اسْتِقَامَتِهِ وَعَدَمِهِ، لَكِنْ هَذَا يَقْتَضِي فِي حَشْوِ الدُّبُرِ وَفَرْجِهَا الدَّاخِلِ عَدَمَ الْفَسَادِ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِإِثْبَاتِ أَنَّ الدَّاخِلَ فِيهِمَا تَجْتَذِبُهُ الطَّبِيعَةُ فَلَا يَعُودُ إلَّا مَعَ الْخَارِجِ الْمُعْتَادِ. وَهُوَ فِي الدُّبُرِ مَعْلُومٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِفَتِيلَةِ دَوَاءٍ أَوْ صَابُونَةٍ، غَيْرَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ فِي غَيْرِهِ أَنَّ شَأْنَ الطَّبِيعَةِ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَدْخَلٍ كَالْخَشَبَةِ. أَوْ فِيمَا يَتَدَاوَى بِهِ لِقَبُولِ الطَّبِيعَةِ إيَّاهُ فَتَجْتَذِبُهُ لِحَاجَتِهَا إلَيْهِ. وَفِي الْقُبُلِ ذَكَرْت لَنَا مَنْ تَضَعُ مِثْلَ الْحِمَّصَةِ لِتَسُدَّ بِهَا فِي الدَّاخِلِيِّ تَحَرُّزًا مِنْ الْحَبَلِ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهَا حَتَّى تَخْرُجَ هِيَ بَعْدَ أَيَّامٍ مَعَ الْخَارِجِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ: وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ) قَيَّدَهُ الْحَلْوَانِيُّ بِمَا إذَا كَانَ فِي الْفَرْضِ، أَمَّا فِي النَّفْلِ فَلَا لِأَنَّهُ يُبَاحُ الْفِطْرُ فِيهِ بِعُذْرٍ وَبِلَا عُذْرٍ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، فَالذَّوْقُ أَوْلَى

ص: 344

إذَا كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا بَأْسَ إذَا لَمْ تَجِدْ مِنْهُ بُدًّا) صِيَانَةً لِلْوَلَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا (وَمَضْغُ الْعَلْكِ لَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ) لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ. وَقِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِ بَعْضُ أَجْزَائِهِ. وَقِيلَ: إذَا كَانَ أَسْوَدَ يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُلْتَئِمًا لِأَنَّهُ يَفُتْ (إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ، وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِالْإِفْطَارِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ فِي حَقِّهِنَّ، وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ عَلَى مَا قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ غَلَّةٍ، وَقِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ: بِالنِّسَاءِ.

(وَلَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ وَدَهْنِ الشَّارِبِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ

بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِفْطَارٍ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ إيَّاهُ. وَقِيلَ: لَا بَأْسَ فِي الْفَرْضِ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ زَوْجُهَا سَيِّئَ الْخُلُقِ أَنْ تَذُوقَ الْمَرَقَةَ بِلِسَانِهَا.

(قَوْلُهُ: إذَا كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يَمْضُغْ لَهُ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ وَلَمْ تَجِدْ طَعَامًا لَا يَحْتَاجُ إلَى مَضْغِهِ لَا يُكْرَهُ لَهَا (قَوْلُهُ: لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّهُ تَعْرِيضٌ لِلصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ إذْ قَدْ يَسْبِقُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى الْحَلْقِ، فَإِنَّ مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ. وَفِي الْفَتَاوَى: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَذُوقَ بِلِسَانِهِ الْعَسَلَ أَوْ الدُّهْنَ لِيَعْرِفَ الْجَيِّدَ مِنْ الرَّدِيءِ عِنْدَ الشِّرَاءِ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا) بِأَنْ لَمْ يَمْضُغْهُ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ أَبْيَضَ. وَكَذَا إذَا كَانَ أَسْوَدَ وَإِنْ مَضَغَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ يَتَفَتَّتُ وَإِنْ مُضِغَ وَالْأَبْيَضُ يَتَفَتَّتُ قَبْلَ الْمَضْغِ فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ. وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ عَدَمَ الْفَسَادِ مَعَ مَحْمُولٍ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعَدَمِ الْوُصُولِ. فَإِذَا فَرَضَ فِي بَعْضِ الْعِلْكِ مَعْرِفَةَ الْوُصُولِ مِنْهُ عَادَةً وَجَبَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْفَسَادِ لِأَنَّهُ كَالْمُتَيَقِّنِ (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِلتَّعْرِيضِ عَلَى الْفَسَادِ. وَتُهْمَةِ الْإِفْطَارِ. وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» .

وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إيَّاكَ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ (قَوْلُهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ فِي حَقِّهِنَّ) فَإِنَّ بِنْيَتَهُنَّ ضَعِيفَةٌ قَدْ لَا تَحْتَمِلُ السِّوَاكَ، فَيَخْشَى عَلَى اللِّثَةِ وَالسِّنِّ مِنْهُ. وَهَذَا قَائِمٌ مَقَامَهُ فَيَفْعَلَنهُ (قَوْلُهُ: لَا يُسْتَحَبُّ) أَيْ وَلَا يُكْرَهُ فَهُوَ مُبَاحٌ بِخِلَافِ النِّسَاءِ. فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ سِوَاكُهُنَّ. وَقَوْلُهُ: لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْبِيهِ مِنْ النِّسَاءِ إنَّمَا يُنَاسِبُ التَّعْلِيلَ الْكَرَاهَةُ، وَلِذَا وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَ تَعْلِيلَ الثَّانِي، وَالْأَوْلَى الْكَرَاهَةُ لِلرِّجَالِ إلَّا لِحَاجَةٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ أَعْنِي التَّشْبِيهَ يَقْتَضِيهَا فِي حَقِّهِمْ خَالِيًا عَنْ الْمُعَارِضِ.

(قَوْلُهُ: وَدَهْنُ الشَّارِبِ) بِفَتْحِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَبِضَمِّهَا عَلَى إقَامَةِ اسْمِ الْعَيْنِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَفِي الْأَمْثِلَةِ: عَجِبْت مِنْ دُهْنِك

ص: 345

ارْتِفَاقٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ، وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَإِلَى

لِحْيَتَك بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِ التَّاءِ عَلَى هَذِهِ الْإِقَامَةِ (قَوْلُهُ: نَدَبَ النَّبِيُّ إلَى الِاكْتِحَالِ إلَخْ) أَمَّا نَدْبُهُ إلَى صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُبْدَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّوْمِ أَحَادِيثَ، وَأَمَّا نَدْبُهُ إلَى الْكُحْلِ فِيهِ فَفِي حَدِيثَيْنِ رَوَى أَحَدَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «مَنْ اكْتَحَلَ بِالْإِثْمِدِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرَ رَمَدًا أَبَدًا» وَضَعَّفَهُ بِجُوَيْبِرٍ وَالضَّحَّاكُ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ تَرْمَدْ عَيْنُهُ تِلْكَ السَّنَةَ» وَقَالَ: فِي رِجَالِهِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى التَّغْفِيلِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي عَاتِكَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اشْتَكَتْ عَيْنِي أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ نَعَمْ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ وَأَبُو عَاتِكَةَ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ بَقِيَّةَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «اكْتَحَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ» وَظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الزُّبَيْدِيَّ فِي مُسْنَدِ ابْنِ مَاجَهْ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الثِّقَةُ الثَّبْتُ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الزُّبَيْدِيُّ الْحِمْصِيُّ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي مُسْنَدِ الْبَيْهَقِيّ، وَلَكِنَّ الرَّاوِيَ دَلَّسَهُ، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: لَيْسَ هُوَ بِمَجْهُولٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ بَلْ هُوَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الزُّبَيْدِيُّ الْحِمْصِيُّ وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَلَكِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ. وَابْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ فَرَّقَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَهُمَا وَاحِدٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْتَحِلُ وَهُوَ صَائِمٌ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَاذٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّهُ كَانَ يَكْتَحِلُ، وَهُوَ صَائِمٌ " قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: إسْنَادُهُ مُقَارِبٌ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ عُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ الضَّبِّيُّ: أَبُو مُعَاذٍ الْبَصْرِيُّ صَالِحُ الْحَدِيثِ، فَهَذِهِ عِدَّةُ طُرُقٍ إنْ لَمْ يُحْتَجَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَالْمَجْمُوعُ يَحْتَجُّ بِهِ لِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ، وَأَمَّا مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَوْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَالَ: لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» فَقَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.

قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَمَعْبَدٌ وَابْنُهُ النُّعْمَانُ كَالْمَجْهُولَيْنِ إذْ لَا يُعْرَفُ لَهُمَا غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: ابْنُ مَعِينٍ ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ

ص: 346

الصَّوْمِ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِالِاكْتِحَالِ لِلرِّجَالِ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّدَاوِي دُونَ الزِّينَةِ، وَيُسْتَحْسَنُ دَهْنُ الشَّارِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الزِّينَةُ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْخِضَابِ، وَلَا يُفْعَلُ لِتَطْوِيلِ اللِّحْيَةِ إذَا كَانَتْ بِقَدْرِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْقُبْضَةُ.

كَلَامَيْهِمَا إذْ الصِّدْقُ لَا يَنْفِي سَائِرَ وُجُوهِ الضَّعْفِ (قَوْلُهُ: دُونَ الزِّينَةِ) لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ ثُمَّ قَيَّدَ دُهْنَ الشَّارِبِ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ، وَفِي الْكَافِي: يُسْتَحَبُّ دَهْنُ شَعْرِ الْوَجْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الزِّينَةُ بِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ فَقَيَّدَ بِانْتِفَاءِ هَذَا الْقَصْدِ، فَكَأَنَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ تَبَرُّجٌ بِالزِّينَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ عَشْرَ خِلَالٍ ذَكَرَ مِنْهَا التَّبَرُّجَ بِالزِّينَةِ لِغَيْرِ مَحَلِّهَا» وَسَنُورِدُهُ بِتَمَامِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ.

وَمَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ «أَبِي قَتَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ لِي جَمَّةً أَفَأُرَجِّلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَكْرِمْهَا» فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَنَهَا فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَعَمْ، وَأَكْرِمْهَا» فَإِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي قَصْدِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا لِحَظِّ النَّفْسِ الطَّالِبَةِ لِلزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِكْرَامَ وَالْجَمَالَ الْمَطْلُوبَ يَتَحَقَّقُ مَعَ دُونِ هَذَا الْمِقْدَارِ، وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ عُبَيْدٌ قَالَ:«إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْإِرْفَاهِ» فَسُئِلَ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ الْإِرْفَاهِ قَالَ: التَّرْجِيلُ، وَالْمُرَادُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّرْجِيلُ الزَّائِدُ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى حَدِّ الزِّينَةِ لَا مَا كَانَ لِقَصْدِ دَفْعِ أَذَى الشَّعْرِ وَالشُّعْثِ، هَذَا وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ قَصْدِ الْجَمَالِ، وَقَصْدِ الزِّينَةِ، فَالْقَصْدُ الْأَوَّلُ لِدَفْعِ الشَّيْنِ وَإِقَامَةِ مَا بِهِ الْوَقَارُ وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ شُكْرًا لَا فَخْرًا، وَهُوَ أَثَرُ أَدَبِ النَّفْسِ وَشَهَامَتِهَا، وَالثَّانِي أَثَرُ ضَعْفِهَا، وَقَالُوا: بِالْخِضَابِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ الزِّينَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ حَصَلَتْ زِينَةٌ فَقَدْ حَصَلَتْ فِي ضِمْنِ قَصْدِهِ مَطْلُوبٌ فَلَا يَضُرُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَفِتًا إلَيْهِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الْقَدْرُ الْمَسْنُونُ فِي اللِّحْيَةِ (الْقُبْضَةُ) بِضَمِّ الْقَافِ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَجِبُ قَطْعُهُ هَكَذَا عَنْ «رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ اللِّحْيَةِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا» أَوْرَدَهُ أَبُو عِيسَى يَعْنِي التِّرْمِذِيَّ فِي جَامِعِهِ، رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.

فَإِنْ قُلْتَ: يُعَارِضُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحْيَةَ» فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْفَاضِلَ عَنْ الْقُبْضَةِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " أَنَّهُ كَانَ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ ثُمَّ يَقُصُّ مَا تَحْتَ الْقُبْضَةِ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ الْمُقَنَّعِ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيَقْطَعُ مَا زَادَ عَلَى الْكَفِّ وَقَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَفْطَرَ قَالَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فَقَالَ: " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه إذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ " وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَيْضًا أَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَيُّوبَ مِنْ وَلَدِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ " كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ

ص: 347

(وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ لِلصَّائِمِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» مِنْ خَيْرِ فَصْلٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَثَرِ الْمَحْمُودِ، وَهُوَ الْخُلُوفُ فَشَابَهُ دَمَ الشَّهِيدِ.

فَيَأْخُذُ مَا فَضَلَ عَنْ الْقُبْضَةِ " فَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ إنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّسْخِ كَمَا هُوَ أَصْلُنَا فِي عَمَلِ الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ الرَّاوِي.

وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ الْإِعْفَاءُ عَلَى إعْفَائِهَا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ غَالِبَهَا أَوْ كُلَّهَا، كَمَا هُوَ فِعْلُ مَجُوسِ الْأَعَاجِمِ مِنْ حَلْقِ لِحَاهُمْ كَمَا يُشَاهَدُ فِي الْهُنُودِ وَبَعْضِ أَجْنَاسِ الْفِرِنْجِ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَيُؤَيِّدُ إرَادَةَ هَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام:«جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ» فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ. وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْهَا وَهِيَ دُونَ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ وَمُخَنَّثَةُ الرِّجَالِ فَلَمْ يُبِحْهُ أَحَدٌ

(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ) يَعْنِي لِلصَّائِمِ سَوَاءً كَانَتْ رُطُوبَتُهُ بِالْمَاءِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ أَخْضَرَ بَعْدُ. (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ) اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى، فَالْحَدِيثُ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ وَلَا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ، فَإِنَّ الصَّائِمَ إذَا يَبِسَتْ شَفَتَاهُ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَفِي الطَّرِيقَيْنِ كَيْسَانُ أَبُو عُمَرَ الْقَصَّابُ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ كَيْسَانَ أَبِي عُمَرَ فَقَالَ: ضَعِيف الْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ فِي الْمِيزَانِ وَذَكَرَ حَدِيثَهُ هَذَا فِيهِ.

وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ: إزَالَةُ الْخَلُوفِ الْمَحْمُودِ إلَخْ.

وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مِنْ خَيْرِ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَفِيهِ مُجَالِدٌ ضَعَّفَهُ كَثِيرٌ وَلَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَنَا أَيْضًا عُمُومُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عَنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» إذْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كُلِّ صَلَاةٍ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ لِلصَّائِمِ وَالْمُفْطِرِ، وَفِي رِوَايَةِ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهَا الْحَاكِمُ، وَعَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ «عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ» فَيَعُمُّ وُضُوءُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ.

وَلَنَا أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ» فَهَذِهِ النَّكِرَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْإِثْبَاتِ تَعُمُّ لِوَصْفِهَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فَيَصْدُقُ عَلَى عَصْرِ الصَّائِمِ إذَا اسْتَاكَ فِيهِ أَنَّهَا صَلَاةٌ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى عَصْرِ الْمُفْطِرِ، فَهَذِهِ خَالِيَةٌ عَنْ الْمُعَارِضِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ لَا يَقُومُ حُجَّةً، أَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ مَعَ شُذُوذِهِ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا يَسْتَلْزِمُ كَرَاهَةَ الِاسْتِيَاكِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ يُزِيلُ الْخَلُوفَ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ إنَّمَا يُزِيلُ أَثَرُهُ الظَّاهِرُ عَلَى السِّنِّ مِنْ الِاصْفِرَار

ص: 348

قُلْنَا: هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ اللَّائِقُ بِهِ الْإِخْفَاءُ. بِخِلَافِ دَمِ الشَّهِيدِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الظُّلْمِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ الْأَخْضَرِ وَبَيْنَ الْمَبْلُولِ بِالْمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا.

وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَهُ خُلُوُّ الْمَعِدَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالسِّوَاكِ لَا يُفِيدُ شَغْلُهَا بِطَعَامٍ لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ، وَلِهَذَا رَوَى عَنْ مُعَاذٍ مِثْلَ مَا قُلْنَا. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيّ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ " سَأَلْت مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ: أَتَسَوَّكُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْت: أَيُّ النَّهَارِ أَتَسَوَّكُ؟ قَالَ: أَيُّ النَّهَارِ شِئْت غَدْوَةً وَعَشِيَّةً، قُلْت: إنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَهُ عَشِيَّةً، وَيَقُولُونَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» ، فَقَالَ: سُبْحَانُ اللَّهِ لَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالسِّوَاكِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ بِفِي الصَّائِمِ خُلُوفٌ وَإِنْ اسْتَاك، وَمَا كَانَ بِاَلَّذِي يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُنْتِنُوا أَفْوَاهَهُمْ عَمْدًا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَيْرِ بَلْ فِيهِ شَيْءٌ، لَا مَنْ ابْتَلَى بِبَلَاءٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا " قَالَ: وَكَذَا الْغُبَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» إنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ مَنْ اضْطَرَّهُ إلَيْهِ وَلَمْ يَجِدْ عَنْهُ مَحِيصًا.

فَأَمَّا مَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَلَاءِ عَمْدًا فَمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ قِيلَ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَيْضًا مَنْ تَكَلَّفَ الدَّوَرَانَ تَكْثِيرًا لِلْمَشْيِ إلَى الْمَسَاجِدِ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ» وَمَنْ تَصَنَّعَ فِي طُلُوعِ الشَّيْبِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ» إنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِمَا مَنْ بُلِيَ بِهِمَا، وَفِي الْمَطْلُوبِ أَيْضًا أَحَادِيثُ مُضَعَّفَةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا شَيْئًا لِلِاسْتِشْهَادِ وَالتَّقْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ فِي الْإِثْبَاتِ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْخُوَارِزْمِيَّ قَالَ: سَأَلْت عَاصِمًا الْأَحْوَلَ أَيَسْتَاكُ الصَّائِمُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَرَاهُ أَشَدَّ رُطُوبَةً مِنْ الْمَاءِ؟ قُلْت: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْت: عَمَّنْ رَحِمَك اللَّهُ؟ قَالَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُوَارِزْمِيَّ. وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ عَاصِمٍ بِالْمَنَاكِيرِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ آخِرَ النَّهَارِ وَهُوَ صَائِمٌ» وَأَعَلَّهُ بِأَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَرَفْعُهُ بَاطِلٌ. وَالصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ قُلْنَا كَفَى ثُبُوتُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَعَ تَعَدُّدِ الضَّعِيفِ فِيهِ مَعَ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

[فُرُوعٌ] صَوْمُ سِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَرَاهَتُهُ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا، وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: الْأَفْضَلُ وَصْلُهَا بِيَوْمِ الْفِطْرِ، وَقِيلَ: بَلْ تَفْرِيقُهَا فِي الشَّهْرِ. وَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَلَمْ يَلْزَمْ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى اعْتِقَادِ لُزُومِهَا مِنْ الْعَوَامّ لِكَثْرَةِ الْمُدَاوَمَةِ، وَلِذَا سَمِعْنَا مَنْ يَقُولُ يَوْمَ الْفِطْرِ: نَحْنُ إلَى الْآنَ لَمْ يَأْتِ عِيدُنَا أَوْ نَحْوَهُ، فَأَمَّا عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ أَيَّامٍ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهَا، فَإِنْ وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ

ص: 349

فَصْلٌ

(وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي رَمَضَانَ فَخَافَ إنْ صَامَ ازْدَادَ مَرَضُهُ أَفْطَرَ وَقَضَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يُفْطِرُ،

وَمَنْ صَامَ شَعْبَانَ وَوَصَلَهُ بِرَمَضَانَ فَحَسَنٌ. وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ أَيَّامِ الْبِيضِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مَا لَمْ يُظَنَّ إلْحَاقُهُ بِالْوَاجِبِ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا. فَإِنْ أَفْرَدَهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلتَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ.

وَالْحَاجُّ إنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ الْوُقُوفِ وَالدَّعَوَاتِ فَالْمُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ، وَقِيلَ يُكْرَهُ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لِأَنَّهُ لِإِخْلَالِهِ بِالْأَهَمِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُسِيءَ خُلُقَهُ فَيُوقِعَهُ فِي مَحْظُورٍ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، لِأَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَسَيَأْتِي صَوْمُ الْمُسَافِرِ. وَيُكْرَهُ صَوْمُ الصَّمْتِ وَهُوَ أَنْ يَصُومَ وَلَا يَتَكَلَّمَ يَعْنِي يَلْتَزِمُ عَدَمَ الْكَلَامِ. بَلْ يَتَكَلَّمُ بِخَيْرٍ وَلِحَاجَتِهِ إنْ عَنَّتْ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ الْوِصَالِ وَلَوْ يَوْمَيْنِ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ لِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ أَوْ يَصِيرُ طَبْعًا لَهُ. وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ، وَلَا يَحِلُّ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا» وَلَا بَأْسَ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَلَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ التَّطَوُّعَ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَلَهُ أَنْ يُفَطِّرَهَا، وَكَذَا الْمَمْلُوكُ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّيِّدِ إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا، وَلَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ ضَرَرٌ بِالسَّيِّدِ فِي مَالِهِ، وَكُلُّ صَوْمٍ وَجَبَ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ كَالْمَنْذُورِ وَصِيَامَاتِ الْكَفَّارَاتِ كَالنَّفْلِ إلَّا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ كَمَا سَتَعْلَمُ فِي الظِّهَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(فَصْلٌ) هَذَا الْفَصْلُ فِي الْعَوَارِضِ وَهِيَ حَرِيَّةٌ بِالتَّأْخِيرِ. الْأَعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِلْفِطْرِ: الْمَرَضُ. وَالسَّفَرُ، وَالْحَبَلُ، وَالرَّضَاعُ إذَا أَضَرَّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا، وَالْكِبَرُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ وَالْجُوعُ كَذَلِكَ إذَا خِيفَ مِنْهُمَا الْهَلَاكُ، أَوْ نُقْصَانُ الْعَقْلِ، كَالْأَمَةِ إذَا ضَعُفَتْ عَنْ الْعَمَلِ وَخَشِيَتْ الْهَلَاكَ بِالصَّوْمِ، وَكَذَا الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مُتَوَكِّلُ السُّلْطَانِ إلَى الْعِمَارَةِ فِي الْأَيَّامِ الْحَارَّةِ، وَالْعَمَلُ الْحَثِيثُ إذَا خُشِيَ الْهَلَاكُ أَوْ نُقْصَانُ الْعَقْلِ. وَقَالُوا: الْغَازِي إذَا كَانَ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَخَافُ الضَّعْفَ إنْ لَمْ يُفْطِرْ، يُفْطِرُ قَبْلَ الْحَرْبِ مُسَافِرًا كَانَ

ص: 350

هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا يَعْتَبِرُ فِي التَّيَمُّمِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَامْتِدَادَهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ (وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَسْتَضِرُّ بِالصَّوْمِ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ، وَإِنْ أَفْطَرَ جَازَ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ فَجُعِلَ نَفْسُهُ عُذْرًا، بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخَفَّفُ بِالصَّوْمِ فَشُرِطَ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْحَرَجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْفِطْرُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ فَكَانَ الْأَدَاءُ فِيهِ أَوْلَى، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ (وَإِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا يَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ)

أَوْ مُقِيمًا.

(قَوْلُهُ هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ) الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِهِمْ أَنَّهُ كَقَوْلِنَا. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يُبِيحُ الْفِطْرَ لِكُلِّ مَرِيضٍ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْفِطْرِ لَهُ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَتَحَقُّقُ الْحَرَجِ مَنُوطٌ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ أَوْ إبْطَاءِ الْبُرْءِ أَوْ فَسَادِ عُضْوٍ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْمَرِيضِ، وَالِاجْتِهَادُ غَيْرُ مُجَرَّدِ الْوَهْمِ، بَلْ هُوَ غَلَبَةُ الظَّنِّ عَنْ أَمَارَةٍ أَوْ تَجْرِبَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَقِيلَ عَدَالَتُهُ شَرْطٌ، فَلَوْ بَرِئَ مِنْ الْمَرَضِ لَكِنَّ الضَّعْفَ بَاقٍ وَخَافَ أَنْ يَمْرَضَ سُئِلَ عَنْهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَقَالَ: الْخَوْفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ كَانَ نَوْبَةُ حُمَّى فَأَكَلَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ يَعْنِي فِي يَوْمِ النَّوْبَةِ لَا بَأْسَ بِهِ.

(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ) وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِنَا وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ رحمه الله، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسَنُورِدُهُ. وَقَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَجَعَلَ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ إدْرَاكَ الْعِدَّةِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ السَّبَبِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ) وَالصَّوْمُ فِي أَفْضَلِ وَقْتَيْ الصَّوْمِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ صَوْمِ الْمُقِيمِ فَلَا يُفِيدُ، وَإِنْ مُطْلَقًا مَنَعْنَاهُ، وَنُسْنِدُهُ بِمَا رَوَيْنَا وَتَلَوْنَا قُلْنَا: نَخْتَارُ الثَّانِيَ، وَجْهُهُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى فِي رَمَضَانَ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَا رَوَيْتُمْ مَخْصُوصٌ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا صَائِمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَكَذَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَضَرَّوْا بِهِ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي لَفْظٍ فِيهِ «فَقِيلَ لَهُ إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ» .

وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَفِيهِ «وَكَانَ أَمَرَهُمْ بِالْفِطْرِ فَلَمْ يَقْبَلُوا» وَالْعِبْرَةُ وَإِنْ كَانَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَكِنْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ «حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ فِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ

ص: 351

لِأَنَّهُمَا لَمْ يُدْرِكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ ثُمَّ مَاتَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ بِقَدْرِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ) لِوُجُودِ الْإِدْرَاكِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ. وَفَائِدَتُهُ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ.

جُنَاحٌ؟ قَالَ عليه الصلاة والسلام: هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أَنَسٍ كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ. وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» وَفِيهِ مَا عَنْ «أَبِي الدَّرْدَاءِ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ. حَتَّى إنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ. وَثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ مَا فِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامٌ فِي امْسَفَرِ» وَهَذِهِ لُغَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ يَجْعَلُونَ مَكَانَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْأَلِفَ وَالْمِيمَ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَمَا فِي ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى التَّمِيمِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «صَائِمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْمَدَنِيِّ: حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ أَسْنَدَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَتَابَعَهُ يُونُسُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَلَوْ ثَبَتَ مَرْفُوعًا كَانَ خُرُوجُهُ عليه الصلاة والسلام حِينَ خَرَجَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْفِطْرِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِهِ اهـ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «خَرَجَ عليه الصلاة والسلام عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ» قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَكَذَا قَالَ: يَعْنِي الْبَزَّارَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ غَيْرُ الْبَزَّارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ الْقُرَشِيِّ. يَرْوِي عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ لَا بَأْسَ بِهِ اهـ. وَهَذَا مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ الصَّوْمِ لَا غَيْرُهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ آخِرَ الْأَمْرِ. فَالْحَاصِلُ التَّعَارُضُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَالْجَمْعُ مَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاعْتِبَارِ نَسْخِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ قَاطِعَةٍ فِيهِ. وَالْجَمْعُ بِمَا قُلْنَا مِنْ حَمْلِ مَا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ مَنْ لَمْ يُفْطِرْ إلَى الْعِصْيَانِ وَعَدَمِ الْبِرِّ وَفِطْرِهِ بِالْكَدِيدِ عَلَى عُرُوضِ الْمَشَقَّةِ خُصُوصًا. وَقَدْ وَرَدَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَقْلِ وُقُوعِهَا فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ خُصُوصًا وَأَحَادِيثُ الْجَوَازِ أَقْوَى ثُبُوتًا وَاسْتِقَامَةَ مَجِيءٍ وَأَوْفَقُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فَعَلَّلَ التَّأْخِيرَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ بِإِرَادَةِ الْيُسْرِ، وَالْيُسْرُ أَيْضًا لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْفِطْرِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْيُسْرُ فِي الصَّوْمِ إذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَضِرٍّ بِهِ لِمُوَافَقَةِ النَّاسِ. فَإِنَّ فِي الِائْتِسَاءِ تَخْفِيفًا، وَلِأَنَّ النَّفْسَ تَوَطَّنَتْ عَلَى هَذَا الزَّمَانِ مَا لَمْ تَتَوَطَّنْ عَلَى غَيْرِهِ فَالصَّوْمُ فِيهِ أَيْسَرُ عَلَيْهَا. وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لَيْسَ مَعْنَاهُ يَتَعَيَّنُ

ص: 352

وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ. وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فَيَظْهَرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ.

ذَلِكَ بَلْ الْمَعْنَى فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ، أَوْ الْمَعْنَى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يَحِلُّ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَيْهَا لَا كَمَا ظَنَّهُ أَهْلُ الظَّوَاهِرِ.

(قَوْلُهُ وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ رحمه الله فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إذَا صَحَّ وَأَقَامَ يَوْمًا قَضَاءُ الْكُلِّ فَيَلْزَمُ الْإِيصَاءُ بِالْجَمِيعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَدْرُ مَا صَحَّ وَأَقَامَ، وَالصَّحِيحُ الِاتِّفَاقُ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَدْرُ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي النَّذْرِ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ الْمَرِيضُ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ مَثَلًا فَصَحَّ يَوْمًا، فَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ الْكُلُّ وَالْإِيصَاءُ بِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله قَدْرُ مَا صَحَّ.

وَجْهُ الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكُلِّ فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَحَّ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ، وَالصَّحِيحُ لَوْ قَالَهُ وَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةِ الْمَنْذُورِ لَزِمَهُ الْكُلُّ فَكَذَلِكَ هَذَا بِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ وَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فِي النَّذْرِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ النَّذْرِ بِذَلِكَ غَيْرَ مُوجِبٍ شَيْئًا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ وَإِلَّا لَزِمَ الْكُلُّ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لِتَظْهَرَ فَائِدَتُهُ فِي الْإِيصَاءِ بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ بِالصِّحَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْمُكَلَّفِ مَا أَمْكَنَ وَالنَّذْرُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الصِّحَّةِ فَيَجِبُ الْكُلُّ، ثُمَّ يَعْجِزُ عَنْهُ لِعَدَمِ إدْرَاكِ الْعِدَّةِ فَيَجِبُ الْإِيصَاءُ كَمَا لَوْ لَمْ يُجْعَلْ

ص: 353

(وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُتَابَعَةُ مُسَارَعَةً إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ (وَإِنْ أَخَّرَهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الثَّانِيَ) لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ (وَقَضَى الْأَوَّلَ بَعْدَهُ) لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ (وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ)

مُعَلَّقًا فِي الْمَعْنَى عَلَى مَا قُلْنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ، فَهَلْ الْمُرَادُ أَنَّ إدْرَاكَ الْعِدَّةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ أَوْ الْأَدَاءِ، فَصَرَّحَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ فَقَالَ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ: وَسَبَبُ الْقَضَاءِ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ جَعَلَهُ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ. وَعَلَى ظَاهِرِ الْأَوَّلِ أَنَّ سَبَبَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا اعْتَرَفُوا بِصِحَّتِهِ هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، فَيَكُونُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَيَلْزَمُ عَدَمُ حِلِّ التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ عِدَّةٍ يُدْرِكُهَا، فَإِنْ قَالَ: سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ حُرْمَةَ التَّأْخِيرِ عَنْهُ. قُلْنَا: فَلْيَكُنْ نَفْسُ رَمَضَانَ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ، إذْ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ سِوَى ذَلِكَ اللَّازِمِ، فَإِذَا كَانَ مُنْتَفِيًا لَزِمَ إذْ هُوَ الْأَصْلُ، وَيَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ بِالْكُلِّ إذَا لَمْ يُدْرِكْ الْعِدَّةَ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ.

(قَوْلُهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إنْ أَخَّرَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي رَجُلٍ

ص: 354

لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ.

(وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا) دَفْعًا لِلْحَرَجِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ (وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِيمَا إذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي. وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، وَالْفِطْرَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَالْوَلَدُ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ أَصْلًا.

مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ ثُمَّ صَحَّ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ ثُمَّ يَصُومُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» وَلَنَا إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، فَكَانَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ، غَيْرُ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلْأَوْلَى مِنْ الْمُسَارَعَةِ، وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَفِي سَنَدِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: كَانَ يَكْذِبُ، وَفِيهِ أَيْضًا مَنْ اُتُّهِمَ بِالْوَضْعِ.

(قَوْلُهُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا) يَرُدُّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي مَعْزِيًّا إلَى الذَّخِيرَةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُرْضِعِ الظِّئْرُ لِوُجُوبِ الْإِرْضَاعِ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ الْأُمِّ فَإِنَّ الْأَبَ يَسْتَأْجِرُ غَيْرَهَا، وَكَذَا عِبَارَةُ غَيْرِ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا تُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ لِلْأُمِّ، وَكَذَا إطْلَاقُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنْ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ» وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمِّ دِيَانَةً.

(قَوْلُهُ هُوَ يَعْتَبِرُهُ) أَيْ كُلًّا مِنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ (بِالشَّيْخِ الْفَانِي) فِي حُكْمٍ هُوَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِإِفْطَارِهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ غَيْرَ

ص: 355

(وَالشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَمَا يُطْعِمُ فِي الْكَفَّارَاتِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يُطِيقُونَهُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ يَبْطُلُ حُكْمُ الْفِدَاءِ

أَنَّهُ الْوَلَدُ فِي الْفَرْعِ. قُلْنَا الْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ بِشَرْعِ الْفِدْيَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إذْ لَا مُمَاثَلَةَ تُعْقَلُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ، وَالْإِلْحَاقُ دَلَالَةً مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّ الشَّيْخَ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِالْعُمُومَاتِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْفِدْيَةِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ، وَالطِّفْلُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى أُمِّهِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهَا شَرْعًا إلَى خَلَفٍ غَيْرُ الصَّوْمِ، بَلْ أُجِيزَ لَهَا التَّأْخِيرُ فَقَطْ رَحْمَةً عَلَى الْوَلَدِ إلَى خَلَفٍ هُوَ الصَّوْمُ، بِخِلَافِ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بَلْ أُقِيمَتْ الْفِدْيَةُ مَقَامَ الصِّيَامِ فِي حَقِّهِ. وَحَاصِلُ الدَّفْعِ فِيهِمَا أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عِوَضًا عَنْ الصَّوْمِ لِسُقُوطِهِ بِهَا وَلَا سُقُوطَ فِي الْحَامِلِ.

(قَوْلُهُ وَيُطْعِمُ إلَخْ) وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَجْزًا مُسْتَمِرًّا إلَى الْمَوْتِ، فَكَانَ كَالْمَرِيضِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ، وَالْمُسَافِرُ قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الْآيَةَ.

كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ فَعَلَ، حَتَّى أُنْزِلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا نَسَخَتْهَا. وَلَنَا مَا رَوَى عَطَاءُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه يَقْرَأُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه:" لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَهِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَكَانَ إجْمَاعًا.

وَأَيْضًا لَوْ كَانَ لَكَانَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ " مُقَدَّمًا لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ بَلْ عَنْ سَمَاعٍ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ فِي نَظْمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَعْلُهُ مَنْفِيًّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِسَمَاعٍ

ص: 356

لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ.

(وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَأَوْصَى بِهِ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ

أَلْبَتَّةَ، وَكَثِيرًا مَا يُضْمَرُ حَرْفُ لَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. فِي التَّنْزِيلِ الْكَرِيمِ {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أَيْ لَا تَفْتَأُ وَفِيهِ {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أَيْ أَنْ لَا تَضِلُّوا {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} وَقَالَ الشَّاعِرُ:

فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا

وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْك وَأَوْصَالِي

أَيْ لَا أَبْرَحُ وَقَالَ:

تَنْفَكُّ تَسْمَعُ مَا حَيِيت

بِهَالِكٍ حَتَّى تَكُونَهُ

أَيْ لَا تَنْفَكُّ، وَرِوَايَةُ الْأَفْقَهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} لَيْسَ نَصًّا فِي نَسْخِ إجَازَةِ الِافْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَهَذَا وَلَوْ كَانَ الشَّيْخُ الْفَانِي مُسَافِرًا فَمَاتَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِالْفِدْيَةِ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِي التَّخْفِيفِ لَا فِي التَّغْلِيظِ، فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ إلَى الْفِدْيَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّعْيِينِ، وَلَا تَعْيِينَ عَلَى الْمُسَافِرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِانْتِقَالِ، وَلَا تَجُوزُ الْفِدْيَةُ إلَّا عَنْ صَوْمٍ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَا بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى صَارَ شَيْخًا فَانِيًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ جَازَتْ لَهُ الْفِدْيَةُ، وَكَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْأَبَدِ فَضَعُفَ عَنْ الصَّوْمِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ، وَلِأَنَّهُ اسْتَيْقَنَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى قَضَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِطْعَامِ لِعُسْرَتِهِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَسْتَقِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لِشِدَّةِ الْحَرِّ كَانَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَقْضِيَهُ فِي الشِّتَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ نَذَرَ الْأَبَدَ، وَلَوْ نَذَرَ يَوْمًا مُعَيَّنًا فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى صَارَ فَانِيًا جَازَتْ الْفِدْيَةُ عَنْهُ.

وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ قَتْلٍ فَلَمْ يَجِدْ مَا يُكَفِّرُ بِهِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ عَاجِزٌ عَنْ الصَّوْمِ أَوْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى صَارَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا تَجُوزُ لَهُ الْفِدْيَةُ لِأَنَّ الصَّوْمَ هُنَا بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الصَّوْمِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَمَّا يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، فَإِنْ مَاتَ فَأَوْصَى بِالتَّكْفِيرِ جَازَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَهَذَا وَيَجُوزُ فِي الْفِدْيَةِ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الصَّدَقَةِ فِيهَا، وَالْإِطْعَامِ فِي الْفِدْيَةِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ) أَيْ شَرْطَ وُقُوعِ الْفِدْيَةِ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ دَوَامُ الْعَجْزِ عَنْ الصَّوْمِ، فَخَرَجَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ لَا تَبْطُلُ الصَّلَوَاتُ الْمُؤَدَّاةُ قَبْلُ بِالتَّيَمُّمِ، لِأَنَّ خَلْفِيَّةَ التَّيَمُّمِ مَشْرُوطٌ بِمُجَرَّدِ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ لَا بِقَيْدِ دَوَامِهِ، وَكَذَا خَلْفِيَّةُ الْأَشْهُرِ عَنْ الْأَقْرَاءِ فِي الِاعْتِدَادِ مَشْرُوطٌ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مَعَ سِنِّ الْإِيَاسِ لَا بِشَرْطِ دَوَامِهِ، فَلِذَا يَجِبُ الِاعْتِدَادُ بِالدَّمِ إذَا عَادَ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فِي سِنِّ

ص: 357

فَصَارَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَعَلَى هَذَا الزَّكَاةُ. هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِدُيُونِ الْعِبَادِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ مَالِيٌّ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ. وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ. وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً حَتَّى

الْإِيَاسِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَوْ فِي الْعِدَّةِ الَّتِي فُرِضَ عَوْدُهُ فِيهَا، حَتَّى تُسْتَأْنَفَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخُلْفِ لَا فِي الْأَنْكِحَةِ الْمُبَاشَرَةِ حَالَ ذَلِكَ الِانْقِطَاعِ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ الْحُكْمِ، وَمُقْتَضَاهُ كَوْنُ الْخَلْفِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ

(قَوْلُهُ وَصَارَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي) إلْحَاقًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ. وَجْهُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَرِيضٍ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ وَعَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ أَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ يُجْزِي عَنْهُ الْإِطْعَامُ عَلِمَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ عَجْزُهُ عَجْزًا مُسْتَمِرًّا إلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمَ هُوَ الَّذِي كُلَّ يَوْمٍ فِي نَقْصٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَيَكُونُ الْوَارِدُ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَارِدًا فِي الْمَرِيضِ الَّذِي هُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، لَا فَرْقَ إلَّا بِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَسْبِقْ حَالَ جَوَازِ الْإِطْعَامِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي إلَّا بِقَدْرِ مَا يَثْبُتُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ، وَالْمَرِيضُ تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ بِإِدْرَاكِ الْعِدَّةِ وَعَجْزُهُ الْآنَ بِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فِي الْمُسَارَعَةِ إلَى الْقَضَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى التَّرَاخِي لَا يَكُونُ بِذَلِكَ التَّأْخِيرِ جَانِيًا فَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْفَرْقِ فِي إيجَابِ افْتِرَاقِ الْحُكْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا فِي الْأُصُولِ الْإِلْحَاقَ بِالشَّيْخِ الْفَانِي بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا مَنَعُوهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ شَرْطَهُ ظُهُورُ الْمُؤَثِّرِ وَأَثَرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، فَإِنَّ ظُهُورَ الْمُؤَثِّرِ فِيهِ وَهُوَ الْعَجْزُ إنَّمَا يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ الصَّوْمِ. وَهُنَا مَقَامٌ آخَرُ وَهُوَ وُجُودُ الْفِدْيَةِ وَلَا يُعْقَلُ الْعَجْزُ مُؤَثِّرًا فِي إيجَابِهَا، لَكِنَّا نَقُولُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصَةِ، وَكَوْنُ الْعَجْزِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ نَصٌّ عَلَى عِلِّيَّةِ مَبْدَأِ الِاشْتِقَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الصَّرِيحِ عِنْدَنَا بَلْ بِالْإِشَارَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} أَيْ لَا يُطِيقُونَهُ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا) أَيْ فِي لُزُومِ الْإِطْعَامِ عَلَى الْوَارِثِ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّ رحمه الله وَعَلَى هَذَا الزَّكَاةُ) أَيْ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنُ الزَّكَاةِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَالْعُشْرَ بَعْدَ وَقْتِ وُجُوبِهِ لَا يَجِبُ عَلَى وَارِثِهِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ الزَّكَاةَ وَالْعُشْرَ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، ثُمَّ إذَا أَوْصَى فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ إخْرَاجُهُمَا إذَا كَانَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ زَادَ دَيْنُهُمَا عَلَى الثُّلُثِ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ أَخْرَجَ كَانَ مُتَطَوِّعًا عَنْ الْمَيِّتِ وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ إجْزَائِهِ.

وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ: يُجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا إذَا أَوْصَى بِالْإِطْعَامِ عَنْ الصَّلَوَاتِ عَلَى مَا يُذْكَرُ، وَيَصِحُّ التَّبَرُّعُ فِي الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ لَا الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ بِلَا إيصَاءٍ إلْزَامُ الْوَلَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا إلْزَامَ فِي الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ.

وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:

ص: 358

يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ، وَكُلُّ صَلَاةٍ تُعْتَبَرُ بِصَوْمِ يَوْمٍ

«جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَفِي رِوَايَةٍ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ» .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» قُلْنَا: الِاتِّفَاقُ عَلَى صَرْفِ الْأَوَّلِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الصَّلَاةِ الدَّيْنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى أَنَّهُ قَالَ " لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " وَفَتْوَى الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنْ الِاعْتِبَارِ، وَلِذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَنْسُوخًا لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْجَامِعِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ اعْتِبَارِهِ، إذْ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَاسْتَمَرَّ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ بَلَاغًا فَقَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِالْمَدِينَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ اهـ.

وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ النَّسْخَ، وَأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ آخِرًا، وَإِذَا أُهْدِرَ كَوْنُ الْمَنَاطِ الدَّيْنَ فَإِنَّمَا يُعَلَّلُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ الْمَيِّتِ عَلَى الْوَارِثِ بِدَيْنِ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ الِاتِّفَاقِ، وَلَيْسَ هُوَ الْكَائِنَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ إلَّا بِالْإِيصَاءِ، ثُمَّ إذَا أَوْصَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ، وَعَلَى هَذَا دَيْنُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالنَّفَقَةُ الْوَاجِبَةِ وَالْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ وَالْحَجُّ وَفِدْيَةُ الصِّيَامَاتِ الَّتِي عَلَيْهِ وَالصَّدَقَةُ الْمَنْذُورَةُ وَالْخَرَاجُ وَالْجِزْيَةُ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ بَيْنَ عُقُوبَةٍ وَعِبَادَةٍ، فَمَا كَانَ عِبَادَةً فَشَرْطُ إجْزَائِهَا النِّيَّةُ لِيَتَحَقَّقَ أَدَاؤُهَا مُخْتَارًا فَيَظْهَرَ اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنْ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّكْلِيفِ، وَفِعْلُ الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْمُبْتَلَى بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ، بَلْ لَمَّا مَاتَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلَا أَمْرٍ بِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عِصْيَانُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ، وَذَلِكَ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ مُوجَبَ الْعِصْيَانِ، إذْ لَيْسَ فِعْلُ الْوَارِثِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ حَالَ حَيَاتِهِ وَمَا كَانَ فِيهَا مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ فَاتَ فِيهِ الْأَمْرَانِ إذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ إيقَاعُ مَا يَسْتَشِقُّهُ مِنْهُ لِيَكُونَ زَاجِرًا لَهُ، بِخِلَافِ دُيُونِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ بِأَدَائِهَا وُصُولُ الْمَالِ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ حَاجَتَهُ، وَلِذَا إذَا ظَفِرَ مَنْ لَهُ بِجِنْسِهِ كَانَ لَهُ أَخْذُهُ وَيَسْقُطُ عَنْ ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ فَلَزِمَتْ مِنْ غَيْرِ إيصَاءٍ لِتَحَقُّقِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ الْوَارِثِ هُنَا، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَا يُورَثُ خِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةُ لِأَنَّهُ رَأْيٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ فِي الْمَعْنَى اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْبَائِعِ.

وَإِذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا عَلِمْت أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هِيَ الْأَفْعَالُ إذْ بِهَا تَظْهَرُ الطَّاعَةُ وَالِامْتِثَالُ، وَمَا كَانَ مَالِيًّا مِنْهَا، فَالْمَالُ مُتَعَلِّقُ الْمَقْصُودِ: أَعْنِي الْفِعْلَ، وَقَدْ سَقَطَتْ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِالْمَوْتِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الْإِيصَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُهَا تَبَرُّعًا مِنْ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا نَفْسُ الْمَالِ لَا الْفِعْلُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي التَّرِكَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا بِلَا إيصَاءٍ.

(قَوْلُهُ وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ) وَجْهُهُ: أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ ثَبَتَتْ شَرْعًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ

ص: 359

هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَا يَصُومُ عَنْهُ الْوَلِيُّ وَلَا يُصَلِّي) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» .

(وَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَوْ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. لَهُ أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْمُؤَدَّى فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى قُرْبَةٌ وَعَمَلٌ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ بِالْمُضِيِّ عَنْ الْإِبْطَالِ، وَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِتَرْكِهِ. ثُمَّ عِنْدَنَا لَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ فِيهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُبَاحُ بِعُذْرٍ،

وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ثَابِتَةٌ، وَمِثْلُ مِثْلِ الشَّيْءِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ يَجِبُ الْإِطْعَامُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا لَا يَجِبُ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ ثُبُوتَ الْمُمَاثَلَةِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ السُّقُوطُ وَإِلَّا كَانَ بِرًّا مُبْتَدَأً يَصْلُحُ مَاحِيًا لِلسَّيِّئَاتِ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِيهِ يُجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ كَمَا قَالَ فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ بِالْإِطْعَامِ، بِخِلَافِ إيصَائِهِ بِهِ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ جَزَمَ بِالْإِجْزَاءِ.

(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مُقَاتِلٍ: إنَّهُ يُطْعِمُ لِكُلِّ صَلَاةِ يَوْمٍ مِسْكِينًا لِأَنَّهَا كَصِيَامِ يَوْمٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا فِي الْكِتَابِ، لِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ فَرْضٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَتْ كَصَوْمِ يَوْمٍ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رحمهم الله فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا فَسَدَ عَنْ قَصْدٍ أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي نَفْسِ الْفَسَادِ هَلْ يُبَاحُ أَوَّلًا؟ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا إلَّا بِعُذْرٍ، وَرِوَايَةُ الْمُنْتَقَى يُبَاحُ بِلَا عُذْرٍ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رحمهم الله عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَلْ الضِّيَافَةُ عُذْرٌ أَوْ لَا؟ قِيلَ نَعَمْ، وَقِيلَ لَا، وَقِيلَ عُذْرٌ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا بَعْدَهُ، إلَّا إذَا كَانَ فِي عَدَمِ الْفِطْرِ بَعْدَهُ عُقُوقٌ لِأَحَدِ الْوَالِدَيْنِ لَا غَيْرِهِمَا حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَيُفْطِرَنَّ لَا يُفْطِرُ.

وَقِيلَ: إنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ لَا يُبَاحُ الْفِطْرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُفْطِرُ، وَاعْتِقَادِي أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى أَوْجَهُ، وَعَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ يَنْصَبُّ الْكَلَامُ فِي خِلَافِيَّةِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله آخِرًا، وَيَتَبَيَّنُ وَجْهُ اخْتِيَارِنَا لَهَا فِي ضِمْنِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ «عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا لَا، قَالَ: فَإِنِّي إذًا صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، قَالَ: أَرِينِيهِ

ص: 360

وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» .

فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَأَكَلَ وَفِي لَفْظٍ فَأَكَلَ، وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، وَلُزُومُ الْقَضَاءِ مُرَتَّبٌ عَلَى وُجُوبِهِ فَلَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ مَوْقُوفًا " الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ " وَفِي كُلٍّ مِنْ سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ اخْتِلَافٌ. وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى إذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ صَائِمٌ رَفَعَ إنَاءً فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَفِي لَفْظٍ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ زَادَ مُسْلِمٌ عَامَ الْفَتْحِ» وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِلتَّأْخِيرِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا كَانَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ لِلسَّفَرِ كَانَ لَهُ إذَا دَخَلَ فِيهِ أَنْ يُفْطِرَ كَمَا فَعَلَ عليه الصلاة والسلام، فَالتَّطَوُّعُ أَوْلَى.

وَحَاصِلُهُ اسْتِدْلَالٌ بِفِطْرِهِ فِي الْفَرْضِ بَعْدَ الشُّرُوعِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَلَى إبَاحَةِ فِطْرِهِ فِي النَّفْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ جِدًّا. وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الْآيَةُ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ ذَمِّهِمْ عَلَى عَدَمِ رِعَايَةِ مَا الْتَزَمُوهُ مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِمْ، وَالْقَدْرُ الْمُؤَدِّي عَمَلٌ كَذَلِكَ فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِبْطَالِ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ، فَإِذَا أَفْطَرَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ تَفَادِيًا عَنْ الْإِبْطَالِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَتْنِي إلَيْهِ حَفْصَةُ وَكَانَتْ ابْنَةَ أَبِيهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ عَلَيْنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ قَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ»

وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِزَمِيلٍ سَمَاعٌ مِنْ عُرْوَةَ، وَلَا لِيَزِيدَ سَمَاعٌ مِنْ عُرْوَةَ، وَأَعَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ بِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ.

فَقَالَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَعْمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عُرْوَةَ، وَهَذَا أَصَحُّ، ثُمَّ أُسْنِدَ إلَى ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ أَحَدَّثَك عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا شَيْئًا. وَلَكِنْ سَمِعْنَا فِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ نَاسٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ اهـ.

قُلْنَا: قَوْلُ الْبُخَارِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالْعِلْمِ بِالْمُعَاصَرَةِ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَوْ سَلِمَ إعْلَالُهُ وَإِعْلَالُ التِّرْمِذِيِّ فَهُوَ قَاصِرٌ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ غَيْرِهَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ

ص: 361

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

«عَائِشَةَ قَالَتْ أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ» الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ غَيْرَهُمَا عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ الْحَدِيثَ.

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَصْبَحَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ رضي الله عنهما وَحَمَّادُ بْنُ الْوَلِيدِ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ غَيْرِ الْكُلِّ فِي الْوَسِيطِ.

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الْجَمَّالُ قَالَ: ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَكِّيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «أُهْدِيَتْ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رضي الله عنهما هَدِيَّةٌ وَهُمَا صَائِمَتَانِ فَأَكَلَتَا مِنْهَا فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ وَلَا تَعُودَا» فَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ لَوْ كَانَ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ ضَعِيفًا لِتَعَدُّدِهَا وَكَثْرَةِ مَجِيئِهَا، وَثَبَتَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَجْهُولَ فِي قَوْلِ الزُّهْرِيِّ فِيمَا أَسْنَدَ التِّرْمِذِيُّ إلَيْهِ عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ثِقَةٌ أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ، فَكَيْفَ وَبَعْضُ طُرُقِهِ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ.

وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَاهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ، بَلْ هُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يُوجِبُ مُقْتَضَاهُ وَيُؤَكِّدُ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا تُحْبِطُوا الطَّاعَاتِ بِالْكَبَائِرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلَى أَنْ قَالَ {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} وَكَلَامُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ، أَوْ لَا تُبْطِلُوهَا بِمَعْصِيَتِهِمَا: أَيْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ الْإِبْطَالُ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، وَعَنْهُ بِالشَّكِّ وَالنِّفَاقِ أَوْ بِالْعُجْبِ، وَالْكُلُّ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِبْطَالِ إخْرَاجُهَا عَنْ أَنْ تَتَرَتَّب عَلَيْهَا فَائِدَةٌ أَصْلًا كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ.

وَهَذَا غَيْرُ الْإِبْطَالِ الْمُوجِبِ لِلْقَضَاءِ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ بِاعْتِبَارِ الْمُرَادِ دَلِيلًا عَلَى مَنْعِ هَذَا الْإِبْطَالِ، بَلْ دَلِيلًا عَلَى مَنْعِهِ بِدُونِ قَضَاءٍ، فَيَكُونُ دَلِيلُ رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا إبَاحَةُ الْفِطْرِ مَعَ إيجَابِ الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا اخْتَرْنَاهَا لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ بِاعْتِبَارِ الْمُرَادِ مِنْهَا عَلَى سِوَى ذَلِكَ.

وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ لَا تُفِيدُ سِوَى إيجَابِ الْقَضَاءِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَهِيَ قَوْلُهُ " وَلَا تَعُودَا " وَهِيَ مَعَ كَوْنِهَا مُتَفَرَّدًا بِهَا لَا تَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمِ الِاسْتِدْلَال بِهِ لِلشَّافِعِيِّ، فَبَعْدَ تَسْلِيمِ ثُبُوتِ الْحُجِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، وَكَذَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ نَمْ فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: صَدَقَ سَلْمَانُ» وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الضِّيَافَةَ عُذْرٌ، وَكَذَا مَا أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ إلَى جَابِرٍ قَالَ «صَنَعَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 362

(وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي رَمَضَانَ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالتَّشَبُّهِ

طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا أَتَى بِالطَّعَامِ تَنَحَّى رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مَا لَكَ؟ قَالَ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: تَكَلَّفَ أَخُوكَ وَصَنَعَ طَعَامًا ثُمَّ تَقُولُ إنِّي صَائِمٌ، كُلْ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ».

فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الْفِطْرِ مَمْنُوعًا إذْ لَا يُعْهَدُ لِلضِّيَافَةِ أَثَرٌ فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ، وَلِذَا مَنَعَ الْمُحَقِّقُونَ كَوْنَهَا عُذْرًا كَالْكَرْخِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَاسْتَدَلَّا بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ: أَيْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ هَذَا الْحَدِيثِ.

وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: ثَبَتَ مَوْقُوفٌ عَلَى إبْدَاءِ ثَبْتٍ، ثُمَّ لَا يَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ سَلْمَانَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلَى رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى تَتَظَافَرُ الْأَدِلَّةُ وَلَا يُعَارِضُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله مَا يُثْبِتُهَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ النَّفَلَيْنِ حَيْثُ يَجِبُ قَضَاؤُهُمَا إذَا أُفْسِدَا.

(قَوْلُهُ وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ إلَخْ) كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ بِصِفَةٍ أَثْنَاءَ النَّهَارِ أَوْ قَارَنَ ابْتِدَاءُ وُجُودِهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ وَتِلْكَ الصِّفَةُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ وَاسْتَمَرَّتْ مَعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ تَشَبُّهًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ يَطْهُرَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ مَعَهُ، وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ، وَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ، وَالْمُسَافِرِ يَقْدَمُ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ بَعْدَ الْأَكْلِ، أَمَّا إذَا قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ لِمَا فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قَدِمَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الصَّوْمِ، وَاَلَّذِي أَفْطَرَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُكْرَهًا أَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ اسْتَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ، أَوْ تَسَحَّرَ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَقِيلَ الْإِمْسَاكُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ نَهَارًا: لَا يَحْسُنُ أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ. وَالصَّحِيحُ الْوُجُوبُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فَلْيَصُمْ، وَقَالَ فِي الْحَائِضِ فَلْتَدَعْ. وَقَوْلُ الْإِمَامِ لَا يَحْسُنُ تَعْلِيلٌ لِلْوُجُوبِ: أَيْ لَا يَحْسُنُ بَلْ يَقْبُحُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِهَا فَقَالَ فِي الْمُسَافِرِ: إذَا أَقَامَ بَعْدَ الزَّوَالِ إنِّي أَسْتَقْبِحُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَبَيَّنَ مُرَادَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ، وَلِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلدَّلِيلِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام بِالْإِمْسَاكِ لِمَنْ أَكَلَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ حِينَ كَانَ وَاجِبًا، وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ فَوَائِدُ

ص: 363

(وَلَوْ أَفْطَرَا فِيهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ (وَصَامَا بَعْدَهُ) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَالْأَهْلِيَّةِ (وَلَمْ يَقْضِيَا يَوْمَهُمَا وَلَا مَا مَضَى) لِعَدَمِ الْخِطَابِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ فَوُجِدَتْ الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَهُ، وَفِي الصَّوْمِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَالْأَهْلِيَّةُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إذَا زَالَ الْكُفْرُ أَوْ الصِّبَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ وَقْتَ النِّيَّةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ مُنْعَدِمَةٌ فِي أَوَّلِهِ إلَّا أَنَّ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الْكَافِرِ عَلَى مَا قَالُوا، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ

قُيُودِ الضَّابِطِ، وَقُلْنَا: كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ أَوْ قَارَنَ وَلَمْ نَقُلْ مَنْ صَارَ بِصِفَةٍ إلَخْ لِيَشْمَلَ مَنْ أَكَلَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِأَنَّ الصَّيْرُورَةَ لِلتَّحَوُّلِ، وَلَوْ لِامْتِنَاعِ مَا يَلِيهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُفَادُ بِهِمَا فِيهِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ عَلَيْهِمَا) وَقَالَ زُفَرُ فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ: يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ الْأَهْلِيَّةِ مُوجِبٌ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ فِي الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ كَذَلِكَ. وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بِأَنَّ السَّبَبَ فِي الصَّلَاةِ الْجُزْءُ الْقَائِمُ عِنْدَ الْأَهْلِيَّةِ أَيَّ جُزْءٍ كَانَ، فَتَحَقَّقَ الْمُوجِبُ فِي حَقِّهِمَا، وَفِي الصَّوْمِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يُصَادِفْهُ أَهْلًا. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُمْ فِي الْأُصُولِ الْوَاجِبُ الْمُؤَقَّتُ قَدْ يَكُونُ الْوَقْتُ فِيهِ سَبَبًا لِلْمُؤَدَّيْ وَظَرْفًا لَهُ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ سَبَبًا وَمِعْيَارًا وَهُوَ مَا يَقَعُ فِيهِ مُقَدَّرًا بِهِ كَوَقْتِ الصَّوْمِ تَسَاهُلٌ إذْ يَقْتَضِي أَنَّ السَّبَبَ تَمَامُ الْوَقْتِ فِيهِمَا وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ، ثُمَّ عَلَى مَا بَانَ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُرَادِ قَدْ يُقَالُ: يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ الْإِمْسَاكُ فِي نَفْسِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِلْوُجُوبِ، وَإِلَّا لَزِمَ سَبْقُ الْوُجُوبِ عَلَى السَّبَبِ لِلُزُومِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ، فَالْإِيجَابُ فِيهِ يَسْتَدْعِي سَبَبًا سَابِقًا، وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ لَزِمَ كَوْنُ مَا ذَكَرُوهُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ مِنْ أَنَّ السَّبَبِيَّةَ تُضَافُ إلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ عَقِيبَهُ انْتَقَلَتْ إلَى مَا يَلِي ابْتِدَاءَ الشُّرُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ تَقَرَّرَتْ السَّبَبِيَّةُ فِيهِ، وَاعْتُبِرَ حَالُ الْمُكَلَّفِ عِنْدَهُ تَكَلُّفًا مُسْتَغْنًى عَنْهُ إذْ لَا دَاعِيَ لِجَعْلِهِ مَا يَلِيهِ دُونَ مَا وَقَعَ فِيهِ.

(قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا) إشَارَةٌ إلَى الْخِلَافِ، وَأَكْثَرُ

ص: 364

أَهْلِ التَّطَوُّعِ أَيْضًا، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لَهُ.

(وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا صِحَّةَ الشُّرُوعِ (وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ) لِزَوَالِ الْمُرَخِّصِ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَوْلَى،

الْمَشَايِخِ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ كَانَ أَهْلًا فَتَتَوَقَّفُ إمْسَاكَاتُهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ فِي وَقْتِهَا، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا أَصْلًا فَلَا تَتَوَقَّفُ فَيَقَعُ فِطْرًا فَلَا يَعُودُ صَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ وَالْكَافِرُ يُسْلِمُ، قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلتَّطَوُّعِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ) أَيْ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ نِيَّةُ الْإِفْطَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ إذَا قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِنِيَّةٍ يُنْشِئُهَا.

(قَوْلُهُ أَلَا تَرَى إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْمُرَخِّصَ السَّفَرُ، فَلَمَّا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ كَانَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ بِتَعَيُّنِ الصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ بِحُدُوثِ إنْشَائِهِ. وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا صَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِمَّا قَدَّمْنَاهُ «أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَامَ الْفَتْحِ حَتَّى إذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ صَائِمٌ رَفَعَ إنَاءً فَشَرِبَ» اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُدْفَعَ بِتَجْوِيزِ كَوْنِ خُرُوجِهِ كَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَأَيْضًا قَوْلُهُمْ: مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُرَخِّصُ، فَالْخِطَابُ بِالصَّوْمِ عَيْنًا مَمْنُوعٌ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِتَعَيُّنِهِ إنْ لَمْ يُحْدِثْ سَفَرًا فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ فَيَجِبُ الشُّرُوعُ قَبْلَهُ، فَإِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ زَالَ التَّعَيُّنُ لِأَنَّهُ كَانَ بِشَرْطِ عَدَمِهِ، وَهَذَا الْبَحْثُ مَذْهَبُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ حَكَاهُ بَعْضُ شَارِحِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَعَيُّنِ صَوْمِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ إذَا لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ، فَإِذَا نَوَاهُ لَيْلًا وَأَصْبَحَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ عَزِيمَتَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلَا يَحِلُّ فِطْرُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ فِيهِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ وَهُوَ السَّفَرُ قَائِمٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَبِهَا تَنْدَفِعُ الْكَفَّارَةُ. وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ كُرَاعِ الْغَمِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ فِطْرَهُ عِنْدَهُ لَيْسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ مِنْ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ لَا يَصِلُ إلَيْهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، بَلْ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي حَتَّى إذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ

ص: 365

إلَّا أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْمُبِيحِ.

(وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِ الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ) لِوُجُودِ الصَّوْمِ فِيهِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمَقْرُونُ بِالنِّيَّةِ إذْ الظَّاهِرُ وُجُودُهَا مِنْهُ (وَقَضَى مَا بَعْدَهُ) لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ (وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ غَيْرَ يَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ) لِمَا قُلْنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقْضِي مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِنْدَهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِكَافِ، وَعِنْدَنَا لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِزَمَانٍ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ. بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ قَضَاهُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا فَيَصِيرُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ.

(وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ لَمْ يَقْضِهِ) خِلَافًا لِمَالِكٍ

صَائِمٌ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا حِينَ وَصَلَ إلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهِ مُقِيمًا غَيْرَ أَنَّهُ شَرَعَ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ وَهُوَ مُسَافِرٌ ثُمَّ أَفْطَرَ. وَتَبَيَّنَ بِهَذَا انْدِفَاعُ الْإِشْكَالِ عَنْ تَعَيُّنِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنْشَأَ فِيهِ السَّفَرَ وَتَقْرِيرُهُ عَلَى تَعَيُّنِ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي شَرَعَ فِي صَوْمِهِ عَنْ الْفَرْضِ وَهُوَ مُسَافِرٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ بُلُوغُهُ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ أَشْكَلَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَعْدُ أَشْكَلَ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَجْوِيزِ كَوْنِهِ عليه الصلاة والسلام عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بُلُوغَ الْجَهْدِ الْمُبِيحِ لِفِطْرِ الْمُقِيمِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَخَشِيَ الْهَلَاكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ) هُمَا إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ بَعْدَ الصَّوْمِ وَإِذَا صَامَ مُسَافِرًا ثُمَّ أَقَامَ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ يُضْعِفُ الْقَوِيَّ وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا) أَيْ الْعَقْلَ وَلِهَذَا اُبْتُلِيَ بِهِ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا قَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ) قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: الْمُرَادُ فِيمَا يُمْكِنُهُ إنْشَاءُ الصَّوْمِ فِيهِ، حَتَّى لَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ فِيهِ كَاللَّيْلِ، وَاَلَّذِي يُعْطِيهِ الْوَجْهُ الْآتِي ذِكْرُهُ خِلَافُهُ.

(قَوْلُهُ فَيَكُونُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ) رَتَّبَهُ بِالْفَاءِ عَلَى كَوْنِهِ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ بَلْ يُضْعِفُهُ نَتِيجَةً لَهُ. فَحَاصِلُهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُزِيلٍ لَمْ يَسْقُطْ فَيَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَزَالَهُ كَانَ مُسْقِطًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْجُنُونَ مُزِيلٌ لَهُ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُزِيلٌ لَهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلْزِمٌ لِلْحَرَجِ، فَكَانَ الْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ لُزُومِ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِ قَضَاءِ الشَّهْرِ بِالْإِغْمَاءِ فِيهِ كُلِّهِ بِخِلَافِ جُنُونِ الشَّهْرِ كُلِّهِ، فَإِنَّ تَرْتِيبَ قَضَاءِ الشَّهْرِ عَلَيْهِ مُوجِبٌ لِلْحَرَجِ، وَهَذَا لِأَنَّ امْتِدَادَ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا مِنْ النَّوَادِرِ لَا يَكَادُ يُوجَدُ وَإِلَّا كَانَ رُبَّمَا يَمُوتُ، فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا حَرَجَ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ النَّوَادِرِ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَإِنَّ امْتِدَادَهُ شَهْرًا غَالِبٌ فَتَرْتِيبُ الْقَضَاءِ مَعَهُ مُوجِبٌ لِلْحَرَجِ.

وَقَدْ سَلَكَ الْمُصَنِّفُ مَسْلَكَ التَّحْقِيقِ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ إلْزَامِ الْقَضَاءِ بِجُنُونِ الشَّهْرِ، حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ الْحَرَجُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْإِغْمَاءُ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ عَادَةً فَلَا حَرَجَ، فَأَفَادَ تَعْلِيلَ وُجُوبِ قَضَاءِ الشَّهْرِ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهِ كُلِّهِ بِعَدَمِ الْحَرَجِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيلٌ بِعَدَمِ الْمَانِعِ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَانِعٌ، لَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ انْتِفَاءَ

ص: 366

هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِغْمَاءِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ الْحَرَجُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ عَادَةً فَلَا حَرَجَ، وَالْجُنُونُ يَسْتَوْعِبُهُ فَيَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ (وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِهِ قَضَى مَا مَضَى) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. هُمَا يَقُولَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْقَضَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَصَارَ كَالْمُسْتَوْعَبِ. وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الشَّهْرُ

الْوُجُوبِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَانِعِ الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ لِنُدْرَةِ امْتِدَادِ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا.

وَبَسْطُ مَبْنَى هَذَا أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَثْبُتُ جَبْرًا بِالسَّبَبِ أَعْنِي أَصْلَ الْوُجُوبِ لَا يَسْقُطُ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ لِعَدَمِهِ أَوْ ضَعْفِهِ، بَلْ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ مُجَرَّدَ إيصَالِ الْمَالِ لِجِهَةٍ كَالنَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ ثَبَتَ الْوُجُوبُ مَعَ هَذَا الْعَجْزِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ فَيُطَالِبُ بِهِ وَلِيَّهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا نَفْسُ الْفِعْلِ لِيَظْهَرَ مَقْصُودُ الِابْتِلَاءِ مِنْ اخْتِيَارِ الطَّاعَةِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ هَذَا الْعَجْزِ الْكَائِنِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ مِمَّا يَلْزَمُهُ الِامْتِدَادُ أَوْ لَا يَمْتَدُّ عَادَةً أَوْ قَدْ وَقَدْ.

فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ كَالصِّبَا لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ فَائِدَتَهُ، وَهِيَ إمَّا فِي الْأَدَاءِ وَهُوَ مُنْتَفٍ إذْ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ فِي حَالَةِ الصِّبَا أَوْ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَرَجِ الْبَيِّنِ فَانْتَفَى، وَفِي الثَّانِي لَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ مَعَهُ، بَلْ يَثْبُتُ شَرْعًا لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْخُلْفِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَيَصِلَ بِذَلِكَ إلَى مَصْلَحَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ رَحْمَةً عَلَيْهِ كَالنَّوْمِ، فَلَوْ نَامَ تَمَامَ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا شَرْعًا، فَعِلْمنَا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ هَذَا الْعَارِضَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَمْتَدُّ غَالِبًا عَدَمًا إذْ لَا حَرَجَ فِي ثُبُوتِ الْوُجُوبِ مَعَهُ لِيَظْهَرَ حُكْمُهُ فِي الْخُلْفِ، ثُمَّ لَوْ نَامَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَادِرٌ لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَغَيُّرَ الِاعْتِبَارِ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ شَرْعًا، أَعْنِي اعْتِبَارَهُ عَدَمًا إذْ لَا حَرَجَ فِي النَّوَادِرِ، وَفِي الثَّالِثِ أَدَرْنَا ثُبُوتَ الْوُجُوبِ وَعَدَمَهُ عَلَى ثُبُوتِ الْحَرَجِ إلْحَاقًا لَهُ إذَا ثَبَتَ بِمَا يَلْزَمُهُ الِامْتِدَادُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِمَا لَمْ يَمْتَدَّ عَادَةً فَقُلْنَا فِي الْإِغْمَاءِ يَلْحَقُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ بِمَا لَا يَمْتَدُّ وَهُوَ النَّوْمُ، فَلَا

ص: 367

وَالْأَهْلِيَّةُ بِالذِّمَّةِ، وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ وَهُوَ صَيْرُورَتُهُ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ فِي أَدَائِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَوْعَبِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي الْأَدَاءِ فَلَا فَائِدَةَ

يَسْقُطُ مَعَهُ الْوُجُوبُ، إذَا امْتَدَّ تَمَامَ الشَّهْرِ بَلْ يَثْبُتُ لِيَظْهَرَ حُكْمُهُ فِي الْقَضَاءِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ إذْ لَا حَرَجَ فِي النَّادِرِ لِأَنَّ النَّادِرَ إنَّمَا يُفْرَضُ فَرْضًا، وَرُبَّمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ قَطُّ وَامْتِدَادُ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا كَذَاكَ.

وَفِي حَقِّ الصَّلَاةِ بِمَا يَمْتَدُّ إذَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِثُبُوتِ الْحَرَجِ بِثُبُوتِ الْكَثْرَةِ بِالدُّخُولِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ فَلَا يَقْضِي شَيْئًا وَبِمَا لَا يَمْتَدُّ وَهُوَ النَّوْمُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْحَرَجِ، وَقُلْنَا فِي الْجُنُونِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ لِاتِّحَادِ اللَّازِمِ فِيهِمَا، وَفِي حَقِّ الصَّوْمِ إنْ اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ أُلْحِقَ بِمَا يَلْزَمُهُ الِامْتِدَادُ لِأَنَّ امْتِدَادَ الْجُنُونِ شَهْرًا كَثِيرٌ غَيْرُ نَادِرٍ.

فَلَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ مَعَ اسْتِيعَابِهِ لَزِمَ الْحَرَجُ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَوْعِبْهُ بِمَا لَا يَمْتَدُّ لِأَنَّ صَوْمَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي سَنَةٍ لَا يُوقِعُ فِي الْحَرَجِ. وَأَيْضًا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ الْجُنُونُ فِي الْغَالِبِ يَسْتَمِرُّ شَهْرًا وَأَكْثَرَ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُوجِبُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ وَبَيْنَ أَنْ يُفِيقَ الْمَجْنُونُ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ أَوْ بَعْدَهُ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْحَلْوَانِيُّ وَإِنْ اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا هُوَ فِي الْكِتَابِ، وَقَدَّمْنَا فِي الزَّكَاةِ الْخِلَافَ فِي نَقْلِ هَذَا الْخِلَافِ فَجُعِلَ هَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ عَدَمَ التَّفْصِيلِ.

وَقِيلَ الْخِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَيَّدَ التَّفْصِيلَ بِثُبُوتِ التَّفْصِيلِ شَرْعًا فِي الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ وَالْحَيْضِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِيَّةِ امْتِدَادِ الطُّهْرِ وَعَارِضِيَّتِهِ، فَإِنَّ الطُّهْرَ إذَا امْتَدَّ امْتِدَادًا أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَرَ دَمًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ بَلَغَتْ بِالْحَيْضِ ثُمَّ امْتَدَّ طُهْرُهَا اعْتَدَّتْ بِالْحَيْضِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْعِدَّةِ إلَى أَنْ تَدْخُلَ سِنَّ الْإِيَاسِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ عَدَمَ لُزُومِهِ فَإِنَّ الْمَدَارَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لُزُومُ الْحَرَجِ وَعَدَمُهُ وَفِي الْعِدَّةِ الْمُتَّبَعُ النَّصُّ وَهُوَ يُوجِبُ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ قَوْلُك الْأَهْلِيَّةُ بِالذِّمَّةِ وَمَرْجِعُ الذِّمَّةِ إلَى الْآدَمِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ أَصْلِ الْوُجُوبِ عَلَى الصَّبِيِّ فَقَالَ: هُوَ دَائِرٌ مَعَ الذِّمَّةِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهُ يَتْلُو الْفَائِدَةَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي تَحَقُّقِهِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لِتَحْصُلَ مَصْلَحَةُ الْفَرْضِ رَحْمَةً وَمِنَّةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فَائِدَةً إذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ إيجَابَ الْقَضَاءِ حَرَجًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فَتَحَ بَابَ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، أَمَّا إذَا اسْتَلْزَمَهُ فَهُوَ مَعْدُومُ الْفَائِدَةِ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِطَرِيقِ التَّفْوِيتِ وَهُوَ الْحَرَجُ.

وَذَلِكَ بَابُ الْعَذَابِ لَا الْفَائِدَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْأَفْرَادُ مِنْ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْفَوَائِدَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَسْتَتْبِعُهَا التَّكَالِيفُ إنَّمَا تُرَاعَى فِي حَقِّ الْعُمُومِ رَحْمَةً وَفَضْلًا لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى آحَادٍ مِنْ النَّاسِ، بِخِلَافِ ثُبُوتِهِ مَعَ

ص: 368

وَتَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ، قِيلَ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا الْتَحَقَ بِالصَّبِيِّ فَانْعَدَمَ الْخِطَابُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ، وَهَذَا مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ

(وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ لَا صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ)

الْجُنُونِ لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ الْفَائِدَةَ أَوْ نَقُولُ: لَا فَائِدَةَ لِأَنَّهَا فِي الْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ لِلْحَرَجِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ لَمْ يَكُنْ لِفَائِدَةٍ (قَوْلُهُ وَتَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ) إذَا حَقَّقْت مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا تَحَقَّقْت تَمَامَهُ.

(قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِ الْمُسْلِمِ كَافِيَةٌ فِي وُجُودِ النِّيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ يَكُونُ صَائِمًا يَوْمَهَا، وَإِنَّمَا يَقْضِي مَا بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ النِّيَّةِ مِنْهُ فِيهَا، فَلِذَا أُوِّلَ بِأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مُتَهَتِّكًا اعْتَادَ الْأَكْلَ فِي رَمَضَانَ، وَمَنْ حَقَّقَ تَرْكِيبَ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ لَا صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، جُزِمَ بِأَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، بِخِلَافِ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْإِغْمَاءَ قَدْ يُوجِبُ نِسْيَانَهُ حَالَ نَفْسِهِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ فَيُبْنَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ وَهُوَ وُجُودُ النِّيَّةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَهَتِّكًا يَعْتَادُ الْأَكْلَ فَيُفْتَى بِلُزُومِ صَوْمِهِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْضًا لِأَنَّ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى قِيَامِ النِّيَّةِ، أَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّمَا عَلَّقَ وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِنَفْسِ عَدَمِ النِّيَّةِ ابْتِدَاءً لَا بِأَمْرٍ يُوجِبُ النِّسْيَانَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَدْرَى بِحَالَتِهِ. نَعَمْ لَوْ قَالَ: وَمَنْ شَكَّ أَنَّهُ كَانَ نَوَى أَوْ لَا أَمْكَنَ أَنْ يُجَابَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْبِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ كَمَا ذَكَرْنَا

ص: 369

وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَتَأَدَّى صَوْمُ رَمَضَانَ بِدُونِ النِّيَّةِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُؤَدِّيهِ يَقَعُ عَنْهُ، كَمَا إذَا وَهَبَ كُلَّ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْإِمْسَاكُ بِجِهَةِ الْعِبَادَةِ وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَفِي هِبَةِ النِّصَابِ وُجِدَ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ (وَمَنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ إمْكَانَ التَّحْصِيلِ فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْإِفْسَادِ وَهَذَا امْتِنَاعٌ إذْ لَا صَوْمَ إلَّا بِالنِّيَّةِ

(قَوْلُهُ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ) قَيَّدَ بِهِمَا لِأَنَّ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ النِّيَّةِ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ فِي حَقِّهِمَا.

(قَوْلُهُ كَمَا إذَا وَهَبَ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ) أَيْ عَلَى مَذْهَبِكُمْ فَهُوَ إلْزَامِيٌّ مِنْ زُفَرَ، فَإِنَّ إعْطَاءَ النِّصَابِ فَقِيرًا وَاحِدًا عِنْدَهُ لَا يَقَعُ بِهِ عَنْ الزَّكَاةِ. وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ أَيْضًا فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ فِيهِ عِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ مُطْلَقًا، وَعِنْدَهُمَا التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَتَجِبَ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.

(قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْإِفْسَادِ وَهَذَا امْتِنَاعٌ) عَنْهُ لَا إفْسَادَ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الشُّرُوعِ إلَّا أَنَّ

ص: 370

(وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَفْطَرَتْ وَقَضَتْ) بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا تُحْرَجُ فِي قَضَائِهَا وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّلَاةِ (وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلُّزُومِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ. هُوَ يَقُولُ: التَّشْبِيهُ خَلَفٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَتَحَقَّقُ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ كَالْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا أَوْ مُخْطِئًا. وَلَنَا أَنَّهُ وَجَبَ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ لَا خَلَفًا لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُعَظَّمٌ،

لِأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقُولَ: الثَّابِتُ فِي الشَّرْعِ تَرْتِيبُهَا عَلَى الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ إذْ اسْمُ الْفِطْرِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الصَّوْمِ، يُقَالُ: أَفْطَرْت الْيَوْمَ وَكَانَ مِنْ عَادَتِي صَوْمُهُ. إذَا أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ ثُمَّ أَكَلَ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْإِمْسَاكَاتِ الْكَائِنَةَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْفِطْرِ، كَمَا أَنَّ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الصَّوْمِ فَيَتَحَقَّقَ الْفِطْرُ بِالْأَكْلِ إذَا وَرَدَ عَلَيْهَا، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا إذَا أَكَلَ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ. وَاَلَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّ الْمَلْحُوظَ لِكُلٍّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَاقِعَةُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَرْوِيَّةُ فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا كَانَتْ فِي فِطْرٍ بِمَا هِيَ مُشْتَهًى حَالَ قِيَامِ الصَّوْمِ هَلْ يُفْهَمُ ثُبُوتُهَا فِي فِطْرٍ كَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ، فَفَهِمَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله، وَفَهِمَ أَبُو حَنِيفَةَ عَدَمَهُ إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ جِنَايَةَ الْإِفْطَارِ حَالَ قِيَامِ الصَّوْمِ أَقْبَحُ مِنْهَا حَالَ عَدَمِهِ، فَإِلْزَامُ الْكَفَّارَةِ فِي صُورَةِ الْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ لَا يُوجِبُ فَهْمَ ثُبُوتِهَا فِيمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ خُصُوصًا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ إلْغَاءِ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى كَوْنِهِ فِطْرًا جِنَايَةً فِي صُورَةِ الْوَاقِعَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْكَفَّارَةِ مَعَ قِيَامِ الْفِطْرِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ فِي ابْتِلَاعِ الْحَصَى وَنَحْوِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ ثُمَّ نَوَاهُ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ جَامَعَ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَرَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. وَجْهُ النَّفْيِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، وَفِي الْمُنْتَقَى فِيمَنْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْفِطْرَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ عَمْدًا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَالْكَلَامُ فِيهِمَا وَاحِدٌ

(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَنْ صَارَ أَهْلًا) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرٌ الْخِلَافِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُخْطِئِ مَنْ فَسَدَ صَوْمُهُ بِفِعْلِهِ الْمَقْصُودِ دُونَ قَصْدِ الْإِفْسَادِ كَمَنْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ عَدَمِ الْفَجْرِ أَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ الْفَجْرُ وَرَمَضَانُ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُعَظَّمٌ) وَتَعْظِيمُهُ بِعَدَمِ الْأَكْلِ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَخِّصُ قَائِمًا وَأَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَاشُورَاءَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ

ص: 371

بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حَالَ قِيَامِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْ التَّشْبِيهِ حَسَبَ تَحَقُّقِهِ عَنْ الصَّوْمِ.

قَالَ (وَإِذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ أَمْسَكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ أَوْ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ (وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ، كَمَا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ،

قَرِيبًا فَثَبَتَ بِهِ وُجُوبُ التَّشَبُّهِ أَصْلًا ابْتِدَاءً لَا خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ

(قَوْلُهُ وَهُوَ يُرَى) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ الرَّأْيِ بِمَعْنَى الظَّنِّ لَا الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ رَأَيْت اللَّهَ أَكْبَرَ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ عَلِمْته، وَلَوْ صِيغَ مِنْهُ لِلْفَاعِلِ مُرَادًا بِهِ الظَّنَّ لَمْ يَمْتَنِعْ فِي الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ بِمَعْنَاهُ إلَّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ:

وَكُنْت أَرَى زَيْدًا كَمَا قِيلَ سَيِّدًا

إذَا أَنَّهُ عَبْدُ الْقَفَا وَاللَّهَازِمِ

فَأُرِيتُ بِمَعْنَى أُظْنِنْت: أَيْ دُفِعَ إلَيَّ الظَّنُّ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ) لَيْسَ هُنَا جِنَايَةٌ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ الْإِثْمِ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ عَدَمَ تَثَبُّتِهِ إلَى أَنْ يَسْتَيْقِنَ جِنَايَةٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ جِنَايَةُ عَدَمِ التَّثَبُّتِ لَا جِنَايَةُ الْإِفْطَارِ كَمَا قَالُوا فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ إثْمُ الْقَتْلِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ فِيهِ إثْمَ تَرْكِ الْعَزِيمَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّثَبُّتِ حَالَ الرَّمْيِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِنَايَاتِ: شَرْعُ الْكَفَّارَةِ يُؤْذِنُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُدْفَعَ بِأَنْ تَرَكَ التَّثَبُّتَ إلَى الِاسْتِيقَانِ فِي الْقَتْلِ لَيْسَ كَتَرْكِهِ إلَى الِاسْتِيقَانِ فِي الْفِطْرِ، وَأَيْضًا: الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْقَوْلِ بِثُبُوتِهِ فِي الْقَتْلِ بِتَرْكِ التَّثَبُّتِ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ شَرْعُ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ مَفْقُودٌ هُنَا إذْ لَا كَفَّارَةَ، وَلَوْلَا هُوَ لَمْ نَجْسُرْ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ هُنَاكَ. وَحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: أَفْطَرَ عُمَرُ رضي الله عنه وَأَصْحَابُهُ فِي يَوْمِ غَيْمٍ ظَنُّوا أَنَّ الشَّمْسَ غَابَتْ، قَالَ: فَطَلَعَتْ فَقَالَ عُمَرُ: مَا تَعَرَّضْنَا لِجَنَفٍ نُتِمُّ هَذَا الْيَوْمَ ثُمَّ نَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طُرُقٍ أَقْرَبُهَا إلَى لَفْظِ الْكِتَابِ مَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي رَمَضَانَ وَقُرِّبَ إلَيْهِ شَرَابٌ فَشَرِبَ بَعْضُ الْقَوْمِ وَهُمْ يَرَوْنَ الشَّمْسَ قَدْ

ص: 372

وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ، قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ، وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّلَاةِ

(ثُمَّ التَّسَحُّرُ مُسْتَحَبٌّ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» (وَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَالسِّوَاكُ»

غَرَبَتْ، ثُمَّ ارْتَقَى الْمُؤَذِّنُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاَللَّهِ إنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ لَمْ تَغْرُبْ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: مَنْ كَانَ أَفْطَرَ فَلْيَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَفْطَرَ فَلْيُتِمَّ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ. وَأَعَادَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَزَادَ فَقَالَ لَهُ: بَعَثْنَاك دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْك رَاعِيًا، وَقَدْ اجْتَهَدْنَا، وَقَضَاءُ يَوْمٍ يَسِيرٌ. وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ خِطَابَهُ لَهُ مِنْ أَعْلَى الْمِئْذَنَةِ رَافِعًا صَوْتَهُ لَيْسَ مِنْ الْأَدَبِ، بَلْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَنْزِلَ فَيُخْبِرَهُ مُتَأَدِّبًا.

وَحَدِيثُ «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ حُصُولُ التَّقَوِّي بِهِ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «اسْتَعِينُوا بِقَائِلَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَبِأَكْلِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ» . أَوْ الْمُرَادُ زِيَادَةُ الثَّوَابِ لِاسْتِنَانِهِ بِسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «فَرْقُ مَا بَيْنَ صَوْمِنَا وَصَوْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» وَلَا مُنَافَاةَ فَلْيَكُنْ الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ كُلًّا مِنْ

ص: 373

(إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ) وَمَعْنَاهُ تَسَاوِي الظَّنَّيْنِ (الْأَفْضَلُ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ) تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَرَّمِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَكَلَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اللَّيْلُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَبِينُ الْفَجْرَ، أَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً أَوْ مُتَغَيِّمَةً. أَوْ كَانَ بِبَصَرِهِ عِلَّةٌ وَهُوَ يَشُكُّ لَا يَأْكُلُ، وَلَوْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عَمَلًا بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ. وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعَمْدِيَّةُ (وَلَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ)

الْأَمْرَيْنِ، وَالسَّحُورُ مَا يُؤْكَلُ فِي السَّحَرِ وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ فِي أَكْلِ السُّحُورِ بَرَكَةٌ بِنَاءٌ عَلَى ضَبْطِهِ بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ سَحَرٍ فَأَمَّا عَلَى فَتْحِهَا وَهُوَ الْأَعْرَفُ فِي الرِّوَايَةِ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ فِي السَّحَرِ، كَالْوَضُوءِ بِالْفَتْحِ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ. وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ الضَّمُّ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ وَنَيْلَ الثَّوَابِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ لَا بِنَفْسِ الْمَأْكُولِ. وَحَدِيثُ «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ» عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَاَلَّذِي فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الْعَبَّادَانِيِّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ مُورِقٍ الْعِجْلِيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مَوْقُوفًا، وَذَكَرَ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِمَّا فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كُنْت أَتَسَحَّرُ ثُمَّ يَكُونُ لِي سُرْعَةٌ أَنْ أُدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرَ خَمْسِينَ آيَةً» .

(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ التَّسَحُّرُ مُسْتَحَبٌّ، وَأَخْذُ الظَّنِّ فِي تَفْسِيرِ الشَّكِّ بِنَاءٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الظَّنِّ فِي الْإِدْرَاكِ مُطْلَقًا.

(قَوْلُهُ فَصَوْمُهُ تَامٌّ) أَيْ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ فَيَقْضِي حِينَئِذٍ.

(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) يُفِيدُ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ اسْتِحْبَابَ التَّرْكِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْإِسَاءَةِ إنْ لَمْ يُتْرَكْ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ مَفْضُولًا، وَفِعْلُ الْمَفْضُولِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِسَاءَةَ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ «فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَتَقُولُ: الْمَرْوِيُّ لَفْظُ الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُقْتَضَاهُ الْوُجُوبُ فَيَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الْإِثْمُ لَا الْإِسَاءَةُ، وَإِنْ صُرِفَ عَنْهُ بِصَارِفٍ كَانَ نَدْبًا وَلَا إسَاءَةَ بِتَرْكِ الْمَنْدُوبِ، بَلْ إنَّ فَعَلَهُ نَالَ ثَوَابَهُ وَإِلَّا لَمْ يَنَلْ شَيْئًا فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ كَوْنِهِ دَلِيلَ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ فَلَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى هَذِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ إسَاءَةً مَعَهَا إثْمٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) وَلَا كَفَّارَةَ.

(قَوْلُهُ وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ) وَاللَّيْلُ أَصْلٌ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ، وَصَحَّحَهُ فِي الْإِيضَاحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ

ص: 374

لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ النَّهَارُ (وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ النَّهَارُ.

(وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ اسْتَنَدَ إلَى الْقِيَاسِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ، وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَعَلِمَهُ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

إنَّمَا هُوَ دُخُولُ اللَّيْلِ فِي الْوُجُودِ لَا امْتِدَادُهُ إلَى وَقْتِ تَحَقُّقِ ظَنِّ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِاسْتِحَالَةِ تَعَارُضِ الْيَقِينِ مَعَ الظَّنِّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، فَضْلًا أَنْ يَثْبُتَ ظَنُّ النَّقِيضِ، فَإِذَا فُرِضَ تَحَقُّقُ ظَنِّ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي وَقْتٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مَحَلَّ تَعَارُضِ الظَّنِّ بِهِ، وَالْيَقِينِ بِبَقَاءِ اللَّيْلِ، بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَحَلُّ تَعَارُضِ دَلِيلَيْنِ ظَنِّيَّيْنِ فِي بَقَاءِ اللَّيْلِ وَعَدَمِهِ، وَهُمَا الِاسْتِصْحَابُ وَالْأَمَارَةُ الَّتِي بِحَيْثُ تُوجِبُ ظَنَّ عَدَمِهِ لَا تُعَارِضُ ظَنَّيْنِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا إذْ ذَاكَ لَا يُمْكِنُ، لِأَنَّ الظَّنَّ هُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ مِنْ الِاعْتِقَادِ فَإِذَا فُرِضَ تَعَلُّقُهُ بِأَنَّ الشَّيْءَ كَذَا اسْتَحَالَ تَعَلُّقُ آخَرَ بِأَنَّهُ لَا كَذَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، إذْ لَيْسَ لَهُ إلَّا طَرَفٌ وَاحِدٌ رَاجِحٌ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالثَّابِتُ تَعَارُضُ ظَنَّيْنِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَعَدَمِهِ فَيَتَهَاتَرَانِ، لِأَنَّ مُوجِبَ تَعَارُضِهِمَا الشَّكُّ لَا ظَنٌّ وَاحِدٌ فَضْلًا عَنْ ظَنَّيْنِ، وَإِذَا تَهَاتَرَا عُمِلَ بِالْأَصْلِ وَهُوَ اللَّيْلُ فَحَقِّقْ هَذَا وَأَجْرِهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِمْ: فِي شَكِّ الْحَدَثِ بَعْدَ يَقِينِ الطَّهَارَةِ الْيَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَنَحْوِهِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) وَفِي الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ، وَمُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ لُزُومُهَا لِأَنَّ الثَّابِتَ حَالَ غَلَبَةِ ظَنِّ الْغُرُوبِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ لَا حَقِيقَتُهَا، فَفِي حَالِ الشَّكِّ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ لَا تُسْقِطُ الْعُقُوبَاتِ، هَذَا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْحَالُ، فَإِنْ ظَهَرَ أَكْلٌ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ شَاكًّا إلَى قَوْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ.

(قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ رِوَايَةً وَاحِدَةً) أَيْ إذَا لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَكَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ لِأَنَّ النَّهَارَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ أَكْبَرُ رَأْيِهِ. وَأَوْرَدَ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِأَنَّهَا غَرَبَتْ وَاثْنَانِ بِأَنْ لَا فَأَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ عَدَمَ الْغُرُوبِ لَا كَفَّارَةَ مَعَ أَنَّ تَعَارُضَهُمَا يُوجِبُ الشَّكَّ. أُجِيبُ بِمَنْعِ الشَّكِّ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِعَدَمِهِ عَلَى النَّفْيِ فَبَقِيَتْ الشَّهَادَةُ بِالْغُرُوبِ بِلَا مُعَارِضٍ فَتُوجِبُ ظَنَّهُ، وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا) أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ أَوْ جَامَعَ عَامِدًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَصْبَحَ مُسَافِرًا فَنَوَى الْإِقَامَةَ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ) يَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ لَا تَجِبُ وَصَحَّحَهُ قَاضِي خَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ تَجِبُ وَكَذَا عَنْهُمَا، وَمَرْجِعُ وَجْهَيْهِمَا إلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ لَازِمُ انْتِفَاءَ الِاشْتِبَاهِ أَوْ لَا، فَقَوْلُهُمَا بِنَاءٌ عَلَى ثُبُوتِ اللُّزُومِ وَالْمُخْتَارُ بِنَاءٌ عَلَى ثُبُوتِ الِانْفِكَاكِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِثُبُوتِ دَلِيلِ الْفِطْرِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْقَوِيُّ وَهُوَ ثَابِتٌ لَمْ يَنْتَفِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِالْفِطْرِ، وَصُرِفَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» إلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ. وَقَالَ

ص: 375

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهَا تَجِبُ، وَكَذَا عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فَلَا شُبْهَةَ. وَجْهُ الْأَوَّلِ قِيَامُ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقِيَاسِ فَلَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ.

(وَلَوْ احْتَجَمَ وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ) لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ

أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا النَّصُّ لَقُلْت يُفْطِرُ. وَصَارَ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يُحَدُّ وَإِنْ عَلِمَ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى قِيَامِ شُبْهَةِ الْمِلْكِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِثُبُوتِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الرَّاجِحُ عَلَى تَبَايُنِ الْمِلْكَيْنِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ) يَعْنِي: فِيمَا إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْفِطْرِ مِمَّا خَرَجَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا فَإِنَّهُ كَالْأَوَّلِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

فَإِنَّ الْقَيْءَ يُوجِبُ غَالِبًا عَوْدَ شَيْءٍ إلَى الْحَلْقِ لِتَرَدُّدِهِ فِيهِ فَيَسْتَنِدُ ظَنُّ الْفِطْرِ إلَى دَلِيلٍ، أَمَّا الْحِجَامَةُ فَلَا تَطَرُّقَ فِيهَا إلَى الدُّخُولِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَيَكُونُ تَعَمُّدُ أَكْلِهِ بَعْدَهُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ إلَّا إذَا أَفْتَاهُ مُفْتٍ بِالْفَسَادِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَأَكَلَ بَعْدَهُ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ فَتْوَى مُفْتِيهِ.

(وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَمَدَهُ) عَلَى ظَاهِرِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَأْوِيلِهِ وَهُوَ عَامِّيٌّ (فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) أَيْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُفْتِي يُورِثُ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ، فَقَوْلُ

ص: 376

إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ بِالْفَسَادِ لِأَنَّ الْفَتْوَى دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَمَدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام لَا يَنْزِلُ عَنْ قَوْلِ الْمُفْتِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ رحمه الله لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ.

الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام أَوْلَى، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُسْقِطُهَا (لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ) فَإِذَا اعْتَمَدَهُ كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لَهَا (وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ) ثُمَّ أَكَلَ (تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ) إنَّهُ يُفْطِرُ (لَا يُورِثُ شُبْهَةً لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ) مَعَ فَرْضِ عِلْمِ الْآكِلِ كَوْنَ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، ثُمَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ، أَوْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ.

وَلَا بَأْسَ بِسَوْقِ نُبْذَةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.

رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ، وَنُقِلَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ «شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ مَرَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْفَتْحِ عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ بِالْبَقِيعِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَصَحَّحُوهُ.

وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكُبْرَى عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ، حَدِيثَيْ ثَوْبَانَ وَشَدَّادٍ، وَعَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ ثَوْبَانَ وَحَدِيثُ شَدَّادَ صَحِيحَانِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَصَحَّحَهُ.

قَالَ: وَذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذَا.

وَبَلَغَ أَحْمَدَ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ ضَعَّفَهُ، وَقَالَ: إنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا مُجَازَفَةٌ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: ثَابِتٌ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: مُتَوَاتِرٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ مَا قَالَهُ بِبَعِيدٍ، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَالسُّنَنِ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِيِّ وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُفْطِرُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ادِّعَاءُ النَّسْخِ، وَذَكَرُوا فِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ

ص: 377

(وَلَوْ أَكَلَ بَعْدَمَا اغْتَابَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَيْفَمَا كَانَ)

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» .

وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «أَوَّلُ مَا كَرِهْتُ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَانِ ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ» ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً، وَمَا رَوَى النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْت حُمَيْدًا الطَّوِيلَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَرَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ» ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ عَنْ سُفْيَانَ بِسَنَدِ الطَّبَرَانِيِّ.

وَسَنَدُ الطَّبَرَانِيِّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ دَاوُد الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا لَا يَقْدَحُ فِي الرَّفْعِ بَعْدَ ثِقَةِ رِجَالِهِ.

وَالْحَقُّ فِي تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ تَقَدُّمُ الرَّفْعُ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الثِّقَةِ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، ثُمَّ دَلَّ حَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام الْمَرْوِيَّ بَعْدَ النَّهْيِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْرِيرُ النَّسْخِ إذْ كَانَ الْحَاصِلُ الْآنَ بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ الْإِطْلَاقَ، وَعَدَمُهُ أَوْلَى فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَلَفْظُ رَخَّصَ أَيْضًا ظَاهِرٌ فِي تَقَدُّمِ الْمَنْعِ.

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: النَّاسِخُ أَدْنَى حَالِهِ أَنْ يَكُونَ فِي قُوَّةِ الْمَنْسُوخِ وَلَيْسَ هُنَا هَذَا، أَمَّا حَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ يُحْتَجُّ بِهِ، لَكِنْ أَعَلَّهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ بِأَنَّهُ لَمْ يُورِدْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ وَالصَّحِيحِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ فِي كِتَابٍ مِنْ الْكُتُبِ الْأُمَّهَاتِ كَمُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهَا مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِهِ رِوَايَةٌ لَذَكَرَهَا فِي مُصَنَّفِهِ، فَكَانَ حَدِيثًا مُنْكَرًا، لَكِنْ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ الْمَرْوَزِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ بَعْدَمَا قَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ بَعْدَمَا قَالَ إلَخْ إلَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ.

وَكَذَا فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ «احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا قَالَ» الْحَدِيثَ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَطَلْحَةُ هَذَا احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ حَدِيثِ النَّسَائِيّ يَدْفَعُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ، وَلَا نُسَلِّمُ تَوَاتُرَ الْمَنْسُوخِ وَكَذَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَحَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ " وَهُوَ صَحِيحٌ، فَإِنْ أُعِلَّا بِإِنْكَارِ أَحْمَدَ أَنْ يَكُونَ سِوَى احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ صَائِمٌ.

قَالَ مُهَنَّأٌ: قُلْت لَهُ مَنْ ذَكَرَهُ؟ قَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «احْتَجَمَ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ مُحْرِمٌ»

ص: 378

لِأَنَّ الْفِطْرَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ.

وَكَذَلِكَ رَوَاهُ رَوْحٌ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مِثْلَهُ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مِثْلَهُ.

قَالَ أَحْمَدُ: فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَذْكُرُونَ صَائِمًا فَلَيْسَ بِلَازِمٍ إذْ قَدْ رَوَاهُ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِكْرِمَةُ وَمِقْسَمٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُ مَا وَقَعَ فِي تِلْكَ الطُّرُقِ عَنْ أُولَئِكَ اقْتِصَارًا مِنْهُمْ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ ذِكْرِ صَائِمٍ، أَوْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حِينَ حَدَّثَ بِهِ لِكَوْنِ غَرَضِهِ إذْ ذَاكَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِذَلِكَ فَقَطْ نَفْيًا لِتَوَهُّمِ كَوْنِ الْحِجَامَةِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَلِذَا لَمْ يَكُنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَرَى بِالْحِجَامَةِ بَأْسًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ.

وَقَوْلُ شُعْبَةَ: لَمْ يَسْمَعْ الْحَكَمُ مِنْ مِقْسَمٍ حَدِيثَ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ يَمْنَعُهُ الْمُثْبِتُ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ وَهِيَ الَّتِي أَخْرَجَهَا ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَضْعَفُ سَنَدًا وَأَظْهَرُ تَأْوِيلًا، إمَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُحْرِمًا إلَّا وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَالْمُسَافِرُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِيمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ جَوَابُ ابْنِ خُزَيْمَةَ، أَوْ أَنَّ الْحِجَامَةَ كَانَتْ مَعَ الْغُرُوبِ كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إنَّهُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ أَبَا طِيبَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ مَعَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَضَعَ الْمَحَاجِمَ مَعَ إفْطَارِ الصَّائِمِ فَحَجَمَهُ ثُمَّ سَأَلَهُ: كَمْ خَرَاجُكَ؟ قَالَ: صَاعَانِ فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا» اهـ.

فَلَمْ يَنْهَضْ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ نَاسِخًا لِقُوَّةِ ذَلِكَ. الثَّانِي: التَّأْوِيلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ ذَهَابُ ثَوَابِ الصَّوْمِ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ ذَكَرَهُ الْبَزَّارُ، فَإِنَّهُ بَعْدَمَا رَوَى حَدِيثَ ثَوْبَانَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَسْنَدَ إلَى ثَوْبَانَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» لِأَنَّهُمَا كَانَا اغْتَابَا وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد بْنُ مُوسَى بَصْرِيٌّ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَطَاءٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلَيْنِ يَحْجُمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَاغْتَابَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا لِلْحِجَامَةِ وَلَكِنْ لِلْغِيبَةِ لَكِنْ أُعِلَّ بِالِاضْطِرَابِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِهَا إنَّمَا مَنَعَ إبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ خَشْيَةَ الضَّعْفِ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، فَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ وَإِعْمَالُ كُلٍّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ احْتِجَامِهِ وَتَرْخِيصِهِ وَمَنْعِهِ.

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يَبْعُدُ عَدَمُ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُلَازَمَتِهِمْ إيَّاهُ، وَحِفْظِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ خَلَّادٍ عَنْ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَأَمَّا أَنَا فَلَوْ احْتَجَمْت مَا بَالَيْت ".

وَمَا أُخْرِجَ أَيْضًا عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بِالْحِجَامَةِ بَأْسًا " وَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَيْضًا " أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ " وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَجِبُ أَحَدُ الِاعْتِبَارَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ مِنْ النَّسْخِ فِي الْوَاقِعِ أَوْ التَّأْوِيلِ.

(قَوْلُهُ وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ) بِذَهَابِ الثَّوَابِ

ص: 379

(وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ وَهِيَ صَائِمَةٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالنَّاسِي، وَالْعُذْرُ هُنَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ. وَلَنَا أَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا نَادِرٌ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ.

فَيَصِيرُ كَمَنْ لَمْ يَصُمْ، وَحِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ خِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ فِي هَذَا فَإِنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَمَا مَضَى السَّلَفُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا، وَيُرِيدُ بِالْحَدِيثِ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «مَا صَامَ مَنْ ظَلَّ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَزَادَ «إذَا اغْتَابَ الرَّجُلُ فَقَدْ أَفْطَرَ» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلَيْنِ صَلَّيَا صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَكَانَا صَائِمَيْنِ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قَالَ: أَعِيدَا وُضُوءَكُمَا وَصَلَاتَكُمَا وَامْضِيَا فِي صَوْمِكُمَا وَاقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ. قَالَا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اغْتَبْتُمَا فُلَانًا» وَفِيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ، وَالْكُلُّ مَدْخُولٌ. وَلَوْ لَمَسَ أَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ ضَاجَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا كَانَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا تَأَوَّلَ حَدِيثًا أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا، فَأَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَخْطَأَ الْفَقِيهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْفَتْوَى وَالْحَدِيثِ يَصِيرُ شُبْهَةً، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ. وَفِيهِ: لَوْ دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِمَا قُلْنَا، يَعْنِي: مَا ذَكَرَهُ فِيمَنْ اغْتَابَ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا مِنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِفَتْوَى الْفَقِيهِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ الْحَدِيثَ هُنَا لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ لَهُ سِمَةٌ مِنْ الْفِقْهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَرْوِيِّ «الْغَيْبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ» حَقِيقَةَ الْإِفْطَارِ، فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ شُبْهَةً

(قَوْلُهُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ) قِيلَ: كَانَتْ فِي الْأَصْلِ الْمَجْبُورَةُ فَصَحَّفَهَا الْكُتَّابُ إلَى الْمَجْنُونَةِ، وَعَنْ الْجُوزَجَانِيِّ قُلْت لِمُحَمَّدٍ: كَيْفَ تَكُونُ صَائِمَةً وَهِيَ مَجْنُونَةٌ؟ فَقَالَ لِي: دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ. وَعَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ قُلْت لِمُحَمَّدٍ: هَذِهِ الْمَجْنُونَةُ فَقَالَ: لَا بَلْ الْمَجْبُورَةُ أَيْ الْمُكْرَهَةُ، قُلْت: أَلَا نَجْعَلُهَا مَجْبُورَةً؟ فَقَالَ بَلَى، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ وَقَدْ سَارَتْ بِهَا الرِّكَابُ؟ دَعُوهَا، فَهَذَانِ يُؤَيِّدَانِ كَوْنَهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ الْمَجْبُورَةِ فَصُحِّفَ، ثُمَّ لَمَّا انْتَشَرَ فِي الْبِلَادِ لَمْ يُفِدْ التَّغْيِيرُ وَالْإِصْلَاحُ فِي نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ فَتَرَكَهَا لِإِمْكَانِ تَوْجِيهِهَا أَيْضًا، وَهُوَ بِأَنْ تَكُونَ عَاقِلَةٌ نَوَتْ الصَّوْمَ فَشَرَعَتْ ثُمَّ جُنَّتْ فِي بَاقِي النَّهَارِ، فَإِنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ إنَّمَا يُنَافِي شَرْطَهُ؛ أَعْنِي النِّيَّةَ، وَقَدْ وُجِدَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ، فَلَا يَجِبُ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إذَا أَفَاقَتْ كَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَا يَقْضِي الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ وَقَضَى مَا بَعْدَهُ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيمَا بَعْدَهُ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا جُومِعَتْ هَذِهِ الَّتِي جُنَّتْ صَائِمَةً تَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ لِطُرُوِّ الْمُفْسِدِ عَلَى صَوْمٍ صَحِيحٍ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَقَدَّمْنَا أَوَّلَ بَابِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي مَا يُغْنِي عَنْ الْإِعَادَةِ هُنَا.

ص: 380

‌فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ

(وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ أَفْطَرَ وَقَضَى) فَهَذَا النَّذْرُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. هُمَا يَقُولَانِ: إنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ. وَلَنَا أَنَّهُ نَذَرَ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ وَالنَّهْيُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّهُ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ.

فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ)

وَجْهُ تَقْدِيمِ بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً عَلَى الْوَاجِبِ عِنْدَ إيجَابِ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ.

(قَوْلُهُ فَهَذَا النَّذْرُ صَحِيحٌ) رَتَّبَهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ قَوْلِهِ: قَضَى: أَيْ لَمَّا لَزِمَ الْقَضَاءُ كَانَ النَّذْرُ صَحِيحًا (قَوْلُهُ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي النُّسْخَةِ الْأُخْرَى مُشَارٌ بِهِ إلَى مَعْهُودٍ فِي الذِّهْنِ بِنَاءً عَلَى شُهْرَةِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صِيَامِهَا، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْعِيدَيْنِ، وَيُنَاسِبُ النُّسْخَةَ الْأُولَى الِاسْتِدْلَال بِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْخُدْرِيِّ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْأَضْحَى وَصِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ» .

وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ «لَا يَصِحُّ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ يَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ» وَيُنَاسِبُ النُّسْخَةَ الْأُخْرَى الِاسْتِدْلَال بِمَا

ص: 381

(وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) يَعْنِي. إذَا أَفْطَرَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ سِتَّةٍ: إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرَ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا لِأَنَّهُ نَذَرَ بِصِيغَتِهِ. كَيْفَ وَقَدْ قَرَّرَهُ بِعَزِيمَتِهِ؟ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ وَقَدْ عَيَّنَهُ وَنَفَى غَيْرَهُ، وَإِنْ نَوَاهُمَا يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَكُونُ نَذْرًا، وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ يَمِينًا. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَالْيَمِينَ مَجَازٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ الْأَوَّلُ عَلَى النِّيَّةِ، وَيَتَوَقَّفَ الثَّانِي فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا، ثُمَّ الْمَجَازُ يَتَعَيَّنُ بِنِيَّتِهِ، وَعِنْدَ نِيَّتِهِمَا تَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ.

سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ» إلَخْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الصَّوَارِفِ لَيْسَ مُوجِبُهُ بَعْدَ طَلَبِ التَّرْكِ سِوَى كَوْنِ مُبَاشَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعْصِيَةً سَبَبًا لِلْعِقَابِ لَا الْفَسَادِ، أَمَّا لُغَةً فَظَاهِرٌ لِظُهُورِ حُدُوثِ مَعْنَى الْفَسَادِ، وَأَمَّا شَرْعًا: فَكَذَلِكَ بَلْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَلَا الْمُعَامَلَاتِ لِتَحَقُّقِ مُوجِبِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا: أَعْنِي الْمَنْعَ الْمُنْتَهِضَ سَبَبًا لِلْعِقَابِ مَعَ الصِّحَّةِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَمَعَ الْعَبَثِ الَّذِي لَا يَصِلُ إلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ، وَكَثِيرٍ.

فَعُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْفَسَادِ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَاهُ بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ لِأَمْرٍ آخَرَ هُوَ كَوْنُهُ لِأَمْرٍ فِي ذَاتِهِ، فَمَا لَمْ يُعْقَلْ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ كَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ مُتَّصِلٍ بِهِ لَا يُوجِبُ فِيهِ الْفَسَادَ، وَإِلَّا لَكَانَ إيجَابًا بِغَيْرِ مُوجِبٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ مُوجِبِهِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بِحَسَبِ حَالِهِ مِنْ الظَّنِّيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ تَمَامَ مُوجِبِ النَّهْيِ حَتَّى قُلْنَا إنَّهُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْفَسَادُ لَوْ فَعَلَ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ لِعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ لِاعْتِبَارِهِ لَا لِنَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ لِمَا فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ النَّذْرُ أَثَرًا لِتَصَوُّرِ الصِّحَّةِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لِلْمَعْصِيَةِ فَيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِالِانْتِهَاضِ سَبَبًا لِلْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْهَا هَذَا، وَكَمْ مَوْضِعٍ يَثْبُتُ فِيهِ الْوُجُوبُ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لَا الْأَدَاءِ لِحُرْمَتِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُوجِدُكَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ.

فَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ التَّحْقِيقِيَّةِ، وَغَايَةُ مَا بَقِيَ بَيَانُ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَلَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ أَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هُوَ مَنْعُ النَّفْسِ مُشْتَهَاهَا لَا يُعْقَلُ فِي نَفْسِهِ سَبَبًا لِلْمَنْعِ، بَلْ كَوْنُهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: نَذَرَ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ

ص: 382

وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْن الْجِهَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ،

مَنْفِيٌّ شَرْعًا فَلَا وُجُودَ لَهُ فَلَا يَنْعَقِدُ، أَمَّا الْأُولَى: فَظَاهِرَةٌ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِمَا فِي سُنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» قُلْنَا: الْمُرَادُ نَفْيُ جَوَازِ الْإِيفَاءِ بِهِ نَفْسِهِ لَا نَفْيُ انْعِقَادِهِ، لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ النَّسَائِيّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «النَّذْرُ نَذْرَانِ، فَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلَّهِ فِيهِ الْوَفَاءُ، وَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ فَلَا وَفَاءَ وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ» فَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِي النَّصِّ يُفِيدُ أَنَّهُ انْعَقَدَ وَلَمْ يُلْغَ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ الْوَفَاءُ بِهِ بِعَيْنِهِ، فَكَذَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَكَانَ وِزَانَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ» مَعَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ.

غَيْرَ أَنَّ الِانْعِقَادَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَكُونُ لِأَمْرَيْنِ: لِلْقَضَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ جِنْسُ الْمَنْذُورِ مِمَّا يَخْلُو بَعْضُ أَفْرَادِهِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ وَهُوَ الْجِنْسُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ الْفِطْرُ وَالْقَضَاءُ فِي يَوْمٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَلِلْكَفَّارَةِ إنْ كَانَ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِهِ عَنْهَا كَالنَّذْرِ بِالزِّنَا وَبِالسُّكْرِ إذَا قَصَدَ الْيَمِينَ فَيَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ، وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَيَلْغُو ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي انْعِقَادِهِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَنْعَقِدَ مُطْلَقًا لِلْكَفَّارَةِ إذَا تَعَذَّرَ الْفِعْلُ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمَشَايِخُ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله: لَوْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا كَانَ يَمِينًا وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ اهـ.

وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الْيَمِينُ بِلَفْظِ النَّذْرِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فِي نَذْرِ الطَّاعَةِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَلَا تُجْزِئُ الْكَفَّارَةُ عَنْ الْفِعْلِ.

وَبِهِ أَفْتَى السُّغْدِيُّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ: تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَهَذَا اخْتِيَارِي لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ فِي فَتَاوَاهُ الصُّغْرَى، وَبِهِ يُفْتَى. وَعَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ يَصُومُ يَوْمَ النَّحْرِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذُكِرَ لِدَلِيلٍ عِنْدَهُمْ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ شَرْطَ النَّذْرِ كَوْنُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَوْنُ الْمَعْصِيَةِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَنْفَكَّ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ عَنْهَا، وَإِذَا صَحَّ النَّذْرُ فَلَوْ فَعَلَ نَفْسَ الْمَنْذُورِ عَصَى وَانْحَلَّ النَّذْرُ كَالْحَلِفِ بِالْمَعْصِيَةِ يَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ، فَلَوْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا سَقَطَتْ وَأَثِمَ.

(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ) الْكَائِنَتَيْنِ لِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا جِهَةُ الْيَمِينِ وَجِهَةُ النَّذْرِ (لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ (يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ) أَيْ وُجُوبَ مَا تَعَلَّقَا بِهِ، لَا فَرْقَ سِوَى.

(أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ) وَهُوَ وَفَاءُ الْمَنْذُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ) وَهُوَ صِيَانَةُ اسْمِهِ تَعَالَى،

ص: 383

فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.

(وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ

وَلَا تَنَافِيَ لِجَوَازِ كَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا لِعَيْنِهِ وَلِغَيْرِهِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَيُصَلِّيَنَّ ظُهْرَ هَذَا الْيَوْمِ.

(فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ) حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ لِجِهَةِ التَّبَرُّعِ، الْبُطْلَانُ بِالشُّيُوعِ وَعَدَمُ جَوَازِ تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهَا. وَاشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ، وَالثَّلَاثَةُ لِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ الرَّدُّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالرُّؤْيَةُ، وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ التَّنَافِي مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْيَمِينُ وُجُوبٌ يَلْزَمُ بِتَرْكِ مُتَعَلِّقِهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ النَّذْرَ لَيْسَ يَلْزَمُ بِتَرْكِ مُتَعَلِّقِهِ ذَلِكَ، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ أَقَلُّ مَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ فَلَا بُدَّ أَنْ لَا يُرَادَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَنُخْبَةُ مَا قَرَّرَ بِهِ كَلَامَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ هُنَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ وَهُوَ مَعْنَى الْيَمِينِ لَازِمٌ لِمُوجَبِ صِيغَةِ النَّذْرِ، وَهُوَ إيجَابُ الْمُبَاحِ فَيَثْبُتُ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا لِلصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ هُوَ بِهَا وَيُسْتَعْمَلَ فِيهِ، وَلُزُومُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ إنَّمَا هُوَ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيهِمَا، وَالِاسْتِعْمَالُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْمُوجَبُ فَقَطْ، وَيُلَازِمُ الْمُوجَبَ الثَّابِتَ دُونَ اسْتِعْمَالٍ فِيهِ الْيَمِينُ، فَلَا جَمْعَ فِي الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ إلَّا أَنَّ هَذَا يَتَرَاءَى مَغْلَطَةً، إذْ مَعْنَى ثُبُوتُ الِالْتِزَامِيِّ غَيْرُ مُرَادٍ لَيْسَ إلَّا خُطُورَةً عِنْدَ فَهْمِ مَلْزُومِهِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مَحْكُومًا بِنَفْيِ إرَادَتِهِ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ يُنَافِيهِ إرَادَةُ الْيَمِينِ بِهِ، لِأَنَّ إرَادَةَ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ إرَادَةُ تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ هِيَ إرَادَةُ الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ عَلَى وَجْهٍ أَخَصَّ مِنْهُ حَالَ كَوْنِهِ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا، فَإِنَّهُ أُرِيدَ عَلَى وَجْهٍ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِخُلْفِهِ، وَعَدَمُ إرَادَةِ الْأَعَمِّ تُنَافِيهِ إرَادَةُ الْأَخَصِّ، أَعْنِيَ تَحْرِيمَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ مَعْنًى.

نَعَمْ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا فُرِضَ عَدَمُ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ التَّلَفُّظِ سِوَى النَّذْرِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّلَفُّظِ عَرَضَ لَهُ إرَادَةُ ضَمِّ الْآخَرِ عَلَى فَوْرِهِ، لَكِنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ لُزُومُهُمَا لَا يَخُصُّ هَذِهِ الصُّورَةَ، فَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَدَلَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَقَالَ: النَّذْرُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الصِّيغَةِ وَالْيَمِينُ مِنْ الْمُوجَبِ، قَالَ: فَإِنَّ إيجَابَ الْمُبَاحِ يَمِينٌ كَتَحْرِيمِهِ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلَى أَنْ قَالَ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} لَمَّا حَرَّمَ عليه الصلاة والسلام عَلَى نَفْسِهِ مَارِيَةَ رضي الله عنها أَوْ الْعَسَلَ، فَأَفَادَ أَنَّهُ إنَّمَا أُرِيدَ بِاللَّفْظِ مُوجَبُهُ وَهُوَ إيجَابُ الْمُبَاحِ، وَأُرِيدَ بِنَفْسِ إيجَابِ الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْمُوجَبِ كَوْنُهُ يَمِينًا قَالَ: وَمَعَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ لَا جَمْعَ، يَعْنِي حَيْثُ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ إيجَابُ الْمُبَاحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَبِالْإِيجَابِ نَفْسِهِ كَوْنُهُ يَمِينًا لَا جَمْعَ فِي الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ مَتَى أُرِيدَ الِالْتِزَامِيُّ لِيُرَادَ بِهِ الْيَمِينُ لَزِمَ الْجَمْعُ فِي الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ، إذْ لَيْسَ مَعْنَى الْجَمْعِ إلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ، ثُمَّ لَا يُخَالُ أَنَّهُ قِيَاسٌ لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ لِلْمُتَأَمِّلِ.

وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ لِأَنَّ إرَادَةَ الْإِيجَابِ عَلَى أَنَّهُ يَمِينُ إرَادَتِهِ عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَنْ يَسْتَعْقِبَ الْكَفَّارَةَ بِالْخُلْفِ وَإِرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ نَذْرًا إرَادَتُهُ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ لَا يَسْتَعْقِبَهَا بَلْ الْقَضَاءُ وَذَلِكَ تَنَافٍ، فَيَلْزَمُ إذَا أُرِيدَ يَمِينًا وَثَبَتَ حُكْمُهَا شَرْعًا وَهُوَ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِالْخُلْفِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ نَذْرًا إذْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِيهِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ) سَوَاءٌ أَرَادَهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ صَوْمُ يَوْمٍ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ سَنَةً، وَكَذَلِكَ إذْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ كَلَامًا فَجَرَى

ص: 384

أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا) لِأَنَّ النَّذْرَ بِالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ نَذْرٌ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَكِنَّهُ شَرَطَ التَّتَابُعَ، لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَا تَعْرَى عَنْهَا لَكِنْ يَقْضِيهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مَوْصُولَةً تَحْقِيقًا لِلتَّتَابُعِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ،

عَلَى لِسَانِهِ النَّذْرُ لَزِمَهُ لِأَنَّ هَذِهِ النَّذْرِ جِدٌّ كَالطَّلَاقِ (أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا) وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَالَتْهُ قَضَتْ مَعَ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيَّامَ حَيْضِهَا، لِأَنَّ تِلْكَ السَّنَةَ قَدْ تَخْلُو عَنْ الْحَيْضِ فَصَحَّ الْإِيجَابُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ خِلَافُ زُفَرَ فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَنْهُ فِي قَوْلِهَا أَنْ أَصُومَ غَدًا فَوَافَقَ حَيْضَهَا لَا تَقْضِي.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَقْضِيهِ لِأَنَّهَا لَمْ تُضِفْهُ نَذْرًا إلَى يَوْمِ حَيْضِهَا، بَلْ إلَى الْمَحَلِّ غَيْرَ أَنَّهُ اتَّفَقَ عُرُوضُ الْمَانِعِ، فَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْإِيجَابِ حَالَ صُدُورِهِ فَتَقْضِي، وَكَذَا إذَا نَذَرَتْ صَوْمَ الْغَدِ وَهِيَ حَائِضٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ: يَوْمَ حَيْضِي لَا قَضَاءَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ لِإِضَافَتِهِ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَصَارَ كَالْإِضَافَةِ إلَى اللَّيْلِ، ثُمَّ عِبَارَةُ الْكِتَابِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ لِمَا عُرِفَ.

وَقَوْلُهُ فِي النِّهَايَةِ الْأَفْضَلُ فِطْرُهَا، حَتَّى لَوْ صَامَهَا خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ تَسَاهُلٌ، بَلْ الْفِطْرُ وَاجِبٌ لِاسْتِلْزَامِ صَوْمِهَا الْمَعْصِيَةَ، وَلِتَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ الْفِطْرَ بِهَا، فَإِنْ صَامَهَا أَثِمَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا الْتَزَمَهَا نَاقِصَةً، لَكِنْ قَارَنَ هَذَا الِالْتِزَامُ وَاجِبًا آخَرُ وَهُوَ لُزُومُ الْفِطْرِ تَرَكَهُ فَتَحَمَّلَ إثْمَهُ ثُمَّ.

هَذَا إذَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ فَإِنْ قَالَهُ فِي شَوَّالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صِيَامُ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَلْ صِيَامُ مَا بَقِيَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ذَكَرَهُ فِي الْغَايَةِ.

وَقَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: هَذَا سَهْوٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذِهِ السَّنَةِ عِبَارَةٌ عَنْ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ وَقْتِ النَّذْرِ إلَى وَقْتِ النَّذْرِ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَكُونُ نَذْرًا بِهَا اهـ وَهَذَا سَهْوٌ، بَلْ الْمَسْأَلَةُ كَمَا هِيَ فِي الْغَايَةِ مَنْقُولَةٌ فِي الْخُلَاصَةِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهَذَا الشَّهْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَنَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَهَا مَبْدَأٌ وَمَخْتَمٌ خَاصَّانِ عِنْدَ الْعَرَبِ، مَبْدَؤُهَا الْمُحَرَّمُ وَآخِرُهَا ذُو الْحِجَّةِ، فَإِذَا قَالَ: هَذِهِ فَإِنَّمَا يُفِيدُ الْإِشَارَةَ إلَى الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَحَقِيقَةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ نَذْرٌ بِالْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُدَّةُ الْمَاضِيَةُ الَّتِي مَبْدَؤُهَا الْمُحَرَّمُ إلَى وَقْتِ التَّكَلُّمِ فَيَلْغُو فِي حَقِّ الْمَاضِي كَمَا يَلْغُو فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ، وَهَذَا فَرْعٌ يُنَاسِبُ هَذَا، لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ الْيَوْمَ أَوْ الْيَوْمَ أَمْسِ لَزِمَ صَوْمُ الْيَوْمِ، وَلَوْ قَالَ: غَدًا هَذَا الْيَوْمَ أَوْ هَذَا الْيَوْمَ غَدًا لَزِمَهُ صَوْمُ أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ تَفَوَّهَ بِهِ.

وَلَوْ قَالَ: شَهْرًا لَزِمَهُ شَهْرٌ كَامِلٌ، وَلَوْ قَالَ: الشَّهْرَ وَجَبَتْ بَقِيَّةُ الشَّهْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّهْرَ مُعَيَّنًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمَعْهُودِ بِالْحُضُورِ، فَإِنْ نَوَى شَهْرًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ ذَكَرَهُ فِي التَّجْنِيسِ، وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا فِي الْغَايَةِ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ: صَوْمُ يَوْمَيْنِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا صَوْمُ يَوْمِهِ، بِخِلَافِ عَشْرِ حَجَّاتٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(قَوْلُهُ: فِي هَذَا الْفَصْلِ) احْتِرَازٌ مِنْ الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ مَا إذَا عَيَّنَ السَّنَةَ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ مَوْصُولَةً لِأَنَّ التَّتَابُعَ هُنَاكَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلَا مُلْتَزَمٌ قَصْدًا، بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ ضَرُورَةَ فِعْلِ صَوْمِهَا، فَإِذَا قَطَعَهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ انْتَفَى التَّتَابُعُ الضَّرُورِيُّ بِخِلَافِ التَّتَابُعِ هُنَا، فَإِنَّهُ الْتَزَمَهُ قَصْدًا، فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ شَرْعًا وَجَبَ تَوْفِيرُهُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَلِهَذَا إذَا أَفْسَدَ يَوْمًا مِنْ الْوَاجِبِ الْمُتَتَابِعِ قَصْدًا كَصَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالْمَنْذُورِ مُتَتَابِعًا لَزِمَهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَفِي الْمُتَتَابِعِ ضَرُورَةً كَمَا إذَا نَذَرَ صَوْمَ هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ رَجَبَ لَا يَلْزَمُهُ سِوَى مَا أَفْسَدَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ الْإِفْسَادِ، كَمَا إذَا أَفْسَدَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ وَاجِبُ التَّتَابُعِ ضَرُورَةً لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ غَيْرِهِ مَعَ الْمَأْثَمِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَهْرٍ

ص: 385

وَيَتَأَتَّى فِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلنَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ وَالْعُذْرَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ

رَمَضَانَ فِي الْفَصْلَيْنِ، أَيْ هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ سَنَةٍ مُتَتَابِعَةٍ، لِأَنَّ هَذِهِ السَّنَةَ وَالسَّنَةَ الْمُتَتَابِعَةَ لَا تَخْلُو عَنْهُ، فَإِيجَابُهَا إيجَابُهُ وَغَيْرُهُ، فَيَصِحُّ فِي غَيْرِهِ وَيَبْطُلُ فِيهِ لِوُجُوبِهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً.

(قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم) رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ أَيَّامَ مِنًى صَائِحًا يَصِيحُ: أَنْ لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» أَيْ وِقَاعٍ.

وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ هُذَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيَّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى. أَلَا إنَّ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَلَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَفِي مُسْنَدِهِ سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ كَذَّبَهُ أَحْمَدُ.

وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَذَاقَةَ السَّهْمِيِّ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَةٍ أَيَّامَ مِنًى أُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَضَعَّفَهُ بِالْوَاقِدِيِّ، وَفِي الْوَاقِدِيِّ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي مَبَاحِثِ الْمِيَاهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْحَجِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ خَلَدَةَ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا يُنَادِي: أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» زَادَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ «وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى» .

(قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّتَابُعُ) أَيْ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ فَعَلَيْهِ صَوْمُ سَنَةٍ بِالْأَهِلَّةِ وَلَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ الْمُنَكَّرَةَ اسْمٌ لِاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لَا بِقَيْدِ كَوْنِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ النَّذْرُ بِهَا نَذْرًا بِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثَلَاثِينَ لِرَمَضَانَ، وَيَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَهَلْ يَجِبُ وَصْلُهَا بِمَا مَضَى؟ قِيلَ نَعَمْ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي التَّجْنِيسِ: هَذَا غَلَطٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُجْزِيَهُ، وَلَوْ قَالَ: شَهْرًا لَزِمَهُ كَامِلًا أَوْ رَجَبَ لَزِمَهُ هُوَ بِهِلَالِهِ، وَلَوْ قَالَ: جُمُعَةً إنْ أَرَادَ أَيَّامَهَا لَزِمَهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمَهَا لَزِمَهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَقَطْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تَلْزَمُهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا تُذْكَرُ لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَفِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ أَغْلَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ.

وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَيَّنَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَوْ قَالَ: كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ أَوْ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَصُمْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَقَطْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَوْ الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فِي إفْطَارِ الْخَمِيسِ الْأَوَّلِ أَوْ الِاثْنَيْنِ، وَمَا أَفْطَرَ مِنْهُمَا بَعْدُ فَفِيهِ الْقَضَاءُ لَيْسَ غَيْرُ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ الْأَوَّلِ، وَبَقَاءِ النَّذْرِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى صَارَ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ كَانَ نَذَرَ بِصِيَامِ الْأَبَدِ فَعَجَزَ لِذَلِكَ أَوْ بِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ لِكَوْنِ صِنَاعَتِهِ شَاقَّةً لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ لِعُسْرَتِهِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ لِشِدَّةِ الزَّمَانِ كَالْحَرِّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَنْتَظِرَ الشِّتَاءَ فَيَقْضِيَ، هَذَا.

وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ النَّذْرِ كَأَنْ يَقُولَ: إذَا جَاءَ زَيْدٌ أَوْ شُفِيَ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، فَلَوْ صَامَ شَهْرًا عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ عَنْهُ، وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ

ص: 386

لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَلْتَزِمُهُ الْكَمَالُ، وَالْمُؤَدَّى نَاقِصٌ لِمَكَانٍ النَّهْيِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَهَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِوَصْفِ النُّقْصَانِ فَيَكُونُ الْأَدَاءُ بِالْوَصْفِ الْمُلْتَزَمِ. قَالَ (وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا) وَقَدْ سَبَقَتْ وُجُوهُهُ.

(وَمَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ) لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، وَصَارَ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ يُسَمَّى صَائِمًا حَتَّى يَحْنَثَ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى

الْمُعَلَّقَ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا فِي الْحَالِ بَلْ عِنْدَ الشَّرْطِ فَالصَّوْمُ قَبْلَهُ صَوْمٌ قَبْلَ السَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ، وَالْمُضَافُ يَنْعَقِدُ فِي الْحَالِ، فَالصَّوْمُ قَبْلَ الْوَقْتِ صَوْمٌ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ، وَمِنْهُ: أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَصَامَ قَبْلَهُ عَنْهُ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِهِ، وَأَصْلُ هَذَا مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الصَّوْمِ أَنَّ التَّعْجِيلَ بَعْدَ السَّبَبِ جَائِزٌ أَصْلُهُ الزَّكَاةُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، غَيْرَ أَنَّ زُفَرَ لَمْ يُجِزْهُ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّمَانُ الْمُعَجَّلُ فِيهِ أَقَلَّ فَضِيلَةً مِنْ الْمَنْذُورِ، وَمُحَمَّدًا رحمه الله لِلتَّعْجِيلِ.

وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لُزُومَ الْمَنْذُورِ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ فَقَطْ، وَجَوَازُ التَّعْجِيلِ بَعْدَ السَّبَبِ بِدَلِيلِ الزَّكَاةِ فَابْتَنَى عَلَى هَذَا إلْغَاءُ تَعْيِينِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمُتَصَدِّقِ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبًا فَصَامَ عَنْهُ قَبْلَهُ شَهْرًا أَحَطَّ فَضِيلَةً مِنْهُ جَازَ خِلَافًا لَهُمَا، وَكَذَا إذَا نَذَرَ صَلَاةً فِي زَمَانٍ فَضِيلٍ فَصَلَّاهَا قَبْلَهُ فِي أَحَطَّ مِنْهُ جَازَ، أَوْ نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ فَصَلَّاهُمَا فِي غَيْرِهَا جَازَ، أَوْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ غَدًا عَلَى فُلَانٍ الْفَقِيرِ فَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ فِي الْيَوْمِ عَلَى غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ، خِلَافًا لِزُفَرَ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَمَا أَكَلَ أَوْ بَعْدَمَا حَاضَتْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ قَدِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ.

وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ فَقَدِمَ فُلَانٌ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْبِرِّ وَهُوَ الصَّوْمُ بِنِيَّةِ الشُّكْرِ، وَلَوْ قَدِمَ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ فَنَوَى بِهِ الشُّكْرَ لَا عَنْ رَمَضَانَ بَرَّ بِالنِّيَّةِ وَأَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِذَا نَذَرَ الْمَرِيضُ صَوْمَ شَهْرٍ فَمَاتَ قَبْلَ الصِّحَّةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا، تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَتَحْقِيقُهَا وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ أَوْ يَوْمَ كَذَا شَهْرًا أَوْ سَنَةً لَزِمَهُ مَا تَكَرَّرَ مِنْهُ فِي الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ.

وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَصَامَ ذَلِكَ مَرَّةً كَفَاهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْأَبَدَ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَآخِرِهِ لَزِمَهُ صِيَامُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ، وَكُلُّ صَوْمٍ أَوْجَبَهُ وَنَصَّ عَلَى تَفْرِيقِهِ فَصَامَهُ مُتَتَابِعًا خَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهِ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا يُجْزِيهِ، وَلَوْ قَالَ: بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، أَوْ دَهْرًا فَعَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ الدَّهْرَ فَعَلَى الْعُمْرِ.

وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ مِثْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ إنْ أَرَادَ مِثْلَهُ فِي الْوُجُوبِ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ أَوْ فِي التَّتَابُعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ. رَجُلٌ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ فَصَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَدْ أَفْطَرَ يَوْمًا وَلَا يَدْرِي أَيَّ يَوْمٍ هُوَ قَضَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ.

(قَوْلُهُ مَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ إلَخْ) الْمَقْصُودُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ كَيَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ، بِخِلَافِ نَذْرِهَا فَإِنَّهُ يُوجِبُهُ فِي غَيْرِهَا، وَبِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّ إفْسَادَهَا

ص: 387

الصَّوْمِ فَيَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، فَيَجِبُ إبْطَالُهُ فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يُبْتَنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِنَفْسِ النَّذْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ، وَلَا بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّلَاةِ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى وَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ كَالشُّرُوعِ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ التَّفْصِيلُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ فَإِذَا فَوَّتَهُ وَجَبَ جَبْرُهُ بِالْقَضَاءِ، وَوُجُوبُ الْإِتْمَامِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مُنْتَفٍ، بَلْ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ قَطْعُهُ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ مُرْتَكِبٌ لِلنَّهْيِ لِصِدْقِ اسْمِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ وَالصِّيَامِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ بِنِيَّةٍ. وَلِذَا حَنِثَ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يَصُومُ، وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يَصُومُ صَوْمًا، وَلَا يَصِيرُ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ النَّذْرِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ الصَّلَاةُ، وَالصَّلَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أَرْكَانٍ مَعْلُومَةٍ فَمَا لَمْ يَفْعَلْهَا لَا تَتَحَقَّقُ، لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ بِوُجُودِ جَمِيعِ حَقِيقَتِهِ، فَإِذَا قَطَعَهَا فَقَدْ قَطَعَ مَا لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ بَعْدَ قَطْعِهِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَمَلِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِبْطَالِ فَيَلْزَمُ بِهِ الْقَضَاءُ إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ بَعْدَ السَّجْدَةِ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَالْجَوَابُ مُطْلَقٌ فِي الْوُجُوبِ.

ص: 388

‌بَابُ الِاعْتِكَافِ

قَالَ (الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَاظَبَ عَلَيْهِ

بَابُ الِاعْتِكَافِ)

قَالَ الْقُدُورِيُّ (الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ) وَالْحَقُّ خِلَافُ كُلٍّ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ، بَلْ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: الِاعْتِكَافُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَهُوَ الْمَنْذُورُ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا، وَإِلَى سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ وَهُوَ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِلَى مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ مَا سِوَاهُمَا.

وَدَلِيلُ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ» فَهَذِهِ الْمُوَاظَبَةُ الْمَقْرُونَةُ بِعَدَمِ التَّرْكِ مَرَّةً لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَتْ دَلِيلَ السُّنِّيَّةِ، وَإِلَّا كَانَتْ تَكُونُ دَلِيلَ الْوُجُوبِ. أَوْ نَقُولُ: اللَّفْظُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّرْكِ ظَاهِرًا لَكِنْ وَجَدْنَا صَرِيحًا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْكِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «كَانَ عليه الصلاة والسلام يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ إلَى مَكَانِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى، فَسَمِعَتْ زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ، فَقَالَ: مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا؟ آلْبِرُّ؟ انْزِعُوهَا فَلَا أَرَاهَا فَنُزِعَتْ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ» هَذَا.

وَأَمَّا اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اعْتَكَفَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْآخِرَ» وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْآخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ» وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ فَلَا يُدْرَى أَيَّةُ لَيْلَةٍ هِيَ، وَقَدْ تَتَقَدَّمُ وَقَدْ تَتَأَخَّرُ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ إلَّا

ص: 389

الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ السُّنَّةِ (وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ) أَمَّا اللَّبْثُ فَرُكْنُهُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْهُ فَكَانَ وُجُودُهُ بِهِ، وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ» وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقُولِ غَيْرُ مَقْبُولٍ،

أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ، هَكَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالشُّرُوحِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: وَفِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهَا تَدُورُ فِي السَّنَةِ تَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَتَكُونُ فِي غَيْرِهِ فَجُعِلَ ذَلِكَ رِوَايَةً، وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنْ قَالَ: قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ عَتَقَ وَطَلُقَتْ إذَا انْسَلَخَ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ لَيْلَةٍ مِنْهُ فَصَاعِدًا لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ الْعَامَ الْقَابِلَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِثْلُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ رَمَضَانَ الْآتِيَ وَلَيْسَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَازِمًا مِنْ التَّقْرِيرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَنَّهَا مِمَّا أَغْفَلَهَا الْمُصَنِّفُ رحمه الله، وَلَا يَنْبَغِي إغْفَالُهَا مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ لِشُهْرَتِهَا فَأَوْرَدْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ تَتْمِيمًا لِأَمْرِ الْكِتَابِ.

وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ: قِيلَ هِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ الْحَسَنُ رحمه الله: لَيْلَةَ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَأَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله عَنْ الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِكَوْنِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي ذَلِكَ الرَّمَضَانُ الَّذِي كَانَ عليه الصلاة والسلام الْتَمَسَهَا فِيهِ، وَالسِّيَاقَاتُ تَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ وَأَلْفَاظَهَا كَقَوْلِهِ «إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ» وَإِنَّمَا كَانَ يَطْلُبُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ. وَمِنْ عَلَامَاتِهَا أَنَّهَا بَلْجَةٌ سَاكِنَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا قَارَّةٌ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا بِلَا شُعَاعٍ كَأَنَّهَا طَسْتٌ، كَذَا قَالُوا، وَإِنَّمَا أُخْفِيَتْ لِيَجْتَهِدَ فِي طَلَبِهَا فَيَنَالَ بِذَلِكَ أَجْرَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا أَخْفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّاعَةَ لِيَكُونُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْ قِيَامِهَا بَغْتَةً، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ) هَذَا مَفْهُومُهُ عِنْدَنَا، وَفِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ إذْ هُوَ لُغَةً مُطْلَقُ الْإِقَامَةِ فِي أَيِّ مَكَان عَلَى أَيِّ غَرَضٍ كَانَ، قَالَ تَعَالَى {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} .

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ رُكْنَهُ اللَّبْثُ بِشَرْطِ الصَّوْمِ وَالنِّيَّةِ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ مِنْ الشُّرُوطِ أَيْ كَوْنُهُ فِيهِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى رِوَايَةِ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ مُطْلَقًا لَا عَلَى اشْتِرَاطِهِ لِلْوَاجِبِ مِنْهُ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِلنَّفْلِ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا إطْلَاقُ قَوْلِهِ: وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، إنَّمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى مَا يَنْبَغِي لِأَنَّهُ إنْ ادَّعَى انْتِهَاضَ دَلِيلِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ لَزِمَهُ تَرْجِيحُ هَذِهِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام إلَخْ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُوَيْد بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا وَهْمٌ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، أَوْ مِنْ سُوَيْد، وَضَعَّفَ

ص: 390

ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

سُوَيْدًا، لَكِنْ قَالَ فِي الْإِكْمَالِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ: سَأَلْت هُشَيْمًا عَنْهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» قَالَ أَبُو دَاوُد: غَيْرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ فِيهِ قَالَتْ: السُّنَّةُ.

وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدِيلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اعْتَكِفْ وَصُمْ وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ وَيَصُومَ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ عَنْ عَمْرٍو، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَالثِّقَاتُ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرٍو لَمْ يَذْكُرُوا الصَّوْمَ مِنْهُمْ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الصَّوْمِ، بَلْ «إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلَةً فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» وَفِيهِمَا أَيْضًا «عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ اللَّيْلَةُ مَعَ يَوْمِهَا أَوْ الْيَوْمُ مَعَ لَيْلَتِهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رُوِيَتْ بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ وَتَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ فَيَجِبُ قَبُولُهَا فَالثِّقَةُ ابْنُ بَدِيلٍ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ.

وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَالْمُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها الصَّحِيحِ السَّنَدِ، فَإِنَّ رَفْعَهُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ.

وَمَا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُسَيْدَ عَنْ عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ " ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّهُمَا قَالَا: الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ " فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه بِلُزُومِهِ مَعَ أَنَّهُ رَاوِي وَاقِعَةَ أَبِيهِ يُقَوِّي ظَنَّ صِحَّةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ أَبِيهِ، وَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» وَصَحَّحَهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ.

فَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَمَعَ جَهَالَتِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُهُ، بَلْ يَقِفُونَهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَيُؤَيِّدُ الْوَقْفَ مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ تَفَرُّدَ الرَّمْلِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَقَدْ

ص: 391

لِظَاهِرِ مَا رَوَيْنَا وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ.

رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: اجْتَمَعْت أَنَا وَابْنُ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ عَلَى امْرَأَتِهِ اعْتِكَافٌ نُذِرَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا يَكُونُ اعْتِكَافٌ إلَّا بِصَوْمٍ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا، قَالَ: فَمِنْ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَمِنْ عُمَرَ؟ قَالَ لَا، قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ: فَانْصَرَفْت فَوَجَدْت طَاوُسًا وَعَطَاءً، فَسَأَلْتُهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ طَاوُسٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَا يَرَى عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامًا إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ رَأْيٌ صَحِيحٌ اهـ.

فَلَوْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَرْفَعُهُ لَمْ يَقْصُرْهُ طَاوُسٌ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ يَخَفْ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ بِحُضُورِهِ ذَلِكَ رَأْيٌ صَحِيحٌ فَعَنْ ذَلِكَ اعْتَرَفَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ رَفْعَهُ وَهْمٌ ثُمَّ لَمْ يَسْلَمْ الْمَوْقُوفُ عَنْ الْمُعَارِضِ، إذْ قَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالَا: الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ، فَتَعَارَضَ عَنْ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ. وَدَفْعُ الْمُعَارَضَةِ عَنْهُ بِأَنْ يُجْعَلَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ " إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ " الِاعْتِكَافَ فَيَكُونَ دَلِيلَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ دُونَ النَّفْلِ، وَيُخَصُّ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِهِ.

وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ إنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الْمَنْذُورِ، وَالْمُعَمِّمُ لِاشْتِرَاطِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ الْمَرْفُوعُ، وَمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهَا مَوْقُوفًا قَالَتْ: مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ.

وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ.

قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصِيَامٍ، وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلًا مِنْ رِوَايَةِ سُوَيْد، فَهَذِهِ كُلُّهَا تُؤَيِّدُ إطْلَاقَ الِاشْتِرَاطِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقَلُّ الِاعْتِكَافِ النَّفْلِ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ، وَجَعَلَ رِوَايَةَ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي النَّفْلِ ظَاهِرً الرِّوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَلَا يَحْضُرُنِي مُتَمَسَّكٌ لِذَلِكَ فِي السُّنَّةِ سِوَى حَدِيثِ الْقِبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْبَابِ فِي الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ «حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ» فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اعْتِكَافِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَلَا صَوْمَ فِيهِ.

وَفَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ سَاعَةً ثُمَّ تَرَكَهُ لَا يَكُونُ إبْطَالًا لِلِاعْتِكَافِ بَلْ إنْهَاءً لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَلْزَمُهُ، وَحَقَّقَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ إنَّمَا هُوَ لِلُزُومِ الْقَضَاءِ فِي شَرْطِهِ الصَّوْمَ لَا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِكَافُ التَّطَوُّعُ لَازِمًا فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَيْلًا فَقَطْ، وَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ تَبَعًا لِلنَّهَارِ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ مُسْتَنَدِ إثْبَاتِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ هُوَ قَوْلُهُ فِي الْأَصْلِ: إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ مَا أَقَامَ تَارِكٌ لَهُ إذَا خَرَجَ وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ الْعَقْلِ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ سَاعَةً مَعَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَصُمْ سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ اعْتِكَافَ يَوْمٍ أَوْ دُونَهُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ اعْتِبَارِ شَرْطٍ يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْ مَشْرُوطِهِ، وَمَنْ ادَّعَاهُ فَهُوَ بِلَا دَلِيلٍ، فَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ غَيْرُ صَحِيحٍ بِلَا مُوجِبٍ، إذْ الِاعْتِكَافُ لَمْ يُقَدَّرْ شَرْعًا بِكَمِّيَّةٍ لَا يَصِحُّ دُونَهَا كَالصَّوْمِ، بَلْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ لَا يَفْتَقِرُ فِي كَوْنِهِ عِبَادَةً إلَى

ص: 392

وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَقَلُّهُ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ. لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْعُدُ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ. وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ قَطَعَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْيَوْمِ كَالصَّوْمِ.

، ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه " لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ " وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ

الْجُزْءِ الْآخَرِ وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ تَقْدِيرُ شَرْطِهِ تَقْدِيرَهُ لِمَا قُلْنَا.

وَقَوْلُ مَنْ حَقَّقَ الْوَجْهَ إنَّمَا ذَلِكَ لِلُزُومِ الْقَضَاءِ فِي شَرْطِهِ بَعِيدٌ عَنْ التَّحْقِيقِ بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ. فَإِنَّ إفْسَادَ الِاعْتِكَافِ لَا يَسْتَلْزِمُ إفْسَادَ الصَّوْمِ لِيَلْزَمَ قَضَاؤُهُ لِجَوَازِ كَوْنِهِ بِمَا لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَغَايَةُ مَا يُصَحَّحُ بِأَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ فَيَجِبُ لِذَلِكَ اسْتِئْنَافُ صَوْمٍ آخَرَ ضَرُورَةَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ. وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ لِلُزُومِهِ فِي الصَّوْمِ بَلْ بِالْعَكْسِ، فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ إلَّا فِي مَنْذُورٍ أَفْسَدَهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي الْمَسْنُونِ أَعْنِي الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ بِنِيَّتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ أَنْ يَجِبَ قَضَاؤُهُ تَخْرِيجًا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الشُّرُوعِ فِي نَفْلِ الصَّلَاةِ نَاوِيًا أَرْبَعًا لَا عَلَى قَوْلِهِمَا.

وَمِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَنَّهُ لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا أَوْ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ هَذَا الْيَوْمَ لَا يَصِحُّ. وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ مِنْهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ اسْتِيعَابِ النَّهَارِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: أَقَلُّهُ أَكْثَرُ النَّهَارِ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ لَزِمَهُ فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْهُ قَضَاهُ. وَهَذَا أَوْجَهُ فَيَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ.

(قَوْلُهُ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ إلَخْ) ذَكَرَ وَجْهَهُ مِنْ الْمَعْنَى وَذَكَرْنَا آنِفًا وَجْهَهُ مِنْ السُّنَّةِ، وَحَمْلُ صَاحِبِ التَّنْقِيحِ إيَّاهُ عَلَى أَنَّهُ اعْتَكَفَ مِنْ ثَانِي الْفِطْرِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ. وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي حَدِيثٍ «فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ» عَلَيْهِ لَا لَهُ، لِأَنَّ مَدْخُولَ لَمَّا مَلْزُومٌ لِمَا بَعْدَهُ فَاقْتَضَى أَنَّهُ حِينَ أَفْطَرَ اعْتَكَفَ بِلَا تَرَاخٍ.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه إلَخْ) أَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عُكُوفٌ؟ قَالَ: فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْت، أَوْ حَفِظُوا وَأُنْسِيت، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إنَّ أَبْغَضَ الْأَمْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِدَعُ، وَإِنَّ مِنْ الْبِدَعِ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الدُّورِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَخْبَرَنِي جَابِرٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَّمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ ". وَتَقَدَّمَ مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ

ص: 393

الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ تُؤَدَّى فِيهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْضِعُ لِصَلَاتِهَا فَيَتَحَقَّقُ انْتِظَارُهَا فِيهِ.

(وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ) أَمَّا الْحَاجَةُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تَقْضِيَتِهَا فَيَصِيرُ الْخُرُوجُ لَهَا مُسْتَثْنًى، وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطُّهُورِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ وَهِيَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ،

الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ) قِيلَ: أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الْجَامِعِ، أَمَّا الْجَامِعُ فَيَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُصَلَّ فِيهِ الْخَمْسُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَالنَّفَلُ يَجُوزُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ مَعْلُومٌ وَتُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِالْجَمَاعَةِ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ لَهُ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ» وَمَعْنَى هَذَا مَا رَوَاهُ فِي الْمُعَارَضَةِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصِحُّ» ثُمَّ أَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ مَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ الْجَامِعُ. قِيلَ: إذَا كَانَ يُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي مَسْجِدِهِ أَفْضَلُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ، ثُمَّ كُلُّ مَا كَانَ أَهْلُهُ أَكْثَرَ.

(قَوْلُهُ أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا) أَيْ الْأَفْضَلُ ذَلِكَ، وَلَوْ اعْتَكَفَتْ فِي الْجَامِعِ أَوْ فِي مَسْجِدِ حَيِّهَا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَامِعِ فِي حَقِّهَا جَازَ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ ذَكَرَ الْكَرَاهَةَ قَاضِي خَانْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا وَلَا إلَى نَفْسِ الْبَيْتِ مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِهَا إذَا اعْتَكَفَتْ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ، وَلَا تَعْتَكِفُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا، وَإِذَا أَذِنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا وَلَا يَمْنَعَهَا، وَفِي الْأَمَةِ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْإِذْنَ مَعَ الْكَرَاهَةِ الْمُؤَثِّمَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَسَاءَ وَأَثِمَ

(قَوْلُهُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها) رَوَى السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَيْضًا.

(قَوْلُهُ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ) هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُجِيزُهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَأَمَّا عَلَى رَأْيِنَا فَلَا إذْ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ

ص: 394

وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فَالضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ فِي الْخُرُوجِ، وَيَخْرُجُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا عَنْهُ يَخْرُجُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا، وَفِي رِوَايَةٍ سِتًّا، الْأَرْبَعُ سُنَّةٌ، وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا فَأُلْحِقَتْ بِهَا، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِكَافٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتِمَّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً بِغَيْرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَقَالَا: لَا يُفْسِدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ

أَوْ دُونَهَا إذَا كَانَ جَامِعًا فَلَا يَكُونُ التَّمَسُّكُ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} كَمَا فَعَلَهُ الشَّارِحُونَ صَحِيحًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ إلْزَامًا بِالدَّلِيلِ، فَإِذَا صَحَّ فَبَعْدَ ذَلِكَ الضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ لِلْخُرُوجِ مَعَ بَقَاءِ الِاعْتِكَافِ وَهِيَ هُنَا مُتَحَقِّقَةٌ نَظَرًا إلَى الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ.

(قَوْلُهُ وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا) يَنْبَغِي جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَطْفًا عَلَى إدْرَاكِهَا مِنْ بَابِ {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} وَ {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} بِمَعْنَى قَابِضَاتٍ وَجَاعِلُ، فَيَنْحَلُّ إلَى أَنْ يَخْرُجَ فِي وَقْتٍ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَصَلَاةِ أَرْبَعٍ أَوْ سِتٍّ قَبْلَهَا يُحَكِّمُ فِي ذَلِكَ رَأْيَهُ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي خُرُوجِهِ عَلَى إدْرَاكِ السَّمَاعِ لِلْخُطْبَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا تُصَلَّى قَبْلَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ.

(قَوْلُهُ وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ) صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الْفَرِيضَةِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَجْزَأَهُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ التَّحِيَّةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى غَيْرِهَا فِي تَحَقُّقِهَا وَكَذَا السُّنَّةُ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ إمَّا ضَعِيفَةٌ أَوْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْوَقْتِ مِمَّا يَسَعُ فِيهِ السُّنَّةَ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ بَعْدَ قَطْعِ الْمَسَافَةِ مِمَّا يُعْرَفُ تَخْمِينًا لَا قَطْعًا، فَقَدْ يَدْخُلُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ ظَنِّهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالسُّنَّةِ فَيَبْدَأَ بِالتَّحِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَصْدُقُ الْحَزْرُ.

(قَوْلُهُ وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ) مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَهَا أَرْبَعٌ، وَقَوْلَهُمَا سِتٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ فِي السِّتِّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَقَدَّمْنَا الْوَجْهَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ.

(قَوْلُهُ وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا) يَعْنِي فَتَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ لَهَا كَمَا تَحَقَّقَتْ لِنَفْسِ الْجُمُعَةِ فَلَا يَكُونُ بِصَلَاتِهَا فِي الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ الْأَوْلَى، وَهُوَ أَنْ لَا يَقْعُدَ فِي الْجَامِعِ إلَّا قَدْرَ الْحَاجَةِ الَّتِي جَوَّزَتْ خُرُوجَهُ، وَإِلَّا فَلَوْ اسْتَمَرَّ هُوَ فِيهِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ كَانَ لِمُجَوِّزٍ فَلَمْ يُبْطِلْهُ، وَمُقَامُهُ بَعْدَ الْحَاجَةِ فِي مَحَلِّ الِاعْتِكَافِ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّ فِي مَكَانِ الشُّرُوعِ لِأَنَّ إتْمَامَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي مَحَلِّ الشُّرُوعِ وَهِيَ عِبَادَةٌ تَطُولُ أَحَزُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْهُ فِي مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنَّ فِي هَذَا تَرْوِيحًا لَهَا مِنْ كَدِّ التَّقَيُّدِ بِالْعِبَادَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ فِي مَكَان تَقَيَّدَ بِهِ حَتَّى يُتِمَّهَا فَيَكُونُ كَالْإِخْلَافِ بَعْدَ الِالْتِزَامِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ) وَتَقْيِيدُهُ فِي الْكِتَابِ الْفَسَادُ بِمَا إذَا كَانَ الْخُرُوجُ

ص: 395

وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً.

قَالَ (وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ فِي مُعْتَكَفِهِ)

بِغَيْرِ عُذْرٍ يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِعُذْرٍ لَا يَفْسُدُ. وَعَلَيْهِ مَشَى بَعْضُهُمْ فِيمَا إذَا خَرَجَ لِانْهِدَامِ الْمَسْجِدِ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. أَوْ أَخْرَجَهُ سُلْطَانٌ. أَوْ خَافَ عَلَى مَتَاعِهِ فَخَرَجَ، وَحُكِمَ بِالْفَسَادِ إذَا خَرَجَ لِجِنَازَةٍ وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، أَوْ لِنَفِيرٍ عَامٍّ أَوْ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ. وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ الْخُرُوجَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا بِأَنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ أَوْ الْغَرِيمُ. أَوْ خَرَجَ لِبَوْلٍ فَحَبَسَهُ الْغَرِيمُ سَاعَةً. أَوْ خَرَجَ لِعُذْرِ الْمَرَضِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعَلَّلَ قَاضِي خَانْ فِي الْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ بِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى عَنْ الْإِيجَابِ، فَأَفَادَ هَذَا التَّعْلِيلُ الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ، وَعَنْ هَذَا فَسَدَ إذَا عَادَ مَرِيضًا أَوْ شَهِدَ جِنَازَةً.

وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ النَّهْيُ عَنْهُ مُطْلَقًا، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَيْضًا يَفْسُدُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ كَالْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّهُ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ وُقُوعُ تَعَيُّنِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى وَاحِدٍ مُعْتَكِفٍ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ.

فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا فَكَانَتْ مُسْتَثْنَاةً. وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ جِهَادٍ عَمَّ نَفِيرُهُ يَفْسُدُ وَلَا يَأْثَمُ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ إلَى آخَرَ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَالِبَ الْوُقُوعِ، وَنَصَّ عَلَى فَسَادِهِ بِذَلِكَ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ.

وَتَفَرُّقُ أَهْلِهِ وَانْقِطَاعُ الْجَمَاعَةِ مِنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ. وَنَصَّ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فَقَالَ فِي الْكَافِي: وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَاعْتِكَافُهُ فَاسِدٌ إذَا خَرَجَ سَاعَةً لِغَيْرِ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ جُمُعَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ لَا لِلْبُطْلَانِ وَإِلَّا لَكَانَ النِّسْيَانُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِفْسَادِ لِأَنَّهُ عُذْرٌ ثَبَتَ شَرْعًا اعْتِبَارُ الصِّحَّةِ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَعْضِ أَهْلِهِ لِيَغْسِلَهُ أَوْ يُرَجِّلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام، وَإِنْ غَسَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ بِحَيْثُ لَا يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ لَا بَأْسَ بِهِ.

وَصُعُودُ الْمِئْذَنَةِ إنْ كَانَ بَابُهَا مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ لَا يُفْسِدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلْأَذَانِ مَعْلُومٌ فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى.

أَمَّا غَيْرُهُ فَيُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ قَوْلُ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَقْيَسُ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ. وَفِي شَرْحِ الصَّوْمِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ: الْمُعْتَكِفُ يَخْرُجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ شَاهِدٌ آخَرَ فَيَتْوَى حَقُّهُ. وَلَوْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِحَجٍّ لَزِمَهُ إذْ لَا يُنَافِيهِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ إلَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ وَيَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ.

وَلَوْ احْتَلَمَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَلْوِيثٍ فَعَلَ، وَإِلَّا خَرَجَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ يَعُودُ.

(قَوْلُهُ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ) يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَعْدُودَةِ الَّتِي رَجَحَ فِيهَا الْقِيَاسُ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ. ثُمَّ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ بِالضَّرُورَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْ عَدَمِ أَمْرِهِ إذَا خَرَجَ إلَى الْغَائِطِ أَنْ يُسْرِعَ الْمَشْيَ، بَلْ يَمْشِي عَلَى التُّؤَدَةِ وَبِقَدْرِ الْبُطْءِ تَتَخَلَّلُ السَّكَنَاتُ بَيْنَ الْحَرَكَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي فَنِّ الطَّبِيعَةِ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ قَدْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ فَجَعَلْنَا الْفَاصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَثِيرِ أَقَلَّ مِنْ أَكْثَرِ الْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلَةِ لِأَنَّ مُقَابِلَ الْأَكْثَرِ يَكُونُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَأَنَا لَا أَشُكُّ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى السُّوقِ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ أَوْ الْقِمَارِ مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا، ثُمَّ قَالَ " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مُعْتَكِفٌ.

قَالَ: مَا أَبْعَدَك عَنْ الْعَاكِفِينَ " وَلَا يُتِمُّ مَبْنَى هَذَا الِاسْتِحْسَانُ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الَّتِي يُنَاطُ

ص: 396

لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ.

(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ) لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ إحْضَارُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِيهِ شَغْلُهُ بِهَا، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ إلَى أَنْ قَالَ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ» .

قَالَ (وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ

بِهَا التَّخْفِيفُ هِيَ الضَّرُورَةُ اللَّازِمَةُ أَوْ الْغَالِبَةُ الْوُقُوعِ، وَمُجَرَّدُ عُرُوضِ مَا هُوَ مُلْجِئٌ لَيْسَ بِذَلِكَ. أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ مُدَافَعَةُ الْأَخْبَثَيْنِ عَلَى وَجْهٍ عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ لَا يُقَالُ بِبَقَاءِ صَلَاتِهِ كَمَا يُحْكَمُ بِهِ مَعَ السَّلَسِ مَعَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَالْإِلْجَاءِ وَسُمِّيَ ذَلِكَ مَعْذُورًا دُونَ هَذَا مَعَ أَنَّهُمَا يُجِيزَانِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَصْلًا.

إذْ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَنَّ خُرُوجَهُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ لَا يُفْسِدُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ لَا بَلْ لِلَّعِبِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْمُطَالَبَةِ بِالْإِسْرَاعِ فَلَيْسَ لِإِطْلَاقِ الْخُرُوجِ الْيَسِيرِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْأَنَاةَ وَالرِّفْقَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى طَلَبَهُ فِي الْمَشْيِ إلَى الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُفَوِّتُ بَعْضَهَا مَعَهُ بِالْجَمَاعَةِ.

وَكُرِهَ الْإِسْرَاعُ وَنُهِيَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُحَصِّلًا لَهَا كُلَّهَا فِي الْجَمَاعَةِ تَحْصِيلًا لِفَضِيلَةِ الْخُشُوعِ إذْ هُوَ يَذْهَبُ بِالسُّرْعَةِ وَالْعَاكِفُ أَحْوَجُ إلَيْهَا فِي عُمُومِ أَحْوَالِهِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَقَيِّدًا بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَالِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ، فَهُوَ فِي حَالِ الْمَشْيِ الْمُطْلَقِ لَهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ الِانْتِظَارُ، وَالْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمًا فَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى تَحْصِيلِ الْخُشُوعِ فِي حَالِ الْخُرُوجِ، فَكَانَتْ تِلْكَ السَّكَنَاتُ كَذَلِكَ، وَهِيَ مَعْدُودَةٌ مِنْ نَفْسِ الِاعْتِكَافِ لَا مِنْ الْخُرُوجِ، وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّ الْقَلِيلَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيرُهُ بِمَا هُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقَابِلِهِ مِنْ بَقِيَّةِ تَمَامِ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، بَلْ بِمَا يُعَدُّ كَثِيرًا فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا مَعْنَى الْعُكُوفِ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ يُنَافِيهِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ) أَيْ لِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ الْأَكْلِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا إذَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لِغَيْرِ ذَلِكَ كَالتِّجَارَةِ أَوْ اسْتِكْثَارِ الْأَمْتِعَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يُجَاوِزُ مَوَاضِعَهَا

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ) فَإِنَّهُ أَخْلَصَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي إحْضَارِ السِّلْعَةِ شَغْلُهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ») رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاِتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ. وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ» اهـ.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ: حَدِيثَ «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ» عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ سَمِعَ مَكْحُولٌ مِنْ وَاثِلَةَ وَأَنَسَ. وَأَبِي هِنْدٍ الدَّارِيِّ

ص: 397

وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) لِأَنَّ صَوْمُ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةِ شَرِيعَتِنَا لَكِنَّهُ يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا.

(وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ)

ذَكَرَهُ فِي الزُّهْدِ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ.

وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ. وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ، أَوْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ، وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالنَّسَائِيُّ رَوَاهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِتَمَامِهِ، وَفِي السُّنَنِ اخْتَصَرَهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا رَبَّحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «خِصَالٌ لَا تَنْبَغِي فِي الْمَسْجِدِ: لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا، وَلَا يُشْهَرُ فِيهِ سِلَاحٌ، وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ، وَلَا يُنْثَرُ فِيهِ نَبْلٌ، وَلَا يُمَرُّ فِيهِ بِلَحْمٍ نِيءٍ، وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ، وَلَا يُتَّخَذُ سُوقًا» وَأُعِلَّ بِزَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا لِلْمَسْجِدِ أَحْكَامًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ تُنْظَرُ هُنَاكَ.

(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) أَيْ الصَّمْتُ بِالْكُلِّيَّةِ تَعَبُّدًا بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَرِيعَتِنَا، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام قَالَ «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

وَأَسْنَدَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ وَعَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ» وَيُلَازِمُ التِّلَاوَةَ وَالْحَدِيثَ وَالْعِلْمَ وَتَدْرِيسَهُ، وَسِيَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَخْبَارَ

ص: 398

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (وَ) كَذَا (اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ) لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إذْ هُوَ مَحْظُورُهُ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ (فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ الِاعْتِكَافِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ

الصَّالِحِينَ، وَكِتَابَةَ أُمُورِ الدِّينِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ) أَيْ كُلًّا مِنْهُمَا (مِنْ دَوَاعِيهِ) فَمَرْجِعُ ضَمِيرِ دَوَاعِيهِ الْوَطْءُ وَضَمِيرُ مَحْظُورِهِ الِاعْتِكَافُ. وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْحُكْمُ بِاسْتِلْزَامِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ ابْتِدَاءً فِي الْعِبَادَةِ حُرْمَةَ دَوَاعِيهِ وَبِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهَا حُرْمَةَ الدَّوَاعِي إذَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ ثَابِتَةً ضِمْنَ ثُبُوتِ الْأَمْرِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ الضِّمْنِيِّ لِضِدِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَالْقَصْدِيِّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ثُبُوتَ مَا لَهُ الدَّوَاعِي عِنْدَ ثُبُوتِهَا مَعَ قِيَامِ الْحَاجِزِ الشَّرْعِيِّ عَنْهُ لَيْسَ قَطْعِيًّا وَلَا غَالِبًا غَيْرَ أَنَّهَا طَرِيقٌ فِي الْجُمْلَةِ فَحُرِّمَتْ لِلتَّحْرِيمِ الْقَصْدِيِّ لِمَا هِيَ دَوَاعِيهِ لَا الضِّمْنِيِّ، إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، بَلْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ إلَّا تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَلْحُوظٍ فِي الطَّلَبِ إلَّا لِغَيْرِهِ فَلَا تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى دَوَاعِيهِ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَحُرْمَةُ

ص: 399

وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ (وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ حَتَّى يَفْسُدَ بِهِ الصَّوْمُ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ

الْوَطْءِ فِي الِاعْتِكَافِ قَصْدِيٌّ إذْ هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّهْيِ الْمُفِيدِ لِلْحُرْمَةِ ابْتِدَاءً لِنَفْسِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَمِثْلُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاسْتِبْرَاءِ قَالَ تَعَالَى {فَلا رَفَثَ} الْآيَةَ.

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» فَتَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فِيهَا، وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ ضِمْنِيٌّ لِلْأَمْرِ الطَّالِبِ لِلصَّوْمِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْكَفِّ، فَحُرْمَةُ الْوَطْءِ تَثْبُتُ ضِمْنًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْوَطْءُ هِيَ الثَّابِتَةُ أَوَّلًا بِالصِّيغَةِ. ثُمَّ يَثْبُتُ وُجُوبُ الْكَفِّ عَنْهُ ضِمْنًا فَلِذَا يَثْبُتُ سَمْعًا حِلُّ الدَّوَاعِي فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابَيْهِمَا.

(قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ) أَوْ رَدَّ لِمَ لَمْ يَفْسُدْ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَجَازَهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ مُرَادٌ فَتَبْطُلُ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ. وَهُوَ مُشْكِلٌ لِانْكِشَافِ أَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْمُبَاشَرَةِ، لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ خَاصَّةٌ فَيَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُبْلَةِ وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ وَالْجِمَاعِ مُتَوَاطِئًا أَوْ مُشَكِّكًا، فَأَيُّهَا أُرِيدَ بِهِ كَانَ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ كُلُّ اسْمٍ لِمَعْنًى كُلِّيٍّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ فَرْدَانِ مِنْ مَفْهُومِهِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ سِيَاقُ النَّهْيِ وَهُوَ يُفِيدُ الْعُمُومَ.

فَيُفِيدُ تَحْرِيمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُبَاشَرَةِ جِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ. هَذَا وَإِذَا فَسَدَ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَجَبَ قَضَاؤُهُ إلَّا إذَا فَسَدَ بِالرِّدَّةِ خَاصَّةً، فَإِنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَيْسَ غَيْرُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ أَصْلُهُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ التَّتَابُعِ، وَسَوَاءٌ أَفْسَدَهُ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ إلَّا الرِّدَّةَ، أَوْ لِعُذْرٍ كَمَا إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ، وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ)

ص: 400

لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ (مُتَتَابِعَةً وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ) لِأَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ، لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا قَابِلَةٌ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ فَيَجِبُ عَلَى التَّفَرُّقِ حَتَّى يَنُصَّ عَلَى التَّتَابُعِ (وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ) لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ.

بِأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا (لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً) وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْقَلْبِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: شَهْرًا وَلَمْ يَنْوِهِ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ يَفْتَتِحُهُ مَتَى شَاءَ بِالْعَدَدِ لَا هِلَالِيًّا، وَالشَّهْرُ الْمُعَيَّنُ هِلَالِيٌّ، وَإِنْ فَرَّقَ اسْتَقْبَلَ.

وَقَالَ زُفَرُ: إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَشَهْرًا يُلْحَقُ بِالْإِجَارَاتِ وَالْأَيْمَانِ فِي لُزُومِ التَّتَابُعِ وَدُخُولِ اللَّيَالِي فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ أَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَبِالصَّوْمِ فِي عَدَمِ لُزُومِ الِاتِّصَالِ بِالْوَقْتِ الَّذِي نَذَرَ فِيهِ، وَالْمُعَيِّنُ لِذَلِكَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَفِي التَّارِيخِ كُتِبَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ، وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا فِيهِمَا وَقَالَ تَعَالَى {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ} وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَتَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى فَيَدْخُلُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَيَخْرُجُ بَعْدَ الْغُرُوبِ مِنْ آخِرِ الْأَيَّامِ الَّتِي عَدَّهَا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بَيَاضُ النَّهَارِ بِالْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ يَمْتَدُّ، وَذُكِرَ الْيَوْمُ بِلَفْظِ الْفَرْدِ فَلِهَذَا إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ لَمْ يَدْخُلْ اللَّيْلُ بِخِلَافِ الْأَيَّامِ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الصَّوْمِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تَلْزَمُهَا بِيَوْمِهَا، وَلَوْ نَوَى بِاللَّيْلَةِ الْيَوْمَ لَزِمَهُ وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ قَضَاءَ أَيَّامِ حَيْضِهَا بِالشَّهْرِ فِيمَا إذَا نَذَرَتْ اعْتِكَافَ شَهْرٍ فَحَاضَتْ فِيهِ، وَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِهِ، وَعَنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ قَالُوا: لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَوْ أَصَابَهُ عَتَهٌ أَوْ لَمَمٌ اسْتَقْبَلَ إذَا بَرْءًا لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ وَفِي الصَّوْمِ لَا يَقْضِي الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ وَيَقْضِي مَا بَعْدَهُ، فَأَفَادُوا أَنَّ الْإِغْمَاءَ إنَّمَا يُنَافِي شَرْطَ الصَّوْمِ وَهُوَ النِّيَّةُ.

وَالظَّاهِرُ وُجُودُهَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ فَلَا يَقْضِيهِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ الْفَرْقِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ، وَالِانْتِظَارُ يَنْقَطِعُ بِالْإِغْمَاءِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي تَجِبُ بَعْدَ الْإِغْمَاءِ بِخِلَافِ الْإِمْسَاكِ الْمَسْبُوقِ بِالنِّيَّةِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الصَّوْمِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ) لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْيَوْمِ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَنَوَى الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِيَ أَوْ قَلَبَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ L

ص: 401

(وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ يَلْزَمُهُ بِلَيْلَتَيْهِمَا). وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ، وَفِي الْمُتَوَسِّطَةِ ضَرُورَةُ الِاتِّصَالِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَلْحَقُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الشَّهْرَ اسْمٌ لِعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، لَيْسَ بِاسْمٍ عَامٍّ كَالْعَشَرَةِ عَلَى مَجْمُوعِ الْآحَادِ فَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ الْعَدَدِ أَصْلًا، كَمَا لَا تَنْطَلِقُ الْعَشَرَةُ عَلَى خَمْسَةٍ مَثَلًا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، أَمَّا لَوْ قَالَ: شَهْرًا بِالنَّهْرِ دُونَ اللَّيَالِي لَزِمَهُ كَمَا قَالَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ اسْتَثْنَى فَقَالَ: شَهْرًا إلَّا اللَّيَالِيَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثِينَ نَهَارًا، وَلَوْ اسْتَثْنَى لِأَيَّامٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْبَاقِيَ اللَّيَالِي الْمُجَرَّدَةَ، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا لِمُنَافَاتِهَا شَرْطَهُ، وَهُوَ الصَّوْمُ

(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى، كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي نُسَخِ شُرُوحِ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِمَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِي حُجَّتِهِمَا بِقَوْلِهِ: وَجْهُ الظَّاهِرِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ) فَكَانَ لَفْظُهُ وَلَفْظُ الْمُفْرَدِ سَوَاءً، ثُمَّ فِي لَفْظِ الْمُفْرَدِ بِأَنْ قَالَ يَوْمًا لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا التَّثْنِيَةُ، إلَّا أَنَّ الْمُتَوَسِّطَةَ تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ الِاتِّصَالِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى.

(قَوْلُهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ) وَلِذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَلَوْ قَالَ: لَيْلَتَيْنِ صَحَّ نَذْرُهُ إذَا لَمْ يَنْوِ اللَّيْلَتَيْنِ خَاصَّةً، بَلْ نَوَى الْيَوْمَيْنِ مَعَهُمَا، ثُمَّ خَصَّ الْمُصَنِّفُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُثَنَّى، وَعَنْهُ فِي الْجَمْعِ مِثْلُ الْمُثَنَّى، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَنْتَهِضُ عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ إدْخَالِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى فِي الْجَمْعِ أَيْضًا.

[فَرْعٌ]

لَوْ ارْتَدَّ عَقِيبَ نَذَرَ الِاعْتِكَافِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ مُوجَبُ النَّذْرِ، لِأَنَّ نَفْسَ النَّذْرِ بِالْقُرْبَةِ قُرْبَةٌ فَيَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ. وَنَذْرُ اعْتِكَافِ رَمَضَانَ لَازِمٌ، فَإِنْ أَطْلَقَهُ فَعَلَيْهِ فِي أَيِّ رَمَضَانَ شَاءَ، وَإِنْ عَيَّنَهُ لَزِمَهُ فِيهِ بِعَيْنِهِ فَلَوْ صَامَهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ لِلنَّذْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ فَلَا يُقْضَى وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَكِفَ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ آخَرَ بِاتِّفَاقِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يَعْتَكِفْ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ الِاعْتِكَافَ فِي صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَكُلُّ مُعَيَّنٍ نُذِرَ اعْتِكَافُهُ كَرَجَبٍ وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ مَثَلًا فَمَضَى وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ لَزِمَهُ

(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ) وَهُوَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ مَلَكَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَيَحُجُّ أَمْ يَتَزَوَّجُ؟ فَقَالَ: يَحُجُّ، فَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ بِتَقْدِيمِ الْحَجِّ مَعَ أَنَّ التَّزَوُّجَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ.

وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: أَنَّهُ إذَا

ص: 402

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قَضَاؤُهُ، فَلَوْ أَخَّرَ يَوْمًا حَتَّى مَرِضَ وَجَبَ الْإِيصَاءُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ لِلصَّوْمِ لَا لِلَّبْثِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ الْإِيجَابِ وَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى مَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ يَوْمًا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الصَّوْمِ، وَالنَّذْرُ بِاعْتِكَافِ أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ يَنْعَقِدُ، وَيَجِبُ فِي بَدَلِهَا لِأَنَّ شَرْطَهُ الصَّوْمُ وَهُوَ فِيهَا مُمْتَنِعٌ، فَلَوْ اعْتَكَفَهَا صَائِمًا أَثِمَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ.

وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ تَعَجَّلَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ قَبْلَهُ عَنْهُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رحمه الله. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ سَنَةَ كَذَا فَحَجَّ سَنَةً قَبْلَهَا، وَكَذَا النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ إذَا صَلَّاهَا قَبْلَهَا. وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا أَوْ أُصَلِّيَ غَدًا فَصَامَ الْيَوْمَ أَوْ صَلَّى جَازَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رحمه الله، فَجَعَلَ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ. وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتَصَدَّقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَنْهُ أَجْزَأَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فَصَلَّاهُمَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ جَازَ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الْمُضَافِ إلَى الزَّمَانِ وَالْمُضَافِ إلَى الْمَكَانِ.

وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ هَذَا الْمَكَانُ دُونَ ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَجُزْ اهـ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ مِثْلُ مَا عَنْ زُفَرَ، وَالْخِلَافُ فِي التَّعْجِيلِ مُشْكِلٌ، وَلَعَلَّ تَرْكَ الْخِلَافِ أَنْسَبُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ التَّعْجِيلِ بَعْدَ السَّبَبِ، وَكُلٌّ مَنْذُورٌ فَإِنَّمَا سَبَبُ وُجُوبِهِ النَّذْرُ، وَلَا تَعْتَكِفُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ مَنَعَهُمَا بَعْدَ الْإِذْنِ صَحَّ مَنْعُهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ مُسِيئًا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: يَكُونُ آثِمًا، وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا لَزِمَهُ وَلِلْمَوْلَى مَنْعُهُ مِنْهُ فَإِذَا عَتَقَ يَقْضِيهِ، وَكَذَا إذَا نَذَرَتْ الزَّوْجَةُ صَحَّ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، فَإِنْ بَانَتْ قَضَتْ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى مَنْعُ الْمُكَاتَبِ، وَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ سِبَابٌ وَلَا جِدَالٌ وَلَا سُكْرٌ فِي اللَّيْلِ، وَيُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ الرِّدَّةُ وَالْإِغْمَاءُ إذَا دَامَ أَيَّامًا، وَكَذَا الْجُنُونُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا، فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ؟ فِي الْقِيَاسِ لَا كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصِحَابِهِ وَسَلَّمَ.

ص: 403

‌كِتَابُ الْحَجِّ

كِتَابُ الْحَجِّ

أَخَّرَهُ عَنْ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ قَهْرِ النَّفْسِ، إذْ لَيْسَ حَقِيقَتُهُ سِوَى مَنْعِ شَهَوَاتِهَا وَمَحْبُوبَاتِهَا الَّتِي هِيَ أَعْظَمُهَا عِنْدَهَا، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا أَفْعَالٌ هِيَ غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدْ تَحْرُمُ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ فِيهَا كَالصَّلَاةِ وَقَدْ لَا إلَّا فِي الْبَعْضِ كَالْحَجِّ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ. وَأَيْضًا فَالْحَجُّ يَشْتَمِلُ عَلَى السَّفَرِ. وَقَدْ يَكُونُ السَّفَرُ مُشْتَهَاهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيحِهَا وَتَفْرِيجِ الْهُمُومِ اللَّازِمَةِ فِي الْمَقَامِ، وَأَيْضًا فَالْحَجُّ وُجُوبُهُ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَرْكَانِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا أَمَسَّ، وَوَجْهٌ آخَرُ لِلْأَمْسِيَةِ وَهُوَ أَنَّ شُرُوطَ لُزُومِ الْحَجِّ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِكَثْرَةِ شُرُوطِ الشَّيْءِ تَكْثُرُ مُعَانَدَاتُهُ، وَعَلَى قَدْرِ مُعَانَدَاتِ الشَّيْءِ يَقِلُّ وُجُودُهُ وَتَقْدِيمُ الْأَظْهَرِ وُجُوبًا أَظْهَرُ. وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَتَبَرَّكَ فِي افْتِتَاحِ هَذَا الرُّكْنِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ. فَإِنَّهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ أَجْمَعُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ، ثُمَّ نَذْكُرُ مُقَدِّمَةً فِي آدَابِ السَّفَرِ، وَالْمَقْصُودُ إعَانَةُ الْإِخْوَانِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ تَامَّةً فَنَقُولُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ كَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَالدَّارِمِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه فَسَأَلَ عَنْ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إلَيَّ فَقُلْتُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. فَأَهْوَى بِيَدِهِ إلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيِي وَأَنَا يَوْمئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِك يَا ابْنَ أَخِي. سَلْ عَمَّا شِئْت فَسَأَلْته وَهُوَ أَعْمَى، وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا، كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا، وَرِدَاؤُهُ إلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّى بِنَا فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا، فَقَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَأَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ

ص: 404

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ. قَالَ جَابِرٌ لَسْنَا نَنْوِي إلَّا الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، حَتَّى إذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام فَقَرَأَ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِي يَقُولُ: وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ إلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي رَمَلَ حَتَّى إذَا صَعِدَهَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ قَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى فَقَالَ: دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ، لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ. وَقَدِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مِنْ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رضي الله عنها مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا قَالَ: فَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِالْعِرَاقِ يَقُولُ: فَذَهَبْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ: صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَإِنَّ مَعِي الْهَدْيَ فَلَا تَحِلُّ، قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ رضي الله عنه مِنْ الْيَمَنِ، وَاَلَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةً قَالَ: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةٍ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةٍ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ

ص: 405

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

دِمَائِنَا دَمَ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النَّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فَقَالَ: بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إلَى السَّمَاءِ وَيُنَكِّثُهَا إلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ. ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، كُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنْ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ وَصَرَفَ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ». وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ:«نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حِينَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ: وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ يَوْمئِذٍ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً فَنَحَرَ لِكُلِّ سَنَةٍ بَدَنَةً ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا بِالْبَاقِي فَنَحَرَهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 406

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الْمَوْعُودَةُ] يُكْرَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحَجِّ إذَا كَرِهَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى خِدْمَتِهِ، لَا إنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ كَالْأَبَوَيْنِ عِنْدَ فَقْدِهِمَا

وَيُكْرَهُ الْخُرُوجُ لِلْحَجِّ وَالْغَزْوِ لِمَدْيُونٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَقْضِي بِهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْغَرِيمُ، فَإِنْ كَانَ بِالدَّيْنِ كَفِيلٌ بِإِذْنِهِ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا، وَإِنْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَبِإِذْنِ الطَّالِبِ وَحْدَهُ، وَيُشَاوِرُ ذَا رَأْيٍ فِي سَفَرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا فِي نَفْسِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ خَيْرٌ، وَكَذَا يَسْتَخِيرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ. وَسُنَنُهَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِسُورَتَيْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصِ، وَيَدْعُو بِالدُّعَاءِ الْمَعْرُوفِ لِلِاسْتِخَارَةِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِكَ» إلَخْ. أَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ تَعَالَى» ثُمَّ يَبْدَأُ بِالتَّوْبَةِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالِاسْتِحْلَالِ مِنْ خُصُومِهِ، وَمِنْ كُلِّ مَنْ عَامَلَهُ، وَيَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ نَفَقَةٍ حَلَالٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْحَجُّ بِالنَّفَقَةِ الْحَرَامِ مَعَ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ مَعَهَا وَإِنْ كَانَتْ مَغْصُوبَةً. وَلَا تَنَافِي بَيْنَ سُقُوطِهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ فَلَا يُثَابُ لِعَدَمِ الْقَبُولِ وَلَا يُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ عِقَابَ تَارِكِ الْحَجِّ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَفِيقٍ صَالِحٍ يُذَكِّرُهُ إذَا نَسِيَ، وَيُصَبِّرُهُ إذَا جَزِعَ، وَيُعِينُهُ إذَا عَجَزَ، وَكَوْنُهُ مِنْ الْأَجَانِبِ أَوْلَى مِنْ الْأَقَارِبِ عِنْدَ بَعْضِ الصَّالِحِينَ تَبَعُّدًا مِنْ سَاحَةِ الْقَطِيعَةِ، وَيُرِي الْمُكَارِيَ مَا يَحْمِلُهُ وَلَا يَحْمِلُ أَكْثَرَ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَيُجَرِّدُ سَفَرَهُ عَنْ التِّجَارَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْفَخْرِ، وَلِذَا كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الرُّكُوبَ فِي الْمَحْمَلِ. وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ قَصْدِ ذَلِكَ، وَرُكُوبُ الْجَمَلِ أَفْضَلُ،

وَيُكْرَهُ الْحَجُّ عَلَى الْحِمَارِ، وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ مِنْ الرُّكُوبِ لِمَنْ يُطِيقُهُ، وَلَا يُسِيءُ خُلُقُهُ، وَلَا يُمَاكِسُ فِي شِرَاءِ الْأَدَوَاتِ، وَلَا يُشَارِكُ فِي الزَّادِ، وَاجْتِمَاعُ الرُّفْقَةِ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى طَعَامِ أَحَدِهِمْ أَفْضَلُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ خُرُوجَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ اقْتِدَاءً بِهِ عليه الصلاة والسلام، وَإِلَّا فَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالشَّهْرِ، وَيُوَدِّعُ أَهْلَهُ وَإِخْوَانَهُ وَيَسْتَحِلُّهُمْ وَيَطْلُبُ دُعَاءَهُمْ، وَيَأْتِيهِمْ لِذَلِكَ وَهُمْ يَأْتُونَهُ إذَا قَدِمَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ لِقَزَعَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ. قَالَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ: إنَّ اللَّهَ إذَا اُسْتُوْدِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ، وَأَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَهُ: مَنْ يُوَدِّعُهُ عِنْدَ ذَلِكَ: فِي حِفْظِ اللَّهِ وَكَنَفِهِ زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى، وَجَنَّبَكَ الرَّدَى، وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، وَوَجَّهَكَ الْخَيْرَ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتَ» وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ فَلْيَقُلْ لِمَنْ يَخْلُفُهُ أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ الَّذِي لَا يُضِيعُ وَدَائِعَهُ» وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُشَيَّعَ الْمُسَافِرُ بِالْمَشْيِ مَعَهُ وَالدُّعَاءِ لَهُ. «وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ حِينَ وَجَّهَهُمْ ثُمَّ قَالَ: انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ» وَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ وَبَعْدَهُ فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ، وَأَقَلُّهُ شُبْعَةٌ فَإِنَّهُ سَبَبُ السَّلَامَةِ. وَإِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلْيَقُلْ " اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ "

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى السَّفَرِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الضَّيْعَةِ فِي السَّفَرِ، وَالْكَآبَةِ فِي الْمُنْقَلَبِ، اللَّهُمَّ اقْبِضْ لَنَا الْأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَيُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَيَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ» الْحَدِيثَ. وَمِنْ الْآثَارِ «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ

ص: 407

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ حَتَّى يَرْجِعَ» قِيلَ وَلِإِيلَافِ قُرَيْشٍ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَا خَلَّفَ أَحَدٌ عِنْدَ أَهْلِهِ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حِينَ يُرِيدُ سَفَرًا» فَإِذَا بَلَغَ بَابَ دَارِهِ قَرَأَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوبَ سَمَّى اللَّهَ، فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ قَالَ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» وَإِذَا أَتَى بَلْدَةً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِهَا وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَإِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا فَلْيَقُلْ {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} وَاذَا حَطَّ رَحْلَهُ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ كُلِّهَا مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ أَعْطِنَا خَيْرَ هَذَا الْمُنْزَلِ وَخَيْرَ مَا فِيهِ، وَاكْفِنَا شَرَّهُ وَشَرَّ مَا فِيهِ، وَيَقُولُ فِي رَحِيلِهِ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا فِي مُنْقَلَبِنَا وَمَثْوَانَا، اللَّهُمَّ كَمَا أَخْرَجْتنَا مِنْ مَنْزِلِنَا هَذَا سَالِمِينَ بَلِّغْنَا غَيْرَهُ آمِنِينَ، وَإِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ فَلْيَقُلْ مَا فِي أَبِي دَاوُد «كَانَ عليه الصلاة والسلام إذَا سَافَرَ فَأَقْبَلَ اللَّيْلُ قَالَ: يَا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ، وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْكِ، وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ وَمِنْ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ». وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «كَانَ عليه الصلاة والسلام إذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا، وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ فِيهِ أَبُو دَاوُد «بِحَمْدِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَزَادَ فِيهِ: «يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ» وَسَمِعَ بِكَسْرِ الْمِيمِ خَفِيفَةٌ أَيْ شَهِدَ شَاهِدٌ، وَقِيلَ: بِفَتْحِهَا مُشَدَّدَةً: أَيْ بَلَّغَ سَامِعٌ قَوْلِي هَذَا لِغَيْرِهِ تَنْبِيهًا عَلَى طَلَبِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ

، هَذَا وَلِلْحَجِّ مَفْهُومٌ لُغَوِيٌّ وَفِقْهِيٌّ، وَسَبَبٌ وَشُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ وَوَاجِبَاتٌ وَسُنَنٌ وَمُسْتَحَبَّاتٌ.

[فَمَفْهُومُهُ] لُغَةً: الْقَصْدُ إلَى مُعَظَّمٍ لَا الْقَصْدُ الْمُطْلَقُ. قَالَ:

أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ أَسْعَدَ أَنَّمَا

تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ لَأَكْبَرَا

وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً

يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا

أَيْ يَقْصِدُونَهُ مُعَظِّمِينَ إيَّاهُ. وَفِي الْفِقْهِ: قَصْدُ الْبَيْتِ لِأَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، أَوْ قَصْدُ زِيَارَتِهِ لِذَلِكَ. فَفِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ الطَّوَافِ الْفَرْضِ، وَالْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ مُحْرِمًا بِنِيَّةِ الْحَجِّ، سَابِقًا. لِأَنَّا نَقُولُ: أَرْكَانُهُ اثْنَانِ: الطَّوَافُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَلَا وُجُودَ لِلشَّخْصِ إلَّا بِأَجْزَائِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَمَاهِيَّتِهِ

ص: 408

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْكُلِّيَّةِ إنَّمَا هِيَ مُنْتَزِعَةٌ مِنْهَا؛ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرُوا مَفْهُومَ الِاسْمِ فِي الْعُرْفِ، وَقَدْ وُضِعَ لِغَيْرِ نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ فَيَكُونُ تَعْرِيفًا اسْمِيًّا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ الْفِقْهِيِّ وَضَعُوا لَهُ الِاسْمَ لِغَيْرِ الْمَاهِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَإِنَّ مُعَرَّفَ ذَلِكَ حَيْثُ لَا نَقْلَ عَنْ خُصُوصٍ نَاقِلٍ لِلِاسْمِ إلَى ذَلِكَ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهُ الْأَعْمَالُ الْمَخْصُوصَةُ لَا نَفْسَ الْقَصْدِ لِأَجْلِ الْأَعْمَالِ الْمُخْرَجِ لَهَا عَنْ الْمَفْهُومِ مَعَ أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَشْمَلُ الْحَجَّ النَّفَلَ لِتَقْيِيدِهِ بِأَدَاءِ رُكْنِ الدِّينِ فَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْحَجِّ مُطْلَقًا لِيَنْطَبِقَ عَلَى فَرْضِهِ وَنَفْلِهِ كَمَا هُوَ تَعْرِيفُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يُخَالِفُ سَائِرَ أَسْمَاءِ الْعِبَادَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلْأَفْعَالِ كَمَا يُقَالُ: الصَّلَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَخْ، وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ إلَخْ، وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ النَّفْسِ. وَالزَّكَاةُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِ أَدَاءِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ. فَلْيَكُنْ الْحَجُّ أَيْضًا عِبَارَةً عَنْ الْأَفْعَالِ الْكَائِنَةِ عِنْدَ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِ كَعَرَفَةَ، وَقَدْ انْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيَانُ أَرْكَانِهِ. .

[وَسَبَبُهُ] الْبَيْتُ، لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ.

[وَشَرَائِطُهُ نَوْعَانِ] شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ. وَالثَّانِي الْإِحْرَامُ وَالْمَكَانُ وَالزَّمَانُ الْمَخْصُوصُ حَتَّى لَا يَجُوزَ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ بَدَلَ الْإِحْرَامِ النِّيَّةَ، وَهَذَا أَوْلَى لِاسْتِلْزَامِهِ النِّيَّةَ وَغَيْرَهَا عَلَى مَا سَيَظْهَرُ لَك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَشَرْطُ وُجُوبِهِ: الْإِسْلَامُ، حَتَّى لَوْ مَلَكَ مَا بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ حَالَ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَمَا افْتَقَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِتِلْكَ الِاسْتِطَاعَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَلَكَهُ مُسْلِمًا فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى افْتَقَرَ حَيْثُ يَتَقَرَّرُ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْوَقْتُ أَيْضًا، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، حَتَّى لَوْ مَلَكَ مَا بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَهَا كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ صَرْفِهَا إلَى غَيْرِهِ، وَأَفَادَ هَذَا قَيْدًا فِي صَيْرُورَتِهِ دَيْنًا إذَا افْتَقَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَمْ يَحُجَّ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ قَادِرًا وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ إنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، أَوْ قَادِرًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ فِيهَا وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى افْتَقَرَ تَقَرَّرَ دَيْنًا، وَإِنْ مَلَكَ فِي غَيْرِهَا وَصَرَفَهَا إلَى غَيْرِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَاقْتَصَرَ فِي الْيَنَابِيعِ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ: وَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ، فَإِنْ مَلَكَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَأَهَّبَ أَهْلُ بَلَدِهِ لِلْخُرُوجِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ صَرْفِهَا حَيْثُ شَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ فِي الْحَالِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ فِي أَوَائِلِ الْأَشْهُرِ وَهُمْ يَخْرُجُونَ فِي أَوَاخِرِهَا جَازَ لَهُ إخْرَاجُهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَبْسُوطِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطُ الْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ نَقَلَ مِنْ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ: أَنَّ نَصْرَانِيًّا لَوْ أَسْلَمَ وَصَبِيًّا لَوْ بَلَغَ فَمَاتَا قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ، وَأَوْصَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَوَصِيَّتُهُمَا بَاطِلَةٌ عِنْدَ زُفَرَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُمَا قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: تَصِحُّ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِمَا، وَالْوَقْتُ شَرْطُ الْأَدَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[وَوَاجِبَاتُهُ] إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ مَا فَوْقَهُ مَا لَمْ يَخْشَ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورِهِ لِكَثْرَةِ الْبُعْدِ، وَمَدُّ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إلَى الْغُرُوبِ، وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالسَّعْيُ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، وَطَوَافُ الصَّدْرِ لِلْآفَاقِيِّ.

ص: 409

(الْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ الْأَصِحَّاءِ إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا)

وَأَمَّا سُنَنُهُ] فَطَوَافُ الْقُدُومِ، وَالرَّمَلُ فِيهِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ الْفَرْضِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ جَرْيًا، وَالْبَيْتُوتَةُ بِمِنًى لَيَالِي أَيَّامِ مِنًى، وَالدَّفْعُ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى قَبْلَهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَتَقِفُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ.

[وَأَمَّا مَحْظُورَاتُهُ فَنَوْعَانِ] مَا يَفْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَإِزَالَةُ الشَّعْرِ، وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ، وَالتَّطَيُّبُ، وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَلُبْسُ الْمَخِيطِ. وَمَا يَفْعَلُهُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ حَلْقُ رَأْسِ الْغَيْرِ، وَالتَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. وَأَمَّا قَطْعُ شَجَرِ الْحَرَمِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ مَنْقُولًا فَلَا يَنْبَغِي عَدُّهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لَا تُعَلَّقُ بِالْحَجِّ وَلَا الْإِحْرَامِ

(قَوْلُهُ عَلَى الْأَحْرَارِ إلَخْ) وَفِي النِّهَايَةِ: إنَّمَا ذَكَرَ الْأَحْرَارَ وَمَا بَعْدَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ مَعَ أَنَّهُ مُحَلًّى بِاللَّامِ وَالْمُحَلَّى يَبْطُلُ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، وَلَمْ يُفْرِدْ كَمَا أَفْرَدَ فِي قَوْلِهِ الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ، إخْرَاجًا لِلْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فِي إرَادَةِ الْجَمْعِيَّةِ، إذْ الْعَادَةُ جَرَتْ وَقْتَ خُرُوجِهِمْ بِالْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ مِنْ الرُّفَقَاءِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْإِخْفَاءَ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْإِبْدَاءِ. قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أَوْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا أَعَمُّ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ نَظَرًا إلَى السَّبَبِ، فَإِنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ صَحِيحٍ مُكْتَسِبٍ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ سَبَبَهَا النِّصَابُ النَّامِي، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَكَانَتْ إرَادَةُ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ هُنَا أَوْفَقَ، فَلِذَا أَتَى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ حَرْفِ الِاسْتِغْرَاقِ اهـ.

وَحَاصِلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ مَعَ اللَّامِ، وَالدَّاعِي إلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْخُرُوجِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لَا يُفَادُ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ إذْ لَيْسَ الِاجْتِمَاعُ مِنْ أَجْزَاءِ مَفْهُومِ لَفْظِ الْجَمْعِ وَلَا لَوَازِمِهِ، بَلْ مُجَرَّدُ الْمُتَعَدِّدِ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا، وَلِذَا لَا يَلْزَمُ فِي قَوْلِك جَاءَنِي الرِّجَالُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْمَجِيءِ فَانْتَفَى هَذَا الدَّاعِي، ثُمَّ قَوْلُهُ: إنَّ الْإِخْفَاءَ فِي الزَّكَاةِ أَفْضَلُ يُخَالِفُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ الْإِخْفَاءُ، وَالْمَفْرُوضَةِ كَالزَّكَاةِ الْإِظْهَارُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَثُبُوتُ السَّبَبِ فِي حَقِّ الْكُلِّ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ فَالنِّصَابُ أَيْضًا ثَابِتٌ لِذَلِكَ لِتَحَقُّقِ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ سَبَبِيَّتِهِ فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ، فَإِنَّ سَبَبِيَّتَهُ بِمُوجِبِيَّتِهِ الْحُكْمَ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْكُلِّ بَلْ فِي حَقِّ مَنْ اتَّصَفَ بِالشُّرُوطِ مَعَ تَحَقُّقِ بَاقِي الشُّرُوطِ الَّتِي يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَأَمْنِ الطَّرِيقِ، فَحَقِيقَةُ الْوُجُوبِ شَرْطُ سَبَبِيَّةِ السَّبَبِ لِلْمُتَأَمِّلِ، فَكَانَ كَالنِّصَابِ بَلْ مَحَلُّ الْوُجُوبِ فِي الزَّكَاةِ أَوْسَعُ، لِأَنَّ الشُّرُوطَ فِي الْحَجِّ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الزَّكَاةِ، وَتَوْسِعَةُ التَّفْصِيلِ مِمَّا يُوجِبُ التَّطْوِيلَ، وَبِالْمُتَأَمِّلِ غِنًى عَنْهُ بَعْدَ فَتْحِ بَابِ التَّأَمُّلِ لَهُ، فَكَانَ عَلَى هَذَا إرَادَةُ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى. ثُمَّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ كُلُّ ذَلِكَ فَزِيَادَةُ التَّعْمِيمِ بِالْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ عَلَى الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ، وَإِنْ أَرَادَ بِالِاسْتِغْرَاقِ الِاجْتِمَاعَ فَفِيهِ مَا عَلِمْت مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إرَادَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.

(قَوْلُهُ إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ) بِنَفَقَةِ وَسَطٍ لَا إسْرَافَ فِيهَا وَلَا تَقْتِيرَ (وَالرَّاحِلَةِ) أَيْ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ الْإِجَارَةِ دُونَ الْإِعَارَةِ، وَالْإِبَاحَةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَلَوْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ لِيَحُجَّ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاهِبُ مِمَّنْ تُعْتَبَرُ مِنَّتُهُ كَالْأَجَانِبِ، أَوْ لَا تُعْتَبَرُ كَالْأَبَوَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ بِالْمِلْكِ هِيَ الْأَصْلُ فِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ فَقَبْلَ الْمِلْكِ لِمَا بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ (قَوْلُهُ فَاضِلًا) حَالٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ (عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِهِ كَفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ وَثِيَابِهِ

ص: 410

(وَلَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قِيلَ لَهُ «الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ لَا بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ.

ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ

مَرَّتَيْنِ خُصُوصًا، وَفِي ضِمْنِ الْعُمُومِ، وَعَلَى الْإِيضَاحِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ الْمُفِيدِ لِلتَّفْخِيمِ، وَكَذَا وَضْعُ مَنْ كَفَرَ مَكَانَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ إلَى آخِرِ مَا عُرِفَ فِي الْكَشَّافِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إلَخْ) كَانَ يَكْفِي لِنَفْيِ التَّكَرُّرِ كَوْنُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَا يُفِيدُهُ فَلَا مُوجِبَ لِلتَّكَرُّرِ، لَكِنَّ حَاصِلَهُ نَفْيُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ التَّكَرُّرِ لِنَفْيِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ وَإِنْ كَفَى فِي نَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَكِنْ إثْبَاتُ النَّفْيِ مُقْتَضَى النَّفْيِ أَقْوَى فَلِذَا أَثْبَتَهُ بِالدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قِيلَ لَهُ «الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ» إلَخْ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» فَقَوْلُهُ «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ وُجُوبِ التَّكَرُّرِ مِنْ وَجْهَيْنِ لِإِفَادَةِ لَوْ هُنَا امْتِنَاعَ نَعَمْ، فَيَلْزَمُهُ ثُبُوتُ نَقِيضِهِ وَهُوَ لَا، وَالتَّصْرِيحُ بِنَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ أَيْضًا.

وَقَدْ رُوِيَ مُفَسَّرًا وَمُبَيَّنًا فِيهِ الرَّجُلَ الْمُبْهَمَ. أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ يَزِيدَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا، الْحَجُّ مَرَّةٌ فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ» وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهِ وَصَحَّحَهُ (قَوْلُهُ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ) وَأَمَّا تَكَرُّرُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَالِ فَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ النَّامِي تَقْدِيرًا وَتَقْدِيرُ النَّمَاءِ دَائِرٌ مَعَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ إذَا كَانَ الْمَالُ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَقْدِيرُ النَّمَاءِ الثَّابِتِ فِي هَذَا الْحَوْلِ غَيْرُ تَقْدِيرِ نَمَاءٍ فِي حَوْلٍ آخَرَ، فَالْمَالُ مَعَ هَذَا النَّمَاءِ غَيْرُ الْمَجْمُوعِ مِنْهُ وَمِنْ النَّمَاءِ الْآخَرِ فَيَتَعَدَّدُ حُكْمًا فَيَتَعَدَّدُ الْوُجُوبُ لِتَعَدُّدِ النِّصَابِ

ص: 411

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْعُمْرِ فَكَانَ الْعُمْرُ فِيهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُخَصُّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَالْمَوْتُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ فَيَتَضَيَّقُ احْتِيَاطًا وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ، بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي مِثْلِهِ نَادِرٌ.

كَانَ لَهُ مَالٌ يَكْفِي لِلْحَجِّ وَلَيْسَ لَهُ مَسْكَنٌ وَلَا خَادِمٌ أَوْ خَافَ الْعُزُوبَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ إلَى ذَلِكَ، إنْ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ إلَى الْحَجِّ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ الْأَدَاءُ بَعْدُ، وَإِنْ كَانَ وَقْتَ الْخُرُوجِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقٌ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ وُقُوعَ السُّؤَالِ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْخُرُوجِ فَهُوَ خِلَافُ مَا فِي التَّجْنِيسِ وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ الِاسْتِشْهَادُ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ، فَلَوْ حَجَّ بَعْدَهُ ارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَوَقَعَ أَدَاءً، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، فَلَا يَأْثَمُ إذَا حَجَّ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْإِمْكَانِ وَلَمْ يَحُجَّ ظَهَرَ أَنَّهُ آثِمٌ، وَقِيلَ: لَا يَأْثَمُ.

وَقِيلَ: إنْ خَافَ الْفَوْتَ بِأَنْ ظَهَرَتْ لَهُ مَخَايِلُ الْمَوْتِ فِي قَلْبِهِ فَأَخَّرَهُ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ، وَإِنْ فَجَأَهُ الْمَوْتُ لَا يَأْثَمُ، وَصِحَّةُ الْأَوَّلِ غَنِيَّةٌ عَنْ الْوَجْهِ. وَعَلَى اعْتِبَارِهِ قِيلَ يَظْهَرُ الْإِثْمُ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى، وَقِيلَ الْأَخِيرَةُ، وَقِيلَ مِنْ سَنَةِ رَأَى فِي نَفْسِهِ الضَّعْفَ، وَقِيلَ يَأْثَمُ فِي الْجُمْلَةِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِمُعَيَّنٍ بَلْ عِلْمُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى الْفَوْرِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْنَى، فَالْأَوَّلُ حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ قَابِلٍ مُتَعَارَفٌ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ السَّنَةَ، وَإِلَّا فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ.

وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَاحِدٍ فِي السَّنَةِ، وَالْمَوْتُ فِي سَنَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ فَتَأْخِيرُهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ فِي وَقْتِهِ

ص: 413

وَإِنَّمَا شَرَطَ الْحُرِّيَّةَ وَالْبُلُوغَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ بِأَسْرِهَا مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ

تَعْرِيضٌ لَهُ عَلَى الْفَوَاتِ فَلَا يَجُوزُ، وَلِذَا يَفْسُقُ بِتَأْخِيرِهِ وَيَأْثَمُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، فَحَقِيقَةُ دَلِيلِ وُجُوبِ الْفَوْرِ هُوَ الِاحْتِيَاطُ فَلَا يَدْفَعُهُ أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ جَوَازُ التَّأْخِيرِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَلَّى الْعُمْرُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَجَّ سَنَةَ عَشْرٍ، وَفَرْضِيَّةُ الْحَجِّ كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه حَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا وَلَمْ يَحُجَّ هُوَ إلَى الْقَابِلَةِ، أَوْ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ، عَلَى مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه «بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ عليه الصلاة والسلام فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ: الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَالْحَجَّ».

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ كُرَيْبٌ فَقَالَ: فِيهِ «بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ ضِمَامًا وَافِدًا فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ فَذَكَرَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ: الصَّلَاةَ، وَالصَّوْمَ، وَالْحَجَّ، أَوْ سَنَةَ سِتٍّ» فَإِنَّ تَأْخِيرَهُ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ تَعْرِيضُ الْفَوَاتِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَوْرِ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعِيشُ حَتَّى يَحُجَّ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ مَنَاسِكَهُمْ تَكْمِيلًا لِلتَّبْلِيغِ، وَلَيْسَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ جَوَازُ التَّأْخِيرِ وَلَا الْفَوْرُ حَتَّى يُعَارِضَهُ مُوجِبُ الْفَوْرِ وَهُوَ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَقْوَى قُوَّتَهُ، بَلْ مُجَرَّدُ طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْ الْفَوْرِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ يَخْرُجُ عَنْهَا، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَارِيخٍ، وَأَمَّا بِالتَّارِيخِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّمَا وَجَدْتُ مُعْضَلَةً فِي ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ كُرَيْبٌ فَقَالَ فِيهِ: وَذَكَرَ مَا قَدَّمْنَاهُ.

قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: لَا أَعْرِفُ لَهَا سَنَدًا، وَاَلَّذِي نَزَلَ سَنَةَ سِتٍّ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَهُوَ افْتِرَاضُ الْإِتْمَامِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا. فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَوْرِيَّةَ وَاجِبَةٌ، وَالْحَجُّ مُطْلَقًا هُوَ الْفَرْضُ فَيَقَعُ أَدَاءً إذَا أَخَّرَهُ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى نَظِيرِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ سَوَاءً، فَارْجِعْ إلَيْهِ وَقِسْ بِهِ

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام أَيُّمَا عَبْدٍ) رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى» وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا يَحُجُّونَ فَنَفَى إجْزَاءَ ذَلِكَ الْحَجِّ عَنْ الْحَجِّ الَّذِي وَجَبَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَتَفَرَّدَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ بِرَفْعِهِ، بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ لَا يَضُرُّ إذْ الرَّفْعُ زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِمُرْسَلٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ الْقُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ، فَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ فَإِنْ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ» وَهَذَا حُجَّةٌ عِنْدَنَا.

وَبِمَا هُوَ شَبِيهُ الْمَرْفُوعِ أَيْضًا فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْفَظُوا عَنِّي وَلَا تَقُولُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ " إلَخْ، وَعَلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ الْإِجْمَاعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِوَجْهَيْنِ كَوْنُهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالْمَالِ غَالِبًا بِخِلَافِهِمَا،

ص: 414

وَالْعَقْلُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ. وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ الْعَجْزَ دُونَهَا لَازِمٌ.

وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ وَوَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْمُقْعَدُ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَمَلُّكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ فَلِذَا لَا يَجِبُ عَلَى عَبِيدِ أَهْلِ مَكَّةَ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ فَإِنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ لَا لِلْأَهْلِيَّةِ فَوَجَبَ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ.

وَالثَّانِي أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى يَفُوتُ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لِافْتِقَارِ الْعَبْدِ وَغِنَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَرَعَ مَا شَرَعَ إلَّا لِتَعُودَ الْمَصَالِحُ إلَى الْمُكَلَّفِينَ إرَادَةً مِنْهُ لِإِفَاضَةِ الْجُودِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْمَوْلَى فِي اسْتِثْنَاءِ مُدَّتِهِمَا

(قَوْلُهُ وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ) حَتَّى إنَّ الْمُقْعَدَ وَالزَّمِنَ وَالْمَفْلُوجَ وَمَقْطُوعَ الرِّجْلَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِحْجَاجُ إذَا مَلَكُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَلَا الْإِيصَاءُ بِهِ فِي الْمَرَضِ، وَكَذَا الشَّيْخُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ: يَعْنِي إذَا لَمْ يَسْبِقْ الْوُجُوبُ حَالَةَ الشَّيْخُوخَةِ بِأَنْ لَمْ يَمْلِكْ مَا يُوصِلُهُ إلَّا بَعْدَهَا، وَكَذَا الْمَرِيضُ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْحَجِّ بِالْبَدَنِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمُبْدَلُ لَا يَجِبُ الْبَدَلُ.

وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى هَؤُلَاءِ إذَا مَلَكُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَمُؤْنَةَ مَنْ يَرْفَعُهُمْ وَيَضَعُهُمْ وَيَقُودُهُمْ إلَى الْمَنَاسِكِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا الْمُقْعَدُ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْمُقْعَدَ، وَيُقَابِلُ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا مَا نَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ إلَى مُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ: فَرَّقَ مُحَمَّدٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الْمُقْعَدِ وَالْأَعْمَى.

وَإِذَا وَجَبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْإِحْجَاجُ لِلُزُومِهِمْ الْأَصْلَ وَهُوَ الْحَجُّ بِالْبَدَنِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْبَدَلُ، فَلَوْ أَحَجُّوا عَنْهُمْ وَهُمْ آيِسُونَ مِنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ ثُمَّ صَحُّوا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَظَهَرَتْ نَفْلِيَّةُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ خُلْفٌ ضَرُورِيٌّ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ، وَكَذَا مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ عَدُوٌّ فَأَحَجَّ عَنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْعَدُوُّ عَلَى الطَّرِيقِ إلَى مَوْتِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ جَازَ الْحَجُّ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ حَتَّى مَاتَ لَا يَجُوزُ لِزَوَالِ الْعُذْرِ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَيَجِبُ الْأَصْلُ وَهُوَ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ،

وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ وَسَفَرِ قَائِدِهِ فَفِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَعَنْهُمَا فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ عِنْدَهُمَا عَلَى قِيَاسِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَا يَلْزَمُهُ فَرْقًا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ بِأَنَّ وُجُودَ الْقَائِدِ فِي الْجُمُعَةِ غَيْرُ نَادِرٍ بِخِلَافِهِ فِي الْحَجِّ وَالْمَرِيضُ وَالْمَحْبُوسُ وَالْخَائِفُ مِنْ السُّلْطَانِ الَّذِي يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ، كَذَلِكَ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِمْ.

وَفِي التُّحْفَةِ: أَنَّ الْمُقْعَدَ وَالزَّمِنَ وَالْمَرِيضَ وَالْمَحْبُوسَ وَالْخَائِفَ مِنْ السُّلْطَانِ الَّذِي يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْحَجُّ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ حَتَّى تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ التَّكَالِيفُ،

ص: 415

أَنَّهُ يَجِبُ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَطِيعَ بِالرَّاحِلَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَوْ هَدَى يُؤَدِّي بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الضَّالَّ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ أَوْ رَأْسَ زَامِلَةٍ، وَقَدْرَ النَّفَقَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا،

وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِحْجَاجُ إذَا مَلَكُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ فِي اخْتِيَارِ قَوْلِهِمَا، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْأَعْمَى إذَا وَجَدَ قَائِدًا بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ اسْتَأْجَرَ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ؟ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ اهـ.

وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ «إنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِي عَنْهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} قَيَّدَ الْإِيجَابَ بِهِ، وَالْعَجْزُ لَازِمٌ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا الِاسْتِطَاعَةُ.

فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِطَاعَةُ ثَابِتَةٌ إذَا قَدَرُوا عَلَى اتِّخَاذِ مَنْ يَرْفَعُهُمْ وَيَضَعُهُمْ وَيَقُودُهُمْ بِالْمِلْكِ أَوْ الِاسْتِئْجَارِ. قُلْنَا: مُلَاءَمَةُ الْقَائِدِ وَالْخَادِمِ وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ مَعَهُ مِنْهُمْ مِنْ الرِّفْقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالْعَجْزُ ثَابِتٌ لِلْحَالِ. فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِالشَّكِّ، عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ بِالْبَدَنِ هِيَ الْأَصْلُ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِنَا فَلَأَنْ يَسْتَطِيعَ عَمَلَ كَذَا فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ مَا فِي النَّصِّ، إلَّا أَنَّ هَذَا قَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ لَا مُطْلَقًا تَوَسُّطًا بَيْنَ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ، لِتَوَسُّطِهَا بَيْنَهُمَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَحْقِيقُهُ فِي بَابِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْوُجُوبُ دَائِرٌ مَعَ فَائِدَتِهِ عَلَى مَا تَحَقَّقَ فِي الصَّوْمِ فَيَثْبُتُ عِنْدَ قُدْرَةِ الْمَالِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْإِحْجَاجِ وَالْإِيصَاءِ.

وَمِنْ الْفُرُوعِ أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ هَؤُلَاءِ الْحَجَّ بِأَنْفُسِهِمْ سَقَطَ عَنْهُمْ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ لَوْ صَحُّوا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْوُجُوبِ عَنْهُمْ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فَإِذَا تَحَمَّلُوهُ وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْفَقِيرِ إذَا حَجَّ. هَذَا وَفِي الْفَتَاوَى تَكَلَّمُوا فِي أَنَّ سَلَامَةَ الْبَدَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَأَمْنَ الطَّرِيقِ. وَوُجُودَ الْمَحْرَمِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ الْأَدَاءِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ يَلْزَمُهُ اهـ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَمْ يَثْبُتَا تَنْصِيصًا بَلْ تَخْرِيجًا، أَوْ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ اخْتَارُوا رِوَايَةً.

وَإِذَا آلَ الْحَالُ إلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي الْمُخْتَارِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ تَخْرِيجِهِمَا فَلَنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنْ نَنْظُرَ فِي ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَتَرَجَّحُ كَوْنُهَا شُرُوطَ الْأَدَاءِ بِمَا قُلْنَاهُ آنِفًا إنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ مِمَّا تَتَأَدَّى بِالنَّائِبِ إلَخْ.

وَعَلَى هَذَا فَجَعْلُ عَدَمِ الْحَبْسِ وَالْخَوْفِ مِنْ السُّلْطَانِ شَرْطَ الْأَدَاءِ أَوْلَى، وَمَنْ قَدَرَ حَالَ صِحَّتِهِ وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى أُقْعِدَ أَوْ زَمِنَ أَوْ فَلَجَ أَوْ قُطِعَتْ رِجْلَاهُ تَقَرَّرَ فِي ذِمَّتِهِ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ، وَهُنَا قَيْدٌ حَسَنٌ يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ، وَهُوَ

ص: 416

«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ إلَيْهِ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عَقَبَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا يَتَعَاقَبَانِ لَمْ تُوجَدْ الرَّاحِلَةُ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَعَمَّا

أَنَّ وُجُوبَ الْإِيصَاءِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْوُجُوبِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَجِّ حَتَّى مَاتَ، فَأَمَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ بَعْدَ الْإِيجَابِ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ) رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه فِي «قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَتَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا فِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا السَّبِيلُ؟ قَالُوا: زَادٌ وَرَاحِلَةٌ» حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا مَنْصُور عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ.

وَمِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم. وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْقُرَشِيِّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِيهِ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» يَعْنِي قَوْلَهُ {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَهِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَمَحَلُّهُ الصِّدْقُ مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا.

وَبَاقِي الْأَحَادِيثِ بِطُرُقِهَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ لَا يَسْلَمُ مِنْ ضَعْفٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ صَحِيحٌ ارْتَفَعَ بِكَثْرَتِهَا إلَى الْحَسَنِ فَكَيْفَ وَمِنْهَا الصَّحِيحُ. هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ شِقَّ مَحْمَلٍ أَوْ رَأْسَ زَامِلَةٍ عَلَى التَّوْزِيعِ لِيَكُونَ الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ قَدَرَ عَلَى رَأْسِ زَامِلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ آخَرِينَ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَنْ قَدَرَ عَلَى شِقِّ مَحْمَلِ هَذَا، لِأَنَّ حَالَ النَّاسِ مُخْتَلِفٌ ضَعْفًا وَقُوَّةً وَجَلْدًا وَرَفَاهِيَةً، فَالْمُرَفَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا قَدَرَ عَلَى رَأْسِ زَامِلَةٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فِي عُرْفِنَا رَاكِبٌ مُقَتَّبٌ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ السَّفَرَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَهْلَكُ بِهَذَا الرُّكُوبِ فَلَا يَجِبُ فِي حَقِّ هَذَا لَا إذَا قَدَرَ عَلَى شِقِّ مَحْمَلٍ، وَمِثْلُ هَذَا يَتَأَتَّى فِي الزَّادِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَا يَكْفِيهِ مِنْ خُبْزٍ وَجُبْنٍ دُونَ لَحْمٍ وَطَبِيخٍ قَادِرًا عَلَى الزَّادِ، بَلْ رُبَّمَا يَهْلَكُ مَرَضًا بِمُدَاوَمَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إذَا كَانَ مُتَرَفِّهًا مُعْتَادَ اللَّحْمِ وَالْأَغْذِيَةِ الْمُرْتَفِعَةِ، بَلْ لَا يَجِبُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى مَا يَصْلُحُ مَعَهُ بَدَنُهُ.

وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا الزَّادُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ وَالرَّاحِلَةُ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى آحَادِ النَّاسِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مَا يُبَلِّغُ كُلَّ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ إلَخْ) الْعَقَبَةُ أَنْ يَكْتَرِيَ الِاثْنَانِ رَاحِلَةً يَعْتَقِبَانِ عَلَيْهَا يَرْكَبُ أَحَدُهُمَا مَرْحَلَةً وَالْآخَرُ مَرْحَلَةً، وَلَيْسَ يَلْزَمُ لِمَا فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ

ص: 417

لَا بُدَّ مِنْهُ كَالْخَادِمِ وَأَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لِلْمَرْأَةِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِأَمْرِهِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهُمْ الرَّاحِلَةُ، لِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الْأَدَاءِ فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ دُونَهُ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ

يَمْلِكَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ وَقْتِ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَنَقَلْنَا مَا فِي الْيَنَابِيعِ فَارْجِعْ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ الرَّاحِلَةُ) قَدَّمْنَا فَائِدَةَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَكَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي الْيَنَابِيعِ فَارْجِعْ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ) أَيْ وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَإِنْ كَانَ مُخِيفًا فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةَ.

وَمَا أَفْتَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ سُقُوطِ الْحَجِّ عَنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ: لَا أَقُولُ الْحَجُّ فَرِيضَةٌ فِي زَمَانِنَا قَالَهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَوْلُ الثَّلْجِيِّ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ خُرَاسَانَ حَجٌّ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً كَانَ وَقْتُ غَلَبَةِ النَّهْبِ وَالْخَوْفِ فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَا أَسْقَطَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ حِينِ خَرَجَتْ الْقَرَامِطَةُ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ، وَكَانُوا يَغْلِبُونَ عَلَى أَمَاكِنَ وَيَتَرَصَّدُونَ لِلْحُجَّاجِ، وَقَدْ هَجَمُوا فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى الْحَجِيجِ فِي نَفْسِ مَكَّةَ فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا فِي نَفْسِ الْحَرَمِ، وَأَخْذُو أَمْوَالَهُمْ، وَدَخَلَ كَبِيرُهُمْ بِفَرَسِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَوَقَعَتْ أُمُورٌ شَنِيعَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى أَنْ عَافَى مِنْهُمْ.

وَقَدْ سُئِلَ الْكَرْخِيُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ خَوْفًا مِنْهُمْ فَقَالَ: مَا سَلِمَتْ الْبَادِيَةُ مِنْ الْآفَاتِ: أَيْ لَا تَخْلُو عَنْهَا كَقِلَّةِ الْمَاءِ، وَشِدَّةِ الْحَرِّ وَهَيَجَانِ السَّمُومِ، وَهَذَا إيجَابٌ مِنْهُ رحمه الله، وَمَحْمَلُهُ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْغَالِبَ انْدِفَاعُ شَرِّهِمْ عَنْ الْحَاجِّ، وَرَأَى الصَّفَّارُ عَدَمَهُ فَقَالَ: لَا أَرَى الْحَجَّ فَرْضًا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً مِنْ حِينِ خَرَجَتْ الْقَرَامِطَةُ، وَمَا ذَكَرَ سَبَبًا لِذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِإِرْشَادِهِمْ فَتَكُونَ الطَّاعَةُ سَبَبَ الْمَعْصِيَةِ، فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ إنَّمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ مَا ذَكَرْته، ثُمَّ الْإِثْمُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْآخِذِ لَا الْمُعْطِي عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَقْسِيمِ الرِّشْوَةِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، وَكَوْنُ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ لَا يُتْرَكُ الْفَرْضُ لِمَعْصِيَةِ عَاصٍ.

وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَ غَلَبَةِ السَّلَامَةِ عَدَمُ غَلَبَةِ الْخَوْفِ حَتَّى إذَا غَلَبَ الْخَوْفُ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ الْمُحَارِبِينَ لِوُقُوعِ النَّهْبِ وَالْغَلَبَةِ مِنْهُمْ مِرَارًا أَوْ سَمِعُوا أَنَّ طَائِفَةً تَعَرَّضَتْ لِلطَّرِيقِ وَلَهَا شَوْكَةٌ وَالنَّاسُ يَسْتَضْعِفُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْهُمْ لَا يَجِبُ. وَاخْتُلِفَ فِي سُقُوطِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ، فَقِيلَ: الْبَحْرُ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الْبَحْرِ السَّلَامَةَ مِنْ مَوْضِعٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِرُكُوبِهِ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَسَيْحُونُ وَجَيْحُونَ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ أَنْهَارٌ لَا بِحَارٌ (قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ هُوَ) أَيْ أَمْنُ الطَّرِيقِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْإِيصَاءُ ابْنُ شُجَاعٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ

ص: 418

وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقِيلَ: هُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا غَيْرَ.

قَالَ (وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ تَحُجُّ بِهِ أَوْ زَوْجٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا

الْوُصُولَ بِدُونِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَصَارَ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وَهِيَ شَرْطُ الْوُجُوبِ. وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ فَيَجِبُ الْإِيصَاءُ الْقَاضِي أَبُو خَازِمٍ، لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ حِينَ سُئِلَ عَنْهَا، فَلَوْ كَانَ أَمْنُ الطَّرِيقِ مِنْهَا لَذَكَرَهُ وَإِلَّا كَانَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ الْعِبَادِ وَلَا يُسْقِطُ الْعِبَادَةَ الْوَاجِبَةَ كَالْقَيْدِ مِنْ الظَّالِمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي وُجُوبِ الْإِيصَاءِ بِالْحَجِّ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ حُصُولِ الْأَمْنِ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْوُجُوبِ تَقَدَّمَ لَنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ، وَأَنَّ عَدَمَ الْخَوْفِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْحَبْسِ مِنْ شُرُوطِ الْأَدَاءِ أَيْضًا فَيَجِبُ عَلَى الْخَائِفِ وَالْمَحْبُوسِ الْإِيصَاءُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ خِلَافَهُ. وَقَالُوا لَوْ تَحَمَّلَ الْعَاجِزُ عَنْهُمَا فَحَجَّ مَاشِيًا يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ، حَتَّى لَوْ اسْتَغْنَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ عَدَمَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ كَالْعَبْدِ، بَلْ لِلتَّرْفِيهِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ، فَإِذَا تَحَمَّلَهُ وَجَبَ ثُمَّ يَسْقُطُ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ. الثَّانِي: أَنَّ الْفَقِيرَ إذَا وَصَلَ إلَى الْمَوَاقِيتِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ مَكَّةَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَالثَّانِي يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ السُّقُوطِ عَنْهُ لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمَوَاقِيتِ كَدُوَيْرَةِ أَهْلِهِ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ لِلْوَاجِبِ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْمَوَاقِيتِ، فَلَا يَنْقَلِبُ لَهُ إلَّا بِتَجْدِيدٍ كَالصَّبِيِّ إذَا أَحْرَمَ ثُمَّ بَلَغَ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّجْدِيدُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ انْعَقَدَ لَازِمًا لِلنَّفْلِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ قَرِيبًا، وَبِخِلَافِ مَنْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ فَلَمْ يَنْوِ الْوَاجِبَ لِأَنَّ إحْرَامَهُ حِينَئِذٍ انْعَقَدَ لِلْوَاجِبِ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ يُخَالِفُهُ، وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي عَدَمَ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ، لِأَنَّ تَحَقُّقَ تَحَمُّلِهِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ لَا بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ.

وَمَعَ الْفَرَاغِ لَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمُنْقَضِي إذْ لَا يَسْبِقُ فِعْلُ الْوَاجِبِ الْوُجُوبَ، فَمَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ لَا يَنْتَهِضُ فِي سُقُوطِ الْحَجِّ عَنْهُ وَاحِدٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ، بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ مِنْهُ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَنْتَهِضْ فِيهِ الْأَوَّلُ انْتَهَضَ فِيهِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَا الْإِيرَادَ بِالْفَقِيرِ لِأَنَّا نَرَى أَنَّ سَلَامَةَ الْجَوَارِحِ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا الْوُجُوبِ عَلَى مَا بَحَثْنَاهُ آنِفًا.

(قَوْلُهُ وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ) وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا (أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ) كَابْنٍ أَوْ عَمٍّ، وَكَمَا يُشْتَرَطُ الْمَحْرَمُ كَذَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْعِدَّةِ وَقَالُوا فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ لَا تُسَافِرْ إلَّا بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا لَا تُعَانُ عَلَى السَّفَرِ وَلَا تُسْتَصْحَبُ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ مَا لَمْ تَبْلُغْ، وَبُلُوغُهَا حَدَّ الشَّهْوَةِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ رَدَّ الْمُعْتَدَّاتِ مِنْ النَّجْفِ، فَإِنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فِي السَّفَرِ فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا لَا يُفَارِقُهَا زَوْجُهَا أَوْ بَائِنًا، فَإِنْ كَانَ إلَى كُلٍّ مِنْ بَلَدِهَا وَمَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ تَخَيَّرَتْ، أَوْ إلَى أَحَدِهِمَا سَفَرٌ دُونَ الْآخَرِ تَعَيَّنَ أَنْ تَصِيرَ إلَى الْآخَرِ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا سَفَرٌ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرٍ قَرَّتْ فِيهِ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَلَا تَخْرُجُ وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا مَا دَامَتْ الْعِدَّةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ أَوْ مَفَازَةٍ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فَلَهَا

ص: 419

أَنْ تَحُجَّ بِغَيْرِهِمَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لَهَا الْحَجُّ إذَا خَرَجَتْ فِي رُفْقَةٍ وَمَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ بِالْمُرَافَقَةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» وَلِأَنَّهَا بِدُونِ الْمَحْرَمِ يُخَافُ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ وَتَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا، وَلِهَذَا تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا،

أَنْ تَمْضِيَ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ آمِنٍ فَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهَا، وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّا ذَكَرْنَاهَا هُنَا لِتَكُونَ أَذْكَرَ لِمَنْ يُطَالِعُ الْبَابَ.

(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لَهَا إلَخْ) لَهُ الْعُمُومَاتُ مِثْلُ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حُجُّوا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ. وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنْ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ لَا جِوَارَ مَعَهَا لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَدِيٌّ: رَأَيْت الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا زَوْجًا وَلَا مَحْرَمًا.

وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمُهَاجِرَةِ وَالْمَأْسُورَةِ إذَا خَلَصَتْ بِجَامِعِ أَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ. قُلْنَا: أَمَّا الْعُمُومَاتُ فَقَدْ تَقَيَّدَتْ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ إجْمَاعًا كَأَمْنِ الطَّرِيقِ فَتُقَيَّدُ أَيْضًا بِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ ثَلَاثًا إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «فَوْقَ ثَلَاثٍ» وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ «ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ سَفَرٍ فَإِنَّمَا تَنْتَظِمُ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ، وَهُوَ سَفَرُ الْحَاجِّ بِعُمُومِهِ لَكِنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْهُ سَفَرُ الْمُهَاجِرَةِ وَالْمَأْسُورَةِ فَيُخَصُّ مِنْهُ سَفَرُ الْحَجِّ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَيْهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ سَفَرٌ وَاجِبٌ، وَيَصِيرُ الدَّاخِلُ تَحْتَ اللَّفْظِ مُرَادًا السَّفَرَ الْمُبَاحَ.

قُلْنَا: لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِأَنَّ فِي عَيْنِهِ نَصًّا يُفِيدُ أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْعَامِّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَعْبَدًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 420

بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ. (وَإِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا

قَالَ «لَا تَحُجُّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي اكْتَتَبْتُ. فِي غَزْوَةِ كَذَا وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ، قَالَ: ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَهَا» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ وَلَفْظُهُ «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» فَثَبَتَ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ بِمَا رَوَيْنَا عَلَى أَنَّهُمْ خَصُّوهَا بِوُجُودِ الرُّفْقَةِ، وَالنِّسَاءُ الثِّقَاتُ فِيمَا رَوَيْنَا أَوْلَى، وَبِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ الْقِيَاسِ الَّذِي عَيَّنُوهُ لِأَنَّهُ يُعَارِضُ النَّصَّ، بَلْ نَقُولُ: الْآيَةُ الْعَامَّةُ لَا تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ حَالَ عَدَمِ الزَّوْجِ وَالْمَحْرَمُ مَعَهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَطِيعُ النُّزُولَ وَالرُّكُوبَ إلَّا مَعَ مَنْ يُرَكِّبُهَا وَيُنْزِلُهَا، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ إلَّا لِلْمَحْرَمِ وَالزَّوْجِ، فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَطِيعَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ.

وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فَلَا يُعْتَبَرُ ثُبُوتُ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِهِنَّ وَلَوْ قَدَرَتْ فَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ مَعَ أَمْنِ انْكِشَافِ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَحِلُّ لِأَجْنَبِيٍّ النَّظَرُ إلَيْهِ كَعَقِبِهَا وَرِجْلِهَا وَطَرَفِ سَاقِهَا وَطَرَفِ مِعْصَمِهَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَحْرَمِ لِيُبَاشِرَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَيَسْتُرَهَا، وَلِانْتِفَاءِ وُجُودِ الْجَامِعِ فِيهِمَا فَإِنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُهَاجِرَةِ وَالْمَأْسُورَةِ لَيْسَ سَفَرًا لِأَنَّهَا لَا تَقْصِدُ مَكَانًا مُعَيَّنًا، بَلْ النَّجَاةُ خَوْفًا مِنْ الْفِتْنَةِ، فَقَطْعُهَا الْمَسَافَةَ كَقَطْعِ السَّابِحِ، وَلِذَا إذَا وَجَدَتْ مَأْمَنًا كَعَسْكَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ أَنْ تَقَرَّ وَلَا تُسَافِرَ إلَّا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ.

عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَصَدَتْ مَكَانًا مُعَيَّنًا لَا يُعْتَبَرُ قَصْدُهَا، وَلَا يَثْبُتُ السَّفَرُ بِهِ، لِأَنَّ حَالَهَا وَهُوَ ظَاهِرُ قَصْدِ مُجَرَّدِ التَّخَلُّصِ يُبْطِلُ عَزِيمَتَهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْعَسْكَرِ الدَّاخِلِ أَرْضَ الْحَرْبِ، وَلَوْ سَلِمَ ثُبُوتُ سَفَرِهَا فَهُوَ لِلِاضْطِرَارِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ الْمُتَوَقَّعَةَ فِي سَفَرِهَا أَخَفُّ مِنْ الْمُتَوَقَّعَةِ فِي إقَامَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَكَانَ جَوَازُهُ بِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَخَفَّ الْمَفْسَدَتَيْنِ يَجِبُ ارْتِكَابُهَا عِنْدَ لُزُومِ إحْدَاهُمَا، فَالْمُؤَثِّرُ فِي الْأَصْلِ السَّفَرُ الْمُضْطَرُّ إلَيْهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةٍ تَفُوقُ مَفْسَدَةَ عَدَمِ الْمَحْرَمِ وَالزَّوْجِ فِي السَّفَرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْفَرْعِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ مَعَ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ سَفَرِ الْحَجِّ تَمْنَعُهُ الْعِدَّةُ فَيَمْنَعُهُ عَدَمُ الْمَحْرَمِ كَالسَّفَرِ الْمُبَاحِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، فَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الْخُرُوجِ فِيهِ مَا هُوَ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ، بَلْ بَيَانُ انْتِشَارِ الْأَمْنِ، وَلَوْ كَانَ مُفِيدًا لِلْإِبَاحَةِ كَانَ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ يُبِيحُ الْخُرُوجَ بِلَا رُفْقَةٍ وَنِسَاءٍ ثِقَاتٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ) يَعْنِي إذَا كَانَ لِحَاجَةٍ. وَيُشْكَلُ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قَزَعَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» وَأَخْرَجَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ» .

وَفِي لَفْظٍ " يَوْمٍ " وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد " بَرِيدًا " وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمِ، وَقَالَ:

ص: 421

لِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ. وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ وَالْحَجُّ مِنْهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَحْرَمُ فَاسِقًا قَالُوا: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ (وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ كُلِّ مَحْرَمٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا) لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ مُنَاكَحَتِهَا، وَلَا عِبْرَةَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُمَا الصِّيَانَةُ، وَالصَّبِيَّةُ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ حَتَّى لَا يُسَافَرَ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَنَفَقَةُ الْمَحْرَمِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الْحَجِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ أَوْ شَرْطُ الْأَدَاءِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ

صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ «ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ» فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ: وَهَمُوا.

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لَيْسَ فِي هَذِهِ تَبَايُنٌ. فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهَا فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ الْأَسْئِلَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمْثِيلًا لِأَقَلِّ الْأَعْدَادِ، وَالْيَوْمُ الْوَاحِدُ أَوَّلُ الْعَدَدِ وَأَقَلُّهُ. وَالِاثْنَانِ أَوَّلُ الْكَثِيرِ وَأَقَلُّهُ، وَالثَّلَاثُ أَوَّلُ الْجَمْعِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي قِلَّةِ الزَّمَنِ لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ فَكَيْفَ بِمَا زَادَ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ نَبَّهَ بِمَنْعِ الْخُرُوجِ أَقَلَّ كُلِّ عَدَدٍ عَلَى مَنْعِ خُرُوجِهَا عَنْ الْبَلَدِ مُطْلَقًا إلَّا بِمَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا إنَّ حُمِلَ السَّفَرُ عَلَى اللُّغَوِيِّ.

فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» وَالسَّفَرُ لُغَةً يَنْطَلِقُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَرَاهَةُ الْخُرُوجِ لَهَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ بِلَا مَحْرَمٍ، ثُمَّ إذَا كَانَ الْمَذْهَبُ إبَاحَةَ خُرُوجِهَا مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا (قَوْلُهُ لِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ) وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا عُرِفَ، وَصَارَ كَالْحَجِّ الَّذِي نَذَرَتْهُ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ (وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ) وَإِنْ امْتَدَّتْ.

(وَالْحَجُّ مِنْهَا) كَالصَّوْمِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَهُ مِلْكٌ ضَعِيفٌ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مِلْكِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا لَا يَظْهَرُ فِي الْحَجِّ الْمَنْذُورِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَلَا يَظْهَرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ نَفْلًا فِي حَقِّهِ، وَإِذَا أَحْرَمَتْ نَفْلًا بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا، وَهُوَ بِأَنْ يَنْهَاهَا وَيَصْنَعَ بِهَا أَدْنَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا كَقَصِّ ظُفْرِهَا وَنَحْوِهِ، وَمُجَرَّدُ نَهْيِهَا لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ كَمَا لَا يَقَعُ بِقَوْلِهِ: حَلَلْتُكِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ إلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ بِخِلَافِ الْإِحْصَارِ، وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ كُلِّ مَحْرَمٍ سَوَاءٌ كَانَ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ مُنَاكَحَتِهَا كَالْمَجُوسِيِّ أَوْ يَكُونَ فَاسِقًا إذْ لَا تُؤْمَنُ مَعَهُ الْفِتْنَةُ أَوْ صَبِيًّا.

(قَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا إلَخْ) ثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ إذَا مَاتَ مَثَلًا قَبْلَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، أَوْ هِيَ قَبْلَ وُجُودِ الْمَحْرَمِ أَوْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِهَا، فَمَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ يَقُولُ: لَا يَجِبُ الْإِيصَاءُ لِأَنَّ الْمَوْتَ قَبْلَ الْوُجُوبِ. وَمَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا شَرْطُ الْأَدَاءِ قَالَ: يَجِبُ لِأَنَّ الْمَوْتَ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا عُذِرَتْ فِي التَّأْخِيرِ وَفِي وُجُوبِ التَّزَوُّجِ عَلَيْهَا بِمَنْ يَحُجُّ بِهَا إنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا، وَأَمَّا وُجُوبُ نَفَقَةِ الْمَحْرَمِ وَرَاحِلَتِهِ إذَا أَبَى أَنْ يَحُجَّ إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ مَحْمَلُ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهَا، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا تَجِبُ.

هُوَ قَوْلُ أَبِي حَفْصٍ الْبُخَارِيِّ مَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَحْرَمُ بِنَفَقَتِهِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا الْحَجُّ لَا إحْجَاجُ غَيْرِهَا

ص: 422

(وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ فَمَضَيَا لَمْ يُجِزْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ) لِأَنَّ إحْرَامَهَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ (وَلَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَ، وَالْعَبْدُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، أَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ لَازِمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

وَقَالَ الْقُدُورِيُّ تَجِبُ لِأَنَّهَا مِنْ مُؤَنِ حَجِّهَا.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ إحْرَامَهُمَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ) أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ عِنْدَكُمْ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ شَرْطٌ يُشْبِهُ الرُّكْنَ مِنْ حَيْثُ إمْكَانِ اتِّصَالِ الْأَدَاءِ فَاعْتَبَرْنَا شِبْهَ الرُّكْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَوْ عَتَقَ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ. وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ بِالسِّنِّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ يَكُونُ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا لَا (قَوْلُهُ لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ) لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللُّزُومِ عَلَيْهِ، وَلِذَا لَوْ أُحْصِرَ الصَّبِيُّ وَتَحَلَّلَ لَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ لِارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: الصَّبِيُّ لَوْ أَحْرَمَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَعْقِلُ أَوْ أَحْرَمَ عَنْهُ أَبُوهُ صَارَ مُحْرِمًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجَرِّدَهُ وَيُلْبِسَهُ إزَارًا وَرِدَاءً، وَالْكَافِرُ وَالْمَجْنُونُ كَالصَّبِيِّ، فَلَوْ حَجَّ كَافِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَفَاقَ أَوْ أَسْلَمَ فَجَدَّدَ الْإِحْرَامَ أَجْزَأَهُمَا، وَقِيلَ: هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا حَجَّ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ، وَفِي الذَّخِيرَةِ فِي النَّوَادِرِ: الْبَالِغُ إذَا جُنَّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ، فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيِّ.

ص: 423

(فَصْلٌ)(وَالْمَوَاقِيتُ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهَا الْإِنْسَانُ إلَّا مُحْرِمًا خَمْسَةٌ: لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ. وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ) هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَؤُلَاءِ.

فَصْلٌ فِي الْمَوَاقِيتِ)

جَمْعُ مِيقَاتٍ وَهُوَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، اُسْتُعِيرَ لِلْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ كَقَلْبِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ}

لَزِمَ شَرْعًا تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ لِلْآفَاقِيِّ عَلَى وُصُولِهِ إلَى الْبَيْتِ تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ، وَإِجْلَالًا كَمَا تَرَاهُ فِي الشَّاهِدِ مِنْ تَرَجُّلِ الرَّاكِبِ الْقَاصِدِ إلَى عَظِيمٍ مِنْ الْخَلْقِ إذَا قَرُبَ مِنْ سَاحَتِهِ خُضُوعًا لَهُ، فَكَذَا لَزِمَ الْقَاصِدَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ الْحُلُولِ بِحَضْرَتِهِ إجْلَالًا، فَإِنَّ فِي الْإِحْرَامِ تَشَبُّهًا بِالْأَمْوَاتِ، وَفِي ضِمْنِ جَعْلِ نَفْسِهِ كَالْمَيِّتِ سَلْبُ اخْتِيَارِهِ.

وَإِلْقَاءُ قِيَادِهِ مُتَخَلِّيًا عَنْ نَفْسِهِ فَارِغًا عَنْ اعْتِبَارِهَا شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ فَسُبْحَانَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (قَوْلُهُ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ) بِالسُّكُونِ مَوْضِعٌ، وَجَعَلَهُ فِي الصِّحَاحِ مُحَرَّكًا، وَخَطِئَ بِأَنَّ الْمُحَرَّكَ اسْمُ قَبِيلَةٍ إلَيْهَا يُنْسَبُ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ (قَوْلُهُ هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَمَّا تَوْقِيتُ مَا سِوَى ذَاتِ عِرْقٍ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمَنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» وَرُوِيَ هُنَّ لَهُمْ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.

وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ التَّقْدِيرُ هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ. وَأَمَّا تَوْقِيتُ ذَاتِ عِرْقٍ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْت أَحْسِبُهُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ قَالَ: وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ» وَفِيهِ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي فِي رَفْعِهِ هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَرَوَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ وَلَمْ يَشُكَّ.

وَلَفْظُهُ «وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّرْقِ ذَاتُ عِرْقٍ» إلَّا أَنَّ فِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ الْجَوْزِيَّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» وَزَادَ فِيهِ النَّسَائِيّ بَقِيَّةً.

وَفِي سَنَدِهِ أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُنْكِرُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما

ص: 424

وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ الْمَنْعُ عَنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ الْآفَاقِيُّ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ قَصَدَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ

«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ فَرَوَوْهُ عَنْهُ.

وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ مِيقَاتَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَابْنُ عَوْنٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي دَاوُد عَنْ نَافِعٍ، وَكَذَا رَوَاهُ سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا إنَّمَا عُهِدَ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.

وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ التَّمْيِيزِ: لَا يُعْلَمُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ جَدِّهِ، وَلَا أَنَّهُ لَقِيَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ جَدِّهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا وَفِيهِ «وَلِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَقُلْت لِعَطَاءٍ: إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَقِّتْ ذَاتَ عِرْقٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ مَشْرِقٍ يَوْمئِذٍ فَقَالَ: كَذَلِكَ سَمِعْنَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ» ، وَمِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَمِنْ طَرِيقِ الْبَيْهَقِيّ أَيْضًا: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «لَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ عِرْقٍ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ مَشْرِقٍ حِينَئِذٍ فَوَقَّتَ لِلنَّاسِ ذَاتَ عِرْقٍ» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَحْسِبُهُ إلَّا كَمَا قَالَ طَاوُسٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " قَالَ لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَهِيَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا وَإِنَّا إذَا أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا قَالَ: اُنْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ

"قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: الْمِصْرَانِ هُمَا الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ وَحَذْوُهُمَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مُجْتَهَدٌ فِيهَا لَا مَنْصُوصَةٌ اهـ.

وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَبْلُغْهُ تَوْقِيتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ عِرْقٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَحَادِيثُ بِتَوْقِيتِهِ حَسَنَةً فَقَدْ وَافَقَ اجْتِهَادُهُ تَوْقِيتَهُ عليه الصلاة والسلام وَإِلَّا فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ (قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ الْمَنْعُ مِنْ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ بِالْإِجْمَاعِ) عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَقَدْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ أَتَى مِيقَاتًا مِنْهَا لِقَصْدِ مَكَّةَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ سَوَاءٌ كَانَ يَمُرُّ بَعْدَهُ عَلَى مِيقَاتٍ آخَرَ أَمْ لَا، لَكِنَّ الْمَسْطُورَ خِلَافُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رحمه الله: وَمَنْ

ص: 425

أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا»

جَاوَزَ وَقْتَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ أَتَى وَقْتًا آخَرَ. وَأَحْرَمَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ.

وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ مِنْ وَقْتِهِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ اهـ. وَمِنْ الْفُرُوعِ: الْمَدَنِيُّ إذَا جَاوَزَ إلَى الْجُحْفَةِ فَأَحْرَمَ عِنْدَهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَمُقْتَضَى كَوْنِ فَائِدَةِ التَّوْقِيتِ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْخِيرِ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّأْخِيرُ عَنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَإِنَّ مُرُورَهُ بِهِ سَابِقٌ عَلَى مُرُورِهِ بِالْمِيقَاتِ الْآخَرِ، وَلِذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا، لَكِنَّ الظَّاهِرَ عَنْهُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا رُوِيَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ» فَمَنْ جَاوَزَ إلَى الْمِيقَاتِ الثَّانِي صَارَ مِنْ أَهْلِهِ أَيْ صَارَ مِيقَاتًا لَهُ.

وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ إذَا أَرَادَتْ أَنْ تَحُجَّ أَحْرَمَتْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَعْتَمِرَ أَحْرَمَتْ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنْ لَا فَرْقَ فِي الْمِيقَاتِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْجُحْفَةُ مِيقَاتًا لَهُمَا لَمَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ مِنْهَا، فَبِفِعْلِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْخِيرِ مُقَيَّدٌ بِالْمِيقَاتِ الْأَخِيرِ. وَيُحْمَلُ حَدِيثُ «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا» عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُجَاوِزُ الْمَوَاقِيتَ.

هَذَا وَمَنْ كَانَ فِي بَحْرٍ أَوْ بَرٍّ لَا يَمُرُّ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ إذَا حَاذَى آخِرَهَا، وَيَعْرِفُ بِالِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يُحَاذِي فَعَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ (قَوْلُهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ) بِأَنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ وَالنُّزْهَةِ أَوْ التِّجَارَةِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا») رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يُجَاوَزُ الْوَقْتُ إلَّا بِإِحْرَامٍ» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَرُدُّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَذَكَرَهُ. وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا فُضَيْلٍ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ إذَا جَاوَزَ الْوَقْتَ فَلَمْ يُحْرِمْ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ رَجَعَ إلَى الْوَقْتِ فَأَحْرَمَ، وَإِنْ خَشِيَ إنْ رَجَعَ إلَى الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ وَيُهْرِيقُ لِذَلِكَ دَمًا فَهَذِهِ الْمَنْطُوقَاتُ أَوْلَى مِنْ الْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ فِي قَوْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ عليه الصلاة والسلام دُونَ كَلَامِ الرَّاوِي.

وَمَا فِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ» كَانَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ

ص: 426

وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا

(وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ) لِأَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُهُ مَكَّةَ، وَفِي إيجَابِ الْإِحْرَامِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَصَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ يُبَاحُ لَهُمْ الْخُرُوجُ مِنْهَا ثُمَّ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ أَدَاءَ النُّسُكِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَحْيَانًا فَلَا حَرَجَ (فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ جَازَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما. وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ إتْمَامَ الْحَجِّ مُفَسَّرٌ بِهِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرُ

السَّاعَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ «مَكَّةُ حَرَامٌ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا» يَعْنِي الدُّخُولَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حِلِّ الدُّخُولِ بَعْدَهُ لِلْقِتَالِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ) يَعْنِي وُجُوبَ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْبُقْعَةِ لِتَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ إلَخْ) الْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوَاقِيتِ لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ بَعْدَهَا أَوْ فِيهَا نَفْسِهَا فِي نَصِّ الرِّوَايَةِ، قَالَ: لَيْسَ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَمِنْ دُونِهَا إلَى مَكَّةَ أَنْ يَقْرُنَ وَلَا يَتَمَتَّعَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، كَذَا فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ قَصْدِ النُّسُكِ.

أَمَّا إذَا قَصَدُوهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ قَبْلَ دُخُولِهِمْ أَرْضَ الْحَرَمِ فَمِيقَاتُهُمْ كُلُّ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ، فَهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ دَارِهِمْ إلَى الْحَرَمِ وَمَا عَجَّلُوهُ مِنْ دَارِهِمْ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى قُدَيْدٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ، قَالَ: وَكَذَا الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ فَبَلَغَ الْوَقْتَ وَلَمْ يُجَاوِزْهُ، يَعْنِي لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ رَاجِعًا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ (قَوْلُهُ كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ) رَوَى الْحَاكِمُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُرَادِيِّ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ قَوْلِهِ عز وجل {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَقَالَ: أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ اهـ.

وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَنَظَرَ فِيهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. ثُمَّ هَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ إيجَابَ الْإِتْمَامِ عَلَى مَنْ شَرَعَ فِي بَحْثِ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي أَوَّلُ كِتَابِ الْحَجِّ (قَوْلُهُ وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمَوَاقِيتِ، بِخِلَافِ تَقْدِيمِ

ص: 427

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إنَّمَا يَكُونُ أَفْضَلَ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ

(وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ الْحِلُّ) مَعْنَاهُ الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَمَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى الْحَرَمِ مَكَانٌ وَاحِدٌ (وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ أَصْحَابَهُ رضي الله عنهم أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وَأَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ رضي الله عنهما أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْحَجِّ فِي عَرَفَةَ وَهِيَ فِي الْحِلِّ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَتَحَقَّقَ نَوْعُ سَفَرٍ، وَأَدَاءُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ لِهَذَا، إلَّا أَنَّ التَّنْعِيمَ أَفْضَلُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْإِحْرَامِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ أَجْمَعُوا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ وَغَيْرِهِ، فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَفْضَلِيَّةِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ مِنْ دَارِهِ إلَى مَكَّةَ دُونَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، كَمَا قَيَّدَ بِهِ قَاضِي خَانْ وَإِنَّمَا كَانَ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَعْظِيمًا وَأَوْفَرُ مَشَقَّةً، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَلِذَا كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الْإِحْرَامَ بِهِمَا مِنْ الْأَمَاكِنِ الْقَاصِيَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِنْ الْبَصْرَةِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ الشَّامِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَهَلَّ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِعُمْرَةٍ أَوْ حَجَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله.

ثُمَّ إذَا انْتَفَتْ الْأَفْضَلِيَّةُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ نَفْسَهُ هَلْ يَكُونُ الثَّابِتُ الْإِبَاحَةَ أَوْ الْكَرَاهَةَ؟ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. فَالْحَاصِلُ تَقَيُّدُ الْأَفْضَلِيَّةِ فِي الْمَكَانِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْكَرَاهَةِ فِي الزَّمَانِ عَدَمُ تَقَيُّدِهَا بِخَوْفِ مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورَاتِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمُنَاسِبُ التَّعْلِيلُ لِلْكَرَاهَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِكَوْنِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ كَمَا عَلَّلَ بِهِ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.

وَقِيلَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا التَّفْصِيلُ إنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُكْرَهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَإِلَّا كُرِهَ، وَلَا أَعْلَمُهُ مَرْوِيًّا عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَالْأَوْلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَئِمَّتِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ إطْلَاقِ الْكَرَاهَةِ وَتَعْلِيلُهَا إنَّمَا يَكُونُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَأَنَّهُ أُشْكِلَ عَلَى مَنْ خَالَفَ إطْلَاقُهُمْ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ فَفَصَّلُوا. وَالْحَقُّ هُوَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى شَبَهِ الْإِحْرَامِ بِالرُّكْنِ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَيُرَاعَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الشَّبَهِ احْتِيَاطًا، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا حَقِيقَةً لَمْ يَصِحَّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ شَبِيهًا بِهِ كُرِهَ قَبْلَهَا لِشَبَهِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ، فَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْوَجْهِ وَلِشَبَهِ الرُّكْنِ لَمْ يَجُزْ لِفَائِتِ الْحَجِّ، اسْتِدَامَةُ الْإِحْرَامِ لِيَقْضِيَ بِهِ مِنْ قَابِلٍ

(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ) أَوْ فِي نَفْسِ الْمَوَاقِيتِ (فَوَقْتُهُ الْحِلُّ) مَعْلُومٌ إذَا كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الَّذِي هُوَ الْحِلُّ، أَمَّا إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي أَرْضِ الْحَرَمِ فَمِيقَاتُهُ كَمِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ الْحَرَمُ فِي الْحَجِّ وَالْحِلُّ فِي الْعُمْرَةِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ أَصْحَابَهُ) رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه

ص: 428

(بَابُ الْإِحْرَامِ)

(وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ»

عَنْهُ قَالَ «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا إلَى مِنًى. قَالَ: فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ»

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ؟ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ» .

(بَابُ الْإِحْرَامِ)

حَقِيقَتُهُ الدُّخُولُ فِي الْحُرْمَةِ وَالْمُرَادُ الدُّخُولُ فِي حُرُمَاتٍ مَخْصُوصَةٍ: أَيْ الْتِزَامُهَا، وَالْتِزَامُهَا شَرْطُ الْحَجِّ شَرْعًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهُ شَرْعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ مَعَ الذِّكْرِ أَوْ الْخُصُوصِيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَإِذَا تَمَّ الْإِحْرَامُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِعَمَلِ النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ.

وَإِنْ أَفْسَدَهُ إلَّا فِي الْفَوَاتِ فَبِعَمَلِ الْعُمْرَةِ وَإِلَّا الْإِحْصَارُ فَبِذَبْحِ الْهَدْيِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَلَى ظَنِّ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ يَمْضِي فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ، فَإِنْ أَبْطَلَهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فَسْخُ الْإِحْرَامِ أَبَدًا إلَّا بِالدَّمِ وَالْقَضَاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْمُضِيِّ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ الْمَظْنُونِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا سَلَفَ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ إلَخْ) أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إنَّمَا حَسَّنَهُ وَلَمْ يُصَحِّحْهُ لِلِاخْتِلَافِ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، وَالرَّاوِي عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَدَنِيُّ أَجْهَدْت نَفْسِي فِي مَعْرِفَتِهِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا ذَكَرَهُ اهـ لَكِنَّ تَحْسِينَ التِّرْمِذِيِّ لِلْحَدِيثِ فَرْعُ مَعْرِفَتِهِ وَعَيْنَهُ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَهُ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى بِهِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ» وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

يَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ مِمَّنْ جَمَعَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ حَدِيثَهُ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَغْتَسِلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ» وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ.

وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ حُكْمُهُ الرَّفْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ إنْ كَانَ مُسَافِرًا بِهَا أَوْ كَانَ يُحْرِمُ مِنْ دَارِهِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ ارْتِفَاقٌ لَهُ أَوْ لَهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَسْنَدَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ «عَائِشَةَ رضي الله عنها

ص: 429

إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهَا فَيَقُومَ الْوُضُوءُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، لَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ، وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اخْتَارَهُ. قَالَ (وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ائْتَزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَلَا بُدَّ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَذَلِكَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ، وَالْجَدِيدُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الطَّهَارَةِ.

قَالَ (وَمَسَّ طِيبًا إنْ كَانَ لَهُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا تَطَيَّبَ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ

قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَطُوفُ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا» وَرَوَاهُ مَرَّةً «طَيَّبْتُ فَطَافَ ثُمَّ أَصْبَحَ» بِصِيغَةِ الْمَاضِي (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ «فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما فَأَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي» وَنَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهَا «نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما بِالشَّجَرَةِ» وَهُوَ شَاهِدٌ لِمَطْلُوبِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْحَائِضِ بِالدَّلَالَةِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ أَوْ النِّفَاسُ أَقْوَى مِنْ الْحَيْضِ لِامْتِدَادِهِ وَكَثْرَةِ دَمِهِ، فَفِي الْحَيْضِ أَوْلَى.

وَفِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إنَّ النُّفَسَاءَ وَالْحَائِضَ تَغْتَسِلُ وَتُحْرِمُ وَتَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفَ بِالْبَيْتِ» وَإِذَا كَانَ لِلنَّظَافَةِ وَإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ لَا يُعْتَبَرُ التَّيَمُّمُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ وَيُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ.

وَيُسْتَحَبُّ كَمَالُ التَّنْظِيفِ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَصِّ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطَيْنِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ وَجِمَاعِ أَهْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ إلَخْ) وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ، وَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ السَّاتِرُ جَائِزٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ائْتَزَرَ) فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ تُلْبَسُ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَاكِبَ رَاحِلَتِهِ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ» الْحَدِيثَ.

وَائْتَزَرَ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا هَمْزَةُ وَصْلٍ وَوَضْعُ تَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَكَانَ الثَّانِيَةِ خَطَأٌ (قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ) وَكَذَا قَوْلُ زُفَرَ (قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ)

ص: 430

وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ»

فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُلَبِّي» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا قَالَتْ «كَانَ عليه الصلاة والسلام إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبَ مَا يَجِدُ، ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ» وَلِلْآخَرِينَ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ» وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ حِلَّ الطِّيبِ كَانَ خَاصًّا بِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَنَعَ غَيْرَهُ.

وَدُفِعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ لِحُرْمَةِ التَّطَيُّبِ، وَيَحْتَمِلُ كَوْنُهُ لِخُصُوصِ ذَلِكَ الطِّيبِ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ خَلُوقٌ، فَلَا يُفِيدُ مَنْعُهُ الْخُصُوصِيَّةَ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ " وَهُوَ مُصَفِّرٌ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ " وَقَدْ نَهَى عَنْ التَّزَعْفُرِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ التَّزَعْفُرِ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُد «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ» وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْقَطَّانِ صَحَّحَهُ، لِأَنَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَقْوَى خُصُوصًا، وَهُوَ مَانِعٌ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُبِيحِ.

وَحِينَئِذٍ فَالْمَنْعُ مِنْ خُصُوصِ الطِّيبِ الَّذِي بِهِ فِي قَوْلِهِ " أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِك " إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ مُطْلَقًا لَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ عَنْ كُلِّ طِيبٍ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي الْحَدِيثِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ «قَالَ لَهُ: اخْلَعْ عَنْكَ هَذِهِ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْكَ هَذَا الزَّعْفَرَانَ» وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ مَا فِي أَبِي دَاوُد «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَنْهَانَا» وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي عَامِ الْجِعْرَانَةِ وَهُوَ سَنَةُ ثَمَانٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ.

وَرُئِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مُحْرِمًا وَعَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الرُّبِّ مِنْ الْغَالِيَةِ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ: رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ مُحْرِمًا وَفِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عَنْ الطِّيبِ مَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَعَدَّ مِنْهُ رَأْسَ مَالٍ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. قَالَ الْحَازِمِيُّ: وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ارْجِعْ فَاغْسِلْهُ، فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَإِلَّا لَرَجَعَ إلَيْهِ، وَإِذَا

ص: 431

وَالْمَمْنُوعُ عَنْهُ التَّطَيُّبُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِهِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ.

قَالَ (وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ قَالَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي») لِأَنَّ أَدَاءَهَا فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَمَاكِنَ مُتَبَايِنَةٍ فَلَا يُعَرَّى عَنْ الْمَشَقَّةِ عَادَةً فَيَسْأَلُ التَّيْسِيرَ، وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّ مُدَّتَهَا يَسِيرَةٌ وَأَدَاءَهَا عَادَةً مُتَيَسِّرٌ. قَالَ (ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ)

لَمْ يَبْلُغْهُ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ثُبُوتِهَا أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ.

وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ هَذَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَزَادَ فِيهِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» وَلِلِاخْتِلَافِ اسْتَحَبُّوا أَنْ يُذِيبَ جِرْمَ الْمِسْكِ إذَا تَطَيَّبَ بِهِ بِمَاءِ وَرْدٍ وَنَحْوِهِ (قَوْلُهُ وَالْمَمْنُوعُ مِنْهُ التَّطَيُّبُ) لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَمْ يَتَطَيَّبْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَكِنْ هُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ.

وَهُنَاكَ مَنْعٌ آخَرُ قَبْلَهُ عَنْ التَّطَيُّبِ بِمَا يَبْقَى عَيْنُهُ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ: مَنْعُ ثُبُوتِ هَذَا الْمَنْعِ، فَإِنْ قِسْتُمْ عَلَى الثَّوْبِ فَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُرُودِهِ بِهِ فِي الْبَدَنِ وَلَمْ يَرِدْ فِي الثَّوْبِ فَعَقَلْنَا أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي الْبَدَنِ تَابِعًا، وَالْمُتَّصِلُ فِي الثَّوْبِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ تَبَعًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اسْتِنَانِ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ حُصُولُ الِارْتِفَاقِ بِهِ حَالَةَ الْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى مِثَالِ السَّحُورِ لِلصَّوْمِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَحْصُلُ بِمَا فِي الْبَدَنِ، فَيُغْنِي عَنْ تَجْوِيزِهِ فِي الثَّوْبِ إذْ لَمْ يَقْصِدْ كَمَالَ الِارْتِفَاقِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الْحَاجَّ الشَّعِثُ التَّفِلُ وَقَدْ قِيلَ: يَجُوزُ فِي الثَّوْبِ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِمَا

(قَوْلُهُ لِمَا رَوَى جَابِرٌ الْمَعْرُوفُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ») وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا. لَكِنْ فِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «كَانَ عليه الصلاة والسلام يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» .

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا، فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلَا يُصَلِّيهِمَا فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، وَتُجْزِئُ الْمَكْتُوبَةُ عَنْهُمَا كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَعَنْ أَنَسٍ

ص: 432

لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَبَّى فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ» . وَإِنْ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ جَازَ، وَلَكِنْ الْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا

- رضي الله عنه: «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ» (قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ) أَيْ التَّلْبِيَةُ دُبُرَ الصَّلَاةِ (لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَبَّى فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ» اعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إهْلَالِهِ عليه الصلاة والسلام، وَرِوَايَاتٌ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ» أَكْثَرُ وَأَصَحُّ. فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «كَانَ عليه الصلاة والسلام إذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا «عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ» مُخْتَصَرًا.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ» وَكَذَا هُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ «ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» فَهَذِهِ تُفِيدُ مَا سَمِعْت.

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ حَدَّثَنَا خُصَيْفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ رَوَاهُ غَيْرُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ. قَالَ فِي الْإِمَامِ. وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَخُصَيْفٌ.

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ: كَانَ فَقِيهًا صَالِحًا إلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخْطِئُ كَثِيرًا. وَالْإِنْصَافُ فِيهِ قَبُولُ مَا وَافَقَ فِيهِ الْإِثْبَاتَ، وَتَرَكَ مَا لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي إدْخَالِهِ فِي الثِّقَاتِ، وَلِذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَتَرَكَهُ آخَرُونَ.

وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ جُمِعَ وَإِلَّا تَرَجَّحَ مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ أَمْكَنَ بَلْ وَقَعَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ خُصَيْفٍ «عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: عَجِبْتُ لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إهْلَالِهِ حِينَ أَوْجَبَ، فَقَالَ إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَمِنْ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا. خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْهِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ فَحَفِظْتُهُ عَنْهُ ثُمَّ رَكِبَ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ أَقْوَامٌ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَ أَرْسَالًا فَسَمِعْنَاهُ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ، ثُمَّ مَضَى عليه الصلاة والسلام فَلَمَّا عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ وَأَدْرَكَ ذَلِكَ أَقْوَامٌ فَقَالُوا: إنَّمَا أَهَلَّ حِينَ عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ، وَاَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَوْجَبَ فِي مُصَلَّاهُ وَأَهَلَّ

ص: 433

(فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ يَنْوِي بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك) وَقَوْلُهُ إنَّ الْحَمْدَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ لَا بِفَتْحِهَا لِيَكُونَ ابْتِدَاءً لَا بِنَاءً

حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ، وَأَهَلَّ حِينَ عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ اهـ.

وَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا فِي ابْنِ إِسْحَاقَ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ، وَصَحَّحْنَا تَوْثِيقَهُ، وَمَا فِي خُصَيْفٍ آنِفًا وَإِنَّمَا جَعَلَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ مُسْلِمًا قَدْ يَخْرُجُ عَمَّنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِ الْجُرْحِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَبِهِ يَقَعُ الْجَمْعُ وَيَزُولُ الْإِشْكَالُ

(قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا نَوَى بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ) أَيْ إنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ نَوَاهُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ ذَكَرَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: نَوَيْت الْحَجَّ وَأَحْرَمْت بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَبَّيْكَ إلَخْ فَحَسَنٌ لِيَجْتَمِعَ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا لَمْ تَجْتَمِعْ عَزِيمَتُهُ، فَإِنْ اجْتَمَعَتْ فَلَا، وَلَمْ نَعْلَمْ الرُّوَاةَ لِنُسُكِهِ عليه الصلاة والسلام فَصْلًا فَصْلًا قَطُّ رَوَى وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ سَمِعَهُ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ:«نَوَيْتُ الْعُمْرَةَ وَلَا الْحَجَّ» (قَوْلُهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لَا بِفَتْحِهَا) يَعْنِي فِي الْوَجْهِ الْأَوْجَهِ، وَأَمَّا فِي الْجَوَازِ فَيَجُوزُ وَالْكَسْرُ عَلَى اسْتِئْنَافِ الثَّنَاءِ وَتَكُونُ التَّلْبِيَةُ لِلذَّاتِ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلتَّلْبِيَةِ أَيْ لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْإِجَابَةِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا بِالذَّاتِ أَوْلَى مِنْهُ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ.

هَذَا وَإِنْ كَانَ اسْتِئْنَافُ الثَّنَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ مَعَ الْكَسْرِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ تَعْلِيلًا مُسْتَأْنَفًا كَمَا فِي قَوْلِك عَلِّمْ ابْنَك الْعِلْمَ إنَّ الْعِلْمَ نَافِعُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ لَكِنْ لَمَّا جَازَ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَوْلَوِيَّتِهِ بِخِلَافِ الْفَتْحِ لَيْسَ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إنَّهُ صِفَةُ الْأُولَى يُرِيدُ مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَالْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ.

الْأَوَّلُ: لَفْظُ لَبَّيْكَ وَمَعْنَاهَا لَفْظُهَا مَصْدَرٌ مُثَنَّى تَثْنِيَةً يُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أَيْ كَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَهُوَ مَلْزُومُ النَّصْبِ كَمَا تَرَى وَالْإِضَافَةُ وَالنَّاصِبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ تَقْدِيرُهُ أَجَبْتُك إجَابَةً بَعْدَ إجَابَةٍ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكَأَنَّهُ مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ إذَا أَقَامَ بِهِ، وَيُعْرَفُ بِهَذَا مَعْنَاهَا فَتَكُونُ مَصْدَرًا مَحْذُوفَ الزَّوَائِدِ، وَالْقِيَاسِيُّ مِنْهُ إلْبَابٌ وَمُفْرَدُ لَبَّيْكَ لَبٌّ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ لَبٌّ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدُ لَبَّيْكَ،

ص: 434

إذْ الْفَتْحَةُ صِفَةُ الْأُولَى، وَهُوَ إجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ (وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ)

غَيْرَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِيهَا.

وَقِيلَ: لَيْسَ هُنَا إضَافَةٌ وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ، وَإِنَّمَا حُذِفَتْ النُّونُ لِشِبْهِ الْإِضَافَةِ. وَقِيلَ: مُضَافٌ إلَّا أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ وَأَصْلُهُ لَبَّى قُلِبَتْ أَلِفُهُ يَاءً لِلْإِضَافَةِ إلَى الضَّمِيرِ كَأَلِفِ عَلَيْك الَّذِي هُوَ اسْمُ فِعْلٍ، وَأَلِفِ لَدَى فَرَدَّهُ سِيبَوَيْهِ، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

دَعَوْت لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا

فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ

حَيْثُ ثَبَتَتْ الْيَاءُ مَعَ كَوْنِ الْإِضَافَةِ إلَى ظَاهِرٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا إجَابَةٌ فَقِيلَ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ عَلَى مَا أَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «لَمَّا فَرَغَ إبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: رَبِّ قَدْ فَرَغْتُ. فَقَالَ: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ. قَالَ: رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ. قَالَ: رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ، حَجُّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ»

وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ،

ص: 435

لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ (وَلَوْ زَادَ فِيهَا جَازَ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ رحمه الله عَنْهُ. هُوَ اعْتَبَرَهُ بِالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ. وَلَنَا أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - زَادُوا عَلَى الْمَأْثُورِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ

وَأَخْرَجَهُ غَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ. وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: «لَمَّا أُمِرَ إبْرَاهِيمُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ قَامَ عَلَى الْمَقَامِ فَارْتَفَعَ الْمَقَامَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى مَا تَحْتَهُ» الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ «قَامَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام عَلَى هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ فَقَالُوا: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. قَالَ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ الْيَوْمَ فَهُوَ مِمَّنْ أَجَابَ إبْرَاهِيمَ يَوْمَئِذٍ» (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ) قِيلَ: لَا اتِّفَاقَ بَيْنَهُمْ. فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ التَّلْبِيَةِ عَنْ «عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ إنِّي لَأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَلَمْ تَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ» وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ.

وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَزِيدُ فِيهَا لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ "(قَوْلُهُ أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ إلَخْ) ذَكَرْنَا زِيَادَةَ ابْنِ عُمَرَ آنِفًا وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ أَيْضًا.

وَزِيَادَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ وَفِي آخِرِهِ وَزَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَلْبِيَتِهِ " فَقَالَ: لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ " وَمَا سَمِعْته قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، وَزِيَادَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْهُ قَالَ «كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ إلَهَ الْخَلْقِ لَبَّيْكَ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ " سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما يَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ " وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُظْهِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ» وَسَاقَ الْمَشْهُورَ.

قَالَ «حَتَّى إذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يُصْرَفُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا هُوَ فِيهِ فَزَادَ فِيهَا لَبَّيْكَ، إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَحَسِبْت أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ زَادُوا بِمَسْمَعٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْهُ قَالَ «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ تَلْبِيَتَهُ الْمَشْهُورَةَ وَقَالَ: وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ فَلَا

ص: 436

عَلَيْهِ. قَالَ (وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ) يَعْنِي إذَا نَوَى لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقْدِيمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ (وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ)

يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا»

فَقَدْ صَرَّحَ بِتَقْرِيرِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ، بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ لِأَنَّهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ يَتَقَيَّدُ فِيهَا بِالْوَارِدِ لِأَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ شَرْعًا كَحَالَةِ عَدَمِهَا، وَلِذَا قُلْنَا يُكْرَهُ تَكْرَارُهُ بِعَيْنِهِ حَتَّى إذَا كَانَ التَّشَهُّدُ الثَّانِي قُلْنَا لَا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ بِالْمَأْثُورِ لِأَنَّهُ أُطْلِقَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ نَظَرًا إلَى فَرَاغِ أَعْمَالِهَا (قَوْلُهُ وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ) لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُهُ الْمُخَالِفِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي رِوَايَةِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِكُلِّ ثَنَاءٍ وَتَسْبِيحٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إنْ كَانَ يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ وَلَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ.

وَالْفَرْقُ لَهُمَا بَيْنَ افْتِتَاحِ الْإِحْرَامِ وَافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، وَالْأَخْرَسُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ مَعَ النِّيَّةِ، وَفِي الْمُحِيطِ: تَحْرِيكُ لِسَانِهِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَصَحُّ لَا يَلْزَمُهُ التَّحْرِيكُ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقَدُّمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ) قَدْ يُقَالُ: لَا حَاجَةَ إلَى اسْتِنْبَاطِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْخَفِيَّةِ بَلْ قَدْ ذَكَرَهَا نَصًّا، فَإِنَّ نَظْمَ الْكِتَابِ هَكَذَا: ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا نَوَى بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ ثُمَّ ذَكَرَ صُورَةَ التَّلْبِيَةِ.

ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ فَلَا يُشْكَلُ أَنَّ الْمَفْهُومَ إذَا لَبَّى التَّلْبِيَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ الْمَقْرُونَةُ بِنِيَّةِ الْحَجِّ فَقَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ. ثُمَّ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ سِوَى أَنَّهُ عِنْدَ النِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا، أَمَّا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا بِشَرْطِ ذِكْرِ الْآخِرَةِ فَلَا. وَذَكَرَ حُسَامُ الدِّينِ الشَّهِيدُ: أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّلْبِيَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّكْبِيرِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ سِوَى أَنَّ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْفَرْضِ وَلَا النَّفْلِ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْحَجِّ. وَكَانَ مِنْ الْمُهِمِّ ذِكْرُ أَنَّهُ هَلْ يَسْقُطُ بِذَلِكَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ أَمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّعْيِينِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِإِطْلَاقِ نِيَّةِ الْحَجِّ بِخِلَافِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِلنَّفْلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَفْلًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ الْفَرْضَ بَعْدُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إذَا نَوَى النَّفَلَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَمِعَ شَخْصًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ: أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ مَعْنَاهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» . قُلْنَا: غَايَةُ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْإِثْمِ بِتَرْكِهِ لَا تُحَوِّلُهُ بِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ الْمَنْوِيِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ، فَالْقَوْلُ بِهِ إثْبَاتٌ بِلَا دَلِيلٍ، بِخِلَافِ قَوْلِنَا مِثْلَهُ فِي رَمَضَانَ، لِأَنَّ رَمَضَانَ حُكْمُهُ تَعْيِينُ الْمَشْرُوعِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا إلَى مُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِتَتَمَيَّزَ الْعِبَادَةُ عَنْ الْعَادَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ انْصَرَفَ إلَى

ص: 437

خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ كَمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَيَصِيرُ شَارِعًا بِذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ التَّعْظِيمَ سِوَى التَّلْبِيَةِ فَارِسِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَرَبِيَّةً، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى أَصْلِهَا أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، حَتَّى يُقَامَ غَيْرُ الذِّكْرِ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْبُدْنِ فَكَذَا غَيْرُ التَّلْبِيَةِ وَغَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ.

قَالَ (وَيَتَّقِي مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَهَذَا نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ

الْمَشْرُوعِ فِي الْوَقْتِ، بِخِلَافِ وَقْتِ الْحَجِّ لَمْ يَتَمَحَّضْ لِلْحَجِّ كَوَقْتِ الصَّوْمِ لِمَا عُرِفَ بَلْ يُشْبِهُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلِلْمُشَابَهَةِ جَازَ عَنْ الْفَرْضِ بِالْإِطْلَاقِ وَلِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْمُشِقِّ تَحْصِيلُهَا وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ فَصَرَفْنَاهُ إلَى بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَلِلْمُفَارَقَةِ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْفَرْضِ بِتَعْيِينِ النَّفْلِ، وَأَيْضًا فَالدَّلَالَةُ تُعَبِّرُ عِنْدَ عَدَمِ مُعَارَضَةِ الصَّرِيحِ، وَالْمُعَارَضَةُ ثَابِتَةٌ حَيْثُ صَرَّحَ بِالضِّدِّ وَهُوَ النَّفَلُ بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِطْلَاقِ إذَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَخَصِّ وَالْأَعَمِّ.

[فُرُوعٌ]

إذَا أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَا أَحْرَمَ بِهِ جَازَ، وَعَلَيْهِ التَّعْيِينُ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَصْلُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه «حِينَ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فَأَجَازَهُ عليه الصلاة والسلام الْحَدِيثُ مَرَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى طَافَ شَوْطًا وَاحِدًا كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ وَكَذَا إذَا أُحْصِرَ قَبْلَ الْأَفْعَالِ وَالتَّعْيِينِ فَتَحَلَّلَ بِدَمٍ تَعَيَّنَ لِلْعُمْرَةِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَا قَضَاءُ حَجِّهِ، وَكَذَا إذَا جَامَعَ فَأَفْسَدَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي عُمْرَةٍ، وَلَوْ أَحْرَمَ مُبْهِمًا ثُمَّ أَحْرَمَ ثَانِيًا بِحَجَّةٍ فَالْأَوَّلُ لِعُمْرَةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ فَالْأَوَّلُ لِحَجَّةٍ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ بِالثَّانِي أَيْضًا شَيْئًا كَانَ قَارِنًا، وَإِنْ عَيَّنَ شَيْئًا وَنَسِيَهُ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ احْتِيَاطًا لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، وَلَا يَكُونُ قَارِنًا، فَإِنْ أُحْصِرَ تَحَلَّلَ بِدَمٍ وَاحِدٍ وَيَقْضِي حَجَّةً وَعُمْرَةً، وَإِنْ جَامَعَ مَضَى فِيهِمَا وَيَقْضِيهِمَا إنْ شَاءَ جَمَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِشَيْئَيْنِ وَنَسِيَهُمَا لَزِمَهُ فِي الْقِيَاسِ حَجَّتَانِ وَعُمْرَتَانِ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمَسْنُونِ وَالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ إذْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ إحْرَامَهُ كَانَ بِشَيْئَيْنِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ لَا يَنْوِي شَيْئًا فَهُوَ حَجٌّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ بِنِيَّةٍ سَابِقَةٍ، وَلَوْ أَحْرَمَ نَذْرًا وَنَفْلًا كَانَ نَفْلًا أَوْ نَوَى فَرْضًا وَتَطَوُّعًا كَانَ تَطَوُّعًا عِنْدَهُ وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَهُوَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ فَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَا نَوَى لَا بِمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ، وَلَوْ لَبَّى بِحَجَّةٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَانَ قَارِنًا (قَوْلُهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله)

ص: 438

وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ أَوْ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ، أَوْ ذِكْرُ الْجِمَاعِ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَهُوَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ حُرْمَةً، وَالْجِدَالُ أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ، وَقِيلَ: مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ وَقْتِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ

(وَلَا يَقْتُلُ صَيْدًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}

فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله كَقَوْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ بِجَامِعِ أَنَّهَا عِبَادَةُ كَفٍّ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ فَتَكْفِي النِّيَّةُ لِالْتِزَامِهَا. وَقِسْنَا نَحْنُ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ أَفْعَالٍ لَا مُجَرَّدُ كَفٍّ بَلْ الْتِزَامُ الْكَفِّ شَرْطٌ فَكَانَ بِالصَّلَاةِ أَشْبَهَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ يُفْتَتَحُ بِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا هُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} قَالَ: فَرْضُ الْحَجِّ الْإِهْلَالُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: التَّلْبِيَةُ.

وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: الْإِحْرَامُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمَا كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ التَّلْبِيَةُ، كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَنْ عَائِشَةَ " لَا إحْرَامَ إلَّا لِمَنْ أَهَلَّ أَوْ لَبَّى " إلَّا أَنَّ مُقْتَضَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ تَعْيِينُ التَّلْبِيَةِ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، لَكِنْ ثَمَّةَ آثَارٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِهِ مَعَ النِّيَّةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاكْتِفَاءِ بِالنِّيَّةِ صَحِيحٌ، ثُمَّ إذَا لَبَّى صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ الْمُعَلِّمِ لِلْخَيْرَاتِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا بِمَا شَاءَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ التَّلْبِيَةِ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَيُسْتَحَبُّ فِي التَّلْبِيَةِ كُلِّهَا رَفْعُ الصَّوْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْلُغَ الْجَهْدُ فِي ذَلِكَ كَيْ لَا يَضْعُفُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهَا إلَّا أَنَّهُ يَخْفِضُ صَوْتَهُ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم. وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ سَأَلَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهَا: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، وَاجْعَلْنِي مِنْ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لَك وَآمَنُوا بِوَعْدِك وَاتَّبَعُوا أَمْرَك وَاجْعَلْنِي مِنْ وَفْدِك الَّذِينَ رَضِيت عَنْهُمْ، اللَّهُمَّ قَدْ أَحْرَمَ لَك شَعْرِي وَبَشَرِي وَدَمِي وَمُخِّي وَعِظَامِي

(قَوْلُهُ وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (أَوْ ذِكْرُ الْجِمَاعِ) وَدَوَاعِيهِ (بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِنَّ لَا يَكُونُ رَفَثًا، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنْشَدَ:

وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا

إنْ يَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا

فَقِيلَ لَهُ: أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إنَّمَا الرَّفَثُ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: كُنَّا نُنْشِدُ الْأَشْعَارَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَاذَا؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ:

قَامَتْ تُرِيك رَهْبَةً أَنْ تَهْضِمَا

سَاقًا بَخَنْدَاةً وَكَعْبًا أَدْرَمَا

وَالْبَخَنْدَاةُ مِنْ النِّسَاءِ التَّامَّةُ، وَالدَّرْمُ فِي الْكَعْبِ أَنْ يُوَارِيَهُ اللَّحْمُ فَلَا يَكُونُ لَهُ نُتُوءٌ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَهِيَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ) فَإِنَّهَا حَالَةٌ يَحْرُمُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الْمُقَوِّيَةِ لِلنَّفْسِ فَكَيْفَ بِالْمُحَرَّمَاتِ الْأَصْلِيَّةِ (قَوْلُهُ وَالْجِدَالُ أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ) وَهُوَ الْمُنَازَعَةُ وَالسِّبَابُ، وَقِيلَ: جِدَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ. وَقِيلَ: التَّفَاخُرُ بِذِكْرِ آبَائِهِمْ حَتَّى رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْحَرْبِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَقْتُلُ صَيْدًا إلَخْ) يَحْرُمُ بِالْإِحْرَامِ أُمُورٌ:

الْأَوَّلُ الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ

ص: 439

(وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه «أَنَّهُ أَصَابَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لِأَصْحَابِهِ: هَلْ أَشَرْتُمْ؟ هَلْ دَلَلْتُمْ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: لَا، فَقَالَ: إذًا فَكُلُوا» وَلِأَنَّهُ إزَالَة الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَعْيُنِ

قَالَ (وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا سَرَاوِيلَ وَلَا عِمَامَةً وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَيَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام «نَهَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ» وَقَالَ فِي آخِرِهِ «وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ»

الثَّانِي: إزَالَةُ الشَّعْرِ كَيْفَمَا كَانَ حَلْقًا وَقَصًّا وَتَنَوُّرًا مِنْ أَيِّ مَكَان كَانَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالْإِبْطِ وَالْعَانَةِ وَغَيْرِهَا،

الثَّالِثُ: لُبْسُ الْمَخِيطِ عَلَى وَجْهِ لُبْسِ الْمَخِيطِ إلَّا الْمُكَعَّبَ فَيَدْخُلُ الْخُفُّ وَيَخْرُجُ الْقَمِيصُ إذَا اتَّشَحَ بِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الرَّابِعُ: التَّطَيُّبُ.

الْخَامِسُ: قَلْمُ الْأَظْفَارِ.

السَّادِسُ: الِاصْطِيَادُ فِي الْبَرِّ لِمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ.

السَّابِعُ: الِادِّهَانُ عَلَى مَا يُذْكَرُ مِنْ تَفْصِيلِهِ (قَوْلُهُ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ) أَخْرَجَ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه «أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسِيرٍ لَهُمْ بَعْضُهُمْ مُحْرِمٌ، وَبَعْضُهُمْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ الرُّمْحَ فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي، فَاخْتَلَسْتُ سَوْطًا مِنْ بَعْضِهِمْ وَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَأَصَبْتُهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ وَاسْتَبَقُوا. قَالَ: فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ قَالُوا لَا، قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ؟ قَالُوا لَا، قَالَ: فَكُلُوا» وَفِيهِ دَلَالَةٌ نَذْكُرُهَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ) أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ؟ قَالَ: لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» زَادُوا إلَّا مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» قِيلَ: قَوْلُهُ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ مَدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.

وَدُفِعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى الِاخْتِلَافِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ، إذْ قَدْ يُفْتِي الرَّاوِي بِمَا يَرْوِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ أَحْيَانًا مَعَ أَنَّ هُنَا قَرِينَةً عَلَى الرَّفْعِ، وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ إفْرَادُ النَّهْيِ عَنْ النِّقَابِ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْمُحْرِمَةُ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» وَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُمَا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنْ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ قَمِيصٍ أَوْ خُفٍّ» قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رِجَالُهُ رِجَالُ

ص: 440

وَالْكَعْبُ هُنَا الْمِفْصَلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ دُونَ النَّاتِئِ فِيمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله.

قَالَ (وَلَا يُغَطِّي وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» . وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» قَالَهُ فِي مُحْرِمٍ تُوُفِّيَ

الصَّحِيحَيْنِ مَا خَلَا ابْنَ إِسْحَاقَ اهـ.

وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ حُجَّةٌ (قَوْلُهُ وَالْكَعْبُ هُنَا) قُيِّدَ بِالظُّرُوفِ لِأَنَّهُ فِي الطَّهَارَةِ يُرَادُ بِهِ الْعَظْمُ النَّاتِئُ وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْحَدِيثِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكَعْبُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاتِئِ حُمِلَ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمَشَايِخُ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُ الْمُكَعَّبِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْخَلْفِ بَعْدَ الْقَطْعِ كَذَلِكَ مُكَعَّبٌ، وَلَا يَلْبَسُ الْجَوْرَبَيْنِ وَلَا الْبُرْنُسَ، لَكِنَّهُمْ أَطْلَقُوا جَوَازَ لُبْسِهِ، وَمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا») رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا حُجَّةٌ إذَا لَمْ يُخَالِفْ وَخُصُوصًا فِيمَا لَمْ يُدْرَكْ بِالرَّأْيِ.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا بِمَا أَسْنَدَهُ مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الَّذِي وُقِصَ: خَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» .

وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخَمِّرُ وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ» قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْفُرَافِصَةُ بْنُ عُمَيْرٍ الْحَنَفِيُّ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه بِالْعَرَجِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِيمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلًا وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ:«فَأَقْعَصَتْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» أَفَادَ أَنَّ لِلْإِحْرَامِ أَثَرًا فِي عَدَمِ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُنَا قَالُوا لَوْ مَاتَ الْمُحْرِمُ يُغَطَّى وَجْهُهُ لِدَلِيلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَرَوَاهُ الْبَاقُونَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الْوَجْهَ، فَلِذَا قَالَ الْحَاكِمُ: فِيهِ تَصْحِيفٌ فَإِنَّ الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْهُ «وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَهُ» وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.

وَدُفِعَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَى مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ أَوْلَى مِنْهُ إلَى الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَهِمُ رحمه الله كَثِيرًا، وَكَيْفَ يَقَعُ التَّصْحِيفُ وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ حُرُوفِ الْكَلِمَتَيْنِ، ثُمَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ذِكْرِ الرَّأْسِ وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي مُسْلِمٍ، لَكِنْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَتَكُونُ تِلْكَ اقْتِصَارًا مِنْ الرَّاوِي، فَيُقَدَّمُ عَلَى مُعَارَضِهِ مَنْ مُرْوِيٍّ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ أَثْبَتُ سَنَدًا، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ، وَلَا يُغَطِّيَ فَاهُ وَلَا ذَقَنَهُ وَلَا عَارِضَهُ، فَيَجِبُ حَمْلُ التَّغْطِيَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مِثْلِهِ

ص: 441

وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا مَعَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ فِتْنَةٌ فَالرَّجُلُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ الْفَرْقُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ.

قَالَ (وَلَا يَمَسُّ طِيبًا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» (وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ) لِمَا رَوَيْنَا (لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا شَعْرَ بُدْنِهِ){وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} الْآيَةَ (وَلَا يَقُصُّ مِنْ لِحْيَتِهِ) لِأَنَّ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ.

قَالَ (وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَانٍ وَلَا عُصْفُرٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا لَا يَنْفُضُ)

يَعْنِي عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ يُغَطِّي أَنْفَهُ بِيَدِهِ فَوَارَتْ بَعْضَ أَجْزَائِهِ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ جَمْعًا (قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ الْفَرْقُ) بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ) أَيْ إحْرَامُهُ فِي رَأْسِهِ فَيَكْشِفُهُ وَإِحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا فَتَكْشِفُهُ، فَفِي جَانِبِهَا قَيْدٌ فَقَطْ مُرَادٌ، وَفِي جَانِبِهِ مَعْنًى لَفْظٌ أَيْضًا مُرَادٌ.

وَحَدِيثُ «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ رضي الله عنه مِمَّا أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالشَّعَثُ انْتِشَارُ الشَّعْرِ وَتَغَيُّرُهُ لِعَدَمِ تَعَاهُدِهِ، فَأَفَادَ مَنْعَ الِادِّهَانِ، وَلِذَا قَالَ: وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ لِمَا رَوَيْنَاهُ، وَالتَّفْلُ تَرْكُ الطِّيبِ حَتَّى تُوجَدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ فَيُفِيدُ مَنْعَ التَّطَيُّبِ

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ» إلَخْ) تَقَدَّمَ فِي ضِمْنِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ قَرِيبًا (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا لَا يُنْفَضُ) أَيْ لَا تَظْهَرُ لَهُ رَائِحَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ الْمَنْعَ لِلرَّائِحَةِ لَا لِلَّوْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُ الْمَصْبُوغِ بِمَغْرَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ الزِّينَةُ وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُهَا حَتَّى قَالُوا: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمَةِ أَنْ تَتَحَلَّى بِأَنْوَاعِ الْحُلِيِّ وَتَلْبَسَ الْحَرِيرَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ الزِّينَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى مِنْهُ الصِّبْغُ، وَكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ صَحِيحٌ، وَقَدْ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي نَصِّ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ الْجِلْدَ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا فَهْدٌ وَسَاقَهُ إلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَلْبَسُوا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ

ص: 442

لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ لَا طِيبَ لَهُ. وَلَنَا أَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ)

وَلَا زَعْفَرَانٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا» يَعْنِي فِي الْإِحْرَامِ. قَالَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ.

وَرَأَيْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَتَعَجَّبُ مِنْ الْحِمَّانِيُّ أَنْ يُحَدِّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذَا عِنْدِي، ثُمَّ ذَهَبَ مِنْ فَوْرِهِ فَجَاءَ بِأَصْلِهِ فَخَرَجَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ كَمَا ذَكَرَ الْحِمَّانِيُّ فَكَتَبَهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. قَالَ: وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ وَالنَّخَعِيِّ إطْلَاقَهُ فِي الْغَسِيلِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً) فَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّهُ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ أَوْ لَا فَقُلْنَا نَعَمْ فَلَا يَجُوزُ وَعَنْ هَذَا قُلْنَا لَا يَتَحَنَّى الْمُحْرِمُ لِأَنَّ الْحِنَّاءَ طِيبٌ وَمَذْهَبُنَا عَائِشَةُ رضي الله عنها فِي هَذَا.

ثُمَّ النَّصُّ وَرَدَ بِمَنْعِ الْمُوَرَّسِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَهُوَ دُونَ الْمُعَصْفَرِ فِي الرَّائِحَةِ فَيُمْنَعُ الْمُعَصْفَرُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ» إلَخْ وَكَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ " فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ تُلْبَسُ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ الْجِلْدَ " قُلْنَا: أَمَّا الثَّانِي فَقَدْ ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مَنْعُ الْمُوَرَّسِ فَيُمْنَعُ الْمُعَصْفَرُ بِدَلَالَتِهِ أَيْ بِفَحْوَاهُ، بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ إذْ لَا تَعَارُضَ أَصْلًا لِأَنَّ النَّصَّ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ كَانَ وَقَعَ عَنْ الْمُزَعْفَرَةِ الَّتِي تُرْدَعُ وَسَكَتَ عَنْ غَيْرِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَنْهَ إلَّا عَنْ الْمُزَعْفَرَةِ الَّتِي تَرْدَعُ: إنَّمَا هُوَ قَوْلُ الرَّاوِي حِكَايَةً عَنْ الْحَالِ وَهُوَ صَادِقٌ إذَا كَانَ الْوَاقِعُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام النَّهْيَ عَنْ الْمُزَعْفَرَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِغَيْرِهَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ الْمُثِيرُ لِلْجَوَابِ إلَّا فِي الْمُزَعْفَرِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُ صَرَّحَ بِإِطْلَاقِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ نَصَّ الْمُوَرَّسِ، وَفَحْوَاهُ فِي الْمُعَصْفَرِ خَالِيَيْنِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَيْسَ تَخْصِيصًا أَيْضًا.

وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ " أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ: مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا هُوَ مَدَرٌ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَيُّهَا الرَّهْطُ إنَّكُمْ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمْ النَّاسُ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاهِلًا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ إنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصَبَّغَةَ فِي الْإِحْرَامِ فَلَا تَلْبَسُوا أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ " اهـ. فَإِنْ صَحَّ كَوْنُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَفَادَ مَنْعَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُ الْأَزْرَقُ وَنَحْوُهُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى الْمُتَنَازَعُ فِيهِ دَاخِلًا فِي الْمَنْعِ.

وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ: وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَخْ مُدْرَجٌ فَإِنَّ الْمَرْفُوعَ صَرِيحًا هُوَ قَوْلُهُ " سَمِعْته يَنْهَى عَنْ كَذَا " وَقَوْلُهُ " وَلْتَلْبَسْ " بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ عَطْفًا عَلَى يَنْهَى لِكَمَالِ الِانْفِصَالِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ

ص: 443

لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ

(وَ) لَا بَأْسَ بِأَنْ (يَسْتَظِلَّ بِالْبَيْتِ وَالْمُحْمَلُ) وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالْفُسْطَاطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُشْبِه تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ. وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ يُضْرَبُ لَهُ

- رضي الله عنهما فَتَخْلُو تِلْكَ الدَّلَالَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ الصَّرِيحِ، أَعْنِي مَنْطُوقَ الْمُوَرَّسِ وَمَفْهُومَهُ الْمُوَافِقَ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ) أَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إلَى عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِيَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ " اُصْبُبْ عَلَى رَأْسِي. فَقُلْت: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا يَزِيدُ الْمَاءُ الشَّعْرَ إلَّا شَعَثًا، فَسَمَّى اللَّهَ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ "

وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ بِمَعْنَاهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُغْنِي عَنْ هَذَا وَهُوَ مَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْتَسِلُ الْمُحْرِمُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لَا يَغْتَسِلُ، فَأَرْسَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه فَوَجَدَهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ مُسْتَتِرٌ بِثَوْبٍ، قَالَ: فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْت: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إلَيْك عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ يَسْأَلُك كَيْفَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اُصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ» وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَمِنْ الْمُسْتَحَبِّ الِاغْتِسَالُ لِدُخُولِ مَكَّةَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ رحمه الله أَنْ يُغَيِّبَ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِ لِتَوَهُّمِ التَّغْطِيَةِ وَقَتْلِ الْقَمْلِ، فَإِنْ فَعَلَ أَطْعَمَ.

وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ وَيَعْصِبَهُ وَيَنْزِعَ الضِّرْسَ وَيَخْتَتِنَ وَيَلْبَسَ الْخَاتَمَ، وَيُكْرَهُ تَعْصِيبُ رَأْسِهِ، وَلَوْ عَصَّبَهُ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَوْ عَصَّبَ غَيْرَهُ مِنْ بَدَنِهِ لِعِلَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ بِلَا عِلَّةٍ

(قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ رحمه الله، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه " أَنَّهُ كَانَ يُضْرَبُ لَهُ فُسْطَاطٌ " فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الصَّلْتُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صَهْبَانَ قَالَ " رَأَيْت عُثْمَانَ رضي الله عنه بِالْأَبْطُحِ وَإِنَّ فُسْطَاطَه مَضْرُوبٌ وَسَيْفَهُ مُعَلَّقٌ بِالشَّجَرَةِ " اهـ.

ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْمُحْرِمُ يَحْمِلُ السِّلَاحَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفُسْطَاطَ إنَّمَا يُضْرَبُ لِلِاسْتِظْلَالِ. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِحَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ فِي مُسْلِمٍ «حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» الْحَدِيثَ.

وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ «وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُظِلُّهُ مِنْ الشَّمْسِ» وَدُفِعَ بِتَجْوِيزِ كَوْنِ هَذَا الرَّامِي فِي قَوْلِهِ «حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» كَانَ فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ فَيَكُونُ بَعْدَ إحْلَالِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ مِنْ أَلْفَاظِهِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْعُدُ وَيَكُونُ مُنْقَطِعًا بَاطِنًا. وَإِنْ كَانَ السَّنَدُ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ رَمْيَهَا يَوْمَ النَّحْرِ يَكُونُ أَوَّلَ النَّهَارِ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَظْلِيلٍ، فَالْأَحْسَنُ الِاسْتِدْلَال بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ «فَأَمَرَ بَقِيَّةً مِنْ

ص: 444

فُسْطَاطٌ فِي إحْرَامِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَمَسُّ بَدَنَهُ فَأَشْبَهَ الْبَيْتَ. وَلَوْ دَخَلَ تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّتْهُ، إنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتِظْلَالٌ

(وَ) لَا بَأْسَ بِأَنْ (يَشُدَّ فِي وَسَطِهِ الْهِمْيَانَ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يُكْرَهُ إذَا كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ. وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحَالَتَانِ (وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلَا لِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ) لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ، وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هُوَامَّ الرَّأْسِ.

قَالَ (وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا وَبِالْأَسْحَارِ) لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يُلَبُّونَ

شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ قَالَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَهَا» الْحَدِيثَ، وَنَمِرَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مَوْضِعٌ بِعَرَفَةَ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ " خَرَجْت مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه فَكَانَ يَطْرَحُ النَّطَعَ عَلَى الشَّجَرَةِ فَيَسْتَظِلُّ بِهِ " يَعْنِي وَهُوَ مُحْرِمٌ. (قَوْلُهُ: إنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ) يُفِيدُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُصِيبُ يُكْرَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ بِالْمُمَاسَّةِ يُقَالُ لِمَنْ جَلَسَ فِي خَيْمَةٍ وَنَزَعَ مَا عَلَى رَأْسِهِ جَلَسَ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ نَحْوَ الطَّبَقِ وَالْإِجَّانَةِ وَالْعَدْلِ الْمَشْغُولِ بِخِلَافِ حَمْلِ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّهَا تُغَطَّى عَادَةً فَيَلْزَمُ بِهَا الْجَزَاءُ

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحَالَتَانِ) قَدْ يُقَالُ: الْكَرَاهَةُ لَيْسَ لِذَلِكَ بَلْ لِكَرَاهَةِ شَدِّ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ إجْمَاعًا. وَكَذَا عَقْدُهُ وَالْهِمْيَانُ حِينَئِذٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. قُلْنَا: ذَاكَ بِنَصٍّ خَاصٍّ سَبَبُهُ شَبَهُهُ حِينَئِذٍ بِالْمَخِيطِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِهِ، وَعَنْ ذَلِكَ كُرِهَ تَخْلِيلُ الرِّدَاءِ أَيْضًا، وَلَيْسَ فِي شَدِّ الْهِمْيَانِ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُشَدُّ تَحْتَ الْإِزَارِ عَادَةً، وَأَمَّا عَصْبُ الْعِصَابَةِ عَلَى رَأْسِهِ فَإِنَّمَا كُرِهَ تَعْصِيبُ رَأْسِهِ وَلَزِمَهُ إذَا دَامَ يَوْمًا كَفَّارَةٌ لِلتَّغْلِيظِ وَقَالُوا: لَا يُكْرَهُ شَدُّ الْمِنْطَقَةِ وَالسَّيْفُ وَالسِّلَاحُ وَالتَّخَتُّمُ، وَعَلَى هَذَا فَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَرَاهَةِ عَصْبِ غَيْرِ الرَّأْسِ مِنْ بَدَنِهِ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ نَوْعَ عَبَثٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ، وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ) فَلِوُجُودِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ فَوَجَبَ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَإِنَّهُ لَهُ رَائِحَةٌ مُلْتَذَّةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، بَلْ هُوَ كَالْأُشْنَانِ يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ

(قَوْلُهُ كَانُوا يُلَبُّونَ إلَخْ) فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ سِتٍّ: دُبُرَ الصَّلَاةِ، وَإِذَا اسْتَقَلَّتْ بِالرَّجُلِ رَاحِلَتُهُ، وَإِذَا صَعِدَ شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَبِالْأَسْحَارِ. ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَمَا هُوَ النَّصُّ وَعَلَيْهِ مَشَى فِي الْبَدَائِعِ فَقَالَ: فَرَائِضَ كَانَتْ أَوْ نَوَافِلَ، وَخَصَّهُ الطَّحَاوِيُّ بِالْمَكْتُوبَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ وَالْفَوَائِتِ فَأَجْرَاهَا مَجْرَى التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَعَزَى إلَى ابْنِ نَاجِيَةَ فِي فَوَائِدَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ إذَا لَقِيَ رَكْبًا وَذَكَرَ الْكُلَّ سِوَى اسْتِقْلَالِ الرَّاحِلَةِ» وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ وَلَمْ يُعْزِهِ.

وَذَكَرَ

ص: 445

فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَالتَّلْبِيَةُ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى مِثَالِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ، فَيُؤْتِي بِهَا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ (وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ إسَالَةُ الدَّمِ.

فِي النِّهَايَةِ حَدِيثَ خَيْثَمَةَ، هَذَا وَذَكَرَ مَكَانَ اسْتَقَلَّتْ رَاحِلَتُهُ إذَا اسْتَعْطَفَ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّا عَقَلْنَا مِنْ الْآثَارِ اعْتِبَارَ التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ عَلَى مِثَالِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ، فَقُلْنَا: السُّنَّةُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا مَرَّةً وَاحِدَةً شَرْطٌ وَالزِّيَادَةُ سُنَّةٌ، قَالَ فِي الْمُحِيطِ: حَتَّى تَلْزَمَهُ الْإِسَاءَةُ بِتَرْكِهَا.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَضْحَى يَوْمًا مُحْرِمًا مُلَبِّيًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ فَعَادَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي إلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ» صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهَذَا دَلِيلُ نَدْبِ الْإِكْثَارِ مِنْهَا غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ، فَظَهَرَ أَنَّ التَّلْبِيَةَ فَرْضٌ وَسُنَّةٌ وَمَنْدُوبٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَرِّرَهَا كُلَّمَا أَخَذَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَأْتِيَ بِهَا عَلَى الْوَلَاءِ وَلَا يَقْطَعَهَا بِكَلَامٍ، وَلَوْ رَدَّ السَّلَامَ فِي خِلَالِهَا جَازَ وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ التَّلْبِيَةِ، وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ قَالَ: لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام (قَوْلُهُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ) وَهُوَ سُنَّةٌ فَإِنْ تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يُبَالِغُ فِيهِ فَيُجْهِدُ نَفْسَهُ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ مَا يُفِيدُ بَعْضَ ذَلِكَ.

قَالَ أَبُو حَازِمٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ مِنْ التَّلْبِيَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْكَثْرَةِ مَعَ قِلَّةِ الْمَسَافَةِ، أَوْ هُوَ عَنْ زِيَادَةِ وَجْدِهِمْ، وَشَوْقِهِمْ بِحَيْثُ يُغْلَبُ الْإِنْسَانُ عَنْ الِاقْتِصَادِ فِي نَفْسِهِ. وَكَذَا الْعَجُّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ رَفْعِ الصَّوْتِ بَلْ بِشِدَّةٍ.

وَهُوَ مَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «قَامَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ الْحَاجُّ، قَالَ: الشَّعِثُ التَّفِلُ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْجَوْزِيِّ الْمَكِّيِّ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قَبْلُ حَفِظَهُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ. وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الضَّحَّاكُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ.

وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» وَالْعَجُّ: الْعَجِيجُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ: نَحْرُ الدِّمَاءِ. وَفِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي وَمَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ، أَوْ قَالَ: بِالتَّلْبِيَةِ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي التَّلْبِيَةِ» " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ زِينَةُ الْحَجِّ " وَعَنْهُ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَمَرَرْنَا بِوَادٍ فَقَالَ: أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ قَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَاضِعًا إصْبَعَهُ فِي أُذُنِهِ لَهُ جُؤَارٌ إلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي، ثُمَّ سِرْنَا الْوَادِيَ حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ فَقَالَ: أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ قَالُوا: هَرْشَى أَوْ لِفْتٌ، فَقَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ

ص: 446

قَالَ (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَمَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَهُوَ فِيهِ، وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا لِأَنَّهُ دُخُولُ بَلْدَةٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا (وَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَقُولُ: إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُ أَكْبَرُ. وَمُحَمَّدٌ رحمه الله لَمْ يُعَيِّنْ فِي الْأَصْلِ لِمَشَاهِدِ الْحَجِّ شَيْئًا مِنْ الدَّعَوَاتِ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُذْهِبُ بِالرِّقَّةِ

إلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ لَهُ مِنْ صُوفٍ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِنَا لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ بِشِدَّةِ رَفْعِ صَوْتِهِ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِشِدَّةٍ إذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْإِجْهَادِ، إذْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ عَالِيَهُ طَبْعًا فَيَحْصُلُ الرَّفْعُ الْعَالِي مَعَ عَدَمِ تَعَبِهِ بِهِ.

وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ وَالسَّبِيلُ فِيمَا هُوَ كَذَلِكَ الْإِظْهَارُ وَالْإِشْهَارُ كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ الْمُعَلِّمِ لِلْخَيْرِ صلى الله عليه وسلم إذَا فَرَغَ مِنْ التَّلْبِيَةِ، وَيَخْفِضَ صَوْتَهُ بِذَلِكَ

(قَوْلُهُ فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتِدَاءً بِالْمَسْجِدِ) يَخْرُجُ مِنْ عُمُومِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «كَانَ عليه الصلاة والسلام إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ ثُمَّ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ» وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ نَصًّا خَاصًّا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، وَمَعْنَاهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ» وَرَوَى أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا «لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ لَمْ يَلْوِ عَلَى شَيْءٍ وَلَمْ يُعَرِّجْ، وَلَا بَلَغَنَا أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتًا، وَلَا لَهَا بِشَيْءٍ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَبَدَأَ بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ» وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَقْدِيمَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى سُنَّةُ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا» وَيُذْكَرُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ كَمَا فِي غُسْلِ الْإِحْرَامِ، وَيَدْخُلُ مَكَّةَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةٌ: وَهِيَ الثَّنِيَّةُ الْعُلْيَا عَلَى دَرْبِ الْمُعَلَّى، وَإِنَّمَا سُنَّ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي دُخُولِهِ مُسْتَقْبِلَ بَابِ الْبَيْتِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَاصِدِ الْبَيْتِ كَوَجْهِ الرَّجُلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَاصِدِهِ، وَكَذَا تُقْصَدُ كِرَامُ النَّاسِ. وَإِذَا خَرَجَ فَمِنْ السُّفْلَى لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا) لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَخَلَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا. دَخَلَهَا فِي حَجِّهِ نَهَارًا وَلَيْلًا فِي عُمْرَتِهِ» وَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ الدُّخُولِ لِأَدَاءِ مَا بِهِ الْإِحْرَامُ، وَلِأَنَّهُ دُخُولُ بَلَدٍ.

وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه " أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ الدُّخُولِ لَيْلًا " فَلَيْسَ تَقْرِيرًا لِلسُّنَّةِ بَلْ شَفَقَةً عَلَى الْحَاجِّ مِنْ السُّرَّاقِ. وَيَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك، جِئْتُ لِأُؤَدِّيَ فَرْضَك، وَأَطْلُبَ رَحْمَتَك، وَأَلْتَمِسَ رِضَاك، مُتَّبِعًا لِأَمْرِك رَاضِيًا بِقَضَائِك، أَسْأَلُك مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّينَ الْمُشْفِقِينَ مِنْ عَذَابِك أَنْ تَسْتَقْبِلَنِي الْيَوْمَ بِعَفْوِك، وَتَحْفَظَنِي بِرَحْمَتِك، وَتَتَجَاوَزَ عَنِّي بِمَغْفِرَتِك، وَتُعِينَنِي عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِك.

اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك، وَأَدْخِلْنِي فِيهَا، وَأَعِذْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " وَكَذَا يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَكُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلَّ لَفْظٍ يَقَعُ بِهِ التَّضَرُّعُ وَالْخُشُوعُ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، مِنْهُ دَخَلَ عليه الصلاة والسلام (قَوْلُهُ وَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ) ثَلَاثًا وَيَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ، وَعَنْ عَطَاءٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَقُولُ إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ، وَمِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ» وَمِنْ أَهَمِّ الْأَدْعِيَةِ طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ (قَوْلُهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ مُحَمَّدٌ رحمه الله لِمُشَاهَدِ الْحَجِّ شَيْئًا مِنْ الدَّعَوَاتِ لِأَنَّ تَوْقِيتَهَا يُذْهِبُ بِالرِّقَّةِ)

ص: 447

وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَنْقُولِ مِنْهَا فَحَسَنٌ.

قَالَ (ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ» (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام

لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَمَنْ يُكَرِّرُ مَحْفُوظَهُ بَلْ يَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ وَيَذْكُرُ اللَّهَ كَيْفَ بَدَا لَهُ مُتَضَرِّعًا (وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَأْثُورِ مِنْهَا فَحَسَنٌ) أَيْضًا. وَلِنَسُقْ نُبْذَةً مِنْهَا فِي مَوَاطِنِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ " سَمِعْت مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه كَلِمَةً مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ سَمِعَهَا غَيْرِي، سَمِعْته يَقُولُ: إذَا رَأَى الْبَيْتَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ " وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذْ رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَكَرَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَبِرًّا» وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي مَوْصُولًا: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَخَلَ مَكَّةَ نَهَارًا مِنْ كَدَاءٍ فَلَمَّا رَأَى الْبَيْتَ قَالَ " الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ رَفْعَ الْيَدَيْنِ

(قَوْلُهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ لِمَا رُوِيَ إلَخْ) أَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالْحَجَرِ فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَا كَانَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ الدَّاخِلُ الطَّوَافَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ لَزِمَ أَنْ يَبْدَأَ الدَّاخِلُ بِالرُّكْنِ لِأَنَّهُ مُفْتَتَحُ الطَّوَافِ.

قَالُوا: أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ لَا الطَّوَافُ لَا الصَّلَاةُ، اللَّهُمَّ إلَّا إنْ دَخَلَ فِي وَقْتٍ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ الطَّوَافِ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ مَكْتُوبَةٌ أَوْ خَافَ فَوْتَ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ الْوِتْرِ أَوْ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ، أَوْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَكْتُوبَةِ فَيُقَدِّمُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى الطَّوَافِ ثُمَّ يَطُوفُ، فَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَطَوَافُ تَحِيَّةٍ أَوْ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَطَوَافُ الْقُدُومِ وَهُوَ أَيْضًا تَحِيَّةٌ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ، هَذَا إنْ دَخَلَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَإِنَّ دَخَلَ فِيهِ فَطَوَافُ الْفَرْضِ يُغْنِي كَالْبُدَاءَةِ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ تُغْنِي عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَوْ بِالْعُمْرَةِ فَبِطَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَلَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِ طَوَافُ الْقُدُومِ، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ رحمه الله عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ " أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لَهُ: إنَّك رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ، إنْ وَجَدْت خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ ".

وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَافَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ» وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اضْطَبَعَ فَاسْتَلَمَ وَكَبَّرَ وَرَمَلَ» وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا انْتَهَى إلَى الرُّكْنِ اسْتَلَمَهُ وَهُوَ مُضْطَبِعٌ بِرِدَائِهِ وَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ إيمَانًا بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ» .

وَمِنْ الْمَأْثُورِ عِنْدَ الِاسْتِلَامِ اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ إلَيْك بَسَطْت يَدَيْ وَفِيمَا عِنْدَك عَظُمَتْ رَغْبَتِي فَاقْبَلْ دَعْوَتِي وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي وَارْحَمْ تَضَرُّعِي وَجُدْ لِي بِمَغْفِرَتِك وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ (قَوْلُهُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ) يَعْنِي عِنْدَ التَّكْبِيرِ لِافْتِتَاحِ الطَّوَافِ (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:

ص: 448

«لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا اسْتِلَامَ الْحَجَرِ» قَالَ (وَاسْتَلَمَهُ إنْ اسْتَطَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ»

«لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ» ) تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ لَا الْعِلَّةِ، وَيَكُونُ بَاطِنُهُمَا فِي هَذَا الرَّفْعُ إلَى الْحَجَرِ كَهَيْئَتِهِمَا فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا يَفْعَلُ فِي كُلِّ شَوْطٍ إذَا لَمْ يَسْتَلِمْهُ (قَوْلُهُ وَاسْتَلَمَهُ) يَعْنِي بَعْدَ الرَّفْعِ لِلِافْتِتَاحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ يَسْتَلِمُهُ.

وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْحَجَرِ وَيُقَبِّلُهُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَاءَ إلَى الْحَجَرِ فَقَبَّلَهُ. وَقَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ»

وَرَوَى الْحَاكِمُ حَدِيثَ عُمَرَ رضي الله عنه وَزَادَ فِيهِ " فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَلَوْ عَلِمْت تَأْوِيلَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَقُلْت إنَّهُ كَمَا أَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فَلَمَّا أَقَرُّوا أَنَّهُ الرَّبُّ عز وجل وَأَنَّهُمْ الْعَبِيدُ كَتَبَ مِيثَاقَهُمْ فِي رِقٍّ وَأَلْقَمَهُ فِي هَذَا الْحَجَرِ، وَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ فَهُوَ أَمِينُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه: لَا أَبْقَانِي اللَّهُ بِأَرْضٍ لَسْت بِهَا يَا أَبَا الْحَسَنِ " وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَحْتَجَّا بِأَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ.

وَمِنْ غَرَائِبِ الْمُتُونِ مَا فِي ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي آخِرِ مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه عَنْ «رَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ فَقَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ثُمَّ قَبَّلَهُ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَوَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ فَقَالَ: إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» فَلْيُرَاجَعْ إسْنَادُهُ، فَإِنْ صَحَّ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ حَدِيثِ الْحَاكِمِ لِبُعْدِ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَعْنِي قَوْلَهُ بَلْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ بَعْدَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ» لِأَنَّهُ صُورَةُ مُعَارَضَةٍ، لَا جَرَمَ أَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ الْعَبْدِيِّ إنَّهُ سَاقِطٌ، وَعُمَرُ رضي الله عنه إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ أَوْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إزَالَةً لِوَهْمِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ اعْتِقَادِ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْنَامُ، ثُمَّ هَذَا التَّقْبِيلُ لَا يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ.

وَهَلْ يُسْتَحَبُّ السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ عَقِيبَ التَّقْبِيلِ؟ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

ص: 449

" وَقَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: إنَّكَ رَجُلٌ أَيْدٍ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فَلَا تُزَاحِمْ النَّاسَ عَلَى الْحَجَرِ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدْتَ فُرْجَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ ". وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ سُنَّةٌ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ.

قَالَ (وَإِنْ)(أَمْكَنَهُ أَنْ يَمَسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا فِي يَدِهِ) كَالْعُرْجُونِ وَغَيْرِهِ (ثُمَّ قِيلَ ذَلِكَ فُعِلَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ»

أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُهُ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ بِجَبْهَتِهِ. وَقَالَ " رَأَيْت عُمَرَ رضي الله عنه قَبَّلَهُ ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ فَفَعَلْته " رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

وَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ عَلَى الْحَجَرِ» وَصَحَّحَهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ لِمَا صُرِّحَ مِنْ تَوَسُّطِ عُمَرَ، إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ قِوَامَ الدِّينِ الْكَاكِيَّ قَالَ: وَعِنْدَنَا الْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لِعَدَمِ الرِّوَايَةِ فِي الْمَشَاهِيرِ، وَنَقَلَ السُّجُودَ عَنْ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي مَنَاسِكِهِ (قَوْلُهُ وَقَالَ لِعُمَرَ) فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَرَ ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي فَقَالَ يَا عُمَرُ هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ»

(قَوْلُهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُمِسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا فِي يَدِهِ) أَوْ يَمَسَّهُ بِيَدِهِ (وَيُقَبِّلَ مَا مَسَّ بِهِ فَعَلَ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا أَخْرَجَ السِّتَّةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ لَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ» .

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ إلَى قَوْلِهِ لَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنِ» .

وَهَاهُنَا إشْكَالٌ حَدِيثِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِلَا شُبْهَةٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ» وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَهَذَا يُنَافِي طَوَافَهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ. فَإِنْ أُجِيبَ: بِحَمْلِ حَدِيثِ الرَّاحِلَةِ عَلَى الْعُمْرَةِ دَفَعَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي مُسْلِمٍ «طَافَ عليه الصلاة والسلام فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُصْرَفَ النَّاسُ عَنْهُ» وَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِيهِ إنْ احْتَمَلَ كَوْنَهُ الرُّكْنَ: يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ طَافَ مَاشِيًا لَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْ الْحَجَرِ كُلَّمَا جَاءَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوْقِيرًا لَهُ أَنْ يُزَاحَمَ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَ مَرْجِعِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: يَعْنِي لَوْ لَمْ يَرْكَبْ لَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَامَ الْوُصُولَ إلَيْهِ لِسُؤَالٍ أَوْ لِرُؤْيَةٍ لِاقْتِدَاءٍ لَا يَقْدِرُ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ حَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ حَاجَتِهِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِمُوَافَقَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَحْصُلُ اجْتِمَاعُ الْحَدِيثَيْنِ دُونَ تَعَارُضِهِمَا.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي الْحَجِّ لِلْآفَاقِيِّ أَطْوِفَةً فَيُمْكِنُ كَوْنُ الْمَرْوِيِّ مِنْ رُكُوبِهِ كَانَ فِي طَوَافِ الْفَرْضِ يَوْمَ النَّحْرِ لِيُعْلِمَهُمْ، وَمَشْيُهُ كَانَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ لِأَنَّهُ حَكَى ذَلِكَ الطَّوَافَ الَّذِي بَدَأَ بِهِ أَوَّلَ دُخُولِهِ مَكَّةَ، كَمَا يُفِيدُهُ سَوْقُهُ لِلنَّاظِرِ فِيهِ. فَإِنْ قُلْت: فَهَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم «إنَّمَا طَافَ رَاكِبًا لِيُشْرِفَ وَيَرَاهُ النَّاسُ فَيَسْأَلُوهُ» ، وَبَيْنَ مَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ إنَّمَا طَافَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَكِي.

كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ «أَنَّهُ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَعَ عِكْرِمَةَ

ص: 450

وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

قَالَ (ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ وَقَدْ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ قَبْلَ ذَاكَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَطَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» (وَالِاضْطِبَاعُ أَنْ يَجْعَلَ رِدَاءَهُ تَحْتَ إبْطِهِ الْأَيْمَنِ وَيُلْقِيهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ) وَهُوَ سُنَّةٌ. وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام.

قَالَ (وَيَجْعَلُ طَوَافَهُ

فَجَعَلَ حَمَّادٌ يَصْعَدُ الصَّفَا وَعِكْرِمَةُ لَا يَصْعَدُ. وَيَصْعَدُ حَمَّادٌ الْمَرْوَةَ وَعِكْرِمَةُ لَا يَصْعَدُهَا، فَقَالَ حَمَّادٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَلَا تَصْعَدُ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ؟ فَقَالَ: هَكَذَا كَانَ طَوَافُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ حَمَّادٌ: فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ إنَّمَا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ شَاكٍ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنٍ، فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَصْعَدْ» اهـ.

فَالْجَوَابُ بِأَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْعُمْرَة.

فَإِنْ قُلْت: قَدْ ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا «سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَمَلَ بِالْبَيْتِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ» وَهَذَا لَازِمٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْعُمْرَةِ إذْ لَا مُشْرِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّة.

فَالْجَوَابُ: نَحْمِلُ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى عُمْرَةٍ غَيْرِ الْأُخْرَى، وَالْمُنَاسِبُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَوْنُهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تُفِيدُهُ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ الرُّكُوبُ لِلشِّكَايَةِ فِي غَيْرِهَا وَهِيَ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ. وَسَنُسْعِفُك بِعَدِّ عُمَرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَابِ الْفَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ ثُمَّ يُقَبِّلُ يَدَهُ، وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ» وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَسْحَ الْوَجْهِ بِالْيَدِ مَكَانَ تَقْبِيلِ الْيَدِ (قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ التَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ أَوْ بِمَا فِيهَا (اسْتَقْبَلَهُ) وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلًا بِبَاطِنِهِمَا إيَّاهُ (وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَيَفْعَلُ فِي كُلِّ شَوْطٍ عِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ مَا يَفْعَلُهُ فِي الِابْتِدَاءِ

(قَوْلُهُ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ إلَخْ) أَمَّا الْأَخْذُ عَنْ الْيَمِينِ فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ «لَمَّا قَدِمَ عليه الصلاة والسلام مَكَّةَ بَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَضَى عَلَى يَمِينِهِ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا» وَأَمَّا حَدِيثُ الِاضْطِبَاعِ فَفِي أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنْ الْجِعْرَانَةِ فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ الْيُسْرَى» سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ.

وَأَخْرَجَ هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَسُمِّيَ اضْطِبَاعًا افْتِعَالٌ مِنْ الضَّبُعِ وَهُوَ الْعَضُدُ، وَأَصْلُهُ اضْتِبَاعٌ لَكِنْ قَدْ عُرِفَ أَنَّ تَاءَ الِافْتِعَالِ تُبَدَّلُ طَاءً إذَا وَقَعَتْ

ص: 451

مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ) وَهُوَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ فِيهِ الْمِيزَابُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ حُطِّمَ مِنْ الْبَيْتِ: أَيْ كُسِرَ، وَسُمِّيَ حِجْرًا لِأَنَّهُ حُجِرَ مِنْهُ: أَيْ مُنِعَ، وَهُوَ مِنْ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ

إثْرَ حَرْفِ إطْبَاقٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَضْطَبِعَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ بِقَلِيلِ، وَيَجِبُ حَمْلُ الرَّمَلِ فِي حَدِيثِ الْجِعْرَانَةِ عَلَى فِعْلِ الصَّحَابَةِ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ الْجَمْعِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ.

وَيَقُولُ: إذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ عِنْدَ مُحَاذَاةِ الْمُلْتَزَمِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَابِ مِنْ الْكَعْبَةِ «اللَّهُمَّ إلَيْكَ مَدَدْتُ يَدِي، وَفِيمَا عِنْدَكَ عَظُمَتْ رَغْبَتِي، فَاقْبَلْ دَعْوَتِي، وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي وَارْحَمْ تَضَرُّعِي، وَجُدْ لِي بِمَغْفِرَتِكَ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. اللَّهُمَّ إنَّ لَكَ عَلَيَّ حُقُوقًا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيَّ وَعِنْدَ مُحَاذَاةِ الْبَابِ يَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا الْبَيْتُ بَيْتُكَ، وَهَذَا الْحَرَمُ حَرَمُكَ، وَهَذَا الْأَمْنُ أَمْنُكَ، وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ النَّارِ. يَعْنِي نَفْسَهُ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام أَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ فَأَعِذْنِي مِنْهَا وَإِذَا أَتَى الرُّكْنَ الْعِرَاقِيَّ وَهُوَ الرُّكْنُ الَّذِي مِنْ الْبَابِ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّكِّ وَالشِّرْكِ وَالشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَإِذَا حَازَى الْمِيزَابَ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ إيمَانًا لَا يَزُولُ، وَيَقِينًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. اللَّهُمَّ أَظِلَّنِي تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّك، وَاسْقِنِي بِكَأْسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَرْبَةً لَا أَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا وَإِذَا حَاذَى الرُّكْنَ الشَّامِيَّ وَهُوَ الَّذِي مِنْ الْعِرَاقِيِّ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا. وَسَعْيًا مَشْكُورًا. وَذَنْبًا مَغْفُورًا. وَتِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، يَا عَزِيزُ يَا غَفُورُ وَإِذَا أَتَى الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَهُوَ الَّذِي مِنْ الشَّامِيِّ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»

وَأَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْأَسْوَدِ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» وَاعْلَمْ أَنَّك إذَا أَرَدْت أَنْ تَسْتَوْفِيَ مَا أُثِرَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ فِي الطَّوَافِ كَانَ وُقُوفُك فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ أَكْثَرَ مِنْ مَشْيِك بِكَثِيرٍ.

وَإِنَّمَا أُثِرَتْ هَذِهِ فِي طَوَافٍ فِيهِ تَأَنٍّ وَمُهْلَةٌ لَا رَمَلٌ، ثُمَّ وَقَعَ لِبَعْضِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنْ قَالَ فِي مَوْطِنِ كَذَا كَذَا، وَلِآخَرَ فِي آخَرَ كَذَا، وَلِآخَرَ فِي نَفْسِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا آخَرَ، فَجَمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْكُلَّ لَا أَنَّ الْكُلَّ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ لِوَاحِدٍ، بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي الطَّوَافِ مُجَرَّدُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ نَعْلَمْ خَبَرًا رُوِيَ فِيهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، مُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ بِهَا عَشْرُ دَرَجَاتٍ» وَسَنَذْكُرُ فُرُوعًا تَتَعَلَّقُ بِالطَّوَافِ نَذْكُرُ فِيهَا حُكْمَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحِجْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا بَالُهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إنَّ قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ

ص: 452

الْبَيْتِ» فَلِهَذَا يُجْعَلُ الطَّوَافُ مِنْ وَرَائِهِ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ الْفُرْجَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ لَا يَجُوزُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ وَحْدَهُ لَا تُجْزِيه الصَّلَاةُ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّوَجُّهِ ثَبَتَتْ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَتْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ احْتِيَاطًا، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ.

قَالَ (وَيَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْأَشْوَاطِ) وَالرَّمَلُ أَنْ يَهُزَّ فِي مِشْيَتِهِ

مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ وَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَهُ قُلُوبُهُمْ لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْحِجْرَ بِالْبَيْتِ وَأَنْ أُلْزِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ».

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ وَأُصَلِّيَ فِيهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ فَقَالَ: صَلِّي فِي الْحِجْرِ إذَا أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ الْبَيْتِ، وَإِنَّ قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ هَدَمَهُ فِي خِلَافَتِهِ وَبَنَاهُ عَلَى مَا أَحَبَّ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَكُونَ، فَلَمَّا قُتِلَ أَعَادَهُ الْحَجَّاجُ عَلَى مَا كَانَ يُحِبُّهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَسْنَا مِنْ تَخْلِيطِ أَبِي خُبَيْبٍ فِي شَيْءٍ فَهَدَمَهَا وَبَنَاهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. فَلَمَّا فَرَغَ جَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَعْرُوفُ بِالْقُبَاعِ، وَهُوَ أَخُو عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الشَّاعِرُ وَمَعَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَحَدَّثَاهُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فَنَدِمَ، وَجَعَلَ يَنْكُتُ الْأَرْضَ بِمُحْضَرَةٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: وَدِدْت أَنِّي تَرَكْت أَبَا خُبَيْبٍ وَمَا عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ

، ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ هَذَا، وَلَيْسَ الْحِجْرُ كُلُّهُ مِنْ الْبَيْتِ بَلْ سِتَّةُ أَذْرُعٍ مِنْهُ فَقَطْ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سِتَّةُ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ مِنْ الْبَيْتِ وَمَا زَادَ لَيْسَ مِنْ الْبَيْتِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ (قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ) أَيْ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فَتَجِبُ إعَادَةُ كُلِّهِ لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى وَجْهِهِ الْمَشْرُوعِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَلْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ فَقَطْ وَدَخَلَ الْفُرْجَتَيْنِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلَوْ طَافَ وَلَمْ يَدْخُلْ الْفُرْجَتَيْنِ بَلْ كَانَ يَرْجِعُ كُلَّمَا وَصَلَ إلَى بَابِهِمَا فَفِي الْغَايَةِ لَا يُعَدُّ عَوْدُهُ شَوْطًا لِأَنَّهُ مَنْكُوسٌ اهـ. وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْمَنْكُوسِ لَا يَصِحُّ لَكِنَّ الْمَذْهَبَ الِاعْتِدَادُ بِهِ. وَيَكُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ، فَالْوَاجِبُ هُوَ الْأَخْذُ فِي الطَّوَافِ مِنْ جِهَةِ الْبَابِ فَيَكُونُ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ عَلَى يَسَارِ الطَّائِفِ فَتَرْكُهُ تَرْكُ وَاجِبٍ، فَإِنَّمَا يُوجِبُ الْإِثْمَ فَيَجِبُ إعَادَتُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ.

فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ إعَادَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَالِافْتِتَاحُ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، قِيلَ: لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ فِي الْآيَةِ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ الِابْتِدَاءِ فَالْحَقُّ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام بَيَانًا. وَقِيلَ: يُجْزِيهِ لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ لَا مُجْمَلَةٌ غَيْرَ أَنَّ الِافْتِتَاحَ مِنْ الْحَجَرِ وَاجِبٌ. لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَتْرُكْهُ قَطُّ (قَوْلُهُ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّوَجُّهِ) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَلَى أَرْضٍ تَنَجَّسَتْ ثُمَّ جَفَّتْ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ بِأَنَّ قَطْعِيَّةَ التَّكْلِيفِ بِفِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ لَا يَتَوَقَّفُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَتِهِ عَلَى الْقَطْعِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ.

بَلْ ظَنُّهُ كَافٍ لِلْقَطْعِ بِالتَّكْلِيفِ بِاسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ مِنْ الْمَاءِ ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ عَهْدِيَّةِ الْقَطْعِ بِاسْتِعْمَالِ مَا يُظَنُّ

ص: 453

الْكَتِفَيْنِ كَالْمُبَارِزِ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَذَلِكَ مَعَ الِاضْطِبَاعِ. وَكَانَ سَبَبُهُ إظْهَارَ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ حِينَ قَالُوا: أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَبَعْدَهُ. قَالَ (وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي عَلَى هَيِّنَتِهِ) عَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام (وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ) هُوَ الْمَنْقُولُ مِنْ رَمَلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام (فَإِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّمَلِ قَامَ. فَإِذَا وَجَدَ مَسْلَكًا رَمَلَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ

طَهَارَتُهُ مِنْهُ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ عَنْ الشُّغْلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ إلَّا بِالْقَطْعِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ طَرِيقٌ لِلْقَطْعِ يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ ضَرُورَةً كَحَالِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ بِطَهَارَتِهِ إلَّا حَالَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ.

وَكَوْنِهِ فِي الْبَحْرِ وَمَا لَهُ حُكْمُهُ، وَلَيْسَ يَتَمَكَّنُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ فِي كُلِّ تَطْهِيرٍ بِخِلَافِ التَّوْجِيهِ وَالتَّيَمُّمِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ وَكَانَ سَبَبُهُ إلَخْ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إنَّهُ يَقْدَمُ غَدًا عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ الْحُمَّى، وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً. فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ. وَيَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ هُمْ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِمْ اهـ. وَيَعْنِي بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّ وَالْأَسْوَدَ كَمَا فِي أَبِي دَاوُد «كَانُوا إذَا بَلَغُوا الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَتَغَيَّبُوا عَنْ قُرَيْشٍ مَشَوْا ثُمَّ يَطْلُعُونَ عَلَيْهِمْ فَيَرْمُلُونَ يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ كَأَنَّهُمْ الْغِزْلَانُ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ سُنَّةً.

فَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ إلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ أَصْلًا. وَنَقَلَهُ الْكَرْمَانِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ:«قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَمَلَ بِالْبَيْتِ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قُلْتُ: مَا صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: صَدَقُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَمَلَ، وَكَذَبُوا لَيْسَ سُنَّةً. إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنْ الْهُزَالِ. وَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ فَأَمَرَهُمْ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا وَيَمْشُوا أَرْبَعًا»

فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى خِلَافِ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ، وَبِقَوْلِهِ " وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ هُوَ الْمَنْقُولُ " أَمَّا أَنَّهُ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام وَبَعْدَهُ فَلِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ «أَنَّهُ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَا لَنَا

ص: 454

لَهُ فَيَقِفُ حَتَّى يُقِيمَهُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ بِخِلَافِ الِاسْتِلَامِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ بَدَلٌ لَهُ.

قَالَ (وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ إنْ اسْتَطَاعَ) لِأَنَّ أَشْوَاطَ الطَّوَافِ كَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، فَكَمَا يَفْتَتِحُ كُلَّ رَكْعَةٍ بِالتَّكْبِيرِ يَفْتَتِحُ كُلَّ شَوْطٍ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الِاسْتِلَامَ اسْتَقْبَلَ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ) وَهُوَ حَسَنٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا فَإِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ

وَلِلرَّمَلِ، إنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ " سَمِعْت عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: فِيمَ الرَّمَلُ؟ وَكَشْفُ الْمَنَاكِبِ، وَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نَدْعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَأَمَّا أَنَّهُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ مَنْقُولًا فَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ جَابِرٍ مِثْلَهُ.

وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَمَلَ ثَلَاثًا مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ» . وَفِي آثَارِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ» فَهَذِهِ تُقَدَّمُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَذَلِكَ نَافٍ.

وَأَيْضًا فَإِنَّمَا فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ فِي هَذِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَا فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ الرَّمَلَ بِهِ هُوَ مَا فُسِّرَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ. وَقِيلَ: هُوَ إسْرَاعٌ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا دُونَ الْوُثُوبِ وَالْعَدْوِ. هَذَا وَالرَّمَلُ بِالْقُرْبِ مِنْ الْبَيْتِ أَفْضَلُ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهُوَ بِالْبُعْدِ مِنْ الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ بِلَا رَمَلٍ مَعَ الْقُرْبِ مِنْهُ. وَلَوْ مَشَى شَوْطًا ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يَرْمُلُ إلَّا فِي شَوْطَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي الثَّلَاثَةِ لَا يَرْمُلُ بَعْدَ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ) ذَكَرَ فِي وَجْهِهِ الْمَعْنَى دُونَ الْمَنْقُولِ وَهُوَ إلْحَاقُ الْأَشْوَاطِ بِالرَّكَعَاتِ فَمَا يَفْتَتِحُ بِهِ الْعِبَادَةَ وَهُوَ الِاسْتِلَامُ يَفْتَتِحُ بِهِ كُلَّ شَوْطٍ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ قِيَاسُ شَبَهٍ لِإِثْبَاتِ اسْتِحْبَابِ شَيْءٍ وَفَتْحِ بَابِهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» لَكِنْ فِيهِ الْمَنْقُولُ وَهُوَ مَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ» (قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الِاسْتِلَامَ) أَيْ كُلَّمَا مَرَّ (اسْتَقْبَلَ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ وَلَا كَثِيرٌ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ تَكْبِيرٍ يَسْتَقْبِلُ بِهِ فِي كُلِّ مَبْدَإِ شَوْطٍ، فَإِنْ لَاحَظْنَا مَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ يَنْبَغِي أَنْ تُرْفَعَ لِلْعُمُومِ فِي اسْتِلَامِ الْحَجَرِ» وَإِنْ لَاحَظْنَا عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ فِيهِ وَعَدَمَ تَحْسِينِهِ بَلْ الْقِيَاسُ الْمُتَقَدِّمُ لَمْ يَفْدِ ذَلِكَ إذْ لَا رَفْعَ مَعَ مَا بِهِ الِافْتِتَاحُ فِيهَا إلَّا فِي الْأَوَّلِ، وَاعْتِقَادِي أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَلَمْ أَرَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام خِلَافَهُ.

(قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سُنَّةٌ) هَذَا هُوَ مُقَابِلُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي قَوْلِهِ، وَهُوَ حَسَنٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَيُقَبِّلُهُ مِثْلَ الْحَجَرِ.

وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ إلَّا التِّرْمِذِيَّ «لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ» لَيْسَ حُجَّةً عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، إذْ لَيْسَ فِيهِ سِوَى إثْبَاتِ رُؤْيَةِ اسْتِلَامِهِ عليه الصلاة والسلام لِلرُّكْنَيْنِ، وَمُجَرَّدُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ كَوْنَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاظَبَةِ وَلَا سُنَّةَ دُونَهَا غَيْرَ أَنَّا عَلِمْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى اسْتِلَامِ الْأَسْوَدِ مِنْ خَارِجٍ، فَقُلْنَا بِاسْتِنَانِهِ فَيَكُونُ مُجَرَّدُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَكَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " مَا تَرَكْت اسْتِلَامَ

ص: 455

وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا (وَيَخْتِمُ الطَّوَافَ بِالِاسْتِلَامِ) يَعْنِي اسْتِلَامَ الْحَجَرِ.

قَالَ (ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ) وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: سُنَّةٌ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ (ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ)

هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مُنْذُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا " فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ يَسْتَلِمُهُ فَلَمْ يَتْرُكْهُ هُوَ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُحَافَظَةً مِنْهُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُسْتَحَبِّ، وَكَذَا مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ " مَسْحُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ يَحُطُّ الْخَطَايَا حَطًّا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ: هَذَا نَدْبٌ، وَالْمَنْدُوبُ مِنْ الْمُسْتَحَبِّ.

نَعَمْ مَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " كَانَ عليه الصلاة والسلام يُقَبِّلُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ " وَأَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَقَالَ " وَيَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ " ظَاهِرٌ فِي الْمُوَاظَبَةِ.

وَأَظْهَرُ مِنْهُ مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ " كَانَ عليه الصلاة والسلام لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فِي كُلِّ طَوَافِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَعَنْ مُجَاهِدٍ " مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ " وُكِّلَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قَالُوا: آمِينَ ".

وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

(قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَلْيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ») لَمْ يُعْرَفْ هَذَا الْحَدِيثُ.

نَعَمْ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام لَهُمَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَجَمِيعِ كُتُبِ الْحَدِيثِ، إلَّا أَنَّ مُفِيدَ الْوُجُوبِ مِنْ الْفِعْلِ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفِعْلِ إذْ هُوَ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ الْمَقْرُونَةَ بِعَدَمِ التَّرْكِ مَرَّةً، وَقَدْ يَثْبُتُ اسْتِدْلَالًا بِمَا يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ نَفْسِ الْمَطْلُوبِ فَيَثْبُتَانِ مَعًا. وَهُوَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا انْتَهَى إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام قَرَأَ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} نَبَّهَ بِالتِّلَاوَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُ هَذِهِ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ.

وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، إلَّا أَنَّ اسْتِفَادَةَ ذَلِكَ مِنْ التَّنْبِيهِ وَهُوَ ظَنِّيٌ، فَكَانَ الثَّابِتُ الْوُجُوبَ أَيْ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُنَا بِمُوَاظَبَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «كَانَ عليه الصلاة والسلام إذَا طَافَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَيَمْشِي أَرْبَعًا ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ» وَهُوَ لَا يُفِيدُ عُمُومَ فِعْلِهِ إيَّاهُمَا عَقِيبَ كُلِّ طَوَافٍ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُرْسَلًا أَخْبَرَنَا مِنْدَلٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» وَفِي الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا قَالَ إسْمَاعِيلُ: قُلْت لِلزُّهْرِيِّ: إنَّ عَطَاءً يَقُولُ تُجْزِيهِ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، فَقَالَ: السُّنَّةُ أَفْضَلُ، لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُسْبُوعًا قَطُّ إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقَوْلُ شُذُوذٍ مِنَّا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَا وَاجِبَتَيْنِ عَقِبَ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ لَا غَيْرُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ. وَيُكْرَهُ وَصْلُ الْأَسَابِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَ هَذَا فِي فُرُوعٍ تَتَعَلَّقُ بِالطَّوَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ لَوْ نَسِيَهُمَا فَلَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِي طَوَافٍ آخَرَ إنْ كَانَ قَبْلَ إتْمَامِ شَوْطٍ رَفَضَهُ. وَبَعْدَ إتْمَامِهِ لَا لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ

ص: 456

لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ» وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَمَّا كَانَ يُفْتَتَحُ بِالِاسْتِلَامِ فَكَذَا السَّعْيُ يُفْتَتَحُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ سَعْيٌ.

قَالَ (وَهَذَا الطَّوَافُ طَوَافُ الْقُدُومِ) وَيُسَمَّى طَوَافُ التَّحِيَّةِ (وَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: إنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ بِالطَّوَافِ» وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ، وَالْأَمْرُ

وَعَلَيْهِ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ مِنْهُمَا رَكْعَتَانِ آخِرًا، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْأُسْبُوعَ الثَّانِيَ بَعْدَ أَنْ طَافَ مِنْهُ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ وَاشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْ الْأُسْبُوعِ الْأَوَّلِ لَأَخَلَّ بِالسُّنَّتَيْنِ بِتَفْرِيقِ الْأَشْوَاطِ فِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي. لِأَنَّ وَصْلَ الْأَشْوَاطِ سُنَّةٌ وَتَرَكَ رَكْعَتَيْ الْأُسْبُوعِ الْأَوَّلِ عَنْ مَوْضِعِهِمَا، فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ وَاجِبَتَانِ.

وَفِعْلُهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا سُنَّةٌ، وَلَوْ مَضَى فِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي فَأَتَمَّهُ لَأَخَلَّ بِسُنَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَكَانَ الْإِخْلَالُ بِإِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْإِخْلَالِ بِهِمَا. كَذَا فِي مَنَاسِكِ الْكَرْمَانِيِّ وَلَوْ طَافَ بِصَبِيٍّ لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ عَنْهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بِدُعَاءِ آدَمَ عليه السلام " اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي، وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي. اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك إيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي، وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُنِي إلَّا مَا كَتَبْت عَلَيَّ، وَرَضِّنِي بِمَا قَسَمْت لِي.

فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ إنِّي قَدْ غَفَرْت لَك، وَلَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِك يَدْعُو بِمِثْلِ مَا دَعَوْتَنِي بِهِ إلَّا غَفَرْت ذُنُوبَهُ، وَكَشَفْت هُمُومَهُ، وَنَزَعْت الْفَقْرَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ، وَأَنْجَزْت لَهُ كُلَّ نَاجِزٍ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُهَا (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ») تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَقَوْلُهُ وَالْأَصْلُ إلَخْ اسْتِنْبَاطُ أَمْرٍ كُلِّيٍّ مِنْ فِعْلِهِ هَذَا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْوَجْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ زَمْزَمَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الصَّفَا فَيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَضَلَّعَ، وَيُفْرِغَ الْبَاقِيَ فِي الْبِئْرِ وَيَقُولَ " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك رِزْقًا وَاسِعًا وَعِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ " وَسَنَعْقِدُ لِلشُّرْبِ مِنْهَا فَصْلًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ الشُّرْبَ مِنْهَا عَقِيبَ طَوَافِ الْوَدَاعِ نَذْكُرُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فِيهِ مَقْنَعٌ، ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الصَّفَا، وَقِيلَ: يَلْتَزِمُ الْمُلْتَزَمَ قَبْلَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّيهِمَا ثُمَّ يَأْتِيَ زَمْزَمَ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ، ذَكَرَهُ السُّرُوجِيُّ.

وَالْتِزَامُهُ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِهِ وَيَضَعَ صَدْرَهُ وَبَطْنَهُ عَلَيْهِ وَخَدَّهُ الْأَيْمَنَ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ فَوْقَ رَأْسِهِ مَبْسُوطَتَيْنِ عَلَى الْجِدَارِ قَائِمَتَيْنِ

(قَوْلُهُ وَهُوَ سُنَّةٌ) أَيْ لِلْآفَاقِيِّ لَا غَيْرُ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ») هَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَلَوْ ثَبَتَ كَانَ الْجَوَابُ بِأَنَّ هُنَاكَ قَرِينَةً تَصْرِفُ الْأَمْرَ عَنْ الْوُجُوبِ وَهُوَ نَفْسُ مَادَّةِ اشْتِقَاقِ هَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ التَّحِيَّةُ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِهَا التَّبَرُّعُ لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إكْرَامٍ يَبْدَأُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ كَلَفْظِ التَّطَوُّعِ، فَلَوْ قَالَ: تَطَوَّعْ أَفَادَ النَّدْبَ، فَكَذَا إذَا قَالَ: حَيِّهِ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} لِأَنَّهُ وَقَعَ جَزَاءً لَا ابْتِدَاءً، فَلَفْظَةُ التَّحِيَّةِ فِيهِ مِنْ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ مِثْلُ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ

ص: 457

الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَقَدْ تَعَيَّنَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا رَوَاهُ سَمَّاهُ تَحِيَّةً، وَهُوَ دَلِيلٌ الِاسْتِحْبَابِ

(وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ طَوَافُ الْقُدُومِ) لِانْعِدَامِ الْقُدُومِ فِي حَقِّهِمْ. قَالَ (ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا فَيَصْعَدُ عَلَيْهِ وَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ. وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَدْعُو اللَّهَ لِحَاجَتِهِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَعِدَ الصَّفَا حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَامَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو اللَّهَ» وَلِأَنَّ الثَّنَاءَ وَالصَّلَاةَ يُقَدَّمَانِ عَلَى الدُّعَاءِ تَقْرِيبًا إلَى الْإِجَابَةِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الدَّعَوَاتِ. وَالرَّفْعُ سُنَّةُ الدُّعَاءِ. وَإِنَّمَا يَصْعَدُ بِقَدْرِ مَا يَصِيرُ الْبَيْتُ بِمَرْأًى مِنْهُ، لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالصُّعُودِ، وَيَخْرُجُ إلَى الصَّفَا مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ. وَإِنَّمَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَابَ الصَّفَا لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْأَبْوَابِ إلَى الصَّفَا لَا أَنَّهُ سُنَّةٌ.

قَالَ (ثُمَّ يَنْحَطُّ نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَيَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ فَإِذَا بَلَعَ بَطْنَ الْوَادِي يَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ سَعْيًا، ثُمَّ يَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدُ عَلَيْهَا وَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَزَلَ مِنْ

وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي فِي الْكِتَابِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الدَّلِيلُ الْقَائِلُ: إنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا} وَقَدْ تَعَيَّنَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُفِيدُ لَوْ ادَّعَى فِي طَوَافِ الْقُدُومِ الرُّكْنِيَّةَ بِدَعْوَى الِافْتِرَاضِ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُدَّعَاهُ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا) مُقَدِّمًا رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَالَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ قَائِلًا " بِاسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَأَدْخِلْنِي فِيهَا. وَأَعِذْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ "(قَوْلُهُ: وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ) وَفِي الْأَصْلِ قَالَ " فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيُلَبِّي. وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَدْعُو اللَّهَ لِحَاجَتِهِ ".

وَقَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ قَوْلَهُ " فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ. وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ " ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

ص: 458

الصَّفَا وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَسَعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مَشَى حَتَّى صَعِدَ الْمَرْوَةَ وَطَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» قَالَ (وَهَذَا شَوْطٌ وَاحِدٌ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ)

وَمِنْ الْمَأْثُورِ أَنْ يَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ جَاعِلًا بَاطِنَهُمَا إلَى السَّمَاءِ كَمَا لِلدُّعَاءِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو.

وَفِي الْبَدَائِعِ: الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةٌ فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ فِي هُبُوطِهِ " اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي بِسُنَّةِ نَبِيِّك وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ بِرَحْمَتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ " فَإِذَا وَصَلَ إلَى بَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ قَالَ " رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ، إنَّك أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ " يُؤْثَرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَيَقُولُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ مَا قَالَ عَلَى الصَّفَا، وَأَمَّا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ فَأَسْنَدَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى الصَّفَا مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ» . وَأَسْنَدَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا» وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ إلَى الصَّفَا مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ» .

وَأَمَّا عَدَدُ الْأَشْوَاطِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا» هَذَا وَالْأَفْضَلُ لِلْمُفْرِدِ أَنْ لَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ، بَلْ يُؤَخِّرَ السَّعْيَ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ، فَجَعْلُهُ تَبَعًا لِلْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ تَبَعًا لِلسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا جَازَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ رُخْصَةً بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا عَلَى الْحَاجِّ مِنْ الْأَعْمَالِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِنَّهُ يَرْمِي، وَقَدْ يَذْبَحُ، ثُمَّ يَحْلِقُ بِمِنًى، ثُمَّ يَجِيءُ إلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ الطَّوَافَ الْمَفْرُوضَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مِنًى لِيَبِيتَ بِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ غَرَضِهِ أَنْ يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ أَخْذًا بِالْأَوْلَى فَلَا يَرْمُلُ فِيهِ، لِأَنَّ الرَّمَلَ إنَّمَا شُرِعَ فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَيَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ.

هَذَا وَشَرْطُ جَوَازِ السَّعْيِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَوَافٍ أَوْ أَكْثَرَهُ، ذَكَرَهُ فِي الْبَدَائِعِ

(قَوْلُهُ وَهَذَا شَوْطٌ) ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الذَّهَابِ إلَى الْمَرْوَةِ وَالْمَجِيءِ مِنْهُ إلَى الصَّفَا شَوْطٌ، وَعِنْدَ الطَّحَاوِيِّ لَا، فَقِيلَ: الرُّجُوعُ إلَى الصَّفَا لَيْسَ مُعْتَبَرًا مِنْ الشَّوْطِ بَلْ لِتَحْصِيلِ الشَّوْطِ الثَّانِي، وَيُعْطِي بَعْضَ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا لِمَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ إلْحَاقِهِ بِالطَّوَافِ، حَيْثُ كَانَ مِنْ الْمَبْدَإِ أَعْنِي الْحَجَرَ إلَى الْمَبْدَإِ وَعِنْدَهُ فِي مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ اشْتِبَاهٌ، وَأَيَّامًا كَانَ فَإِبْطَالُهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ «فَلَمَّا كَانَ آخِرَ طَوَافِهِ بِالْمَرْوَةِ قَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي» الْحَدِيثَ لَا يَنْتَهِضُ. أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ آخِرَ السَّعْيِ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ لَا شَكَّ أَنَّهُ

ص: 459

وَيَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ شَوْطٍ لِمَا رَوَيْنَا، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» ثُمَّ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ

بِالْمَرْوَةِ وَرُجُوعُهُ عَنْهَا إلَى حَالِ سَبِيلِهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الصَّفَا لِيَفْتَتِحَ الشَّوْطَ وَقَدْ تَمَّ السَّعْيُ.

وَعَلَى الثَّانِي إذَا كَانَ الشَّرْطُ الْأَخِيرُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ رُجُوعِهِ فِيهِ مِنْ الْمَرْوَةِ هَذَا آخِرُ طَوَافِهِ بِالْمَرْوَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْفَةِ بِهَا إلَيْهَا. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى رُجُوعِهِ إلَى الصَّفَا لِتَتْمِيمِ الشَّوْطِ، وَمَا دُفِعَ بِهِ أَيْضًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا، وَقَدْ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ إنَّمَا طَافَ سَبْعَةً فَمَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الشَّرْطِ مَا مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ أَوْ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا فِي الشَّرْعِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، إذْ يَقُولُ: هَذَا اعْتِبَارُكُمْ لَا اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لِعَدَمِ النَّقْلِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ، وَأَقَلُّ الْأُمُورِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ الشَّارِعِ تَنْصِيصٌ فِي مُسَمَّاهُ أَنْ يَثْبُتَ احْتِمَالُ أَنَّهُ كَمَا قُلْتُمْ، وَكَمَا قُلْت، فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ قَوْلِي فِيهِ وَيُقَوِّيهِ أَنَّ لَفْظَ الشَّوْطِ أُطْلِقَ عَلَى مَا حَوَالَيْ الْبَيْتِ. وَعُرِفَ قَطْعًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا مِنْ الْمَبْدَإِ إلَى الْمَبْدَإِ، فَكَذَا إذَا أُطْلِقَ فِي السَّعْيِ إذْ لَا مُنَصِّصَ عَلَى الْمُرَادِ.

فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، فَالْوَجْهُ أَنَّ إثْبَاتَ مُسَمَّى الشَّوْطِ فِي اللُّغَةِ يَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الذَّهَابِ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْهَا إلَى الصَّفَا، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يُخَالِفُهُ فَيَبْقَى عَلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ.

وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَسَافَةٌ يَعْدُوهَا الْفَرَسُ كَالْمَيْدَانِ وَنَحْوِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: إنَّ الشَّوْطَ بَطِيءٌ: أَيْ بَعِيدٌ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْأُمُورِ مَا تَعْرِفُ بِهِ صَدِيقَك مِنْ عَدُوِّك، فَسَبْعَةُ أَشْوَاطٍ حِينَئِذٍ قَطْعُ مَسَافَةٍ مَقْدِرَةٍ سَبْعَ مَرَّاتِ، فَإِذَا قَالَ: طَافَ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا سَبْعًا صُدِّقَ بِالتَّرَدُّدِ مِنْ كُلٍّ مَنْ الْغَايَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى سَبْعًا، بِخِلَافِ طَافَ بِكَذَا فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى أَنْ يَشْمَلَ بِالطَّوَافِ ذَلِكَ الشَّيْءَ، فَإِذَا قَالَ: طَافَ بِهِ سَبْعًا، كَانَ بِتَكْرِيرِهِ تَعْمِيمَهُ بِالطَّوَافِ سَبْعًا، فَمِنْ هُنَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ حَيْثُ لَزِمَ فِي شَوْطِهِ كَوْنُهُ مِنْ الْمَبْدَإِ إلَى الْمَبْدَإِ، وَالطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ

فَرْعٌ

إذَا فَرَغَ مِنْ السَّعْيِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِيَكُونَ خَتْمُ السَّعْيِ كَخَتْمِ الطَّوَافِ، كَمَا ثَبَتَ أَنَّ مَبْدَأَهُ بِالِاسْتِلَامِ كَمَبْدَئِهِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الْقِيَاسِ إذْ فِيهِ نَصٌّ وَهُوَ مَا رَوَى الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ جَاءَ، حَتَّى إذَا حَاذَى الرُّكْنَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّائِفِينَ أَحَدٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ.

وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَذْوَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سُتْرَةٌ» وَعَنْهُ «أَنَّهُ رَآهُ عليه الصلاة والسلام يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ» إلَخْ وَبَابُ بَنِي سَهْمٍ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْيَوْمَ بَابُ الْعُمْرَةِ، لَكِنْ عَلَى هَذَا لَا يَكُونُ حَذْوَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام ابْدَءُوا) اعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ " أَبْدَأُ " فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ

ص: 460

وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» . وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وَمِثْلُهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ فَيَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ وَالْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ فِي الْإِيجَابِ. وَلِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ. ثُمَّ مَعْنَى مَا رُوِيَ كُتِبَ اسْتِحْبَابًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ.

وَنَبْدَأُ " فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، وَبِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَهُوَ مُفِيدُ الْوُجُوبِ خُصُوصًا مَعَ ضَمِيمَةِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَعَنْ هَذَا مَعَ كَوْنِ نَفْسِ السَّعْيِ وَاجِبًا لَوْ افْتَتَحَ مِنْ الْمَرْوَةِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الشَّوْطُ إلَى الصَّفَا، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ شَرْطِ الْوَاجِبِ بِمِثْلِ مَا يَثْبُتُ بِهِ أَقْصَى حَالَاتِهِ وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالْآحَادِ فَكَذَا شَرْطُهُ.

(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ رُكْنٌ إلَخْ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ الْعَابِدِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تُجْزَأَةَ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ قَالَتْ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَهُوَ وَرَاءَهُمْ. وَهُوَ يَسْعَى حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَسْعَى وَهُوَ يَقُولُ: اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ»

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تُجْزَأَةَ فَذَكَرَهُ.

وَخُطِّئَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِيهِ حَيْثُ أَسْقَطَ صَفِيَّةَ بِنْتَ شَيْبَةَ وَجَعَلَ مَكَانَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ ابْنَ أَبِي حُسَيْنٍ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: نِسْبَةُ الْوَهْمِ إلَى ابْنِ الْمُؤَمَّلِ أَوْلَى، وَطَعَنَ فِي حِفْظِهِ مَعَ

ص: 461

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَنَّهُ اضْطَرَبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَثِيرًا، فَأَسْقَطَ عَطَاءً مَرَّةً وَابْنَ مُحَيْصِنٍ أُخْرَى، وَصْفِيَّةَ بِنْتَ شَيْبَةَ، وَأَبْدَلَ ابْنَ مُحَيْصِنٍ بِابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ عَبْدَرِيَّةً تَارَةً وَيَمَنِيَّةً أُخْرَى.

وَفِي الطَّوَافِ تَارَةً، وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أُخْرَى اهـ.

وَهَذَا لَا يَضُرُّ بِمَتْنِ الْحَدِيثِ إذْ بَعْدَ تَجْوِيزِ الْمُتْقِنِينَ لَهُ لَا يَضُرُّهُ تَخْلِيطُ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا طَرِيقُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنِي مَعْرُوفُ بْن مِشْكَانَ أَخْبَرَنِي مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُخْتِهِ صَفِيَّةَ قَالَتْ «أَخْبَرَنِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ اللَّاتِي أَدْرَكْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ دَخَلْنَا دَارَ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ فَرَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ» إلَخْ، قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا قَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِهِ إذْ مِثْلُهُ لَا يَزِيدُ عَلَى إفَادَةِ الْوُجُوبِ، وَقَدْ قُلْنَا بِهِ، أَمَّا الرُّكْنُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَإِثْبَاتُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إثْبَاتٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ مُفَادَ هَذَا الدَّلِيلِ مَاذَا؟ وَالْحَقُّ فِيهِ مَا قُلْنَا. لِأَنَّ نَفْسَ الشَّيْءِ لَيْسَ إلَّا رُكْنَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ.

فَإِذَا كَانَ ثُبُوتُ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَطْعِيًّا لَزِمَ فِي ثُبُوتِ أَرْكَانِهِ الْقَطْعُ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا هُوَ ثُبُوتُهُ، فَإِذَا فُرِضَ الْقَطْعُ بِهِ كَانَ ذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِهَا. وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا تَحَقَّقْت هَذَا فَجَوَابُ الْمُصَنِّفِ بِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى كُتِبَ اسْتِحْبَابًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} مُنَافٍ لِمَطْلُوبِهِ، فَكَيْفَ يَحْمِلُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَدِلَّةِ؟ بَلْ الْعَادَةُ التَّأْوِيلُ بِمَا يُوَافِقُ لِلْمَطْلُوبِ فَكَيْفَ وَلَا مُفِيدَ لِلْوُجُوبِ فِيمَا نَعْلَمُ سِوَاهُ؟ فَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي إثْبَاتِ الدَّعْوَى، فَإِنَّ الْآيَةَ وَهِيَ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي مُصْحَفِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا لَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَالْإِجْمَاعُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْوُجُوبِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُ بِهِ، إذْ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْفَرْضِ الْمُوجِبِ فَوَاتُهُ عَدَمَ الصِّحَّةِ فَالثَّابِتُ الْخِلَافُ، وَالْفَرِيقَانِ مُتَمَسَّكُهُمْ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ عَنْ الْوُجُوبِ مَعَ أَنَّهُ حَقِيقَتُهُ إلَى مَا لَيْسَ مَعْنَاهُ بِلَا مُوجِبٍ، بَلْ مَعَ مَا يُوجِبُ عَدَمَ الصَّرْفِ بِخِلَافِ لَفْظِ " كُتِبَ " فِي الْوَصِيَّةِ لِلصَّارِفِ هُنَاكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يُفِيدُ أَنَّ الرَّادَّ بِالسَّعْيِ الْمَكْتُوبِ الْجَرْيُ الْكَائِنُ فِي بَطْنِ الْوَادِي إذَا رَاجَعْته، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِلَا خِلَافٍ يُعْلَمُ. فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّعْيِ التَّطَوُّفُ بَيْنَهُمَا، اتَّفَقَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَهُ لَهُمْ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْجَرْيِ الشَّدِيدِ الْمَسْنُونِ لَمَّا وَصَلَ إلَى مَحَلِّهِ شَرْعًا أَعْنِي بَطْنَ الْوَادِي، وَلَا يُسَنُّ جَرْيٌ شَدِيدٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ، إنَّمَا هُوَ مَشْيٌ فِيهِ شِدَّةٌ وَتَصَلُّبٌ.

ثُمَّ قِيلَ: فِي سَبَبِ شَرْعِيَّةِ الْجَرْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي " إنَّ هَاجَرَ رضي الله عنها لَمَّا تَرَكَهَا إبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام عَطِشَتْ فَخَرَجَتْ تَطْلُبُ الْمَاءَ وَهِيَ تُلَاحِظُ إسْمَاعِيلَ عليه السلام خَوْفًا عَلَيْهِ. فَلَمَّا وَصَلَتْ إلَى بَطْنِ الْوَادِي تَغَيَّبَ عَنْهَا فَسَعَتْ لَتُسْرِعَ الصُّعُودَ فَتَنْظُرَ إلَيْهِ " فَجُعِلَ ذَلِكَ نُسُكًا إظْهَارًا لِشَرَفِهِمَا وَتَفْخِيمًا لِأَمْرِهِمَا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ الشَّيْطَانُ لَهُ عِنْدَ السَّعْيِ فَسَابَقَهُ فَسَبَقَهُ إبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

وَقِيلَ: إنَّمَا سَعَى سَيِّدُنَا وَنَبِيُّنَا عليه الصلاة والسلام إظْهَارًا لِلْمُشْرِكِينَ النَّاظِرِينَ إلَيْهِ فِي الْوَادِي الْجَلَدَ

ص: 462

قَالَ (ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا) لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ، قَالَ (وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ كُلَّمَا بَدَا لَهُ) لِأَنَّهُ

وَمَحْمَلُ هَذَا الْوَجْهِ مَا كَانَ مِنْ السَّعْيِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَهُ كَالرَّمَلِ إذْ لَمْ يَبْقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُشْرِكٌ بِمَكَّةَ. وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنْ لَا يُشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ، وَفِي نَظَائِرِهِ مِنْ الرَّمْيِ وَغَيْرِهِ بَلْ هِيَ أُمُورٌ تَوْقِيفِيَّةٌ يُحَالُ الْعِلْمُ فِيهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى

(قَوْلُهُ ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ) خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ يَفْسَخُ الْحَجَّ إذَا طَافَ لِلْقُدُومِ إلَى عُمْرَةٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: نَحْنُ نُشْهِدُ اللَّهُ أَنَّا لَوْ أَحْرَمْنَا بِحَجٍّ لَرَأَيْنَا فَرْضًا فَسَخَهُ إلَى عُمْرَةٍ تَفَادِيًا مِنْ غَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ: اجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ فَكَيْفَ نَجْعَلُهَا عُمْرَةً؟ قَالَ: اُنْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا، فَرَدُّوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ فَغَضِبَ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها غَضْبَانَ، فَرَأَتْ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَتْ: مَنْ أَغْضَبَكَ أَغْضَبَهُ اللَّهُ؟ قَالَ: وَمَا لِي لَا أَغْضَبُ وَأَنَا آمُرُ أَمْرًا فَلَا أُتَّبَعُ»

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ غَضْبَانُ فَقُلْتُ: وَمَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ؟ قَالَ: أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ»

الْحَدِيثَ. وَقَالَ سَلِمَةُ بْنُ شَبِيبٍ لِأَحْمَدَ: كُلُّ أَمْرِك عِنْدِي حَسَنٌ إلَّا خَلَّةً وَاحِدَةً قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَقُولُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ كُنْت أَرَى لَك عَقْلًا، عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَحَدَ عَشْرَ حَدِيثًا صِحَاحًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتْرُكُهَا لِقَوْلِك؟ وَلِتُورِدَ مِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ» وَفِي لَفْظٍ «وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا إحْرَامَهُمْ بِعُمْرَةٍ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَهَلَّ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ إلَى أَنْ قَالَ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً» الْحَدِيثَ. وَفِيهِ قَالُوا «نَنْطَلِقُ إلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ» يَعْنُونَ الْجِمَاعَ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَرُوحُ أَحَدُنَا إلَى مِنًى وَذَكَرُهُ يَقْطُرُ مَنِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ عَادَ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ» وَفِي لَفْظٍ «فَقَامَ فِينَا فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تُحِلُّونَ» وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «أَمَرَنَا لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا إلَى مِنًى قَالَ: فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطُحِ، فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ» .

وَفِي لَفْظٍ «أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ» وَفِي السُّنَنِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا كَانَ بِعُسْفَانَ قَالَ لَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لَنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْمَ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُمْ فِي حَجِّكُمْ عُمْرَةً، فَإِذَا قَدِمْتُمْ فَمَنْ تَطَوَّفَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى

ص: 463

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ حَلَّ إلَّا مَنْ كَانَ أَهْدَى» وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مُجَرَّدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ يُحَلِّلُ الْمُحَرَّمَ بِالْحَجِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مُعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " مَنْ جَاءَ مُهِلًّا بِالْحَجِّ فَإِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ يُصَيِّرُهُ إلَى الْعُمْرَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى، قُلْت: إنَّ النَّاسَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْك، قَالَ: هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ رَغِمُوا " وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ مِمَّنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ مِنْ مُفْرِدٍ أَوْ قَارِنٍ أَوْ مُتَمَتِّعٍ فَقَدْ حَلَّ إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا حُكْمًا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» أَيْ حُكْمًا أَيْ دَخَلَ وَقْتُ فِطْرِهِ، فَكَذَا الَّذِي طَافَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَّ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ لَيْسَ وَقْتَ إحْرَامٍ، وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدَيْنِ عَلَى مَنْعِ الْفَسْخِ. وَالْجَوَابُ: أَوَّلًا بِمُعَارَضَةِ أَحَادِيثِ الْفَسْخِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الصَّحِيحَيْنِ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَمِنَّا مِنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَأَحَلُّوا حِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ»

وَبِمَا صَحَّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ " لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يُصَيِّرَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً إنَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم " وَعَنْهُ كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ حَجَّ ثُمَّ فَسَخَهَا عُمْرَةً " لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْهُ.

وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ نَحْوَهُ. وَلِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ: كَانَتْ لَنَا لَيْسَتْ لَكُمْ ". وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت فَسْخَ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ فَقَالَ: بَلْ لَنَا خَاصَّةً» وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثٌ سُرَاقَةَ حَيْثُ قَالَ: «أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ لَهُ: لِلْأَبَدِ» لِأَنَّ الْمُرَادَ أَلِعَامِنَا فِعْلُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَمْ لِلْأَبَدِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ.

وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الْأَمْرِ بِالْفَسْخِ مَا كَانَ إلَّا تَقْدِيرًا لِشَرْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعُ سَوْقِ الْهَدْيِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَعْظَمًا عِنْدَهُمْ حَتَّى كَانُوا يُعِدُّونَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فَكَسْرُ سُورَةِ مَا اسْتَحْكَمَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إنْكَارِهَا بِحَمْلِهِمْ عَلَى فِعْلِهِ بِأَنْفُسِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ: إذَا بَرَا الدَّبَرْ وَعَفَا الْأَثَرْ وَانْسَلَخَ صَفَرْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِصَبِيحَةِ رَابِعَةٍ مُهَلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ» فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ ثَابِتًا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ: لَا يَثْبُتُ عِنْدِي، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الرَّجُلُ. كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا صَرِيحًا فِي كَوْنِ سَبَبِ الْأَمْرِ بِالْفَسْخِ هُوَ قَصْدُ مَحْوِ مَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتَقْرِيرِ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ، أَلَا تَرَى إلَى تَرْتِيبِهِ الْأَمْرَ بِالْفَسْخِ عَلَى مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِالْفَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ رضي الله عنه بَعْدَ ذَلِكَ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ إثَارَةِ السَّبَبِ إيَّاهُ كَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فَقَالَ بِهِ.

وَظَهَرَ لِغَيْرِهِ كَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مُنْقَضٍ بِانْقِضَاءِ سَبَبِهِ ذَلِكَ، وَمَشَى عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْفُقَهَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَهُوَ أَوْلَى لَوْ كَانَ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَأْيٍ لَا عَنْ نَقْلٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُسْتَمِرَّ

ص: 464

يُشْبِهُ الصَّلَاةَ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ. وَالصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَكَذَا الطَّوَافُ» إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى عَقِيبَ هَذِهِ الْأَطْوِفَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا مَرَّةً. وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَيُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ، وَهِيَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.

فِي الشَّرْعِ عَدَمُ اسْتِحْبَابِ قَطْعِ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَإِبْدَالِهَا بِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مِثْلُهَا. فَضْلًا عَمَّا هُوَ أَخَفُّ مِنْهَا، بَلْ يَسْتَمِرُّ فِيمَا شَرَعَ فِيهِ حَتَّى يُنْهِيَهُ، وَإِذَا كَانَ الْفَسْخُ يُنَافِي هَذَا مَعَ كَوْنِ الْمُثِيرِ لَهُ سَبَبًا لَمْ يَسْتَمِرَّ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِرَفْعِهِ مَعَ ارْتِفَاعِهِ.

ثُمَّ بَعْدَ هَذَا رَأَيْت التَّصْرِيحَ فِي حَدِيثِ سُرَاقَةَ بِكَوْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْعُمْرَةَ لَا الْفَسْخَ فِي كِتَابِ الْآثَارِ فِي بَابِ التَّصْدِيقِ بِالْقَدَرِ.

مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «سَأَلَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ عُمْرَتِنَا هَذِهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لِلْأَبَدِ» ، فَقَالَ: أَخْبِرْنَا عَنْ دِينِنَا هَذَا كَأَنَّمَا خُلِقْنَا لَهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ الْعَمَلُ، فِي شَيْءٍ قَدْ جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِي شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْعَمَلُ؟ قَالَ: فِي شَيْءٍ جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ، فَقَوْلُ أَحْمَدَ رحمه الله: عِنْدِي أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا إلَخْ لَا يُفِيدُ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا لَا يَزِيدُ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْفَسْخِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَغَضَبُهُ عَلَى مَنْ تَرَدَّدَ اسْتِشْفَاقٌ لِاسْتِحْكَامِ نُفْرَتِهِمْ مِنْ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي عَارَضْنَا بِهِ يُفِيدُ خِلَافَهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ شُرِعَ فِي عُمُومِ الزَّمَانِ ذَلِكَ الْفَسْخُ أَوَّلًا، وَشَيْءٌ مِنْهَا لَا يَمَسُّهُ سِوَى حَدِيثِ سُرَاقَةَ بِتِلْكَ الرَّاوِيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمُرَادَ وَبِهِ وَأَثْبَتْنَاهُ مَرْوِيًّا، وَثَبَتَ أَنَّهُ حُكْمٌ كَانَ لِقَصْدِ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ الْمُسْتَحْكِمِ فِي نُفُوسِهِمْ ضِدُّهُ.

وَكَذَا إعَادَةُ الشَّارِعِ إذَا أَوْرَدَ حُكْمًا يُسْتَعْظَمُ لِأَحْكَامِ ضِدِّهِ الْمَنْسُوخِ فِي شَرِيعَتِنَا يُرَدُّ بِأَقْصَى الْمُبَالَغَاتِ لِيُفِيدَ اسْتِئْصَالَ ذَلِكَ التَّمَكُّنِ الْمَرْفُوضِ كَمَا فِي الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ لِمَا كَانَ الْمُتَمَكِّنُ عِنْدَ هُمْ مُخَالَطَتَهَا. وَعَدَّهَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، حَتَّى انْتَهَوْا فَنُسِخَ، فَكَذَا هَذَا لِمَا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عِنْدَ هُمْ وَانْقَشَعَ غَمَامُ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ مَنْعِهِ.

رَجَعَ الْفَسْخُ وَصَارَ الثَّابِتُ مُجَرَّدَ جَوَازٍ لِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ (قَوْلُهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ») إلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقُ إلَّا بِخَيْرٍ، هَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، أَمَّا الْمَرْفُوعُ فَمِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَمِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ طَاوُسٍ مَرْفُوعًا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ.

وَمِنْ رِوَايَةِ الْبَاغَنْدِيِّ يَبْلُغُ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: وَلَمْ يَصْنَعْ الْبَاغَنْدِيُّ شَيْئًا فِي رَفْعِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ مَوْقُوفًا وَبِهَذَا عُرِفَ وَقْفُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَطَاء بْنَ السَّائِبِ مِنْ الثِّقَاتِ غَيْرَ أَنَّهُ اخْتَلَطَ، فَمَنْ رَوَى عَنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ فَحَدِيثُهُ حُجَّةٌ، قِيلَ: وَجَمِيعُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ رَوَى بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ إلَّا شُعْبَةَ وَسُفْيَانُ. وَهَذَا مِنْ حَدِيث سُفْيَانَ عَنْهُ.

وَأَيْضًا فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى رَفْعِهِ مَنْ سَمِعْت فَيَقْوَى ظَنُّ رَفْعِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْهُ. وَأَسْنَدَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما لَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 465

قَالَ (فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ الْإِمَامُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْخُرُوجَ إلَى مِنًى وَالصَّلَاةَ بِعَرَفَاتٍ وَالْوُقُوفَ وَالْإِضَافَةِ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ: أَوَّلُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِيَةُ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالثَّالِثَةُ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ، فَيُفْصَلُ بَيْنَ كُلِّ خُطْبَتَيْنِ بِيَوْمٍ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَخْطُبُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ أَوَّلُهَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ الْمَوْسِمِ وَمُجْتَمَعُ الْحَاجِّ. وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّعْلِيمُ. وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ النَّحْرَ يَوْمَا اشْتِغَالٍ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْفَعَ وَفِي الْقُلُوبِ أَنْجَعُ

(فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ خَرَجَ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا حَتَّى

قَالَ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلَامَ» وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا

(قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ) وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ هُوَ الثَّامِنُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْوُونَ إبِلَهُمْ فِيهِ اسْتِعْدَادًا لِلْوُقُوفِ يَوْمَ عَرَفَةَ. وَقِيلَ: لِأَنَّ رُؤْيَا إبْرَاهِيمَ كَانَتْ فِي لَيْلَتِهِ فَتَرَوَّى فِيهِ فِي أَنَّ مَا رَآهُ مِنْ اللَّهِ أَوْ لَا، مِنْ الرَّأْيِ وَهُوَ مَهْمُوزٌ ذَكَرَهُ فِي طِلْبَةِ الطَّلَبَةِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّ الْإِمَامَ يَرْوِي لِلنَّاسِ مَنَاسِكَهُمْ مِنْ الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ بِلَا جُلُوسٍ، وَكَذَا خُطْبَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ: وَأَمَّا خُطْبَةُ عَرَفَةَ فَيَجْلِسُ بَيْنَهُمَا وَهِيَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْخُطْبَتَانِ الْأُولَيَانِ بَعْدَهُ (قَوْلُهُ أَوَّلُهَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) قُلْنَا خِلَافَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ «خَطَبَ فِي السَّابِعِ وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَيْهِمْ سُورَةَ بَرَاءَةٌ» .

رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، وَلِأَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ أَيَّامُ اشْتِغَالٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى فَيَكُونُ دَاعِيَةَ تَرْكِهِمْ الْحُضُورَ فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْخُطَبِ (فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْفَعَ وَفِي الْقُلُوبِ أَنْجَعَ) أَيْ أَبْلَغَ

(قَوْلُهُ فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ خَرَجَ إلَى مِنًى) ظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ إعْقَابُ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِالْخُرُوجِ إلَى مِنًى وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَخَصُّ مِنْ الدَّعْوَى لِيُفِيدَ أَنَّ مَضْمُونَهُ هُوَ السُّنَّةُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْمَبْسُوطِ خُصُوصَ وَقْتِ الْخُرُوجِ، وَاسْتَحَبَّ فِي الْمُحِيطِ كَوْنَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَقَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه " أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ " وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَ الْأَوَّلِ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَوَجَّهَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ» فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي التَّخَاطُبِ لِمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ

ص: 466

يُصَلِّيَ الْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ» (وَلَوْ بَاتَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ ثُمَّ غَدَا إلَى عَرَفَاتٍ وَمَرَّ بِمِنًى أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمِنًى فِي هَذِهِ الْيَوْمِ إقَامَةُ نُسُكٍ، وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ

جِئْتُك قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَلَا لِمَا قَبْلَ الْأَذَانِ وَدُخُولِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ إذْ ذَاكَ قَبْلَ الظُّهْرِ أَوْ أَذَانَ الظُّهْرِ، فَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ عُرْفًا لِمَا بَعْدَ الْوَقْتِ قَبْلَ الصَّلَاةِ.

لَكِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه صَرِيحٌ فَيُقْضَى بِهِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ.

وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، هَذَا وَلَا يَتْرَكُ التَّلْبِيَةَ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا حَالَ إقَامَتِهِ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ وَخَارِجِهِ إلَّا حَالَ كَوْنِهِ فِي الطَّوَافِ، وَيُلَبِّي عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى مِنًى، وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إيَّاكَ أَرْجُو وَإِيَّاكَ أَدْعُو وَإِلَيْك أَرْغَبُ، اللَّهُمَّ بَلِّغْنِي صَالِحَ عَمَلِي وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي، فَإِذَا دَخَلَ مِنًى قَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا مِنًى وَهَذَا مَا دَلَلْتنَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَنَاسِكِ، فَمُنَّ عَلَيْنَا بِجَوَامِعِ الْخَيْرَاتِ وَبِمَا مَنَنْت بِهِ عَلَى إبْرَاهِيمَ خَلِيلِك وَمُحَمَّدٍ حَبِيبِك وَبِمَا مَنَنْت بِهِ عَلَى أَهْلِ طَاعَتِك، فَإِنِّي عَبْدُك وَنَاصِيَتِي بِيَدِك جِئْت طَالِبًا مَرْضَاتِك، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَ مَسْجِدٍ عِنْدَ الْخَيْفِ.

(قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ إلَخْ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ قَالَ «لَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ» الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله لِهَذَا الْحَدِيثِ يُفِيدُ أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُ الذَّهَابُ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْإِيضَاحِ. وَعَنْ ذَلِكَ حُمِلَ فِي النِّهَايَةِ مَرْجِعُ ضَمِيرِ قَبْلَهُ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.

ثُمَّ اعْتَرَضَهُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ تَبِعَ صَاحِبَ الْإِيضَاحِ لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مَذْكُورٌ فِي الْإِيضَاحِ مُتَقَدِّمًا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ مُتَّصِلٌ فِي الْمَتْنِ بِقَوْلِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، إمَّا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَوْقِيتِ وَقْتِ الْخُرُوجِ إلَى مِنًى أَوْ تَوْقِيتُهُ بِمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّرْكِيبِ الشَّرْطِيِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ شَرْحًا، فَمَرْجِعُ ضَمِيرٍ قَبْلَهُ أَلْبَتَّةَ صَلَاةُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَخَذَ فِي بَيَانِ حُكْمِ هَذَا الْجَوَازِ وَالْجَوَازُ مُتَحَقِّقٌ فِي التَّوَجُّهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ قَبْلَ الشَّمْسِ.

وَالْإِسَاءَةُ لَازِمَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إلْزَامِهِ أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ اعْتِرَاضُهُ، وَقَدْ اُسْتُفِيدَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا قُلْنَا أَنَّ السُّنَّةَ الذَّهَابُ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَيْضًا، وَيَقُولُ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ: اللَّهُمَّ إلَيْك تَوَجَّهْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَوَجْهَك أَرَدْت، فَاجْعَلْ ذَنْبِي مَغْفُورًا وَحَجِّي مَبْرُورًا وَارْحَمْنِي وَلَا تُخَيِّبْنِي، وَاقْضِ بِعَرَفَاتٍ حَاجَتِي إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيُلَبِّي وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حِينَ أُنْكِرَ عَلَيْهِ التَّلْبِيَةُ:" أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ نَسُوا؟ وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَقَدْ خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا أَنْ يَخْلِطَهَا بِتَكْبِيرٍ أَوْ تَهْلِيلٍ " رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسِيرَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ وَيَعُودَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الْعِيدِ إذَا ذَهَبَ إلَى الْمُصَلَّى، فَإِذَا قَرُبَ مِنْ

ص: 467

بِتَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ فَيُقِيمُ بِهَا) لَا رَوَيْنَا، وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ. أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ حُكْمٌ. قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ تَجَبُّرٌ وَالْحَالُ حَالُ تَضَرُّعٍ وَالْإِجَابَةُ فِي الْجَمْعِ أَرْجَى. وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ.

قَالَ (وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فَيَبْتَدِئُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ وَالنَّحْرَ وَالْحَلْقَ وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ

عَرَفَاتٍ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى جَبَلِ الرَّحْمَةِ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يُلَبِّي إلَى أَنْ يَدْخُلَ عَرَفَاتٍ

(قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ) أَيْ الِانْفِرَادَ عَنْهُمْ (نَوْعُ تَجَبُّرٍ وَالْحَالُ حَالُ تَضَرُّعٍ) وَمَسْكَنَةٍ (وَالْإِجَابَةُ فِي الْجَمْعِ أَرْجَى) وَلِأَنَّهُ يَأْمَنُ بِذَلِكَ مِنْ اللُّصُوصِ (وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ) وَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْزِلَ الْإِمَامُ بِنَمِرَةَ، وَنُزُولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَا لَا نِزَاعَ فِيهِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ) ظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ الشَّرْطِيِّ إعْقَابُ الزَّوَالِ بِالِاشْتِغَالِ بِمُقَدَّمَاتِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي أَبِي دَاوُد وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ «غَدَا عليه الصلاة والسلام مِنْ مِنًى حِينَ طَلَعَ الصُّبْحُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَنَزَلَ بِنَمِرَةَ وَهُوَ مَنْزِلُ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ بِعَرَفَةَ، حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَاحَ عليه الصلاة والسلام مُهَجِّرًا فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ» الْحَدِيثَ، وَظَاهِرُهُ تَأْخِيرُ الْخُطْبَةِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما جَاءَ إلَى الْحَجَّاجِ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ وَأَنَا مَعَهُ فَقَالَ: الرَّوَاحُ إنْ كُنْت تُرِيدُ السُّنَّةَ فَقَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ سَالِمٌ: فَقُلْت لِلْحَجَّاجِ: إنْ كُنْت تُرِيدُ السُّنَّةَ فَأَقْصِرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الصَّلَاةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: صَدَقَ.

ص: 468

يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ) هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهَا خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ فَأَشْبَهَ خُطْبَةَ الْعِيدِ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْلِيمُ الْمَنَاسِكِ وَالْجَمْعِ مِنْهَا. وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ: إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا خَرَجَ وَاسْتَوَى عَلَى نَاقَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْجُمُعَةَ. قَالَ (وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ) وَقَدْ

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (قَوْلُهُ فَيَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمَا كَالْجُمُعَةِ) ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَلَا يَحْضُرُنِي حَدِيثٌ فِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى خُطْبَتَيْنِ كَالْجُمُعَةِ، بَلْ مَا أَفَادَ أَنَّهُ خَطَبَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ الْمُسْتَدْرَكِ، وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما يُفِيدُ أَنَّهُمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَقَالَ فِيهِ " فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ رَاحَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَوْقِفِ مِنْ عَرَفَةَ " وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ.

قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ وَالْمُسْلِمُونَ، أَعَلَّ هُوَ وَابْنُ الْقَطَّانِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه بِابْنِ إِسْحَاقَ.

نَعَمْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى عَنْ جَابِرٍ قَالَ «رَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، فَفَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ وَبِلَالٌ مِنْ الْأَذَانِ، ثُمَّ أَقَامَ بِلَالٌ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَاوَقَ الْأَذَانَ بِخُطْبَتِهِ فَكَأَنَّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَتْ قَصِيرَةً جِدًّا كَتَسْبِيحَةٍ وَتَهْلِيلَةٍ

ص: 469

وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ بِاتِّفَاقٍ الرُّوَاةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَفِيمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ» ، ثُمَّ بَيَانُهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَيُقِيمُ لِلظُّهْرِ ثُمَّ يُقِيمُ لِلْعَصْرِ لِأَنَّ الْعَصْرَ يُؤَدَّى قَبْلَ وَقْتِهِ الْمَعْهُودِ فَيُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا لِلنَّاسِ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوُقُوفِ وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مَكْرُوهًا وَأَعَادَ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّطَوُّعِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فَيُعِيدُهُ لِلْعَصْرِ (فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ.

قَالَ (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي رَحْلِهِ وَحْدَهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَالَا: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمُنْفَرِدُ لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ وَالْمُنْفَرِدِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ

وَتَحْمِيدَةٍ بِحَيْثُ كَانَتْ قَدْرَ الْأَذَانِ، وَلَا يُعَدُّ فِي تَسْمِيَةِ مِثْلِهِ خُطْبَةً، وَالْخُطْبَةُ الْأُولَى الثَّنَاءُ كَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْوَعْظِ، ثُمَّ تَعْلِيمُ الْمَنَاسِكِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ.

ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ جَلَسَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، فَإِذَا فَرَغَ أَقَامَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: يُؤَذِّنُ وَالْإِمَامُ فِي الْفُسْطَاطِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَخْطُبُ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ.

وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الْأَذَانِ، فَإِذَا مَضَى صَدْرُ خُطْبَتِهِ أَذَّنُوا ثُمَّ يُتِمُّ الْخُطْبَةَ بَعْدَهُ، فَإِذَا فَرَغَ أَقَامُوا، وَهَذَا عَلَى مُسَاوَقَةِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعَهُمْ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ ذَكَرَ فِيهِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى الْقَصْوَاءِ، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ» .

وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَنْ يُحْمَلَ أَذَانُ بِلَالٍ ذَلِكَ عَلَى الْإِقَامَةِ، فَيَكُونَ عليه الصلاة والسلام سَاوَقَ الْإِقَامَةَ بِخُطْبَةٍ ثَانِيَةٍ خَفِيفَةٍ قَدْرَ الْإِقَامَةِ تَمْجِيدًا وَتَسْبِيحًا.

وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا» وَعَنْهُ قُلْنَا لَا يُتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ مِنْ أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالنَّافِلَةِ غَيْرَ سُنَّةِ الظُّهْرِ يُنَافِي حَدِيثَ جَابِرٍ الطَّوِيلَ، إذْ قَالَ «فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا» وَكَذَا يُنَافِي إطْلَاقَ الْمَشَايِخِ رضي الله عنهم فِي قَوْلِهِمْ " وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَهُمَا " فَإِنَّ التَّطَوُّعَ يُقَالُ عَلَى السُّنَّةِ (قَوْلُهُ خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله) وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ قَدْ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ فَيَكْفِيهِمَا أَذَانٌ وَاحِدٌ

ص: 470

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ فَرْضٌ بِالنُّصُوصِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّقْدِيمُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ لِلْعَصْرِ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَوْقِفِ لَا لِمَا

قُلْنَا: الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ فَرْضٍ بِأَذَانٍ تُرِكَ فِيمَا إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَعُودُ الْأَصْلُ

(قَوْلُهُ فُرِضَ بِالنُّصُوصِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَيْ فَرْضًا مُوَقَّتًا وَفِي حَدِيثِ «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ» (قَوْلُهُ وَالتَّقْدِيمُ إلَخْ) لَا حَاجَةَ إلَى تَعْلِيلِ الْجَمْعِ الْوَارِدِ بِأَنَّهُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ إبْطَالًا لِتَعْلِيلِهِمَا، بَلْ يَكْفِي فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ارْتِكَابُهُ فِي غَيْرِ مَوْرِدٍ مِنْ حَالَةِ الِانْفِرَادِ بَيَانُ ثُبُوتِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ إنَّهُ يَتَرَاءَى أَنَّ مَا أَبْدَاهُ سَبَبًا لِلْجَمْعِ مُنَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا: أَيْ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْوُقُوفِ قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا قَوْلِهِ ثُمَّ مَا عَيَّنَهُ أَوْلَى لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ: أَيْ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ حَالَ كَوْنِهِ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَالَ كَوْنِهِ

ص: 471

ذَكَرَاهُ إذْ لَا مُنَافَاةَ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: الْإِمَامُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: فِي الْعَصْرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الْمُغَيَّرُ عَنْ وَقْتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عُرِفَ شَرْعُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ مُؤَدًّى بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رِوَايَةٍ تَقْدِيمًا لِلْإِحْرَامِ عَلَى وَقْتِ الْجَمْعِ،

مُصَلِّيًا.

وَإِنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ الْمُتَوَجِّهَ فِيهِ إلَى الدُّعَاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ فَضِيلَةٌ وَامْتِدَادُهُ وَعَدَمُ تَفْرِيقِهِ. قُلْنَا تَفْرِيقُهُ بِالنَّوْمِ وَالْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ، وَعَدَمُ خُرُوجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا فَرْضٌ، فَإِذَا ثَبَتَ بِلَا مَرَدِّ إخْرَاجِهَا فِي صُورَةٍ فَالْحُكْمُ بِأَنَّهُ لِتَحْصِيلِ وَاجِبٍ أَوْ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةٍ، وَلِذَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِهِ مَعَ الِانْفِرَادِ فِيهِ اخْتِلَافٌ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَنْعُهُ (قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ) الْحَاصِلُ أَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ مَشْرُوطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَهُمَا فِي الْعَصْرِ فَقَطْ، وَبِالْجَمَاعَةِ فِيهِمَا عِنْدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله أَيْضًا غَيْرَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُهُمَا فِي الْعَصْرِ لَيْسَ غَيْرُ (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) تَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَصْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَالتَّبَعِ لِلظُّهْرِ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ أُدِّيَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَالثَّانِيَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى فَكَانَا كَالْعِشَاءِ مَعَ الْوِتْرِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ صَلَاتَانِ وَاجِبَتَانِ. قَالَ: وَلَمَّا جَعَلَ الْإِمَامُ شَرْطًا فِي التَّبَعِ كَانَ شَرْطًا فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَدَلِيلُ التَّبَعِيَّةِ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَصْرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الظُّهْرِ، حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ لِغَيْمٍ أَنَّهُمْ صَلُّوا الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْعَصْرَ بَعْدَهُ لَزِمَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ جَدَّدَ الْوُضُوءَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الظُّهْرَ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ، بِخِلَافِ الْوِتْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا يُعِيدُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوِتْرَ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتِهِ بِخِلَافِ الْعَصْرِ، وَلَمَّا كَانَ فِي لُزُومِ الْأَوْلَوِيَّةِ خَفَاءٌ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ

ص: 472

وَفِي أُخْرَى يَكْتَفِي بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّلَاةُ

قَالَ (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى الْمَوْقِفِ فَيَقِفُ بِقُرْبِ الْجَبَلِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَالْجَبَلُ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ، وَالْمَوْقِفَ الْأَعْظَمَ.

قَالَ (وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ وَادِي مُحَسِّرٍ» . قَالَ (وَيَنْبَغِي

قَوْلُهُ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ) ظَرْفٌ لِيَتَوَجَّهَ (لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ) هُوَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْوُقُوفِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَيَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ. فَالْوُقُوفُ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ عَدَمٌ، وَالرُّكْنُ سَاعَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْوَاجِبُ إنْ وَقَفَ نَهَارًا يَمُدُّهُ إلَى الْغُرُوبِ أَوْ لَيْلًا فَلَا وَاجِبَ فِيهِ.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ») رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ إلَّا مَا وَرَاءَ الْعَقَبَةِ» وَفِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ مَتْرُوكٌ. وَمِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَفِيهِ «وَكُلُّ فِجَاجِ مِنًى مَنْحَرٌ وَلَمْ يَسْتَثْنِ، وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الْأَشْدَقِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، فَإِنَّ ابْنَ الْأَشْدَقِ لَمْ يَدْرِك جُبَيْرًا.

وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَدْخَلَ فِيهِ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَجُبَيْرٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي حُسَيْنٍ، وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، لَكِنْ قَالَ الْبَزَّارُ: ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ لَمْ يَلْقَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ، لِأَنَّا لَا نَحْفَظُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي كُلِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ إلَّا فِيهِ فَذَكَرْنَاهُ، وَبَيَّنَّا الْعِلَّةَ فِيهِ اهـ.

وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ» اهـ. وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ بِلَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ الْمُضَعَّفُ.

وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا نَحْوُهُ سَوَاءٌ

ص: 473

لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ (وَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَدَمَيْهِ جَازَ) وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا بَيَّنَّا (وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ كَذَلِكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ الْمَوَاقِفِ مَا اسْتَقْبَلْتَ بِهِ الْقِبْلَةَ» (وَيَدْعُو وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَنَاسِكَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَدْعُو يَوْمَ عَرَفَةَ مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ» وَإِنْ وَرَدَ الْآثَارُ بِبَعْضِ الدَّعَوَاتِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا تَفْصِيلَهَا فِي كِتَابِنَا الْمُتَرْجَمُ بِ (عِدَّةِ النَّاسِكِ فِي عِدَّةٍ مِنْ الْمَنَاسِكِ) بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَعَلَّهُ بِيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَثَبَتَ بِهَذَا كُلِّهِ ثُبُوتُ هَذَا الْحَدِيثِ وَعَدَمُ ثُبُوتِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ: أَعْنِي " كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ " لِلِانْفِرَادِ بِهَا مَعَ الِانْقِطَاعِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا سِوَاهَا سِوَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ) هُوَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فَارْجِعْ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَقَالَ عليه الصلاة والسلام إلَخْ) رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ ابْن شِهَابٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ وَأَمَّا خَيْرُ الْمَوَاقِفِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِهِ» .

وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْأَدَبِ حَدِيثًا طَوِيلًا وَسَكَتَ عَنْهُ أَوَّلُهُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَرَفًا، وَإِنَّ شَرَفَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ» وَأُعِلَّ بِهِشَامِ بْنِ زِيَادٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ «أَكْرَمُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ» وَهُوَ مَعْلُولٌ بِحَمْزَةَ النَّصِيبِيِّ وَنُسِبَ لِلْوَضْعِ (قَوْلُهُ وَيَدْعُو) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ «كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وَقِيلَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ: هَذَا ثَنَاءٌ فَلِمَ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُعَاءً؟ فَقَالَ: الثَّنَاءُ عَلَى الْكَرِيمِ دُعَاءٌ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ حَاجَتَهُ.

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَقِفُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَوْقِفِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ مِائَةَ مَرَّةٍ، إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا مَلَائِكَتِي إنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَشَفَّعْتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا لَشَفَّعْتُهُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ مَتْنٌ غَرِيبٌ فِي إسْنَادِهِ مَنْ اُتُّهِمَ بِالْوَضْعِ.

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: اجْلِسْ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَلِمَاتٌ أَسْأَلُ عَنْهُنَّ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: سَبَقَكَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إنَّهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ وَإِنَّ لِلْغَرِيبِ حَقًّا فَابْدَأْ بِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَى الثَّقَفِيِّ وَسَاقَ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ: إنْ شِئْتَ

ص: 474

قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَقِفُوا بِقُرْبِ الْإِمَامِ) لِأَنَّهُ يَدْعُو وَيُعَلِّمُ فَيَعُوا وَيَسْمَعُوا (وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ) لِيَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَهَذَا بَيَانُ الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ عَرَفَاتٍ كُلَّهَا مَوْقِفٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.

قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَيَجْتَهِدَ فِي الدُّعَاءِ) أَمَّا الِاغْتِسَالُ فَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَوْ اكْتَفَى بِالْوُضُوءِ جَازَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ. وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ (وَيُلَبِّي فِي مَوْقِفِهِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ) وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَرْكَانِ.

أَخْبَرْتُكَ عَمَّا جِئْتَ تَسْأَلُنِي، وَإِنْ شِئْتَ تَسْأَلُنِي فَأُخْبِرُكَ، فَقَالَ: لَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَمَّا جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ: جِئْت تَسْأَلُ عَنْ الْحَاجِّ مَا لَهُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّمَاءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ، وَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا قَضَى آخِرَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «كَانَ فُلَانٌ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَجَعَلَ الْفَتَى يُلَاحِظُ النِّسَاءَ وَيَنْظُرُ إلَيْهِنَّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ابْنَ أَخِي إنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ» .

وَمِنْ مَأْثُورَاتِ الْأَدْعِيَةِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا. اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ وَسَاوِسِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ. اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي اللَّيْلِ وَشَرِّ مَا يَلِجُ فِي النَّهَارِ وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ وَشَرِّ بَوَائِقِ الدَّهْرِ.

اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ تَحَوُّلِ عَافِيَتِك وَفُجْأَةِ نِقْمَتِك وَجَمِيعِ سَخَطِك، وَأَعْطِنِي فِي هَذِهِ الْعَشِيَّةِ أَفْضَلَ مَا تُؤْتِي أَحَدًا مِنْ خَلْقِك، وَكُلُّ حَاجَةٍ فِي نَفْسِهِ يَسْأَلُهَا فَإِنَّهُ يَوْمُ إفَاضَةِ الْخَيْرَاتِ مِنْ الْجَوَادِ الْعَظِيمِ. وَحَدِيثُ «كَانَ عليه الصلاة والسلام يَدْعُو مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الْفَضْلِ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام وَاقِفًا بِعَرَفَةَ مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا» وَأُعِلَّ بِحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَعِينٍ.

قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هُوَ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ وَهُوَ مِمَّنْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا جَاوَزَ الْمِقْدَارَ.

وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «رَأَيْتُهُ عليه الصلاة والسلام يَدْعُو بِعَرَفَةَ يَدَاهُ إلَى صَدْرِهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ»

(قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَقِفُوا بِقُرْبِ الْإِمَامِ) وَكُلَّمَا كَانَ إلَى الْإِمَامِ أَقْرَبَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَغُسْلُ عَرَفَةَ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْغُسْلِ

(قَوْلُهُ «فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ») رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسٍ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَأُجِيبَ: إنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ إنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ

ص: 475

وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى أَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِيهِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ

الْجَنَّةَ وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ فَأُجِيبَ إلَى مَا سَأَلَ، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ لِتَضْحَكَ فِيهَا فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ، أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ؟ قَالَ: إنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ اسْتَجَابَ دُعَائِي وَغَفَرَ لِأُمَّتِي أَخَذَ التُّرَابَ فَجَعَلَ يَحْثُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْت مِنْ جَزَعِهِ» وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَأَعَلَّهُ بِكِنَانَةَ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ: كِنَانَةُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا، فَلَا أَدْرِي التَّخْلِيطَ فِي حَدِيثِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ أَبِيهِ، وَمِنْ أَيِّهِمَا كَانَ فَهُوَ سَاقِطُ الِاحْتِجَاجِ وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَا أَتَى مِنْ الْمَنَاكِيرِ عَنْ الْمَشَاهِيرِ.

وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَفِيهِ «فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ الْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ» الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الشُّعَبِ، فَإِنْ صَحَّ بِشَوَاهِدِهِ فَفِيهِ الْحُجَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَظُلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا دُونَ الشِّرْكِ اهـ.

قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ «وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ وَقَدْ كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَئُوبَ فَقَالَ: يَا بِلَالُ أَنْصِتْ النَّاسَ، فَقَامَ بِلَالٌ رضي الله عنه فَقَالَ: أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَصَتَ النَّاسُ فَقَالَ: مَعَاشِرَ النَّاسِ أَتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلَامَ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبَعَاتِ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَنَا خَاصَّةً؟ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَثُرَ خَيْرُ رَبِّنَا وَطَابَ» .

وَفِي كِتَابِ الْآثَارِ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي رَهْطٍ نُرِيدُ مَكَّةَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالرَّبَذَةِ رُفِعَ لَنَا خِبَاءٌ فَإِذَا فِيهِ أَبُو ذَرٍّ فَأَتَيْنَا فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَرَفَعَ جَانِبَ الْخِبَاءِ فَرَدَّ السَّلَامَ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ الْقَوْمُ؟ فَقُلْنَا: مِنْ الْفَجِّ الْعَمِيقِ، قَالَ: فَأَيْنَ تَؤُمُّونَ؟ قُلْنَا: الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، قَالَ: آللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا أَشْخَصَكُمْ غَيْرُ الْحَجِّ؟ فَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا مِرَارًا، فَحَلَفْنَا لَهُ فَقَالَ: انْطَلَقُوا إلَى نُسُكِكُمْ ثُمَّ اسْتَقْبِلُوا الْعَمَلَ.

وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتُجَاوِزُ اللَّهِ عز وجل عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ» (قَوْلُهُ وَلَنَا مَا رُوِيَ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ فَزَادَ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ «فَلَمَّا رَمَاهَا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ» وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقْطَعَ إلَّا عِنْدَ الْحَلْقِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَاقٍ قَبْلَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: فَيَأْتِي بِهَا إلَى آخِرِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْإِحْرَامِ فَإِنَّهَا كَالتَّكْبِيرِ وَآخِرُهُ مَعَ الْقَعْدَةِ لِأَنَّهَا آخِرُ الْأَحْوَالِ

ص: 476

فَيَأْتِي بِهَا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ.

قَالَ (فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هَيِّنَتِهِمْ حَتَّى يَأْتُوا الْمُزْدَلِفَةَ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام يَمْشِي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى هَيِّنَتِهِ، فَإِنْ خَافَ الزِّحَامَ فَدَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِضْ مِنْ عَرَفَةَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ فِي مَقَامِهِ كَيْ لَا يَكُونَ آخِذًا فِي الْأَدَاءِ قَبْلَ وَقْتِهَا

قَوْلُهُ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هِينَتِهِمْ) أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَفَاضَ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ خَلْفَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ عَلَى هِينَتِهِ وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ إلَيْهِمْ وَيَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، ثُمَّ أَتَى جَمْعًا فَصَلَّى بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى قُزَحَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ «فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، إلَى أَنْ قَالَ: وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لِيُصِيبَ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ إلَى مِنًى: أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، كُلَّمَا أَتَى جَبَلًا أَرْخَى لَهَا حَتَّى تَصْعَدَ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنهما «وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَغَدَاةَ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ أَفَاضَ: عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، وَهُوَ كَافٌّ نَاقَتَهُ حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا وَهُوَ مِنْ مِنًى فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ» فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» وَفُسِّرَ بِأَنَّ الْعَنَقَ خُطًا فَسِيحَةٌ مَحْمُولٌ عَلَى خُطَا النَّاقَةِ، لِأَنَّهَا فَسِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُثْقَلَةً جِدًّا.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارُ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ) فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ قَبْلَ الْغُرُوبِ عَلَى مَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ عَلَى رُءُوسِهَا وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مُنْهَبِطَةً» وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ صَحَّ بِهَذَا سَمَاعُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا كَمَا يَتَوَهَّمُ رِعَاعُ أَصْحَابِنَا أَنَّ لَهُ رُؤْيَةً بِلَا سَمَاعٍ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ خَافَ الزِّحَامَ فَدَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ) أَيْ قَبْلَ الْغُرُوبِ (وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ) قُيِّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ جَاوَزَهَا قَبْلَ الْإِمَامِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَجَبَ

ص: 477

وَلَوْ مَكَثَ قَلِيلًا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِفَاضَةِ الْإِمَامِ لِخَوْفِ الزِّحَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ دَعَتْ بِشَرَابٍ فَأَفْطَرَتْ ثُمَّ أَفَاضَتْ.

قَالَ (وَإِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُقَيَّدَةُ يُقَالُ لَهُ قُزَحَ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ عِنْدَ هَذَا الْجَبَلِ، وَكَذَا عُمَرُ رضي الله عنها، وَيَتَحَرَّزُ فِي النُّزُولِ عَنْ الطَّرِيقِ كَيْ لَا يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ فَيَنْزِلُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. قَالَ (وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ. وَلَنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» وَلِأَنَّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهِ فَلَا يُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا، بِخِلَافِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ فَأَفْرَدَ بِهَا لِزِيَادَةِ الْإِعْلَامِ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْجَمْعِ، وَلَوْ تَطَوَّعَ أَوْ تَشَاغَلَ بِشَيْءٍ أَعَادَ الْإِقَامَةَ

عَلَيْهِ دَمٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ بِأَنْ نَدَّ بَعِيرُهُ فَتَبِعَهُ، إنْ جَاوَزَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَاوَزَ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ أَصْلًا أَوْ عَادَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ فَدَفَعَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْغُرُوبِ سَقَطَ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ تَدَارَكَهُ فِي وَقْتِهِ.

وَجْهُ مُقَابِلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ مَدُّ الْوُقُوفِ إلَى الْغُرُوبِ وَقَدْ فَاتَ وَلَمْ يُتَدَارَكْ فَيَتَقَرَّرُ مُوجِبُهُ وَهُوَ الدَّمُ. قُلْنَا: وُجُوبُ الْمَدِّ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ بَلْ الْوَاجِبُ مَقْصُودُ النَّفْرِ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَوُجُوبُ الْمَدِّ لِيَقَعَ النَّفْرُ كَذَلِكَ فَهُوَ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ وُجِدَ الْمَقْصُودُ فَسَقَطَ مَا وَجَبَ لَهُ كَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ. وَغَايَةُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنْ يُهْدِرَ مَا وَقَفَهُ قَبْلَ دَفْعِهِ فِي حَقِّ الرُّكْنِ، وَيَعْتَبِرَ عَوْدَهُ الْكَائِنَ فِي الْوَقْتِ ابْتِدَاءَ وُقُوفِهِ، أَلَيْسَ بِذَلِكَ يَحْصُلُ الرُّكْنُ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ دَمٍ.

وَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِمَامُ عَنْ الْغُرُوبِ دَفَعَ النَّاسُ قَبْلَهُ لِدُخُولِ وَقْتِهِ، وَيُكْثِرُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالذِّكْرِ مِنْ حِينِ يُفِيضُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَدْعُو بِشَرَابٍ فَتُفْطِرُ ثُمَّ تُفِيضُ، فَحَمَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ فِعْلَهَا كَانَ لِقَصْدِ التَّأْخِيرِ لِخِفَّةِ الزِّحَامِ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ لِلِاحْتِيَاطِ فِي تَمَكُّنِ الْوَقْتِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ لِمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ سُوءَ خُلُقِهِ.

وَقُزَحُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعَدْلِ مِنْ قَازِحٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَزَحَ الشَّيْءَ إذَا ارْتَفَعَ، وَهُوَ جَبَلٌ صَغِيرٌ فِي آخِرِ الْمُزْدَلِفَةِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ الْمُزْدَلِفَةَ مَاشِيًا وَالْغُسْلُ لِدُخُولِهَا

(قَوْلُهُ وَلَنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا» وَهُوَ مَتْنٌ غَرِيبٌ، وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ» وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَيْضًا قَالَ: «جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا

ص: 478

لِوُقُوعِ الْفَصْلِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ الْأَذَانَ كَمَا فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ بِعَرَفَةَ، إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِإِعَادَةِ الْإِقَامَةِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ» . وَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ لِهَذَا الْجَمْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْعَصْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ.

قَالَ (وَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يُجْزِيه وَقَدْ أَسَاءَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا صَلَّى بِعَرَفَاتٍ

بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلَا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ «أَفَضْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَلَمَّا بَلَغْنَا جَمْعًا صَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَكَذَا صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَكَانِ» وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ حَفْصٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» .

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَقْبَلْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ عَرَفَاتٍ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ، فَلَمْ يَكُنْ يَفْتُرُ عَنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ حَتَّى أَتَيْنَا مُزْدَلِفَةَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، أَوْ أَمَرَ إنْسَانًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عِلَاجُ بْنُ عَمْرٍو بِمِثْلِ حَدِيثِ أُبَيٍّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا، فَقَدْ عَلِمْت مَا فِي هَذَا مِنْ التَّعَارُضِ، فَإِنْ لَمْ يُرَجَّحْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحِيحَانِ عَلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ صَحِيحُ مُسْلِمٍ وَأَبُو دَاوُد حَتَّى تَسَاقَطَا كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْإِقَامَةِ بِتَعَدُّدِ الصَّلَاةِ كَمَا فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ هُنَا وَقْتِيَّةٌ، فَإِذَا أُقِيمَ لَلْأُولَى الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمَعْهُودِ كَانَتْ الْحَاضِرَةُ أَوْلَى أَنْ يُقَامَ لَهَا بَعْدَهَا.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ قَبْلَ حَطِّ رَحْلِهِ بَلْ يُنِيخُ جِمَالَهُ وَيَعْقِلُهَا، وَهَذِهِ لَيْلَةٌ جَمَعَتْ شَرَفَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَهَدَ فِي إحْيَائِهَا بِالصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّضَرُّعِ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إلَخْ) لَا أَصْلَ لِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

بَلْ هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وَلَفْظُهُ قَالَ:«فَلَمَّا أَتَى جَمْعًا أَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ» . وَكَيْفَ يَسُوغُ لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَعْتَبِرَ هَذَا حَدِيثًا حُجَّةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِصُدُورِ تَعَدُّدِ الْإِقَامَةِ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ، وَالْمُصَنِّفُ مِنْ قَرِيبٍ يُنَاضِلُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام إلَّا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ الْأَوَّلُ فَقَدْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ صَلَّاهُمَا مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ عَشَاءٍ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَسْتَحِيلُ اعْتِقَادُ الثَّانِي، وَإِلَّا لَزِمَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَشَّى وَلَا تَعَشَّى وَأَفْرَدَ الْإِقَامَةَ وَلَا أَفْرَدَهَا، وَهَذَا لِأَنَّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ فَرْعُ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا) وَأَدَاءُ صَلَاةٍ بَعْدَ وَقْتِهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ.

(قَوْلُهُ لَمْ يُجْزِهِ) الْخَارِجُ مِنْ الدَّلِيلِ

ص: 479

لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَدَّاهَا فِي وَقْتِهَا فَلَا تَجِبُ إعَادَتُهَا كَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ السُّنَّةِ فَيَصِيرُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ. وَلَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِأُسَامَةَ رضي الله عنه فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ» مَعْنَاهُ: وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِيُمْكِنَهُ الْجَمْعَ بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ

وَالتَّقْرِيرِ صَرِيحًا أَنَّ الْإِعَادَةَ وَاجِبَةٌ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ وَإِلَّا وَجَبَ الْإِعَادَةُ مُطْلَقًا بَلْ لَمْ تَكُنْ إعَادَةً بَلْ أَدَاءً فِي الْوَقْتِ وَقَضَاءً خَارِجَهُ. وَحَاصِلُ الدَّلِيلِ أَنَّ الظَّنِّيَّ أَفَادَ تَأَخُّرَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْيَوْمِ لِيُتَوَصَّلَ إلَى الْجَمْعِ بِجَمْعٍ، وَإِعْمَالُ مُقْتَضَاهُ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيمٌ عَلَى الْقَاطِعِ، وَهُوَ بِإِيجَابِ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ الْكَوْنِ بِمُزْدَلِفَةَ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ انْتَفَى إمْكَانُ تَدَارُكِ هَذَا الْوَاجِبِ وَتَقَرَّرَ الْمَأْثَمُ، إذْ لَوْ وَجَبَ بَعْدَهُ كَانَ حَقِيقَةُ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ قَطْعًا وَفِيهِ التَّقَدُّمُ الْمُمْتَنِعُ، وَعَنْ ذَلِكَ قُلْنَا إذَا بَقِيَ فِي الطَّرِيقِ طَوِيلًا حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ.

وَإِذْ قَدْ عَرَفْت هَذَا فَلَوْلَا تَعْلِيلُ ذَلِكَ الظَّنِّيِّ بِأَنَّ التَّأَخُّرَ وَالتَّأْخِيرَ لِلْجَمْعِ لَوَجَبَ أَنَّ الْإِعَادَةَ لَازِمَةٌ مُطْلَقًا لَكِنْ مَا وَجَبَ لِشَيْءٍ يَنْتَفِي وُجُوبُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ. بَقِيَ الْكَلَامُ فِي إفَادَةِ صُورَةِ ذَلِكَ الظَّنِّيِّ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ " دَفَعَ عليه الصلاة والسلام مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغْ الْوُضُوءَ. فَقُلْت لَهُ الصَّلَاةَ،

ص: 480

الْإِعَادَةُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ لِيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ فَسَقَطَتْ الْإِعَادَةُ.

قَالَ (وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ) لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ بِغَلَسٍ» وَلِأَنَّ فِي التَّغْلِيسِ دَفْعَ حَاجَةِ الْوُقُوفِ فَيَجُوزُ كَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ

فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَك، فَرَكِبَ فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّاهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا " اهـ.

وَقَوْلُهُ الصَّلَاةُ أَمَامَك الْمُرَادُ وَقْتُهَا، وَقَدْ يُقَالُ: مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ أَدَّاهَا قَبْلَ وَقْتِهَا الثَّابِتِ بِالْحَدِيثِ، فَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ لِلْجَمْعِ فَإِذَا فَاتَ سَقَطَتْ الْإِعَادَةُ تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ، وَمَرْجِعُهُ إلَى تَقْدِيمِ الْمَعْنَى عَلَى النَّصِّ، وَكَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَى النَّصِّ. لَا يُقَالُ: لَوْ أَجْرَيْنَاهُ فِي إطْلَاقِهِ أَدَّى إلَى تَقْدِيمِ الظَّنِّيِّ عَلَى الْقَاطِعِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ لَوْ قُلْنَا بِافْتِرَاضِ ذَلِكَ، لَكُنَّا نَحْكُمُ بِالْإِجْزَاءِ وَنُوجِبُ إعَادَةَ مَا وَقَعَ مُجْزِيًا شَرْعًا مُطْلَقًا، وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ نَظِيرُ وُجُوبِ إعَادَةِ صَلَاةٍ أُدِّيت مَعَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ حَيْثُ يُحْكَمُ بِإِجْزَائِهَا وَتَجِبُ إعَادَتُهَا مُطْلَقًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ) أَيْ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ (قَوْلُهُ لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً إلَّا لِمِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا» يُرِيدُ قَبْلَ وَقْتِهَا الَّذِي اعْتَادَ صَلَاتَهَا فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ، لِأَنَّهُ غَلَّسَ بِهَا يُبَيِّنُهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ «وَالْفَجْرَ حِينَ بَزَغَ الْفَجْرُ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «قَبْلَ مِيقَاتِهَا بِغَلَسٍ» فَأَفَادَ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْإِسْفَارُ بِالْفَجْرِ

ص: 481

(ثُمَّ وَقَفَ وَوَقَفَ مَعَهُ النَّاسُ وَدَعَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدْعُو حَتَّى رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «فَاسْتُجِيبَ لَهُ دُعَاؤُهُ لِأُمَّتِهِ حَتَّى الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ» ثُمَّ هَذَا الْوُقُوفُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَبِمِثْلِهِ تَثْبُتُ الرُّكْنِيَّةُ. وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا الذِّكْرُ وَهُوَ لَيْسَ بِرُكْنٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْوُجُوبَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَقَدْ كَانَ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» عَلَّقَ بِهِ تَمَامَ الْحَجِّ

وَأَخْرَجَا «أَنَّهُ صَلَّى بِجَمْعٍ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ»

(قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إلَخْ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ قَوْلُهُ «فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ حَتَّى رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَخْ قَالُوا: هُوَ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ. وَلَوْ اتَّجَهَ أَنْ يُقَالَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ كِنَانَةِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فَيُصَدَّقُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ انْدَفَعَ، لَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إذَا أُطْلِقَ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ الْمُلَقَّبُ بِالْحَبْرِ رضي الله عنه (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ رُكْنٌ) هَذَا

ص: 482

وَهَذَا يَصْلُحُ أَمَارَةً لِلْوُجُوبِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ بِعُذْرٍ بِأَنْ يَكُونَ بِهِ ضَعْفٌ أَوْ عِلَّةٌ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ تَخَافُ الزِّحَامَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا.

قَالَ (وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ)

سَهْوٌ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ. وَفِي الْمَبْسُوطِ ذُكِرَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مَكَانَ الشَّافِعِيِّ.

وَفِي الْأَسْرَارِ ذُكِرَ عَلْقَمَةُ.

وَجْهُ الرُّكْنِيَّةِ قَوْله تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} قُلْنَا غَايَةُ مَا يُفِيدُ إيجَابَ الْكَوْنِ فِي الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالِالْتِزَامِ لِأَجْلِ الذِّكْرِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا إنَّمَا هُوَ بِالذِّكْرِ عِنْدَهُ لَا مُطْلَقًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِالْكَوْنِ عِنْدَهُ، فَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْمُقَيَّدُ فَيَجِبُ الْقَيْدُ ضَرُورَةً لَا قَصْدًا، فَإِذَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ نَفْسَ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ انْتَفَى وُجُوبُ الْأَمْرِ فِيهِ بِالضَّرُورَةِ فَانْتَفَى الرُّكْنِيَّةُ وَالْإِيجَابُ مِنْ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْإِيجَابَ بِغَيْرِهَا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى يَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ كَافَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ عَلَى أَصْلِهِمَا، لِأَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا الشَّعْبِيُّ، وَقَدْ وَجَدْنَا عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ حَدَّثَ عَنْهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ «جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَوْقِفِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْتُ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاَللَّهِ مَا بَقِيَ جَبَلٌ مِنْ تِلْكَ الْجِبَالِ إلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ: يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ وَقَدْ أَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» عَلَّقَ بِهِ تَمَامَ الْحَجِّ، وَهُوَ يَصْلُحُ لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ الْقَطْعِيَّةِ.

فَكَيْفَ مَعَ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ «كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: رَخَّصَ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .

وَمَا أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِغَلَسٍ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» فَإِنَّ بِذَلِكَ تَنْتَفِي الرُّكْنِيَّةُ لِأَنَّ الرُّكْنَ لَا يَسْقُطُ لِلْعُذْرِ، بَلْ إنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ أَصْلَ الْعِبَادَةِ سَقَطَتْ كُلُّهَا أَوْ أُخِّرَتْ، أَمَّا إنْ شَرَعَ فِيهَا فَلَا تَتِمُّ إلَّا بِأَرْكَانِهَا وَكَيْفَ وَلَيْسَتْ هِيَ سِوَى أَرْكَانِهَا؟ فَعِنْدَ عَدَمِ الْأَرْكَانِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مُسَمَّى تِلْكَ الْعِبَادَةِ أَصْلًا

(قَوْلُهُ وَالْمُزْدَلِفَةُ إلَخْ) وَهِيَ تَمْتَدُّ إلَى وَادِي مُحَسِّرٍ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ قَبْلَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ بِقُزَحَ، قِيلَ هُوَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ. وَفِي كَلَامِ الطَّحَاوِيِّ إنَّ لِلْمُزْدَلِفَةِ ثَلَاثَةَ أَسْمَاءٍ: الْمُزْدَلِفَةُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَجَمْعٌ. وَالْمَأْزِمَانِ بِوَادِي مُحَسِّرٍ، وَأَوَّلُ مُحَسِّرٍ مِنْ الْقَرْنِ الْمُشْرِفِ مِنْ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إلَى مِنًى، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ فِيلَ

ص: 483

لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ. قَالَ (فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتُوا مِنًى) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَهَذَا غَلَطٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا أَسْفَرَ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.

قَالَ (فَيَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ

أَصْحَابِ الْفِيلِ أَعْيَا فِيهِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَهُ وَادِيَ النَّارِ.

قِيلَ لِأَنَّ شَخْصًا اصْطَادَ فِيهِ فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ، وَآخِرُهُ أَوَّلُ مِنًى، وَهِيَ مِنْهُ إلَى الْعَقَبَةِ الَّتِي يَرْمِي بِهَا الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَيْسَ وَادِي مُحَسِّرٍ مِنْ مِنًى وَلَا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ

فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ مُنْقَطِعٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ وَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِمَا فِي قَوْلِهِمْ مُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ، وَكَذَا عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ أَنَّ الْمَكَانَيْنِ لَيْسَا مَكَانَ وُقُوفٍ، فَلَوْ وَقَفَ فِيهِمَا لَا يُجْزِيهِ كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي مِنًى سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّ عُرَنَةَ وَمُحَسِّرًا مِنْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ أَوْ لَا، وَهَكَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَا تَخْرِيجَهُ، وَكَذَا عِبَارَةُ الْأَصْلِ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ. وَوَقَعَ فِي الْبَدَائِعِ: وَأَمَّا مَكَانُهُ: يَعْنِي الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ فَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مُزْدَلِفَةَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ.

وَرَوَى الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ وَقَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَذُكِرَ مِثْلُ هَذَا فِي بَطْنِ عُرَنَةَ: أَعْنِي قَوْلَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَادِي الشَّيْطَانِ اهـ.

وَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِالْإِجْزَاءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، بَلْ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ، وَأَمَّا الَّذِي يَقْتَضِيه النَّظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ الْوُقُوفِ بِالْمَكَانَيْنِ هُوَ أَنَّ عُرَنَةَ وَوَادِيَ مُحَسِّرٍ إنْ كَانَا مِنْ مُسَمَّى عَرَفَةَ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يُجْزِي الْوُقُوفُ بِهِمَا، وَيَكُونُ مَكْرُوهًا لِأَنَّ الْقَاطِعَ أَطْلَقَ الْوُقُوفَ بِمُسَمَّاهُمَا مُطْلَقًا، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَنَعَهُ فِي بَعْضِهِ فَقَيَّدَهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ فَيَثْبُتُ الرُّكْنُ بِالْوُقُوفِ فِي مُسَمَّاهُمَا مُطْلَقًا، وَالْوُجُوبُ فِي كَوْنِهِ فِي غَيْرِ الْمَكَانَيْنِ الْمُسْتَثْنَيَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ مُسَمَّاهُمَا لَا يُجْزِي أَصْلًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ.

هَذَا وَأَوَّلُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَآخِرُهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْهُ، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْفَجْرِ عِنْدَنَا، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ سُنَّةٌ (قَوْلُهُ وَهَذَا غَلَطٌ) هُوَ كَمَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَفَاضَ حِينَ أَسْفَرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» كَحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَغَيْرِهِ، فَارْجِعْ إلَى اسْتِقْرَائِهَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي حَدِّهِ إذَا صَارَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ دَفَعَ، وَهَذَا بِطَرِيقِ التَّقْرِيبِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ هَذَا حَالُ الْوُقُوفِ. أَمَّا الْمَبِيتُ بِهَا فَسُنَّةٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ. وَلَا يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِلْوُقُوفِ كَوُقُوفِ عَرَفَةَ، وَلَوْ مَرَّ بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِيتَ بِهَا جَازَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِحُصُولِ الْوُقُوفِ ضَمِنَ الْمُرُورِ كَمَا فِي عَرَفَةَ.

وَلَوْ وَقَفَ بَعْدَ مَا أَفَاضَ الْإِمَامُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ وَقَفَ بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ. وَلَوْ دَفَعَ قَبْلَ النَّاسِ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ بَعْدَ

ص: 484

فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذَفِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَتَى مِنًى لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ لَا يُؤْذِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا» وَلَوْ رَمْيَ بِأَكْبَرَ مِنْهُ جَازَ لِحُصُولِ الرَّمْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَرْمِي بِالْكِبَارِ مِنْ الْأَحْجَارِ كَيْ لَا يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ (وَلَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ مَا حَوْلَهَا مَوْضِعُ النُّسُكِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي لِمَا رَوَيْنَا

الْفَجْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ إذْ السُّنَّةُ مَدُّ الْوُقُوفِ إلَى الْإِسْفَارِ وَالصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ

(قَوْلُهُ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي إلَخْ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ «فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ سُلَيْمَان بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي الْجَمْرَةَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ رَاكِبٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَرَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ يَسْتُرُهُ، فَسَأَلْتُ عَنْ الرَّجُلِ فَقَالُوا: الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَإِذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذَا وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى رَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ يَنْحَدِرُ أَمَامَهَا فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ وَيَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْبَيْتِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَاهَا بِحَصَاةٍ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا» .

(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْمِي بِالْكِبَارِ مِنْ الْأَحْجَارِ) أَطْلَقَ فِي مَنْعِ الْكِبَارِ بَعْدَمَا أَطْلَقَ فِي تَجْوِيزِ الْكِبَارِ بِقَوْلِهِ وَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْهَا جَازَ، فَعُلِمَ إرَادَةُ تَقْيِيدِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَكْبَرُ مِنْهَا قَلِيلًا، وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي الْأَكْبَرُ مِنْهَا كَثِيرًا كَالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَحْوِهَا وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا، وَيَجِبُ كَوْنُ الْمَنْعِ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الدَّلِيلِ مَنْعُ الْأَكْبَرِ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ مُطْلَقًا وَهُوَ مَا رَوَيْنَاهُ آنِفًا، فَلَمَّا أَجَازُوا الْأَكْبَرَ قَلِيلًا، وَلَوْ كَانَ مِثْلَ حَصَاةِ الْخَذْفِ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِحَصَى الْخَذْفِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ نَظَرًا إلَى تَعْلِيلِهِ بِتَوَهُّمِ الْأَذَى، وَيَلْزَمُهُ الْإِجْزَاءُ بِرَمْيِ الصَّخَرَاتِ فَيَكُونُ الْمَنْعُ مِنْهَا مَنْعَ كَرَاهَةٍ لِتَوَقُّعِ الْأَذَى بِهَا (قَوْلُهُ وَلَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ) إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ فَفِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَسْفَلِهَا سُنَّةٌ لَا لِأَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ.

وَلِذَا ثَبَتَ رَمْيُ خَلْقٍ كَثِير فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَعْلَاهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَلَا أَعْلَنُوا بِالنِّدَاءِ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ. وَكَانَ وَجْهُ اخْتِيَارِهِ عليه الصلاة والسلام لِذَلِكَ هُوَ وَجْهُ اخْتِيَارِهِ حَصَى الْخَذْفِ فَإِنَّهُ يُتَوَقَّعُ الْأَذَى إذَا رَمَوْا مِنْ أَعْلَاهَا لِمَنْ أَسْفَلِهَا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مُرُورِ النَّاسِ فَيُصِيبُهُمْ، بِخِلَافِ الرَّمْيِ مِنْ

ص: 485

(وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) كَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم (وَلَوْ سَبَّحَ مَكَانَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ) لِحُصُولِ الذِّكْرِ وَهُوَ مِنْ آدَابِ الرَّمْيِ (وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقِفْ عِنْدَهَا (وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ) لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه. رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ

أَسْفَلَ مَعَ الْمَارِّينَ مِنْ فَوْقِهَا إنْ كَانَ

(قَوْلُهُ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ كَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ) تَقَدَّمَ الرِّوَايَةُ عَنْهُمَا آنِفًا، وَقَدَّمْنَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأُمِّ سُلَيْمَانَ.

وَظَاهِرُ الْمَرْوِيَّاتِ مِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ عَلَى: اللَّهُ أَكْبَرُ، غَيْرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ. وَقِيلَ: يَقُولُ أَيْضًا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ حَجِّي مَبْرُورًا وَسَعْيِي مَشْكُورًا وَذَنْبِي مَغْفُورًا (قَوْلُهُ وَلَوْ سَبَّحَ مَكَانَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ) وَكَذَا غَيْرُ التَّسْبِيحِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَالتَّهْلِيلِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَكْبِيرِهِ صلى الله عليه وسلم الذِّكْرُ لَا خُصُوصُهُ.

وَيُمْكِنُ حَمْلُ التَّكْبِيرِ فِي لَفْظِ الرُّوَاةِ عَلَى مَعْنَاهُ مِنْ التَّعْظِيمِ كَمَا قُلْنَا فِي تَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ، فَيَدْخُلُ كُلُّ ذِكْرٍ لَفْظًا لَا مَعْنًى فَقَطْ، لَكِنْ فِيهِ بُعْدٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ إطْلَاقِهِمْ لَفْظَ كَبِّرْ اللَّهَ وَنَحْوَهُ إرَادَةُ مَا كَانَ تَعْظِيمًا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَهُ قَالُوا سَبَّحَ اللَّهَ وَوَحَّدَهُ أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ، فَهَذَا الْمُعْتَادُ بِبُعْدِ هَذَا الْحَمْلِ (قَوْلُهُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) عَلَى هَذَا تَضَافَرَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، وَلَمْ تَظْهَرْ حِكْمَةُ تَخْصِيصِ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْجَمْرَتَيْنِ، فَإِنْ تَخَايَلَ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِكَثْرَةِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الشُّغْلِ كَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالْإِفَاضَةِ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ مُنْعَدِمٌ فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيَّامِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الْوُقُوفِ يَقَعُ فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي الطَّرِيقِ فَيُوجِبَ قَطْعَ سُلُوكِهَا عَلَى النَّاسِ وَشِدَّةَ الزِّحَامِ الْوَاقِفِينَ وَالْمَارِّينَ، وَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ، بِخِلَافِهِ فِي بَاقِي الْجِمَارِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الطَّرِيقِ بَلْ بِمَعْزِلٍ مُنْضَمٍّ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ) يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ لِمَا ثَبَتَ لَنَا رَفْعُ رِوَايَتِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَيْ لِمَا اشْتَمَلْت عَلَيْهِ رِوَايَتُنَا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَوَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهَذِهِ عِنَايَةٌ دَعَا إلَيْهَا أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ رِوَايَةُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ فِي بَحْثِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ، وَقَدَّمْنَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِقْسَامِهِ عَلَيْهِ. وَفِي الْبَدَائِعِ: فَإِنْ زَارَ الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ وَيَحْلِقَ وَيَذْبَحَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُلَبِّي مَا لَمْ يَحْلِقْ أَوْ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، رِوَايَةٌ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ: مَنْ لَمْ يَرْمِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَرِوَايَةُ هِشَامٍ: إذَا مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَظَاهِرُ رِوَايَتِهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ لَهُ بِهَذَا الطَّوَافِ شَيْءٌ فَكَانَ كَعَدَمِهِ فَلَا يَقْطَعُهَا إلَّا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ لِأَنَّ أَصْلَهُ أَنَّ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ يَتَوَقَّتُ بِالزَّوَالِ فَيَفْعَلُ بَعْدَهُ قَضَاءً فَصَارَ فَوَاتُهُ عَنْ وَقْتِهِ كَفِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ، وَعِنْدَ فِعْلِهِ فِيهِ يَقْطَعُهَا كَذَا عِنْدَ فَوَاتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ إحْرَامِهِ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ وَلَا تَلْبِيَةَ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ. وَلَهُمَا أَنَّ الطَّوَافَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالذَّبْحِ لَكِنْ وَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَلْزَمَهُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَهُ شَاةٌ لَا بَدَنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ الْإِحْرَامُ قَائِمًا مُطْلَقًا، وَلَمْ تُشْرَعْ التَّلْبِيَةُ إلَّا فِي الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ.

وَلَوْ ذَبَحَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ أَوْ قَارِنٌ يَقْطَعُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا إنْ كَانَ مُفْرِدًا لِأَنَّ الذَّبْحَ مُحَلِّلٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي حَقِّهِمَا بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ. وَعِنْدَ

ص: 486

التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ».

ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إبْهَامِهِ إلَى مِنًى وَيَسْتَعِينُ بِالْمِسْبَحَةِ. وَمِقْدَارُ الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ مَوْضِعِ السُّقُوطِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فَصَاعِدًا، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا. وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ رَمَى إلَى قَدَمَيْهِ إلَّا أَنَّهُ مُسِيءٌ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ، وَلَوْ وَضَعَهَا وَضْعًا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَمْيٍ، وَلَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْ الْجَمْرَةِ يَكْفِيهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لَا يُجْزِيه لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ.

وَلَوْ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ جُمْلَةً فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ الْأَفْعَالِ، وَيَأْخُذُ الْحَصَى مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ فَإِنَّ ذَاكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ مَا عِنْدَهَا مِنْ الْحَصَى مَرْدُودٌ، هَكَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ فَيَتَشَاءَمُ بِهِ

مُحَمَّدٍ لَا يَقْطَعُ إذْ لَا تَحَلُّلَ بِهِ بَلْ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ

(قَوْلُهُ ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إبْهَامِهِ وَيَسْتَعِينَ بِالْمِسْبَحَةِ) هَذَا التَّفْسِيرُ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ تَفْسِيرَيْنِ قِيلَ بِهِمَا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَضَعَ طَرَفَ إبْهَامِهِ إلَى مِنًى عَلَى وَسَطِ السَّبَّابَةِ وَيَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ الْإِبْهَامِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ سَبْعِينَ فَيَرْمِيَهَا وَعُرِفَ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي كَوْنِ الرَّمْيِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى.

وَالْآخَرُ أَنْ يُحَلِّقَ سَبَّابَتَهُ وَيَضَعَهَا عَلَى مِفْصَلِ إبْهَامِهِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ عَشْرَةً، وَهَذَا فِي التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّمْيِ بِهِ مَعَ الزَّحْمَةِ وَالْوَهْجَةُ عُسْرٌ. وَقِيلَ: يَأْخُذُهَا بِطَرَفَيْ إبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ وَالْمُعْتَادُ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ سِوَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَارْمُوا مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ» وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ الْمَطْلُوبَةِ كَيْفِيَّةَ الْخَذْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْيِينُ ضَابِطِ مِقْدَارِ الْحَصَاةِ إذَا كَانَ مِقْدَارُ مَا يُخْذَفُ بِهِ مَعْلُومًا لَهُمْ.

وَأَمَّا مَا زَادَ فِي رِوَايَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ قَوْلِهِ «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ» مِنْ قَوْلِهِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِفُ الْإِنْسَانُ: يَعْنِي عِنْدَ مَا نَطَقَ بِقَوْلِهِ «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ» أَشَارَ بِصُورَةِ الْخَذْفِ بِيَدِهِ، فَلَيْسَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ كَوْنِ الرَّمْيِ بِصُورَةِ الْخَذْفِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِيُؤَكِّدَ كَوْنَ الْمَطْلُوبِ حَصَى الْخَذْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: خُذُوا حَصَى الْخَذْفِ الَّذِي هُوَ هَكَذَا لِيُشِيرَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ فِي كَوْنِهِ حَصَى الْخَذْفِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي خُصُوصِ وَضْعِ الْحَصَاةِ فِي الْيَدِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَجْهُ قُرْبَةٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ بَلْ بِمُجَرَّدِ صِغَرِ الْحَصَاةِ.

وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى كَوْنِ الرَّمْيِ خَذْفًا عَارَضَهُ كَوْنُهُ وَضْعًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ وَالْيَوْمُ يَوْمُ زَحْمَةٍ يُوجِبُ نَفْيَ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ (قَوْلُهُ وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ) يُفِيدُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ الْحَسَنِ تَعْيِينُ الْأُولَى، وَأَنَّ مُسَمَّى الرَّمْيِ لَا يَنْتَفِي فِي الطَّرْحِ رَأْسًا بَلْ إنَّمَا فِيهِ مَعَهُ قُصُورٌ فَتَثْبُتُ الْإِسَاءَةُ بِهِ، بِخِلَافِ وَضْعِ الْحَصَاةِ وَضْعًا فَإِنَّهُ لَا يُجْزِي لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الرَّمْيِ بِالْكُلِّيَّةِ (قَوْلُهُ وَلَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْ الْجَمْرَةِ) قَدْرَ ذِرَاعٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ كَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى اعْتِبَارِ الْقُرْبِ عُرْفًا وَضِدُّهُ الْبُعْدُ فِي الْعُرْفِ، فَمَا كَانَ مِثْلُهُ يُعَدُّ بَعِيدًا عُرْفًا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، حَتَّى إنَّ مَا لَيْسَ بَعِيدًا فَهُوَ قَرِيبٌ وَمَا لَيْسَ قَرِيبًا فَهُوَ الْبَعِيدُ وَلَعَلَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، إذْ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مِنْ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يُقَالُ فِيهِ لَيْسَ بِقَرِيبٍ مِنْهُ وَلَا بَعِيدٍ، وَالظَّاهِرُ عَلَى هَذَا التَّعْوِيلِ عَلَى الْقُرْبِ وَعَدَمِهِ، فَمَا لَيْسَ بِقَرِيبٍ لَا يَجُوزُ لَا عَلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ.

وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ أَوْ مَحْمَلٍ وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ حَتَّى طَرَحَهَا الْحَامِلُ كَانَ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا، وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ فَنَبَتْ عَنْهُ وَوَقَعَتْ عِنْدَ الْجَمْرَةِ بِنَفْسِهَا أَجْزَأَهُ، وَمَقَامُ الرَّامِي بِحَيْثُ يَرَى مَوْقِعَ حَصَاهُ. وَمَا قُدِّرَ بِهِ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَذَاكَ تَقْدِيرُ أَقَلِّ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكَانِ فِي الْمَسْنُونِ، أَلَا تَرَى إلَى تَعْلِيلِهِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا

(قَوْلُهُ وَلَوْ رَمَى بِسَبْعٍ جُمْلَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ) فَيَلْزَمُهُ سِتٌّ سِوَاهَا وَالسَّابِعُ وَأَكْثَرُ مِنْهَا وَاحِدٌ (قَوْلُهُ وَيَأْخُذُ الْحَصَى مِنْ أَيْ مَوْضِعٍ شَاءَ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ) يَتَضَمَّنُ خِلَافَ مَا قِيلَ إنَّهُ يَلْتَقِطُهَا مِنْ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَى الطَّرِيقِ مِنْ

ص: 487

وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ فِعْلِ الرَّمْيِ. وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِعْلُ الرَّمْيِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَى بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا.

قَالَ (ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ)

مُزْدَلِفَةَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: جَرَى التَّوَارُثُ بِذَلِكَ، وَمَا قِيلَ يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ سَبْعًا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَأَفَادَ أَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي ذَلِكَ يُوجِبُ خِلَافُهَا الْإِسَاءَةَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهَا مِنْ جَمْعٍ، بِخِلَافِ مَوْضِعِ الرَّمْيِ لِأَنَّ السَّلَفَ كَرِهُوهُ لِأَنَّهُ الْمَرْدُودُ.

وَقَوْلُهُ وَبِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ كَأَنَّهُ مَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَا بَالُ الْجِمَارِ تُرْمَى مِنْ وَقْتِ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام وَلَمْ تَصِرْ هِضَابًا تَسُدُّ الْأُفُقَ؟ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ تُقُبِّلَ حَجُّهُ رُفِعَ حَصَاهُ وَمَنْ لَمْ يُقْبَلْ تُرِكَ حَصَاهُ؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا سَمِعْت هَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه جَعَلْت عَلَى حَصَيَاتِي عَلَامَةً، ثُمَّ تَوَسَّطْت الْجَمْرَةَ فَرَمَيْت مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثُمَّ طَلَبْت فَلَمْ أَجِدْ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ شَيْئًا (قَوْلُهُ وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ) وَأَخَذَهَا مِنْ مَوْضِعِ الرَّمْيِ (أَجْزَأَهُ) مَعَ الْكَرَاهَةِ وَمَا هِيَ إلَّا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْتَقِطَ حَجَرًا وَاحِدًا فَيُكْسَرَ سَبْعِينَ حَجَرًا صَغِيرًا كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ الْحَصَيَاتِ قِيلَ أَنْ يَرْمِيَهَا لِيَتَيَقَّنَ طَهَارَتَهَا فَإِنَّهُ يُقَامُ بِهَا قُرْبَةٌ، وَلَوْ رَمَى بِمُتَنَجِّسَةٍ بِيَقِينٍ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ (قَوْلُهُ وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ) كَالْحَجَرِ وَالطِّينِ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ وَالْكِبْرِيتِ وَالزِّرْنِيخِ وَكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ.

وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِ جَوَازُ الرَّمْيِ بِالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَفِيهِمَا خِلَافٌ مَنَعَهُ الشَّارِحُونَ وَغَيْرُهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمَرْمِيِّ بِهِ يَكُونُ الرَّمْيُ بِهِ اسْتِهَانَةَ شَرْطٍ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الِاشْتِرَاطِ وَمِمَّنْ ذَكَرَ جَوَازَهُ الْفَارِسِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ.

وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَى بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ مِنْ جِهَةِ الشَّافِعِيِّ: لَوْ تَمَّ مَا ذَكَرْتُمْ فِي تَجْوِيزِ الطِّينِ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ مَعَهُ فِعْلَ الرَّمْيِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا بِهِ الرَّمْيُ لَجَازَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، بَلْ وَبِمَا لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكُلُّ مَمْنُوعٌ عِنْدَكُمْ. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا فَلَمْ يَجُزْ لِانْتِفَاءِ مُسَمَّى الرَّمْيِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَصْدُقُ

ص: 488

لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَرْمِيَ ثُمَّ نَذْبَحَ ثُمَّ نَحْلِقَ» وَلِأَنَّ: الْحَلْقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، وَكَذَا الذَّبْحُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِهِ الْمُحْصَرُ فَيُقَدِّمَ الرَّمْيَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ الْحَلْقُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الذَّبْحُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الذَّبْحَ بِالْمَحَبَّةِ لِأَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُفْرِدُ تَطَوُّعٌ وَالْكَلَامُ فِي الْمُفْرِدِ (وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» الْحَدِيثَ، ظَاهِرٌ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْحَلْقَ أَكْمَلُ فِي قَضَاءِ التَّفَثِ

اسْمُ الرَّمْيِ مَعَ كَوْنِهِ يُسَمَّى نِثَارًا، فَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ رَمْيٌ خُصَّ بِاسْمٍ آخَرَ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ مُتَعَلِّقِهِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي سُقُوطِ اسْمِ الرَّمْيِ عَنْهُ وَلَا صُورَتِهِ.

وَأَيْضًا فَهُوَ جَوَابٌ قَاصِرٌ إذْ لَا يَعُمُّ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ ثُبُوتَ اسْمِ النِّثَارِ أَيْضًا فِيمَا بِاللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ أَيْضًا وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يَصْدُقُ اسْمٌ إلَخْ، وَلَوْ غَيَّرَ أَصْلَ الْجَوَابِ إلَى اشْتِرَاطِ الِاسْتِهَانَةِ انْدَفَعَ الْكُلُّ لَكِنَّهُ يُطَالَبُ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ سِوَى ثُبُوتِ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام بِالْحَجَرِ إذْ لَا إجْمَاعَ فِيهِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ بِمُجَرَّدِهِ التَّعْيِينَ كَرَمْيِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجَمْرَةِ لَا مِنْ أَعْلَاهَا وَغَيْرِهِ، وَلَوْ اسْتَلْزَمَهُ تَعَيَّنَ الْحَجَرُ وَهُوَ مَطْلُوبُ الْخَصْمِ، ثُمَّ لَوْ تَمَّ نَظَرَ إلَى مَا أُثِرَ مِنْ أَنَّ الرَّمْيَ رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ إذْ أَصْلُهُ رَمْيُ نَبِيِّ اللَّهِ عِنْدَ الْجِمَارِ لَمَّا عَرَضَ لَهُ عِنْدَهَا لِلْإِغْوَاءِ بِالْمُخَالَفَةِ اسْتَلْزَمَ جَوَازَ الرَّمْيِ بِمِثْلِ الْخَشَبَةِ وَالرَّثَّةِ وَالْبَعْرَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهَا أُمُورٌ تَعَبُّدِيَّةٌ لَا يُشْتَغَلُ بِالْمَعْنَى فِيهَا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُلَاحِظَ مُجَرَّدَ الرَّمْيِ أَوْ مَعَ الِاسْتِهَانَةِ أَوْ خُصُوصِ مَا وَقَعَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام

وَالْأَوَّلُ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ بِالْجَوَاهِرِ،

وَالثَّانِي بِالْبَعْرَةِ وَالْخَشَبَةِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا

وَالثَّالِثُ بِالْحَجَرِ خُصُوصًا، فَلْيَكُنْ هَذَا أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَسْلَمَ وَالْأَصْلُ فِي أَعْمَالِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعَيُّنِهِ كَمَا فِي الرَّمْيِ أَسْفَلَ الْجَمْرَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا " إلَخْ) غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى فَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ خُذْ وَأَشَارَ إلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ» ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْحَلْقِ الْبُدَاءَةُ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ وَهُوَ خِلَافُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَذْهَبِ وَهَذَا الصَّوَابُ (قَوْلُهُ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الذَّبْحُ) حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّ الْحَلْقَ لَمْ يَقَعْ فِي مَحْضِ الْإِحْرَامِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ»

وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ «فَلَمَّا كَانَتْ الرَّابِعَةُ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ» وَقَوْلُهُ ظَاهَرَ هُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ فِعْلٌ مَاضٍ، وَمِنْ لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ يُجْرِي الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ وُجُوبًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَيْئَانِ إجْرَاؤُهُ مَعَ الْإِزَالَةِ، فَمَا عَجَزَ عَنْهُ سَقَطَ دُونَ مَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ.

وَقِيلَ اسْتِحْبَابًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِجْرَاءِ لِلْإِزَالَةِ لَا لَعَيْنِهِ، فَإِذَا سَقَطَ مَا وَجَبَ لِأَجْلِهِ سَقَطَ هُوَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ بِمَنْعِ وُجُوبِ عَيْنِ الْإِجْرَاءِ وَإِنْ كَانَ لِلْإِزَالَةِ، بَلْ الْوَاجِبُ طَرِيقُ الْإِزَالَةِ، وَلَوْ فُرِضَ بِالنُّورَةِ أَوْ الْحَرْقِ أَوْ النَّتْفِ، وَإِنْ عَسُرَ فِي أَكْثَرِ الرُّءُوسِ أَوْ قَاتَلَ غَيْرَهُ فَنَتَفَهُ أَجْزَأَ عَنْ

ص: 489

وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَفِي التَّقْصِيرِ بَعْضُ التَّقْصِيرِ فَأَشْبَهَ الِاغْتِسَالَ مَعَ الْوُضُوءِ. وَيَكْتَفِي فِي الْحَلْقِ بِرُبْعِ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ، وَحَلْقُ الْكُلِّ أَوْلَى اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام. وَالتَّقْصِيرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رُءُوسِ شَعْرِهِ مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ. قَالَ (وَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: وَإِلَّا الطِّيبَ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ

الْحَلْقِ قَصْدًا. وَلَوْ تَعَذَّرَ الْحَلْقُ لِعَارِضٍ تَعَيَّنَ التَّقْصِيرُ أَوْ التَّقْصِيرُ تَعَيَّنَ الْحَلْقُ كَأَنْ لَبَّدَهُ بِصَمْغٍ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الْمِقْرَاضُ، وَمَنْ تَعَذَّرَ إجْرَاءُ الْآلَةِ عَلَى رَأْسِهِ صَارَ حَلَالًا كَاَلَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسْحِ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ لِآفَةٍ.

قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِيمَنْ عَلَى رَأْسِهِ قُرُوحٌ لَا يَسْتَطِيعُ إجْرَاءَ الْمُوسِي عَلَيْهِ وَلَا يَصِلُ إلَى تَقْصِيرِهِ حَلَّ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَقَ، وَالْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِحْلَالَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُؤَخِّرْهُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بِهِ قُرُوحٌ لَكِنَّهُ خَرَجَ إلَى الْبَادِيَةِ فَلَمْ يَجِدْ آلَةً أَوْ مِنْ يُحْلِقْهُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، وَلَيْسَ هَذَا بِعُذْرٍ، وَيُعْتَبَرُ فِي سُنَّةِ الْحَلْقِ الْبُدَاءَةُ بِيَمِينِ الْحَالِقِ لَا الْمَحْلُوقِ وَيَبْدَأُ بِشِقِّهِ الْأَيْسَرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ مُقْتَضَى النَّصِّ الْبُدَاءَةُ بِيَمِينِ الرَّأْسِ.

وَيُسْتَحَبُّ دَفْنُ شَعْرِهِ وَيَقُولُ عِنْدَ الْحَلْقِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا. اللَّهُمَّ هَذِهِ نَاصِيَتِي بِيَدِك فَتَقَبَّلْ مِنِّي وَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي. اللَّهُمَّ اُكْتُبْ لِي بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً وَامْحُ بِهَا عَنِّي سَيِّئَةً وَارْفَعْ لِي بِهَا دَرَجَةً، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِلْمُحَلِّقَيْنِ وَالْمُقَصِّرِينَ يَا وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ آمِينَ.

وَإِذَا فَرَغَ فَلْيُكَبِّرْ وَلِيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَضَى عَنَّا نُسُكَنَا، اللَّهُمَّ زِدْنَا إيمَانًا وَيَقِينًا، وَيَدْعُو لِوَالِدَيْهِ وَالْمُسْلِمِينَ (قَوْلُهُ وَيَكْتَفِي فِي الْحَلْقِ بِرُبْعِ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ وَحَلْقُ الْكُلِّ أَوْلَى اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ أَجْزَأَ وَهُوَ مُسِيءٌ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِ غَيْرِ رَأْسِهِ وَلَا مِنْ ظُفْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَضُرَّهُ لِأَنَّهُ أَوَانُ التَّحَلُّلِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ كَذَا عَلَّلَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَفِي الْمُحِيطِ: أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ فَغَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ قَبْلَ الْحَلْقِ عَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَاقٍ لِأَنَّهُ لَا تَحَلُّلَ إلَّا بِالْحَلْقِ فَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ بِالطِّيبِ.

وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ: لَا دَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ فَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ اتَّفَقَ كُلٌّ مِنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رحمهم الله عَلَى أَنَّهُ يُجْزِي فِي الْحَلْقِ الْقَدْرُ الَّذِي قَالَ إنَّهُ يُجْزِي فِي الْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ.

وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا تُفِيدُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قِيَاسًا بِلَا جَامِعٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقِيَاسِ وُجُوبُ الْمَسْحِ وَمَحَلُّهُ الْمَسْحُ، وَحُكْمَ الْفَرْعِ وُجُوبُ الْحَلْقِ وَمَحَلُّهُ الْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ، وَلَا يَظُنُّ أَنَّ مَحَلَّ الْحُكْمِ الرَّأْسُ إذْ لَا يَتَّحِدُ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ هُمَا مَحَلَّا الْحُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَالْمُشَبَّهِ، وَالْحُكْمُ هُوَ الْوُجُوبُ مَثَلًا، وَلَا قِيَاسَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَ اتِّحَادِ مَحَلِّهِ إذْ لَا اثْنَيْنِيَّةَ، وَحِينَئِذٍ فَحُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ وُجُوبُ

ص: 490

وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالنِّسَاءِ فَيُؤَخَّرُ إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ

الْمَسْحِ لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى يُوجِبُ جَوَازَ قَصْرِهِ عَلَى الرُّبْعِ، وَإِنَّمَا فِيهِ نَفْسُ النَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} بِنَاءً إمَّا عَلَى الْإِجْمَالِ وَالْتِحَاقِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بَيَانًا أَوْ عَلَى عَدَمِهِ، وَالْمُفَادُ بِسَبَبِ الْبَاءِ إلْصَاقُ الْيَدِ كُلِّهَا بِالرَّأْسِ لِأَنَّ الْفِعْلَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْآلَةِ بِنَفْسِهِ فَيَشْمَلُهَا، وَتَمَامُ الْيَدِ يَسْتَوْعِبُ الرُّبْعَ عَادَةً فَتَعَيَّنَ قَدْرُهُ، لَا أَنَّ فِيهِ مَعْنًى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالرُّبْعِ أَوْ بِالْبَعْضِ مُطْلَقًا أَوْ تَعَيَّنَ الْكُلُّ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي وُجُوبِ حَلْقِهَا عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ لِيَتَعَدَّى الِاكْتِفَاءُ بِالرُّبْعِ مِنْ الْمَسْحِ إلَى الْحَلْقِ، وَكَذَا الْآخَرَانِ، وَإِذَا انْتَفَتْ صِحَّةُ الْقِيَاسِ فَالْمَرْجِعُ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْحَةِ وَحَلْقِ التَّحَلُّلِ مَا يُفِيدُهُ نَصُّهُ الْوَارِدُ فِيهِ، وَالْوَارِدُ فِي الْمَسْحِ دَخَلَتْ فِيهِ الْبَاءُ عَلَى الرَّأْسِ الَّتِي هِيَ الْمَحَلُّ فَأَوْجَبَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّبْعِيضَ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا، بَلْ الْإِلْصَاقَ، غَيْرَ أَنَّا لَاحَظْنَا تَعَدِّيَ الْفِعْلِ لِلْآلَةِ فَيَجِبُ قَدْرُهَا مِنْ الرَّأْسِ، وَلَمْ يُلَاحِظْهُ مَالِكٌ رحمه الله فَاسْتَوْعَبَ الْكُلَّ أَوْ جَعَلَهُ صِلَةً كَمَا فِي {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، فَاقْتَضَى وُجُوبَ اسْتِيعَابِ الْمَسْحِ. وَأَمَّا الْوَارِدُ فِي الْحَلْقِ فَمِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} مِنْ غَيْرِ بَاءٍ.

وَالْآيَةُ فِيهَا إشَارَةٌ إلَى طَلَبِ تَحْلِيقِ الرُّءُوسِ أَوْ تَقْصِيرِهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ الْمُوجِبُ لِطَرِيقِ التَّبْعِيضِ عَلَى اخْتِلَافِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَهُوَ دُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْمَحَلِّ.

وَمِنْ السُّنَّةِ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ، فَكَانَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي الْحَلْقِ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ الَّذِي أَدِينُ لِلَّهِ بِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ) يُفِيدُ أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ قِيَاسٌ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَصْلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ قَدْ يُتْرَكُ ذِكْرُهُ كَثِيرًا إذَا كَانَ أَصْلُهُ ظَاهِرًا أَوْ لَهُ أُصُولٌ كَثِيرَةٌ وَهُنَا كَذَلِكَ. وَحَاصِلُهُ: الطِّيبُ مِنْ دَوَاعِي الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الْجِمَاعُ فَيَحْرُمُ قِيَاسًا عَلَى الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ فِي الِاعْتِكَافِ وَالِاسْتِبْرَاءِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ لَكِنْ قَدْ اسْتَدَلَّ لِمَالِكٍ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ «مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ إنْ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حُرِّمَ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ حَتَّى يَزُورَ الْبَيْتَ» وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا اهـ. وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ حُكْمُهُ الرَّفْعُ.

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِطَرِيقٍ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ قَالَ «إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مَا حُرِّمَ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ» ذَكَرَهُ وَانْقِطَاعَهُ فِي الْإِمَامِ.

وَلَنَا مَا أَخْرَجَ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ الْحَسَنِ الْعَرَبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ فَقَالَ رَجُلٌ وَالطِّيبُ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُضَمِّخُ رَأْسَهُ بِالْمِسْكِ أَفَطِيبٌ هُوَ أَمْ لَا» وَأَمَّا مَا فِي الْكِتَابِ فَهُوَ مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: «إذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ فِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَدٍ آخَرَ هُوَ فِيهِ أَيْضًا قَالَ «إذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ وَذَبَحْتُمْ» وَقَالَ لَمْ يَرْوِهِ إلَّا الْحُجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ

ص: 491

(ثُمَّ الرَّمْيُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالْحَلْقِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي التَّحْلِيلِ. وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلَّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ لَا بِهِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرَةَ عَنْهَا قَالَتْ «طَيَّبْتُهُ عليه الصلاة والسلام لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ»

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلِّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ) يَعْنِي هَذَا هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْعِبَادَةِ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِرُكْنِهَا بَلْ إمَّا بِمُنَافِيهَا أَوْ بِمَا هُوَ مَحْظُورُهَا هُوَ أَقَلُّ مَا يَكُونُ، بِخِلَافِ دَمِ الْإِحْصَارِ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِ إطْلَاقِ مُبَاشَرَةِ الْمَحْظُورِ تَحَلُّلًا، فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ الطَّوَافُ فَإِنَّهُ مُحَلِّلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَلَيْسَ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ؟ أَجَابَ بِمَنْعِ كَوْنِهِ مُحَلِّلًا بَلْ التَّحَلُّلُ عِنْدَهُ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ لَا بِهِ غَايَةُ الْأَمْرِ بَعْضُ أَحْكَامِ الْحَلْقِ يُؤَخَّرُ إلَى وَقْتِهِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ السَّمْعِيَّاتِ يُفِيدُ أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِلتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. وَعَنْ هَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُوَ عِنْدَنَا وَاجِبٌ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ الْوَاجِبَ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ، وَيَحْمِلُونَ مَا ذَكَرْنَا عَلَى إضْمَارِ الْحَلْقِ: أَيْ إذَا رَمَى وَحَلَقَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الشَّرْطِ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ. قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} وَهُوَ الْحَلْقُ وَاللُّبْسُ عَلَى مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إنَّهُ الْحَلْقُ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ قَوْله تَعَالَى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ} الْآيَةَ، أَخْبَرَ بِدُخُولِهِمْ مُحَلِّقِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ التَّحْلِيقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَالَةَ الدُّخُولِ فِي الْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، ثُمَّ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُجُوبِ الْحَامِلِ عَلَى الْوُجُودِ فَيُوجَدُ الْمُخْبَرُ بِهِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِتَطَابُقِ الْأَخْبَارِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ ظَنِّيٌّ فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ لَا الْقَطْعُ.

وَلَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ لَزِمَهُ دَمٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَاقٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْحَلْقِ

ص: 492

قَالَ (ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» . وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الطَّوَافَ عَلَى الذَّبْحِ قَالَ {فَكُلُوا مِنْهَا} ثُمَّ قَالَ {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا. وَأَوَّلُ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ

قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ إلَخْ) هَذَا دَلِيلٌ يَخُصُّ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْإِضَافَةِ، لَا أَنَّهُ يُفِيدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يُفِيضُ فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوَّلُهَا لِيَكُونَ دَلِيلَ السُّنَّةِ، وَيَثْبُتُ الْجَوَازُ فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَوَقْتُهُ أَيَّامَ النَّحْرِ إلَخْ، وَأَمَّا حَدِيثُ «أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا» فَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِهِ.

ثُمَّ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» قَالَ نَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ. وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مَنْ كُتُبِ السُّنَنِ خِلَافُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ «ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ» وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَهْمٌ.

وَثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مِثْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ بِطَرِيقٍ فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَإِذَا تَعَارَضَا وَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ فَفِي مَكَّةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْلَى لِثُبُوتِ مُضَاعَفَةِ الْفَرَائِضِ فِيهِ. وَلَوْ تَجَشَّمْنَا الْجَمْعَ حَمَلْنَا فِعْلَهُ بِمِنًى عَلَى الْإِعَادَةِ بِسَبَبٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمُؤَدَّى أَوْ لَا (قَوْلُهُ فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا) يَعْنِي فَكَانَ وَقْتُ الذَّبْحِ وَقْتًا لِلطَّوَافِ لَا وَقْتَ الطَّوَافِ، فَإِنَّ الطَّوَافَ لَا يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ حَتَّى يَفُوتَ بِفَوَاتِهَا بَلْ وَقْتُهُ الْعُمْرُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَحِينَئِذٍ فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَطْفِ أَنَّهُ عَطْفُ طَلَبِ الطَّوَافِ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ الْأُضْحِيَّةَ الْمَلْزُومِ لِلذَّبْحِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فَكَانَ عَلَى الذَّبْحِ اللَّازِمِ.

وَمِنْ ضَرُورَةِ جَمْعِ طَلَبِهِمَا مُطْلَقًا إطْلَاقُ الْإِتْيَانِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ حِينِ يَتَحَقَّقُ وَقْتُ أَحَدِهِمَا، الذَّبْحُ يَتَحَقَّقُ وَقْتُهُ مِنْ فَجْرِ النَّحْرِ فَمِنْهُ يَتَحَقَّقُ وَقْتُ الطَّوَافِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَقْتَ الطَّوَافِ أَوَّلُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَا مِنْ لَيْلَتِهِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَلَا آخِرَ لَهُ، بَلْ مُدَّةُ وَقْتِهِ الْعُمْرُ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ فِعْلُهُ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَ هُمَا لِلسُّنَّةِ يُكْرَهُ خِلَافُهَا وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ

ص: 493

وَالطَّوَافُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوَّلُهَا كَمَا فِي التَّضْحِيَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ «أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا» (فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَمْ يَرْمُلْ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلَا سَعْيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقَدِّمْ السَّعْيَ

[وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالطَّوَافِ] مَكَانُ الطَّوَافِ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ، فَلَوْ طَافَ مِنْ وَرَاءِ السَّوَارِي أَوْ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ طَافَ مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَفِي مَوْضِعٍ: إنْ كَانَتْ حِيطَانُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ، يَعْنِي بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ حِيطَانُهُ مُنْهَدِمَةً، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ.

يَعْنِي وَقَعَ ذِكْرُ الْحِيطَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَكِنَّهُ اتِّفَاقِيٌّ لَا مُعْتَبَرَ الْمَفْهُومِ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ التَّعْلِيلِ فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ، فَأَمَّا إذَا طَافَ مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ فَكَانَتْ حِيطَانُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ طَافَ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْبَيْتِ، أَرَأَيْت لَوْ طَافَ بِمَكَّةَ كَانَ يُجْزِيهِ؛ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ فِي مَكَّةَ، أَرَأَيْت لَوْ طَافَ بِالدُّنْيَا أَكَانَ يُجْزِيهِ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَا يُجْزِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ اهـ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّائِفَ بِمَكَّةَ يُقَالُ فِيهِ طَائِفٌ بِمَكَّةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حِيطَانَ سُوَرٍ، وَكَذَا بِالْمَسْجِدِ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّسْبَةَ: أَعْنِي نِسْبَةَ الطَّوَافِ إلَى الْكَعْبَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِقُرْبٍ مِنْهَا مُنَاسِبٍ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لَهُ حُكْمُ الْبُقْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ انْتَشَرَتْ أَطْرَافُهُ لَكَانَ يُنَاسَبُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ بِالطَّوَافِ فِي حَوَاشِيهِ تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ لِلْبُعْدِ الَّذِي قَدْ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ إلَيْهِ، حَتَّى إنَّ مَنْ دَارَ هُنَاكَ إنَّمَا يُقَالُ: كَانَ فُلَانٌ يَدُورُ فِي الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يَتَأَمَّلُ بُقَعَهُ وَأَبْنِيَتَهُ، وَلَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ.

وَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ الطَّوَافُ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ دُونَ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ أَوْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِيَّةِ وَلَوْ الْوِتْرَ أَوْ سُنَّةً رَاتِبَةً أَوْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ فَيُقَدِّمُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الطَّوَافِ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي وَقْتٍ مُنِعَ النَّاسُ الطَّوَافَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا فَطَوَافُ تَحِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَ بِالْحَجِّ فَطَوَافُ الْقُدُومِ إنْ كَانَ دُخُولُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَطَوَافُ الْفَرِيضَةِ يُغْنِي عَنْهُ، وَلَوْ نَوَاهُ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعُمْرَةِ فَبِطَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَلَا يُسَنُّ طَوَافُ الْقُدُومِ لَهُ، وَلَوْ نَوَاهُ وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الْبَيْتِ فِي طَوَافِهِ إذَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا.

وَالْأَفْضَلُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ، وَيَكُونُ طَوَافُهُ مِنْ وَرَاءِ الشَّاذَرْوَانِ كَيْ لَا يَكُونَ بَعْضُ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْهُ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الشَّاذَرْوَانُ لَيْسَ مِنْ الْبَيْتِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْهُ حَتَّى لَا يَجُوزَ الطَّوَافُ عَلَيْهِ، وَالشَّاذَرْوَانُ هُوَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ الْمُلْصَقَةُ بِالْبَيْتِ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى فُرْجَةِ الْحِجْرِ. قِيلَ بَقِيَ مِنْهُ حِينَ عَمَّرَتْهُ قُرَيْشٌ وَضَيَّقَتْ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ لَا مَرَدَّ لَهُ كَثُبُوتِ كَوْنِ بَعْضِ الْحِجْرِ مِنْ الْبَيْتِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَيْتَ هُوَ الْجِدَارُ الْمَرْئِيُّ قَائِمًا إلَى أَعْلَاهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُبْدَأَ بِالطَّوَافِ مِنْ جَانِبِ الْحِجْرِ الَّذِي يَلِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ لِيَكُونَ مَارًّا عَلَى جَمِيعِ الْحِجْرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَيَخْرُجَ مِنْ خِلَافِ مَنْ يَشْتَرِطُ الْمُرُورَ كَذَلِكَ عَلَيْهِ، وَشَرْحُهُ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلًا عَلَى جَانِبِ الْحِجْرِ بِحَيْثُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْحِجْرِ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ يَمْشِي كَذَلِكَ مُسْتَقْبِلًا حَتَّى يُجَاوِزَ الْحِجْرَ، فَإِذَا جَاوَزَهُ انْفَتَلَ وَجَعَلَ يَسَارَهُ إلَى الْبَيْتِ وَهَذَا فِي الِافْتِتَاحِ خَاصَّةً.

وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ أَوْ الْجِنَازَةُ خَرَجَ مِنْ طَوَافِهِ إلَيْهَا، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي السَّعْيِ، ثُمَّ إذَا فَرَغَ وَعَادَ بَنَى عَلَى مَا كَانَ طَافَهُ وَلَا يَسْتَقْبِلُهُ، وَكَذَا إذَا خَرَجَ لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ. وَلَا يُكْرَهُ الطَّوَافُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِيهَا بَلْ يَصْبِرُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ مَا لَا كَرَاهَةَ فِيهِ. وَيُكْرَهُ وَصْلُ الْأَسَابِيعِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لَا بَأْسَ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ وِتْرٍ مِنْهَا. وَمَعَ الْكَرَاهَةِ لَوْ طَافَ أُسْبُوعًا ثُمَّ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ مِنْ آخِرَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ لَا يَقْطَعُ الْأُسْبُوعَ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ

ص: 494

رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَسَعَى بَعْدَهُ) لِأَنَّ السَّعْيَ لَمْ يُشَرَّعْ إلَّا مَرَّةً

بَلْ يُتِمُّهُ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطُوفَ مُنْتَعِلًا إذَا كَانَتَا طَاهِرَتَيْنِ أَوْ بِخُفِّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ كَرِهْت لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَالرُّكْنُ فِي الطَّوَافِ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ، فَمَا زَادَ إلَى السَّبْعَةِ وَاجِبٌ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رحمه الله وَسَنَذْكُرُ مَا عِنْدَنَا فِيهِ.

وَقِيلَ: الرُّكْنُ ثَلَاثَةُ أَشْوَاطٍ وَثُلُثَا شَوْطٍ. وَافْتِتَاحُ الطَّوَافِ مِنْ الْحَجَرِ سُنَّةٌ، فَلَوْ افْتَتَحَهُ مِنْ غَيْرِهِ أَجْزَأَ وَكُرِهَ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ فَجَعَلَهُ شَرْطًا. وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ وَاجِبٌ لَا يَبْعُدُ لِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ مَرَّةٍ دَلِيلُهُ فَيَأْثَمُ بِهِ وَيُجْزِيهِ.

وَلَوْ كَانَ فِي آيَةِ الطَّوَافِ إجْمَالٌ لَكَانَ شَرْطًا كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله لَكِنَّهُ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الِابْتِدَاءِ فَيَكُونُ مُطْلَقُ التَّطَوُّفِ هُوَ الْفَرْضُ، وَافْتِتَاحُهُ مِنْ الْحَجَرِ وَاجِبٌ لِلْمُوَاظَبَةِ، كَمَا قَالُوا فِي جَعْلِ الْكَعْبَةِ عَنْ يَسَارِهِ حَالَ الطَّوَافِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، حَتَّى لَوْ طَافَ مَنْكُوسًا بِأَنْ جَعَلَهَا عَنْ يَمِينِهِ اعْتَدَّ بِهِ فِي ثُبُوتِ التَّحَلُّلِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، فَإِنْ رَجَعَ وَلَمْ يُعِدْ فِيهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ: يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ فِي طَوَافِهِ أَوْ يَتَحَدَّثَ أَوْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ، فَإِنْ فَعَلَهُ لَمْ يَفْسُدْ طَوَافُهُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ فِي قِرَاءَتِهِ فِي نَفْسِهِ اهـ.

وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْرَأَ فِي طَوَافِهِ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَصَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ بِأَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الطَّوَافِ، وَلَيْسَ يَنْبُو عَمَّا ذَكَرَ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ لَا بَأْسَ فِي الْأَكْثَرِ لِخِلَافِ الْأَوْلَى، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ فِي الشِّعْرِ بَيْنَ أَنْ يُعَرَّى عَنْ حَمْدٍ أَوْ ثَنَاءٍ فَيُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا. وَقِيلَ يُكْرَهُ فِي الْحَالَيْنِ.

كَمَا هُوَ ظَاهِرُ جَوَابِ الرِّوَايَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَدْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْأَفْضَلُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِي الطَّوَافِ قِرَاءَةٌ بَلْ الذِّكْرُ وَهُوَ الْمُتَوَارَثُ عَنْ السَّلَفِ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا كَرَاهَةُ الْكَلَامِ فَالْمُرَادُ فُضُولُهُ إلَّا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.

وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْتِيَ فِي الطَّوَافِ وَيَشْرَبَ مَاءً إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَلَا يُلَبِّي حَالَةَ الطَّوَافِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، وَمَنْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا أَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذَلِكَ إنْ كَانَ بِعُذْرٍ جَازَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُعِيدُ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بِلَا إعَادَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ الْمَشْيَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، عَلَى هَذَا نَصَّ الْمَشَايِخُ وَهُوَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ. وَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مِنْ قَوْلِهِ الطَّوَافُ مَاشِيًا أَفْضَلُ تَسَاهُلٌ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ. لَا يُقَالُ: بَلْ يَنْبَغِي فِي النَّافِلَةِ أَنْ تَجِبَ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ فَوَجَبَ الْمَشْيُ، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ شُرُوعَهُ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْمَشْيِ وَالشُّرُوعُ إنَّمَا يُوجِبُ مَا شُرِعَ فِيهِ.

وَلَوْ طَافَ زَحْفًا لِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَبِلَا عُذْرٍ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ أَوْ الدَّمُ. وَلَوْ كَانَ الْحَامِلُ مُحْرِمًا أَجْزَأَهُ عَنْ طَوَافِهِ الْمُوَقَّتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَرْضًا كَانَ أَوْ سُنَّةً، قِيلَ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ حَمْلَ الْمَحْمُولِ فَلَا يُجْزِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الطَّوَافِ الْوَاقِعِ جُزْءَ نُسُكٍ لَيْسَتْ شَرْطًا، بَلْ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا آخَرَ، وَلِذَا لَوْ طَافَ طَالِبًا لِغَرِيمٍ أَوْ هَارِبًا مِنْ عَدُوٍّ لَا يُجْزِيهِ، بِخِلَافِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلِ الْآتِي.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ طَافَ طَوَافًا فِي وَقْتِهِ وَقَعَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَنْوِيَ أَصْلَ الطَّوَافِ نَوَاهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لَا، أَوْ نَوَى طَوَافًا آخَرَ لِأَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ فِي الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَدَاءِ، فَلَوْ قَدِمَ مُعْتَمِرٌ وَطَافَ وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَقَعَ لِلْقُدُومِ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا وَقَعَ الْأَوَّلُ لِلْعُمْرَةِ وَالثَّانِي لِلْقُدُومِ، وَلَوْ كَانَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ إذَا طَافَ فَهُوَ لِلزِّيَارَةِ، وَإِنْ طَافَ بَعْدَ مَا حَلَّ النَّفْرَ فَلِلصَّدَرِ وَلَوْ كَانَ نَوَاهُ لِلتَّطَوُّعِ. قِيلَ لِأَنَّ غَيْرَ هَذَا الطَّوَافِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّعْيِينِ، وَيَلْغُو غَيْرُهَا كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَيَحْتَاجُ إلَى أَصْلِهِمَا.

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ خُصُوصَ ذَلِكَ الْوَقْتِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ خُصُوصَ

ص: 495

وَالرَّمَلُ مَا شُرِعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ (وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ) لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ بِرَكْعَتَيْنِ فَرْضًا كَانَ لِلطَّوَافِ أَوْ نَفْلًا لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ (وَقَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءَ) وَلَكِنْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ إذْ هُوَ الْمُحَلَّلُ لَا بِالطَّوَافِ، إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.

قَالَ (وَهَذَا الطَّوَافُ

ذَلِكَ الطَّوَافِ بِسَبَبِ أَنَّهُ فِي إحْرَامِ عِبَادَةٍ اقْتَضَتْ وُقُوعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يُشْرَعُ غَيْرُهُ كَمَنْ سَجَدَ فِي إحْرَامِ الصَّلَاةِ يَنْوِي سَجْدَةَ شُكْرٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ تِلَاوَةٍ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ تَقَعُ عَنْ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ لِذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى نِيَّةٍ أَصْلًا كَسَجْدَةِ الصَّلَاةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا الرُّكْنُ لَا يَقَعُ فِي مَحْضِ إحْرَامِ الْعِبَادَةِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِهِ النِّيَّةُ بَلْ بَعْدَ انْحِلَالِ أَكْثَرِهِ وَجَبَ لَهُ أَصْلُ النِّيَّةِ دُونَ التَّعْيِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلَافِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ مُسْتَحَبٌّ إذَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثَبَتَ دُخُولُهُ عليه الصلاة والسلام إيَّاهُ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ، وَأَنَّهُ دَعَا وَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ مَغْفُورًا لَهُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ مُصَلَّاهُ عليه الصلاة والسلام، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه إذَا دَخَلَهَا مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، ثُمَّ يُصَلِّي يَتَوَخَّى مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: عَجَبًا لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ كَيْفَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ قِبَلَ السَّقْفِ يَدَّعِ ذَلِكَ إجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِعْظَامًا، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا خَلَفَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا، وَكَانَ الْبَيْتُ فِي زَمَنِهِ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ وَلَيْسَتْ الْبَلَاطَةُ الْخَضْرَاءُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ مُصَلَّاهُ عليه الصلاة والسلام، فَإِذَا صَلَّى إلَى الْجِدَارِ يَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَحْمَدُ ثُمَّ يَأْتِي الْأَرْكَانَ فَيَحْمَدُ وَيُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ وَيُكَبِّرُ وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَاءَ وَيَلْزَمُ الْأَدَبَ مَا اسْتَطَاعَ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَمَا تَقُولُهُ الْعَامَّةُ مِنْ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَهُوَ مَوْضِعٌ عَالٍ فِي جِدَارِ الْبَيْتِ بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا. وَالْمِسْمَارُ الَّذِي وَسَطَ الْبَيْتِ يُسَمُّونَهُ سُرَّةَ الدُّنْيَا يَكْشِفُ أَحَدُهُمْ سُرَّتَهُ وَيَضَعُهَا عَلَيْهِ فِعْلُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ فَضْلًا عَنْ عِلْمٍ

(قَوْلُهُ مَا شَرَعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا سَعَى فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ: أَعْنِي عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَالْعُمْرَةِ الَّتِي قَرَنَ إلَى حَجَّتِهِ، فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَجَّ قَارِنًا عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ الْقِرَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا) وَلَمْ يَقُلْ لِمَا رَوَيْنَا: أَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «وَلْيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ

ص: 496

هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي الْحَجِّ) وَهُوَ رُكْنٌ فِيهِ إذْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَيُسَمَّى طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَطَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ (وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهَا (وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا لَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَسَنُبَيِّنُهُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ وَمَوْضِعُهُ بِمِنًى (فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فَيَبْدَأُ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَرْمِي الَّتِي مِثْلَ ذَلِكَ وَيَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ كَذَلِكَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه فِيمَا نَقَلَ مِنْ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام مُفَسِّرًا، وَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَرْفَعُ

وَجْهَ التَّمَسُّكِ بِهِ لِلْوُجُوبِ حَيْثُ قَالَ: وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَقَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَرْوِيِّ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ

(قَوْلُهُ إذْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} عَلَى ذَلِكَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ (قَوْلُهُ كَمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ " إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ " إلَخْ (قَوْلُهُ وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ إلَخْ) أَفَادَ أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَدْخُلُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَذَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَسَيَتَبَيَّنُ (قَوْلُهُ فَيَبْتَدِئُ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ إلَخْ) هَلْ هَذَا التَّرْتِيبُ مُتَعَيَّنٌ أَوْ لَا؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَفِي الْمَنَاسِكِ لَوْ بَدَأَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، فَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْوُسْطَى ثُمَّ عَلَى الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِهِ فَحَسَنٌ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ. وَفِي الْمُحِيطِ: فَإِنْ رَمَى كُلَّ جَمْرَةٍ بِثَلَاثٍ أَتَمَّ الْأُولَى بِأَرْبَعٍ ثُمَّ أَعَادَ الْوُسْطَى بِسَبْعٍ ثُمَّ الْعَقَبَةَ بِسَبْعٍ، وَإِنْ كَانَ رَمَى كُلَّ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعٍ أَتَمَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثَلَاثٍ ثَلَاثٍ وَلَا يُعِيدُ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ وَكَأَنَّهُ رَمَى الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ بَعْدَ الْأُولَى، وَإِنْ اسْتَقْبَلَ رَمْيَهَا فَهُوَ أَفْضَلُ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ رَمَى الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ فَإِذَا فِي يَدِهِ أَرْبَعُ حَصَيَاتٍ لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّتُهُنَّ هُنَّ يَرْمِيهِنَّ عَلَى الْأَوْلَى وَيَسْتَقْبِلُ الْبَاقِيَتَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مِنْ الْأَوْلَى فَلَمْ يَجُزْ رَمْيُ الْأُخْرَيَيْنِ، وَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا أَعَادَ عَلَى كُلِّ جَمْرَةٍ وَاحِدَةً، وَلَوْ كَانَتْ حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَعَادَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً وَيُجْزِيهِ لِأَنَّهُ رَمَى كُلَّ وَاحِدَةٍ بِأَكْثَرِهَا اهـ.

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْخِلَافِ، وَاَلَّذِي يُقْوَى عِنْدِي اسْتِنَانُ التَّرْتِيبِ لَا تَعَيُّنُهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. بِخِلَافِ تَعْيِينِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِلرَّمْيِ، وَالْفَرْقُ لَا يَخْفَى عَلَى مُحَصِّلٍ. وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً مِنْ الْبَعْضِ لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّتِهَا أَعَادَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَصَاةً لِيَبْرَأَ بِيَقِينٍ. وَلَوْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْوُسْطَى وَالثَّالِثَةَ وَلَمْ يَرْمِ الْأُولَى، فَإِنْ رَمَى الْأُولَى وَأَعَادَ عَلَى الْبَاقِيَتَيْنِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ رَمَى الْأُولَى وَحْدَهَا جَازَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَيَقِفُ عِنْدَهَا) أَيْ عِنْدَ الْجَمْرَةِ بَعْدَ تَمَامِ الرَّمْيِ لَا عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَقَوْلُهُ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ. الَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ إنَّمَا هُوَ التَّعَرُّضُ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لَيْسَ غَيْرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ يُعْرَفُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ.

وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى» إلَخْ يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ الْوُقُوفِ وَمَوْضِعَهُ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُطِيلُهُ رَافِعًا يَدَيْهِ، فَارْجِعْ إلَيْهِ تَسْتَغْنِ بِهِ عَنْهُ وَعَنْ حَدِيثِ «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا

ص: 497

يَدَيْهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ. وَالْمُرَادُ رَفْعُ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي دُعَائِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ» ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ يَقِفُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ فِي وَسَطِ الْعِبَادَةِ فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ، وَكُلُّ رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٍ لَا يَقِفُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ انْتَهَتْ، وَلِهَذَا لَا يَقِفُ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَيْضًا.

قَالَ (فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ إلَى مَكَّةَ نَفَرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَبَرَ حَتَّى رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ» . وَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ

فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» مَعَ زِيَادَاتٍ أُخَرَ. وَقَوْلُهُ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ تَعْيِينٌ لِمَحَلِّهِ وَإِفَادَةُ أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بَلْ النَّاسُ تَوَارَثُوهُ فَمَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي كَانَ.

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا: يُرِيدُ بِالْمَقَامِ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ أَعْلَى الْوَادِي، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَنْحَدِرُ فِي الْأُولَى أَمَامَهَا فَيَقِفُ، وَيَنْحَدِرُ فِي الثَّانِيَةِ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا وَيَقُولُ هَكَذَا رَأَيْتُهُ عليه الصلاة والسلام يَفْعَلُ هَذَا» . وَإِنَّمَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ قِيلَ يَقِفُ قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ يُوضَعُ فِي يَدِهِ وَيَرْمِي بِهَا أَوْ يَرْمِي عَنْهُ غَيْرُهُ، وَكَذَا الْمُغْمَى عَلَيْهِ. وَلَوْ رَمَى بِحَصَاتَيْنِ إحْدَاهُمَا لِنَفْسِهِ وَالْأُخْرَى لِآخَرَ جَازَ وَيُكْرَهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ. وَيُكْثِرُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ أَمَامَ الْمَنَارَةِ عِنْدَ الْأَحْجَارِ

(قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ) هُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِيَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ فِيهِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُسَمَّى يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إلَخْ) وَرَوَى

ص: 498

فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ لِدُخُولِ وَقْتِ الرَّمْيِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله (وَإِنْ)(قَدَّمَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ) يَعْنِي الْيَوْمَ الرَّابِعَ (قَبْلَ الزَّوَالِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ)(جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَا لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي رُخْصَةِ النَّفْرِ، فَإِذْ لَمْ يَتَرَخَّصْ اُلْتُحِقَ بِهَا، وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ التَّخْفِيفِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي حَقِّ التَّرْكِ فَلَأَنْ يَظْهَرَ فِي جَوَازِهِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا أَوْلَى، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَيْثُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِمَا إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِمَا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْمَرْوِيِّ. فَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَأَوَّلُ وَقْتِ الرَّمْيِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَوَّلُهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ

أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ يَبْلُغُ بِهِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ يَوْمٍ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ. يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ» الْحَدِيثَ.

قَالَ الْمُنْذِرِيّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) فَإِنَّ عِنْدَهُ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ حَتَّى يَرْمِيَ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ الْيَوْمُ إلَى الْغُرُوبِ.

وَقُلْنَا: لَيْسَ اللَّيْلُ وَقْتًا لِرَمْيِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَيَكُونُ خِيَارُهُ فِي النَّفْرِ بَاقِيًا فِيهِ كَمَا قَبْلَ الْغُرُوبِ مِنْ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ خُيِّرَ فِيهِ فِي النَّفْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتَ رَمْيِ الرَّابِعِ وَهَذَا ثَابِتٌ فِي لَيْلَتِهِ (قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ) أَيْ بَاقِي الْأَيَّامِ الَّتِي يَرْمِي فِيهَا الْجَمَرَاتِ كُلَّهَا وَهُمَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ (قَوْلُهُ وَمَذْهَبُهُ) أَيْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ: إذَا انْتَفَخَ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ النَّفْرِ فَقَدْ حَلَّ الرَّمْيُ وَالصَّدَرُ. وَالِانْتِفَاخُ الِارْتِفَاعُ، وَفِي سَنَدِهِ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ (قَوْلُهُ أَوْلَى) مِمَّا يُمْنَعُ لِجَوَازِ أَنْ يُرَخَّصَ فِي تَرْكِهِ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ، فَإِذَا طَلَعَ مُنِعَ مِنْ تَرْكِهِ أَصْلًا وَلَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَهُ فِي وَقْتِهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِلرَّمْيِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ لَيْسَ إلَّا فِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام وَكَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَلَا يَدْخُلُ وَقْتُهُ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي فَعَلَهُ فِيهِ عليه الصلاة والسلام كَمَا لَا يَفْعَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي رَمَى فِيهِ عليه الصلاة والسلام، وَإِنَّمَا رَمَى عليه الصلاة والسلام فِي الرَّابِعِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يَرْمِي قَبْلَهُ. وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَنْدَفِعُ الْمَذْكُورُ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَوْ قُرِّرَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَا إذَا قُرِّرَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ) أَيْ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا الرَّمْيِ (وَالثَّانِي) مِنْهَا فَإِنَّهُمَا الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ وَالثَّالِثُ مِنْهُ (قَوْلُهُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَة رحمه الله قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ

ص: 499

لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا» . وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا مُصْبِحِينَ» وَيَرْوِي «حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» فَيَثْبُتُ أَصْلُ الْوَقْتِ بِالْأَوَّلِ وَالْأَفْضَلِيَّةُ بِالثَّانِي. وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، وَلِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ وَقْتُهُ بَعْدَهُ ضَرُورَةً. ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَمْتَدُّ هَذَا الْوَقْتُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الرَّمْيُ» ، جَعَلَ الْيَوْمَ وَقْتًا لَهُ وَذَهَابَهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا. وَإِنْ أَخَّرَ إلَى اللَّيْلِ رَمَاهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ الدُّعَاءِ. وَإِنْ أَخَّرَ إلَى الْغَدِ رَمَاهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ جِنْسِ الرَّمْيِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ.

قَالَ (فَإِنْ رَمَاهَا رَاكِبًا أَجْزَأَهُ) لِحُصُولِ فِعْلِ الرَّمْيِ (وَكُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ مَاشِيًا وَإِلَّا فَيَرْمِيهِ رَاكِبًا) لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ وَدُعَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا

الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ وَحُمِلَ الْمَرْوِيُّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى اخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ.

وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْمَنْقُولِ لِعَدَمِ الْمَعْقُولِيَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ تَخْفِيفٍ فِيهَا بِتَجْوِيزِ التَّرْكِ لِيَنْفَتِحَ بَابُ التَّخْفِيفِ بِالتَّقْدِيمِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَبُو حَنِيفَة وَحْدَهُ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا») أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَهُ.

وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَزَادَ فِيهِ «وَأَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءُوا مِنْ النَّهَارِ» وَحَمَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ وَقْتَ رَمْيِ كُلِّ يَوْمٍ إذَا دَخَلَ مِنْ النَّهَارِ امْتَدَّ إلَى آخِرِ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَتْلُو ذَلِكَ النَّهَارَ فَيُحْمَل عَلَى ذَلِكَ، فَاللَّيَالِي فِي الرَّمْيِ تَابِعَةٌ لِلْأَيَّامِ السَّابِقَةِ لَا اللَّاحِقَةِ، بِدَلِيلِ مَا فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ ضُعَفَاءَ أَهْلِهِ بِغَلَسٍ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» وَمَا رَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ضَعَفَةَ بَنِي هَاشِمٍ أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ وَيَقُولُ: أَبَنِيَّ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُقَدَّمِيُّ.

حَدَّثَنَا فُضَيْلٍ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنَا كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ وَثَقَلَهُ صَبِيحَةَ جَمْعٍ أَنْ يُفِيضُوا مَعَ أَوَّلِ الْفَجْرِ بِسَوَادٍ وَلَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ إلَّا مُصْبِحِينَ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فِي الثَّقَلِ وَقَالَ: لَا تَرْمُوا الْجِمَارَ حَتَّى تُصْبِحُوا» فَأَثْبَتْنَا الْجَوَازَ بِهَذَيْنِ وَالْفَضِيلَةَ بِمَا قَبْلَهُ.

وَفِي النِّهَايَةِ نَقْلًا مِنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ، وَمَا بَعْدَ طُلُوعِ

ص: 500

فَيَرْمِيهِ مَاشِيًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّضَرُّعِ، وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.

وَيُكْرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِي الرَّمْيِ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بَاتَ بِمِنًى، وَعُمَرُ رضي الله عنه كَانَ يُؤَدِّبُ عَلَى تَرْكِ الْمَقَامِ بِهَا. وَلَوْ بَاتَ فِي غَيْرِهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ وَجَبَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِهِ فَلَمْ يَكُنْ

الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ وَقْتٌ مَسْنُونٌ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ وَقْتُ الْجَوَازِ بِلَا إسَاءَةٍ، وَاللَّيْلُ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ اهـ. وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مَحْمَلِ ثُبُوتِ الْإِسَاءَةِ عَدَمَ الْعُذْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ رَمْيُ الضَّعَفَةِ قَبْلَ الشَّمْسِ وَرَمْيُ الرِّعَاءِ لَيْلًا يُلْزِمُهُمْ الْإِسَاءَةَ، وَكَيْفَ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّرْخِيصِ، وَيَثْبُتُ وَصْفُ الْقَضَاءِ فِي الرَّمْيِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ سِوَى ثُبُوتِ الْإِسَاءَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِعُذْرٍ

(قَوْلُهُ وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله) حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: الرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا؟ فَقُلْت: مَاشِيًا، فَقَالَ: أَخْطَأْت، فَقُلْت: رَاكِبًا، فَقَالَ: أَخْطَأَتْ، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ وُقُوفٌ، فَالرَّمْيُ مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَمَا لَيْسَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ، فَقُمْت مِنْ عِنْدِهِ فَمَا انْتَهَيْت إلَى بَابِ الدَّارِ حَتَّى سَمِعْت الصُّرَاخَ بِمَوْتِهِ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الرَّمْيُ كُلُّهُ رَاكِبًا أَفْضَلُ اهـ، لِأَنَّهُ رُوِيَ رُكُوبُهُ عليه الصلاة والسلام فِيهِ كُلِّهِ، وَكَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَحْمِلُ مَا رُوِيَ مِنْ رُكُوبِهِ عليه الصلاة والسلام فِي رَمْيِ الْجِمَارِ كُلِّهَا عَلَى أَنَّهُ لَيُظْهِرُ فِعْلَهُ فَيُقْتَدَى بِهِ وَيُسْأَلُ وَيُحْفَظُ عَنْهُ الْمَنَاسِكُ كَمَا ذُكِرَ فِي طَوَافِهِ رَاكِبًا، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَلَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ» وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ أَطْلَقَ اسْتِحْبَابَ الْمَشْيِ، قَالَ، يُسْتَحَبُّ الْمَشْيُ إلَى الْجِمَارِ، وَإِنْ رَكِبَ إلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ.

وَتَظْهَرُ أَوْلَوِيَّتُهُ لِأَنَّا إذَا حَمَلْنَا رُكُوبَهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى مَا قُلْنَا يَبْقَى كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا عِبَادَةً، وَأَدَاؤُهَا مَاشِيًا أَقْرَبُ إلَى التَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ، وَخُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُشَاةٌ فِي جَمِيعِ الرَّمْيِ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ الْأَذَى بِالرُّكُوبِ بَيْنَهُمْ لِلزَّحْمَةِ

(قَوْلُهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَهُ، ثُمَّ قِيلَ: يَلْزَمُهُ بِتَرْكِهِ مَبِيتَ لَيْلَةٍ مُدٌّ وَمُدَّانِ لِلَيْلَتَيْنِ وَدَمٌ لِثَلَاثٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ) أَيْ ثَبَتَ إذْ هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الْإِسَاءَةُ عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ الْكَافِي حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه «اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام فِي أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا

ص: 501

مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الْجَابِرَ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّجُلُ ثِقَلَهُ إلَى مَكَّةَ وَيُقِيمَ حَتَّى يَرْمِيَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ (وَإِذَا نَفَرَ إلَى مَكَّةَ نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ) وَهُوَ الْأَبْطَحُ وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ قَدْ نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ نُزُولُهُ قَصْدًا هُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يَكُونَ

لَمَا رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا لِأَجْلِ السِّقَايَةِ اهـ. فَعُلِمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَبِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ هَذَا اسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِلشَّافِعِيِّ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَالَ: وَلَوْلَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَمَا احْتَاجَ إلَى إذْنٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ عِنْدَهُمْ كَانَ مُجَانِبًا جِدًّا خُصُوصًا إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا الِانْفِرَادُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ مَعَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، فَاسْتَأْذَنَ لِإِسْقَاطِ الْإِسَاءَةِ الْكَائِنَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ مُوَافَقَتِهِ عليه الصلاة والسلام مَعَ مُرَافَقَتِهِ فَإِنَّهُ أَفْظَعُ مِنْهُ حَالَ عَدَمِ الْمُرَافَقَةِ، بَلْ هُوَ جَفَاءٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِسُوءِ الْأَدَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَبِيتُ بِمِنًى عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَكَثَ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ» وَنَفْسُ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه يُفِيدُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يُؤَدِّبُ عَلَى تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِهِ.

نَعَمْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يَبِيتَ أَحَدٌ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مِنًى. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنَامَ أَحَدٌ أَيَّامَ مِنًى بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ فِي تَقْدِيمِ الثَّقَلِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ قَالَ: عُمَرُ رضي الله عنه: مَنْ قَدَّمَ ثَقَلَهُ مِنْ مِنًى لَيْلَةَ يَنْفِرُ فَلَا حَجَّ لَهُ.

وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: مَنْ قَدَّمَ ثَقَلَهُ قَبْلَ النَّفْرِ فَلَا حَجَّ لَهُ اهـ: يَعْنِيَ الْكَمَالَ

(قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَبْطَحُ) قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى وَهُوَ إلَى مِنًى أَقْرَبُ، وَهَذَا لَا تَحْرِيرَ فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ فِنَاءُ مَكَّةَ حَدُّهُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الْمُتَّصِلِينَ بِالْمَقَابِرِ إلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ لِذَلِكَ مُصْعِدًا فِي الشِّقِّ الْأَيْسَرِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إلَى مِنًى مُرْتَفِعًا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَيْسَتْ الْمَقْبَرَةُ مِنْ الْمُحَصَّبِ، وَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ (قَوْلُهُ هُوَ الْأَصَحُّ) يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ قَصْدًا فَلَا يَكُونُ سُنَّةً لِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَيْسَ الْمُحَصَّبُ بِشَيْءٍ إنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: " لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى، وَلَكِنْ جِئْت وَضَرَبْت قُبَّتَهُ فَجَاءَ فَنَزَلَ ". وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ قَصَدَهُ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ لِأَنَّهُ قَصَدَهُ لِمَعْنَى التَّسْهِيلِ. رَوَى السِّتَّةُ عَنْهَا قَالَتْ: «إنَّمَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَصَّبَ» لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فَمَنْ شَاءَ نَزَلَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْهُ.

وَجْهُ الْمُخْتَارِ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ؟ فَقَالَ: هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا؟ قَالَ: نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ: يَعْنِي الْمُحَصَّبَ» الْحَدِيثَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِمِنًى نَحْنُ نَازِلُونَ

ص: 502

النُّزُولُ بِهِ سُنَّةً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ «إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ» يُشِيرُ إلَى عَهْدِهِمْ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِم فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ إرَاءَةً لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَصَارَ سُنَّةً كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ.

قَالَ (ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَرْمُلُ فِيهَا وَهَذَا طَوَافُ الصَّدْرِ) وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ وَطَوَافٌ آخَرُ عَهِدَهُ بِالْبَيْتِ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ وَيَصْدُرُ بِهِ

غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ» وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ اهـ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ نَزَلَهُ قَصْدًا لِيَرَى لَطِيفَ صُنْعِ اللَّهِ بِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ فِيهِ نِعْمَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُقَايَسَةِ نُزُولِهِ بِهِ الْآنَ إلَى حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: أَعْنِي حَالَ انْحِصَارِهِ مِنْ الْكُفَّارِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ، ثُمَّ هَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي شَمِلَتْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ النَّصْرِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَى إقَامَةِ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي دَعَا اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ عِبَادَهُ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَمَعَادِهِمْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا النِّعْمَةُ الْعُظْمَى عَلَى أُمَّتِهِ لِأَنَّهُمْ مَظَاهِرُ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤَزَّرُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَدِيرٌ بِتَفَكُّرِهَا وَالشُّكْرِ التَّامِّ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا فَكَانَ سُنَّةً فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا.

وَعَنْ هَذَا حَصَّبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانُوا يَنْزِلُونَ بِالْأَبْطَحِ» وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّحَصُّبَ سُنَّةً وَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْمُحَصَّبِ، قَالَ نَافِعٌ: قَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ اهـ.

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ كَالرَّمَلِ، وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِرَاءَةَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُرَادَ بِهَا إرَاءَةُ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مُشْرِكٌ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. بَلْ الْمُرَادُ إرَاءَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِالْحَالِ الْأَوَّلِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ) وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَهُ آخِرَ طَوَافِهِ. وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ حِينَ يَخْرُجُ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ: إذَا اشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِعَمَلٍ بِمَكَّة يُعِيدُهُ لِأَنَّهُ لِلصَّدَرِ، وَإِنَّمَا يَعْتَدُّ بِهِ إذَا فَعَلَهُ حِينَ يَصْدُرُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا قَدِمَ مَكَّةَ لِلنُّسُكِ، فَحِينَ تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهُ جَاءَ أَوَانُ الصَّدَرِ فَطَوَافُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ إذَا الْحَالُ أَنَّهُ عَلَى عَزْمِ الرُّجُوعِ.

نَعَمْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه: إذَا طَافَ لِلصَّدَرِ ثُمَّ أَقَامَ إلَى الْعِشَاءِ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ كَيْ لَا يَكُونَ بَيْنَ طَوَافِهِ وَنَفْرِهِ حَائِلٌ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ تَحْصِيلًا لِمَفْهُومِ الِاسْمِ عَقِيبَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَتْمٍ إذْ لَا يُسْتَغْرَبُ فِي الْعُرْفِ تَأْخِيرُ السَّفَرِ عَنْ الْوَدَاعِ بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ أَنْ يُوقِعَ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ، وَأَمَّا وَقْتُهُ عَلَى التَّعْيِينِ فَأَوَّلُهُ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إذَا كَانَ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ، حَتَّى لَوْ طَافَ لِذَلِكَ ثُمَّ أَطَالَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ وَلَوْ سَنَةً وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بِهَا وَلَمْ يَتَّخِذْهَا دَارًا جَازَ طَوَافُهُ وَلَا آخِرَ لَهُ وَهُوَ مُقِيمٌ، بَلْ لَوْ أَقَامَ عَامًا لَا يَنْوِي الْإِقَامَةَ فَلَهُ أَنْ يَطُوفَهُ وَيَقَعُ أَدَاءً.

وَلَوْ نَفَرَ وَلَمْ يَطُفْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَطُوفَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمَوَاقِيتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ جَاوَزَهَا لَمْ يَجِبْ الرُّجُوعُ عَيْنًا، بَلْ إمَّا أَنْ يَمْضِيَ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ فَيَرْجِعَ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ لِأَنَّ الْمِيقَاتَ لَا يُجَاوَزُ بِلَا إحْرَامٍ فَيُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ، فَإِذَا رَجَعَ ابْتَدَأَ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِطَوَافِ الصَّدَرِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ

ص: 503

(وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ تَرْكَهُ. قَالَ (إلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) لِأَنَّهُمْ لَا يُصْدَرُونَ وَلَا يُوَدِّعُونَ، وَلَا رَمَلَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شُرِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَهُ لِمَا قَدَّمْنَا

وَقَالُوا: الْأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ وَيُرِيقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَيْسَرُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ وَمَشَقَّةِ الطَّرِيقِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، إلَّا الْحُيَّضَ فَرَخَّصَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» قَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» لَا يُقَالُ: أَمْرُ نَدْبٍ بِقَرِينَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوَدَاعُ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ هَذَا يَصْلُحُ صَارِفًا عَنْ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ أَنْ يُطْلَبَ حَتْمًا لِمَا فِي عَدَمِهِ مِنْ شَائِبَةِ عَدَمِ التَّأَسُّفِ عَلَى الْفِرَاقِ، وَشِبْهِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْوَدَاعِ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي النُّصُوصِ، بَلْ أَنْ يُجْعَلَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالطَّوَافِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلِمَ فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ دَلَالَةُ الْقَرِينَةِ إذَا لَمْ يَفْقَهَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ مُقْتَضَاهَا، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ لَفْظَ التَّرْخِيصِ يُفِيدُ أَنَّهُ حَتْمٌ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ لِأَنَّ مَعْنَى عَدَمِ التَّرْخِيصِ فِي الشَّيْءِ هُوَ تَحْتِيمُ طَلَبِهِ إذْ التَّرْخِيصُ فِيهِ هُوَ إطْلَاقُ تَرْكِهِ فَعَدَمُهُ عَدَمُ إطْلَاقِ تَرْكِهِ، وَمِمَّا يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ الْوُجُوبِ مَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْصَرِفَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» فَهَذَا النَّهْيُ وَقَعَ مُؤَكَّدًا بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَهُوَ يُؤَكِّدُ مَوْضُوعَ اللَّفْظِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ وَكَذَا مَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا ثُمَّ بَدَا لَهُ الْخُرُوجُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ طَوَافُ صَدَرٍ، وَكَذَا فَائِتُ الْحَجِّ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُعْتَمِرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُعْتَمِر طَوَافُ الصَّدَرِ ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ.

وَفِي إثْبَاتِهِ عَلَى الْمُعْتَمِرِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي الْبَدَائِعِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ الْمَكِّيُّ طَوَافَ الصَّدَرِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِخَتْمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ. وَفَصَلَ فِيمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا بَيْنَ إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ فَلَا طَوَافَ عَلَيْهِ لِلصَّدَرِ، وَإِنْ نَوَاهُ بَعْدَهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ

ص: 504

(ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام اسْتَقَى دَلْوًا بِنَفْسِهِ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَفْرَغَ

أَبُو يُوسُفَ: يَسْقُطُ عَنْهُ فِي الْحَالَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ شَرَعَ فِيهِ

(قَوْلُهُ وَيَأْتِي زَمْزَمَ) أَيْ بَعْدَ تَقْبِيلِ الْعَتَبَةِ وَالْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ فَيَشْرَبُ مِنْهُ وَيُفْرِغُ عَلَى جَسَدِهِ بَاقِيَ الدَّلْوِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك رِزْقًا وَاسِعًا وَعِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ كَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَسَنَضُمُّ إلَى هَذَا مَا يَتَيَسَّرُ مِنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يَنْصَرِفُ رَاجِعًا إلَى أَهْلِهِ مُقَهْقِرًا.

وَإِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ لِمَا رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى» (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام اسْتَقَى» إلَخْ) الَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ نَزَعُوا لَهُ كَذَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ «جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى زَمْزَمَ فَنَزَعْنَا لَهُ دَلْوًا فَشَرِبَ ثُمَّ مَجَّ فِيهَا ثُمَّ أَفْرَغْنَاهَا فِي زَمْزَمَ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا عَلَيْهَا لَنَزَعْتُ بِيَدِي» وَمَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَقَى بِنَفْسِهِ دَلْوًا رَوَاهُ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ مُرْسَلًا.

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أَفَاضَ نَزَعَ بِالدَّلْوِ: يَعْنِي مِنْ زَمْزَمَ لَمْ يَنْزِعْ مَعَهُ أَحَدٌ، فَشَرِبَ ثُمَّ أَفْرَغَ بَاقِيَ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَمْ يَنْزِعْ مِنْهَا أَحَدٌ غَيْرِي، قَالَ: فَنَزَعَ هُوَ بِنَفْسِهِ الدَّلْوَ فَشَرِبَ مِنْهَا لَمْ يُعِنْهُ عَلَى نَزْعِهَا أَحَدٌ» وَقَدْ يُجْمَعُ بِأَنَّ مَا فِي هَذَا كَانَ بِعَقِبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه وَمَا مَعَهُ كَانَ عَقِيبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَلَفْظُهُ ظَاهِرٌ فِيهِ حَيْثُ قَالَ «فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ: انْزِعُوا» الْحَدِيثَ. وَطَوَافُهُ لِلْوَدَاعِ كَانَ لَيْلًا كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ ثُمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ» وَلَكِنْ قَدْ يُعَكِّرُهُ مَا رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ: حَدَّثَنِي جَدِّي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ فِي نِسَائِهِ لَيْلًا فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ وَيُقَبِّلُ طَرَفَ الْمِحْجَنِ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ فَقَالَ: انْزِعُوا، فَلَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِدَلْوٍ فَنُزِعَ لَهُ مِنْهَا فَشَرِبَ» الْحَدِيثَ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ أَزْوَاجَهُ أَفَضْنَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ لَيْلًا فَمَضَى مَعَهُنَّ عليه الصلاة والسلام، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

‌(فَصْلٌ فِي فَضْلِ مَاءٍ زَمْزَمَ،

تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ وَتَرْغِيبًا لِلْعَابِدِينَ)

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، فِيهِ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سَقَمٍ، وَشَرُّ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءٌ بِوَادِي بَرَهُوتَ بِقُبَّةِ حَضْرَمَوْتَ كَرِجْلِ الْجَرَادِ يُصْبِحُ يَتَدَفَّقُ وَتُمْسِي لَا بِلَالَ فِيهَا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا. وَبَرَهُوتُ

ص: 505

بَاقِيَ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ وَيُقَبِّلُ الْعَتَبَةَ (ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ إلَى الْبَابِ فَيَضَعُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ عَلَيْهِ وَيَتَشَبَّثُ بِالْأَسْتَارِ سَاعَةً ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ)

بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ وَآخِرُهُ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «زَمْزَمُ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سَقَمٍ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَطُعْمٌ بِضَمِّ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ: أَيْ طَعَامٌ يُشْبِعُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه " كُنَّا نُسَمِّيهَا شُبَاعَةَ: يَعْنِي زَمْزَمَ، وَكُنَّا نَجِدُهَا نِعْمَ الْعَوْنِ عَلَى الْعِيَالِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، إنْ شَرِبْتَهُ تَسْتَشْفِي شَفَاكَ اللَّهُ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِشِبَعِكَ أَشْبَعَكَ اللَّهُ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِقَطْعِ ظَمَئِكَ قَطَعَهُ اللَّهُ، وَهِيَ هَزْمَةُ جِبْرِيلَ وَسُقْيَا اللَّهِ إسْمَاعِيلَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَكَتَ عَنْهُ مَعَ أَنَّ شَيْخَهُ فِيهِ عُمَرُ بْنُ حَسَنِ الْأُشْنَانِيُّ، تَأَثَّمَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ بِسُكُوتِهِ مَعَ أَنَّ ابْنَ الْحَسَنِ الْأُشْنَانِيَّ الْقَاضِي أَبَا الْحُسَيْنِ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ كَذَّبَهُ وَلَهُ بَلَايَا قَالَ: وَهُوَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بَاطِلٌ لَمْ يَرْوِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ، بَلْ الْمَعْرُوفُ حَدِيثُ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ.

وَدُفِعَ بِأَنَّ الْأُشْنَانِيَّ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ حَتَّى يُلْزِمَ الدَّارَقُطْنِيّ شَرْحَ حَالِهِ، وَقَدْ سَلِمَ الذَّهَبِيُّ ثِقَةً مِنْ بَيْنِ الْأُشْنَانِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَلِهَذَا انْحَصَرَ الْقَدْحُ عَنْهُ فِيهِ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَادٍ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ بِهِ، وَزَادَ فِيهِ «وَإِنْ شَرِبْتَهُ مُسْتَعِيذًا أَعَاذَك اللَّهُ» قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه إذَا شَرِبَ مَاءَ زَمْزَمَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك عِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ. وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إنْ سَلِمَ مِنْ الْجَارُودِ، وَقِيلَ قَدْ سَلِمَ مِنْهُ فَإِنَّهُ صَدُوقٌ.

وَقَالَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَالْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: لَكِنَّ الرَّاوِيَ مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامٍ الْمَرْوَزِيِّ لَا أَعْرِفُهُ اهـ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُوثَقُ بِسَعَةِ حَالِهِ وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ الْعَسْقَلَانِيُّ هُوَ ابْنُ حَجَرٍ عَلِيُّ بْنُ حَمْشَادٍ مِنْ الْأَثْبَاتِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَوَّلَ الْحُرُوفِ ثُمَّ مِيمٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ، وَشَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ ثِقَةٌ. وَالْهَزْمَةُ بِفَتْحِ الْهَاءِ: أَنْ تَغْمُرَ مَوْضِعًا بِيَدِك أَوْ رِجْلِك فَيَصِيرَ. فِيهِ حُفْرَةٌ، فَقَدْ ثَبَتَ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ إلَّا مَا قِيلَ إنَّ الْجَارُودَ تَفَرَّدَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِوَصْلِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا انْفَرَدَ فَكَيْفَ إذَا خَالَفَ؟ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ وَابْنِ أَبِي عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَازَمَ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَكْثَرَ مِنْ الْجَارُودِ فَيَكُونُ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي نَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْمَتْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا عَلَيْنَا كَوْنُهُ مِنْ خُصُوصِ طَرِيقٍ بِعَيْنِهِ.

وَهُنَا أُمُورٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ: مِنْهَا أَنَّ مِثْلَهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ سَمَاعًا، وَكَذَا إنْ قُلْنَا الْعِبْرَةُ فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَالْإِرْسَالِ لِلْوَاصِلِ بَعْدَ كَوْنِهِ ثِقَةً لَا لِلْأَحْفَظِ وَلَا غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ تَصْحِيحُ نَفْسِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لَهُ فِي ضِمْنِ حِكَايَةٍ حَكَاهَا أَبُو بَكْرٍ الدِّينَوَرِيُّ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ الْمُجَالَسَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثِ «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَلَيْسَ الْحَدِيثُ الَّذِي قَدْ حَدَّثَتْنَا فِي مَاءِ زَمْزَمَ صَحِيحًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: فَإِنِّي شَرِبْت الْآنَ دَلْوًا مِنْ زَمْزَمَ عَلَى أَنَّك تُحَدِّثُنِي بِمِائَةِ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: اُقْعُدْ فَقَعَدَ فَحَدَّثَ بِمِائَةِ حَدِيثٍ.

فَبِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا لَا يُشَكُّ بَعْدُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَوْ حُكْمًا بِصِحَّةِ الْمُرْسَلِ لِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ، أَوْ حُكْمًا بِأَنَّهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِسَبَبِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ. وَأَعْنِي بِالْمُرْسَلِ ذَلِكَ الْمَوْقُوفَ عَلَى مُجَاهِدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ

ص: 506

هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام فَعَلَ بِالْمُلْتَزَمِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ وَهُوَ يَمْشِي وَرَاءَهُ وَوَجْهُهُ إلَى الْبَيْتِ مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فِرَاقِ الْبَيْتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ. فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ.

مُجَاهِدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي السُّنَنِ كَذَلِكَ. وَأَمَّا مَجِيئُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ يَقُولُ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» هَذَا لَفْظُهُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ مِنْهُ» وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَهَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا حَسَّنَهُ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ عِلَّتَانِ ضَعْفُ ابْنِ الْمُؤَمَّلِ وَكَوْنُ الرَّاوِي عَنْهُ فِي مُسْنَدِ ابْنِ مَاجَهْ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ وَهُوَ يُدَلِّسُ وَقَدْ عَنْعَنَهُ لِأَنَّ ابْنَ الْمُؤَمَّلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ مَرَّةً ضَعِيفٌ، وَقَالَ مَرَّةً لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ مَرَّةً صَالِحٌ.

وَمَنْ ضَعَّفَهُ فَإِنَّمَا ضَعَّفَهُ مِنْ جِهَةِ حِفْظِهِ كَقَوْلِ أَبِي زُرْعَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأَبِي حَاتِمٍ فِيهِ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: سَيِّئُ الْحِفْظِ مَا عِلْمنَا فِيهِ مَا يُسْقِطُ عَدَالَتَهُ، فَهُوَ حِينَئِذٍ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ، وَإِذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ صَارَ حَسَنًا، وَلَا شَكَّ فِي مَجِيءِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ فَمُنْتَفِيَةٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَعْرُوفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هَكَذَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ إلَخْ، فَقَدْ ثَبَتَ حُسْنُهُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ.

وَفِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُقْرِي مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ الْمُبَارَكِ دَخَلَ زَمْزَمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّ ابْنَ الْمُؤَمَّلِ حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَشْرَبُهُ لِعَطَشِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .

وَمَا عَنْ سُوَيْد عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّ ابْنَ الْمُؤَمَّلِ حَدَّثَنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مَحْكُومٌ بِانْقِلَابِهِ عَلَى سُوَيْد فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ. وَهَذِهِ زِيَادَاتٌ عَنْ السَّائِبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اشْرَبُوا مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه فَإِنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ.

وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ شَرِبُوهُ لِمَقَاصِدَ فَحَصَلَتْ، فَمِنْهُمْ صَاحِبُ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمُتَقَدِّمُ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ شَرِبَهُ لِلرَّمْيِ فَكَانَ يُصِيبُ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ تِسْعَةً، وَشَرِبَهُ الْحَاكِمُ لِحُسْنِ التَّصْنِيفِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ فَكَانَ أَحْسَنَ أَهْلِ عَصْرِهِ تَصْنِيفًا. قَالَ شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ الْعَسْقَلَانِيُّ الشَّافِعِيُّ. وَلَا يُحْصَى كَمْ شَرِبَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِأُمُورٍ نَالُوهَا، قَالَ: وَأَنَا شَرِبْته فِي بِدَايَةِ طَلَبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَرْزُقَنِي اللَّهُ حَالَةَ الذَّهَبِيِّ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ حَجَجْت بَعْدَ مُدَّةٍ تَقْرُبُ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَا أَجِد مِنْ نَفْسِي الْمَزِيدَ عَلَى تِلْكَ الرُّتْبَةِ، فَسَأَلْت رُتْبَةً أَعْلَى مِنْهَا وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ أَنَالَ ذَلِكَ مِنْهُ اهـ.

وَجَمِيعُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْفَصْلُ غَالِبُهُ مِنْ كَلَامِهِ وَقَلِيلٌ مِنْهُ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيِّ، وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ يَرْجُو اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرِبَهُ لِلِاسْتِقَامَةِ وَالْوَفَاةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مَعَهَا (قَوْلُهُ هَكَذَا رُوِيَ) رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرٍو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ:«طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا جِئْنَا دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلَا تَتَعَوَّذُ؟ قَالَ: أَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا، وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ

ص: 507

(فَصْلٌ)

(فَإِنْ لَمْ‌

‌ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا)

عَلَى مَا بَيَّنَّا (سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ) لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَفْعَالِ، فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ سُنَّةً (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ) لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَبِتَرْكِ السُّنَّةِ لَا يَجِبُ الْجَابِرُ

(وَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِهَا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ) فَأَوَّلُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذَا بَيَانُ أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ

الْمُنْذِرِيُّ: فَيَكُونُ شُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ قَدْ طَافَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ اهـ.

وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِالْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، وَالْمُرَادُ بِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَدِّ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْأَعْلَى، صَرَّحَ بِتَسْمِيَتِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ بِسَنَدٍ أَجْوَدَ مِنْهُ. وَأَمَّا تَعْيِينُ مَحَلِّ الْمُلْتَزَمِ فَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ مُلْتَزَمٌ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا، وَوَقَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْمُلْتَزَمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّإِ بَلَاغًا، وَلِمِثْلِهِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِهِ، هَذَا وَالْمُلْتَزَمُ مِنْ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَوَاَللَّهِ مَا دَعَوْت قَطُّ إلَّا أَجَابَنِي.

وَفِي رِسَالَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ هُنَاكَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا: فِي الطَّوَافِ، وَعِنْدَ الْمُلْتَزَمِ، وَتَحْتَ الْمِيزَابِ، وَفِي الْبَيْتِ، وَعِنْدَ زَمْزَمَ، وَخَلْفَ الْمَقَامِ، وَعَلَى الصَّفَا، وَعَلَى الْمَرْوَةِ، وَفِي السَّعْيِ، وَفِي عَرَفَاتٍ، وَفِي مُزْدَلِفَةَ، وَفِي مِنًى، وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ.

وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُسْتَجَابُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ وَفِي الْحَطِيمِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ هُوَ تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَقَدْ قَدَّمْنَا آدَابَهُ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ فِي الطَّوَافِ فَارْجِعْ إلَيْهَا.

(فَصْلٌ)

حَاصِلُهُ مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ هِيَ عَوَارِضُ خَارِجَةٌ عَنْ أَصْلِ التَّرْتِيبِ، وَهِيَ تَتْلُو الصُّورَةَ السَّلِيمَةَ، وَهِيَ مَا أَفَادَهُ مِنْ ابْتِدَاءِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا نَوَى بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ، إلَى أَنْ قَالَ: فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ

(قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ بَعْد الزَّوَالِ») تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَقَالَ «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ» إلَخْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَفِي سَنَدِهِ رَحْمَةُ بْنُ مُصْعَبٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَلَمْ يَأْتِ بِهِ غَيْرُهُ

ص: 508

الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ» وَهَذَا بَيَانُ آخِرِ الْوَقْتِ. وَمَالِكٌ رحمه الله إنْ كَانَ يَقُولُ: إنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا (ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَفَاضَ مِنْ سَاعَتِهِ أَجْزَأَهُ) عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَإِنَّهُ قَالَ «الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَهِيَ كَلِمَةُ التَّخْيِيرِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ

وَفِي ذِكْرِ الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا أَحَادِيثُ أُخَرُ لَمْ تَسْلَمْ، وَأَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» . الْحَدِيثَ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ خِلَافًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فَيُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ فِي الصَّحَابَةِ وَرَوَى لَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ حَدِيثًا آخَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُزَفَّتِ، وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ (قَوْلُهُ فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا) حُجَّةُ مَالِك الْحَدِيثُ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظُ الْحَجُّ عَرَفَةَ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ الدِّيلِيِّ، فَمَجْمُوعُ هَذَا اللَّفْظِ يَتَحَصَّلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْحَدِيثَيْنِ.

وَحَاصِلُ حُجَّةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ فِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ مِنْ الزَّوَالِ، وَهُوَ وَقَعَ بَيَانًا لِوَقْتِ الْوُقُوفِ الَّذِي دَلَّتْ الْإِشَارَةُ عَلَى افْتِرَاضِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ غَيْرُ ذَلِكَ الْفِعْلُ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَ قَوْلٌ أَيْضًا فِيهِ يُصَرِّحُ بِأَنَّ وَقْتَهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ عُرِفَ بِهِ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ بَيَانًا لِسُنَّةِ الْوُقُوفِ الْأَوْلَى فِيهِ، وَيَثْبُتُ بِالْقَوْلِ بَيَانُ أَصْلِ الْوَقْتِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ، فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما لِلْحَجَّاجِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ: السَّاعَةُ إنْ أَرَدْت السُّنَّةَ، مُرَادٌ بِهِ السُّنَّةُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الذَّهَابُ إلَى الْمَوْقِفِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بَلْ لَوْ أَخَّرَهُ جَازَ (قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا يُجْزِيهِ إنْ وَقَفَ مِنْ النَّهَارِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ) التَّحْرِيرُ فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِيهِ إنْ وَقَفَ مِنْ النَّهَارِ إلَّا أَنْ يَقِفَ مَعَهُ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ

ص: 509

(وَمَنْ اجْتَازَ بِعَرَفَاتٍ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ جَازَ عَنْ الْوُقُوفِ) لِأَنَّ مَا هُوَ الرُّكْنُ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ كَرُكْنِ الصَّوْمِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى مَعَ الْإِغْمَاءِ، وَالْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ

(وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: لَا يَجُوزُ، وَلَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ فَأَحْرَمَ الْمَأْمُورُ عَنْهُ صَحَّ) بِالْإِجْمَاعِ

يَقِفْ إلَّا مِنْ اللَّيْلِ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَمْعَ بَيْنَ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مَعَ جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ لِمَنْ وَقَفَ بِالنَّهَارِ وَهُوَ بِأَنْ يُفِيضَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَمَلْجَؤُهُ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِثْلُ مَا قُلْنَا مَعَهُ فِي أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ مِنْ الزَّوَالِ.

وَيَرِدُ عَلَيْهِ هُنَا مِثْلُ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَيْنَا مِنْ جِهَتِهِ هُنَاكَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَوْلٌ يُفِيدُ عَدَمَ تَعَيُّنِ ذَلِكَ، وَبِهِ يَقَعُ الْبَيَانُ كَالْفِعْلِ فَتُحْمَلُ الْإِفَاضَةُ بَعْدَ الْغُرُوبِ عَلَى أَنَّهُ السُّنَّةُ الْوَاجِبَةُ، وَقَبْلَهُ عَلَى أَنَّهُ الرُّكْنُ بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ مَعَ تَرْكِ الْوَاجِبِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّ مَا هُوَ الرُّكْنُ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوُقُوفُ) وَالْمَشْيُ وَإِنْ أَسْرَعَ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ وُقُوفٍ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي فَنِّهِ، وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ عَلَى هَذَا يُجْزِيهِ الْكَوْنُ بِهَا وَلَوْ نَائِمًا أَوْ مَارًّا لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مُزْدَلِفَةُ (قَوْلُهُ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ) إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرُّكْنُ مِمَّا يَسْتَقِلُّ عِبَادَةً مَعَ عَدَمِ إحْرَامِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَصْلِ النِّيَّةِ، وَعَنْ هَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ، فَإِنَّهُ لَوْ طَافَ هَارِبًا أَوْ طَالِبًا لِهَارِبٍ أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ الْبَيْتُ الَّذِي يَجِبُ الطَّوَافُ بِهِ لَا يُجْزِيهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ. وَلَوْ نَوَى أَصْلَ الطَّوَافِ جَازَ.

وَلَوْ عَيَّنَ جِهَةً غَيْرَ الْفَرْضِ مَعَ أَصْلِ النِّيَّةِ لَغَتْ، حَتَّى لَوْ طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ عَنْ نَذْرٍ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ النَّذْرِ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ يُؤَدَّى فِي إحْرَامٍ مُطْلَقٍ فَأَغْنَتْ النِّيَّةُ عِنْدَ الْعَقْدِ عَنْ الْأَدَاءِ عَنْهَا فِيهِ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ يُؤَدَّى بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ فَلَا يُغْنِي وُجُودُهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ عَنْهَا فِيهِ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا الْعُمْرَةِ وَالْأَوَّلُ يَعُمُّهُمَا

(قَوْلُهُ وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ) الرَّفِيقُ قَيْدٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ عِنْدَ آخَرِينَ، حَتَّى لَوْ أَهَلَّ غَيْرُ رُفَقَائِهِ عَنْهُ جَازَ وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ لَا الْوِلَايَةِ، وَدَلَالَةُ الْإِعَانَةِ قَائِمَةٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ عَلِمَ

ص: 510

حَتَّى إذَا أَفَاقَ أَوْ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ. لَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا. وَلَهُ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ. وَالْإِحْرَامُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً، وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَيْهِ.

قَصْدَهُ رَفِيقًا كَانَ أَوْ لَا.

وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ عِنْدَنَا اتِّفَاقًا كَالْوُضُوءِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ شِبْهُ الرُّكْنِ فَجَازَتْ النِّيَابَةُ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَافَقَةَ هَلْ تَكُونُ أَمْرًا بِهِ دَلَالَةٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ أَوْ لَا، فَقَالَا: لَا، لِأَنَّ الْمُرَافَقَةَ إنَّمَا تُرَادُ لِأُمُورِ السَّفَرِ لَا غَيْرُ فَلَا تَتَعَدَّى إلَى الْإِحْرَامِ، بَلْ الظَّاهِرُ مَنْعُ غَيْرِهِ عَنْهُ لِيَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ فَيَحُوزُ ثَوَابَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِنَابَةِ فِيهِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا كَانَ

ص: 511

قَالَ (وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ) لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ كَالرَّجُلِ (غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا) لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ (وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا)

مَعْلُومًا عِنْدَ النَّاسِ.

وَصِحَّةُ الْإِذْنِ بِالْإِحْرَامِ عَنْ غَيْرِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ فَكَيْفَ بِالْعَامِّيِّ وَهَذَا الْوَجْهُ يَعُمُّ مَنْعَ الرَّفِيقِ وَغَيْرِهِ نَصًّا وَالْأَوَّلُ دَلَالَةً. وَلَهُ أَنَّ عَقْدَ الرُّفْقَةِ اسْتِعَانَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ بِكُلٍّ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجَزُ عَنْهُ فِي سَفَرِهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ إلَّا الْإِحْرَامَ، وَهُوَ أَهَمُّهَا إنْ كَانَ مَثَلًا يُقْصَدُ التِّجَارَةَ مَعَ الْحَجِّ فَكَانَ عَقْدُ السَّفَرِ اسْتِعَانَةً فِيهِ إذَا عَجَزَ عَنْهُ كَمَا هُوَ فِي حِفْظِ الْأَمْتِعَةِ وَالدَّوَابِّ أَوْ أَقْوَى.

فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْإِذْنِ ثَابِتَةً وَالْعِلْمُ بِجَوَازِهِ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ الَّذِي دَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَهُوَ كَوْنُهُ شَرْطًا وَالشَّرْطُ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، كَمَنْ أَجْرَى الْمَاءَ عَلَى أَعْضَاءِ مُحْدِثٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُتَوَضِّئًا، أَوْ غَطَّى عَوْرَةَ عُرْيَانٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحَصِّلًا لِلشَّرْطِ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ مَنْصُوبٌ فَيُقَامُ وُجُودُهُ مَقَامَ الْعِلْمِ بِهِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كُلِّفَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَلِذَا لَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَجَهِلَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ مَثَلًا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُجَرِّدُوهُ وَيُلْبِسُوهُ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ لِأَنَّ النِّيَابَةَ ظَهَرَ أَنَّ مَعْنَاهَا إيجَادُ الشَّرْطِ فِي الْمَنُوبِ عَنْهُ كَالتَّوْضِئَةِ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنْ لَيْسَ مَعْنَى الْإِحْرَامِ عَنْهُ ذَلِكَ، بَلْ أَنْ يُحْرِمُوا هُمْ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَيَصِيرَ هُوَ مُحْرِمًا بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَرِّدُوهُ، حَتَّى إذَا أَفَاقَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَفْعَالُ وَالْكَفُّ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْرِمَ بِنَفْسِهِ.

فَالْجَوَابُ التَّجْرِيدُ وَإِلْبَاسُ غَيْرِ الْمَخِيطِ لَيْسَ وِزَانَ التَّوْضِئَةِ الَّتِي هِيَ الشَّرْطُ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ الْإِحْرَامَ بَلْ كَفٌّ عَنْ بَعْضِ الْمَحْظُورَاتِ، أَعْنِي لُبْسَ الْمَخِيطِ، وَإِنَّمَا الْإِحْرَامُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ هُوَ صَيْرُورَتُهُ مُحْرِمًا عَلَيْهِ أَشْيَاءُ مُوجِبًا عَلَيْهِ الْمُضِيَّ فِي أَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ. وَآلَةُ ثُبُوتِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمُسَمَّى بِالْإِحْرَامِ نِيَّةُ الْتِزَامِ نُسُكٍ مَعَ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا. وَنِيَابَتُهُمْ إنَّمَا هِيَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الشَّرْطِ، فَوَجَبَ كَوْنُ الَّذِي هُوَ إلَيْهِمْ أَنْ يَنْوُوا وَيُلَبُّوا عَنْهُ فَيَصِيرُ هُوَ بِذَلِكَ مُحْرِمًا، كَمَا لَوْ نَوَى هُوَ وَلَبَّى، وَيَنْتَقِلُ إحْرَامُهُمْ إلَيْهِ حَتَّى كَانَ لِلرَّفِيقِ أَنْ يُحْرِمَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ ذَلِكَ. وَإِذَا بَاشَرَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْقَارِنِ لِأَنَّهُ فِي إحْرَامَيْنِ وَهَذَا فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ لِانْتِقَالِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ إلَى الْمَنُوبِ عَنْهُ شَرْعًا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ اسْتَمَرَّ مُغْمًى عَلَيْهِ إلَى وَقْتِ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ، هَلْ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدُوا بِهِ الْمَشَاهِدَ فَيُطَافُ بِهِ وَيُسْعَى وَيُوقَفَ أَوْ لَا بَلْ مُبَاشَرَةُ الرُّفْقَةِ لِذَلِكَ عَنْهُ تُجْزِيهِ، فَاخْتَارَ طَائِفَةٌ الْأَوَّلَ، وَعَلَيْهِ يَمْشِي التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ الثَّانِيَ وَجَعَلَهُ فِي الْمَبْسُوطِ الْأَصَحَّ وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَوْلَى لَا مُتَعَيَّنٌ. وَعَلَى هَذَا يَجِبُ كَوْنُ الدَّلِيلِ الَّذِي دَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي أُقِيمَ وُجُودُهُ مَقَامَ الْعِلْمِ بِهِ هُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ: أَعْنِي الْحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا فِي اسْتِنَابَةِ الَّذِي زَمِنَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَوْصَى بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ قَبْلَ الْأَفْعَالِ تَبَيَّنَ أَنَّ عَجْزَهُ كَانَ فِي الْإِحْرَامِ فَقَطْ فَصَحَّتْ نِيَابَتُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ ثُمَّ يَجْرِي هُوَ بِنَفْسِهِ عَلَى مُوجِبِهِ، فَإِنْ لَمْ يُفِقْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ الْكُلِّ فَأَجْرَوْا هُمْ عَلَى مُوجِبِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الرَّفِيقَ بِفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ شَيْءٌ عَنْ هَذَا الْإِحْرَامِ، بِخِلَافِ النَّائِبِ فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّهُ يَتَوَقَّعُ إفَاقَةَ هَذَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْأَدَاءُ بِنَفْسِهِ لِعَدَمِ الْعَجْزِ فَنَقَلْنَا الْإِحْرَامَ إلَيْهِ، لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَنْقُلْ الْإِحْرَامَ إلَيْهِ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَفَاتَهُ الْحَجُّ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهُوَ أَنْ يُفِيقَ

ص: 512

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِعَدَمِ الْعَجْزِ عَنْ بَاقِي الْأَفْعَالِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ تَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ لِلْأَدَاءِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

وَمَا جُعِلَ عَقْدُ الرُّفْقَةِ أَوْ الْعِلْمِ بِحَالِهِ دَلِيلَ الْإِذْنِ إلَّا كَيْ لَا يَفُوتَ مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا السَّفَرِ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ انْتَفَى فِيهِ ذَلِكَ فَانْتَفَى مُوجِبُ النَّقْلِ عَنْ الْمُبَاشِرِ لِلْإِحْرَامِ. وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَطِيفَ بِهِ الْمَنَاسِكَ فَإِنَّهُ يُجْزِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ وَقَدْ سَبَقَتْ النِّيَّةُ مِنْهُ، فَهُوَ كَمَنْ نَوَى الصَّلَاةَ فِي ابْتِدَائِهَا ثُمَّ أَدَّى الْأَفْعَالَ سَاهِيًا لَا يَدْرِي مَا يَفْعَلُ أَجْزَأَهُ لِسَبْقِ النِّيَّةِ اهـ.

وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ لِبَعْضِ أَرْكَانِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الطَّوَافُ. بِخِلَافِ سَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ هَذِهِ النِّيَّةُ. وَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِنَابَةِ فِيمَا يَعْجَزُ عَنْهُ ثَابِتٌ بِمَا قُلْنَا. فَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَيُشْتَرَطُ نِيَّتُهُمْ الطَّوَافَ إذَا حَمَلُوهُ فِيهِ كَمَا تُشْتَرَطُ نِيَّتُهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ تَعَيُّنِ حَمْلِهِ وَالشُّهُودِ، وَلَا أَعْلَمُ تَجْوِيزَ ذَلِكَ عَنْهُمْ. فِي الْمُنْتَقَى.

رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: رَجُلٌ أَحْرَمَ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ أَصَابَهُ عَتَهٌ فَقَضَى بِهِ أَصْحَابُهُ الْمَنَاسِكَ وَوَقَفُوا بِهِ فَلَبِثَ بِذَلِكَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ وَهُوَ صَحِيحٌ أَوْ مَرِيضٌ إلَّا أَنَّهُ يَعْقِلُ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَطَافُوا بِهِ فَلَمَّا قَضَى الطَّوَافَ أَوْ بَعْضَهُ أَفَاقَ وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَلَمْ يُتِمَّ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عَنْ طَوَافِهِ.

وَفِيهِ أَيْضًا: لَوْ أَنَّ رَجُلًا مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ الطَّوَافَ إلَّا مَحْمُولًا وَهُوَ يَعْقِلُ نَامَ مِنْ غَيْرِ عَتَهٍ فَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَطَافُوا بِهِ، أَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُ وَيَطُوفُوا بِهِ فَلَمْ يَفْعَلُوا حَتَّى نَامَ ثُمَّ احْتَمَلُوهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَطَافُوا بِهِ أَوْ حَمَلُوهُ حِينَ أَمَرَهُمْ بِحَمْلِهِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ فَلَمْ يَدْخُلُوا بِهِ الطَّوَافَ حَتَّى نَامَ فَطَافُوا بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ.

رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُمْ إذَا طَافُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ لَا يُجْزِيهِ، وَلَوْ أَمَرَهُمْ ثُمَّ نَامَ فَحَمَلُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَطَافُوا بِهِ أَجْزَأَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلُوا بِهِ الطَّوَافَ أَوْ تَوَجَّهُوا بِهِ نَحْوَهُ فَنَامَ وَطَافُوا بِهِ أَجْزَأَهُ. وَلَوْ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ عِنْدَهُ: اسْتَأْجِرْ لِي مَنْ يَطُوفُ بِي وَيَحْمِلُنِي ثُمَّ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ وَنَامَ وَلَمْ يَمْضِ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ مِنْ فَوْرِهِ بَلْ تَشَاغَلَ بِغَيْرِهِ طَوِيلًا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَحْمِلُونَهُ وَأَتَوْهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَطَافُوا بِهِ قَالَ: أَسْتَحْسِنُ إذَا كَانَ عَلَى فَوْرِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ.

فَأَمَّا إذَا طَالَ ذَلِكَ وَنَامَ فَأَتَوْهُ وَحَمَلُوهُ وَهُوَ نَائِمٌ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الطَّوَافِ، وَلَكِنَّ الْإِحْرَامَ لَازِمٌ بِالْأَمْرِ. قَالَ: وَالْقِيَاسُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا يُجْزِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ الطَّوَافَ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ يَنْوِي الدُّخُولَ فِيهِ، لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا إذَا حَضَرَ ذَلِكَ فَنَامَ وَقَدْ أَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ فَطَافَ بِهِ أَنَّهُ يُجْزِيهِ.

وَحَاصِلُ هَذِهِ الْفُرُوعِ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي اشْتِرَاطِ صَرِيحِ الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ فِي النَّائِمِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ. اسْتَأْجَرَ رِجَالًا فَحَمَلُوا امْرَأَةً فَطَافُوا بِهَا وَنَوَوْا الطَّوَافَ أَجْزَأَهُمْ وَلَهُمْ الْأُجْرَةُ وَأَجْزَأَ الْمَرْأَةَ. وَإِنْ نَوَى الْحَامِلُونَ طَلَبَ غَرِيمٍ لَهُمْ الْمَحْمُولُ يَعْقِلُ وَقَدْ نَوَى الطَّوَافَ أَجْزَأَ الْمَحْمُولُ دُونَ الْحَامِلِينَ، وَإِنْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ لِانْتِفَاءِ النِّيَّةِ مِنْهُ وَمِنْهُمْ. أَمَّا جَوَازُ الطَّوَافِ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ حِينَ أَحْرَمَتْ نَوَتْ الطَّوَافَ ضِمْنًا، وَإِنَّمَا تُرَاعَى النِّيَّةُ وَقْتَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَدَاءِ. وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَقَعَتْ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَضْعًا، وَإِذَا حَمَلُوهَا وَطَافُوا وَلَا يَنْوُونَ الطَّوَافَ بَلْ طَلَبَ غَرِيمٍ لَا يُجْزِيهَا إذَا كَانَتْ مُغْمًى عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ مَا أَتَوْا بِالطَّوَافِ وَإِنَّمَا أَتَوْا بِطَلَبِ الْغَرِيمِ وَالْمُنْتَقَلُ إلَيْهَا إنَّمَا هُوَ فِعْلُهُمْ فَلَا

ص: 513

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» (وَلَوْ سَدَلَتْ شَيْئًا عَلَى وَجْهِهَا وَجَافَتْهُ عَنْهُ جَازَ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالْمُحْمَلِ (وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ (وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ) لِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ (وَلَا تَحْلِقُ وَلَكِنْ تُقَصِّرُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى النِّسَاءَ عَنْ الْحَلْقِ وَأَمَرَهُنَّ بِالتَّقْصِيرِ» وَلِأَنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ فِي حَقِّهَا مُثْلَةٌ كَحَلْقِ اللِّحْيَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ (وَتَلْبَسُ مِنْ الْمَخِيطِ مَا بَدَا لَهَا) لِأَنَّ فِي لُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ. قَالُوا: وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ، لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ مُمَاسَّةِ الرِّجَالِ إلَّا أَنْ تَجِدَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا.

قَالَ (وَمَنْ قُلِّدَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ» وَلِأَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إظْهَارِ الْإِجَابَةِ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ قَدْ

يُجْزِيهَا إلَّا إذَا كَانَتْ مُفِيقَةً وَنَوَتْ الطَّوَافَ

(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا») تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ قَالَتْ:«كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْنَا سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ» .

قَالُوا: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَسْدِلَ عَلَى وَجْهِهَا شَيْئًا وَتُجَافِيَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِذَلِكَ أَعْوَادًا كَالْقُبَّةِ تُوضَعُ عَلَى الْوَجْهِ وَيُسْدَلُ فَوْقَهَا الثَّوْبُ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ إبْدَاءِ وَجْهِهَا لِلْأَجَانِبِ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَكَذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَتَلْبَسُ مِنْ الْمَخِيطِ مَا بَدَا لَهَا) كَالدِّرْعِ وَالْقَمِيصِ وَالْخُفَّيْنِ وَالْقُفَّازَيْنِ، لَكِنْ لَا تَلْبَسُ الْمُوَرَّسَ وَالْمُزَعْفَرَ وَالْمُعَصْفَرَ

(قَوْلُهُ أَوْ جَزَاءُ صَيْدٍ) إمَّا بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ جَزَاءُ صَيْدٍ فِي حَجَّةٍ سَابِقَةٍ فَقَلَّدَهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ اشْتَرَى بِقِيمَتِهِ هَدْيًا (قَوْلُهُ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ) أَفَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: التَّقْلِيدُ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهَا وَنِيَّةُ النُّسُكِ. وَمَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ قَلَّدَ بَدَنَةً بِغَيْرِ نِيَّةِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَلَوْ سَاقَهَا هَدْيًا قَاصِدًا إلَى مَكَّةَ صَارَ مُحْرِمًا بِالسَّوْقِ نَوَى الْإِحْرَامَ أَوْ لَمْ يَنْوِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.

وَمَا فِي الْإِيضَاحِ مِنْ قَوْلِهِ السُّنَّةُ أَنْ يُقَدِّمَ التَّلْبِيَةَ عَلَى التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ إذَا قَلَّدَهَا فَرُبَّمَا تَسِيرُ فَيَصِيرُ شَارِعًا فِي الْإِحْرَامِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ الشُّرُوعُ بِالتَّلْبِيَةِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ نَاوِيًا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً» إلَخْ) غَرِيبٌ مَرْفُوعًا، وَوَقَفَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ قَلَّدَ فَقَدْ أَحْرَمَ.

حَدَّثَنَا وَكِيعٌ

ص: 514

يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِفِعْلٍ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ. وَصِفَةُ التَّقْلِيدِ أَنْ يَرْبِطَ عَلَى عُنُقِ بَدَنَتِهِ قِطْعَةَ نَعْلٍ أَوْ عُرْوَةَ مُزَادَةٍ أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ (فَإِنْ قَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا وَلَمْ يَسْقِهَا لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام فَبَعَثَ بِهَا وَأَقَامَ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا» (فَإِنْ تَوَجَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يُلْحِقَهَا) لِأَنَّ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هَدْيٌ يَسُوقُهُ لَمْ يُوجَدْ

عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَلَّدَ أَوْ جَلَّلَ أَوْ أَشْعَرَ فَقَدْ أَحْرَمَ. ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا قَلَّدَ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ أَحْرَمَ. وَوَرَدَ مَعْنَاهُ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ بَنِي جَابِرٍ يُحَدِّثَانِ عَنْ أَبِيهِمَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم إذْ شَقَّ قَمِيصَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ فَسُئِلَ فَقَالَ: وَاعَدَتْهُمْ يُقَلِّدُونَ هَدْيِي الْيَوْمَ فَنَسِيتُ» وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ مِنْ جِهَةِ الْبَزَّارِ قَالَ: وَلِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٌ وَعَقِيلٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ هُمَا مِنْ الثَّلَاثَةِ.

وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ، وَضَعَّفَ ابْنُ عَبْدِ الْحَقِّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَطَاءٍ وَوَافَقَهُمَا ابْنُ الْقَطَّانِ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيّ: أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه كَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ، فَقَامَ غُلَامُهُ فَقَلَّدَ هَدْيَهُ، فَنَظَرَ إلَيْهِ قَيْسٌ فَأَهَلَّ وَحَلَّ شِقَّ رَأْسِهِ الَّذِي رَجَّلَهُ وَلَمْ يُرَجِّلْ الشِّقَّ الْآخَرَ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مُخْتَصَرًا عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِأَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ اهـ (قَوْلُهُ أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ) هُوَ بِالْمَدِّ قِشْرُهَا، وَالْمَعْنِيُّ بِالتَّقْلِيدِ إفَادَةُ أَنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ يَصِيرُ جِلْدًا كَهَذَا اللِّحَاءِ وَالنَّعْلِ فِي الْيُبُوسَةِ لِإِرَاقَةِ دَمِهِ، وَكَانَ فِي الْأَصْلِ يُفْعَلُ ذَلِكَ كَيْ لَا تُهَاجَ عَنْ الْوُرُودِ وَالْكَلَإِ وَلِتَرِدَ إذَا ضَلَّتْ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا هَدْيٌ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْهَا «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَدْيِ فَأَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا بِيَدَيَّ مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدَنَا ثُمَّ أَصْبَحَ فِينَا حَلَالًا يَأْتِي مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ» وَفِي لَفْظٍ «لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَبْعَثُ بِهِ ثُمَّ يُقِيمُ فِينَا حَلَالًا» وَأَخْرَجَا وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ «أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَجُلًا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إلَى الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسُ فِي الْمِصْرِ فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ فَلَا يَزَالُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ، قَالَ: فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَقَالَتْ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ

ص: 515

مِنْهُ إلَّا مُجَرَّدَ النِّيَّةِ، وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ اقْتَرَنَتْ نِيَّتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَيَصِيرُ مُحْرِمًا كَمَا لَوْ سَاقَهَا فِي الِابْتِدَاءِ. قَالَ (إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ مُحْرِمٌ حِينَ تَوَجَّهَ) مَعْنَاهُ إذَا نَوَى الْإِحْرَامَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا.

وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا الْهَدْيَ مَشْرُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ نُسُكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَضْعًا لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَكَّةَ، وَيَجِبُ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ، وَغَيْرُهُ قَدْ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مَكَّةَ فَلِهَذَا اكْتَفَى فِيهِ بِالتَّوَجُّهِ، وَفِي غَيْرِهِ تَوَقُّفٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْفِعْلِ

(فَإِنْ جَلَّلَ بَدَنَةً أَوْ أَشْعَرَهَا أَوْ قَلَّدَ شَاةً لَمْ يَكُنْ

- صلى الله عليه وسلم فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إلَى الْكَعْبَةِ، فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا أُحِلَّ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ» اهـ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «مِنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: رضي الله عنها: لَيْسَ كَمَا قَالَ، أَنَا فَتَلْت قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي ثُمَّ قَلَّدَهَا ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ» وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يُخَالِفَانِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ صَرِيحًا فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِغَلَطِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ عَدَمِ التَّوَجُّهِ مَعَهَا لَا يُوجِبُ الْإِحْرَامَ.

وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآثَارِ مُطْلَقَةً فِي إثْبَاتِ الْإِحْرَامِ فَقَيَّدْنَاهَا بِهِ حَمْلًا لَهَا عَلَى مَا إذَا كَانَ مُتَوَجِّهًا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَشَرَطْنَا النِّيَّةَ مَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا عِبَادَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ بِالنَّصِّ فَكُلُّ شَيْءٍ رُوِيَ مِنْ التَّقْلِيد مَعَ عَدَمِ الْإِحْرَامِ، فَمَا كَانَ مَحَلُّهُ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِ التَّوَجُّهِ وَالنِّيَّةِ فَلَا يُعَارِضُ الْمَذْكُورَ شَيْءٌ مِنْهَا.

وَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ لَبَّى وَلَمْ يَنْوِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فِي الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هُنَاكَ رِوَايَةً بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهَا مَعَ التَّلْبِيَةِ، وَمَا أَظُنُّهُ إلَّا نَظَرَ إلَى بَعْضِ الْإِطْلَاقَاتِ، وَيَجِبُ فِي مِثْلِهَا الْحَمْلُ عَلَى إرَادَةِ الصَّحِيحِ وَأَنْ لَا تُجْعَلَ رِوَايَةً (قَوْلُهُ فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا) رَدَّدَ بَيْنَ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ. شَرَطَ فِي الْمَبْسُوطِ السَّوْقَ مَعَ اللُّحُوقِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَسُوقُهُ وَيَتَوَجَّهُ مَعَهُ وَهُوَ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ، فَلَوْ أَدْرَكَ فَلَمْ يَسُقْ وَسَاقَ غَيْرُهُ فَهُوَ كَسَوْقِهِ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ (قَوْلُهُ إلَّا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَهَا

ص: 516

مُحْرِمًا) لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالذُّبَابِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ. وَالْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا يَكُونُ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ. وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ حَسَنًا فَقَدْ يُفْعَلُ لِلْمُعَالَجَةِ، بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْهَدْيِ، وَتَقْلِيدُ الشَّاةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ أَيْضًا.

قَالَ (وَالْبُدْنُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: مِنْ الْإِبِلِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ الْجُمُعَةِ «فَالْمُتَعَجِّلُ مِنْهُمْ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، وَاَلَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً» فَصَلَ بَيْنَهُمَا. وَلَنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلِهَذَا يُجْزِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ. وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ «كَالْمُهْدِي جَزُورًا» وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

يَعْنِي حِينَ خَرَجَ عَلَى إثْرِهَا وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا اسْتِحْسَانًا. وَهُنَا قَيْدٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ بِالتَّقْلِيدِ، وَالتَّوَجُّهِ إذَا حَصَلَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ حَصَلَا فِي غَيْرِهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يُدْرِكْهَا وَيَسِرْ مَعَهَا، كَذَا فِي الرُّقَيَّاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْلِيدَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا عِبْرَةَ بِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُتْعَةِ، وَأَفْعَالُ الْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَيَكُونُ تَطَوُّعًا. وَفِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ وَيَسِرْ مَعَهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا.

وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ: دَمُ الْقِرَانِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُتْعَةِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ. وَحَاصِلُ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ زِيَادَةُ خُصُوصِيَّةِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ بِالْحَجِّ، فَالتَّوَجُّهُ إلَيْهِ تَوَجُّهٌ إلَى مَا فِيهِ زِيَادَةُ خُصُوصِيَّةٍ بِالْحَجِّ حَتَّى شَرَطَ لِذَبْحِهِ الْحَرَمَ وَيَبْقَى بِسَبَبِ سَوْقِهِ الْإِحْرَامُ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْإِحْرَامِ بَقَاءً أَظْهَرْنَا لَهُ فِي ابْتِدَائِهِ نَوْعَ اخْتِصَاصٍ، وَهُوَ أَنَّ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ مَعَ قَصْدِ الْإِحْرَامَ يَصِيرُ مُحْرِمًا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مَكَّةَ وَيَذْبَحُ قَبْلَ مَكَّةَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ شَرْعًا فِي الْإِحْرَامِ أَصْلًا

(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إلَخْ) هَذَا خِلَافٌ فِي مَفْهُومِ لَفْظِ الْبَدَنَةِ إمَّا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ أَوْ لَا فَقُلْنَا نَعَمْ وَنَقَلْنَا كَلَامَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْبَدَنَةُ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ تُهْدَى إلَى مَكَّةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْبَدَنَةُ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ. وَإِمَّا فِي أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَلَكِنَّهُ هَلْ هُوَ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْمَفْهُومِ مِنْهُ لُغَةً؟ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَوْ لَا فَقُلْنَا نَعَمْ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا. فَإِذَا طُلِبَ مِنْ الْمُكَلَّفِ بَدَنَةٌ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْبَقَرَةِ كَمَا يَخْرُجُ بِالْجَزُورِ. وَعِنْدَهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِالْجَزُورِ. لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً» الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ كَالْمُهْدِي جَزُورًا غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هِيَ أَصَحُّ لِأَنَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَرِوَايَةُ الْجَزُورِ فِي مُسْلِمٍ فَقَطْ وَلَفْظُهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَكٌ يَكْتُبُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ مِثْلُ الْجَزُورِ، ثُمَّ صَغَّرَ إلَى مِثْلِ الْبَيْضَةِ» الْحَدِيثَ.

بَلْ الْجَوَابُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِاسْمٍ خَاصٍّ لَا يَنْفِي الدُّخُولَ بِاسْمٍ عَامٍّ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاسْمِ الْأَعَمِّ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الْبَدَنَةُ خُصُوصَ بَعْضِ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ الْجَزُورُ، لَا كُلُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةِ إعْطَاءِ الْبَقَرَةِ لِمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فِي مَقَامَ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَجْرِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمُسَارَعَةِ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ فِي الشَّرْعِ خُصُوصُ الْجَزُورِ إلَّا ظَاهِرًا بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ الْأَخَصِّ بِخُصُوصِهِ بِالْأَعَمِّ لَكِنْ يَلْزَمُهُ النَّقْلُ.

وَالْحُكْمُ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظٍ فِي خُصُوصِ بَعْضِ مَا صَدَقَاتِهِ مَعَ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ مَا اسْتَقَرَّ

ص: 517

‌بَابُ الْقِرَانِ

(الْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ)

لَهُ عَلَى حَالِهِ أَسْهَلُ مِنْ الْحُكْمِ بِنَقْلِهِ عَنْهُ بِسَبَبِ اسْتِعْمَالٍ مِنْ الِاسْتِعْمَالَاتِ مِنْ غَيْرِ كَثْرَةٍ فِيهِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْحُكْمَيْنِ وَلُزُومِ أَحَدِهِمَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ لِسَانِ أَهْلِ الْعُرْفِ الَّذِي يَدَّعِي نَقْلَهُ إلَيْهِ خِلَافُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ «كُنَّا نَنْحَرُ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، فَقِيلَ: وَالْبَقَرَةُ؟ فَقَالَ: وَهَلْ هِيَ إلَّا مِنْ الْبُدْنِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.

فَرْعٌ

اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي بَدَنَةٍ فَقَلَّدَهَا أَحَدُهُمْ صَارُوا مُحْرِمِينَ إنْ كَانَ بِأَمْرِ الْبَقِيَّةَ وَسَارُوا مَعَهَا. وَيُسْتَحَبُّ التَّجْلِيلُ وَالتَّصَدُّقُ بِالْجِلِّ لِأَنَّهُ أَعْمَلُ فِي الْكَرَامَةِ، وَهَدَايَاهُ عليه الصلاة والسلام كَانَتْ مُجَلَّلَةً مُقَلَّدَةً. وَقَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه «تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا» وَالتَّقْلِيدُ أَحَبُّ مِنْ التَّجْلِيلِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ، إلَّا فِي الشَّاةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله.

(بَابُ الْقِرَانِ)

الْمُحْرِمُ إنْ أَفْرَدَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ فَمُفْرِدٌ بِالْحَجِّ، وَإِنْ أَفْرَدَ بِالْعُمْرَةِ فَإِمَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ قَبْلَهَا إلَّا أَنَّهُ أَوْقَعَ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ طَوَافِهَا فِيهَا أَوَّلًا. الثَّانِي مُفْرِدٌ بِالْعُمْرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَيْضًا كَذَلِكَ إنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ، أَوْ حَجَّ وَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا، وَإِنْ حَجَّ وَلَمْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا فَمُتَمَتِّعٌ، وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْإِلْمَامِ الصَّحِيحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ لَمْ يُفْرِدْ الْإِحْرَامَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا، أَوْ أَدْخَلَ إحْرَامَ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَقَارِنٌ بِلَا إسَاءَةٍ، وَإِنْ أَدْخَلَ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلْقُدُومِ وَلَوْ شَوْطًا فَقَارِنٌ مُسِيءٌ، لِأَنَّ الْقَارِنَ مَنْ يَبْنِي الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي الْأَفْعَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْنِيَهُ أَيْضًا فِي الْإِحْرَامِ أَوْ يُوجِدَهُمَا مَعًا، فَإِذَا خَالَفَ أَسَاءَ وَصَحَّ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَبْنِيَ الْأَفْعَالَ إذَا لَمْ يَطُفْ شَوْطًا، فَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ بِالْعُمْرَةِ حَتَّى طَافَ شَوْطًا رَفَضَ.

الْعُمْرَةَ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَدَمٌ لِلرَّفْضِ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّرْتِيبِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا طَوَافَ قُدُومٍ لِلْعُمْرَةِ. هَذَا كَلَامُهُمْ فِي الْقَارِنِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي الْقِرَانِ إيقَاعُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا عَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ طَافَ فِي رَمَضَانَ لِعُمْرَتِهِ فَهُوَ قَارِنٌ، وَلَكِنْ لَا دَمَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَطُفْ لِعُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَسَيَأْتِيك تَحْقِيقُ الْمَقَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ التَّمَتُّعِ (قَوْلُهُ الْقِرَانُ أَفْضَلُ إلَخْ) الْمُرَادُ بِالْإِفْرَادِ فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنْ يَأْتِيَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مُفْرِدًا خِلَافًا

ص: 518

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْإِفْرَادُ

لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ قَوْلِهِ: حَجَّةٌ كُوفِيَّةٌ وَعُمْرَةٌ كُوفِيَّةٌ أَفْضَلُ عِنْدِي مِنْ الْقِرَانِ، أَمَّا مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى إحْدَاهُمَا فَلَا إشْكَالَ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ.

وَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ تَرْجِعُ إلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي حَجَّتِهِ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا، فَاَلَّذِي يُهِمُّنَا النَّظَرُ فِي ذَلِكَ، وَلْنُقَدِّمْ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ لِنُوفِيَ بِتَقْرِيرِ الْكِتَابِ ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى تَحْرِيرِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ. اسْتَدَلَّ لِلْخُصُومِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْقِرَانُ رُخْصَةٌ» وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ.

وَلِلْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يَا أَهْلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا» رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ، وَسَنَذْكُرُهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْحَقِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنَقُولُ: اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي إحْرَامِهِ عليه الصلاة والسلام. فَذَهَبَ قَائِلُونَ إلَى أَنَّهُ أَحْرَمَ مُفْرِدًا وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي سُفْرَتِهِ تِلْكَ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ أَفْرَدَ وَاعْتَمَرَ فِيهَا مِنْ التَّنْعِيمِ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَحِلَّ لِأَنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَحَلَّ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ، وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ لَهُمَا وَهَذَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا. وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَجَّةٍ» فَهَذَا التَّقْسِيمُ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ لَمْ يَضُمَّ إلَيْهِ غَيْرَهُ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا» . وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ» وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ» وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ «حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ. ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ،

ص: 519

أَفْضَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ

ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى، مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوَّلَ مِنْ الطَّوَافِ ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْدَآنِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لَا تَحِلَّانِ».

فَهَذِهِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْرَدَ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مَعَ كَثْرَةِ مَا نُقِلَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ بَعْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ، وَمَنْ ادَّعَاهُ فَإِنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى مَا رَأَى مِنْ فِعْلِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اعْتِمَارِهِمْ بَعْدَ الْحَجِّ مِنْ التَّنْعِيمِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَمَّ بِهَذَا مَذْهَبُ الْإِفْرَادِ. وَجْهُ الْقَائِلِينَ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، وَلَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ» وَعَنْ عَائِشَةَ «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ» بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ: أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَعَلَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَلَكِنِّي كَرِهْت أَنْ يَظَلُّوا مُعَرِّسِينَ بِهِنَّ فِي الْأَرَاكِ ثُمَّ يَرُوحُونَ فِي الْحَجِّ تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ مُتَمَتِّعًا. وَقَدْ عَلِمْت مِنْ هَذَا أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ الْإِفْرَادَ عَائِشَةُ، وَابْنُ عُمَرَ رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا.

وَأَمَّا رِوَايَةُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فَقَوْلُهُ فِي الْكُلِّ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، يَعْنِي ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إحْرَامُ الْحَجِّ يُفْعَلُ بِهِ عُمْرَةٌ بِفَسْخِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلُ تَرْكِ النَّاسِ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ لِمَا عَلِمُوا مِنْ دَلِيلِ مَنْعِهِ مِمَّا أَسْلَفْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ إلَخْ. ثُمَّ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ بِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ فَثَبَتَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ أَحَلَّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ «قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ» قَالُوا: وَمُعَاوِيَةُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا فِي الْفَتْحِ فَلَزِمَ كَوْنُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَوْنُهُ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لِمَا زَادَهُ أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَتِهِ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَالتَّقْصِيرُ فِي الْحَجِّ إنَّمَا يَكُونُ فِي مِنًى.

فَدَفَعَهُ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَمِ إحْلَالِهِ جَاءَتْ مَجِيئًا مُتَظَافِرًا يَقْرُبُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ الشُّهْرَةِ الَّتِي هِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ التَّوَاتُرِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ، وَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَسْخِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَكَثِيرٍ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْهَا فِي أَدِلَّةِ الْقِرَانِ.

وَلَوْ انْفَرَدَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَدِيث مُعَاوِيَةَ. فَكَيْفَ وَالْحَالُ مَا أَعْلَمْنَاك فَلَزِمَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الشُّذُوذُ عَنْ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، فَإِمَّا هُوَ خَطَأٌ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ إذْ ذَاكَ، وَهِيَ عُمْرَةٌ خَفِيَتْ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَيْلًا عَلَى مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا، فَقَضَى عُمْرَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ» الْحَدِيثَ. قَالَ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خَفِيَتْ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْحُكْمُ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَهِيَ قَوْلُهُ «فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ» بِالْخَطَإِ، وَلَوْ كَانَتْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، إمَّا لِنِسْيَانٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَوْ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ عَنْهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا شَكَّ أَنْ تَتَرَجَّحَ رِوَايَةُ تَمَتُّعِهِ لِتَعَارُضِ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ الْإِفْرَادُ، وَسَلَامَةِ رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ رَوَى التَّمَتُّعَ دُونَ الْإِفْرَادِ، وَلَكِنَّ التَّمَتُّعَ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَعُرْفِ الصَّحَابَةِ

ص: 520

عليه الصلاة والسلام «الْقِرَانُ رُخْصَةٌ» وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ التَّلْبِيَةِ وَالسَّفَرَ وَالْحَلْقَ

أَعَمُّ مِنْ الْقِرَانِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْفَرْدُ الْمُسَمَّى بِالْقِرَانِ فِي الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ وَهُوَ مُدَّعَانَا، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْفَرْدُ الْمَخْصُوصُ بِاسْمِ التَّمَتُّعِ فِي ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ أَوَّلًا فِي أَنَّهُ أَعَمُّ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ أَوْ لَا، وَثَانِيًا فِي تَرْجِيحِ أَيِّ الْفَرْدَيْنِ بِالدَّلِيلِ، وَالْأَوَّلُ يَبِينُ فِي ضِمْنِ التَّرْجِيحِ وَثَمَّ دَلَالَاتٌ أُخَرُ عَلَى التَّرْجِيحِ مُجَرَّدَةٌ عَنْ بَيَانِ عُمُومِهِ عُرْفًا.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بِعُسْفَانَ فَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنْهَى عَنْهُ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْنَا مِنْك، فَقَالَ عَلِيٌّ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَك، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.

وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بِعُسْفَانَ فِي الْمُتْعَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ مَا تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُهِلًّا بِهِمَا، وَسَيَأْتِيك عَنْ عَلِيٍّ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَيُفِيدُ أَيْضًا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا تَمَتُّعٌ، فَإِنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَقَصَدَ عَلِيٌّ إظْهَارَ مُخَالَفَتِهِ تَقْرِيرًا لِمَا فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ فَقَرَنَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُخَالَفَةً إذَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُثْمَانُ هِيَ الْقِرَانُ فَدَلَّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ عَيَّنَاهُمَا وَتَضَمَّنَ اتِّفَاقُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ عَلَى أَنَّ الْقِرَانَ مِنْ مُسَمَّى التَّمَتُّعِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ:«تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّمَتُّعِ الَّذِي نُسَمِّيهِ قِرَانًا» لَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ اللَّفْظَ، فَكَيْفَ وَقَدْ وُجِدَ عَنْهُ مَا يُفِيدُ مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ قَرَنَ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْفَرْدُ الْمُسَمَّى بِالْقِرَانِ، وَكَذَا يَلْزَمُ مِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ» لَوْ لَمْ يُوجَدْ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَكَيْفَ وَقَدْ وُجِدَ، وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ لِمُطَرِّفٍ: أُحَدِّثُك حَدِيثًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَك بِهِ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ» وَكَذَا يَجِبُ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، لَوْ لَمْ يُوجَدْ عَنْهَا مَا يُخَالِفُهُ فَكَيْفَ وَقَدْ وَجَدَ، مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَهُوَ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النُّفَيْلِيِّ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ.

حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ، سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما:«كَمْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَرَّتَيْنِ» ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ ثَلَاثًا سِوَى الَّتِي قَرَنَ بِحَجَّتِهِ.

وَكَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ: يَعْنِي بِقِسْمَيْهَا. وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه لَهُ: قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ وَأَصْحَابُهُ: أَيْ فَعَلُوا مَا يُسَمَّى مُتْعَةً فَهُوَ عليه الصلاة والسلام فَعَلَ النَّوْعَ الْمُسَمَّى بِالْقِرَانِ وَهُمْ فَعَلُوا النَّوْعَ الْمَخْصُوصَ بِاسْمِ الْمُتْعَةِ فِي عُرْفِنَا بِوَاسِطَةِ فَسْخِ الْحَجِّ إلَى عُمْرَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِ عُمَرَ بِهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي عز وجل فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ» وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ فِي مَنَامِهِ الَّذِي هُوَ وَحْيٌ.

وَمَا فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ الْأَعْمَشِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ التَّغْلِبِيِّ

ص: 521

وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا»

قَالَ: «أَهْلَلْتُ بِهِمَا مَعًا، فَقَالَ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» . وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ: وَأَصَحُّهُ إسْنَادُ حَدِيثِ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ الصُّبَيّ عَنْ عُمَرَ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، قَالَ بَكْرٌ فَحَدَّثْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: مَا تَعُدُّونَا إلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَةً» وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ إنَّ أَنَسًا كَانَ إذْ ذَاكَ صَبِيًّا لِقَصْدِ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَلَيْهِ غَلَطٌ، بَلْ كَانَ سَنُّ أَنَسٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ أَوْ إحْدَى وَتِسْعِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، ذَكَرَ ذَلِكَ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِ الْعِبَرِ، وَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَسِنُّهُ عَشْرَ سِنِينَ فَكَيْفَ يَسُوغُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِسِنِّ الصِّبَا إذْ ذَاكَ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا بَيْنَ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ فِي السِّنِّ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ سَنَةٌ وَبَعْضُ سَنَةٍ.

ثُمَّ إنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام الْإِفْرَادَ مُعَارَضَةٌ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُ التَّمَتُّعَ كَمَا أَسْمَعْنَاك وَعَلِمْت أَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّمَتُّعِ الْقِرَانُ كَمَا حَقَّقْته، وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِعْلُهُ وَنِسْبَتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى أَنَسٍ أَحَدٌ مِنْ الرُّوَاةِ فِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ قَارِنًا، قَالُوا: اتَّفَقَ عَنْ أَنَسٍ سِتَّةَ عَشَرَ رَاوِيًا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَرَنَ مَعَ زِيَادَةِ مُلَازَمَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ خَادِمَهُ لَا يُفَارِقُهُ، حَتَّى إنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ «كُنْتُ آخُذُ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ تَقْصَعُ بِجَرَّتِهَا وَلُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى يَدِي وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَحُمَيْدٍ وَيَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَسًا يَقُولُ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِهِمَا لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا» .

وَرَوَى النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ» وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ.

وَذَكَرَ وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْت أَنَسًا مِثْلَهُ قَالَ: وَحَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرَ» فَذَكَرَهَا وَقَالَ «عُمْرَةً مَعَ حَجَّةٍ» وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَحُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ، فَهَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَلَمْ تَبْقَ شُبْهَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ فِي تَقْدِيمِ الْقِرَانِ.

وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ «كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْيَمِينِ» الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ فِيهِ:«قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي عَلِيًّا فَقَالَ لِي: كَيْفَ صَنَعْتُ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَإِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ بِإِسْنَادٍ كُلُّهُ ثِقَاتٌ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ: وَقَرَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» .

وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ «مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ فَسَمِعَ عَلِيًّا يُلَبِّي بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَقَالَ: أَلَمْ تَكُنْ

ص: 522

وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الصَّوْمَ مَعَ الِاعْتِكَافِ وَالْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ

تَنْهَى عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّنِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي جَمِيعًا فَلَمْ أَدَعْ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِكَ»، وَهَذَا مَا وَعَدْنَاك مِنْ الصَّرِيحِ عَنْ عَلِيٍّ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ فِيهِ الْحُجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَفِيهِ مَقَالٌ، وَلَا يَنْزِلُ حَدِيثُهُ عَنْ الْحَسَنِ مَا لَمْ يُخَالِفْ أَوْ يَنْفَرِدْ.

قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْرَفُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ مِنْهُ وَعِيبَ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ وَقَالَ: مَنْ سَلِمَ مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: كَانَ مِنْ الْحُفَّاظِ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَهُوَ صَدُوقٌ يُدَلِّسُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إذَا قَالَ حَدَّثَنَا فَهُوَ صَالِحٌ لَا يُرْتَابُ فِي حِفْظِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ لَا تُوجِبُ طَرْحَ حَدِيثِهِ.

وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ الْبَاهِلِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: إنَّمَا «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ عَامِهِ ذَلِكَ» .

وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا» وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَهِلُّوا يَا آلَ مُحَمَّدٍ بِعُمْرَةٍ فِي حَجٍّ» وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ «حَفْصَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: إنِّي قَلَّدْتَ هَدْيِي» الْحَدِيثَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عُمْرَةٍ يَمْتَنِعُ مِنْهَا التَّحَلُّلُ قَبْلَ تَمَامِ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَّا لِلْقَارِنِ فَهَذَا وَجْهٌ إلْزَامِيٌّ، فَإِنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ عِنْدَ هُمَا لَا يَمْنَعُ الْمُتَمَتِّعَ عَنْ التَّحَلُّلِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ وَاسِعٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا وَمِمَّا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِهِ بَيْنَ رِوَايَاتِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ رِوَايَاتِ الْإِفْرَادِ سَمَاعَ مَنْ رَوَاهُ تَلْبِيَتَهُ عليه الصلاة والسلام بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إفْرَادِ ذِكْرِ نُسُكٍ فِي التَّلْبِيَةِ وَعَدَمِ ذِكْرِ شَيْءٍ أَصْلًا وَجَمْعِهِ أُخْرَى مَعَ نِيَّةِ الْقِرَانِ فَهُوَ نَظِيرُ سَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي تَلْبِيَتِهِ عليه الصلاة والسلام أَكَانَتْ دُبُرَ الصَّلَاةِ أَوْ اسْتِوَاءَ نَاقَتِهِ أَوْ حِينَ عَلَا عَلَى الْبَيْدَاءِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْإِحْرَامِ. هَذَا وَأَمَّا أَنَّهُ حِينَ قَرَنَ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ، وَلْنَرْجِعْ إلَى تَقْرِيرِ التَّرْجِيحَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ رحمه الله (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْقِرَانَ (جَمَعَ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الصَّوْمَ مَعَ الِاعْتِكَافِ وَالْحِرَاسَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ صَلَاةِ اللَّيْلِ) وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي الْأَدَاءِ مُتَعَذِّرٌ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ مَعَ الِاعْتِكَافِ وَالْحِرَاسَةِ مَعَ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةٌ فِي الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَرْكَانِ عِنْدَنَا بَلْ شَرْطٌ فَلَا يَتِمُّ التَّشْبِيهُ.

وَأَيْضًا عَلِمْت أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ مَا إذَا أَتَى بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لَكِنْ أَفْرَدَ كُلًّا مِنْهُمَا فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ يَكُونُ الْقِرَانُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ إحْرَامَيْهِمَا أَفْضَلَ، فَمُلَاقَاةُ التَّشْبِيهِ تَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَامَ يَوْمًا بِلَا اعْتِكَافٍ ثُمَّ اعْتَكَفَ يَوْمًا آخَرَ بِلَا صَوْمٍ أَوْ حَرَسَ لَيْلَةً بِلَا صَلَاةٍ وَصَلَّى لَيْلَةً بِلَا حِرَاسَةٍ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَفْضَلُ، وَهَذَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَلَا يَكُونُ إلَّا بِسَمْعٍ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَثْوِبَةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ.

(قَوْلُهُ وَالتَّلْبِيَةُ إلَخْ) دَفْعٌ لِتَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ بِزِيَادَةِ التَّلْبِيَةِ وَالسَّفَرِ وَالْحَلْقِ، فَقَالَ (التَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ) يَعْنِي لَا يَلْزَمُ زِيَادَتُهَا فِي الْإِفْرَادِ عَلَى الْقِرَانِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ

ص: 523

وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ فَلَا تَرْجِيحَ بِمَا ذُكِرَ.

وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ. وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ فِيهِ تَعْجِيلُ الْإِحْرَامِ وَاسْتِدَامَةُ إحْرَامِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى أَنْ

وَلَا مُقَدَّرَ لِكُلِّ نُسُكٍ قَدْرٌ مِنْهَا فَيَجُوزُ زِيَادَةُ تَلْبِيَةِ مَنْ قَرَنَ عَلَى مَنْ أَفْرَدَ كَمَا يَجُوز قَلْبُهُ (وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ) إلَّا لِلنُّسُكِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ عِبَادَةٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصِيرُ عِبَادَةً بِنِيَّةِ النُّسُكِ بِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْتَبَرَ نَفْسُ النُّسُكِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ سَفَرًا أَفْضَلَ مِنْ الْأَكْثَرِ سَفَرًا لِخُصُوصِيَّةٍ فِيهِ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ، فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهَا وَإِلَّا حَكَمْنَا بِالْأَفْضَلِيَّةِ تَعَبُّدًا، وَقَدْ عَلِمْنَا الْأَفْضَلِيَّةَ بِالْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَرَنَ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى هَذِهِ الْعِبَادَةَ الْوَاجِبَةَ الَّتِي لَمْ تَقَعْ لَهُ فِي عُمْرِهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً إلَّا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فِيهَا (وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ) فَلَا يُوجِبُ زِيَادَتُهُ بِالتَّكَرُّرِ زِيَادَةَ أَفْضَلِيَّةِ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فِيهِ كَمَا قُلْنَا فِيمَا قَبْلَهُ (وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ) أَيْ بِالرُّخْصَةِ فِيمَا رُوِيَ الْقِرَانُ رُخْصَةً لَوْ صَحَّ (نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ: الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ) فَكَانَ تَجْوِيزُ الشَّرْعِ إيَّاهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إلَى وَقْتٍ آخَرَ أَلْبَتَّةَ رُخْصَةَ إسْقَاطٍ فَكَانَ أَفْضَلَ، فَإِنَّ رُخْصَةَ الْإِسْقَاطِ هِيَ الْعَزِيمَةُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ كَانَتْ نَسْخًا لِلشَّرْعِ الْمَطْلُوبِ رَفْضُهُ، وَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الشَّرْعِ الْمَطْلُوبِ إظْهَارُهُ وَرَفْضِ الْمَطْلُوبِ رَفْضُهُ.

وَهُوَ أَقْوَى فِي الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ مِنْ مُجَرَّدِ اعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ وَعَدَمِ فِعْلِهِ، وَهَذَا مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَكَثِيرٌ فِي هَذَا الشَّرْحِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُهُ إذَا تُتُبِّعَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ (قَوْلُهُ وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ لِلتَّمَتُّعِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ فَقَالَ بَلْ فِيهِ وَهُوَ

ص: 524

يَفْرُغَ مِنْهُمَا، وَلَا كَذَلِكَ التَّمَتُّعُ فَكَانَ الْقِرَانُ أَوْلَى مِنْهُ. وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَنَا يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، وَعِنْدَهُ طَوَافًا وَاحِدًا سَعْيًا وَاحِدًا.

قَالَ (وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَقُولُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي) لِأَنَّ الْقِرَانَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ قَوْلِك قَرَنْت الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إذَا جَمَعْت بَيْنَهُمَا، وَكَذَا إذَا أَدْخَلَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ تَحَقَّقَ إذْ الْأَكْثَرُ مِنْهَا قَائِمٌ، وَمَتَى عَزَمَ عَلَى أَدَائِهِمَا يَسْأَلُ التَّيْسِيرَ فِيهِمَا وَقَدَّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فِيهِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ يَبْدَأُ بِذِكْرِهَا، وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، وَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي التَّلْبِيَةِ أَجْزَأَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ مِنْهَا، وَيَسْعَى بَعْدَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهَذِهِ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَيَسْعَى بَعْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُفْرِدِ) وَيُقَدِّمُ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ. وَلَا

قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: إتْمَامُهَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك، وَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْخِلَافِيَّةِ نَفْسُ ذِكْرِ التَّمَتُّعِ ذِكْرُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ فَذِكْرُهُ ذِكْرُ كُلٍّ مِنْ أَنْوَاعِهِ ضِمْنًا، وقَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} عَلَى هَذَا مَعْنَاهُ مَنْ تَرَفَّقَ بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ تَرَفُّقًا غَايَتُهُ الْحَجُّ، وَسَمَّاهُ تَمَتُّعًا لِمَا قُلْنَا إنَّهَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ تَعْظِيمًا لِلْحَجِّ بِأَنْ لَا يُشْرَكَ مَعَهُ فِي وَقْتِهِ شَيْءٌ.

فَلَمَّا أَبَاحَهَا الْعَزِيزُ جل جلاله فِيهِ كَانَ تَوْسِعَةً وَتَيْسِيرًا لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ مُؤْنَةِ سَفَرٍ آخَرَ أَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ وَقْتُ الْحَجِّ فَكَانَ الْآتِي بِهِ مُتَمَتِّعًا بِنِعْمَةِ التَّرَفُّقِ بِهِمَا فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا (قَوْلُهُ وَعِنْدَهُ طَوَافًا وَاحِدًا إلَخْ) فَلَمَّا كَانَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نُقْصَانُ أَفْعَالٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى إفْرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَانَ إفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ

(قَوْلُهُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ) أَيْ سُنَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (قَوْلُهُ وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى التَّمَتُّعِ) وَعَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}

ص: 525

يَحْلِقُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا يَحْلِقُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا يَحْلِقُ الْمُفْرِدُ، وَيَتَحَلَّلُ بِالْحَلْقِ عِنْدَنَا لَا بِالذَّبْحِ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُفْرِدُ ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى اكْتَفَى فِيهِ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَفَرٍ وَاحِدٍ وَحَلْقٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْكَانِ

يُفِيدُ تَقْدِيمَ الْعُمْرَةِ فِي الْقِرَانِ بِنَظْمِ الْآيَةِ لَا بِالْإِلْحَاقِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ») تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافًا وَاحِدًا لَهُمَا ثُمَّ قَالَ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .

أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صُبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ قَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ. ثُمَّ حَمَلَ الدُّخُولَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْوَقْتِ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ اتِّفَاقًا، وَإِلَّا كَانَ دُخُولُهَا فِي الْحَجِّ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى نِيَّةِ الْقِرَانِ بَلْ كُلُّ مَنْ حَجَّ يَكُونُ قَدْ حُكِمَ بِأَنَّ حَجَّهُ تَضَمَّنَ عُمْرَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا. بَقِيَ أَنْ يُرَادَ الدُّخُولُ وَقْتًا أَوْ تَدَاخَلُ الْأَفْعَالِ بِشَرْطِ نِيَّةِ الْقِرَانِ وَالدُّخُولُ وَقْتًا ثَابِتٌ اتِّفَاقًا وَهُوَ مُحْتَمَلُهُ وَهُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُحْتَمَلِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَمُخَالِفٌ لِلْمَعْهُودِ الْمُسْتَقِرِّ شَرْعًا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ وَهُوَ كَوْنُهُ بِفِعْلِ أَفْعَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ شَفْعَيْ التَّطَوُّعِ لَا يَتَدَاخَلَانِ إذَا أَحْرَمَ لَهُمَا بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ صُبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ عَلَى النَّصِّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاَلَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَصْحِيحِهِ فِي أَدِلَّةِ الْقِرَانِ إنَّمَا نَصُّهُ عَنْ الصُّبَيّ قَالَ: أَهْلَلْت بِهِمَا مَعًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: كُنْت رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمْت، فَأَتَيْت رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِي يُقَالُ لَهُ هُذَيْمُ بْن ثَرْمَلَةَ فَقُلْت: يَا هَنَاهُ إنِّي حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ وَإِنِّي وَجَدْت الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ فَكَيْفَ لِي بِأَنْ أَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ لِي: اجْمَعْهُمَا وَاذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، فَأَهْلَلْت فَلَمَّا أَتَيْت الْعُذَيْبَ لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَأَنَا أُهِلُّ

ص: 526

وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صُبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ قَالَ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَا تَدَاخُلَ فِي الْعِبَادَاتِ.

بِهِمَا مَعًا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخِرِ: مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ، قَالَ: فَكَأَنَّمَا أُلْقِيَ عَلَيَّ جَبَلٌ حَتَّى أَتَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي كُنْت رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا وَإِنِّي أَسْلَمْت وَإِنِّي حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ، وَإِنِّي وَجَدْت الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ، فَأَتَيْت رَجُلًا مِنْ قَوْمِي فَقَالَ لِي اجْمَعْهَا وَاذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، وَإِنِّي أَهْلَلْت بِهِمَا جَمِيعًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: هُدِيَتْ لِسُنَّةِ نَبِيِّك صلى الله عليه وسلم اهـ.

وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَقِيبَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ مَرَّتَيْنِ.

لَا جَرَمَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَذْهَبِ رَوَاهُ عَلَى النَّصِّ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ، وَإِنَّمَا قَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رضي الله عنه رَوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: أَقْبَلْت مِنْ الْجَزِيرَةِ حَاجًّا قَارِنًا فَمَرَرْت بِسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ وَهُمَا مُنِيخَانِ بِالْعُذَيْبِ، فَسَمِعَانِي أَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هَذَا أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: هَذَا أَضَلُّ مِنْ كَذَا وَكَذَا، فَمَضَيْت حَتَّى إذَا قَضَيْت نُسُكِي مَرَرْت بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رضي الله عنه، فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ فِيهِ: قَالَ يَعْنِي عُمَرَ لَهُ: فَصَنَعْت مَاذَا؟ قَالَ: مَضَيْت فَطُفْت طَوَافًا لِعُمْرَتِي وَسَعَيْت سَعْيًا لِعُمْرَتِي ثُمَّ عُدْت فَفَعَلْت مِثْلَ ذَلِكَ لِحَجِّي، ثُمَّ بَقِيت حَرَامًا مَا أَقَمْنَا أَصْنَعُ كَمَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ حَتَّى قَضَيْت آخِرَ نُسُكِي، قَالَ: هُدِيَتْ لِسُنَّةِ نَبِيِّك صلى الله عليه وسلم. وَأَعَادَهُ، وَفِيهِ: كُنْت حَدِيثَ عَهْدٍ بِنَصْرَانِيَّةٍ فَأَسْلَمْت فَقَدِمْت الْكُوفَةَ أُرِيدُ الْحَجَّ، فَوَجَدْت سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ وَزَيْدَ بْنَ صُوحَانَ يُرِيدَانِ الْحَجَّ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَهَلَّ سَلْمَانُ وَزَيْدٌ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ وَأَهَلَّ الصُّبَيّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَالَا: وَيْحَك تُمْتِعُ وَقَدْ نَهَى عُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ، وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِك فَسَاقَهُ

، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ التَّمَتُّعَ فِي عُرْفِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَتَابِعِيهِمْ يَعُمُّ الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ بِالْعُرْفِ الْوَاقِعِ الْآنَ. وَأَيْضًا الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَرِوَايَاتِهِمْ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام الِاكْتِفَاءَ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ ثَابِتَةٌ، فَتَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه فِعْلًا وَرِوَايَةُ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ وَكَذَا مِنْ غَيْرِهِ.

وَصَحَّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَدَمُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَخْرَجَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: «طُفْتُ مَعَ أَبِي وَقَدْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ، وَحَدَّثَنِي أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه فَعَلَ ذَلِكَ، وَحَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ» .

وَحَمَّادٌ هَذَا إنْ ضَعَّفَهُ الْأَزْدِيُّ فَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ فَلَا يَنْزِلُ حَدِيثُهُ عَنْ الْحَسَنِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ أَبِي نَصْرٍ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: إذَا أَهْلَلْت بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطُفْ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَاسْعَ لَهُمَا سَعْيَيْنِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَ مَنْصُورٌ. فَلَقِيت مُجَاهِدًا وَهُوَ يُفْتِي بِطَوَافٍ وَاحِدٍ لِمَنْ قَرَنَ، فَحَدَّثْته بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَوْ كُنْت سَمِعْته لَمْ أُفْتِ إلَّا بِطَوَافَيْنِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا أُفْتِي

ص: 527

وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ، وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِمَقَاصِدَ، بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَفْعَيْ التَّطَوُّعِ لَا يَتَدَاخَلَانِ وَبِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤَدِّيَانِ وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ

قَالَ (فَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ يُجْزِيهِ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَقَدْ أَسَاءَ بِتَأْخِيرِ سَعْيِ الْعُمْرَةِ

إلَّا بِهِمَا. وَلَا شُبْهَةَ فِي هَذَا السَّنَدِ مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ مُضَعَّفَةٍ تَرْتَقِي إلَى الْحَسَنِ، غَيْرَ أَنَّا تَرَكْنَاهَا وَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ بِنَفْسِهِ بِلَا ضَمٍّ.

وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ وَقَالَ وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حِينَ يَقْدَمُ وَبِالصَّفَا وَبِالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لِلزِّيَارَةِ اهـ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَقَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ: لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه كَانَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى «مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ» مَدْفُوعٌ بِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه رَفَعَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَسْمَعْنَاك فَوَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ، فَكَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَقْيَسَ بِأُصُولِ الشَّرْعِ فَرَجَحَتْ وَثَبَتَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَيْضًا رَفْعُهُ.

وَهُوَ مَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْأَزْدِيِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ» ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثِقَةٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ، غَيْرَ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ نَسَبَ إلَيْهِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَهْمَ فَقَالَ: يُقَالُ إنَّ يَحْيَى حَدَّثَ بِهِ مِنْ حِفْظِهِ فَوَهِمَ، وَالصَّوَابُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الطَّوَافِ وَلَا السَّعْيِ.

وَيُقَالُ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذِكْرِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الصَّوَابِ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْهُ بِهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَرَنَ، قَالَ: وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الطَّوَافَ. ثُمَّ أَسْنَدَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُد وَبِذَلِكَ الْإِسْنَادِ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَنَ اهـ. وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ ثِقَةٌ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ. وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَمَا أُسْنِدَ إلَيْهِ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ مَرَّةً عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ رُجُوعَهُ وَاعْتِرَافَهُ بِالْخَطَإِ. فَكَثِيرًا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا. وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا.

قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ زِيَادِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما قَالَا فِي الْقِرَانِ: يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، فَهَؤُلَاءِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ رضي الله عنهم. فَإِنْ عَارَضَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ رِوَايَةً وَمَذْهَبًا رِوَايَةَ غَيْرِهِمْ وَمَذْهَبَهُ كَانَ قَوْلُهُمْ وَرِوَايَتُهُمْ مُقَدَّمَةً مَعَ مَا يُسَاعِدُ قَوْلَهُمْ وَرِوَايَتَهُمْ مِمَّا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ مِنْ ضَمِّ عِبَادَةٍ إلَى أُخْرَى أَنَّهُ بِفِعْلِ أَرْكَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ

(قَوْلُهُ فَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ) أَيْ وَالَى بَيْنَ الْأُسْبُوعَيْنِ

ص: 528

وَتَقْدِيمُ طَوَافِ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي الْمَنَاسِكِ لَا يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَهُ طَوَافُ التَّحِيَّةِ سُنَّةٌ وَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى. وَالسَّعْيُ بِتَأْخِيرِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَا بِالِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ.

قَالَ (وَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ سُبُعَ بَدَنَةٍ فَهَذَا دَمُ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا، وَالْهَدْيُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَرَادَ بِالْبَدَنَةِ هَاهُنَا الْبَعِيرَ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْبَدَنَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَقَرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَكَمَا يَجُوزُ سُبُعُ الْبَعِيرِ يَجُوزُ سُبُعُ الْبَقَرَةِ (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ

لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَبَيْنَ سَعْيَيْنِ لَهُمَا

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا) فَيَلْحَقُ بِهَا فِيهِ دَلَالَةً لِأَنَّ وُجُوبَهُ فِي الْمُتْعَةِ لِشُكْرِ نِعْمَةِ إطْلَاقِ التَّرَفُّقِ بِهِمَا فِي وَقْتِ الْحَجِّ بِشَرْطِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَعَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ إيجَابُ الْهَدْي بِالنَّصِّ فِي الْمُتْعَةِ إيجَابٌ فِي الْقِرَانِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُتْعَةِ عُرْفًا، وَيَجِبُ الدَّمُ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ. فَإِنْ حَلَقَ قَبْلَهُ لَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (قَوْلُهُ فَإِنْ لِمَ يَكُنْ لَهُ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَخْ) شَرْطُ إجْزَائِهَا وُجُودُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ فِي شَوَّالٍ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا فَهُوَ أَفْضَلُ لِرَجَاءِ أَنْ يُدْرِكَ الْهَدْيَ، وَلِذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَجْعَلَهَا السَّابِعَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ. وَأَمَّا صَوْمُ السَّبْعَةِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ مِنًى بَعْدَ إتْمَامِ أَعْمَالِ الْوَاجِبَاتِ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالرُّجُوعِ قَالَ تَعَالَى {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِهِ، فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ تَقْدِيمٌ عَلَى وَقْتِهِ، بِخِلَافِ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي الْحَجِّ، قَالَ تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَالْمُرَادُ وَقْتُهُ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ أَعْمَالِهِ ظَرْفًا لَهُ، فَإِذَا صَامَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ

ص: 529

وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي التَّمَتُّعِ فَالْقِرَانُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ مُرْتَفِقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ.

وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقْتُهُ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ وَقْتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَصْلِ (وَإِنْ صَامَهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ جَازَ) وَمَعْنَاهُ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالرُّجُوعِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمَقَامَ فَحِينَئِذٍ يُجْزِيهِ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ. وَلَنَا أَنَّ مَعْنَاهُ رَجَعْتُمْ عَنْ الْحَجِّ: أَيْ فَرَغْتُمْ، إذْ الْفَرَاغُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ فَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ

(فَإِنْ فَاتَهُ الصَّوْمُ حَتَّى أَتَى يَوْمَ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الدَّمُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:

فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَدْ صَامَ فِي وَقْتِهِ فَيَجُوزُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ فِي خِلَالِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بَعْدَهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الْهَدْيُ وَسَقَطَ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ خُلْفٌ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَأْدِي الْحُكْمِ بِالْخُلْفِ بَطَلَ الْخُلْفُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ فِي أَيَّامِ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْهَدْيُ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ قَدْ حَصَلَ بِالْحَلْقِ، فَوُجُودُ الْأَصْلِ بَعْدَهُ لَا يَنْقُضُ الْخُلْفَ كَرُؤْيَةِ الْمُتَيَمِّمِ الْمَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَجِدْ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ الذَّبْحِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ لِأَنَّ الذَّبْحَ مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، فَإِذَا مَضَتْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ بِلَا هَدْيٍ وَكَأَنَّهُ تَحَلَّلَ ثُمَّ وَجَدَهُ، وَلَوْ صَامَ فِي وَقْتِهِ مَعَ وُجُودِ الْهَدْيِ يُنْظَرُ، فَإِنْ بَقِيَ الْهَدْيُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ الذَّبْحِ جَازَ لِلْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ وَقْتَ التَّحَلُّلِ (قَوْلُهُ إذْ الْفَرَاغُ سَبَبُ الرُّجُوعِ) هَذَا تَعْيِينٌ لِلْعَلَاقَةِ فِي إطْلَاقِ الرُّجُوعِ عَلَى الْفَرَاغِ فِي الْآيَةِ فَذُكِرَ الْمُسَبِّبَ وَأُرِيدَ السَّبَبُ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْكَافِي، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي دَلِيلِ إرَادَةِ الْمَجَازِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْإِقَامَةِ بِهَا حَتَّى تَحَقَّقَ رُجُوعُهُ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا وَطَنًا كَانَ لَهُ أَنْ يَصُومَ بِهَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ بَلْ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا عَرَضَ الِاسْتِيطَانُ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الرُّجُوعِ ثُمَّ لَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا وَطَنًا رُجُوعٌ لِيَكُونَ رُجُوعًا إلَى وَطَنِهِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا أَصْلًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَطَنٌ بَلْ مُسْتَمِرٌّ عَلَى السِّيَاحَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُهَا بِهَذَا النَّصِّ، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ سِوَى الرُّجُوعِ عَنْ الْأَعْمَال.

فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرُّجُوعُ عَنْهَا. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَيَكُونُ أَدَاءً بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا مَعْنَاهُ بَعْدَ سَبَبِ الرُّجُوعِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ تَرَتُّبَ الْجَوَازِ إنَّمَا هُوَ عَلَى وُجُودِ سَبَبِ الْحُكْمِ

ص: 530

يَصُومُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَيَّامِ لِأَنَّهُ صَوْمٌ مُوَقَّتٌ فَيَقْضِي كَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يَصُومُ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَهَذَا وَقْتُهُ. وَلَنَا النَّهْيُ الْمَشْهُورُ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ النَّصُّ أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا وَجَبَ كَامِلًا، وَلَا يُؤَدِّي بَعْدَهَا لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ لَا تُنْصَبُ إلَّا شَرْعًا، وَالنَّصُّ خَصَّهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ وَجَوَازُ الدَّمِ عَلَى الْأَصْلِ.

لَا سَبَبِ شَيْءٍ آخَرَ، وَالْحُكْمُ هُنَا وُجُوبُ الصَّوْمِ وَجَوَازُهُ عَنْ الْوَاجِبِ، وَسَبَبُ الْأَوَّلِ وَهُوَ وُجُوبُ الصَّوْمِ إنَّمَا هُوَ التَّمَتُّعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أَيْ كَامِلَةٌ فِي كَوْنِهَا قَائِمَةً مَقَامَ الْهَدْيِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ.

وَالثَّانِي مُسَبَّبٌ عَنْ نَفْسِ الْأَدَاءِ فِي وَقْتِهِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْهَدْيِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُورَ إذَا أَتَى بِهِ كَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ صِفَةُ الْجَوَازِ وَانْتِفَاءُ الْكَرَاهَةِ بِنَفْسِ الْإِتْيَانِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ حَاجَةً إلَى ذِكْرِهِ، بَلْ إذَا أَتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغَ قَبْلَ الرُّجُوعِ فَقَدْ أَتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ بِالنَّصِّ فَيَجُوزُ

(قَوْلُهُ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ) أَيْ بِالنَّهْيِ الْمَشْهُورِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ (النَّصُّ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} : لِأَنَّ الْمَشْهُورَ يَتَقَيَّدُ إطْلَاقُ الْكِتَابِ بِهِ فَيَتَقَيَّدُ وَقْتُ الْحَجِّ الْمُطْلَقِ بِمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ (قَوْلُهُ أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ)

ص: 531

وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ فِي مِثْلِهِ بِذَبْحِ الشَّاةِ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهَدْيِ تَحَلَّلَ وَعَلَيْهِ دَمَانِ: دَمُ التَّمَتُّعِ، وَدَمُ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْهَدْيِ

(فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْقَارِنُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ فَقَدْ صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ بِالْوُقُوفِ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ. وَلَا يَصِيرُ رَافِضًا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ

أَيْ يَدْخُلُ الصَّوْمَ النَّقْصُ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ دُخُولَ النَّقْصِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّهْيِ فَهُوَ الْمُقَيَّدُ. وَغَايَةُ مَا هُنَاكَ أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدُ النَّهْيِ بِعِلَّةِ دُخُولِ النَّقْصِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ؛ فَعَلَى هَذَا فَالْأَوْلَى إبْدَالُ " أَوْ " بِإِذْ فَيُقَالُ بِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ النَّصُّ إذْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ.

هَذَا وَأَمَّا مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَضْمَنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. قِيلَ: وَهَذَا شَبِيهٌ بِالْمُسْنَدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: الصَّوْمُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. فَعَلَى أَصْلِنَا لَوْ صَحَّ رَفْعُهُ لَمْ يُعَارِضْ النَّهْيَ الْعَامَّ لَوْ وَازَنَهُ فَكَيْفَ وَذَلِكَ أَشْهَرُ؟ وَعَلَى أَصْلِهِمْ لَا يُخَصُّ مَا لَمْ يُجْزَمْ بِرَفْعِهِ وَصِحَّتِهِ، الْمُرْسَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الضَّعِيفِ لَوْ تَحَقَّقَ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ بَلَاغًا وَغَيْرُهُ مَوْقُوفًا، وَلَوْ تَمَّ عَلَى أَصْلِهِمْ لَمْ يَلْزَمْنَا اعْتِبَارُهُ

(قَوْلُهُ فَقَدْ صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ) أَطْلَقَ فِيهِ، وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ اهـ. وَهُوَ حَقٌّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَيْسَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ فَحُلُولُهُ بِهَا كَحُلُولِهِ بِغَيْرِهَا (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَرْفُضُهَا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ فَيَرْتَفِضُ بِهِ كَمَا تَرْتَفِضُ الْجُمُعَةُ بَعْدَ الظُّهْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهَا عِنْدَهُ، وَالصَّحِيحُ

ص: 532

مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَيْضًا. وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهَا أَنَّ الْأَمْرَ هُنَالِكَ بِالتَّوَجُّهِ مُتَوَجِّهٌ بَعْدَ أَدَاءِ الظُّهْرِ، وَالتَّوَجُّهُ فِي الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فَافْتَرَقَا. قَالَ (وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَضَتْ الْعُمْرَةُ لَمْ يَرْتَفِقْ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ (وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ) بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا (وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا) لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا فَأَشْبَهَ الْمُحْصَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ إقَامَةَ مَا هُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الشَّيْءِ مَقَامَهُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَطْلُوبًا مَأْمُورًا بِهِ، وَهُنَا الْقَارِنُ مَأْمُورٌ بِضِدِّ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالرُّجُوعِ لِيُرَتِّبَ الْأَفْعَالَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَلَا يُقَامُ التَّوَجُّهُ مَقَامَ نَفْسِ الْوُقُوفِ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ احْتِيَاطًا لِإِثْبَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَكَذَا إذَا وَقَفَ بَعْدَ أَنْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ، وَلَوْ كَانَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ يَصِرْ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ بِالْوُقُوفِ وَأَتَمَّهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ قَارِنٌ.

وَإِنْ لَمْ يَطُفْ لِعُمْرَتِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ بَلْ طَافَ وَسَعَى يَنْوِي عَنْ حَجَّتِهِ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ، وَكَانَ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ لَهَا وَهُوَ رَجُلٌ لَمْ يَطُفْ لِلْحَجِّ فَيَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مُتَلَبَّسٌ بِهِ فِي وَقْتٍ يَصْلُحُ لَهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ مُتَلَبَّسٌ بِهِ.

وَعَنْ هَذَا قَوْلُنَا: لَوْ طَافَ وَسَعَى لِلْحَجِّ ثُمَّ طَافَ وَسَعَى لِعُمْرَةٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْأَوَّلُ عَنْ الْعُمْرَةِ وَالثَّانِي عَنْ الْحَجِّ. وَهَذَا كَمَنْ سَجَدَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَنْوِي سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ عَلَيْهِ انْصَرَفَ إلَى سَجْدَةِ الصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 533