الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ التَّمَتُّعِ
(التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ عِنْدَنَا) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِعُمْرَتِهِ وَالْمُفْرِدَ سَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي التَّمَتُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الْقِرَانَ ثُمَّ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ وَهِيَ
(بَابُ التَّمَتُّعِ)
(قَوْلُهُ: وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي التَّمَتُّعِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الْقِرَانَ) حَقِيقَةُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ ثَبَتَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَجَّ قَارِنًا» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا ارْتَكَبَهُ أَفْضَلُ خُصُوصًا فِي عِبَادَةِ فَرِيضَةٍ لَمْ يَفْعَلْهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ كَانَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ مُتَحَقِّقًا فِي التَّمَتُّعِ دُونَ الْإِفْرَادِ فَيَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ مَا يَلْزَمُ كَوْنِهِ جَمَعَا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ مِنْ زِيَادَةِ التَّحَقُّقِ بِالْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ لِلْمَشْرُوعِ النَّاسِخِ لِشَرْعِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمَطْلُوبِ رَفْضَهُ، ثُمَّ هَذَا أَرْفَقُ فَوَجَبَ دَمٌ لِلشُّكْرِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا إطْلَاقُ الِارْتِفَاقِ بِالْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ حَتَّى خَفَّتْ الْمُؤْنَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى لُزُومِ إنْشَاءِ سَفَرٍ آخَرَ لِلْعُمْرَةِ أَوْ التَّأْخِيرِ بَعْدَ قَضَاءِ الْأَفْعَالِ لِيُنْشِئَ أُخْرَى مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، وَهَذَا شُكْرٌ عَلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ.
وَثَانِيهِمَا تَوْفِيقُهُ لِلتَّحَقُّقِ بِهَذَا الْإِذْعَانِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ تَحْقِيقُهُ وَإِظْهَارُهُ وَجَعْلَهُ مَظْهَرًا لَهُ، فَإِنْ أَكْمَلَ مِنْ مُجَرَّدِ اعْتِقَادِ الْحِقْبَةِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقٍ بِهِ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ أُخْرَوِيٍّ، وَلِهَذَا تَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ تَارَةً وُفِّقَ لِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ وَمَرَّةً تَرَفَّقَ بِأَدَائِهِمَا فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَزَادَتْ الْفَضِيلَةُ بِشَرْعِيَّةِ هَذَا الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي النُّسُكِ عِبَادَةً أُخْرَى شُكْرًا لَا جَبْرًا لِنُقْصَانٍ مُتَمَكِّنٍ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ الْقِرَانَ زَادَ عَلَيْهِ بِاسْتِدَامَةِ الْإِحْرَامِ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ بِهِمَا وَالْمُسَارَعَةِ إلَى إحْرَامِ الْحَجِّ، فَبِالْأَمْرَيْنِ يُفَضَّلُ عَلَى تَمَتُّعٍ لَمْ يُسَقْ فِيهِ هَدْيٌ حَتَّى حَلَّ التَّحَلُّلُ. وَبِالثَّانِي عَلَى التَّمَتُّعِ الَّذِي سِيقَ فِيهِ الْهَدْيُ فَوَجَبَ اسْتِدَامَةُ الْإِحْرَامِ فِيهِ. (قَوْلُهُ: وَسَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: لِأَنَّ سَفَرَهُ وَاقِعٌ لِعُمْرَتِهِ
إرَاقَةُ الدَّمِ وَسَفَرُهُ وَاقِعٌ لِحَجَّتِهِ، وَإِنْ تَخَلَّلَتْ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهَا تَبَعُ الْحَجِّ كَتَخَلُّلِ السُّنَّةِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالسَّعْيِ إلَيْهَا.
(وَالْمُتَمَتِّعُ عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَمَتِّعٌ بِسَوْقِ الْهَدْيِ وَمُتَمَتِّعٌ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ) وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا، وَيَدْخُلُهُ اخْتِلَافَاتٌ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَصِفَتُهُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَيَدْخُلَ مَكَّةَ فَيَطُوفَ لَهَا وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَقَدْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ)
وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ: وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ) وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَقُلْ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا بَلْ ذَكَرَ أَدَاءَهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّمَتُّعِ وُجُودُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، بَلْ أَدَاؤُهَا فِيهَا أَوْ أَدَاءُ أَكْثَرِ طَوَافِهَا، فَلَوْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ دَخَلَ شَوَّالٌ فَطَافَ الْأَرْبَعَةَ الْبَاقِيَةَ ثُمَّ حَجَّ فِي عَامِهِ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَتَحْرِيرُ الضَّابِطِ لِلتَّمَتُّعِ أَنْ يَفْعَلَ الْعُمْرَةَ أَوْ أَكْثَرَ طَوَافِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَنْ إحْرَامٍ بِهَا قَبْلَهَا أَوْ فِيهَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلُمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا.
وَالْحِيلَةُ لِمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ أَنْ لَا يَطُوفَ بَلْ يَصْبِرُ إلَى أَنْ تَدْخُلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ ثُمَّ يَطُوفُ، فَإِنَّهُ مَتَى طَافَ طَوَافَا مَا وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ طَافَ ثُمَّ دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ مِيقَاتُهُ مِيقَاتَهُمْ. وَقَوْلُنَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ: يَعْنِي مِنْ عَامِ الْفِعْلِ، أَمَّا عَامُ الْإِحْرَامِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِدَلِيلِ مَا فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ وَأَقَامَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى شَوَّالٍ مَنْ قَابِلٍ ثُمَّ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ، وَقَدْ أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، بِخِلَافِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ كَفَائِتِ الْحَجِّ فَأَخَّرَ إلَى قَابِلٍ فَتَحَلَّلَ بِهَا فِي شَوَّالٍ، وَحَجَّ مِنْ عَامه ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِأَفْعَالِهَا عَنْ إحْرَامِ عُمْرَةٍ بَلْ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَلَمْ تَقَعْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مُعْتَدًّا بِهَا عَنْ الْعُمْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَهَذَا فَائِدَةُ الْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آخِرًا. أَعْنِي قَوْلَنَا عَنْ إحْرَامٍ بِهَا
(قَوْلُهُ: فَيَطُوفُ لَهَا وَيَسْعَى إلَخْ) لَمْ يَذْكُرْ طَوَافَ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُمْرَةِ طَوَافُ قُدُومٍ وَلَا صَدْرٍ
وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعُمْرَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُفْرِدَ بِالْعُمْرَةِ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا، هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَلْقَ عَلَيْهِ، إنَّمَا الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، وَحُجَّتُنَا عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا. وقَوْله تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} الْآيَةَ. نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَ لَهَا تَحَرُّمٌ بِالتَّلْبِيَةِ كَانَ لَهَا تَحَلُّلٌ بِالْحَلْقِ كَالْحَجِّ (وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: كُلَّمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَتَتِمُّ بِهِ.
وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّوَافُ فَيَقْطَعُهَا عِنْدَ افْتِتَاحِهِ، وَلِهَذَا يَقْطَعُهَا الْحَاجُّ عِنْدَ افْتِتَاحِ الرَّمْيِ. قَالَ (وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا)؛ لِأَنَّهُ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ، قَالَ (فَإِذَا كَانَ
وَذَكَرَ مِنْ الصِّفَةِ الْحَلْقَ أَوْ التَّقْصِيرَ فَظَاهِرُهُ لُزُومُ ذَلِكَ فِي التَّمَتُّعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَوْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَلَقَ بِمِنًى كَانَ مُتَمَتِّعًا وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّمَتُّعِ مِمَّنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ طَوَافِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ لِلْعُمْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. (قَوْله هَكَذَا فَعَلَ إلَخْ) أَمَّا أَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ مَا ذَكَرَ غَيْرَ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ فَضَرُورِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ. وَأَمَّا أَنَّ مِنْهَا الْحَلْقَ أَوْ التَّقْصِيرَ خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَحْثِ الْقِرَانِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ «قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْصِيرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي عُمْرَةٍ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ:«قَصَّرْتُ أَوْ رَأَيْتُهُ يُقَصِّرُ عَنْ رَأْسِهِ» فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ كَوْنُهَا عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَلْزَمْ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله (قَوْلُهُ: وَقَالَ مَالِكٌ كَمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ) وَعَنْهُ كَمَا رَأَى بُيُوتَ مَكَّةَ. وَلَنَا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُمْسِكُ عَنْ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ إذَا اسْتَلَمَ» وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ «يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» (قَوْلُهُ: وَلِهَذَا يَقْطَعُهَا الْحَاجُّ إلَخْ) إنَّمَا تَتِمُّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ لَوْ كَانَ الرَّمْيُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْحَجِّ وَهُوَ مُنْتَفٍ، بَلْ الْمَقْصُودُ الْوُقُوفُ وَالطَّوَافُ. فَالصَّوَابُ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى رَأْيِنَا أَنْ يُقَالَ: كَمَا لَمْ تُقْطَعْ التَّلْبِيَةُ فِي الْحَجِّ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ،
يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ) وَالشَّرْطُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحَرَمِ أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَكِّيِّ، وَمِيقَاتُ الْمَكِّيِّ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ)؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ لَهُ فِي الْحَجِّ، بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى مَرَّةً، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِذَلِكَ مَرَّةً (وَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ) لِلنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَاهُ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْقِرَانِ (فَإِنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ اعْتَمَرَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الثَّلَاثَةِ)؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الصَّوْمِ التَّمَتُّعُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ (وَإِنْ صَامَهَا) بِمَكَّةَ (بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ جَازَ عِنْدَنَا) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رحمه الله لَهُ قَوْله تَعَالَى
كَذَا لَا تُقْطَعُ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَهُ فَبَطَل قَوْلُكُمْ بِقَطْعِهَا قَبْلَ الطَّوَافِ. وَعَلَى رَأْيِهِ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ: كَمَا أَنَّهَا لَمْ تُقْطَعْ فِي الْحَجِّ إلَّا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقَاصِدِ، وَهُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَك يَجِبُ فِي الْعُمْرَةِ أَنْ لَا تُقْطَعَ إلَّا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي مَقَاصِدِهَا وَهُوَ الطَّوَافُ.
(قَوْلُهُ: وَالْمَسْجِدُ لَيْسَ بِلَازِمٍ) بَلْ هُوَ أَفْضَلُ، وَمَكَّةُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْحَرَمِ، وَالشَّرْطُ الْحَرَمُ (قَوْلُهُ: وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ) إلَّا طَوَافَ التَّحِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا طَوَافَ قُدُومٍ عَلَيْهِمْ (قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ) أَيْ لِلتَّحِيَّةِ (وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ) سَوَاءٌ كَانَ رَمَلَ فِي طَوَافِ التَّحِيَّةِ أَوْ لَا (وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالسَّعْيِ مَرَّةً) قِيلَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ التَّحِيَّةِ مَشْرُوعٌ لِلتَّمَتُّعِ حَتَّى اعْتَبَرَ سَعْيَهُ عَقِيبَهُ. اهـ. وَلَا يَخْلُو مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إذَا طَافَ ثُمَّ سَعَى أَجْزَأَهُ عَنْ السَّعْيِ لَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْإِجْزَاءِ اعْتِبَارُهُ طَوَافُ تَحِيَّةٍ، بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ السَّعْيَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ شَرْعًا عَلَى طَوَافٍ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ تَنَفَّلَ بِطَوَافٍ ثُمَّ سَعَى بَعْدَهُ سَقَطَ عَنْهُ سَعْيُ الْحَجِّ، وَمَنْ قَيَّدَ إجْزَاءَهُ بِكَوْنِ الطَّوَافِ الْمُقَدَّمِ طَوَافَ تَحِيَّةٍ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ.
(قَوْلُهُ: فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ) فَالشَّرْطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقِرَانِ وَإِلَى آخِرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيهِ (قَوْلُهُ: خِلَافًا لَلشَّافِعِيُّ) فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَاد سَبَبِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ وَقْتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْقِرَانِ.
(وَإِنْ أَرَادَ الْمُتَمَتِّعُ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ أَحْرَمَ وَسَاقَ هَدْيَهُ) وَهَذَا أَفْضَلُ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَاقَ الْهَدَايَا مَعَ نَفْسِهِ» ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْدَادًا وَمُسَارَعَةً (فَإِنْ كَانَتْ بَدَنَةً قَلَّدَهَا بِمَزَادَةٍ أَوْ نَعْلٍ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ. وَالتَّقْلِيدُ أَوْلَى مِنْ التَّجْلِيلِ؛ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْكِتَابِ وَلِأَنَّهُ لِلْإِعْلَامِ وَالتَّجْلِيلِ لِلزِّينَةِ، وَيُلَبِّي ثُمَّ يُقَلِّدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَالتَّوَجُّهِ مَعَهُ عَلَى مَا سَبَقَ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْقِدَ الْإِحْرَامَ بِالتَّلْبِيَةِ وَيَسُوقَ الْهَدْيَ. وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَقُودَهَا «؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ) لَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَهُ التَّمَتُّعُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ التَّرَفُّقُ؛ لِتَرْتِيبِهِ عَلَى التَّمَتُّعِ فِي النَّصِّ، وَمَأْخَذُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لِلْمُرَتَّبِ، وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ هِيَ السَّبَبُ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي بِهَا يَتَحَقَّقُ التَّرَفُّقُ الَّذِي كَانَ مَمْنُوعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ مَعْنَى التَّمَتُّعِ لَا أَنَّ الْحَجَّ مُعْتَبَرُ جُزْءِ السَّبَبِ بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ التَّمَتُّعِ فِي عُرْفِ الْفِقْهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَعْلُ الْحَجِّ غَايَةً لِهَذَا التَّمَتُّعِ حَيْثُ قَالَ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} فَكَانَ الْمُفَادُ تَرَفَّقْ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ تَرَفُّقًا غَايَتُهُ الْحَجُّ، وَإِلَّا كَانَ ذِكْرُ التَّمَتُّعِ ذِكْرًا لِلْحَجِّ مِنْ عَامِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْرِيرِ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ كَالسَّبْعَةِ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ الثَّلَاثَةَ فِي الْحَجِّ: أَيْ وَقْتِهِ، وَالسَّبْعَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي السَّبَبِ الْمُجَوِّزِ لِلصَّوْمِ تَحَقُّقَ حَقِيقَةِ التَّمَتُّعِ بِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ بَلْ التَّرَفُّقُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا، بَلْ الْمُقَيَّدُ بِكَوْنِ غَايَتِهِ الْحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْقَيْدِ جُزْءًا مِنْ السَّبَبِ أَوْ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ سَبَبِيَّتِهِ وَإِلَّا لَزِمَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ الصَّوْمِ قَبْلَ الْفَرَاغِ وَهُوَ مُنْتَفٍ، فَكَانَ السَّبَبُ الْمُقَيَّدُ لَا يُشْتَرَطُ قَيْدُهُ فِي السَّبَبِيَّةِ فَإِذَا صَامَ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ صَامَ بَعْدَ السَّبَبِ وَفِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ وُقُوعُهُ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ إذَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ، وَسَبَبُهُ تَرَاخِي الْقَيْدِ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، أَمَّا السَّبْعَةُ فَإِنَّ السَّبَبَ وَإِنْ تَحَقَّقَ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَكِنْ لَمْ يَجِئْ وَقْتُهَا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُعَلَّقٌ بِالرُّجُوعِ، فَالصَّوْمُ قَبْلَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّبَبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا عَدَمُ الْجَوَازِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ: أَعْنِي التَّرَفُّقَ بِالْعُمْرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ بِهَا، لَكِنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْجَوَازُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ كَأَنَّهُ لِثُبُوتِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخُرُوجِ
أَحْرَمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهَدَايَاهُ تُسَاقُ بَيْنَ يَدَيْهِ»؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّشْهِيرِ إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَنْقَادُ فَحِينَئِذٍ يَقُودُهَا. قَالَ (وَأَشْعَرَ الْبَدَنَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَلَا يُشْعِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَيُكْرَهُ) وَالْإِشْعَارُ هُوَ الْإِدْمَاءُ بِالْجُرْحِ لُغَةً (وَصِفَتُهُ أَنْ يَشُقَّ سَنَامَهَا) بِأَنْ يَطْعَنَ فِي أَسْفَلِ السَّنَامِ (مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ) قَالُوا: وَالْأَشْبَهُ هُوَ الْأَيْسَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَعَنَ فِي جَانِبِ الْيَسَارِ مَقْصُودًا وَفِي جَانِبِ الْأَيْمَنِ اتِّفَاقًا، وَيُلَطِّخُ سَنَامَهَا بِالدَّمِ إعْلَامًا، وَهَذَا الصُّنْعُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا حَسَنٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم.
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يُهَاجَ إذَا وَرَدَ مَاءً أَوْ كَلَأً أَوْ يُرَدُّ إذَا ضَلَّ وَإِنَّهُ فِي الْإِشْعَارِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سُنَّةً، إلَّا أَنَّهُ
عَنْ الْإِحْرَامِ بِلَا فِعْلٍ وَفِيهِ إقْنَاعٌ إلَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ خِلَافُهُ إحْدَاثَ قَوْلٍ ثَالِثِ فَيُتِمُّ الْمُرَادُ.
(قَوْلُهُ: إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَنْقَادُ) أَيْ لِلسَّوْقِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا تَنْسَاقُ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَعَنَ إلَخْ) قَالُوا: لِأَنَّهَا كَانَتْ تُسَاقُ إلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَقْبِلُهَا فَيَدْخُلُ مِنْ قِبَلِ رُءُوسِهَا، وَالْحَرْبَةُ بِيَمِينِهِ لَا مَحَالَةَ، وَالطَّعْنُ حِينَئِذٍ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ أَمْكَنَ وَهُوَ طَبْعُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فَيَقَعُ الطَّعْنُ كَذَلِكَ مَقْصُودًا ثُمَّ يَعْطِفُ طَاعِنًا إلَى جِهَةِ يَمِينِهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّفٌ بِخِلَافِهِ إلَى الْجِهَةِ الْأُولَى، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَشْعَرَ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، وَعَلَى أَنَّ صِفَتَهُ حَالَةَ الْإِشْعَارِ كَانَ مَا ذُكِرَ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِبَدَنَةٍ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْإِشْعَارَ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَيْمَنَ وَلَا الْأَيْسَرَ إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى فِي كِتَابِ ابْنِ عُلَيَّةَ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ رضي الله عنهما «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَشْعَرَ بُدْنَهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مُنْكَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ الْمَعْرُوفُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَطَّانِ كَلَامَهُ، لَكِنْ قَدْ أَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى إلَى أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِطَرِيقٍ آخَرَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَشْعَرَ بُدْنَهُ فِي شِقِّهَا الْأَيْسَرِ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ بِأُصْبُعِهِ» الْحَدِيثَ.
وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ إذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنْ الْمَدِينَةِ يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ وَيُشْعِرُهُ فِي الشِّقِّ الْأَيْسَرِ " فَهَذَا يُعَارِضُ مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشَدَّ اقْتِفَاءٍ لِظَوَاهِرِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ابْنِ عُمَرَ، فَلَوْلَا عِلْمُهُ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ. فَوَجْهُ التَّوْفِيقِ حِينَئِذٍ هُوَ مَا صِرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْإِشْعَارِ فِيهِمَا حَمْلًا لِلرِّوَايَتَيْنِ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ رَاءٍ الْإِشْعَارَ مِنْ جَانِبٍ وَهُوَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا نَعْلَمُ صَرِيحًا فِي وَصْفِهِ كَيْفَ كَانَ لَكِنَّهُ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، إذْ الظَّاهِرُ مَنْ قَاصَدَهَا لِإِثْبَاتِ فِعْلٍ فِيهَا، وَهِيَ تُسَاقُ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِجَلِيَّةِ كُلِّ حَالٍ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أَلْزَمُ)
عَارَضَهُ جِهَةُ كَوْنِهِ مُثْلَةً فَقُلْنَا بِحُسْنِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُثْلَةٌ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحْرِمِ وَإِشْعَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لِصِيَانَةِ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَعَرُّضِهِ إلَّا بِهِ. وَقِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ السِّرَايَةَ، وَقِيلَ: إنَّمَا كَرِهَ إيثَارَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ.
قَالَ: (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى) وَهَذَا لِلْعُمْرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي مُتَمَتِّعٍ لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا» وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّلَ عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ (وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَإِنْ قَدَّمَ
لِأَنَّ الْقِلَادَةَ قَدْ تَنْحَلُّ أَوْ تَنْقَطِعُ فَتَسْقُطُ (قَوْلُهُ: وَلَوْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحَرَّمِ) قَدْ يُقَالُ: لَا تَعَارُضَ فَإِنَّ النُّهَى عَنْهُ كَانَ بِأَثَرِ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ عَقِيبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِشْعَارَ كَانَ بَعْدَهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ إمَّا مَخْصُوصٌ مِنْ نَصِّ نَسْخِ الْمُثْلَةِ مَا كَانَ هَدْيًا أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُثْلَةٍ أَصْلًا، وَهُوَ الْحَقُّ، إذْ لَيْسَ كُلُّ جُرْحٍ مُثْلَةً بَلْ هُوَ مَا يَكُونُ تَشْوِيهًا كَقَطْعِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ وَسَمْلِ الْعُيُونِ، فَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ جُرِحَ مُثِّلَ بِهِ، وَالْأَوْلَى مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إلَى إحْسَانِهِ، وَهُوَ شَقُّ مُجَرَّدِ الْجِلْدِ لِيُدْمِيَ، بَلْ يُبَالِغُونَ فِي اللَّحْمِ حَتَّى يَكْثُرَ الْأَلَمُ وَيُخَافُ مِنْهُ السِّرَايَةُ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ إلَّا بِهِ) قَدْ يُقَالُ: هَذَا يَتِمُّ فِي إشْعَارِ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مُفْرِدٌ بِالْعُمْرَةِ لَا فِي إشْعَارِهِ هَدَايَا حَجَّةِ الْوَدَاعِ «؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ أَجْلَوْا قَبْلَ ذَلِكَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ فِي الثَّامِنَةِ، ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا رضي الله عنه فِي التَّاسِعَةِ يَتْلُو عَلَيْهِمْ سُورَةَ بَرَاءَةٌ وَيُنَادِي: لَا يَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانُ» . وَالْجَوَابُ أَنْ يُرَادَ تَعَرُّضِهِمْ لِلطَّرِيقِ حَالَ السَّفَرِ لِتَسَامُعِهِمْ بِمَالٍ لِسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ
(قَوْلُهُ: وَهَذَا يَنْفِي التَّحَلُّلَ عِنْدَ سَوْقِ الْهَدْيِ) يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ إظْهَارَ التَّأَسُّفِ عَلَى
الْإِحْرَامَ قَبْلَهُ جَازَ، وَمَا عَجَّلَ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَهُوَ أَفْضَلُ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ وَزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ، وَهَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسُقْ (وَعَلَيْهِ دَمٌ) وَهُوَ دَمُ الْمُتَمَتِّعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مُحَلِّلٌ فِي الْحَجِّ كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَيَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْهُمَا.
قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ، وَإِنَّمَا لَهُمْ الْإِفْرَادُ خَاصَّةً) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله
تَأَتِّي الْإِحْلَالَ؛ لِيَشْرَحَ صَدْرَ أَصْحَابِهِ بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ كَمَا كَانَ دَأْبُهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ قَوْلُهُ: «لَوْ اسْتَدْرَكْتُ مَا فَاتَنِي لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» أَيْ مُفْرَدَةً لَمْ أَقْرِنْ مَعَهَا الْحَجَّ. وَتَحَلَّلْتُ يُفِيدُ أَنَّ التَّحَلُّلَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمَا يَتَضَمَّنُهُ كَلَامُهُ مِنْ إفْرَادِ الْعُمْرَةِ وَعَدَمِ سَوْقِ الْهَدْيِ، فَلَوْ كَانَ التَّحَلُّلُ يَجُوزُ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ لَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ. وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ لَمَّا سَاقَ الْهَدْيَ امْتَنَعَ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ مِنْ الْعُمْرَةِ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَجَّ مُتَمَتِّعًا، وَالثَّابِتُ عِنْدَنَا أَنَّهُ حَجَّ قَارِنًا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ) أَيْ أَفْضَلِيَّةُ تَعْجِيلِ الْمُتَمَتِّعِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ.
(قَوْلُهُ: فَقَدْ حَلَّ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَلْقِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ فِي النِّهَايَةِ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَارِنَ دَمَانِ إذَا جَنَى قَبْلَ الْحَلْقِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا بَعْدَ الْوُقُوفِ قَبْلَ الْحَلْقِ لَزِمَهُ قِيمَةٌ وَاحِدَةُ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَزِمَهُ دَمَانِ. وَأَجَابَ بِأَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ انْتَهَى بِالْوُقُوفِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْحَجَّ غَايَةَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَلَا وُجُودَ لِلْمَضْرُوبِ لَهُ الْغَايَةُ بَعْدَهَا إلَّا ضَرُورَةً وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي حَقِّ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تَقَعْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ. اهـ. قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ. وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْقَارِنَ إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْحَجِّ وَشَاةٌ لِلْعُمْرَةِ وَبَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ الطَّوَافِ شَاتَانِ اهـ. وَمَا نَقَلَهُ فِي النِّهَايَةِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ فِي النِّهَايَةِ فِي آخِرِ فَصْلِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَأَكْثَرُ عِبَارَاتِ الْأَصْحَابِ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ الظَّاهِرَةُ، إذْ قَضَاءُ الْأَعْمَالِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِحْرَامِ، وَالْوُجُوبُ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارٍ أَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْإِحْرَامِ لَا عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَالْفَرْعُ الْمَنْقُولُ فِي الْجِمَاعِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، بَلْ سَنَذْكُرُ عَنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ فِيمَا بَعْدَ الْحَلْقِ الْبَدَنَةَ وَالشَّاةَ أَيْضًا بِالْجِمَاعِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ الْبَدَنَةُ فَقَطْ، وَنُبَيِّنُ الْأَوْلَى مِنْهُمَا. ثُمَّ إنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ قَيَّدَ لُزُومَ الدَّمِ الْوَاحِدِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ وَقَالَ: إنَّ فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ شَاتَيْنِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ تُوجِبُ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ شَيْئًا أَوْ لَا، فَإِنْ أَوْجَبَتْ لَزِمَ شُمُولُ الْوُجُوبِ وَإِلَّا فَشُمُولُ الْعَدَمِ.
(قَوْلُهُ: وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ) يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْوُجُودِ: أَيْ لَيْسَ يُوجَدُ لَهُمْ، حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ مَكِّيٌّ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَطَافَ لِلْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَا قَارِنًا، وَيُوَافِقُهُ مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَذَلِكَ يُبْطِلُ التَّمَتُّعَ. فَأَفَادَ أَنَّ عَدَمَ الْإِلْمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّمَتُّعِ فَيَنْتَفِي لِانْتِفَائِهِ. وَعَنْ ذَلِكَ أَيْضًا خَصَّ الْقِرَانَ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ. قَالُوا: خَصَّ الْقِرَانَ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ مِنْهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُلِمٌّ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ. وَيَحْتَمِلُ نَفْيَ الْحِلِّ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ لَك أَنْ تَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَا أَنْ تَتَنَفَّلَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، حَتَّى لَوْ أَنَّ مَكِّيًّا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا آثِمًا بِفِعْلِهِ إيَّاهُمَا عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.
وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِحَمْلِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْإِلْمَامِ لِلصِّحَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِهِ لِوُجُودِ التَّمَتُّعِ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَهْيٌ شَرْعًا الْمُنْتَهِضِ سَبَبًا لِلشُّكْرِ. وَيُوَافِقُهُ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ، وَمَنْ تَمَتَّعَ مِنْهُمْ أَوْ قَرَنَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ وَهُوَ دَمُ جِنَايَةٍ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ. وَقَالَ فِي التُّحْفَةِ: وَمَعَ هَذَا لَوْ تَمَتَّعُوا جَازَ وَأَسَاءُوا، وَعَلَيْهِمْ دَمُ الْجَبْرِ وَسَنَذْكُرُ مِنْ كَلَامِ الْحَاكِمِ صَرِيحًا اهـ.
وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الدَّمِ أَنْ لَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ حَالَةَ الْعُسْرَةِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْوَاقِعِ لُزُومَ دَمِ الْجَبْرِ لَزِمَ ثُبُوتُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا جَبْرَ إلَّا لِمَا وُجِدَ بِوَصْفِ النُّقْصَانِ لَا لِمَا لَمْ يُوجَدْ شَرْعًا. فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ كَوْنُ الدَّمِ لِلِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْمَكِّيِّ لَا لِلتَّمَتُّعِ مِنْهُ، وَهَذَا فَاشٍ بَيْنَ حَنَفِيَّةِ الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْآفَاقِيِّينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ قَرِيبٍ وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ شُئُونٌ وَمُعْتَمَدُ أَهْلِ مَكَّةَ مَا وَقَعَ فِي الْبَدَائِعِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأَنَّ دُخُولَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَعَ رُخْصَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: أَيْ لِلْحَجِّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ فَاخْتَصَّتْ هَذِهِ الْأَشْهُرُ بِالْحَجِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهَا غَيْرُهُ، إلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِيهَا رُخْصَةَ لِلْآفَاقِيِّ ضَرُورَةُ تَعَذُّرِ إنْشَاءِ سَفَرٍ لِلْعُمْرَةِ نَظَرًا لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ بِمَعْنَاهُمْ، فَلَمْ تَكُنْ الْعُمْرَةُ مَشْرُوعَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ، فَبَقِيَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ مَعْصِيَةً اهـ.
وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ خِلَافَهُ، وَقَدْ صَرَّحُوا فِي جَوَابِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا أَجَازَ التَّمَتُّعَ لِلْمَكِّيِّ. وَقَالَ فِي بَعْضِ الْأَوْجُهِ نَسْخُ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْمَكِّيَّ كَغَيْرِهِ، فَقَالُوا: أَمَّا النَّسْخُ فَثَابِتٌ عِنْدَنَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ أَيْضًا حَتَّى يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَضِيلَةَ التَّمَتُّعِ إلَى آخِرِ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْكَارُ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى هَذَا اعْتِمَارَ الْمَكِّيِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إنْ كَانَ لِمُجَرَّدِ الْعُمْرَةِ فَخَطَأٌ بِلَا شَكٍّ، وَإِنْ كَانَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي اعْتَمَرَ مِنْهُمْ لَيْسَ بِحَيْثُ يَتَخَلَّفُ عَنْ الْحَجِّ إذَا خَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ بَلْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ فَصَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ إنْكَارٌ لِمُتْعَةِ الْمَكِّيِّ لَا لِمُجَرَّدِ عُمْرَتِهِ. فَإِذَا ظَهَرَ لَك صَرِيحُ هَذَا الْخِلَافِ مِنْهُ فِي إجَازَةِ الْعُمْرَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُجَرَّدُ عُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَمَنْعُهَا وَجَبَ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا لَوْ كَرَّرَ الْمَكِّيُّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ هَلْ يَتَكَرَّرُ الدَّمُ عَلَيْهِ؟. فَعَلَى مَنْ صَرَّحَ بِحِلِّهَا لَهُ، وَأَنَّ الْمَنْعَ لَيْسَ إلَّا لِتَمَتُّعِهِ لَا يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَكَرُّرَهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي ثُبُوتِ تَكَرُّرِهِ وَتَمَتُّعِهِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَمَتَّعَ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَعَلَى مَنْ مَنَعَ نَفْسَ الْعُمْرَةِ مِنْهُ وَأَثْبَتَ أَنَّ نَسْخَ حُرْمَتِهَا إنَّمَا هُوَ لِلْآفَاقِيِّ فَقَطْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَرَّرَ الدَّمُ بِتَكَرُّرِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ، وَنَظَرَ هَؤُلَاءِ إلَى الْعُمُومَاتِ، مِثْلَ " دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ ". وَصَرِيحُ مَنْعِ الْمَكِّيِّ شَرْعًا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَهُوَ خَاصٌّ بِالْجَمْعِ تَمَتُّعًا فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، غَيْرَ أَنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ: دَلِيلُ التَّخْصِيصِ مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ وَيَخْرُجُ بِهِ مَعَهُ، وَتَعْلِيلُ مَنْعِ الْجَمْعِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ أَنْ يَحْصُلَ الرِّفْقُ وَدَفْعُ الْمَشَقَّةِ الْآتِيَةِ مِنْ قِبَلِ تَعَدُّدِ السَّفَرِ أَوْ إطَالَةِ الْإِقَامَةِ وَذَلِكَ خَاصٌّ، فَيَبْقَى الْمَنْعُ السَّابِقُ عَلَى مَا كَانَ وَيَخْتَصُّ النَّسْخُ بِالْآفَاقِيِّ، وَلِلنَّظَرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَجَالٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي بَعْدَ نَحْوِ ثَلَاثِينَ عَامًا مِنْ كِتَابَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْوَجْهَ مَنْعُ الْعُمْرَةِ لِلْمَكِّيِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ سَوَاءٌ حَجَّ مِنْ عَامِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ خَاصٌّ لَمْ يَثْبُتْ، إذْ الْمَنْقُولُ مِنْ قَوْلِهِمْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ كَلَامِ الْجَاهِلِيَّةِ دُونَ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام أَوْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا النَّظَرُ فِي الْآيَةِ.
وَحَاصِلُهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ إلَخْ تَخْصِيصُ مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ مُقَارِنٌ. وَاتَّفَقُوا فِي تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ تَجْوِيزَهُ لِلْآفَاقِيِّ لِدَفْعِ الْحَرَجِ كَمَا عُرِفَ وَمَنَعَهُ مِنْ الْمَكِّيِّ لِعَدَمِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الْحَرَجِ فِي عَدَمِ الْجَمْعِ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِمَنْعِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْرَجْ بِعَدَمِ الْجَمْعِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ عَدَمُهُ، بَلْ إنَّمَا يَصْلُحُ عَدَمُ الْحَرَجِ فِي عَدَمِ الْجَمْعِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ كُلٌّ مِنْ عَدَمِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَمْ يُحْرَجْ فِي عَدَمِ الْجَمْعِ لَا يُحْرَجْ فِي الْجَمْعِ، فَحِينَ وَجَبَ عَدَمُ الْجَمْعِ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِأَمْرٍ زَائِدٍ، وَلَيْسَ هُنَا سِوَى كَوْنِهِ فِي الْجَمْعِ مَوْقِعًا الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْعَ نَفْسِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِلْمَكِّيِّ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَبْدَيْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ إلَخْ، وَهُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ حَقِيقَةُ التَّمَتُّعِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَكُونُ مَنْعُهُ مِنْ التَّمَتُّعِ إلَّا لِلْعُمْرَةِ، فَكَانَ حَاصِلُ مَنْعِ صُورَةِ التَّمَتُّعِ إمَّا لِمَنْعِ الْعُمْرَةِ أَوْ الْحَجِّ، وَالْحَجُّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فَتَعَيَّنَتْ الْعُمْرَةُ غَيْرَ أَنِّي رَجَّحْتُ أَنَّهَا تَتَحَقَّقُ، وَيَكُونُ مُسْتَأْنِسًا بِقَوْلِ صَاحِبِ التُّحْفَةِ لَكِنَّ الْأَوْجُهَ خِلَافُهُ لِتَصْرِيحِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي الْآفَاقِيِّ الَّذِي يَعْتَمِرُ ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ بِقَوْلِهِمْ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ وَتَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّمَتُّعِ مُطْلَقًا أَنْ لَا يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَهُمَا إلْمَامًا صَحِيحًا، وَلَا وُجُودَ لِلْمَشْرُوطِ قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ قَالُوا بِوُجُودِ الْفَاسِدِ مَعَ الْإِثْمِ وَلَمْ يَقُولُوا بِوُجُودِ الْبَاطِلِ شَرْعًا مَعَ ارْتِكَابِ النَّهْي كَبَيْعِ الْحُرِّ لَيْسَ بِبَيْعٍ شَرْعِيٍّ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَإِنَّمَا لَمْ نَسْلُكُ فِي مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَسْلَكَ صَاحِبِ الْبَدَائِعِ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى
وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَهُمَا لِلتَّرَفُّهِ بِإِسْقَاطِ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ
أَمْرٍ لَمْ يَلْزَمْ ثُبُوتُهُ عَلَى الْخَصْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَوْجُهِ أَنَّ الْمُرَادَ لِلْحَجِّ أَشْهُرٌ وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَهَذَا مِمَّا لِلْخَصْمِ مَنْعُهُ، وَيَقُولُ: بَلْ جَازَ كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّ الْحَجَّ فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ فَيُفِيدُ أَنَّهُ يُفْعَلُ فِيهَا لَا فِي غَيْرِهَا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَفْعَلَ فِيهَا غَيْرَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ: وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ) مَدَارُ احْتِجَاجِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ نَسْخَ تَرْكِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ شَرْعِيَّةُ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَجَازَ التَّمَتُّعُ لِلْكُلِّ وقَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لَا يَنْفِيهِ، إذْ مَرْجِعُ الْإِشَارَةِ إلَى الْهَدْيِ لَا التَّمَتُّعِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ الْمُتْعَةِ لَهُمْ وَسُقُوطُ الْهَدْيِ عَنْهُمْ. قُلْنَا: بَلْ مَرْجِعُ الْإِشَارَةِ التَّمَتُّعُ لِوَصْلِهَا بِاللَّامِ، وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ، وَالتَّمَتُّعُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ، بِخِلَافِ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ عَلَيْنَا، فَلَوْ كَانَ مُرَادًا لَجِيءَ مَكَانَ اللَّامِ بِعَلَى فَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَإِنْ قِيلَ: شَرْعُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَامٌّ. قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي رَدَدْنَاهُ.
وَعَلَى تَقْدِيرِهِ أَيْضًا لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّا نُجِيزُ لِلْمَكِّيِّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ أُرِيدَ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ مِنْ عَامِهِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي النَّصِّ فَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ وَمَحَلُّ النِّزَاعِ. ثُمَّ إنْ عَلَّلْنَا دَلِيلَ التَّخْصِيصِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بِكَوْنِهِ مُلِمًّا بِأَهْلِهِ بَيْنَ أَدَائِهِمَا فَلَمْ يُكْمِلْ
وَهَذَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُتْعَةٌ وَلَا قِرَانٌ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ حَيْثُ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ.
مَعْنَى الِارْتِفَاقِ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ بِشَرْعِهِمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، بِخِلَافِ الْآفَاقِيِّ فَتَقَاصَرَ عَنْ إيجَابِ الشُّكْرِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآفَاقِيِّ فَعَدَّيْنَاهُ إلَى كُلِّ مَنْ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَتَّى إذَا اعْتَمَرَ الْآفَاقِيُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَأَقَامَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَصَارَ شَرْطُ التَّمَتُّعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا أَنْ لَا يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بِهَذَا الْمَأْخَذِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَوْدِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْآفَاقِيِّ بِأَنْ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ أَوْ لَا فَجَعَلَ الْإِلْمَامَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَوْدِ شَرْعًا كَعَدَمِهِ وَسَيَأْتِي.
وَإِذَا عَلِمْت هَذَا فَمُقْتَضَاهُ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَقِّ مِنْ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِإِطْلَاقِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ يَعُمُّ الْقِرَانَ؛ لِأَنَّهُ تَمَتُّعٌ لِلِارْتِفَاقِ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اشْتَرَطَ عَدَمَ الْإِلْمَامِ لِلْقِرَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَيْضًا، فَيُقْتَضَى فِي الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ عَادَ فَأَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ فَعَلَهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ الْقِرَانُ الشَّرْعِيُّ الْمُسْتَعْقِبُ لِلْحُكْمِ الْمَعْلُومِ مِنْ إيجَابِ الدَّمِ شُكْرًا، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرُوهُ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ إلَخْ. قَالُوا: خُصَّ الْمَكِّيُّ بِالْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَمَتُّعَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ مُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ وَلَوْ سَاقَ الْهَدْيَ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَا أَعْلَمْتُك، بَلْ وَيَقْتَضِي أَيْضًا بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ وُجُوبَ الدَّمِ جَبْرًا عَلَى الْآفَاقِيِّ إذَا عَادَ وَأَلَمَّ ثُمَّ رَجَعَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ إذَا كَانُوا أَوْجَبُوهُ عَلَى الْمَكِّيِّ إذَا تَمَتَّعَ؛ لِارْتِكَابِهِ النَّهْيَ، وَأَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّ مَنَاطَ نَهْيِهِ وُجُودُ الْإِلْمَامِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْآفَاقِيِّ الْمُلِمِّ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مِيقَاتِيَّتَانِ فَكَانَ كَالْآفَاقِيِّ). قَالُوا: يُشِيرُ إلَى أَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ التَّمَتُّعِ مِنْهُ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ لِإِخْلَالِهِ بِمِيقَاتِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ الْحَرَمِ أَخَلَّ بِمِيقَاتِ الْعُمْرَةِ، أَوْ مِنْ الْحِلِّ فَبِمِيقَاتِ الْحَجِّ لِلْمَكِّيِّ فَيُكْرَهُ وَيَلْزَمُهُ الرَّفْضُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَرْكَ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ صِحَّةِ النُّسُكِ الْمُعَيَّنِ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ آفَاقِيًّا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِهِمَا وَفَعَلَهُمَا أَنَّهُ يَكُونُ قَارِنًا، وَيَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ مَعَ دَمِ الْوَقْتِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ بَلْ أَوْلَى إذَا تَأَمَّلْت. عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ لَوْ كَانَ هَذَا لَصَحَّ قِرَانُ كُلِّ مَكِّيِّ بِطَرِيقِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ كَالتَّنْعِيمِ فَيُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَخْطُو خُطْوَةً فَيَدْخُلُ أَرْضَ الْحَرَمِ فَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ، لَكِنَّ الْمَنْعَ عَامٌّ، وَسَبَبُهُ لَيْسَ إلَّا الْآيَةَ، وَالْقِرَانُ مِنْ التَّمَتُّعِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ فِي آخِرِ الْبَابِ: وَالْقِرَانُ مِنْهُ: أَيْ مِنْ التَّمَتُّعِ. هَذَا ثُمَّ قَيَّدَ الْمَحْبُوبِيُّ قِرَانَ الْمَكِّيِّ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى الْكُوفَةِ مِثْلًا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
أَمَّا إذَا خَرَجَ بَعْدَ دُخُولِهَا فَلَا قِرَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَهُوَ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ فَقَدْ صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الْقِرَانِ شَرْعًا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْمَنْعِ مُطْلَقًا، بَلْ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْآفَاقِ الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إلَى مَكَان صَارَ مُلْحِقًا بِأَهْلِهِ، كَالْآفَاقِيِّ إذَا قَصَدَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ حَتَّى جَازَ لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ
(وَإِذَا عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ)؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ التَّمَتُّعُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَإِلْمَامُهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: رحمه الله يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُمَا بِسَفْرَتَيْنِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ عَلَى نِيَّةِ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَلُّلِ فَلَمْ يَصِحَّ إلْمَامُهُ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَسَاقَ الْهَدْيَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَصَحَّ إلْمَامُهُ
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ الْإِجْمَاعُ، عَلَى أَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا قَدِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى مَكَّةَ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ مِنْ الْحَرَمِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بِمَكَّةَ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفُ حِينَئِذٍ هُوَ الْوَجْهُ. هَذَا وَأَمَّا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْبَحْثِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقِرَانُ الْجَائِزُ مَا لَمْ يَنْقَضِ وَطَنُهُ بِمَكَّةَ لِلُّزُومِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْإِلْمَامِ فِيهِ كَالْمُتَمَتِّعِ، فَإِنْ قَرَنَ لَزِمَهُ دَمٌ كَمَا لَوْ قَرَنَ وَهُوَ بِمَكَّةَ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْقِرَانَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ التَّمَتُّعِ بِالنَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ وَيَلْزَمُ فِيهِ وُجُودُ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَوُجُوبُ الشُّكْرِ بِالدَّمِ مَا كَانَ إلَّا لِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِيهَا ثُمَّ الْحَجِّ فِيهَا، وَهَذَا فِي الْقِرَانِ كَمَا هُوَ فِي التَّمَتُّعِ.
وَمَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي رَمَضَانَ أَنَّهُ قَارِنٌ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ مُرَادٌ بِهِ الْقَارِنُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ قَرَنَ: أَيْ جَمَعَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَفَى لَازِمَ الْقِرَانِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَهُوَ لُزُومُ الدَّمِ وَنَفْيُ اللَّازِمُ الشَّرْعِيِّ نَفْيُ الْمَلْزُومِ الشَّرْعِيِّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّسُكَ الْمُسْتَعْقِبَ لِلدَّمِ شُكْرًا هُوَ مَا تَحَقَّقَ فِيهِ فِعْلُ الْمَشْرُوعِ الْمُرْتَفَقِ بِهِ النَّاسِخِ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَمْعِ فِي الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقِرَانِ وَإِلَّا فَهُوَ التَّمَتُّعُ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ وَكِلَاهُمَا التَّمَتُّعُ بِالْإِطْلَاقِ الْقُرْآنِيِّ وَعُرْفِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إطْلَاقُ اللُّغَةِ لِحُصُولِ الرِّفْقِ بِهَذَا النَّسْخِ. هَذَا كُلُّهُ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا مَا أَعْتَقِدُهُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فَسَأَذْكُرُهُ مِنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا عَادَ) الْحَاصِلُ أَنَّ عَوْدَ الْآفَاقِيِّ الْفَاعِلِ لِلْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ رُجُوعِهِ وَحَجِّهِ مِنْ عَامِهِ إنْ كَانَ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا، وَإِنْ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَبْطُلُ إلْحَاقًا لِعَوْدِهِ بِالْعَدَمِ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ شَرْعًا إذَا كَانَ عَلَى عَزْمِ الْمُتْعَةِ. وَالتَّقْيِيدُ بِعَزْمِ الْمُتْعَةِ لِنَفْيِ اسْتِحْقَاقِ الْعَوْدِ شَرْعًا عِنْدَ عَدَمِهِ فَإِنَّهُ لَوْ بَدَا لَهُ بَعْدَ الْعُمْرَةِ أَنْ لَا يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ بَعْدُ، وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ أَوْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ يَقَعُ تَطَوُّعًا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ، وَقَوْلُ مَنْ نَعْلَمُهُ قَالَهُ مِنْهُمْ مُطْلَقٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَيْضًا أَخَذُوهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إذْ لَا سُنَّةَ ثَابِتَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ.
رَوَى الطَّحَاوِيُّ
بِأَهْلِهِ.
(وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ ثُمَّ دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَتَمَّمَهَا وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ كَانَ مُتَمَتِّعًا)؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا شَرْطٌ فَيَصِحُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فِيهَا، وَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ
(وَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا)؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ فَصَارَ كَمَا إذَا تَحَلَّلَ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَمَالِكٌ رحمه الله يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا؛
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْعُمْرَةِ بَطَل تَمَتُّعُهُ، وَكَذَا ذَكَرَ الرَّازِيّ فِي كِتَابِ [أَحْكَامُ الْقُرْآنِ]. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنْ لَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَلَا قِرَانَ، وَأَنَّ رُجُوعَ الْآفَاقِيِّ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَوْدَهُ وَحَجَّهُ مِنْ عَامِهِ لَا يُبْطِلَ تَمَتُّعَهُ مُطْلَقًا. وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ جَوَازَ التَّمَتُّعِ بِعَدَمِ الْإِلْمَامِ بِالْأَهْلِ الْقَاطِنِينَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: أَيْ مَكَّةَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِأَهْلِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَأَفَادَ مَانِعِيَّةَ الْإِلْمَامِ عَنْ الْمُتَمَتِّعِ وَعَلِيَّتَهُ لِعَدَمِ الْجَوَازِ بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي مَكَّةَ، فَتَعَدِّيَةُ الْمَنْعِ بِتَعَدِّيَةِ الْإِلْمَامِ إلَى مَا بِغَيْرِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ الْأَهْلِ تُبْتَنَى عَلَى إلْغَاءِ قَيْدِ الْكَوْنِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاعْتِبَارِ الْمُؤَثِّرِ مُطْلَقُ الْإِلْمَامِ، وَصِحَّتُهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى عَقْلِيَّةِ عَدَمِ دُخُولِ الْقَيْدِ فِي التَّأْثِيرِ، وَكَوْنِهِ طَرْدِيًّا، وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ حُصُولَ الرِّفْقِ التَّامِّ بِشَرْعِيَّةِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ الْمُنْتَهِضِ مُؤَثِّرًا فِي إيجَابِ الشُّكْرِ إذَا حَجَّ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ الَّتِي اعْتَمَرَ فِيهَا إنَّمَا هُوَ لِلْآفَاقِيِّ لَا لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْقَاطِنِينَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ نَحْوُ مَا يَلْحَقُ الْآفَاقِيَّ بِمَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، بِخِلَافِ الْآفَاقِيِّ فَكَانَ فَائِدَةُ شَرْعِيَّةِ الْعُمْرَةِ فِيهَا فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ هُوَ الظَّاهِرَ فَنَاسَبَ أَنْ يُخَصَّ هُوَ بِشَرْعِيَّةِ الْمُتَمَتِّعِ فَكَانَ قَيْدُ حُضُورِ الْأَهْلِ فِي الْحَرَمِ ظَاهِرَ الِاعْتِبَارِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّمَتُّعِ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ: وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ الْإِتْمَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ) أَيْ فِي كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ. فَالْمَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ: مَذْهَبُنَا: يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا إذَا أَدَّى أَكْثَرَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَهَا. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: إذَا أَتَمَّهَا فِيهَا وَإِنْ فَعَلَ الْأَكْثَرَ خَارِجَهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ. وَعِنْدَنَا هُوَ
وَلِأَنَّ التَّرَفُّقَ بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ، وَالْمُتَمَتِّعُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
قَالَ (: وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالُ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِمُضِيِّ عَشْرِ ذِي الْحَجَّةِ، وَمَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ،
شَرْطٌ فَلَا يَكُونُ مِنْ مُسَمَّى الْعُمْرَةِ. هَذَا وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْقِرَانِ أَيْضًا أَنْ يَفْعَلَ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؟ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَكَأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ فِي ذَلِكَ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِيمَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي رَمَضَانَ أَنَّهُ قَارِنٌ وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ، وَأَنَّ الْحَقَّ اشْتِرَاطُ فِعْلِ أَكْثَرِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمَا قَدَّمْنَاهُ.
(قَوْلُهُ: كَذَا رُوِيَ عَنْ الْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) الْعَبَادِلَةُ فِي عُرْفِ أَصْحَابِنَا
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ لَا كُلُّهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، وَفِي عُرْفِ غَيْرِهِمْ أَرْبَعَةٌ أَخْرَجُوا ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَدْخَلُوا ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. وَغَلَّطُوا صَاحِبَ الصِّحَاحِ إذْ أَدْخَلَ ابْنَ مَسْعُودِ وَأَخْرَجَ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قِيلَ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ وَهَؤُلَاءِ عَاشُوا حَتَّى اُحْتِيجَ إلَى عِلْمِهِمْ. وَلَا يُخْفَى أَنَّ سَبَبَ غَلَبَةِ لَفْظِ الْعَبَادِلَةِ فِي بَعْضِ مِنْ سُمِّيَ بِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ نَحْوُ مِائَتَيْ رَجُلٍ لَيْسَ إلَّا لِمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَعْلَمَهُمْ، وَلَفْظُ عَبْدِ اللَّهِ إذَا أُطْلِقَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَكَانَ اعْتِبَارُهُ مِنْ مُسَمَّى لَفْظِ الْعَبَادِلَةِ أَوْلَى مِنْ الْبَاقِينَ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَا غَلَبَةَ فِي اعْتِبَارِهِ جُزْءِ الْمُسَمَّى فَلَا مُشَاحَّةَ فِي وَضْعِ الْأَلْفَاظِ. ثُمَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا.
وَحَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ قَالَ: أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، إنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ لَيْسَتْ أَشْهُرُ الْعُمْرَةِ إنَّمَا هِيَ لِلْحَجِّ وَإِنْ كَانَ عَمَلُ الْحَجِّ قَدْ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ أَيَّامِ مِنًى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَخْرَجَ يَوْمَ النَّحْرِ عَنْهَا فَهِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَاسْتَبْعَدَ بِاسْتِبْعَادٍ أَنْ يُوضَعَ لِأَدَاءِ رُكْنِ عِبَادَةٍ وَقْتٌ لَيْسَ وَقْتَهَا وَلَا هُوَ مِنْهُ.
وَفَائِدَةُ كَوْنِهِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ قَدِمَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ فَطَافَ لِلْقُدُومِ وَسَعَى وَبَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى قَابِلٍ فَإِنَّهُ لَا سَعْيَ عَلَيْهِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِوُقُوعِ ذَلِكَ السَّعْيِ مُعْتَدًّا بِهِ، وَأَيْضًا لَا يُكْرَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ وَأَيْضًا لَوْ أَحْرَمَ بِعَمْرَةٍ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَتَى بِأَفْعَالِهَا ثُمَّ أَحْرَمَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ بِالْحَجِّ وَبَقِيَ
(فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا جَازَ إحْرَامُهُ وَانْعَقَدَ حَجًّا) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا فَأَشْبَهُ الطَّهَارَةَ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ وَإِيجَابُ أَشْيَاءَ، وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَصَارَ كَالتَّقْدِيمِ عَلَى الْمَكَانِ.
قَالَ: (وَإِذَا قَدِمَ الْكُوفِيُّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفَرَغَ مِنْهَا وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ مَكَّةَ أَوْ الْبَصْرَةَ دَارًا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ تَرَفَّقَ بِنُسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ. وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ
مُحْرِمًا إلَى قَابِلٍ فَحَجَّ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَيُوجِبُ أَنْ يُوضَعَ مَكَانَ قَوْلِهِمْ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فِي تَصْوِيرِ الْمُتَمَتِّعِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا جَازَ) لَكِنَّهُ يُكْرَه، فَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الشَّرْطَ لِعَدَمِ اتِّصَالِ الْأَفْعَالِ وَالرُّكْنِ، وَلِذَا إذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ عَنْ الْفَرْضِ، فَالْجَوَازُ لِلشَّبَهِ الْأَوَّلِ، وَالْكَرَاهَةُ لِلثَّانِي. وَقِيلَ هُوَ شَرْطٌ وَالْكَرَاهَةُ لِلطُّولِ الْمُفْضِي إلَى الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورِهِ.
(قَوْلُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ مَا إذَا اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا حَتَّى صَارَ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ مَا إذَا اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا (فَقِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ) كَالْأَوَّلِ، قَالَهُ الْجَصَّاصُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ (وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ)
مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ تَكُونُ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً وَنُسُكَاهُ هَذَانِ مِيقَاتِيَّانِ. وَلَهُ أَنَّ السَّفْرَةَ الْأُولَى قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى وَطَنِهِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ فِيهَا فَوَجَبَ دَمُ التَّمَتُّعِ (فَإِنْ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا وَفَرَغَ مِنْهَا وَقَصَّرَ ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: هُوَ مُتَمَتِّعٌ)؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَفَرٍ وَقَدْ تَرَفَّقَ فِيهِ بِنُسُكَيْنِ.
وَلَهُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى وَطَنِهِ (فَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ هَذَا إنْشَاءُ سَفَرٍ لِانْتِهَاءِ السَّفَرِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ نُسُكَانِ صَحِيحَانِ فِيهِ، وَلَوْ بَقِيَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ مَكِّيَّةٌ وَالسَّفَرُ الْأَوَّلُ انْتَهَى بِالْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
(وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَأَيُّهُمَا
وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ وَهِيَ مَا إذَا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ تَرَجَّحَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ، وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِيهَا عَلَى أَنَّ سَفَرَهُ الْأَوَّلَ انْتَقَضَ بِقَصْدِ الْبَصْرَةِ وَالنُّزُولِ بِهَا وَنَحْوِهَا كَالطَّائِفِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ خَارِجُ الْمَوَاقِيتِ أَوْ لَا، فَعِنْدَهُمَا نَعَمْ، فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّقُ بِالنُّسُكَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الثَّانِيَةِ، وَهِيَ مَا إذَا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ ثُمَّ اتَّخَذَ الْبَصْرَةَ دَارًا ثُمَّ قَدِمَ بِعُمْرَةِ قَضَاءٍ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّفَرُ انْتَهَى بِالْفَاسِدَةِ، وَهَذَا سَفَرٌ آخَرُ حَصَلَ فِيهِ نُسُكَيْنِ صَحِيحَيْنِ.
وَعِنْدَهُ لَا فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الْأُولَى لِحُصُولِهِمَا صَحِيحَيْنِ فِي سَفْرَةِ وَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْهُمَا صَحِيحَيْنِ فِي السَّفْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتَقْيِيدُهُمْ بِكَوْنِهِ اتَّخَذَ
أَفْسَدَ مَضَى فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْإِحْرَامِ إلَّا بِالْأَفْعَالِ (وَسَقَطَ دَمُ الْمُتْعَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّقْ بِأَدَاءِ نُسُكَيْنِ صَحِيحَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ
(وَإِذَا تَمَتَّعَتْ الْمَرْأَةُ فَضَحَّتْ بِشَاةٍ لَمْ يُجِزْهَا عَنْ الْمُتْعَةِ)؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الرَّجُلِ.
(وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ وَصَنَعَتْ كَمَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ)
الْبَصْرَةَ وَنَحْوَهَا دَارًا اتِّفَاقِيٌّ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَّخِذَهَا دَارًا أَوْ لَا، صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ فَقَالَ: فَأَمَّا إذَا عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ بِأَنْ خَرَجَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ كَالْبَصْرَةِ مَثَلًا وَاِتَّخَذَ هُنَاكَ دَارًا أَوْ لَمْ يَتَّخِذْ تَوَطَّنَ بِهَا أَوْ لَمْ يَتَوَطَّنْ إلَخْ، وَإِذَا رَجَعْت إلَى مَا سَمِعْت مِنْ قَرِيبٍ مِنْ أَنَّ مَنْ وَصَلَ إلَى مَكَان كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِهِ إذَا كَانَ قَصْدُهُ إلَيْهِ زَالَ الرَّيْبُ.
[فُرُوعٌ]
لَوْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْحَرَمَ شَرْطَ جَوَازِ الْحَلْقِ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ. وَذَكَرَ بَعْدَهُ بِنَحْوِ وَرَقَتَيْنِ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَمَا طَافَ أَكْثَرَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ كُلِّهِ وَلَمْ يَحِلَّ وَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ مُحْرِمًا ثُمَّ عَادَ وَأَتَمَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. لَهُ أَنَّهُ أَدَّى الْعُمْرَةَ بِسَفْرَتَيْنِ وَأَكْثَرُهَا حَصَلَ فِي السَّفَر الْأَوَّلِ وَهَذَا يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ. وَلَهُمَا أَنَّ إلْمَامَهُ لَمْ يَصِحَّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْعَوْدُ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ لَا بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ. وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَمَّهَا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ كَانَ مُتَمَتِّعًا.
وَلَوْ أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ وَمَضَى فِيهَا حَتَّى أَتَمَّهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ وَقَضَاهَا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِأَهْلِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ. وَلَوْ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْفَاسِدَةِ لَمْ يَخْرُجْ أَوْ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ وَحَجَّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، حَتَّى لَوْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ كَانَ مُسِيئًا وَعَلَيْهِ لِإِسَاءَتِهِ دَمٌ. وَلَوْ خَرَجَ بَعْدَ إتْمَامِ الْفَاسِدَةِ إلَى خَارِجِ الْمَوَاقِيتِ كَالطَّائِفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لِأَهْلِهِ الْمُتْعَةُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَضَى عُمْرَتَهُ الْفَاسِدَةِ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ. عِنْدَهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ
لِأَنَّهُ عَلَى سَفَرِهِ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ فَحِينَ فَرَغَ مِنْ الْفَاسِدَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. فَلَمَّا خَرَجَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِهَا فَقَضَاهَا صَارَ مُلِمًّا بِأَهْلِهِ كَمَا فَرَغَ فَيَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ، كَالْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ ثُمَّ عَادَ فَاعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامٍ.
وَعِنْدَهُمَا مُتَمَتِّعٌ لِانْتِهَاءِ سَفَرِهِ الْأَوَّلِ. فَهُوَ حِينَ عَادَ آفَاقِيٌّ فَعَلَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، هَذَا إذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَفْسَدَهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا عَلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَقَضَى عُمْرَتَهُ فِيهَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ اتِّفَاقًا وَهُوَ كَمَكِّيِّ تَمَتَّعَ فَيَكُونُ مُسِيئًا وَعَلَيْهِ دَمٌ. فَلَوْ عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إلَى مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْمُتْعَةُ ثُمَّ عَادَ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ عَادَ فَقَضَاهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ. فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: فِي وَجْهٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَهُوَ مَا إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ خَارِجَ الْمَوَاقِيتِ. وَفِي وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَهُوَ مَا إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوْلِ أَدْرَكَهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ، وَفِي الثَّانِي أَدْرَكَتْهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ حَتَّى يَلْحَقَ بِأَهْلِهِ.
وَعِنْدَهُمَا هُوَ مُتَمَتِّعٌ فِي الْوَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى انْقِضَاءِ السَّفْرَةِ الْأُولَى بِلُحُوقِهِ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَحِقَ بِأَهْلِهِ. هَذَا وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى الْمِيقَاتِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَوَاقِيتِ فِي حُكْمِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى إنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ، وَيَحِلُّ لَهُمْ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إذَا لَمْ يُرِيدُوا النُّسُكَ إلَّا مَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَوْدِ إلَى الْأَهْلِ.
قَالَ: لَوْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ وَحَلَّ ثُمَّ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ أَوْ خَرَجَ إلَى مِيقَاتِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَادَ وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى مِيقَاتِ نَفْسِهِ مُلْحَقٌ بِالْأَهْلِ مِنْ وَجْهٍ. وَلَوْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ مِيقَاتِ نَفْسِهِ وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْمُتْعَةُ اتَّخَذَ دَارًا أَوْ لَا تَوَطَّنَ أَوْ لَا، ثُمَّ أَحْرَمَ مِنْ هُنَاكَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْإِلْحَاقِ بِالْأَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهِ، وَقَالَا: لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا اهـ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ
(قَوْلُهُ: لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا قَالَتْ: «خَرَجْنَا لَا نَرَى إلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ فَدَخَلَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكَى فَقَالَ: مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ. فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» . وَأَخْرَجَا عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ حَتَّى إذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ عَائِشَةُ، حَتَّى إذَا قَدِمْنَا طُفْنَا بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، قَالَ: فَقُلْنَا حِلُّ مَاذَا؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ، فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ وَتَطَيَّبْنَا وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ، ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي حِضْتُ وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الْآنَ، قَالَ: إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ، فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ، حَتَّى إذَا
وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ وَالْوُقُوفَ فِي الْمَفَازَةِ، وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُفِيدًا.
(فَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ انْصَرَفَتْ مِنْ مَكَّةَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدْرِ)«؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ» .
(وَمَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدْرِ)؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَنْ يُصْدَرُ إلَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا بَعْدَمَا حَلَّ النَّفَرُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَيَرْوِيهِ الْبَعْضُ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْتُ، قَالَ: فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ» اهـ.
وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَكْتَفِي لَهُمَا بِطَوَافٍ وَاحِدٍ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَمَعْنَى حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِك وَعُمْرَتِك لَا يَسْتَلْزِمُ الْخُرُوجَ مِنْهُمَا بَعْدَ قَضَاءِ فِعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، بَلْ يَجُوزُ ثُبُوتُ الْخُرُوجِ مِنْ الْعُمْرَةِ قَبْلَ إتْمَامِهَا، وَيَكُونُ عَلَيْهَا قَضَاؤُهَا؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ «يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ فَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ أَخَاهَا أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ» وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَطُفْ لِلْحَيْضِ حَتَّى وَقَفَتْ بِعَرَفَةَ صَارَتْ رَافِضَةً لِلْعُمْرَةِ، وَسُكُوتُهُ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ سَأَلَتْهُ إنَّمَا يَقْتَضِي تَرَاخِيَ الْقَضَاءِ لَا عَدَمَ لُزُومِهِ أَصْلًا. (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ) يَعْنِي وَلَا يَحِلُّ لِلْحَائِضِ دُخُولُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُرْمَةَ الطَّوَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ: دُخُولُهَا الْمَسْجِدَ وَتَرْكُ وَاجِبِ الطَّوَافِ، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ فِي الطَّوَافِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَطُوفَ حَتَّى تَطْهُرَ، فَإِنْ طَافَتْ كَانَتْ عَاصِيَةً مُسْتَحِقَّةً لِعِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَزِمَهَا الْإِعَادَةُ، فَإِنْ لَمْ تُعِدْهُ كَانَ عَلَيْهَا بَدَنَةٌ، وَتَمَّ حَجُّهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ
بَابُ الْجِنَايَاتِ
(وَإِذَا تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ
(بَابُ الْجِنَايَاتِ)
بَعْدَ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْمُحْرِمِينَ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ عَوَارِضَ لَهُمْ وَلِلْحَرَمِ، الْجِنَايَةُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا خَاصٌّ مِنْهُ وَهُوَ مَا تَكُونُ حُرْمَتُهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ أَوْ الْحَرَمِ (قَوْلُهُ: وَإِذَا تَطَيَّبَ) يُفِيدُ مَفْهُومُ شَرْطِهِ أَنَّهُ إذَا شَمَّ الطِّيبَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ تَطَيُّبًا، بَلْ التَّطَيُّبُ تَكَلُّفُ جَعْلِ نَفْسِهِ طَيِّبًا، وَهُوَ أَنْ يُلْصِقَ بِبَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ طِيبًا وَهُوَ جِسْمٌ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَالزَّعْفَرَانُ وَالْبَنَفْسَجُ وَالْيَاسَمِينُ وَالْغَالِيَةُ وَالرَّيْحَانُ وَالْوَرْدُ وَالْوَرْسُ وَالْعُصْفُرُ طِيبٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: الْقُسْطُ طِيبٌ. وَفِي الْخِطْمِيِّ اخْتِلَافُهُمْ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَنْعِ بَيْنَ بَدَنِهِ وَإِزَارِهِ وَفِرَاشِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَوَسَّدَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ وَلَا يَنَامُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُحْرِمِ شَيْءٌ بِشَمِّ الطِّيبِ وَالرَّيَاحِينِ لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَا شَمُّ الثِّمَارِ الطَّيِّبَةِ كَالتُّفَّاحِ وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، كَرِهَهُ عُمَرُ وَجَابِرٌ، وَأَجَازَهُ عُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشُدَّ مِسْكًا فِي طَرَفِ إزَارِهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْلِسَ فِي حَانُوتِ عَطَّارٍ. وَلَوْ دَخَلَ بَيْتًا قَدْ أُجْمِرَ فِيهِ فَعَلِقَ بِثَوْبِهِ رَائِحَةٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجْمَرَهُ هُوَ. قَالُوا إنْ أَجْمَرَ ثَوْبُهُ: يَعْنِي بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ، وَكَانَ الْمَرْجِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ الْعُرْفَ إنْ كَانَ، وَإِلَّا فَمَا يَقَعُ عِنْدَ الْمُبْتَلَى. وَمَا فِي الْمُجَرَّدِ: إنْ كَانَ فِي ثَوْبِهِ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ فَمَكَثَ عَلَيْهِ يَوْمًا يُطْعِمُ نِصْفَ صَاعٍ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ فَقَبْضَةٌ، يُفِيدُ التَّنْصِيصَ عَلَى أَنَّ الشِّبْرَ فِي الشِّبْرِ دَاخِلٌ فِي الْقَلِيلِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الطِّيبِ فِي الثَّوْبِ بِالزَّمَانِ.
وَلَا بَأْسَ بِشَمِّ الطِّيبِ الَّذِي تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ إحْرَامِهِ وَبَقَائِهِ عَلَيْهِ. وَلَوْ انْتَقَلَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان مِنْ بَدَنِهِ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا تَطَيَّبَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَكَفَّرَ ثُمَّ بَقِيَ عَلَيْهِ الطِّيبُ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ بِالْبَقَاءِ جَزَاءٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ كَانَ مَحْظُورًا فَكَانَ كُلُّهُ مَحْظُورًا فَيَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَالرِّوَايَةُ تُوَافِقُهُ. فِي الْمُنْتَقَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا مَسَّ طِيبًا كَثِيرًا فَأَرَاقَ لَهُ دَمًا ثُمَّ تَرَكَ الطِّيبَ عَلَى حَالِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ لِتَرْكِهِ
فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا فَمَا زَادَ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّأْسِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ الِارْتِفَاقِ، وَذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمُوجِبِ (وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ)؛ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَجِبُ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّمِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ. وَفِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ إذَا طَيَّبَ رُبُعَ الْعُضْوِ فَعَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ وَاجِبُ الدَّمِ يَتَأَدَّى بِالشَّاةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ نَذْكُرُهُمَا فِي بَابِ الْهَدْيِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكُلُّ صَدَقَةٍ فِي الْإِحْرَامِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فَهِيَ
دَمٌ آخَرُ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي تَطَيَّبَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ أَحْرَمَ وَتَرَكَ الطِّيبَ.
(قَوْلُهُ: فَمَا زَادَ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ بَيْنَ أَنْ يُطَيِّبَ عُضْوًا. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ كَالْيَدِ وَالسَّاقِ وَنَحْوِهِمَا. وَفِي الْفَتَاوَى: كَالرَّأْسِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ أَوْ أَزِيدَ إلَى أَنْ يَعُمَّ كُلَّ الْبَدَنِ، وَيَجْمَعُ الْمُفَرَّقَ فَإِنْ بَلَغَ عُضْوًا فَدَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ. فَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ لِلْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامَيْنِ. ثُمَّ إنَّمَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِتَطَيُّبِ كُلِّ الْبَدَنِ إذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَلِكُلِّ طِيبٍ كَفَّارَةٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَا عِنْدَهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ. وَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ ثُمَّ خَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَاهَا مَعَ الْأُولَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ تَبْرَأْ الْأُولَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَصْدِهِ وَعَدَمِهِ. فِي الْمَبْسُوطِ: اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَأَصَابَ يَدَهُ أَوْ فَمَهُ خَلُوقٌ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَصَدَقَةٌ.
وَهَلْ يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ زَمَانًا أَوْ لَا؟ فِي الْمُنْتَقَى: إبْرَاهِيمُ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ طِيبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لُبْسِ الْقَمِيصِ لَا يَجِبُ الدَّمُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ الْيَوْمِ قَالَ: لِأَنَّ الطِّيبَ يَعْلَقُ بِهِ، فَقُلْت: وَإِنْ اغْتَسَلَ مِنْ سَاعَتِهِ؟ قَالَ: وَإِنْ اغْتَسَلَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَفِيهِ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: خَلُوقُ الْبَيْتِ وَالْقَبْرِ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ الْمُحْرِمِ فَحَكَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَإِنْ أَصَابَ جَسَدَهُ مِنْهُ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ الدَّمُ. اهـ. وَهَذَا يُوجِبُ التَّرَدُّدَ. وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ جَمَعَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ: إنْ مَسَّ طِيبًا فَإِنْ لَزِقَ بِهِ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَلْزَقْ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَزِقَ بِهِ كَثِيرًا فَاحِشًا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَفِي الْفَتَاوَى: لَا يَمَسُّ طِيبًا بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْصِدُ بِهِ التَّطَيُّبَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَشَارَ إلَى اعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ فِي الطِّيبِ وَالْقِلَّةِ فِي الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ. قَالَ فِي بَابٍ: إنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَصَدَقَةٌ، كَمَا صَرَّحَ بِاعْتِبَارِهِمَا فِي الْعُضْوِ وَبَعْضِهِ.
وَوَفَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ إنْ كَانَ كَثِيرًا كَكَفَّيْنِ مِنْ مَاءِ الْوَرْدِ وَكَفٍّ مِنْ الْغَالِيَةِ وَفِي الْمِسْكِ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاسُ فَفِيهِ الدَّمُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ قَلِيلًا وَهُوَ مَا يَسْتَقِلُّهُ النَّاسُ فَالْعِبْرَةُ لِتَطْيِيبِ عُضْوَيْهِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ طَيَّبَ بِهِ عُضْوًا كَامِلًا فَفِيهِ دَمٌ وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الْهِنْدُوَانِيُّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ فِي نَفْسِهِ، وَالتَّوْفِيقُ هُوَ التَّوْفِيقُ. (قَوْلُهُ: وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَرْقَ) أَيْ بَيْنَ حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ وَتَطْيِيبِ رُبُعِ الْعُضْوِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ قَرِيبًا وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ. وَمَا فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنْ طَيَّبَ شَارِبَهُ كُلَّهُ أَوْ بِقَدْرِهِ مِنْ لِحْيَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا فِي الْمُنْتَقَى (قَوْلُهُ: إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ) مَوَاضِعُ الْبَدَنَةِ أَرْبَعَةٌ: مَنْ طَافَ الطَّوَافَ الْمَفْرُوضِ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ، أَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. لَكِنَّ الْقُدُورِيَّ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ كَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى اسْتِعْلَامِ لُزُومِ الْبَدَنَةِ فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِالدَّلَالَةِ مِنْ
نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
قَالَ (فَإِنْ خَضَبَ رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» وَإِنْ صَارَ مُلَبَّدًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِلتَّطَيُّبِ وَدَمٌ لِلتَّغْطِيَةِ. وَلَوْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِطِيبٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إذَا خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ؛ لِأَجْلِ الْمُعَالَجَةِ مِنْ الصُّدَاعِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ. ثُمَّ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الرَّأْسِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ دَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ.
(فَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّعْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِزَالَةِ الشَّعَثِ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ إلَّا أَنَّ فِيهِ ارْتِفَاقًا بِمَعْنَى قَتْلِ الْهَوَامِّ
الْجُنُبِ؛ إمَّا لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْغِلَظِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُمَا أَغْلَظُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ قُرْبَانِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ جَنَابَتِهَا (قَوْلُهُ: إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ) فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَا شَاءَ.
(قَوْلُهُ: فَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ) مُنَوَّنًا؛ لِأَنَّهُ فِعَالٍ لَا فَعْلَاءَ لِيَمْنَعَ صَرْفَهُ أَلْفُ التَّأْنِيثِ (فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَكَذَا إذَا خَضَّبَتْ امْرَأَةٌ يَدَهَا؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً مُسْتَلَذَّةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً (قَالَ عليه الصلاة والسلام «الْحِنَّاءُ طِيبٌ») رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ إلَى النَّسَائِيّ وَلَفْظُهُ «نَهَى الْمُعْتَدَّةَ عَنْ التَّكَحُّلِ وَالدُّهْنِ وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ، وَقَالَ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ» وَهَذَا إذَا كَانَ مَائِعًا، فَإِنْ كَانَ ثَخِينًا فَلَبَّدَ الرَّأْسَ فَفِيهِ دَمَانِ لِلطِّيبِ وَالتَّغْطِيَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا دَاوَمَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً عَلَى جَمِيعِ رَأْسِهِ أَوْ رُبْعِهِ، وَكَذَا إذَا غَلَّفَ الْوَسْمَةَ.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا صَحِيحٌ) أَيْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ؛ لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ مُوجِبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ غَيْرَ أَنَّهَا لِلْعِلَاجِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّمَ. وَعَلَى هَذَا فَمَا فِي الْجَوَامِعِ: إنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَالتَّلْبِيدُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الْخِطْمِيِّ وَالْآسِ وَالصَّمْغِ فَيَجْعَلَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ لِيَتَلَبَّدَ. وَمَا ذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ الْبَصْرَوِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَحَسُنَ أَنْ يُلَبِّدَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِلتَّغْطِيَةِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِصْحَابُ التَّغْطِيَةِ الْكَائِنَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ التَّطَيُّبِ. وَفِي سِينِ الْوَسْمَةِ الْإِسْكَانُ وَالْكَسْرُ: وَهُوَ نَبْتٌ يُصْبَغُ بِوَرَقِهِ، فَإِنْ لَمْ يُغَلَّفْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَالْغُسْلِ بِالْأُشْنَانِ وَالسِّدْرِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُلَيِّنُ الشَّعْرَ وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ.
(قَوْلُهُ: فَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ) خَصَّهُ مِنْ بَيْنَ الْأَدْهَانِ الَّتِي لَا رَائِحَةَ لَهَا لِيُفِيدَ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ نَفْيَ الْجَزَاءِ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَدْهَانِ كَالشَّحْمِ وَالسَّمْنِ،
وَإِزَالَةِ الشَّعَثِ فَكَانَتْ جِنَايَةً قَاصِرَةً. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ طِيبٍ، وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ وَيُلَيِّنُ الشَّعْرَ وَيُزِيلُ التَّفَثَ وَالشَّعَثَ فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَتُوجِبُ الدَّمَ، وَكَوْنُهُ مَطْعُومًا لَا يُنَافِيهِ كَالزَّعْفَرَانِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الزَّيْتِ الْبَحْتِ وَالْخَلِّ الْبَحْتِ.
أَمَّا الْمُطَيِّبُ مِنْهُ كَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ، وَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، وَلَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ إنَّمَا هُوَ أَصْلُ الطِّيبِ أَوْ طِيبٌ مِنْ وَجْهِ فَيُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ
وَلَا بُدَّ عَلَى هَذَا مِنْ كَوْنِهِ عَمَّمَ الزَّيْتَ فِي الْخَلِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْخَلَّ كَالزَّيْتِ فِي الْمَبْسُوطِ. (قَوْلُهُ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ طِيبٍ وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ إلَخْ) لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ الدَّمَ عَيْنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا دَهَنَ كُلَّهُ أَوْ عُضْوًا لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّعْلِيلِ بِأَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ إلْحَاقًا بِكَسْرِ بَيْضِ الصَّيْدِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قِيمَتُهُ فَاحْتَاجَ إلَى جَعْلِهِ جُزْءَ عِلَّةٍ فِي لُزُومِ الدَّمِ، وَمَنْ اكْتَفَى بِذَلِكَ كَصَاحِبِ الْمَبْسُوطِ فَقَصَدَ الْإِلْحَاقِ فِي لُزُومِ الدَّمِ فِي الْجَزَاءِ فِي الْجُمْلَةِ احْتِجَاجًا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ الشَّعْرِ مِنْ بَدَنِهِ فَإِنَّهُ حَكَى خِلَافَهُ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ وَجْهَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ فِي لُزُومِ الصَّدَقَةِ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِيهِ: فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ أَصْلِ الطِّيبِ مَا يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ كَكَسْرِ بَيْضِ الصَّيْدِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَصْلَ الطِّيبِ أَنَّهُ يُلْقَى فِيهِ الْأَنْوَارُ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ فَيَصِيرُ نَفْسُهُ طِيبًا.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الزَّيْتِ الْبَحْتِ) أَيْ الْخَالِصِ (وَالْخَلِّ الْبَحْتِ) هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ الشَّيْرَجُ (أَمَّا الْمُطَيَّبُ مِنْهُ) وَهُوَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ الْأَنْوَارُ (كَالزِّنْبَقِ) بِالنُّونِ وَهُوَ الْيَاسَمِينُ وَدُهْنُ الْبَانِ وَالْوَرْدِ (فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِالِاتِّفَاقِ الدَّمُ) إذَا كَانَ كَثِيرًا (قَوْلُهُ: وَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ) أَيْ الزَّيْتَ الْخَالِصَ أَوْ الْخَلَّ، لَمَّا لَمْ يَكُنْ طِيبًا كَامِلًا اُشْتُرِطَ فِي لُزُومِ الدَّمِ بِهِمَا اسْتِعْمَالَهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، فَلَوْ أَكَلَهُمَا أَوْ دَاوَى بِهِمَا شُقُوقَ رِجْلَيْهِ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنَيْهِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَلِذَا جَعَلَ الْمَنْفِيَّ الْكَفَّارَةَ لِيَنْتَفِيَ الدَّمُ وَالصَّدَقَةُ، بِخِلَافِ الْمِسْكِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْعَنْبَرِ وَالْغَالِيَةِ وَالْكَافُورِ حَيْثُ يَلْزَمُ الْجَزَاءُ بِالِاسْتِعْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي، لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ إذَا كَانَ لِعُذْرٍ بَيْنَ الدَّمِ وَالصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَكَذَا إذَا أَكَلَ الْكَثِيرَ مِنْ الطِّيبِ وَهُوَ مَا يَلْزَقُ بِأَكْثَرِ فَمِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَهَذِهِ تَشْهَدُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْعُضْوِ مُطْلَقًا فِي لُزُومِ الدَّمِ، بَلْ ذَاكَ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْكَثْرَةِ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. ثُمَّ الْأَكْلُ الْمُوجِبُ أَنْ يَأْكُلَهُ كَمَا هُوَ، فَإِنْ جَعَلَهُ فِي طَعَامٍ قَدْ طُبِخَ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْأَفَاوِيهِ مِنْ الزَّنْجَبِيلِ وَالدَّارَصِينِيِّ يُجْعَلُ فِي الطَّعَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ السِّكْبَاجَ الْأَصْفَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ بَلْ خَلَطَهُ بِمَا يُؤْكَلُ بِلَا طَبْخٍ كَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ رَائِحَتُهُ مَوْجُودَةً كُرِهَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا فَإِنَّهُ كَالْمُسْتَهْلَكِ، أَمَّا إذَا كَانَ غَالِبًا فَهُوَ كَالزَّعْفَرَانِ الْخَالِصِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ عَدَمًا عَكْسُ الْأُصُولِ وَالْمَعْقُولِ فَيَجِبُ الْجَزَاءُ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ رَائِحَتُهُ. وَلَوْ خَلَطَهُ بِمَشْرُوبٍ وَهُوَ غَالِبٌ فَفِيهِ الدَّمُ، وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا فَصَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشْرَبَ مِرَارًا فَدَمٌ.
فَإِنْ كَانَ الشُّرْبُ تَدَاوِيًا تَخَيَّرَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: فِيمَا إذَا اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ فِيهِ طِيبٌ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إنْ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ فِيهِ طِيبٌ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
التَّطَيُّبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَدَاوَى بِالْمِسْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ.
(وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ،
يُفِيدُ تَفْسِيرَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا أَنَّهُ الْكَثْرَةُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي نَفْسِ الطِّيبِ الْمُخَالِطِ فَلَا يَلْزَمُ الدَّمُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ الطِّيبُ كَثِيرًا فِي الْكُحْلِ وَيُشْعِرُ بِالْخِلَافِ، لَكِنْ مَا فِي كَافِي الْحَاكِمِ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ: يَعْنِي الْكُحْلَ فَفِيهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَعَلَيْهِ دَمٌ، لَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا، وَلَوْ كَانَ لَحَكَاهُ ظَاهِرًا كَمَا هُوَ عَادَةُ مُحَمَّدٍ رحمه الله، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ كَمَا يُفِيدُهُ تَنْصِيصُهُ عَلَى الْمَرَّةِ وَالْمَرَّتَيْنِ وَمَا فِي الْكَافِي الْمِرَارُ الْكَثِيرُ، هَذَا فَإِنْ كَانَ الْكُحْلُ عَنْ ضَرُورَةٍ تَخَيَّرَ فِي الْكَفَّارَةِ، وَكَذَا إذَا تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَأَلْزَقَهُ بِجِرَاحَتِهِ أَوْ شَرِبَهُ شُرْبًا. وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ غَسَلَ بِأُشْنَانٍ فِيهِ طِيبٌ فَإِنْ كَانَ مَنْ رَآهُ سَمَّاهُ أُشْنَانًا فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ سَمَّاهُ طِيبًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ. اهـ.
وَلَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ طِيبًا لَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ. وَلَهُ مَنْعُ نَفْيِ الطِّيبِ مُطْلَقًا بَلْ لَهُ رَائِحَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً فَكَانَ كَالْحِنَّاءِ مَعَ قَتْلِهِ الْهَوَامَّ فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَأُوِّلَ بِمَا إذَا غَسَلَ بِهِ بَعْدَ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ. وَعَنْهُ فِي أُخْرَى أَنَّ عَلَيْهِ دَمَيْنِ لِلتَّطَيُّبِ وَالتَّغْلِيفِ، قِيلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي خِطْمِيِّ الْعِرَاقِ وَلَهُ رَائِحَةٌ، وَقَوْلُهُمَا فِي خِطْمِيِّ الشَّامِ وَلَا رَائِحَةَ لَهُ فَلَا خِلَافَ. وَقِيلَ بَلْ الْخِلَافُ فِي الْعِرَاقِ. وَلَوْ غَسَلَ بِالصَّابُونِ أَوْ الْحُرُضِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَقَالُوا: لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلَا يَقْتُلُ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا إلَخْ) لَا فَرْقَ فِي لُزُومِ الدَّمِ بَيْنَ مَا إذَا أَحْدَثَ اللُّبْسَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ أَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَدَامَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً عَلَيْهِ، بِخِلَافِ انْتِفَاعِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالطِّيبِ السَّابِقِ عَلَيْهِ قَبْلَهُ لِلنَّصِّ فِيهِ وَلَوْلَاهُ لَأَوْجَبْنَا فِيهِ أَيْضًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي اللُّبْسِ أَوْ مُكْرَهًا عَلَيْهِ أَوْ نَائِمًا فَغَطَّى إنْسَانٌ رَأْسَهُ لَيْلَةً أَوْ وَجْهَهُ حَتَّى يَجِبَ الْجَزَاءُ عَلَى النَّائِمِ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ حَصَلَ لَهُ، وَعَدَمُ الِاخْتِيَارِ أَسْقَطَ الْإِثْمَ عَنْهُ لَا الْمُوجِبَ عَلَى مَا عُرِفَ تَحْقِيقُهُ فِي مَوَاضِعَ. وَالتَّقْيِيدُ بِثَوْبٍ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا لَيْسَ بِمُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ، بَلْ لَوْ جَمَعَ اللِّبَاسَ كُلَّهُ الْقَمِيصَ وَالْعِمَامَةَ وَالْخُفَّيْنِ يَوْمًا كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَالْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لُبْسٌ وَاحِدٌ وَقَعَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى الْقَارِنِ دَمَانِ فِيمَا عَلَى الْمُفْرِدِ فِيهِ دَمٌ، وَكَذَا لَوْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا أَوْ كَانَ يَنْزِعُهَا لَيْلًا وَيُعَاوِدُ لُبْسَهَا نَهَارًا أَوْ يَلْبَسُهَا لَيْلًا لِلْبَرْدِ وَيَنْزِعُهَا نَهَارًا مَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى التَّرْكِ عِنْدَ الْخَلْعِ، فَإِنْ عَزَمَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَبِسَ تَعَدَّدَ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ اللُّبْسُ الثَّانِي لُبْسًا مُبْتَدَأً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُكَفِّرْ فَاللُّبْسُ عَلَى حَالِهِ فَهُوَ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَّرَ عَلَى مَا قَرَّرْنَا.
وَهُمَا يَقُولَانِ: لَمَّا نَزَعَ عَلَى عَزْمِ التَّرْكِ نَقْطَعُ حُكْمَ اللُّبْسِ الْأَوَّلِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي مُبْتَدَأً. فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّزْعَ مَعَ عَزْمِ التَّرْكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ اللُّبْسَيْنِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ التَّكْفِيرُ. وَلَوْ لَبِسَ يَوْمًا فَأَرَاقَ دَمًا ثُمَّ دَامَ عَلَى لُبْسِهِ يَوْمًا آخَرَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ عَلَى اللُّبْسِ كَابْتِدَائِهِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى
وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَوَّلًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجِبُ الدَّمُ بِنَفْسِ اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ يَتَكَامَلُ بِالِاشْتِمَالِ عَلَى بَدَنِهِ.
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى التَّرَفُّقِ مَقْصُودٌ مِنْ اللُّبْسِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ؛ لِيَحْصُلَ عَلَى الْكَمَالِ وَيَجِبُ الدَّمُ، فَقُدِّرَ بِالْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُلْبَسُ فِيهِ ثُمَّ يُنْزَعُ عَادَةً وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ الْجِنَايَةُ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رحمه الله أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ.
الْمَخِيطِ فَدَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَوْمًا إذْ عَلَيْهِ الدَّمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اتِّحَادِ الْجَزَاءِ إذَا لَبِسَ جَمِيعَ الْمَخِيطِ مَحَلَّهُ مَا إذَا لَمْ يَتَعَدَّدْ سَبَبُ اللُّبْسِ، فَإِنْ تَعَدَّدَ كَمَا إذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ، فَإِنَّ لُبْسَهُمَا عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ يَتَخَيَّرُ فِيهَا. وَكَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يُضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ أَوْ قَمِيصًا وَجُبَّةً أَوْ اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ فَلَبِسَهَا مَعَ عِمَامَةٍ، وَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ وَغَيْرَهَا كَالْقَلَنْسُوَةِ مَعَ الْقَمِيصِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ يَتَخَيَّرُ فِي إحْدَاهُمَا وَهِيَ مَا لِلضَّرُورَةِ، وَالْأُخْرَى لَا يَتَخَيَّرُ فِيهَا وَهِيَ مَا لِغَيْرِهَا.
وَمِنْ صُوَرِ تَعَدُّدِ السَّبَبِ وَاتِّحَادِهِ مَا إذَا كَانَ بِهِ مَثَلًا حُمَّى يَحْتَاجُ إلَى اللُّبْسِ لَهَا وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي وَقْتِ زَوَالِهَا فَإِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَإِنْ تَعَدَّدَ اللُّبْسِ مَا لَمْ تَزُلْ عَنْهُ. فَإِنْ زَالَتْ وَأَصَابَهُ مَرَضٌ آخَرُ أَوْ حُمَّى غَيْرُهَا وَعَرَفَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأُولَى أَوْ لَا عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأُولَى، فَإِنْ كَفَّرَ فَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَكَذَا إذَا حَصَرَهُ عَدُوٌّ فَاحْتَاجَ إلَى اللُّبْسِ لِلْقِتَالِ أَيَّامًا يَلْبَسُهَا إذَا خَرَجَ إلَيْهِ وَيَنْزِعُهَا إذَا رَجَعَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَذْهَبْ هَذَا الْعَدُوُّ، فَإِنْ ذَهَبَ وَجَاءَ عَدُوٌّ غَيْرَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى. وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى اتِّحَادِ الْجِهَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا إلَى ضَرُورَةِ اللُّبْسِ كَيْفَ كَانَتْ.
وَلَوْ لَبِسَ لِلضَّرُورَةِ فَزَالَتْ فَدَامَ بَعْدَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَمَا دَامَ فِي شَكٍّ مِنْ زَوَالِ الضَّرُورَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَيَقَّنَ زَوَالَهَا فَاسْتَمَرَّ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لَا يَتَخَيَّرُ فِيهَا. (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ: فِي سَاعَةٍ نِصْفُ صَاعٍ. وَفِي أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ قَبْضَةٌ مِنْ بُرٍّ. (قَوْلُهُ: فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ؛ لِيَحْصُلَ عَلَى الْكَمَالِ) يَتَضَمَّنُ مَنْعَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الِارْتِفَاقَ يَتَكَامَلُ بِالِاشْتِمَالِ بَلْ مُجَرَّدُ الِاشْتِمَالِ، ثُمَّ النَّزْعِ فِي الْحَالِ لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ بِهِ ارْتِفَاقًا فَضْلًا عَنْ كَمَالِهِ. وَقَوْلُهُ فِي وَجْهِ التَّقْدِيرِ بِيَوْمٍ (لِأَنَّهُ يَلْبَسُ فِيهِ ثُمَّ يَنْزِعُ عَادَةً) يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْيَوْمِ بَلْ لُبْسُ اللَّيْلَةِ الْكَامِلَةِ كَالْيَوْمِ؛ لِجَرَيَانِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِيهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ.
(قَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ) كَمَا اعْتَبَرَهُ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي لُبْسِ بَعْضِ الْيَوْمِ قِسْطُهُ مِنْ الدَّمِ كَثُلُثِ الْيَوْمِ
وَلَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّشَحَ بِهِ أَوْ ائْتَزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ. وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ خِلَافًا لِزَفَرٍ؛ لِأَنَّهُ مَا لَبِسَهُ لُبْسَ الْقَبَاءِ وَلِهَذَا يَتَكَلَّفُ فِي حِفْظِهِ. وَالتَّقْدِيرُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا غَطَّى جَمِيعَ رَأْسِهِ يَوْمًا كَامِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ، وَلَوْ غَطَّى بَعْضَ رَأْسِهِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ اعْتَبَرَ الرُّبُعَ اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ وَالْعَوْرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْبَعْضِ اسْتِمْتَاعٌ مَقْصُودٌ يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ.
فِيهِ ثُلُثُ الدَّمِ وَفِي نِصْفِهِ نِصْفُهُ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجْرِي (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ) لُبْسُ الْمِخْيَطِ أَنْ يَحْصُلَ بِوَاسِطَةِ الْخِيَاطَةِ اشْتِمَالٌ عَلَى الْبَدَنِ وَاسْتِمْسَاكٌ، فَأَيُّهُمَا انْتَفَى انْتَفَى لُبْسُ الْمَخِيطِ؛ وَلِذَا قُلْنَا فِيمَا لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ دُونَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَا إذَا لَبِسَ الطَّيْلَسَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُزِرَّهُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِاسْتِمْسَاكِ بِنَفْسِهِ فَإِنْ زَرَّ الْقَبَاءَ أَوْ الطَّيْلَسَانَ يَوْمًا لَزِمَهُ دَمٌ؛ لِحُصُولِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالزِّرِّ مَعَ الِاشْتِمَالِ بِالْخِيَاطَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَقَدَ الرِّدَاءَ أَوْ شَدَّ الْإِزَارَ بِحَبْلٍ يَوْمًا كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِلشَّبَهِ بِالْمَخِيطِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِانْتِفَاءِ الِاشْتِمَالِ بِوَاسِطَةِ الْخِيَاطَةِ. وَفِي إدْخَالِ الْمَنْكِبَيْنِ الْقَبَاءَ خِلَافُ زُفَرَ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتُقَ السَّرَاوِيلَ إلَى مَوْضِعِ التِّكَّةِ فَيَأْتَزِرَ بِهِ، وَأَنْ يَلْبَسَ الْمُكَعَّبَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ إذَا كَانَ فِي وَسَطِ الْقَدَمِ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْجَوْرَبِ فَإِنَّهُ كَالْخُفِّ فَلُبْسُهُ يَوْمًا مُوجِبٌ لِلدَّمِ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ غَطَّى بَعْضَ رَأْسِهِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارُ الرُّبُعِ) إنْ بَلَغَ قَدْرَ الرُّبُعِ فَدَامَ يَوْمًا لَزِمَهُ دَمٌ (اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ وَالْعَوْرَةِ) حَيْثُ يَلْزَمُ الدَّمُ بِحَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ أَوْ اللِّحْيَةِ، وَفَسَادُ الصَّلَاةِ بِكَشْفِ رُبُعِ الْعَوْرَةِ. وَقَوْلُهُ:(وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْبَعْضِ اسْتِمْتَاعٌ مَقْصُودٌ يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ) يَصْلُحُ إبْدَاءً لِلْجَامِعِ: أَيْ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا وَجَبَ فِي حَلْقِ الرُّبُعِ الدَّمُ وَهِيَ الِارْتِفَاقُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ أَكْمَلُ مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِي تَغْطِيَةِ الْبَعْضِ؛ وَلِذَا يَعْتَادُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَعْتَادُهُ تَحْصِيلًا لِلِارْتِفَاقِ وَإِلَّا كَانَ عَبَثًا، وَإِنْ كَانَ الْجَامِعُ هَذَا فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْعَوْرَةِ أَصْلًا لِانْتِفَاءِ هَذَا الْجَامِعِ، إذْ لَيْسَ فَسَادُ الصَّلَاةِ بِانْكِشَافِ الرُّبُعِ لِذَلِكَ بَلْ لِعَدِّهِ كَثِيرًا عُرْفًا، وَلَيْسَ الْمُوجِبُ هَذَا هُنَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَقُلْ بِإِقَامَةِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلِ الْوَاقِعِ فِيهِمَا التَّغْطِيَةُ وَاللُّبْسُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ هُنَا لَيْسَ إلَّا لِثُبُوتِ الِارْتِفَاقِ كَامِلًا وَعَدَمِهِ، وَكَذَا إذَا غَطَّى رُبُعَ وَجْهِهِ أَوْ غَطَّتْ الْمَرْأَةُ رُبُعَ وَجْهِهَا.
(قَوْلُهُ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْتَبِر أَكْثَرَ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ) وَلَمْ يَذْكُرْ لِمُحَمَّدٍ قَوْلًا. وَنَقَلَ فِي الْبَدَائِعِ عَنْ نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله
(وَإِذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ أَوْ رُبُعَ لِحْيَتِهِ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَجِبُ بِحَلْقِ الْقَلِيلِ اعْتِبَارًا بِنَبَاتِ الْحَرَمِ. وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فَتَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ وَتَتَقَاصَرُ فِيمَا دُونَهُ بِخِلَافِ تَطَيُّبِ رُبُعِ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَكَذَا حَلْقُ بَعْضِ اللِّحْيَةِ مُعْتَادٌ بِالْعِرَاقِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ
عَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِي الْأَصْلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْجَهُ فِي النَّظَرِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الِارْتِفَاقُ الْكَامِلُ، وَاعْتِيَادُ تَغْطِيَةِ الْبَعْضِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الْمُعْتَادَ لَيْسَ هُوَ الرُّبُعُ، فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ مَنْ نَعْلَمُ مِنْ الْيَمَانِيِّينَ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ السَّرْقُوجَ يَشُدُّونَهُ تَحْتَ الْحَنَكِ تَغْطِيَةُ الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ، فَإِنَّ الْبَادِيَ مِنْهُمْ هُوَ النَّاصِيَةُ لَيْسَ غَيْرُ، وَلَعَلَّ تَغْطِيَةَ مُجَرَّدِ الرُّبُعِ فَقَطْ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَمْسِكُ مِمَّا لَمْ يَتَحَقَّقْ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَحْوَ جَبِيرَةٍ تَشُدُّ.
وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّ مَا عَيَّنَهُ جَامِعًا فِي الْحَلْقِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ حُصُولُ الِارْتِفَاقِ كَامِلًا بِحَلْقِ الرُّبُعِ بِدَلِيلِ الْقَصْدِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ، وَالثَّابِتُ فِي الْفَرْعِ الِاعْتِيَادُ بِتَغْطِيَةِ الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ لَا الْأَقَلُّ، وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الِارْتِفَاقِ بِهِ فَلَمْ يَتَّحِدْ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَلِذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي الْفَرْعِ سِوَى مُطْلَقِ الْبَعْضِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ الرُّبُعَ مَنَعْنَا وُجُودَهُ فِي الْفَرْعِ. وَمِنْ فُرُوعِ اعْتِبَارِ الرُّبُعِ مَا لَوْ عَصَبَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ أَوْ وَجْهَهُ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، إلَّا أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ الرُّبُعِ. وَلَوْ عَصَبَ مَوْضِعًا آخَرَ مِنْ جَسَدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَثُرَ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَعَقْدِ الْإِزَارِ وَتَخْلِيلِ الرِّدَاءِ لِشَبَهِ الْمَخِيطِ، بِخِلَافِ لُبْسِ الْمَرْأَةِ الْقُفَّازَيْنِ؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَسْتُرَ بَدَنَهَا بِمَخِيطٍ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يُكْرَهْ لَهَا. وَلَا بَأْسَ أَنْ يُغَطِّيَ أُذُنَيْهِ وَقَفَاهُ وَمِنْ لِحْيَتِهِ مَا هُوَ أَسْفَلُ مِنْ الذَّقَنِ بِخِلَافِ فِيهِ وَعَارِضِهِ وَذَقَنِهِ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ ثَوْبٍ. وَعَلَى الْقَارِنِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهِ دَمًا أَوْ صَدَقَةَ دَمَانِ أَوْ صَدَقَتَانِ لِمَا سَنَذْكُرُ.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ إلَخْ) هَذَا هُوَ الْفَرْقُ الْمَوْعُودُ بَيْنَ حَلْقِ الرُّبُعِ وَتَطْيِيبِ الرُّبُعِ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحُكْمَ بِحُصُولِ كَمَالِ الِارْتِفَاقِ بِذَلِكَ الْبَعْضِ مُسْتَدِلٌّ عَلَيْهِ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِيَادِ، وَقَدَّمْنَا مَا يُغْنِي فِيهِ، وَمِمَّنْ يَفْعَلهُ بَعْضُ الْأَتْرَاكِ وَالْعَلَوِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَحْلِقُونَ نَوَاصِيَهُمْ فَقَطْ، وَكَذَا حَلْقُ بَعْضِ اللِّحْيَةِ مُعْتَادٌ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ وَالْعَرَبِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، إلَّا أَنَّ فِي هَذَا احْتِمَالَ أَنَّ فِعْلَهُمْ لِلرَّاحَةِ أَوْ الزِّينَةِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا بِدَلِيلِ لُزُومِهَا مَعَ الْأَعْذَارِ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، يَعْنِي الْعَادَةَ أَنَّ كُلَّ مِنْ مَسَّ طِيبًا لِقَصْدِ التَّطَيُّبِ كَمَاءِ وَرْدٍ أَوْ طِيبٍ عَمَّمَ بِهِ يَدَيْهِ مَسْحًا بَلْ وَيَمْسَحُ بِفَضْلِهِ وَجْهَهُ أَيْضًا، بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا عِنْدَ قَصْدِ مُجَرَّدِ إمْسَاكِهِ لِلْحِفْظِ أَوْ لِلْمُلَاقَاةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ لِغَايَةِ الْقِلَّةِ فِي الطِّيبِ نَفْسِهِ، فَتَتَقَاصَرُ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ. ثُمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِي حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ أَوْ اللِّحْيَةِ دَمًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مُوَافِقٌ لِعَامَّةِ الْكُتُبِ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ لَا مَا فِي جَامِعَيْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْجَمِيعِ الدَّمَ وَفِي
(وَإِنْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ. (وَإِنْ حَلَقَ الْإِبْطَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِدَفْعِ الْأَذَى وَنَيْلِ الرَّاحَةِ فَأَشْبَهَ الْعَانَةَ.
ذَكَرَ فِي الْإِبْطَيْنِ الْحَلْقَ هَاهُنَا وَفِي الْأَصْلِ النَّتْفُ وَهُوَ السُّنَّةُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ: (إذَا حَلَقَ عُضْوًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَطَعَامٌ)
الْأَقَلِّ مِنْهُ الطَّعَامَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي حَلْقِ الْأَكْثَرِ الدَّمَ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَجِبُ الدَّمُ بِحَلْقِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الشَّرْعِيَّةُ فَيُقَامُ مَقَامَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا. هَذَا فَلَوْ كَانَ أَصْلَعَ عَلَى نَاصِيَتِهِ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِ شَعْرِهَا فَإِنَّمَا فِيهِ صَدَقَةٌ، وَكَذَا لَوْ حَلَقَ كُلَّ رَأْسِهِ وَمَا عَلَيْهِ أَقَلُّ مِنْ رُبُعِ شَعْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَدْرُ رُبُعِ شَعْرِهِ لَوْ كَانَ شَعْرُ رَأْسِهِ كَامِلًا فَفِيهِ دَمٌ، وَعَلَى هَذَا يَجِيءُ مِثْلُهُ فِيمَنْ بَلَغَتْ لِحْيَتُهُ الْغَايَةَ فِي الْخِفَّةِ. وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ: حَلَقَ رَأْسَهُ وَأَرَاقَ دَمًا ثُمَّ حَلَقَ لِحْيَتَهُ وَهُوَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ، وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَإِبْطَيْهِ وَكُلَّ بَدَنِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَدَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَجَالِسُ فَلِكُلِّ مَجْلِسٍ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ فِيهِ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ دَمٌ وَاحِدٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَجَالِسُ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ، وَتَقَدَّمَ فِي الطِّيبِ مِثْلُهُ.
اعْتَبَرَهُ بِمَا لَوْ حَلَقَ فِي مَجْلِسٍ رُبُعَ رَأْسِهِ، وَفِي آخَرَ رُبْعًا آخَرَ حَتَّى أَتَمَّهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ. وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْمَجَالِسُ؛ لِاتِّحَادِ مَحِلِّهَا، وَهُوَ الرَّأْسُ. هَذَا فَأَمَّا مَا فِي مَنَاسِكِ الْفَارِسِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا سَقَطَ مِنْ شَعَرَاتِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ لَزِمَهُ كَفٌّ مِنْ طَعَامٍ إلَّا أَنْ تَزِيدَ عَلَى ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، فَإِنْ بَلَغَ عَشْرًا لَزِمَهُ دَمٌ. وَكَذَا إذَا خُبِزَ فَاحْتَرَقَ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ هُوَ الرُّبْعُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا.
نَعَمْ فِي الثَّلَاثِ كَفٌّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: وَإِنْ نَتَفَ مِنْ رَأْسِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ شَعَرَاتٍ فَفِي كُلِّ شَعْرَةٍ كَفٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ فِي خُصْلَةٍ نِصْفُ صَاعٍ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ) يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لِلرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ حَلَقَ الْإِبْطَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ) الْمَعْرُوفُ هَذَا الْإِطْلَاقُ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي الْإِبْطِ إنْ كَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّبُعُ؛ لِوُجُوبِ الدَّمِ وَإِلَّا فَالْأَكْثَرُ. (قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) تَخْصِيصُ قَوْلِهِمَا لَيْسَ
أَرَادَ بِهِ الصَّدْرَ وَالسَّاقَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِطَرِيقِ التَّنُّورِ فَتَتَكَامَلُ بِحَلْقِ كُلِّهِ وَتَتَقَاصَرُ عِنْدَ حَلْقِ بَعْضِهِ (وَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ) طَعَامٌ (حُكُومَةُ عَدْلٍ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ أَنَّ هَذَا الْمَأْخُوذَ كَمْ يَكُونُ مِنْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ
لِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِي ذَلِكَ مَحْفُوظَةٌ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: أَرَادَ بِهِ السَّاقَ وَالصَّدْرَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ تَفْسِيرَ الْمُرَادِ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُؤَدَّى اللَّفْظِ لَيُخْرِجَ بِذَلِكَ الرَّأْسَ وَاللِّحْيَةَ فَإِنَّ فِي الرُّبُعِ مِنْ كُلِّ مِنْهُمَا الدَّمَ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْفَارِقُ الْعَادَةُ، ثُمَّ جَعَلَهُ الصَّدْرَ وَالسَّاقَ مَقْصُودِينَ بِالْحَلْقِ مُوَافِقٌ لِجَامِعِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ مُخَالِفٌ؛ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ فَفِيهِ مَتَى حَلَقَ عُضْوًا مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ حَلَقَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَصَدَقَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ حَلْقُ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ، وَمِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ حَلْقُ الرَّأْسِ وَالْإِبْطَيْنِ وَهَذَا أَوْجَهُ. وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِطَرِيقِ التَّنُّورِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى حَلْقِهِمَا إنَّمَا هُوَ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِمَا إذْ لَيْسَتْ الْعَادَةُ تَنْوِيرَ السَّاقِ وَحْدَهُ بَلْ تَنْوِيرُ الْمَجْمُوعِ مِنْ الصُّلْبِ إلَى الْقَدَمِ فَكَانَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ بِالْحَلْقِ. نَعَمْ كَثِيرًا مَا يُعْتَادُونَ تَنْوِيرَ الْفَخِذِ مَعَ مَا فَوْقُهُ دُونَ السَّاقِ وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَانَةِ أَوْ مَعَ الصُّلْبِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا لِلْحَاجَةِ، أَمَّا السَّاقُ وَحْدُهُ فَلَا؛ فَالْحَلْقُ أَنْ يَجِبَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الصَّدَقَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُجْمَعُ الْمُتَفَرِّقُ فِي الْحَلْقِ كَمَا فِي الطِّيبِ (قَوْلُهُ: فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ) أَوْ أَخَذَهُ كُلَّهُ أَوْ حَلَقَهُ (فَعَلَيْهِ طَعَامٌ هُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ) بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَأْخُوذِ مَا نِسْبَتُهُ مِنْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ فَيَجِبُ بِحِسَابِهِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ رُبُعِ رُبُعِهَا لَزِمَهُ قِيمَةُ رُبُعِ الشَّاةِ أَوْ ثُمُنِهَا فَثُمُنُهَا وَهَكَذَا، وَفِي الْمَبْسُوطِ خِلَافُ هَذَا قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا حَلَقَ شَارِبَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ إذَا أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: إذَا حَلَقَ شَارِبَهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ تَفْعَلُهُ الصُّوفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ طَرَفٌ مِنْ اللِّحْيَةِ وَهُوَ مَعَ اللِّحْيَةِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ عُضْوًا وَاحِدًا لَا يَجِبُ بِمَا دُونَ الرُّبُعِ مِنْهُ الدَّمُ وَالشَّارِبُ دُونَ الرُّبُعِ مِنْ اللِّحْيَةِ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ فِي حَلْقِهِ اهـ.
وَمَا فِي الْهِدَايَةِ إنَّمَا يَظْهَرُ تَفْرِيعُهُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي تَطْيِيبِ بَعْضِ الْعُضْوِ حَيْثُ قَالَ: يَجِبُ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّمِ، أَمَّا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ جَادَّةِ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ الدَّمُ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ صَاعٍ إلَّا فِيمَا يُسْتَثْنَى فَلَا. ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى نِسْبَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ
فَيَجِبُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَثَلًا مِثْلَ رُبُعِ الرُّبُعِ لَزِمَهُ قِيمَةُ رُبُعِ الشَّاةِ، وَلَفْظَةُ الْأَخْذِ مِنْ الشَّارِبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِ دُونَ الْحَلْقِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَصَّ حَتَّى يُوَازِيَ الْإِطَارَ. قَالَ:(وَإِنْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ)؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِقُ الْحِجَامَةَ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَكَذَا مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا، وَإِلَّا أَنَّ فِيهِ إزَالَةَ شَيْءٍ مِنْ التَّفَثِ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ حَلْقَهُ مَقْصُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَسَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ،
رُبُعِ اللِّحْيَةِ مُعْتَبِرًا مَعَهَا الشَّارِبَ كَمَا يُفِيدُهُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ كَوْنِ الشَّارِبِ طَرَفًا مِنْ اللِّحْيَةِ هُوَ مَعَهَا عُضْوٌ وَاحِدٌ لَا أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى رُبُعِ اللِّحْيَةِ غَيْرُ مُعْتَبِرِ الشَّارِبِ مَعَهَا، فَعَلَى هَذَا إنَّمَا يَجِبُ رُبُعُ قِيمَةِ الشَّاةِ إذَا بَلَغَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الشَّارِبِ رُبُعَ الْمَجْمُوعِ مِنْ اللِّحْيَةِ مَعَ الشَّارِبِ لَا دُونَهُ، وَإِذَا أَخَذَ الْمُحْرِمُ مِنْ شَارِبِ حَالٍّ أَطْعَمَ مَا شَاءَ (قَوْلُهُ: وَلَفْظَةُ الْأَخْذِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِ دُونَ الْحَلْقِ) يُشِيرُ إلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ حَيْثُ قَالَ: الْقَصُّ حَسَنٌ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَقُصَّ حَتَّى يَنْتَقِصَ عَنْ الْإِطَارِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مُلْتَقَى الْجِلْدَةِ وَاللَّحْمِ مِنْ الشَّفَةِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنْ يُحَاذِيَهُ. ثُمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَالْحَلْقُ أَحْسَنُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا أَنَّ السُّنَّةَ الْقَصُّ اهـ.
فَالْمُصَنِّفُ إنْ حَكَمَ بِكَوْنِ الْمَذْهَبِ الْقَصَّ أَخْذًا مِنْ لَفْظِ الْأَخْذِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ أَخْذٌ، وَاَلَّذِي لَيْسَ أَخْذٌ هُوَ النَّتْفُ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ مَنَعْنَاهُ، وَإِنْ سَلِمَ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي الْجَمْعِ هُنَا بَيَانَ أَنَّ السُّنَّةَ هُوَ الْقَصُّ أَوْ لَا بَلْ بَيَانُ مَا فِي إزَالَةِ الشَّعْرِ عَلَى الْمُحْرِمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْإِبْطِ الْحَلْقَ وَلَمْ يَذْكُرْ كَوْنَ الْمَذْهَبِ فِيهِ اسْتِنَانَ الْحَلْقِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا يُفِيدُ الْإِزَالَةَ بِأَيِّ طَرِيقٍ حَصَلَتْ لَتَعْيِينِ حُكْمِهِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ وَهُوَ قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْآبَاطِ» فَلَا يُنَافِي مَا يُرِيدُهُ بِلَفْظِ الْحَلْقِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِئْصَالِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ» وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْقَطْعِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ غَيْرَ أَنَّهُ بِالْحَلْقِ بِالْمُوسَى أَيْسَرُ مِنْهُ بِالْمِقَصَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْمِقَصَّةِ أَيْضًا مِثْلَهُ، وَذَلِكَ بِخَاصٍّ مِنْهَا يَضَعُ لِلشَّارِبِ فَقَطْ.
فَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: الْحَلْقُ أَحْسَنُ مِنْ الْقَصِّ يُرِيدُ الْقَصَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ فِي الْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ عِنْدَ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ قَصًّا يُسَمُّونَهُ قَصَّ حِلَاقَةٍ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا يَتَوَسَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ) يُفِيد أَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَرَتَّبْ الْحِجَامَةُ عَلَى حَلْقِ مَوْضِعِ الْمَحَاجِمِ لَا يَجِبُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّ كَوْنَهُ مَقْصُودًا إنَّمَا هُوَ لِلتَّوَسُّلِ بِهِ إلَى الْحِجَامَةِ، فَإِذَا لَمْ تَعْقُبْهُ الْحِجَامَةُ لَمْ يَقَعْ وَسِيلَةً فَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَلَا يَجِبُ إلَّا الصَّدَقَةُ. وَعِبَارَةُ
وَقَدْ وُجِدَ إزَالَةُ التَّفَثِ عَنْ عُضْوٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ الدَّمُ.
(وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَلَى الْحَالِقِ الصَّدَقَةُ، وَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رحمه الله لَا يَجِبُ إنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ نَائِمًا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمُكْرَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِحُكْمِ الْفِعْلِ وَالنَّوْمُ أَبْلَغُ مِنْهُ. وَعِنْدَنَا بِسَبَبِ النَّوْمِ وَالْإِكْرَاهِ يَنْتَفِي الْمَأْثَمُ دُونَ الْحُكْمِ وَقَدْ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ، وَهُوَ مَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ
شَرْحِ الْكَنْزِ وَاضِحَةٌ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي دَلِيلِهَا: وَلِأَنَّهُ قَلِيلٌ فَلَا يُوجِبُ الدَّمَ، كَمَا إذَا حَلَقَهُ لِغَيْرِ الْحِجَامَةِ، وَفِي دَلِيلِهِ أَنَّ حَلْقَهُ لِمَنْ يَحْتَجِمُ مَقْصُودٌ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الْحَلْقِ لِغَيْرِهَا، فَظَهَرَ لَك أَنَّ التَّرْكِيبَ الصَّالِحَ فِي وَجْهِ قَوْلِهِمَا. عِبَارَةُ شَرْحِ الْكَنْزِ، بِخِلَافِ تَرْكِيبِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: الْحِجَامَةُ لَيْسَتْ بِمَحْظُورَةٍ، فَكَذَا مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا فَإِنَّهُ نَفْيُ حَظْرِ هَذَا الْحَلْقِ لِلْحِجَامَةِ إذْ لَا تُفْعَلُ الْحِجَامَةُ إلَّا لِلْحَاجَةِ إلَى تَنْقِيصِ الدَّمِ فَلَا يَكُونُ الْحَلْقُ مَحْظُورًا، وَلَازِمُ هَذَا لَيْسَ إلَّا عَدَمُ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ عَيْنًا بَلْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ ذَلِكَ وَالصَّوْمِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هَذَا بَلْ لُزُومُ الصَّدَقَةِ عَيْنًا بِمَعْنَى عَدَمِ دُخُولِ الدَّمِ فِي كَفَّارَةِ هَذَا الْحَلْقِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَدَمُ الْحَظْرِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ. وَقَوْلُهُ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.
(وَقَدْ وَجَدَ إزَالَةَ التَّفَثِ عَنْ عُضْوٍ كَامِلٍ) يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي حَقِّ الْحِجَامَةِ كَامِلٌ (قَوْلُهُ: وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ) الْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا مِثْلَ فَإِنْ خَضَبَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ، فَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ لِلْمُحْرِمِ بَعْدَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ إذْ قَالَ إذَا تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَالًّا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ، إلَّا أَنَّ تَعْيِينَ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ بِنَفْيِ اخْتِلَافِ الْجَوَابِ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَا مُحْرِمَيْنِ أَوْ حَالَّيْنِ، أَوْ الْحَالِقُ مُحْرِمًا وَالْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ حَلَالًا أَوْ قَلْبُهُ، وَفِي كُلِّ الصُّوَرِ عَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَا حَلَالَيْنِ وَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَلَا يَتَخَيَّرُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ فَإِذَا حَلَقَ الْحَلَالُ رَأْسَ مُحْرِمٍ فَقَدْ بَاشَرَ قَطْعَ مَا اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِالْإِحْرَامِ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ «لَا تَحْلِقُوا حَتَّى تَحِلُّوا» وَبَيْنَ «لَا تَعْضُدُوا شَجَرَ الْحَرَمِ» ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الشَّجَرُ نَفْسُهُ الْأَمْنَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ اسْتَحَقَّ الشَّعْرُ أَيْضًا الْأَمْنَ فَيَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ الْكَفَّارَةُ بِالصَّدَقَةِ.
وَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ فَالِارْتِفَاقُ الْحَاصِلُ لَهُ بِرَفْعِ تَفَثِ غَيْرِهِ، إذْ لَا شَكَّ فِي تَأَذِّي الْإِنْسَانِ بِتَفَثِ غَيْرِهِ يَجِدُهُ مَنْ رَأَى ثَائِرَ الرَّأْسِ شَعِثَهَا وَسِخَ الثَّوْبِ تَفْلَ الرَّائِحَةِ، وَمَا سُنَّ غُسْلُ الْجُمُعَةِ بَلْ مَا كَانَ وَاجِبًا إلَّا لِذَلِكَ التَّأَذِّي إلَّا أَنَّهُ دُونَ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ فَقَصُرَتْ الْجِنَايَةُ فَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ. وَالْمُصَنِّفُ أَجْرَى الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فِي هَذَا، وَقَدْ يُمْنَعُ بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشَّعْرِ الْأَمْنَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَامَ بِهِ الْإِحْرَامُ حَالِقًا أَوْ مَحْلُوقًا، فَإِنَّ خِطَابَ لَا تَحْلِقُوا لِلْمُحْرِمِينَ فَلِذَا خَصَّصْنَا بِهِ الْأَوَّلَ. بَقِيَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا حَلَقَ رَأْسَ الْمُحْرِمِ اجْتَمَعَ فِيهِ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ الْمُسْتَحَقِّ، وَالِارْتِفَاقِ بِإِزَالَةِ
فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ حَتْمًا، بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ حَيْثُ يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْآفَةَ هُنَاكَ سَمَاوِيَّةٌ وَهَاهُنَا مِنْ الْعِبَادِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسَهُ عَلَى الْحَالِقِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ
تَفَثِ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ كُلُّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ مُوجِبًا لِلصَّدَقَةِ، فَرُبَّمَا يُقَالُ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذَا الِاجْتِمَاعِ فَتَقْتَضِي وُجُوبَ الدَّمِ عَلَى الْحَالِقِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الِادِّهَانِ بِالزَّيْتِ الْبَحْتِ حَيْثُ أَوْجَبَ الدَّمَ لِاجْتِمَاعِ أُمُورٍ لَوْ انْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهَا لَمْ يُوجِبْهُ كَتَلْيِينِ الشَّعْرِ وَأَصَالَتِهِ لِلطِّيبِ وَقَتْلِ الْهَوَامِّ فَتَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَوَجَبَ الدَّمُ.
وَتَقْرِيرُ الْخِلَافِ مَعَ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، فَمَبْنَى عَدَمِ إلْزَامِ الْمُحْرِمِ شَيْئًا إذَا كَانَ غَيْرَ مُخْتَارٍ بِالتَّقَدُّمِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ أَنَّ عَدَمَهُ يَسْقُطُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا. وَمَبْنَى عَدَمِهِ عِنْدَهُ عَلَى الْحَالِقِ مُطْلَقًا عَدَمُ الْمُوجِبِ، أَمَّا إنْ كَانَ حَلَالًا فَلِأَنَّ الْحَلْقَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَهُوَ الْمُوجَبُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ بَاشَرَ أَمْرًا مَحْظُورًا، وَهُوَ إعَانَةُ الْمَحْلُوقِ الْمُحْرِمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ وَبِغَيْرِ اخْتِبَارِهِ أَوْلَى. قُلْنَا: الْمَعَاصِي إنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ لِعُقُوبَةِ الْإِحْلَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجِبُ جَزَاءً فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إلَّا بِالنَّصِّ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِقِ فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَالُّ فَأَلْحَقْنَاهُ بِقَاطِعِ شَجَرِ الْحَرَمِ بِجَامِعِ تَفْوِيتِ أَمْنٍ مُسْتَحَقٍّ مُسْتَعْقِبٍ لِلْجَزَاءِ. وَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ نَصًّا.
وَأَمَّا الْمُحْرِمُ فَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لِلْجَزَاءِ فِي حَقِّهِ هُوَ نَيْلُ الِارْتِفَاقِ بِقَضَاءِ التَّفَثِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ كَانَ الْجَزَاءُ دَمًا وَإِلَّا فَصَدَقَةً. وَقَيْدُ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ مُلْغَى إذَا لَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُهُ وَعَقْلِيَّةُ اسْتِقْلَالِ مَا سِوَاهُ ثَابِتَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْسَهُ مَحَلٌّ وَالْمَحَلُّ لَا يَدْخُلُ فِي التَّعْلِيلِ، وَإِلَّا امْتَنَعَ الْقِيَاسُ، فَالْأَصْلُ إلْغَاءُ الْمُحَالِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى قَصْدِ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ دَلِيلٌ لَا مَرَدَّ لَهُ، خُصُوصًا إذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةُ الْمُنَاسِبِ فَيَتَعَدَّى مِنْ نَفْسِهِ إلَى غَيْرِهِ إذَا وَجَدَ فِيهِ تَمَامَ الْمُؤَثِّرِ وَقُصُورَهَا رَدَّهَا إلَى الصَّدَقَةِ. وَقَدْ يُقَالُ: مُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ قَضَاءُ التَّفَثِ إنْ كَانَ جُزْءُ الْعِلَّةِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَأْذَنَ الْمُحْرِمُ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لَزِمَ عَدَمُ الْجَزَاءِ عَلَى النَّائِمِ بِحَلْقِ رَأْسِهِ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَزَاءُ إذَا نَظَرَ إلَى ذِي زِينَةٍ مَقْضِيِّ التَّفَثِ، فَإِنْ اُخْتِيرَ الثَّانِي وَادَّعَى أَنَّ الِارْتِفَاقَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةٍ كَمَا قُلْنَا بِنَفْيِ الْجَزَاءِ فِي مُجَرَّدِ اللُّبْسِ لِذَلِكَ عَكَرَهُ مَا لَوْ فَرَضَ طُولَهَا يَوْمًا مَعَ مُحَادِثَتِهِ وَصُحْبَتِهِ وَاسْتِنْشَاقِ طِيبِهِ، وَلَوْ كَانَ إلَى شَيْءٍ لَقُلْت بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ وَنَفْيِ الْجَزَاءِ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُكْرَهِ، وَلَا يَلْزَمُنِي هَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا مَثَلًا عُلِّقَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْكَلَامِ مَثَلًا، وَهُنَا قَدْ فَرَضَ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِالِارْتِفَاقِ الْكَائِنِ عَنْ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَلَوْ حُكْمًا.
إنَّمَا لَزِمَهُ بِمَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ فِي حَقِّ الْعُقْرِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي حَقِّ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ، وَأَمَّا الْحَالِقُ تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ. لَهُ أَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ لَا يَتَحَقَّقُ بِحَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ. وَلَنَا أَنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ؛ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَمَانَ بِمَنْزِلَةِ نَبَاتِ الْحَرَمِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ شَعْرِهِ وَشَعْرِ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ كَمَالَ الْجِنَايَةِ فِي شَعْرِهِ (فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِ حَالٍّ أَوْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ) وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا. وَلَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ارْتِفَاقٍ؛ لَأَنْ يَتَأَذَّى بِتَفَثِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ الطَّعَامُ (وَإِنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ وَإِزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ، فَإِذَا قَلَّمَهَا كُلَّهَا فَهُوَ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَلَا يُزَادُ عَلَى دَمٍ إنْ حَصَلَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ نَوْعٍ
قَوْلُهُ: فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ) يَعْنِي كَمَا لَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بِحُرِّيَّةِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهَا إذَا ظَهَرَتْ أَمَةً بَعْدَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ بَدَلَهُ وَهُوَ مَا نَالَهُ مِنْ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ حَصَلَ لِلْمَغْرُورِ فَيَكُونُ الْبَدَلُ الْآخَرُ عَلَيْهِ دُونَ الْغَارِّ، كَذَلِكَ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ عَلَى الْحَالِقِ بِغَيْرِ إذْنٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ اخْتَصَّ بِهِ (قَوْلُهُ: فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِ حَالٍّ أَوْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ) أَمَّا فِي الشَّارِبِ فَلَا شَكَّ، وَأَمَّا فِي قَلْمِ الْأَظَافِيرِ فَمُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ، فَأَصْلُ الْجَوَابِ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ هُنَا كَالْجَوَابِ فِي الْحَلْقِ، وَفِي الْمُحِيطِ أَيْضًا قَالَ: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. هَذَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَةٌ لَا يَضْمَنُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَرِيحَ عِبَارَةِ الْأَصْلِ فِي الْمَبْسُوطِ. وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ فِي الْحَالِقِ هَكَذَا: وَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَالٍّ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ مُحْرِمٍ آخَرَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ وَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ اهـ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إنَّمَا تَقْتَضِي لُزُومَ الصَّدَقَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ فِيمَا إذَا حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ، وَأَمَّا فِي الْحَالِّ فَتَقْتَضِي أَنْ يُطْعِمَ أَيَّ شَيْءٍ شَاءَ كَقَوْلِهِمْ: مَنْ قَتَلَ قَمْلَةً أَوْ جَرَادَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ، وَإِرَادَةُ الْمُقَدَّرَةِ فِي عُرْفِ إطْلَاقِهِمْ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ صَدَقَةٍ فَقَطْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
ثُمَّ بَعْدَ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَالِقِ قَالَ: وَالْجَوَابُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ كَالْجَوَابِ فِي الْحَلْقِ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ وَاقِعًا فَيَكُونُ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ أَيْضًا جَارِيًا فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ فَيَصْدُقُ مَا فِي الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَ الصُّورَةَ فِي قَلْمِ أَظْفَارِ الْحَلَالِ (قَوْلُهُ: فَإِنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ
وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُلِ فَأَشْبَهَ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ إلَّا إذَا تَخَلَّلَتْ الْكَفَّارَةُ لِارْتِفَاعِ الْأُولَى بِالتَّكْفِيرِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِبُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ إنْ قَلَّمَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ يَدًا أَوْ رِجْلًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُلُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي آيِ السَّجْدَةِ.
أَكْمَلُ ارْتِفَاقٍ يَكُونُ بِالْقَصِّ، وَقَصُّ يَدٍ وَاحِدَةٍ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَفِيهِ الدَّمُ أَيْضًا، فَقَصُّ الْكُلِّ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَلُبْسِ كُلِّ الثِّيَابِ وَحَلْقِ شَعْرِ كُلِّ الْبَدَنِ فِي مَجْلِسٍ لَا يُوجِبُ غَيْرَ دَمٍ وَاحِدٍ. (فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسِ فَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ) أَيْ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى هَذِهِ الْكَفَّارَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى لَزِمَ الْمُحْرِمَ بِقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ فَأَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فِي أَنَّهُ إذَا تَكَرَّرَتْ الْجِنَايَاتُ بِالْفِطْرِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِوَاحِدَةٍ مِنْهَا لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَفَّرَ لِلسَّابِقَةِ كَفَّرَ لِلَّاحِقَةِ كَذَا هُنَا.
(قَوْلُهُ: وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ إنْ قَصَّ فِي كُلِّ مَجْلِسِ طَرَفًا مِنْ أَرْبَعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ) خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُلُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ، وَالْمُثْبِتُ لَهَا لُزُومُ الْكَفَّارَةِ شَرْعًا مَعَ الْأَعْذَارِ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَعْذَارَ مُسْقِطَةٌ لِلْعُقُوبَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى أَنَّ لَازِمَ تَرَجُّحِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَدَمُ التَّدَاخُلِ؛ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِالْجُودِ، إلَّا أَنْ يُوجِبَهُ مُوجِبٌ آخَرُ كَمَا أَوْجَبَهُ فِي آيِ السَّجْدَةِ لُزُومُ الْحَرَجِ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ وَلَا مُوجِبُ هُنَا. وَالْإِلْحَاقُ بِآيِ السَّجْدَةِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ فِي تَقَيُّدِ التَّدَاخُلِ بِالْمَجْلِسِ لَا فِي إثْبَاتِ التَّدَاخُلِ نَفْسِهِ وَإِلَّا كَانَ بِلَا جَامِعٍ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ فِي الْأَصْلِ: أَعْنِي آيَ السَّجْدَةِ لُزُومُ الْحَرَجِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ مُسْتَمِرَّةٌ بِتَكْرَارِ الْآيَاتِ لِلدِّرَايَةِ وَالدِّرَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ لِلِاتِّعَاظِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَتَدَاخَلْ لَزِمَ الْحَرَجُ، غَيْرَ أَنَّ مَا تَنْدَفِعُ هَذِهِ الْحَاجَاتُ بِهِ مِنْ التَّكْرَارِ يَكُونُ غَالِبًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَتَقَيَّدَ التَّدَاخُلُ بِهِ، وَلَيْسَ سَبَبُ لُزُومِ الْحَرَجِ لَوْلَا التَّدَاخُلُ هُنَا قَائِمًا، إذْ لَا دَاعِيَ لِمَنْ أَرَادَ قَصَّ أَظْفَارِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إلَى تَفْرِيقِ ذَلِكَ فِي مَجَالِسَ فَلَا عَادَةَ مُسْتَمِرَّةَ فِي ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ يَلْزَمُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ التَّدَاخُلِ
(وَإِنْ قَصَّ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ) إقَامَةٌ لِلرُّبُعِ مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ (وَإِنْ قَصَّ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَظَافِيرَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) مَعْنَاهُ تَجِبُ بِكُلِّ ظُفُرٍ صَدَقَةٌ. وَقَالَ زَفَرٌ رحمه الله: يَجِبُ الدَّمُ بِقَصِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ فِي أَظَافِيرِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ دَمًا، وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُهَا. وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ أَظَافِيرَ كَفٍّ وَاحِدٍ أَقَلُّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِقَلْمِهِ وَقَدْ أَقَمْنَاهَا مَقَامَ الْكُلِّ، فَلَا يُقَامُ أَكْثَرُهَا مَقَامَ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى (وَإِنْ قَصَّ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (وَقَالَ مُحَمَّدٌ): رحمه الله (عَلَيْهِ دَمٌ) اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ قَصَّهَا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ، وَبِمَا إذَا حَلَقَ رُبُعَ الرَّأْسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ
عَلَى تَقْدِيرِ قَصِّ كُلِّ طَرَفٍ فِي مَجْلِسٍ فَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ قَصَّ إحْدَى يَدَيْهِ ثُمَّ الْأُخْرَى فِي الْمَجْلِسِ أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَإِبْطَيْهِ أَوْ جَامَعَ مِرَارًا قَبْلَ الْوُقُوفِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نِسْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجَالِسُ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ مَجْلِسٍ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ فِيهِ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ أَيْضًا مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْأُولَى وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الطِّيبِ اعْتَبَرَهُ بِمَا لَوْ حَلَقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ رُبُعَ رَأْسِهِ ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ رُبُعَهُ ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى حَلَقَ كُلَّهُ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ. وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْحَلْقِ وَاحِدَةٌ؛ لِاتِّحَادِ مَحَلِّهَا وَهُوَ الرَّأْسُ.
(قَوْلُهُ: إقَامَةٌ لِلرُّبُعِ مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ) أَيْ حَلْقِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ؛ لِأَنَّ حَلْقَ رُبُعٍ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ إنَّمَا فِيهِ الصَّدَقَةُ. فَإِنْ قِيلَ: إلْحَاقُ الرُّبُعِ مِنْ الرَّأْسِ بِكُلِّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُعْتَادٌ وَالْمُعْتَادُ فِي قَلْمِ الْأَظْفَارِ لَيْسَ الِاقْتِصَارُ عَلَى طَرَفٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ هَذَا الْإِلْحَاقُ مَعَ انْتِفَاءِ الْجَامِعِ؟. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَامِعَ إنَّمَا هُوَ كَمَالُ الِارْتِفَاقِ لَا الِاعْتِيَادُ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَدْ يَتَرَدَّدُ فِي حُصُولِهِ بِحَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ أَثْبَتَهُ بِالْعَادَةِ إذْ الْقَصْدُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ لِمَنْ يَقْصِدُهُ لَيْسَ إلَّا لِنَيْلِ الِارْتِفَاقِ لَا أَنَّهَا هِيَ الْمَنَاطُ لِلُّزُومِ الدَّمِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدْنَى كَمَالِ الِارْتِفَاقِ يَحْصُلُ بِقَلْمِ تَمَامِ يَدٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْيَدَيْنِ أَكْمَلَ وَفِي الْكُلِّ أَكْمَلَ مِنْ هَذَا فَيَثْبُتُ بِهِ الدَّمُ، وَلَا يُبَالِي بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعْتَادٍ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى) كَلَامٌ خَطَابِيٌّ لَا تَحْقِيقِيٌّ: أَيْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَامَ أَكْثَرُ الثَّلَاثَةِ أَيْضًا
كَمَالَ الْجِنَايَةِ بِنَيْلِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ وَبِالْقَلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَأَذَّى وَيَشِينُهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَإِذَا تَقَاصَرَتْ الْجِنَايَةُ تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ فَيَجِبُ بِقَلْمِ كُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مُتَفَرِّقًا لَأَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يَنْقُصُ عَنْهُ مَا شَاءَ.
قَالَ: (وَإِنْ انْكَسَرَ ظُفُرُ الْمُحْرِمِ وَتَعَلَّقَ فَأَخَذَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْمُو بَعْدَ الِانْكِسَارِ فَأَشْبَهَ الْيَابِسَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ
(وَإِنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ مَخِيطًا أَوْ حَلَقَ مِنْ عُذْرٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ ذَبَحَ وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعٍ مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَقَدْ فَسَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام بِمَا ذَكَرْنَا، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمَعْذُورِ
كَالظُّفُرَيْنِ ثُمَّ يُقَامُ أَكْثَرُهُمَا وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَجِبَ بِقَطْعِ جَوْهَرَيْنِ لَا يَتَجَزَّآنِ مِنْ قُلَامَةِ ظُفُرٍ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ: وَبِالْقَلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَأَذَّى) بِخِلَافِ مَا قِسْت عَلَيْهِ مِنْ الطِّيبِ وَالْحَلْقِ فِي مُوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إذْ يَرْتَفِقُ بِهِمَا مُتَفَرِّقِينَ فَانْتَفَى الْجَامِعُ. قَالُوا: لَوْ قَصَّ سِتَّةَ عَشَرَ ظُفُرًا مِنْ كُلِّ طَرَفٍ أَرْبَعَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفُرٍ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَيَنْقُصُ مَا شَاءَ هَذَا، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ الْمُحْرِمُ مِمَّا فِيهِ الدَّمُ عَيْنًا أَوْ الصَّدَقَةُ عَيْنًا فَعَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا عَتَقَ لَا فِي الْحَالِ وَلَا يُبْدِلُ بِالصَّوْمِ
(قَوْلُهُ: أَوْ لَبِسَ مَخِيطًا أَوْ حَلَقَ مِنْ عُذْرٍ) بِأَنْ اُضْطُرَّ إلَى تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ لِخَوْفِ الْهَلَاكِ مِنْ الْبَرْدِ أَوْ لِلْمَرَضِ أَوْ لَبِسَ السِّلَاحَ لِلْحَرْبِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ يَتَخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَذْبَحُ شَاةً أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ يَنْزِعُهُ لَيْلًا وَيَلْبَسُهُ نَهَارًا مَا لَمْ يَذْهَبْ الْعَدُوُّ مَثَلًا وَيَأْتِي غَيْرُهُ، وَتَقَدَّمَ لِهَذَا زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ فَارْجِعْ إلَيْهِ (قَوْلُهُ: وَقَدْ فَسَّرَهَا) أَيْ فَسَّرَ الْكَفَّارَةَ الْمُخَيَّرَ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} بِمَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ «حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِك مَا أَرَى، أَوْ مَا كُنْتُ أَرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِك مَا أَرَى، أَتَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ لَا، فَقَالَ: صُمْ. ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَ فَرْقًا بَيْنَ سِتَّةٍ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَفَسَّرَ الْفَرَقَ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعٍ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى " أَتَجِدُ شَاةً " فِي الِابْتِدَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ هَلْ تَجِدُ النُّسُكَ، فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَصْلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمُتَبَادَرِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
ثُمَّ الصَّوْمُ يُجْزِيهِ فِي أَيِّ مَوْضِعَ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا النُّسُكُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان، وَهَذَا الدَّمُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَتَعَيَّنَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَكَانِ، وَلَوْ اخْتَارَ الطَّعَامَ أَجْزَأَهُ فِيهِ التَّغْذِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله اعْتِبَارًا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ.
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا النُّسُكُ فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وَهُوَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَكَانَ أَصْلًا فِي كُلِّ هَدْيٍ وَجَبَ كَفَّارَةً فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْحَرَمِ، وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان يُعْطِي أَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَا تَعَلَّقَتْ بِالْإِرَاقَةِ، وَلَازِمُهُ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْهُ كَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ لُزُومُ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ لَحْمِهِ؛ لِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ، ثُمَّ لَازِمُ هَذَا بِحَسَبِ الْمُتَبَادَرِ أَنَّهُ لَوْ سُرِقَ بَعْدَمَا ذَبَحَ يَلْزَمُهُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ فَكَانَتْ الْقُرْبَةُ فِيهِ لَهَا جِهَتَانِ: جِهَةُ الْإِرَاقَةِ. وَجِهَةُ التَّصَدُّقِ. فَلِلْأُولَى لَا يَجِبُ غَيْرُهُ إذَا سُرِقَ مَذْبُوحًا، وَلِلثَّانِي يَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الصَّدَقَةُ عَلَى تَأْوِيلِ التَّصَدُّقِ (الْمَذْكُورِ) فِي الْآيَةِ، قِيلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْحَدِيثُ الَّذِي فَسَّرَ الْآيَةَ فِيهِ لَفْظُ الْإِطْعَامِ فَكَانَ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ مُفَسِّرُ الْمُجْمَلِ بَلْ إنَّهُ مُبَيِّنٌ لِلرَّادِّ بِالْإِطْلَاقِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عَمِلَتْ بِهِ الْأُمَّةُ فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ، ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الصَّدَقَةُ وَتَحَقَّقَ حَقِيقَتُهَا بِالتَّمْلِيكِ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلُ فِي الْحَدِيثِ الْإِطْعَامُ عَلَى الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ الصَّدَقَةُ وَإِلَّا كَانَ مُعَارِضًا، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالِاسْمِ الْأَعَمِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
(فَإِنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجِمَاعُ وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَفَكَّرَ فَأَمْنَى (وَإِنْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ: إذَا مَسَّ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ. وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنَّمَا يُفْسِدُ إحْرَامَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ وَاعْتَبَرَهُ بِالصَّوْمِ.
(فَصْلٌ)
قَدَّمَ النَّوْعَ السَّابِقَ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقَدَّمَةِ لَهُ، إذْ الطِّيبُ وَإِزَالَةُ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ مُهَيِّجَاتٌ لِلشَّهْوَةِ لِمَا تُعْطِيهِ مِنْ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ (قَوْلُهُ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ) مُخَالِفٌ لِمَا صُحِّحَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ مِنْ اشْتِرَاطِ الْإِنْزَالِ. قَالَ: لِيَكُونَ جِمَاعًا مِنْ وَجْهِ، مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُنْزِلْ: يَعْنِي يَجِبُ الدَّمُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ بِالتَّقْبِيلِ، لَكِنَّا نَقُولُ: الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّفَثِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ. وَبِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ. اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: إنْ كَانَ الْإِلْزَامُ لِلنَّهْيِ فَلَيْسَ كُلُّ نَهْيٍ يُوجِبُ كَالرَّفَثِ، وَإِنْ كَانَ لِلرَّفَثِ فَكَذَلِكَ إذْ أَصْلُهُ الْكَلَامُ فِي الْجِمَاعِ بِحَضْرَتِهِنَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُوجِبًا شَيْئًا.
(قَوْلُهُ: فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) ظَاهِرُهُ إرَادَةُ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالْقُبْلَةِ بِشَهْوَةٍ وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَالْمُفَادُ حِينَئِذٍ بِالتَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي قَوْلَهُ إنَّمَا يَفْسُدُ إحْرَامُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ أَنَّهُ إذَا أَنْزَلَ يَفْسُدُ إحْرَامُهُ، وَإِذَا لَمْ يُنْزِل لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأَوَّلِ وَهُوَ إذَا أَنْزَلَ يَفْسُدُ كَانَ لَفْظُ
وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجِمَاعٍ مَقْصُودٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِمْتَاعِ وَالِارْتِفَاقِ بِالْمَرْأَةِ وَذَلِكَ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِيهِ قَضَاءٌ بِالشَّهْوَةِ، وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.
إنَّمَا لَغْوًا، إذْ هَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَفْسُدُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ، فَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ قَصَرَ الصُّوَرَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى حُكْمٍ هُوَ الْفَسَادُ إذَا أَنْزَلَ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْأَصْلُ إنَّمَا فِي جَمِيعِ تِلْكَ الصُّوَرِ فَسَادُ الْإِحْرَامِ بِالْإِنْزَالِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: لَا حُكْمَ فِيهَا إلَّا الْفَسَادُ بِالْإِنْزَالِ، فَيُفِيدُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفَسَادِ بِالْإِنْزَالِ، وَعَدَمُ وُجُوبِ شَيْءٍ عِنْدَ عَدَمِ الْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا حُكْمًا سِوَى مَا ذَكَرَ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ فِي قَوْلِهِ بِالصَّوْمِ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِهِمَا مَعًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَعَادَتُهُمْ نَصْبُ الْخِلَافِ بِاعْتِبَارِ قَوْلٍ ثُمَّ قَصْدٍ الْمُصَنِّفُ اتِّبَاعَ مَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَاَلَّذِي فِيهِ مَا عَلِمْت مِنْ قَوْلِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَعَلَى الْمُصَنِّفِ عَلَى هَذَا أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي تَقْرِيرِ الْمَذْهَبِ لِلطَّرَفَيْنِ وَيُمْكِنُ تَحْمِيلُهُ لِكَلَامِهِ، فَالتَّعَرُّضُ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ:(وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ الْإِحْرَامِ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ) يَعْنِي إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِعَدَمِ فَسَادِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ بِقَوْلِهِ: (وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ).
وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ سَائِرَهَا لَا يَفْسُدُ بِمُبَاشَرَتِهَا الْإِحْرَامُ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهِ فِي الْجِمَاعِ بِصُورَتِهِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا سُئِلَ عَنْ الْجِمَاعِ وَمُطْلَقُهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ بِالصُّورَةِ الْخَاصَّةِ فَيَتَعَلَّقُ الْجَوَابُ بِالْفَسَادِ بِحَقِيقَتِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ النَّصُّ لَمْ نَقُلْ بِأَنَّ الْجِمَاعَ أَيْضًا مُفْسِدٌ؛ وَلِأَنَّ أَقْصَى مَا يَجِبُ فِي الْحَجِّ الْقَضَاءُ وَفِي الصَّوْمِ الْكَفَّارَةُ فَكَانَا مُتَوَازِيَيْنِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الصَّوْمِ لَا تَجِبُ بِالْإِنْزَالِ مَعَ الْمَسِّ، فَكَذَا قَضَاءُ الْحَجِّ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ حُكْمُ عَدَمِ الْفَسَادِ فَيَثْبُتُ عَدَمُهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالتَّعَرُّضُ لِلثَّانِي بِقَوْلِهِ:(إلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِمْتَاعِ إلَخْ).
وَجْهُهُ أَنَّ مَرْجِعَ ضَمِيرِ فِيهِ لَفْظُ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالتَّقْبِيلِ وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا بِقَيْدِ الْإِنْزَالِ كَمَا يُفِيدُ لَفْظُ النِّهَايَةِ. وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ مَعْنًى، وَكَانَ يَنْحَلُّ إلَى قَوْلِنَا فِي الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ مَعَ الْإِنْزَالِ إذَا أَنْزَلَ. فَالْحَاصِلُ مِنْ الْعِبَارَةِ إلَى قَوْلِهِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ إلَّا أَنَّ فِي الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالتَّقْبِيلِ وَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ اسْتِمْتَاعًا بِالْمَرْأَةِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَعَ إنْزَالٍ أَوْ لَا، وَذَلِكَ مَحْظُورُ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُ الدَّمُ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ الَّذِي قِسْت عَلَيْهِ عَدَمَ لُزُومِ شَيْءٍ إذَا لَمْ يُنْزِلْ وَالْفَسَادُ إذَا أَنْزَلَ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمُحَرَّمُ فِيهِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ إلَّا بِالْإِنْزَالِ، ثُمَّ إنَّمَا يَفْسُدُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ بِسَبَبِ كَوْنِهِ تَفْوِيتًا لِلرُّكْنِ الَّذِي هُوَ الْكَفُّ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَقَبْلَهُ لَمْ يُوجَدْ مُحَرَّمٌ أَصْلًا، بَلْ الثَّابِتُ فِعْلُ مَكْرُوهٍ فَلَا يُوجِبُ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ بِالِاسْتِمْتَاعِ
(وَإِنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَيَمْضِي فِي الْحَجِّ كَمَا يَمْضِي مَنْ لَمْ يُفْسِدْهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَمَّنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ قَالَ: يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»
بِلَا إنْزَالٍ يَحْصُلُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَيَسْتَعْقِبُ الْجَزَاءَ، وَمَعَ الْإِنْزَالِ يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالنَّصِّ.
(قَوْلُهُ: فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ) وَكَذَا إذَا تَعَدَّدَ الْجِمَاعُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا مَرْأَةَ أَوْ نِسْوَةَ، وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ كَهُوَ فِي الْقُبُلِ عِنْدَهُمَا، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسَادٌ وَالْأُولَى أَصَحُّ. فَإِنْ جَامِعَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ قَبْلَ الْوُقُوفِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ رَفْضَ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ لَزِمَهُ دَمٌ آخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ نَوَى بِالْجِمَاعِ الثَّانِي رَفْضَ الْفَاسِدَةِ لَا يَلْزَمُهُ بِالثَّانِي شَيْءٌ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ وَقَاضِي خَانْ. وَقَدَّمْنَا مِنْ الْمَبْسُوطِ قَرِيبًا لُزُومَ تَعَدُّدِ الْمُوجِبِ؛ لِتَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ عِنْدَهُمَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْقَيْدِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَفَّرَ عَنْ الْأُولَى فَيَلْزَمُهُ أُخْرَى، وَالْحَقُّ اعْتِبَارُهُ عَلَى أَنْ تَصِيرَ الْجِنَايَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ بَعْدَهُ مُتَّحِدَةً، فَإِنَّهُ نَصَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا جَامَعَ النِّسَاءَ وَرَفَضَ إحْرَامَهُ، وَأَقَامَ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُهُ الْحَالُّ مِنْ الْجِمَاعِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ حَرَامًا كَمَا كَانَ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: لِأَنَّ بِإِفْسَادِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَصِرْ خَارِجًا عَنْهُ قَبْلَ الْأَعْمَالِ، وَكَذَا بِنِيَّةِ الرَّفْضِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ دَمًا وَاحِدًا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَاتِ اسْتَنَدَ إلَى قَصْدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ فَيَكْفِيهِ لِذَلِكَ دَمٌ وَاحِدٌ. اهـ.
فَكَذَا لَوْ تَعَدَّدَ جِمَاعٌ بَعْدَ الْأَوَّلِ لِقَصْدِ الرَّفْضِ فِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ. وَمَا يَلْزَمُ بِهِ الْفَسَادُ وَالدَّمُ عَلَى الرَّجُلِ يَلْزَمُ مِثْلُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ نَاسِيَةً إنَّمَا يَنْتَفِي بِذَلِكَ الْإِثْمُ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا يُجَامِعُ مِثْلُهُ فَسَدَ حَجُّهَا دُونَهُ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الصَّبِيَّةُ أَوْ مَجْنُونَةٌ انْعَكَسَ الْحُكْمُ. وَلَوْ جَامَعَ بَهِيمَةً وَأَنْزَلَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِمْنَاءُ بِالْكَفِّ عَلَى هَذَا. ثُمَّ إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً حَتَّى فَسَدَ حَجُّهَا وَلَزِمَهَا دَمٌ هَلْ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ؟ عَنْ ابْنِ شُجَاعٍ لَا، وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي حَازِمِ نَعَمْ. وَالْقَارِنُ إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِمَا وَيُتِمَّهُمَا عَلَى الْفَسَادِ وَشَاتَانِ وَقَضَاؤُهُمَا. فَلَوْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَ حَجُّهُ دُونَ عُمْرَتِهِ، وَإِذَا فَسَدَ الْحَجُّ سَقَطَ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ لَهُ نُسُكَانِ صَحِيحَانِ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِفَسَادِ الْحَجِّ وَلِلْجِمَاعِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ فَيَقْضِي الْحَجَّ فَقَطْ، وَلِذَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ لَيْسَ بِقَارِنٍ لِهَذَا.
(قَوْلُهُ: وَالْأَصْلُ إلَخْ) رِوَى أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ أَوْ زَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ شَكَّ فِيهِ أَبُو تَوْبَةَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُذَامَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ، فَسَأَلَ الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اقْضِيَا حَجَّكُمَا وَاهْدِيَا هَدْيًا» قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يَصِحُّ فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ نُعَيْمٍ مَجْهُولٌ، وَيَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ ثِقَةٌ، وَقَدْ شَكَّ أَبُو تَوْبَةَ فِي أَيِّهِمَا حَدَّثَهُ بِهِ اهـ. قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ بِلَا شَكٍّ. وَقَوْلُهُ: مُنْقَطِعٌ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي سَمَاعِ يَزِيدَ هَذَا مِنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَفِي صُحْبَةِ أَبِيهِ فَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَةِ أَبِيهِ، فَمَنْ قَالَ إنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْ جَابِرٍ جَعَلَهُ مُرْسَلًا وَعَلَيْهِ مَشَى أَبُو دَاوُد، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمَرَاسِيلِ
وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَجِبُ بَدَنَةٌ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ إطْلَاقُ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا وَجَبَ وَلَا يَجِبُ إلَّا لِاسْتِدْرَاكِ الْمَصْلَحَةِ خَفَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَيَكْتَفِي بِالشَّاةِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَضَاءَ. ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ مِنْهُمَا لَا يُفْسِدُ لِتَقَاصُرِ مَعْنَى الْوَطْءِ فَكَانَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ (وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ فِي قَضَاءِ مَا أَفْسَدَاهُ)
وَمَنْ قَالَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَابِرٍ وَلَيْسَ لِأَبِيهِ صُحْبَةٌ يَجْعَلُهُ مُنْقَطِعًا فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ سَمَاعَهُ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ.
وَلَيْسَ فِي سَنَدِ أَبِي دَاوُد انْقِطَاعٌ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنِ نَافِعٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ أَوْ زَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ، وَهَذَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ كُلُّهُ ثِقَاتٌ بِتَقْدِيرِ يَزِيدَ، وَلَا شَكَّ فِيهِ فِي طَرِيقِ الْبَيْهَقِيّ فَيَحْصُلُ اتِّصَالُهُ وَإِرْسَالُهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ " أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُذَامَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: حَتَّى إذَا كُنْتُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا وَتَفَرَّقَا " الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: وَأَهْدَيَا. وَضُعِّفَ بِابْنِ لَهِيعَةَ، وَيَشُدُّ الْمُرْسَلَ، وَالْمَذْكُورُ مِنْهُ مَا سِوَى الزِّيَادَةِ. وَرُوِيَ بِالزِّيَادَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ إلَى مَنْ سَأَلَ مُجَاهِدًا عَنْ الْمُحْرِمِ يُوَاقِعُ امْرَأَتَهُ فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: يَقْضِيَانِ حَجُّهُمَا ثُمَّ يَرْجِعَانِ حَالَّيْنِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حَجَّا وَأَهْدَيَا وَتَفَرَّقَا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ فِيهِ: بَطَل حَجُّهُ، قَالَ لَهُ السَّائِلُ فَيَقْعُدُ؟ قَالَ لَا، بَلْ يَخْرُجُ مَعَ النَّاسِ فَيَصْنَعُ مَا يَصْنَعُونَ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ مِنْ قَابِلٍ حَجَّ وَأَهْدَى. وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ إسْنَادَهُ عَنْهُمْ. وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ مِنْ بَلَاغَاتِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم نَحْوُهُ، إلَّا أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِيهِ: يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا.
(قَوْلُهُ: اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ) بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ قَبْلَهُ فِي مُطْلَقِ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِهِ بَعْدَهُ (قَوْلُهُ: وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ) يَعْنِي لَفْظَ الشَّاةِ، وَعَلَى
عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله إذَا خَرَجَا مِنْ بَيْتِهِمَا. وَلِزَفَرٍ رحمه الله إذَا أَحْرَمَا. وَلَلشَّافِعِيِّ رحمه الله إذَا انْتَهَيَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ. لَهُمْ أَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ ذَلِكَ فَيَقَعَانِ فِي الْمُوَاقَعَةِ فَيَفْتَرِقَانِ. وَلَنَا أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ النِّكَاحُ قَائِمٌ فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِإِبَاحَةِ الْوَقَاعِ وَلَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ مَا لَحِقَهُمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ بِسَبَبِ لَذَّةِ يَسِيرَةِ فَيَزْدَادَانِ نَدَمًا وَتَحَرُّزًا فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ.
(وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ) خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»
مَا خَرَّجْنَا إطْلَاقَ لَفْظِ الْهَدْيِ وَهُوَ يَصْدُقُ بِالتَّنَاوُلِ عَلَى الشَّاةِ كَانَ فِي الْبَدَنَةِ أَكْمَلَ، وَالْوَاجِبُ انْصِرَافُ الْمُطْلَقِ إلَى الْكَامِلِ فِي الْمَاهِيَّةِ لَا إلَى الْأَكْمَلِ، وَمَاهِيَّةُ الْهَدْيِ كَامِلَةٌ فِيهَا. بِخِلَافِ السَّمَكِ بِالنِّسْبَةِ إلَى لَفْظِ اللَّحْمِ فَإِنَّ مَاهِيَّةَ اللَّحْمِ نَاقِصَةٌ فِيهِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فَرْقٌ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا لِيَقُومَ مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَعْنَى اسْتِدْرَاكِ الْمَصْلَحَةِ، فَبَعْدَ قِيَامِهِ مَقَامَهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا جَزَاءُ تَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ، وَيَكْفِي فِيهِ الشَّاةُ كَالْمُحْصَرِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ لَمْ يَتِمَّ بِالْجِمَاعِ وَلِهَذَا يَمْضِي فِيهِ، وَلَا يَحِلُّ إلَّا مَعَ النَّاسِ غَيْرَ أَنَّهُ أُخِّرَ الْمُعْتَدُّ بِهِ إلَى قَابِلٍ ثُمَّ لَا تَجِبُ عُمْرَةٌ؛ لِعَدَمِ فَوَاتِ حَجِّهِ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ.
(قَوْلُهُ: فَلَا مَعْنَى لِلِافْتِرَاقِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ فِي الْأَدَاءِ فَكَذَا فِي الْقَضَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ أَمْرُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْأَمْرُ بِالِافْتِرَاقِ أَمْرَ إيجَابٍ بَلْ أَمْرُ نَدْبٍ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ؛ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَصْبِرُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لِمَا ظَهَرَ مِنْهُمَا فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ فَكَانَ كَالشَّابِّ فِي حَقِّ الْقُبْلَةِ فِي الصَّوْمِ لَا؛ لِأَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ فَيَقَعَانِ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُمَا يَتَذَاكَرَانِ فَلَا يَقَعَانِ؛ لِتَذَكُّرِهِمَا مَا حَصَلَ لَهُمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ لِلَّذَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِاسْتِحْبَابِ الِافْتِرَاقِ لِذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ) يَعْنِي قَبْلَ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ سَيَذْكُرُ أَنَّ الْجِمَاعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فِيهِ شَاةٌ. هَذَا وَالْعَبْدُ إذَا جَامَعَ مَضَى فِيهِ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَحَجَّةٌ إذَا أَعْتَقَ سِوَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْمَالُ يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِّ، وَلَا يَجُوزُ إطْعَامُ الْمَوْلَى عَنْهُ إلَّا فِي الْإِحْصَارِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَبْعَثُ عَنْهُ؛ لِيَحِلَّ هُوَ فَإِذَا أَعْتَقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ. (قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَلَّقَ
وَإِنَّمَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَوْ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الِارْتِفَاقِ فَيَتَغَلَّظُ مُوجِبُهُ.
(وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِبَقَاءِ إحْرَامِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ دُونَ لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَمَا أَشْبَهَهُ فَخَفَّتْ الْجِنَايَةُ فَاكْتَفَى بِالشَّاةِ.
(وَمَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ فَيَمْضِي فِيهَا وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ. وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ. أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ)
التَّمَامَ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنْ لَيْسَ التَّمَامُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ بَقَاءِ شَيْءٍ عَلَيْهِ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَمْنِ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ.
وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الْبَدَنَةَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ وَهُوَ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً ". رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْهُ وَأَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَجُلٍ قَضَى الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَزُرْ الْبَيْتَ حَتَّى وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ، قَالَ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَلِأَنَّهُ لَا قَضَاءَ هُنَا؛ لِيَخِفْ أَثَرُ الْجِنَايَةِ بِجَبْرِ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ، وَهُوَ أَرْجَحُ مِمَّا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ: جَاءَ رَجُلٌ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنِّي رَجُلٌ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ بَعِيدُ الشُّقَّةِ قَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ، قَضَيْتُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَزُرْ الْبَيْتَ حَتَّى وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَقَالَ: عَلَيْك بَدَنَةٌ وَحَجٌّ مِنْ قَابِلٍ فَإِنَّهُ مَتْرُوكٌ بَعْضُهُ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» بِخِلَافِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا. وَلَوْ جَامَعَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ مَعَ الْبَدَنَةِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي حُرْمَةٍ مَهْتُوكَةٍ فَصَادَفَ إحْرَامًا نَاقِصًا فَيَجِب الدَّمُ. وَلَوْ جَامَعَ الْقَارِنُ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَزِمَهُ بَدَنَةٌ لِحَجَّتِهِ وَشَاةٌ لِعُمْرَتِهِ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) مَا لَمْ يَكُنْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ اعْتِبَارًا بِالْحَجِّ إذْ هِيَ فَرْضٌ عِنْدَهُ كَالْحَجِّ. وَلَنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ فَكَانَتْ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهُ فَتَجِبُ الشَّاةُ فِيهَا وَالْبَدَنَةُ فِي الْحَجِّ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ.
(وَمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا كَانَ كَمَنْ جَامَعَ مُتَعَمِّدًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله جِمَاعُ النَّاسِي غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي جِمَاعِ النَّائِمَةِ وَالْمُكْرَهَةُ. هُوَ يَقُولُ:
وَلَوْ كَانَ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى طَافَ لِلزِّيَارَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ جَامَعَ كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَذَكَرَ فِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمَبْسُوطِ وَالْبَدَائِعِ والإسبيجابي: لَوْ جَامَعَ الْقَارِنُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْحَجِّ وَشَاةٌ لِلْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ يَتَحَلَّلُ مِنْ إحْرَامَيْنِ بِالْحَلْقِ إلَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَهُوَ مُحْرِمٌ بِهِمَا فِي حَقِّهِنَّ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَشُرُوحِ الْقُدُورِيِّ، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَى الْحَاجِّ شَاةً بَعْدَ الْحَلْقِ. وَذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا مَعْزِيًّا إلَى الْوَبَرِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْحَجِّ وَلَا شَيْءَ لِلْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ إحْرَامِهَا بِالْحَلْقِ وَبَقِيَ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَاسْتَشْكَلَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَكَذَا فِي الْعُمْرَةِ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا فِي الْوَبَرِيِّ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ لَمْ يُعْهَدْ بِحَيْثُ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ وَيَبْقَى فِي حَقِّهِنَّ، بَلْ إذَا حَلَقَ بَعْدَ أَفْعَالِهَا حَلَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا عُهِدَ ذَلِكَ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ، فَإِذَا ضَمَّ إلَى إحْرَامِ الْحَجِّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ اسْتَمَرَّ كُلٌّ عَلَى مَا عُهِدَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، إذْ لَا يَزِيدُ الْقِرَانُ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِّ فَيَنْطَوِي بِالْحَلْقِ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مُوجِبٌ بِسَبَبِ الْوَطْءِ بَلْ الْحَجُّ فَقَطْ. ثُمَّ يَجِبُ النَّظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الشَّاةِ أَوْ الْبَدَنَةِ، وَقَوْلُهُ مُوجِبُ الْبَدَنَةِ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا لَيْسَ إلَّا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ ظَاهِرٌ فِيمَا بَعْدَ الْحَلْقِ فَارْجِعْ إلَيْهِ وَتَأَمَّلْهُ. ثُمَّ الْمَعْنَى يُسَاعِدُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَهَا قَبْلَ الْحَلْقِ لَيْسَ إلَّا لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ جِنَايَةً عَلَيْهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ لَهُ لَا لِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ لِغَيْرِهِ، فَلَيْسَ الطِّيبُ جِنَايَةً عَلَى الْإِحْرَامِ بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ الْجِمَاعَ أَوْ الْحَلْقَ بَلْ بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ لِلطِّيبِ، وَكَذَا كُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى الْإِحْرَامِ لَيْسَتْ جِنَايَةً عَلَيْهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِهِ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ مَا قَبْلَ الْحَلْقِ، وَمَا بَعْدَهُ فِي حَقِّ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ الَّذِي بِهِ كَانَ جِنَايَةً قَبْلَهُ بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ بَعْدَهُ، وَالزَّائِلُ لَمْ يَكُنْ الْوَطْءُ جِنَايَةً بِاعْتِبَارِهِ، لَا جَرَمَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إطْلَاقُ لُزُومِ الْبَدَنَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ بَعْدَهُ.
الْحَظْرُ يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ فَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ جِنَايَةً. وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ فِي الْإِحْرَامِ ارْتِفَاقًا مَخْصُوصًا، وَهَذَا لَا يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَالْحَجُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ حَالَاتِ الْإِحْرَامِ مُذَكِّرَةٌ بِمَنْزِلَةِ حَالَاتِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)(وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:
ثُمَّ ذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا فَقَالَ: وَإِذَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَقَدْ قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَّرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ. فَمِنْ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَخَذَ التَّفْصِيلَ مَنْ أَخَذَهُ إنْ كَانَ إذْ خَفَّ الْمُوجِبُ بَعْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْوُقُوفِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَسْتَشْكِلَهُ بِأَنَّ الطَّوَافَ قَبْلَ الْحَلْقِ لَمْ يَحِلَّ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْجَزُورُ، وَإِنْ كَانَ سُؤَالُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفَتْوَاهُ بِهِ إنَّمَا كَانَ فِيمَنْ لَمْ يَطُفْ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ فَتْوَاهُ بِذَلِكَ؛ لِوُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامٍ أُمِنَ فَسَادُهُ. وَلَوْ كَانَ قَارِنًا: أَعْنِي الَّذِي طَافَ لِلزِّيَارَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ ثُمَّ جَامَعَ قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: عَلَيْهِ شَاتَانِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ لَهُمَا جَمِيعًا. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرُّقَيَّاتِ فِيمَنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ قَبْلَ الْإِعَادَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فِيمَا إذَا طَافَ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَعَادَ طَاهِرًا أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ دَمًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْجِمَاعَ وَقَعَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ بِالْإِعَادَةِ طَاهِرًا يَنْفَسِخُ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ، وَيَصِيرُ طَوَافُهُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ قَبْلَ الطَّوَافِ فَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ: يَعْنِي ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَعَادَهُ مُتَوَضِّئًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ يَسِيرٌ فَلَمْ يَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ فَيَقَعُ جِمَاعُهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ الِانْفِسَاخَ إنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فَقَدْ قَالَ آخَرُونَ بِعَدَمِهِ وَصَحَّحَ فَلَمْ يَلْزَمْ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَوُقُوعُهُ شَرْعًا قَبْلَ التَّحَلُّلِ إنَّمَا مُوجِبُهُ الْبَدَنَةُ لَا مُطْلَقُ الدَّمِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَسَنُوَجِّهُ عَدَمَ الِانْفِسَاخِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
(فَصْلٌ)(قَوْلُهُ وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) مُوَافِقٌ لِمَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ وَصُرِّحَ بِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَمُخَالِفٌ
لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْمَنْطِقَ فَتَكُونُ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ تَكُنْ فَرْضًا، ثُمَّ قِيلَ: هِيَ سُنَّةٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الْجَابِرُ؛ وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ، فَإِذَا شُرِعَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَهُوَ سُنَّةٌ، يَصِيرُ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ وَيَدْخُلُهُ نَقْصٌ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فَيُجْبَرُ بِالصَّدَقَةِ إظْهَارًا لِدُنُوِّ رُتْبَتِهِ عَنْ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ اللَّهِ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ طَوَافٍ هُوَ تَطَوُّعٌ.
لِمَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَالَ: لَيْسَ لِطَوَافِ التَّحِيَّةِ مُحْدِثًا وَلَا جُنُبًا شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَذَا تَرْكُهُ مِنْ وَجْهٍ. وَالْوَجْهَانِ اللَّذَانِ أَبْطَلَ بِهِمَا الْمُصَنِّفُ كَوْنَ الطَّهَارَةِ سُنَّةً: أَعْنِي قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الْجَابِرُ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ الْعَمَلَ كَافِلَانِ بِإِبْطَالِهِ، وَلِمَا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْأَوَّلِ لُزُومُ الْجَابِرِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ، وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّا نَنْفِيهِ فِي غَيْرِ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ، دَفَعَهُ بِتَقْرِيرِ أَنَّ كُلَّ تَرْكٍ لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ فِي وَاجِبٍ، فَإِنَّ التَّطَوُّعَ إذَا شُرِعَ فِيهِ صَارَ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ ثُمَّ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ بِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِيهِ. غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ وُجُوبَهُ لَيْسَ بِإِيجَابِهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً فَأَظْهَرْنَا التَّفَاوُتَ فِي الْحَطِّ مِنْ الدَّمِ إلَى الصَّدَقَةِ فِيمَا إذَا طَافَ مُحْدِثًا، وَمِنْ الْبَدَنَةِ إلَى الشَّاةِ إذَا طَافَ جُنُبًا.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ») رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ» . وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي الْحُكْمِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْحُكْمِ فِي قَوْلِهِ «إلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فَمَنْ تَكَلَّمَ» ، فَكَأَنَّهُ قَالَ هُوَ مِثْلُ الصَّلَاةِ فِي حُكْمِهَا إلَّا فِي جَوَازِ الْكَلَامِ فَيَصِيرُ مَا سِوَى الْكَلَامِ دَاخِلًا فِي الصَّدْرِ وَمِنْهُ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ لَهَا عليه الصلاة والسلام: اقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» فَرَتَّبَ مَنْعَ الطَّوَافِ عَلَى انْتِفَاءِ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ وَسَبَبٌ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ فَيَكُونُ الْمَنْعُ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ لَا لِعَدَمِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِلْحَائِضِ. وَلَنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا يَنْتَظِمُ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا، وَهُوَ تَسْلِيمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي الْحُكْمِ لَكِنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ نَسْخُهُ لِإِطْلَاقِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَثَبَتَ بِهِ الْوُجُوبُ لَا الِافْتِرَاضُ لِاسْتِلْزَامِهِ الْإِكْفَارَ بِجَحْدِ مُقْتَضَاهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمُ مُقْتَضَاهُ بَلْ لَازِمُهُ التَّفْسِيقُ بِهِ، فَكَيْفَ وَلَوْ ثَبَتَ بِهِ افْتِرَاضُ الطَّهَارَةِ كَانَ نَاسِخًا لَهُ، إذْ قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا} يَقْتَضِي الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَتِهِ بِالدَّوَرَانِ حَوْلَ الْبَيْتِ مَعَ الطَّهَارَةِ وَعَدَمِهَا.
فَجَعْلُهُ لَا يَخْرُجُ مَعَ عَدَمِهَا نَسْخٌ لِإِطْلَاقِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَرَتَّبْنَا عَلَيْهِ مُوجِبَهُ مِنْ إثْبَاتِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ حَتَّى أَثَّمْنَا بِتَرْكِهَا وَأَلْزَمْنَا الْجَابِرَ، وَلَيْسَ مُقْتَضَى خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرَ هَذَا لَا الِاشْتِرَاطَ الْمُفْضِي إلَى نَسْخِ إطْلَاقِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُؤَيِّدُ انْتِفَاءَ الِاشْتِرَاطِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: حَاضَتْ امْرَأَةٌ وَهِيَ تَطُوفُ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَتَمَّتْ بِهَا عَائِشَةُ سُنَّةَ طَوَافِهَا. وَقَالَ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت حَمَّادًا وَمَنْصُورًا عَنْ الرَّجُلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا. وَقَدْ انْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَاهُ الْجَوَابَ عَمَّا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. ثَانِيهِمَا مَنْعُ ذَلِكَ التَّقْرِيرِ، وَنَقُولُ: بَلْ التَّشْبِيهُ فِي الثَّوَابِ لَا فِي الْأَحْكَامِ. وَقَوْلُهُ «إلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ» كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ مُسْتَأْنَفٌ بَيَانٌ لِإِبَاحَةِ الْكَلَامِ فِيهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ الْمَشْيُ مُمْتَنِعًا لِدُخُولِهِ فِي الصَّدْرِ، وَكَأَنَّ الشَّيْخَ رحمه الله اسْتَشْعَرَ فِيهِ مَنْعًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمَشْيُ قَدْ عُلِمَ إخْرَاجُهُ قَبْلَ التَّشْبِيهِ فَإِنَّ الطَّوَافَ نَفْسُ الْمَشْيِ، فَحَيْثُ قَالَ صَلَاةٌ فَقَدْ قَالَ الْمَشْيُ الْخَاصُّ كَالصَّلَاةِ فَيَكُونُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ مَا سِوَى الْمَشْيِ فَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ لَكِنْ يَبْقَى الِانْحِرَافُ مُؤَيِّدًا لِلْوَجْهِ الثَّانِي. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ عِنْدَنَا وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَنْفِيهِ، وَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَحْتَمِلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَيُخَصُّ الِانْحِرَافُ أَيْضًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاتِّفَاقِ رُوَاةِ «مَنَاسِكِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ حِينَ طَافَ» ، وَلِاعْتِبَارِهِ وَجَبَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ، فَلَوْ طَافَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ لَزِمَ الدَّمُ إنْ لَمْ يُعِدْهُ.
فَالْجَوَابُ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَبَرَ لَكَانَ مُقْتَضَاهُ وُجُوبَ طَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فِيهِ لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ وُجُوبِهَا. وَفِي الْبَدَائِعِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يُفْتَرَضُ تَحْصِيلُهَا وَلَا يَجِبُ لَكِنَّهُ سُنَّةٌ، حَتَّى لَوْ طَافَ وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ. اهـ.
فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الثَّوَابِ، وَيُضَافُ إيجَابُ الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ إلَى مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَإِيجَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
(وَلَوْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْصَ فِي الرُّكْنِ فَكَانَ أَفْحَشَ مِنْ الْأَوَّلِ فَيُجْبَرُ بِالدَّمِ (وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ) كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -؛ وَلِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ فَيَجِبُ جَبْرُ نُقْصَانِهَا بِالْبَدَنَةِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ، وَكَذَا إذَا طَافَ أَكْثَرَهُ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا، لِأَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ كُلِّهِ (وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَلَا ذَبْحَ عَلَيْهِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ.
«أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ» قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: وَمَنْ طَافَ تَطَوُّعًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَأَحَبُّ إلَيْنَا إنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ سِوَى الَّذِي طَافَ وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ. هَذَا وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ أَنَّ فِي نَجَاسَةِ الْبَدَنِ كُلِّهِ الدَّمَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُقَالُ: فَلِمَ لَمْ تُلْحَقْ الطَّهَارَةُ عَنْ النَّجَسِ بِالطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ وَهُوَ الْأَصْلُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ قِيَاسًا أَوْ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا فِي إثْبَاتِ شَرْطٍ بَلْ فِي إثْبَاتِ الْوُجُوبِ. وَقَدْ يُجَابُ بِحَاصِلِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ أَخَفُّ حَتَّى جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ وَمَعَ كَثِيرِهَا حَالَةَ الضَّرُورَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ نُقْصَانٌ فِي الطَّوَافِ وَهَذَا يَخُصُّ الْفَرْقَ بِطَهَارَةِ الْحَدَثِ دُونَ السَّتْرِ، ثُمَّ أَفَادَ فَرْقًا بَيْنَ السَّتْرِ وَبَيْنَهُ بِأَنَّ وُجُوبَ السَّتْرِ لِأَجْلِ الطَّوَافِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ» فَبِسَبَبِ الْكَشْفِ يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي الطَّوَافِ وَاشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الثَّوْبِ لَيْسَ لِلطَّوَافِ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِتَرْكِهِ نُقْصَانٌ فِيهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ الْمُشَارِكَةَ لِلطَّوَافِ فِي سَبَبِيَّةِ الْمَنْعِ.
وَأَفَادَهَا فِي الْبَدَائِعِ فَقَالَ: الْمَنْعُ مِنْ الطَّوَافِ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ لَيْسَ لِأَجْلِ الطَّوَافِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنْ إدْخَالِهِ النَّجَاسَةَ وَصِيَانَتِهِ عَنْ التَّلْوِيثِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ نَقْصًا فِي الطَّوَافِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَبْرِ إلَّا أَنَّهُ نَفَى سَبَبِيَّةَ الطَّوَافِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ الْمَنْعُ مِنْ الطَّوَافِ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنَعَ لَكَانَ لِصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ، أَوْ أَنَّ الْمَنْعَ ثَابِتٌ مَعَ النَّجَاسَةِ وَلِذَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ إلَى الْوُجُوبِ فَلَا يَنْتَهِضُ مُوجِبًا لِلْجَابِرِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ يَكُنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَنْصِيصٌ سِوَى عَلَى الثَّوْبِ، وَالتَّعْلِيلُ يُفِيدُ تَعْمِيمَ الْبَدَنِ أَيْضًا.
(قَوْلُهُ فَكَانَ أَفْحَشَ) فَإِنْ قِيلَ: لِمَ اخْتَلَفَ الْجَابِرُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الطَّوَافِ دُونَ الصَّلَاةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَخْتَلِفَ الْجَابِرُ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَةِ اعْتِبَارًا لِلْمُسَبِّبِ عَلَى وِزَانِ سَبَبِهِ فَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِلتَّعَذُّرِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ أَمْكَنَ فِي الْحَجِّ لِشَرْعِ الْجَابِرِ فِيهِ مُتَنَوِّعًا إلَى بَدَنَةٍ وَشَاةٍ وَصَدَقَةٍ فَاعْتُبِرَ تَفَاوُتُ الْجَابِرِ بِتَفَاوُتِ الْجِنَايَةِ وَتَعَذَّرَ فِي الصَّلَاةِ إذْ لَمْ يُشْرَعْ الْجَابِرُ لِلنَّقْصِ الْوَاقِعِ
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْحَدَثِ اسْتِحْبَابًا وَفِي الْجَنَابَةِ إيجَابًا لِفُحْشِ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ وَقُصُورِهِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ. ثُمَّ إذَا أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَهُ مُحْدِثًا لَا ذَبْحَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْإِعَادَةِ لَا يَبْقَى إلَّا شُبْهَةُ النُّقْصَانِ، وَإِنْ أَعَادَهُ وَقَدْ طَافَهُ جُنُبًا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَعَادَهُ فِي وَقْتِهِ، وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ طَافَهُ جُنُبًا عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ كَثِيرٌ فَيُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ اسْتِدْرَاكًا لَهُ
سَهْوًا إلَّا السُّجُودُ (قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْحَدَثِ اسْتِحْبَابًا) وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْمَرْ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ تِلْكَ الرِّوَايَةُ مَعَ أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ مُطْلَقًا وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الطَّوَافُ جَابِرًا، فَإِنَّ الدَّمَ وَالصَّدَقَةَ مِمَّا يُجْبَرُ بِهِمَا فَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَاسْتِحْبَابُ الْمُعَيَّنِ: أَعْنِي الطَّوَافَ لِيَكُونَ الْجَابِرُ مِنْ جِنْسِ الْمَجْبُورِ. بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَطُفْ فَإِنَّ الْبَعْثَ بِالشَّاةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ كَانَ يَسِيرًا وَفِي الشَّاةِ تَقَعُ لِلْفُقَرَاءِ.
(قَوْلُهُ لَا ذَبْحَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ) إنْ هَذِهِ وَصْلِيَّةٌ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الشَّيْءِ إذَا أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ دَلِيلُ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْأَوَّلِ فِي الْحَدَثِ وَإِلَّا لَوَجَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ. وَقَوْلُهُ فِي فَصْلِ الْجَنَابَةِ وَإِنْ أَعَادَهُ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْر لَزِمَهُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالتَّأْخِيرِ أَخَذَ مِنْهُ الرَّازِيّ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي فَصْلِ الْجَنَابَةِ لِلطَّوَافِ الثَّانِي وَيَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ بِهِ وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْأَوَّلُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ إذْ لَا شَكَّ فِي وُقُوعِ الْأَوَّلِ مُعْتَدًّا بِهِ حَتَّى حَلَّ بِهِ النَّسَاءُ، وَتَقْرِيرُ مَا عُلِمَ شَرْعًا بِاعْتِدَادِهِ حَالَ وُجُودِهِ أَوْلَى. وَاسْتَدَلَّ الْكَرْخِيُّ بِمَا فِي الْأَصْلِ: لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا فِي رَمَضَانَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا إنْ أَعَادَهُ فِي شَوَّالٍ أَوْ لَمْ يُعِدْهُ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِوُقُوعِ الْأَمْنِ لَهُ عَنْ فَسَادِ الْعُمْرَةِ، فَإِذَا أَمِنَ فَسَادَهَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْحَجِّ
وَيَعُودُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ. وَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَبَعَثَ بَدَنَةً أَجْزَأَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ جَابِرٌ لَهُ، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْعَوْدُ.
وَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ طَافَهُ مُحْدِثًا إنْ عَادَ وَطَافَ جَازَ، وَإِنْ بَعَثَ بِالشَّاةِ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ خَفَّ مَعْنَى النُّقْصَانِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَصْلًا حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ لِانْعِدَامِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ أَبَدًا حَتَّى يَطُوفَ.
(وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ) لِأَنَّهُ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ شَاةٌ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ (وَلَوْ طَافَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّهُ نَقْصٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ هُوَ دُونَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَيُكْتَفَى بِالشَّاةِ.
(وَمَنْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ)
لَا يَكُونُ بِهَا مُتَمَتِّعًا.
قَالَ: وَالطَّوَافُ الْأَوَّلُ كَانَ حُكْمُهُ مُرَاعًى لِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ؛ فَإِنْ أَعَادَهُ انْفَسَخَ وَصَارَ الْمُعْتَدُّ بِهِ الثَّانِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ فِي التَّحَلُّلِ، كَمَنْ قَامَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَمْ يَقْرَأْ حَتَّى رَكَعَ كَانَ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ مُرَاعًى عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ عَادَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ كَانَ الْأَوَّلُ مُعْتَدًّا بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ يَسِيرٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِهِ حُكْمُ الطَّوَافِ بَلْ بَقِيَ مُعْتَدًّا بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي جَابِرٌ لِلتَّمَكُّنِ فِيهِ مِنْ النُّقْصَانِ، وَلَوْ طَافَتْ الْمَرْأَةُ لِلزِّيَارَةِ حَائِضًا فَهُوَ كَطَوَافِ الْجُنُبِ سَوَاءٌ. اهـ. وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ أَوْلَى، وَجَعْلُ عَدَمِ التَّمَتُّعِ فِي شَاهِدِهِ لِلْأَمْنِ عَنْ فَسَادِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الدَّمِ لِتَأْخِيرِ الْجَابِرِ لِجَعْلِهِ كَنَفْسِ الطَّوَافِ بِسَبَبِ أَنَّ النُّقْصَانَ لَمَّا كَانَ مُتَفَاحِشًا كَانَ كَتَرْكِهِ مِنْ وَجْهٍ فَيَكُونُ وُجُودُ جَابِرِهِ كَوُجُودِهِ.
أَوْ نَقُولُ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الطَّوَافِ فِي أَيَّامِهِ خَالِيًا عَنْ النَّقْصِ الْفَاحِشِ الَّذِي يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ التَّرْكِ لِبَعْضِهِ، فَبِإِدْخَالِهِ يَكُونُ مُوجِدًا لِبَعْضِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَعْضُ الْآخَرُ أَعْنِي صِفَةَ الْكَمَالِ، وَهُوَ تَكَامُلُ الصِّفَةِ وَهُوَ الطَّوَافُ الْجَابِرُ فَوَجَبَ فِي أَيَّامِ الطَّوَافِ، فَإِذَا أَخَّرَهُ وَجَبَ دَمٌ كَمَا إذَا أَخَّرَ أَصْلَ الطَّوَافِ. (قَوْلُهُ: وَيَرْجِعُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَلَّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ جُنُبًا وَهُوَ آفَاقِيٌّ يُرِيدُ مَكَّةَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إحْرَامٍ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَقِيلَ: يَعُودُ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ، حَكَاهُ الْفَارِسِيُّ، ثُمَّ إذَا عَادَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ يَبْدَأُ بِهَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا يَطُوفُ لِلزِّيَارَةِ وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ وَقْتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلَوْ طَافَ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ مُحْدِثًا أَعَادَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْجَبْرِ بِجِنْسِهِ فِي وَقْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى طَلَعَ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ دَمٌ لِطَوَافِ الْعُمْرَةِ مُحْدِثًا وَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْقَضَاءِ، وَيَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَسْعَى بَعْدَهُ اسْتِحْبَابًا؛ لِيَحْصُلَ الرَّمَلُ وَالسَّعْيُ عَقِيبَ طَوَافٍ كَامِلٍ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَعْيٌ عَقِيبَ طَوَافٍ مُعْتَدٍّ بِهِ، إذْ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ لَا يَمْنَعُ الِاعْتِدَادَ، وَفِي الْجَنَابَةِ إنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِلسَّعْيِ وَكَذَا الْحَائِضُ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَصْلًا إلَخْ) وَكَذَا إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ تَرَكَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ يَعُودُ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ أَبَدًا فِي حَقِّ النِّسَاءِ؛ وَكُلَّمَا جَامَعَ لَزِمَهُ دَمٌ إذَا تَعَدَّدَتْ الْمَجَالِسُ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ رَفْضَ الْإِحْرَامِ بِالْجِمَاعِ الثَّانِي وَتَقَدَّمَ أَوَائِلَ الْفَصْلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ إلَخْ) ذَكَرَ فِي حُكْمِهِ رِوَايَتَيْنِ،
لِأَنَّ النُّقْصَانَ بِتَرْكِ الْأَقَلِّ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ الْحَدَثِ فَتَلْزَمُهُ شَاةٌ. فَلَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ أَجْزَأَهُ أَنْ لَا يَعُودَ
وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ هِيَ رِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ مُعْتَدٌّ بِهِ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِهِ إلَّا أَنَّهُ نَاقِصٌ، وَالْوَاجِبُ بِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ الدَّمُ فَلَا يَجِبُ بِالنُّقْصَانِ مَا يَجِبُ بِالتَّرْكِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَنَاطَ وُجُوبِ الدَّمِ كَمَالُ الْجِنَايَةِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الطَّوَافِ مَعَ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ بِهِ كَمَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ، وَلِذَا حَقَّقْنَا وُجُوبَ الدَّمِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ جُنُبًا، وَلَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ أَصْلًا؛ لِثُبُوتِ الْجِنَايَةِ فِي فِعْلِهِ جُنُبًا وَعَدَمِهَا فِي تَرْكِهِ فَالْمَدَارُ الْجِنَايَةُ. فَإِنْ قُلْت: ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ لُزُومِ الدَّمِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ مُحْدِثًا وَالصَّدَقَةِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ مُحْدِثًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إدْخَالُ النَّقْصِ فِي الْوَاجِبِ بِالشُّرُوعِ أَنَّهُ إظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ، وَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالصَّدْرِ فَلِمَ اتَّحَدَ حُكْمُهُمَا؟ فَالْجَوَابُ مَنْعُ قِيَامِ الْفَرْقِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ مُضَافٌ إلَى الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ كَوُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الشُّرُوعُ، وَلِهَذَا لَوْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا لَمْ يَجِبْ لِعَدَمِ فِعْلِ الصَّدْرِ. وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَلَوْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ شَوْطًا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلصَّدَقَةِ فِي الْعُمْرَةِ.
(قَوْلُهُ: يَسِيرٌ) لِرُجْحَانِ جَانِبِ الْوُجُودِ بِالْكَثْرَةِ. وَعَنْ هَذَا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الرُّكْنَ عِنْدَنَا هُوَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْوَاطُ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ بِهِ الْوَاجِبُ. وَهَذَا حُكْمٌ لَا يُعَلَّلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ إذْ جَبْرُهَا بِالدَّمِ مَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ يُخَالِفُ فِيهِ وَهُمْ كَثِيرُونَ، بَلْ جَبْرُهَا بِهِ لِإِقَامَةِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ. وَسَبَبُ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِهِ عَلَى خِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إذْ لَا يُقَامُ الْأَكْثَرُ مِنْهُمَا مَقَامَ الْكُلِّ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْحَجُّ عَرَفَةَ» ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ مَعَ الْعِلْمِ بِبَقَاءِ رُكْنٍ آخَرَ عَلَيْهِ، وَحَكَمْنَا لِهَذَا بِالْأَمْنِ مِنْ فَسَادِ الْحَجِّ إذَا تَحَقَّقَ بَعْدَ الْوُقُوفِ مَا يُفْسِدُهُ قَبْلَهُ. فَعَلِمْنَا أَنَّ بَابَ الْحَجِّ اُعْتُبِرَ فِيهِ شَرْعًا هَذَا الِاعْتِبَارُ وَالطَّوَافُ مِنْهُ فَأَجْرَيْنَا فِيهِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ فِي إثْبَاتِ الْإِقَامَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ الْآخَرَ غَيْرُ مُنْتَهِضٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الطَّوَافُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ، فَلَمَّا فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام سَبْعًا اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ تَقْدِيرًا لِلْكَمَالِ وَلَمَّا لَا يُجْزِي أَقَلُّ مِنْهُ فَيَثْبُتُ الْمُتَيَقَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْكَمَالِ أَوْ لِلِاعْتِدَادِ، وَيُقَامُ الْأَكْثَرُ مُقَامَ الْكُلِّ كَإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ يُجْعَلُ شَرْعًا إدْرَاكًا لِلرَّكْعَةِ، وَكَالنِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ لِلصَّوْمِ تُجْعَلُ شَرْعًا فِي كُلِّهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ التَّطَوُّفُ، وَهُوَ أَخَصُّ يَقْتَضِي زِيَادَةَ تَكَلُّفٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِسْرَاعُ وَمِنْ حَيْثُ التَّكَثُّرُ، فَلَمَّا فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام مُتَكَثِّرًا كَانَ تَنْصِيصًا عَلَى أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ، ثُمَّ وُقُوعُ التَّرَدُّدِ بَيْنَ كَوْنِهِ لِلْكَمَالِ أَوْ لِلِاعْتِدَادِ عَلَى السَّوَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمُتَيَقَّنِ كَوْنَهُ لِلْكَمَالِ فَإِنَّهُ مَحْضُ تَحَكُّمٍ فِي أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، بَلْ فِي مِثْلِهِ يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فَيُعْتَبَرُ لِلِاعْتِدَادِ؛ لِيَقَعَ الْيَقِينُ بِالْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ. وَعَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهِ لِلِاعْتِدَادِ يَكُونُ إقَامَةُ أَكْثَرِهِ مَقَامَ كُلِّهِ مُنَافِيًا لَهُ فِي التَّحْقِيقِ، إذْ كَوْنُ السَّبْعِ لِلِاعْتِدَادِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِي أَقَلُّ مِنْهَا.
وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ لَازِمُهُ حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ السَّبْعِ فَكَيْفَ يُرَتَّبُ لَازِمًا عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْمَلْزُومِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِهِ فَإِثْبَاتُهُ بِإِلْحَاقِ مُدْرِكِ الرُّكُوعِ وَالنِّيَّةِ بَاطِلٌ. أَمَّا إدْرَاكُ الرَّكْعَةِ بِالرُّكُوعِ فَبِالشَّرْعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ بِإِجْزَاءِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ عَنْ الْأَرْبَعِ قِيَاسًا. وَأَمَّا النِّيَّةُ فَبَعِيدٌ أَنَّهُ مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ فَإِنَّا نَعْتَبِرُ الْإِمْسَاكَاتِ السَّابِقَةَ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ مُتَوَقِّفَةً عَلَى وُجُودِهَا، فَإِذَا وُجِدْت بِأَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ تَحَقَّقَ
وَيَبْعَثُ بِشَاةٍ لِمَا بَيَّنَّا (وَمَنْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ بَقِيَ مُحْرِمًا أَبَدًا حَتَّى يَطُوفَهَا) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ أَكْثَرُ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ أَصْلًا.
(وَمَنْ تَرَكَ طَوَافَ الصَّدْرِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ أَوْ الْأَكْثَرَ مِنْهُ، وَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ (وَمَنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الْوَاجِبِ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ) لِأَنَّ الطَّوَافَ وَرَاءَ الْحَطِيمِ وَاجِبٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالطَّوَافُ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَيَدْخُلَ الْفُرْجَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَطِيمِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدْخَلَ نَقْصًا فِي طَوَافِهِ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ كُلَّهُ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلطَّوَافِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ (وَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ) خَاصَّةً (أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ تَلَافَى مَا هُوَ الْمَتْرُوكُ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ يَمِينِهِ خَارِجَ الْحَجَرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ يَدْخُلَ الْحِجْرَ مِنْ الْفُرْجَةِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ هَكَذَا يَفْعَلُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ. (فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يُعِدْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي طَوَافِهِ بِتَرْكِ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الرُّبُعِ وَلَا تَجْزِيهِ الصَّدَقَةُ.
(وَمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَطَوَافَ الصَّدْرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ طَاهِرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ)، فَإِنْ كَانَ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَا عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ) لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَمْ يُنْقَلْ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَإِعَادَةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فَلَا يُنْقَلُ إلَيْهِ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُنْقَلُ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْإِعَادَةَ فَيَصِيرُ تَارِكًا لِطَوَافِ الصَّدْرِ مُؤَخِّرًا لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَيَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِ الصَّدْرِ بِالِاتِّفَاقِ وَبِتَأْخِيرِ الْآخَرِ عَلَى الْخِلَافِ، إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ طَوَافِ الصَّدْرِ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَلَا يُؤْمَرُ بَعْدَ الرُّجُوعِ
صَرْفُ ذَلِكَ الْمَوْقُوفِ كُلِّهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا تَعَلَّقَتْ النِّيَّةُ بِالْكُلِّ؛ لِوُجُودِهَا فِي الْأَكْثَرِ لَا بِالْأَكْثَرِ، وَكَانَ سَبَبُ تَصْحِيحِ تَعَلُّقِهَا بِالْكُلِّ مِنْ غَيْرِ قِرَانِ وُجُودِهَا بِالْكُلِّ الْحَرَجَ اللَّازِمَ مِنْ اشْتِرَاطِ قِرَانِ وُجُودِهَا لِلْكُلِّ بِسَبَبِ النَّوْمِ الْحَاكِمِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا إيضَاحَهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ.
هَذَا وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَوْجَهَ لَكِنَّهُ غَيْرُ سَالِمٍ مِمَّا يُدْفَعُ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ إقَامَةَ الْأَكْثَرِ فِي تَمَامِ الْعِبَادَةِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ حُكْمٍ خَاصٍّ وَهُوَ أَمْنُ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ لَيْسَ غَيْرُ، وَلِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّ تَرْكَ مَا بَقِيَ: أَعْنِي الطَّوَافَ يَتِمُّ مَعَهُ الْحَجُّ وَهُوَ مَوْرِدُ ذَلِكَ النَّصِّ، فَلَا يَلْزَمُ جَوَازُ إقَامَةِ أَكْثَرِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ مَقَامَ تَمَامِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَتَرْكِ بَاقِيهِ، كَمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي نَفْسِ مَوْرِدِ النَّصِّ: أَعْنِي الْحَجَّ، فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. بَلْ الَّذِي نَدِينُ بِهِ أَنْ لَا يُجْزِيَ أَقَلُّ مِنْ السَّبْعِ، وَلَا يُجْبَرُ بَعْضُهُ بِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّا نَسْتَمِرُّ مَعَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى أَصْلِهِمْ هَذَا. (قَوْلُهُ وَيَبْعَثُ بِشَاةٍ) يَعْنِي عَنْ الْبَاقِي مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَبِشَاةٍ أُخْرَى
عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَمَنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَحَلَّ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ يُعِيدُهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَمَّا إعَادَةُ الطَّوَافِ فَلِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِيهِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ. وَأَمَّا السَّعْيُ فَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ، وَإِذَا أَعَادَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ (وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُعِيدَ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِيهِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ بِأَدَاءِ الرُّكْنِ إذْ النُّقْصَانُ يَسِيرٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي السَّعْيِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ عَلَى أَثَرِ طَوَافٍ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَكَذَا إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَلَمْ يُعِدْ السَّعْيَ فِي الصَّحِيحِ.
لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ بَعْثَ الشَّاةِ لِتَرْكِ بَعْضِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ طَافَ لِلصَّدْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ طَافَ لِلصَّدْرِ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ مَا يُكْمِلُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْبَاقِي مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ إنْ كَانَ أَقَلَّهُ لَزِمَهُ صَدَقَةٌ لَهُ وَإِلَّا فَدَمٌ، وَلَوْ كَانَ طَافَ لِلصَّدْرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقَدْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَكْثَرَهُ كَمَّلَ مِنْ الصَّدْرِ وَلَزِمَهُ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: دَمٌ لِتَأْخِيرِ ذَلِكَ، وَدَمٌ آخَرُ لِتَرْكِهِ أَكْثَرَ الصَّدْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ أَقَلَّهُ لَزِمَهُ لِلتَّأْخِيرِ دَمٌ وَصَدَقَةٌ لِلْمَتْرُوكِ مِنْ الصَّدْرِ مَعَ ذَلِكَ الدَّمِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْأَقَلِّ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ دَمًا، وَفِي تَأْخِيرِ الْأَقَلِّ صَدَقَةً، وَفِي تَرْكِ الْأَكْثَرِ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ دَمًا، وَفِي تَرْكِ أَقَلِّهِ صَدَقَةً. وَمَبْنَى هَذَا النَّقْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ رُكْنُ عِبَادَةٍ، وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ عِبَادَةً فِي نَفْسِهِ فَشُرِطَ لَهُ نِيَّةُ أَصْلِ الطَّوَافِ دُونَ التَّعْيِينِ. فَلَوْ طَافَ فِي وَقْتِهِ يَنْوِي النَّذْرَ أَوْ النَّفَلَ وَقَعَ عَنْهُ، كَمَا لَوْ نَوَى بِالسَّجْدَةِ مِنْ الظُّهْرِ النَّفَلَ لَغَتْ نِيَّتُهُ وَوَقَعَتْ عَنْ الرُّكْنِ وَإِنَّ تَوَالِيَ الْأَشْوَاطِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، كَمَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّوَافِ لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ بَنَى.
(قَوْلُهُ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِتَرْكِ السَّعْيِ شَيْءٌ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَالْمُرَادُ لَيْسَ عَلَيْهِ لِتَرْكِ جَابِرِ السَّعْيِ شَيْءٌ: أَيْ لَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ السَّعْيِ مُحْدِثًا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ فِيهِ، بَلْ الْوَاجِبُ فِيهِ الطَّهَارَةُ فِي الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ عَقِيبَهُ وَقَدْ جُبِرَ ذَلِكَ بِالدَّمِ إذْ فُوِّتَ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّعْيِ كَوْنُهُ بَعْدَ أَكْثَرِ طَوَافٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا فِي الْبَدَائِعِ مِنْ قَوْلِهِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَيْتِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الطَّوَافُ عَلَى طَهَارَةٍ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُصُولَ الطَّوَافِ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ السَّعْيِ تَسَاهُلٌ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ وَحْدَهُ ذُكِرَ فِيهِ الْخِلَافُ وَصُحِّحَ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَهُوَ قَوْلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَحْبُوبِيُّ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ شَارِحِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى وُجُوبِ الدَّمِ بِنَاءً عَلَى انْفِسَاخِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي وَإِلَّا كَانَا فَرْضَيْنِ أَوْ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَدُّ بِالثَّانِي وَلَا قَائِلَ بِهِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمُعْتَبَرِ الثَّانِيَ فَحِينَئِذٍ وَقَعَ السَّعْيُ قَبْلَ الطَّوَافِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعِدْ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ. وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْحَصْرِ بَلْ الطَّوَافُ الثَّانِي مُعْتَدٌّ بِهِ جَابِرًا كَالدَّمِ، وَالْأَوَّلُ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي حَقِّ الْفَرْضِ، وَهَذَا أَسْهَلُ مِنْ الْفَسْخِ خُصُوصًا وَهُوَ نُقْصَانٌ بِسَبَبِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ. وَمِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالْمَشْيُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَنْكُوسًا بِأَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَسَارِهِ. وَكُلُّهَا وَإِنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لَكِنْ لَا قَصْدًا بَلْ فِي ضِمْنِ التَّعَالِيلِ. أَمَّا السَّتْرُ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَلَا لَا يَطُوفَنَّ بِهَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانُ» وَأَمَّا الْمَشْيُ فَلِأَنَّ الرَّاكِبَ لَيْسَ طَائِفًا حَقِيقَةً بَلْ الطَّائِفُ حَقِيقَةً مَرْكُوبُهُ وَهُوَ فِي حُكْمِهِ إذْ كَانَ حَرَكَتُهُ عَنْ حَرَكَةِ الْمَرْكُوبِ، وَطَوَافُهُ عليه الصلاة والسلام رَاكِبًا فِيمَا رَكِبَ فِيهِ قَدَّمْنَا مَا رُوِيَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ لِيَظْهَرَ فَيُقْتَدَى بِفِعْلِهِ، وَهَذَا عُذْرٌ أَيُّ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِتَعْلِيمِهِمْ، وَهَذَا طَرِيقُ مَا أُمِرَ بِهِ فَيُبَاحُ لَهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إذَا رَكِبَ مِنْ عُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِلَّا أَعَادَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهُ لَزِمَهُ دَمٌ، وَكَذَا إذَا طَافَ زَحْفًا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ زَحْفًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ لَزِمَهُ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ الْعِبَادَةَ بِوَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فَلَغَتْ وَبَقِيَ النَّذْرُ بِأَصْلِ الْعِبَادَةِ كَمَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ لِلْحَجِّ بِلَا طَهَارَةٍ، ثُمَّ إنْ طَافَ زَحْفًا أَعَادَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يُعِدْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا طَافَ زَحْفًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ يَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَيَصُومَ يَوْمًا آخَرَ؛ وَلَوْ صَلَّى فِي الْمَغْصُوبَةِ أَوْ صَامَ يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ، كَذَا هَذَا، هَكَذَا حُكِيَ فِي الْبَدَائِعِ. وَسَوْقُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي شَرْحِ الْقَاضِي مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأَصْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا لَوْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الدَّمِ، وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ سِوَى الْإِجْزَاءِ، وَمَا فِي الْأَصْلِ لَا يَنْفِيهِ، وَلَوْ كَانَ خِلَافًا كَانَ مَا فِي الْأَصْلِ هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْعِبَادَةَ مَتَى شُرِعَ فِيهَا جَابِرٌ لِتَفْوِيتِ شَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا فَفُوِّتَ وَجَبَ الْجَبْرُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ لَمْ يُجْبَرْ صَحَّتْ كَالصَّلَاةِ بِالسُّجُودِ فِي السَّهْوِ وَبِالْإِعَادَةِ فِي الْعَمْدِ، فَقَدْ قُلْنَا: كُلُّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ يَجِبُ إعَادَتُهَا، وَبَابُ الْحَجِّ مِمَّا تَحَقَّقَ فِيهِ ذَلِكَ فَيَجِبُ الْجَبْرُ أَوَّلًا بِجِنْسِهِ إذَا فَوَّتَ وَاجِبَهُ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ وَجَبَ الْجَابِرُ الْآخَرُ وَهُوَ الدَّمُ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ جَبْرٌ، وَبِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّ عَدَمَ حِلِّ الصَّلَاةِ فِيهَا لَيْسَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ بَلْ الْوَاجِبُ عَدَمُ الْكَوْنِ فِيهَا مُطْلَقًا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا جَعْلُ الْبَيْتِ عَنْ يَسَارِهِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ الْوُجُوبُ بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام كَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاظَبَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ فِي الْحَجِّ وَجَمِيعِ عُمَرِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيمِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهِ خُصُوصًا اقْتِرَانُ مَا فَعَلَهُ فِي الْحَجِّ بِقَوْلِهِ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لَزِمَهُ دَمٌ. وَأَمَّا الِافْتِتَاحُ مِنْ الْحَجَرِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ سُنَّةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ: لَا يَعْتَدُّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى
(وَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَحَجُّهُ تَامٌّ) لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَنَا فَيَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ دُونَ الْفَسَادِ.
(وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ الْإِمَامِ مِنْ عَرَفَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَصْلُ الْوُقُوفِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْإِطَالَةِ شَيْءٌ. وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَ لَيْلًا لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ عَلَى
الْحَجَرِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْهُ، وَقَدَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَعْلِ الْبَيْتِ عَنْ يَسَارِهِ فِي الدَّلِيلِ، وَجَعْلُ الْبَيْتِ عَنْ يَسَارِ الطَّائِفِ وَاجِبٌ، فَكَذَا ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْ الْحَجَرِ وَاجِبٌ أَلْبَتَّةَ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَحَجُّهُ تَامٌّ)؛ لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصْبُ الْخِلَافِ فِيهِ مَعَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَقَمْنَا دَلِيلَ الْوُجُوبِ وَأَبْطَلْنَا مَا جَعَلَهُ دَلِيلًا لِلرُّكْنِيَّةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ بَابِ الْإِحْرَامِ.
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَإِذَا كَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا فَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَ دَمٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ تَرْكِ الْوَاجِبِ فِي هَذَا الْبَابِ. أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» وَرَخَّصَ لِلْحَيْضِ فَأَسْقَطَهُ لِلْعُذْرِ، وَعَلَى هَذَا فَإِلْزَامُ الدَّمِ فِي الْكِتَابِ بِتَرْكِ السَّعْيِ يُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ الْعُذْرِ، وَكَذَا يَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِ أَكْثَرِهِ، فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ لَزِمَهُ صَدَقَةٌ: أَيْ يُطْعِمُ لِكُلِّ شَوْطٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ قِيمَتِهِ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ، وَكَمَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ بِرُكُوبِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ إلَّا إنْ رَكِبَ لِعُذْرٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ فِي تَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ دَمًا لَا لِعُذْرٍ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ أَفَاضَ قَبْلَ الْإِمَامِ) قَدْ تَرَكْنَا مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّهَا مُفَصَّلَةٌ وَاضِحَةٌ فِي الْكِتَابِ فَتُرَاجَعُ فِيهِ. ثُمَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّهُ الْمَدَارُ إلَّا أَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ الْإِمَامِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ قَطُّ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْوَاجِبِ أَعْنِي بَعْدَ الْغُرُوبِ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ بِاعْتِبَارِهَا، وَأَشَارَ فِي الدَّلِيلِ إلَى خُصُوصِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِدَامَةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» غَرِيبٌ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الْحَجِّ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ خِلَافَهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَأَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْحَاكِمِ عَنْ الْمِسْوَرِ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ مِثْلَ عَمَائِمِ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهَا، وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ أَنْ تَغِيبَ» ، فَإِنَّ هَذَا السَّوْقَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ فِيهِ. وَمَسَائِلُ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الْغُرُوبِ ذَكَرْنَاهَا فِي بَحْثِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَارْجِعْ إلَيْهَا تَسْتَغْنِ عَنْ إعَادَتِهَا هُنَا.
مَنْ وَقَفَ نَهَارًا لَا لَيْلًا، فَإِنْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَدْرَكًا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ.
(وَمَنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ.
(وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِتَحَقُّقِ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ كَمَا فِي الْحَلْقِ، وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِيهَا، وَمَا دَامَتْ الْأَيَّامُ بَاقِيَةً فَالْإِعَادَةُ مُمْكِنَةٌ فَيَرْمِيهَا عَلَى التَّأْلِيفِ ثُمَّ بِتَأْخِيرِهَا يَجِبُ الدَّمُ
وَقَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ هُنَاكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ (قَوْلُهُ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ) ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْإِفَاضَةُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَدْ وُجِدَ وَتَقَدَّمَ مَا عَلَيْهِ وَجَوَابُهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ فَارْجِعْ إلَيْهِ.
(قَوْلُهُ كَمَا فِي الْحَلْقِ) حَيْثُ يَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ بِحَلْقِ شَعْرِ كُلِّ الْبَدَنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْجِنَايَةِ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، فَكَذَا تَرْكُ رَمْيِ الْجِمَارِ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ يَلْزَمُهُ بِهِ دَمٌ وَاحِدٌ (قَوْلُهُ: وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ) وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلَا يَبْقَى فِي لَيْلَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ بِخِلَافِ اللَّيَالِيِ الَّتِي تَتْلُو الْأَيَّامَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ الرَّمْيِ. وَقَوْلُهُ فَيَرْمِيهَا عَلَى التَّأْلِيفِ: يَعْنِي عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا كَانَ يُرَتِّبُ الْجِمَارَ فِي الْأَدَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إطْلَاقَ إلْزَامِ الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ عَلَى الِاتِّفَاقِ فِيمَا إذَا لَمْ يَقْضِهِ، أَمَّا إنْ قَضَى رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ أَوْ الثَّانِي فِي الثَّالِثِ، فَالْإِيجَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
(وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِأَنَّهُ نُسُكٌ تَامٌّ (وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ) لِأَنَّ الْكُلَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ نُسُكٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِوُجُودِ تَرْكِ الْأَكْثَرِ (وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ) لِأَنَّهُ كُلُّ وَظِيفَةِ هَذَا الْيَوْمِ رَمْيًا وَكَذَا إذَا تَرَكَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا (وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَيُنْقِصَ مَا شَاءَ) لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ الْأَقَلُّ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ.
(وَمَنْ أَخَّرَ الْحَلْقَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ (فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ) وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ وَفِي تَقْدِيمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ
تَأْخِيرَ النُّسُكِ وَتَقْدِيمَهُ غَيْرُ مُوجِبٍ عِنْدَهُمَا شَيْئًا (قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ) بِأَنْ يَتْرُكَ إحْدَى عَشْرَةَ حَصَاةً فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَأَرْبَعَ حَصَيَاتٍ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ. وَتَفَاصِيلُ مَسَائِلِ الرَّمْيِ ظَاهِرَةٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي بَحْثِ الرَّمْيِ فَلَا نُعِيدُهُ وَارْجِعْ إلَيْهِ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) يَعْنِي عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَّرَ السَّعْيَ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ بَعْدَهُ
كَالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَنَحْرِ الْقَارِنِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الذَّبْحِ، لَهُمَا أَنَّ مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَضَاءِ شَيْءٌ آخَرُ.
وَلَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ " وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْمَكَانِ يُوجِبُ الدَّمَ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالْمَكَانِ كَالْإِحْرَامِ فَكَذَا التَّأْخِيرُ عَنْ الزَّمَانِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ.
قَوْلُهُ كَالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ إلَخْ) وَفِي مَوْضِعٍ إنْ رَمَى قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ لِلْعُذْرِ، حَتَّى لَوْ طَهُرَتْ فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَيُمْكِنُهَا أَنْ تَطُوفَ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَلَمْ تَفْعَلْ كَانَ عَلَيْهَا الدَّمُ لَا إنْ أَمْكَنَهَا أَقَلُّ مِنْهَا. وَلَوْ طَافَ قَبْلَ الرَّمْيِ يَقَعُ مُعْتَدًّا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَسْنُونًا بَعْدَ الرَّمْيِ (قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكٌ بِالْقَضَاءِ إلَخْ) وَلَهُمَا أَيْضًا مِنْ الْمَنْقُولِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ، وَقَالَ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ». وَالْجَوَابُ أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ يَتَحَقَّقُ بِنَفْيِ الْإِثْمِ وَالْفَسَادِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ دُونَ نَفْيِ الْجَزَاءِ، فَإِنَّ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ لَمْ أَشْعُرْ فَفَعَلْت مَا يُفِيدُ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلِذَا قَدَّمَ اعْتِذَارَهُ عَلَى سُؤَالِهِ وَإِلَّا لَمْ يَسْأَلْ أَوْ لَمْ يَعْتَذِرْ.
لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: يَحْتَمِلُ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ مُخَالَفَةُ تَرْتِيبِهِ لِتَرْتِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ مُتَعَيَّنٌ فَقَدَّمَ ذَلِكَ الِاعْتِذَارَ وَسَأَلَ عَمَّا يَلْزَمُهُ بِهِ، فَبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام فِي الْجَوَابِ عَدَمَ تَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ مَسْنُونٌ لَا وَاجِبٌ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ كَانَ هُوَ الْوَاقِعَ إلَّا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَذَرَهُمْ لِلْجَهْلِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ
(وَإِنْ حَلَقَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَمَنْ اعْتَمَرَ فَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ وَقَصَّرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) رحمه الله: (لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) قَالَ رضي الله عنه: ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُعْتَمِرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَاجِّ. قِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ جَرَتْ فِي الْحَجِّ بِالْحَلْقِ بِمِنًى وَهُوَ مِنْ الْحَرَمِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، هُوَ يَقُولُ: الْحَلْقُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحَرَمِ لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلَقُوا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ» . وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ لَمَّا جُعِلَ مُحَلِّلًا صَارَ كَالسَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِهَا، وَإِنْ كَانَ مُحَلِّلًا، فَإِذَا صَارَ نُسُكًا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ كَالذَّبْحِ وَبَعْضُ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ فَلَعَلَّهُمْ حَلَقُوا فِيهِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَلْقَ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ، وَعِنْد زُفَرٍ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ.
يَتَعَلَّمُوا مَنَاسِكَهُمْ، وَإِنَّمَا عَذَرَهُمْ بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ كَانَ إذْ ذَاكَ فِي ابْتِدَائِهِ، وَإِذَا اُحْتُمِلَ كُلًّا مِنْهُمَا فَالِاحْتِيَاطُ اعْتِبَارُ التَّعْيِينِ وَالْأَخْذُ بِهِ وَاجِبٌ فِي مَقَامِ الِاضْطِرَابِ فَيَتِمُّ الْوَجْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه " مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ " بَلْ هُوَ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عِنْدَنَا.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْأَعْرَفُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وَلَفْظُهُ " مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ حَجِّهِ أَوْ أَخَّرَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا " وَفِي سَنَدِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ مُضَعَّفٌ. وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ بِطَرِيقٍ آخَرَ لَيْسَ ذَلِكَ الْمُضَعَّفَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا الْخَصِيبُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. قَالَ: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَحَدُ مَنْ رَوَى عَنْهُ عليه الصلاة والسلام " افْعَلْ وَلَا حَرَجَ " لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، بَلْ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ كَانَ عَلَى الْجَهْلِ بِالْحُكْمِ فَعَذَرَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَلَّمُوا مَنَاسِكَهُمْ.
وَمِمَّا اُسْتُدِلَّ بِهِ قِيَاسُ الْإِخْرَاجِ عَنْ الزَّمَانِ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ الْمَكَانِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الْآيَةَ. فَإِنَّ إيجَابَ الْفِدْيَةِ لِلْحَلْقِ قَبْلَ أَوَانِهِ حَالَةَ الْعُذْرِ يُوجِبُ الْجَزَاءَ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ بِطَرِيقِ أَوْلَى فَمُتَوَقِّفٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّأْقِيتَ الصَّادِرَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام بِالْقَوْلِ كَانَ لِتَعَيُّنِهِ لَا لِاسْتِنَانِهِ. وَنَصُّ الْمُصَنِّفِ عَلَى صُوَرِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِنَا لَهَا، وَتَخْصِيصُ الْقَارِنِ فِي قَوْلِهِ وَنَحْرُ الْقَارِنِ قَبْلَ الرَّمْيِ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ الْمُتَمَتِّعُ مِثْلُهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ.
(قَوْلُهُ قِيلَ هُوَ بِالِاتِّفَاقِ) أَيْ الِاتِّفَاقِ عَلَى لُزُومِ الدَّمِ لِلْحَاجِّ؛ لِأَنَّ التَّوَارُثَ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَجَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَرَى عَلَى الْحَلْقِ فِي الْحَجِّ فِي الْحَرَمِ مِنْ مِنًى وَهُوَ إحْدَى الْحُجَجِ (قَوْلُهُ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَلْقَ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ) وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ (وَالْمَكَانِ) وَهُوَ الْحَرَمُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالْمَكَانِ لَا بِالزَّمَانِ وَعِنْدَ زُفَرِ عَكْسُهُ
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي التَّوْقِيتِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ بِالدَّمِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ فَلَا يَتَوَقَّتُ بِالِاتِّفَاقِ. وَالتَّقْصِيرُ وَالْحَلْقُ فِي الْعُمْرَةِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِالزَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي التَّضْمِينِ بِالدَّمِ لَا فِي التَّحَلُّلِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ فِي أَيِّ مَكَان أَوْ زَمَانٍ أَتَى بِهِ يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ، بَلْ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ إذَا حَلَقَ فِي غَيْرِ مَا تُوُقِّتَ بِهِ يَلْزَمُ الدَّمُ عِنْدَ مَنْ وَقَّتَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُوَقِّتْهُ. ثُمَّ هُوَ أَيْضًا فِي حَلْقِ الْحَاجِّ، أَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَلَا يَتَوَقَّتُ فِي حَقِّهِ بِالزَّمَانِ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ بِالْمَكَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي نَفْيِ تَوَقُّتِهِ بِالزَّمَانِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ " اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ " لِمَنْ قَالَ حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِهِ، وَتَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا. وَلِأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرٍ فِي نَفْيِ تَوَقُّتِهِ بِالْمَكَانِ حَلْقُهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِهَا وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْحَلْقِ كَانَ فِيهِ، فَلَا حُجَّةَ إلَّا أَنْ يُنْقَلَ صَرِيحًا أَنَّ الْحَلْقَ كَانَ فِي الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ حِلٌّ مَعَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَزَلَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ» . فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْحِلِّ وَهُوَ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَحْلِقَ فِي الْحَرَمِ فَيَبْقَى التَّوَارُثُ الْكَائِنُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ خَالِيًا عَنْ الْمُعَارِضِ، وَكَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الزَّمَانِ ثُمَّ
بِخِلَافِ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهِ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى رَجَعَ وَقَصَّرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) مَعْنَاهُ: إذَا خَرَجَ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ عَادَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي مَكَان فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ.
(فَإِنْ حَلَقَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ فَعَلَيْهِ دَمَانِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: دَمٌ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ؛ لِأَنَّ أَوَانَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ. وَعِنْدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ شَيْءٌ عَلَى مَا قُلْنَا
يَلْحَقُ بِهِ الْمَكَانُ (قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى رَجَعَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ وَقَصَّرَ غَيْرَ أَنَّهُ فَصَلَ بِالتَّقْرِيرِ وَنَقَلَ الْأَصْلَ الْخِلَافِيُّ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَقَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ فَعَلَيْهِ دَمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: دَمٌ بِالْحَلْقِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ
(فَصْلٌ). اعْلَمْ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَصَيْدَ الْبَحْرِ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ.
لِأَنَّ أَوَانَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَدَمٌ بِتَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الْحَلْقِ) هَذَا سَهْوٌ مِنْ الْقَلَمِ بَلْ أَحَدُ الدَّمَيْنِ لِمَجْمُوعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْآخَرُ دَمُ الْقِرَانِ، وَالدَّمُ الَّذِي يَجِبُ عِنْدَهُمَا دَمُ الْقِرَانِ لَيْسَ غَيْرُ لَا لِلْحَلْقِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ لَزِمَ فِي كُلِّ تَقَدُّمِ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ دَمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْأَمْرَيْنِ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَلَوْ وَجَبَ فِي حَلْقِ الْقَارِنِ قَبْلَ الذَّبْحِ لَوَجَبَ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ فِي تَفْرِيعِ مَنْ يَقُولُ إنَّ إحْرَامَ عُمْرَتِهِ انْتَهَى بِالْوُقُوفِ، وَفِي تَفْرِيعِ مَنْ لَا يَرَاهُ كَمَا قَدَّمْنَا خَمْسَةَ دِمَاءٍ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى إحْرَامَيْنِ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ جِنَايَتَانِ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ وَدَمُ الْقِرَانِ.
(فَصْلٌ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ). (قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ إلَخْ) أَيْ قَتْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ وَأَكْلُهُ وَإِنْ ذَكَّاهُ الْمُحْرِمُ. وَعَنْ هَذَا لَوْ اُضْطُرَّ مُحْرِمٌ إلَى
وَصَيْدُ الْبَرِّ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ، وَصَيْدُ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْمَاءِ. وَالصَّيْدُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَاسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ وَهِيَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالذِّئْبُ وَالْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ وَالْحَيَّةُ، وَالْعَقْرَبُ، فَإِنَّهَا مُبْتَدِئَاتٌ بِالْأَذَى. وَالْمُرَادُ بِهِ الْغُرَابُ الَّذِي يَأْكُلُ
أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ الصَّيْدِ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ لَا الصَّيْدَ عَلَى قَوْلِ زُفَرٍ؛ لِتَعَدُّدِ جِهَاتِ حُرْمَتِهِ عَلَيْهِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَتَنَاوَلُ الصَّيْدَ وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ أَغْلَظُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ تَرْتَفِعُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ فَهِيَ مُوَقَّتَةٌ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ أَخَفَّ الْحُرْمَتَيْنِ دُونَ أَغْلَظِهِمَا. وَالصَّيْدُ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ لَكِنْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَرْتَفِعُ الْحَظْرُ فَيَقْتُلُهُ وَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ، هَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ وَصَيْدٍ فَالْمَيْتَةُ أَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ: يَذْبَحُ الصَّيْدَ. وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ مَذْبُوحًا فَالصَّيْدُ أَوْلَى عِنْدَ الْكُلِّ.
وَلَوْ وَجَدَ صَيْدًا وَلَحْمَ آدَمِيٍّ كَانَ ذَبْحُ الصَّيْدِ أَوْلَى، وَلَوْ وَجَدَ صَيْدًا وَكَلْبًا فَالْكَلْبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الصَّيْدِ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَيْنِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: الصَّيْدُ أَوْلَى مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، فَفِي هَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَبْسُوطِ (قَوْلُهُ: وَصَيْدُ الْبَرِّ إلَخْ) لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ تَعْرِيفًا لِصَيْدِ الْبَرِّ بَلْ لِلْبَرِّيِّ مِنْ الْأَشْيَاءِ، وَمُرَادُهُ تَعْرِيفُ الْبَرِّيِّ مُطْلَقًا ثُمَّ الصَّيْدُ مُطْلَقًا فَيُعْرَفُ مِنْهُمَا صَيْدُ الْبَرِّ وَلِذَا أَفْرَدَ بَعْدَهُ الصَّيْدَ فَقَالَ: وَالصَّيْدُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ إلَخْ فَيَنْتَظِمُ مِنْهُمَا تَعْرِيفُ صَيْدِ الْبَرِّ، هَكَذَا هُوَ مَا تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ مِمَّا هُوَ مُمْتَنِعٌ؛ لِتَوَحُّشِهِ الْكَائِنِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَيَدْخُلُ الظَّبْيُ الْمُسْتَأْنَسُ وَيَخْرُجُ الْبَعِيرُ وَالشَّاةُ الْمُتَوَحِّشَانِ لِعُرُوضِ الْوَصْفِ لَهُمَا، وَكَوْنِ ذَكَاةِ الظَّبْيِ الْمُسْتَأْنَسِ بِالذَّبْحِ وَالْأَهْلِيِّ الْمُتَوَحِّشِ بِالْعَقْرِ لَا يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ بِالذَّبْحِ وَالْعَقْرِ دَائِرَانِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَعَدَمِهِ لَا مَعَ الصَّيْدِيَّةِ وَعَدَمِهَا، وَيَخْرُجُ الْكَلْبُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ سَوَاءٌ كَانَ أَهْلِيًّا أَوْ وَحْشِيًّا؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ أَهْلِيٌّ فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ رُبَّمَا يَتَوَحَّشُ، وَكَذَا السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ لَيْسَ بِصَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ، أَمَّا الْبَرِّيُّ مِنْهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
هَذَا وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ بَرِّيًّا وَبَحْرِيًّا التَّوَالُدُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَا مَعَ كَوْنِ مَثْوَاهُ فِيهِ كَظَاهِرِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَعَلَى اعْتِبَارِهِ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْمَاءِ وَالضُّفْدَعِ الْمَائِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَهُوَ مَائِيُّ الْمَوْلِدِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ أَوْ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْهُ فَقَطْ؟ فَفِي الْمُحِيطِ: كُلُّ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ يَحِلُّ قَتْلُهُ وَصَيْدُهُ لِلْمُحْرِمِ. اهـ. قَالَ بَعْضُهُمْ: كَالسَّمَكِ وَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ وَكَلْبِ الْمَاءِ. وَفِي مَنَاسِكِ الْكَرْمَانِيِّ: الَّذِي يُرَخَّصُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ لِلْمُحْرِمِ هُوَ السَّمَكُ خَاصَّةً، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى
الْجِيَفَ. هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.
قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ) أَمَّا الْقَتْلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} الْآيَةُ نَصٌّ عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ.
وَأَمَّا
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} يَتَنَاوَلُ بِحَقِيقَتِهِ عُمُومَ مَا فِي الْبَحْرِ. وَفِي الْبَدَائِعِ: أَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ فَيَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْحَالِّ وَالْمُحْرِمِ جَمِيعًا مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ، وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ.
وَأَمَّا مَا فِي الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاَلَّذِي رُخِّصَ لِلْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ هُوَ السَّمَكُ خَاصَّةً، فَأَمَّا طَيْرُ الْبَحْرِ فَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْمُحْرِمِ، فَقَدْ شَرَحَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِمَا يُفِيدُ تَعْمِيمَ الْإِبَاحَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مَا يُقَابِلُ الْمَائِيَّ بِالسَّمَكِ، فَالضُّفْدَعُ جَعَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا، وَكَذَا قَاضِي خَانْ. وَيَنْبَغِي قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْحِلِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَوْلِدَهُ فِي الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ تَحْقِيقُ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ السَّرَطَانُ وَالتِّمْسَاحُ وَالسُّلَحْفَاةُ. هَذَا وَيُسْتَثْنَى مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ بَعْضُهُ كَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، وَأَمَّا بَاقِي الْفَوَاسِقِ فَلَيْسَتْ بِصُيُودٍ، وَأَمَّا بَاقِي السِّبَاعِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجِبُ بِقَتْلِهَا الْجَزَاءُ لَا يُجَاوِزُ شَاةً إنْ ابْتَدَأَهَا الْمُحْرِمُ، فَإِنْ ابْتَدَأَتْهُ بِالْأَذَى فَقَتَلَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالصَّقْرِ وَالْبَازِي.
وَأَمَّا صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فَقَسَّمَ الْبَرِّيَّ إلَى مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ، وَالثَّانِي إلَى مَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ، وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ، فَلَا يَحِلُّ قَتْلُ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ إلَّا أَنْ يَصُولَ. وَيَحِلُّ قَتْلُ الثَّانِي وَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَصُلْ. وَجَعَلَ وُرُودَ النَّصِّ فِي الْفَوَاسِقِ وُرُودًا فِيهَا دَلَالَةٌ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا بَلْ ذَكَرَهُ حُكْمًا مُبْتَدَأً مَسْكُوتًا فِيهِ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ. قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْأَسَدُ بِمَنْزِلَةِ الذِّئْبِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ السِّبَاعُ كُلُّهَا صَيْدٌ إلَّا الْكَلْبَ وَالذِّئْبَ اهـ. وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ الْأَسْعَدُ بِالْوَجْهِ فِيمَا يَأْتِي هَذَا.
وَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسْبِيبِ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِيهِ، فَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلصَّيْدِ أَوْ حَفَرَ لِلصَّيْدِ حَفِيرَةً فَعَطِبَ صَيْدٌ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ. وَلَوْ نَصَبَ فُسْطَاطًا لِنَفْسِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ فَمَاتَ، أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً لِلْمَاءِ أَوْ لِحَيَوَانٍ مُبَاحٍ قَتْلُهُ كَالذِّئْبِ فَعَطِبَ فِيهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى حَيَوَانٍ مُبَاحٍ فَأَخَذَ مَا يَحْرُمُ أَوْ أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَهُوَ حَالٌّ فَتَجَاوَزَ إلَى الْحَرَمِ فَقَتَلَ صَيْدًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ.
وَكَذَا لَوْ طَرَدَ الصَّيْدَ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الرَّمْيَ: يَعْنِي لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَأَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ؛ لِأَنَّهُ تَمَّتْ جِنَايَتُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ. قَالَ الشَّهِيدُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا أَعْلَمُ، وَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا مَا لَوْ انْقَلَبَ مُحْرِمٌ نَائِمٌ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ
الدَّلَالَةُ فَفِيهَا خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. هُوَ يَقُولُ: الْجَزَاءُ تَعَلَّقَ بِالْقَتْلِ، وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ بِقَتْلٍ، فَأَشْبَهَ دَلَالَةُ الْحَلَالِ حَلَالًا. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه.
لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَمُ التَّعَدِّي وَمِثْلُهُ الْكَلْبُ لَوْ زَجَرَهُ بَعْدَمَا دَخَلَ الْحَرَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ اسْتِحْسَانًا. وَمِثْلُهُ لَوْ أَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَزَجَرَهُ مُحْرِمٌ فَانْزَجَرَ فَقَتَلَ الصَّيْدَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَلَا يُؤْكَلُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْتُولِ إلَّا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّحَلُّلَ وَرَفْضَ إحْرَامِهِ فِي الْأَصْلِ. وَلَوْ أَصَابَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا كَثِيرًا عَلَى قَصْدِ الْإِحْلَالِ وَالرَّفْضِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ دَمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ بِقَتْلِ كُلِّ وَاحِدٍ فَيَلْزَمُهُ مُوجِبُ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ رَفْضَ الْإِحْرَامِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْتَفَضُ بِهِ الْإِحْرَامُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَقُلْنَا: إنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَارْتِكَابُ مَحْظُورَاتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ ارْتِفَاضَهَا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِحْرَامَ لَازِمًا لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي الِابْتِدَاءِ لَازِمًا كَانَ يُرْتَفَضُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ. وَكَذَا الْأَمَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا، وَالْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَانَ لَهُ أَنْ يُحْلِلَهَا بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَكَانَ هُوَ فِي قَتْلِ الصُّيُودِ هُنَا قَاصِدًا إلَى تَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ لَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَتَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا كَمَا فِي الْمُحْصِرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ الْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ كُلِّ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ يَنْبَنِي عَلَى قَصْدِهِ، حَتَّى إنَّ ضَارِبَ الْفُسْطَاطِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ، بِخِلَافِ نَاصِبِ الشَّبَكَةِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
وَلَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَتَعَدَّى إلَى آخَرَ فَقَتَلَهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا، وَكَذَا لَوْ اضْطَرَبَ بِالسَّهْمِ فَوَقَعَ عَلَى بَيْضَةٍ أَوْ فَرْخٍ فَأَتْلَفَهَا لَزِمَاهُ جَمِيعًا. وَرُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً نَزَلُوا بَيْتًا بِمَكَّةَ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى مِنًى فَأَمَرُوا أَحَدَهُمْ أَنْ يُغْلِقَ الْبَابَ وَفِيهِ حَمَامٌ مِنْ الطُّيُورِ وَغَيْرِهَا، فَلَمَّا رَجَعُوا وَجَدُوهَا مَاتَتْ عَطَشًا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاؤُهَا؛ لِأَنَّ الْآمِرِينَ تَسَبَّبُوا بِالْأَمْرِ وَالْمُغْلِقَ بِالْإِغْلَاقِ. وَلَوْ نَفَّرَ صَيْدًا فَقَتَلَ صَيْدًا آخَرَ ضَمِنَهُمَا، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ مُحْرِمٌ كَلْبَهُ فَزَجَرَهُ آخَرُ ضَمِنَ.
(قَوْلُهُ: فَأَشْبَهَ دَلَالَةُ الْحَلَالِ حَلَالًا) كَوْنُ الْمَدْلُولِ حَلَالًا اتِّفَاقِيٌّ، وَالْمُرَادُ أَشْبَهَ دَلَالَةَ الْحَلَالِ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ غَيْرُهُ حَلَالًا أَوْ مُحْرِمًا فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِحُلُولِهِ فِي الْحَرَمِ كَمَا اسْتَحَقَّ الصَّيْدُ مُطْلَقًا الْأَمْنَ بِالْإِحْرَامِ، فَكَمَا أَنَّ تَفْوِيتَ الْأَمْنِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْحَرَمِ لَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ كَذَا تَفْوِيتُ الْمُسْتَحَقِّ بِالْإِحْرَامِ لَا يُوجِبُهُ. (قَوْلُهُ: وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ) أَيْ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ، وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَلَيْسَ فِيهِ هَلْ دَلَلْتُمْ بَلْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ
وَقَالَ عَطَاءٌ رحمه الله: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّالِ الْجَزَاءَ؛ وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَلِأَنَّهُ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ عَلَى الصَّيْدِ إذْ هُوَ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَتَوَارِيهِ فَصَارَ كَالْإِتْلَافِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ بِإِحْرَامِهِ الْتَزَمَ الِامْتِنَاعَ عَنْ التَّعَرُّضِ فَيَضْمَنُ بِتَرْكِ مَا الْتَزَمَهُ كَالْمُودَعِ
عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ قَالُوا لَا، قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْحِلَّ عَلَى عَدَمِ الْإِشَارَةِ، وَهِيَ تُحَصِّلُ الدَّلَالَةَ بِغَيْرِ اللِّسَانِ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَحِلَّ إذَا دَلَّهُ بِاللَّفْظِ فَقَالَ هُنَاكَ صَيْدٌ وَنَحْوُهُ.
قَالُوا: الثَّابِتُ بِالْحَدِيثِ حُرْمَةُ اللَّحْمِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا دَلَّ. قُلْنَا: فَيَثْبُتُ أَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِحُرْمَةِ اللَّحْمِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ مَحْظُورُ إحْرَامٍ هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّيْدِ فَنَقُولُ حِينَئِذٍ: إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّيْدِ بِتَفْوِيتِ الْأَمْنِ عَلَى وَجْهٍ اتَّصَلَ قَتْلُهُ عَنْهَا فَفِيهِ الْجَزَاءُ كَالْقَتْلِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُهُ عَلَى الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُثْبِتْ الْحُكْمَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بَلْ مَحَلُّ الْحُكْمِ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَحَلِّ إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْقَتْلِ. وَعَنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْقِيَاسِ الْآخَرِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ وَهُوَ إلْحَاقُ الدَّالِّ بِالْمُودَعِ. وَقَوْلُ عَطَاءٍ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءَ وَلَيْسَ النَّاسُ إذْ ذَاكَ إلَّا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنْ لَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ عَلَى دَالٍّ لَمْ يَقَعْ عَنْ دَلَالَتِهِ قَتْلٌ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّلَالَةِ مُوجِبَةٌ لِلْجَزَاءِ. هَذَا وَحَدِيثُ عَطَاءٍ غَرِيبٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، عَلَى أَنَّ قَوْلَ الطَّحَاوِيِّ هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَكَانَ إجْمَاعًا يَتَضَمَّنُ رَدَّ الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. (قَوْلُهُ: كَالْمُودَعِ) هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْآخَرُ.
وَتَقْرِيرُهُ اُلْتُزِمَ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ بِعَقْدٍ خَاصٍّ فَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ عَنْ تَرْكِ مَا الْتَزَمَهُ، كَالْمُودَعِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ الْحِفْظَ كَذَلِكَ فَيَضْمَنُ لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى الْوَدِيعَةِ فَسَرَقَهَا، بِخِلَافِ الْحَلَالِ الَّذِي قَاسَ هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لِصَيْدِ الْحَرَمِ وَلَا لِلْمُسْلِمِ بِعَقْدٍ خَاصٍّ بَلْ بِعُمُومِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ
بِخِلَافِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ لَا الْتِزَامَ مِنْ جِهَتِهِ، عَلَى أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَالدَّلَالَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْجَزَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ وَأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي الدَّلَالَةِ، حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ وَصَدَّقَ غَيْرَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَذِّبِ (وَلَوْ كَانَ الدَّالُّ حَلَالًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ) لِمَا قُلْنَا (وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَامِدُ وَالنَّاسِي) لِأَنَّهُ ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبَهُ الْإِتْلَافُ
يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَلِهَذَا لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ تَأَخَّرَ جَزَاؤُهُ الْأَعْظَمُ إلَى الْآخِرَةِ، وَيُعَزَّرُ فِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ أَعْظَمَ مِنْ دَلَالَةِ الْمُحْرِمِ عَلَى الصَّيْدِ. (قَوْلُهُ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَذِّبِ) يُفِيدُ لُزُومَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُصَدِّقِ. وَفِي الْكَافِي: لَوْ أَخْبَرَ مُحْرِمًا بِصَيْدٍ فَلَمْ يَرَهُ حَتَّى أَبْصَرَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فَلَمْ يُصَدِّقْ الْأَوَّلَ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ ثُمَّ طَلَبَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَزَاءُ، وَلَوْ كَذَّبَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ. وَمِنْ شَرَائِطِهَا أَيْضًا أَنْ يَتَّصِلَ بِهَا الْقَتْلُ، وَأَنْ يَبْقَى الدَّالُّ مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَقْتُلَهُ الْآخِذُ، وَأَنْ لَا يَنْفَلِتَ، فَلَوْ انْفَلَتَ ثُمَّ أَخَذَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ لِانْتِهَاءِ دَلَالَتِهِ بِالِانْفِلَاتِ وَالْأَخْذُ ثَانِيًا إنْشَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَيْنِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ بَعْدَمَا أَخَذَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ.
وَعَلَى هَذَا إذَا أَعَارَهُ سِكِّينًا؛ لِيَقْتُلَهُ بِهَا وَلَيْسَ مَعَ الْآخِذِ مَا يَقْتُلُهُ بِهِ أَوْ قَوْسًا أَوْ نُشَّابًا يَرْمِيهِ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ مُسْلِمٍ هَلْ أَعَنْتُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إعَارَةَ السِّكِّينِ إعَانَةٌ عَلَيْهِ. وَمَا فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعِيرُ يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ بِغَيْرِهَا، وَصَرَّحَ فِي السِّيَرِ بِأَنَّ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ الْجَزَاءَ، وَكَذَا لَوْ دَلَّ عَلَى قَوْسِ وَنُشَّابِ مَنْ رَآهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ؛ لِبُعْدِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَرِيحَ عِبَارَةِ الْأَصْلِ فِي الْإِعَارَةِ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ: أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ سِلَاحٌ يَقْتُلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ قَتْلِهِ، فَأَمَّا
فَأَشْبَهَ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ (وَالْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَا يَخْتَلِفُ.
إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَقْتُلُ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ بِإِعَارَتِهِ لَهُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي السِّيَرِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُعِيرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِوَجْهَيْنِ حَاصِلُ الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ تَلِفَ بِأَخْذِ الْمُسْتَعِيرِ لِلصَّيْدِ فَأَخْذُهُ قَتْلٌ حُكْمًا ثُمَّ يَقْتُلُهُ حَقِيقَةً، وَإِعَارَةُ السِّكِّينِ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهُ إتْلَافٌ لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ أَعْلَمَ بِهِ مَنْ لَا يَقْدِرُ الصَّيْدُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إعَارَةَ السِّكِّينِ تَتِمُّ بِالسِّكِّينِ لَا بِالصَّيْدِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَيْدٌ إذْ لَا يَتَعَيَّنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، بِخِلَافِ الْإِشَارَةِ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالصَّيْدِ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ أُخْرَى سِوَى ذَلِكَ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِصَيْدٍ هُنَاكَ وَلِذَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِهَا. وَلَوْ أَمَرَ الْمُحْرِمُ غَيْرَهُ بِأَخْذِ صَيْدٍ فَأَمَرَ الْمَأْمُورُ آخَرَ فَالْجَزَاءُ عَلَى الْآمِرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَثَّلْ أَمْرَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَمْرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَلَّ الْأَوَّلُ عَلَى الصَّيْدِ وَأَمَرَهُ فَأَمَرَ الثَّانِي ثَالِثًا بِالْقَتْلِ حَيْثُ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ؛ فَلَوْ أَرْسَلَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا إلَى مُحْرِمٍ يَدُلُّهُ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْجَزَاءُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ قَالَ خَلْفَ هَذَا الْحَائِطِ صَيْدٌ فَإِذَا صَيْدٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَهُ ضَمِنَ الدَّالُّ كُلَّهُ، فَلَوْ رَأَى وَاحِدًا فَدَلَّ عَلَيْهِ فَإِذَا عِنْدَهُ آخَرُ فَقَتَلَهُمَا الْمَدْلُولُ كَانَ عَلَى الدَّالِّ جَزَاءُ الْأَوَّلِ فَقَطْ. كَمَا لَوْ دَلَّهُ عَلَى وَاحِدٍ تَنْصِيصًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ.
وَلَوْ قَالَ خُذْ أَحَدَ هَذَيْنِ وَهُوَ يَرَاهُمَا فَقَتَلَهُمَا كَانَ عَلَى الدَّالِّ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُمَا فَعَلَيْهِ جَزَاءَانِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَمْرِ بِأَخْذِ أَحَدِهِمَا دَالٌّ عَلَى الْآخَرِ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ الْمَأْمُورُ بِهِمَا. (قَوْلُهُ: فَأَشْبَهَ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ) مِنْ حَيْثُ إنَّ الضَّمَانَ يَدُورُ
(وَالْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يُقَوَّمَ الصَّيْدُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ أَوْ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِي بَرَّيَّةٍ فَيُقَوِّمُهُ ذَوَا عَدْلٍ، ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِدَاءِ إنْ شَاءَ ابْتَاعَ بِهَا هَدْيًا وَذَبَحَهُ إنْ بَلَغَتْ هَدْيًا، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ) عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ فِي الصَّيْدِ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ، فَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ،
مَعَ الْإِتْلَافِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْعَمْدِ لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ هَذَا الضَّمَانَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَخْ) ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي فُصُولٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمَا الْقِيمَةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي إلَى الْحَكَمَيْنِ تَقْوِيمُ الْمَقْتُولِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ قِيمَتُهُ فَالْخِيَارُ إلَى الْقَاتِلِ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيًا يُهْدِيهِ أَوْ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ طَعَامِ مِسْكِينٍ يَوْمًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَى الْحَكَمَيْنِ، فَإِذَا عَيَّنَا نَوْعًا لَزِمَهُ. اهـ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ إلَى الْحَكَمَيْنِ، فَإِذَا حَكَمَا بِالْهَدْيِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ وَنَظِيرٌ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ مَا هُوَ مِثْلُهُ فَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ إلَخْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ حَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّ الْخِيَارَ إلَى الْحَكَمَيْنِ، فَإِنْ حَكَمَا عَلَيْهِ بِالْهَدْيِ نَظَرَ الْقَاتِلُ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ إنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ نَظِيرِهِ مِثْلَ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَا يُنْظَرُ إلَى الْقِيمَةِ فَيَجِبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ كَسَائِرِ الطُّيُورِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَمَا قَالَا. وَحَكَى الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ: إنَّ الْخِيَارَ إلَى الْقَاتِلِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ الْهَدْيَ تَعَيَّنَ النَّظِيرُ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ النَّظِيرُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ أَحَدٍ، وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ وَيَكُونُ الطَّعَامُ بَدَلًا عَنْ النَّظِيرِ لَا عَنْ الصَّيْدِ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.
وَعَنْ زُفَرٍ رحمه الله عَدَمُ جَوَازِ الصَّوْمِ حَالَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ، قَاسَهُ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ، وَقَالَ حَرْفُ " أَوْ " لَا يَنْفِي التَّرْتِيبَ كَمَا فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَدَفَعَ بِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ عَدَمُ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ، وَالنَّصُّ الْكَائِنُ فِيهِ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ بِحَقِيقَةِ " أَوْ " وَإِعْمَالِهَا فِي مَوْضِعٍ فِي مَجَازِيِّهَا لِدَلِيلٍ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا كَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ فِيهَا. (قَوْلُهُ: فَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ إلَخْ) الْعَنَاقُ: الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ، وَالْجَدْيُ الذَّكَرُ، وَهُمَا دُونَ الْجَذَعِ، وَالْجَفْرُ: مَا يَبْلُغُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ
وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وَمِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ مَا يُشْبِهُ الْمَقْتُولَ صُورَةً؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ نَعَمًا. وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم أَوْجَبُوا النَّظِيرَ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالْمَنْظَرُ فِي النَّعَامَةِ وَالظَّبْيِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ وَالْأَرْنَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ» وَمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ مِثْلَ الْعُصْفُورِ وَالْحَمَامِ وَأَشْبَاهِهِمَا. وَإِذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ كَانَ قَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا. وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُوجِبُ فِي الْحَمَامَةِ شَاةً وَيُثْبِتُ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُبُّ وَيَهْدِرُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمِثْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فَحُمِلَ عَلَى
الْعَنَاقِ، وَالْأُنْثَى جَفْرَةٌ بِالْجِيمِ (قَوْلُهُ: فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} بِنَاءً عَلَى حَمْلِ الْمِثْلِ عَلَى الْمُمَاثِلِ فِي الصُّورَةِ، وَلَفْظُ {مِنَ النَّعَمِ} بَيَانٌ لِلْجَزَاءِ أَوْ لِلْمِثْلِ، وَالْقِيمَةُ لَيْسَتْ نَعَمًا وَلِذَا أَوْجَبَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - الْمِثْلَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ حَدِيثًا " أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَالُوا: فِي النَّعَامَةِ يَقْتُلُهَا الْمُحْرِمُ بَدَنَةٌ مِنْ الْإِبِلِ "، وَفِيهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ، فَلِذَا قَالَ عَقِيبَهُ: إنَّمَا نَقُولُ: إنَّ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً بِالْقِيَاسِ لَا بِهَذَا الْأَثَرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. اهـ.
لَكِنْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " فِي حَمَامَةِ الْحَرَمِ شَاةٌ، وَفِي بَيْضَتَيْنِ دِرْهَمٌ، وَفِي النَّعَامَةِ جَزُورٌ، وَفِي الْبَقَرَةِ بَقَرَةٌ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ "(وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ») رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ؟ قَالَ نَعَمْ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الضَّبُعُ صَيْدٌ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَيُؤْكَلُ» وَقَالَ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمِثْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى) وَهُوَ الْمُشَارِكُ فِي النَّوْعِ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ، فَبَقِيَ أَنْ يُرَادَ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ
الْمِثْلِ مَعْنًى لِكَوْنِهِ مَعْهُودًا فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ لِكَوْنِهِ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْمِيمِ، وَفِي ضِدِّهِ التَّخْصِيصُ. وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَجَزَاءُ قِيمَةِ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ. وَاسْمُ النَّعَمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ، كَذَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ التَّقْدِيرُ بِهِ دُونَ إيجَابِ الْمُعَيَّنِ.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْمِثْلِ أَنْ يُرَادَ الْمُشَارِكُ فِي النَّوْعِ أَوْ الْقِيمَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَالْمُرَادُ الْأَعَمُّ مِنْهُمَا.
أَعْنِي الْمُمَاثِلَ فِي النَّوْعِ إذَا كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا وَالْقِيمَةَ إذَا كَانَ قِيَمِيًّا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ، وَالْحَيَوَانَاتُ مِنْ الْقِيَمِيَّاتِ شَرْعًا إهْدَارًا لِلْمُمَاثَلَةِ الْكَائِنَةِ
ثُمَّ الْخِيَارُ إلَى الْقَاتِلِ فِي أَنْ يَجْعَلَهُ هَدْيًا أَوْ طَعَامًا أَوْ صَوْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْخِيَارُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ حَكَمَا بِالْهَدْيِ يَجِبُ النَّظِيرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ حَكَمَا بِالطَّعَامِ أَوْ بِالصِّيَامِ فَعَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ. لَهُمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ شُرِعَ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَلِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} الْآيَةَ، ذُكِرَ الْهَدْيُ مَنْصُوبًا
فِي تَمَامِ الصُّورَةِ فِيهَا تَغْلِيبًا لِلِاخْتِلَافِ الْبَاطِنِيِّ بَيْنَ أَبْنَاءِ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَمَا ظَنُّك إذَا انْتَفَى الْمُشَارَكَةُ فِي النَّوْعِ أَيْضًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُشَاكَلَةٌ فِي بَعْضِ الصُّورَةِ كَطُولِ الْعُنُقِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي النَّعَامَةِ مَعَ الْبَدَنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِانْتِفَاءِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْمُشَاكَلَةِ فِي تَمَامِ الصُّورَةِ وَلَمْ يُضْمَنْ الْمُتْلَفُ بِمَا شَارَكَهُ فِي تَمَامِ نَوْعِهِ بَلْ بِالْمِثْلِ الْمَعْنَوِيِّ فَعِنْدَ عَدَمِهَا وَكَوْنِ الْمُشَاكَلَةِ فِي بَعْضِ الْهَيْئَةِ انْتِفَاءَ الِاعْتِبَارِ أَظْهَرُ، إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلَفْظٍ مَحْمَلٌ يُمْكِنُ سِوَاهُ، فَالْوَاجِبُ إذَا عُهِدَ الْمُرَادُ بِلَفْظٍ فِي الشَّرْعِ وَتَرَدَّدَ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْهُودِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَأَنْ يُحْمَلَ حُكْمُ الصَّحَابَةِ بِالنَّظِيرِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ: أَيْ بَيَانِ أَنَّ مَالِيَّةَ الْمَقْتُولِ كَمَالِيَّةِ الشَّاةِ الْوَسَطِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُجْزِي غَيْرُهُ.
بَقِيَ أَنْ يُبَيَّنَ احْتِمَالُ لَفْظِ الْآيَةِ لِذَلِكَ، وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مَرْفُوعٌ مَنُونٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ بِرَفْعِ مِثْلٍ، وَالْأُخْرَى فَجَزَاءُ مِثْلِ بِإِضَافَةِ الْجَزَاءِ إلَى مِثْلٍ وَهِيَ إضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ: أَيْ فَجَزَاءٌ هُوَ مِثْلُ مَا قَتَلَ وَمَضْمُونُ الْآيَةِ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ حُذِفَ مِنْهُ الْمُبْتَدَأُ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ أَوْ الْخَبَرُ تَقْدِيرُهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ: أَيْ قِيمَةُ مَا قَتَلَ أَوْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ.
وَمِنْ النَّعَمِ بَيَانٌ لِمَا قَتَلَ أَوْ لِلْعَائِدِ إلَيْهَا: أَعْنِي الْمَنْصُوبَ الْمَحْذُوفَ أَيْ مَا قَتَلَهُ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ، وَالنَّعَمُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لُغَةً كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَهْلِيِّ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وقَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ صِفَةً لِجَزَاءٍ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ أَوْ لِمِثْلِ الَّذِي هُوَ هِيَ؛ لِأَنَّ مِثْلًا لَا تَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ فَجَازَ وَصْفُهَا وَوَصْفُ مَا أُضِيفَ إلَيْهَا بِالْجُمْلَةِ، وَهَدْيًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ وَهُوَ الرَّاجِعُ إلَى مَا يُجْعَلُ مَوْصُوفًا مِنْهُمَا وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ: أَيْ صَائِرًا هَدْيًا بِهِ وَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِوَاسِطَةِ الشِّرَاءِ بِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَ {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} صِفَةٌ؛ لِأَنَّ إضَافَتَهُ لَفْظِيَّةٌ فَتُوصَفُ بِهِ النَّكِرَةُ {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} مَعْطُوفَانِ عَلَى الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا مَرْفُوعَانِ.
وَتَمَامُ مُؤَدَّى التَّرْكِيبِ عَلَى هَذَا، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ هُوَ قِيمَةُ مَا قَتَلَهُ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ يَحْكُمُ بِهِ: أَيْ بِذَلِكَ الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ عَدْلَانِ حَالَ كَوْنِهِ صَائِرًا هَدْيًا بِوَاسِطَةِ الْقِيمَةِ {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} إلَى آخِرِهَا: أَيْ الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ الصَّائِرَةِ هَدْيًا وَمِنْ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ الْمَبْنِيَّيْنِ عَلَى تَعَرُّفِ الْقِيمَةِ، فَقَدْ
لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ} وَمَفْعُولٌ لِحُكْمِ الْحَكَمِ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّعَامَ وَالصِّيَامَ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِمَا. قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عُطِفَتْ عَلَى الْجَزَاءِ لَا عَلَى الْهَدْيِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} مَرْفُوعٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلَالَةُ اخْتِيَارِ الْحَكَمَيْنِ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ إلَيْهِمَا فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفِ ثُمَّ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَنْ عَلَيْهِ، وَيُقَوَّمَانِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ لِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ بَرًّا لَا يُبَاعُ فِيهِ الصَّيْدُ يُعْتَبَرُ أَقْرَبُ
ظَهَرَ تَأَدِّي الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ لَفْظَةِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ تَكَلُّفٍ فِيهَا، وَكَوْنُ الْحَالِ مُقَدَّرَةً كَثِيرٌ بَثِيرٌ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُخَالِفِ فِيهَا يَلْزَمُ عَلَى تَقْدِيرِهِ فِي وَصْفِهَا وَهُوَ بَالِغَ الْكَعْبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ حُكْمُهُمَا بِالْهَدْيِ مَوْصُوفًا بِبُلُوغِهِ إلَى الْكَعْبَةِ حَالَ حُكْمِهِمَا بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، بَلْ الْمُرَادُ يُحْكَمَانِ بِهِ مُقَدَّرًا بُلُوغُهُ، فَلُزُومُ التَّقْدِيرِ ثَابِتٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ مَحَلُّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، ثُمَّ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ إلَى الْحَكَمَيْنِ، بَلْ الظَّاهِرُ مِنْهَا أَنَّهُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَرْجِعَ ضَمِيرِ الْمَحْذُوفِ مِنْ الْخَبَرِ أَوْ مُتَعَلَّقِ الْمُبْتَدَأِ إلَيْهِ: أَعْنِي مَا قَدَّرْنَاهُ مِنْ قَوْلِنَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَيْهِ، وَاَللَّهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ} سَمَّاهُ تَفْسِيرًا؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْإِبْهَامَ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى سَمَّاهُ بَعْضٌ تَمْيِيزًا لِكَوْنِهِ حَالًا وَكُلُّ حَالٍ تَكْشِفُ عَنْ إبْهَامٍ فِي الْجُمْلَةِ: أَعْنِي اعْتِبَارَ أَحْوَالِ مَا هِيَ لَهُ هَذَا.
وَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخِلْقَةِ لَا بِمَا زَادَهُ التَّعْلِيمُ، فَلَوْ كَانَ بَازِيًا صَيُودًا أَوْ حَمَامًا يَجِيءُ مِنْ بَعِيدٍ قُوِّمَ لَا بِاعْتِبَارِ الصُّيُودِيَّةِ وَالْمَجِيءِ مِنْ بَعِيدٍ، فَإِذَا كَانَ مَمْلُوكًا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَا يَزِيدُهُ التَّعْلِيمُ وَقِيمَتُهُ لِلْجِنَايَةِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ. أَمَّا لَوْ كَانَ قِيمَتُهُ زَائِدَةً لِحُسْنِ تَصْوِيتِهِ فَفِي اعْتِبَارِهَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الصَّيْدِيَّةِ، وَفِي أُخْرَى تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالْحَمَامِ الْمُطَوَّقِ، أَمَّا فِي الْغَصْبِ فَيُضْمَنُ بِمَا يُشْتَرَى بِهِ
الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِمَّا يُبَاعُ فِيهِ وَيُشْتَرَى. قَالُوا: وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَالْمُثَنَّى أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ عَنْ الْغَلَطِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْمُثَنَّى هَهُنَا بِالنَّصِّ.
(وَالْهَدْيُ لَا يُذْبَحُ إلَّا بِمَكَّةَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ فِي غَيْرِهَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْهَدْيِ وَالْجَامِعُ التَّوْسِعَةُ عَلَى سُكَّانِ الْحَرَمِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْهَدْيُ قُرْبَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ. أَمَّا الصَّدَقَةُ قُرْبَةٌ مَعْقُولَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ (وَالصَّوْمُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ)؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فِي كُلِّ مَكَان (فَإِنْ ذَبَحَ الْهَدْيَ بِالْكُوفَةِ أَجْزَأَهُ عَنْ الطَّعَامِ) مَعْنَاهُ إذَا تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَنُوبُ عَنْهُ. وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْهَدْيِ يُهْدِي مَا يُجْزِيهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ
فِي الْبَلَدِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُحَرَّمُ مِنْ اللَّهْوِ كَقِيمَةِ الدِّيكِ لِنِقَارِهِ وَالْكَبْشِ لِنِطَاحِهِ وَالتَّيْسِ لِلَعِبِهِ. (قَوْلُهُ: وَقِيلَ يُعْتَبَرُ الْمُثَنَّى) أَيْ فِي الْحُكْمِ الْمُقَوَّمِ. وَاَلَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوهُ حَمَلُوا الْعَدَدَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زِيَادَةُ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، وَالظَّاهِرُ الْوُجُوبُ، وَقَصْدُ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ لَا يُنَافِيهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ دَاعِيَتَهُ.
(قَوْلُهُ: وَنَحْنُ نَقُولُ إلَخْ) وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا عُيِّنَ الْهَدْيُ أَحَدَ الْوَاجِبَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ التَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَإِلَّا لَحَصَلَ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِلَحْمٍ يَشْتَرِيهِ، بَلْ الْمُرَادُ التَّقَرُّبُ بِالْإِرَاقَةِ مَعَ التَّصَدُّقِ بِلَحْمِ الْقُرْبَانِ، وَهُوَ تَبَعٌ مُتَمِّمٌ لِمَقْصُودِهِ فَلَا يَنْعَدِمُ الْإِجْزَاءُ بِفَوَاتِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ، فَلِذَا لَوْ سُرِقَ بَعْدَ الْإِرَاقَةِ أَجْزَأَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سُرِقَ قَبْلَهَا أَوْ ذُبِحَ بِالْكُوفَةِ فَسُرِقَ لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَاكَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتَّصَدُّقِ لِاخْتِصَاصِ قُرْبَةِ الْإِرَاقَةِ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ أَعْنِي الْحَرَمَ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَيَجُوزُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْلِمُ أَحَبُّ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ الْجَزَاءِ غَرِمَ قِيمَةَ مَا أَكَلَ.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْهَدْيِ يُهْدِي مَا يُجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ) حَتَّى لَوْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ إلَّا عَنَاقًا أَوْ حَمَلًا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الصَّوْمِ لَا بِالْهَدْيِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّكْفِيرُ بِالْهَدْيِ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ جَذَعًا عَظِيمًا مِنْ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيًّا مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يُكَفِّرُ بِالْهَدْيِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَ
لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْهَدْيِ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُجْزِي صِغَارُ النَّعَمِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَوْجَبُوا عَنَاقًا وَجَفْرَةً.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ الصِّغَارُ عَلَى وَجْهِ الْإِطْعَامِ: يَعْنِي إذَا تَصَدَّقَ. وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الطَّعَامِ يُقَوَّمُ الْمُتْلَفُ بِالطَّعَامِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَضْمُونُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ (وَإِذَا اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ)؛ لِأَنَّ
أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَوْجَبُوا عَنَاقًا وَجَفْرَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَمُطْلَقُهُ فِي الشَّرْعِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَبْلُغُ ذَلِكَ السِّنَّ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ مِنْ إطْلَاقِهِ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا مَجَازًا فَيَتَقَيَّدُ جَوَازُ اعْتِبَارِهِ بِالْقَرِينَةِ كَمَا لَوْ قَالَ ثَوْبِي هَدْيٌ لَزِمَهُ الثَّوْبُ لِتَقَيُّدِ الْهَدْيِ بِذِكْرِهِ، وَلِذَا لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ لَزِمَهُ شَاةٌ. ثُمَّ إذَا اخْتَارَ الْهَدْيَ وَبَلَغَ مَا يُضَحِّي بِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ لَا يُذْبَحُ إلَّا بِمَكَّةَ، يُرِيدُ الْحَرَمَ مُطْلَقًا، وَلَوْ ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ لَا يُجْزِيهِ مِنْ الْهَدْيِ بَلْ مِنْ الْإِطْعَامِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ فَقِيرٍ قَدْرَ قِيمَةِ نِصْفِ صَاعِ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ اللَّحْمِ مِثْلَ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَيُكَمِّلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالشَّاةِ الْوَاقِعَةِ هَدْيًا عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ.
(قَوْلُهُ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ الصِّغَارُ عَلَى وَجْهِ الْإِطْعَامِ إلَخْ) يَتَضَمَّنُ جَوَابَهُمَا: يَعْنِي أَنَّ الْمَنْفِيَّ وُقُوعُ الصِّغَارِ هَدْيًا تَتَعَلَّقُ الْقُرْبَةُ فِيهِ بِنَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِرَاقَةِ لَا جَوَازِهَا مُطْلَقًا بَلْ نُجِيزُهَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إطْعَامًا فَيَجُوزُ كَوْنُ حُكْمِ الصَّحَابَةِ كَانَ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الصِّغَارِ، فَمُجَرَّدُ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ لَا يُنَافِي مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَلَا يَنْتَهِضُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا صَيْرُورَةُ وَلَدِ الْهَدْيِ هَدْيًا فَلِلتَّبَعِيَّةِ كَوَلَدِ الْأُضْحِيَّةِ. (قَوْلُهُ: عِنْدَنَا) قُيِّدَ بِالظَّرْفِ لِنَفْيِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يُقَوَّمُ النَّظِيرُ عَلَى مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ عَيْنًا إذَا كَانَ لِلْمَقْتُولِ نَظِيرٌ. وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ) رَاجِعٌ إلَى الْمُتْلَفِ: يَعْنِي الْمُتْلَفَ (هُوَ الْمَضْمُونُ) فَلَا مَعْنَى لِتَقَوُّمِ غَيْرِهِ لِجَبْرِهِ، وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ النَّظِيرَ هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا عِنْدَ اخْتِيَارِ الْهَدْيِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ وُجُوبُ تَقْوِيمِهِ عِنْدَ اخْتِيَارِ خَصْلَةٍ أُخْرَى فَكَيْفَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ (قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ) وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ، وَلَوْ كَانَ كُلَّ الطَّعَامِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ أَجْزَأَ عَنْ إطْعَامِ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ وَعَلَيْهِ أَنْ يُكْمِلَ بِحِسَابِهِ وَيَقَعَ الْبَاقِي تَطَوُّعًا، بِخِلَافِ الشَّاةِ
الطَّعَامَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرْعِ (وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ يُقَوَّمُ الْمَقْتُولُ طَعَامًا ثُمَّ يَصُومُ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ يَوْمًا)؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الصِّيَامِ بِالْمَقْتُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إذْ لَا قِيمَةَ لِلصِّيَامِ فَقَدَّرْنَاهُ بِالطَّعَامِ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي بَابِ الْفِدْيَةِ (فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الطَّعَامِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْهُ يَوْمًا كَامِلًا)؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ طَعَامِ مِسْكِينٍ يُطْعِمُ قَدْرَ الْوَاجِبِ أَوْ يَصُومُ يَوْمًا كَامِلًا لِمَا قُلْنَا.
(وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا أَوْ نَتَفَ شَعْرَهُ أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ ضَمِنَ مَا نَقَصَهُ) اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ (وَلَوْ نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ صَيْدٍ فَخَرَجَ مِنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَامِلَةً)؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْأَمْنَ بِتَفْوِيتِ آلَةِ الِامْتِنَاعِ فَيَغْرَمُ جَزَاءَهُ.
(وَمَنْ كَسَرَ بَيْضَ نَعَامَةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ) وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّهُ أَصْلُ
فِي الْهَدْيِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْقُرْبَةِ قَدْ حَصَلَتْ بِالْإِرَاقَةِ وَإِطْعَامُهُ تَبَعٌ مُتَمِّمٌ لَهُ.
(قَوْلُهُ: ضَمِنَ مَا نَقَصَهُ) وَإِنْ بَرِئَ وَبَقِيَ لَهُ أَثَرٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَمَاتَ أَوْ بَرِئَ فَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ مَا نَقَصَ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ احْتِيَاطًا كَمَنْ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ وَلَا يَعْلَمُ أَدْخَلَ الْحَرَمَ أَمْ لَا تَجِبُ قِيمَتُهُ. وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ ظَبْيٍ أَوْ نَتَفَ شَعْرَ صَيْدٍ فَنَبَتَ مَكَانَهَا أَوْ ضَرَبَ عَيْنَهَا فَابْيَضَّتْ ثُمَّ انْجَلَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْأَلَمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا اعْتِبَارُ الْأَلَمِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعِبَادِ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي ثَمَنَ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ إلَى أَنْ يَنْدَمِلَ.
وَفِي مَنَاسِكِ الْكَرْمَانِيِّ: لَوْ ضَرَبَ صَيْدًا فَمَرِضَ فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ أَوْ زَادَتْ ثُمَّ مَاتَ كَانَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ قِيمَةِ وَقْتِ الْجُرْحِ أَوْ وَقْتِ الْمَوْتِ. وَلَوْ جَرَحَهُ فَكَفَّرَ ثُمَّ قَتَلَهُ كَفَّرَ أُخْرَى، فَلَوْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى قَتَلَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَا نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى سَاقِطٌ. وَفِي الْجَامِعِ: مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ جَرَحَ صَيْدًا غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ ثُمَّ أَضَافَ إلَى عُمْرَتِهِ حَجَّةً ثُمَّ جَرَحَهُ كَذَلِكَ فَمَاتَ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ قِيمَتُهُ صَحِيحًا وَلِلْحَجِّ قِيمَتُهُ وَبِهِ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَانَ جَرَحَهُ ثُمَّ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ جَرَحَهُ ثَانِيًا فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ قِيمَتُهُ وَبِهِ الْجُرْحُ الثَّانِي وَلِلْحَجِّ قِيمَتُهُ وَبِهِ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ ثُمَّ قَرَنَ ثُمَّ جَرَحَهُ فَمَاتَ فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ قِيمَتُهُ وَبِهِ الْجُرْحُ الثَّانِي وَلِلْقِرَانِ قِيمَتَانِ وَبِهِ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مُسْتَهْلَكًا بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ وَالثَّانِي غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ بِحَالِهَا فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ قِيمَتُهُ صَحِيحًا لِلْحَالِ وَلِلْقِرَانِ قِيمَتَانِ وَبِهِ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ كَانَ الثَّانِي قَطْعَ يَدٍ أُخْرَى فَهِيَ وَمَا لَوْ كَانَ جُرْحًا غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِهْلَاكُهُ مَرَّةً ثَانِيَةً.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْأَمْنَ بِتَفْوِيتِ آلَةِ الِامْتِنَاعِ) يَعْنِي وَكَانَ كَالْإِتْلَافِ، فَهَذَا كَالْقِيَاسِ الْجَارِي فِي الدَّلَالَةِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنْ أَدَّى الْجَزَاءَ ثُمَّ قَتَلَهُ لَزِمَهُ جَزَاءٌ آخَرُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى قَتَلَهُ فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ.
(قَوْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ ثَمَنُهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَتَيْنِ دِرْهَمٌ وَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْفُضَيْلِ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فِي بَيْضِ النَّعَامِ قِيمَتُهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ خُصَيْفٍ بِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِثْلَهُ عَنْ عُمَرَ مُنْقَطِعًا، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَطَاوُسٍ، وَفِيهِ حَدِيثٌ
الصَّيْدِ، وَلَهُ عَرَضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا مَا لَمْ يَفْسُدْ (فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْبَيْضِ فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَغْرَمَ سِوَى الْبَيْضَةِ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْفَرْخِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْضَ مُعَدٌّ؛ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الْفَرْخُ الْحَيُّ، وَالْكَسْرُ قَبْلَ أَوَانِهِ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا.
مَرْفُوعٌ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. (قَوْلُهُ: مَا لَمْ يَفْسُدْ) الْأَوْجَهُ وَصْلُهُ بِكَسْرِ بَيْضِ نَعَامَةٍ: أَيْ وَمَنْ كَسَرَ بَيْضَ نَعَامَةٍ مَا لَمْ يَفْسُدْ: أَيْ فِي زَمَنِ عَدَمِ فَسَادِهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ نَائِبَةٌ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي الْبَيْضَةِ الْمَذِرَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْبَيْضَةِ لَيْسَ لِذَاتِهَا بَلْ لِعَرَضِيَّةِ الصَّيْدِ وَلَيْسَتْ الْمَذِرَةُ بِعَرَضِيَّةِ أَنْ تَصِيرَ صَيْدًا، فَانْتَفَى بِهَذَا مَا قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إذَا كَسَرَ بَيْضَ نَعَامَةٍ مَذِرَةٍ وَجَبَ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ لِقِشْرَتِهَا قِيمَةً، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ نَعَامَةٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالْإِحْرَامِ لَيْسَ التَّعَرُّضُ لِلْقِشْرِ بَلْ لِلصَّيْدِ فَقَطْ وَلَيْسَ لِلْمَذِرَةِ عَرَضِيَّةُ الصَّيْدِيَّةِ.
(قَوْلُهُ: وَالْكَسْرُ قَبْلَ أَوَانِهِ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ) يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِيمَا إذَا جُهِلَ أَنَّ مَوْتَهُ مِنْ الْكَسْرِ أَوْ لَا، فَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّ مَوْتَهُ قَبْلَ الْكَسْرِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْإِمَاتَةِ وَلَا فِي الْبَيْضِ؛ لِعَدَمِ الْعَرَضِيَّةِ، وَإِذَا ضَمِنَ الْفَرْخَ لَا يَجِبُ فِي الْبَيْضِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَا ضَمَانُهُ لِأَجْلِهِ قَدْ ضَمِنَهُ، وَلَوْ أَخَذَ الْبَيْضَةَ فَحَضَنَهَا تَحْتَ دَجَاجَةٍ فَفَسَدَتْ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ، وَلَوْ لَمْ تَفْسُدْ وَخَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ وَطَارَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ نَفَّرَ صَيْدًا عَنْ بَيْضِهِ فَفَسَدَ ضَمِنَهُ إحَالَةً لِلْفَسَادِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْك إذَا تَذَكَّرْت أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ كَالتَّعْلِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الْفَأْرَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْبِئْرِ مَيْتَةً لَا يُدْرَى مَتَى وَقَعَتْ حَيْثُ حَكَمَ أَبُو حَنِيفَةَ بِإِضَافَةِ مَوْتِهَا إلَى وُقُوعِهَا فِي الْبِئْرِ وَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمَ الْبِئْرِ الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ إحَالَةً عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ، وَهُمَا قَدْ خَالَفَاهُ هُنَاكَ وَوَافَقَاهُ هُنَا فَيُطَالَبَانِ بِالْفَرْقِ الْمُؤَثِّرِ لَا كُلِّ فَرْقٍ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ جَرَحَ صَيْدًا فَغَابَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجُرْحِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ يَجِبُ الضَّمَانُ احْتِيَاطًا لِلسَّبَبِيَّةِ الظَّاهِرَةِ، كَمَنْ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ وَأَرْسَلَهُ وَلَا يَعْلَمُ أَدَخَلَ الْحَرَمَ أَمْ لَا تَجِبُ قِيمَتُهُ. (قَوْلُهُ: وَعَلَى هَذَا) أَيْ هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَى مَا هُوَ سَبَبُ الظَّاهِرِ. (إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ الْأُمُّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُمَا) أَمَّا الْأُمُّ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْجَنِينُ فَلِأَنَّ ضَرْبَ الْبَطْنِ سَبَبٌ ظَاهِرٌ لِمَوْتِهِ وَقَدْ ظَهَرَ عَقِيبَهُ
(وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالذِّئْبِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ جَزَاءٌ)؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، الْحِدَأَةُ وَالْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْفَأْرَةَ وَالْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْحَيَّةَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ» وَقَدْ ذُكِرَ الذِّئْبُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ، أَوْ يُقَالُ إنَّ الذِّئْبَ فِي مَعْنَاهُ،
مَيِّتًا فَيُحَالُ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْغُرَابِ) لَمْ يَقُلْ لَيْسَ فِي قَتْلِ الْمُحْرِمِ إلَخْ جَزَاءٌ، بَلْ أَطْلَقَ نَفْيَ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِهِنَّ؛ لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَسْتَعْقِبُ جَزَاءً فِي الْحَرَمِ وَلَا فِي الْإِحْرَامِ، فَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِمَا يُفِيدُ إبَاحَةَ قَتْلِهِنَّ فِي الْحَرَمِ وَبِمَا يُفِيدُ فِي الْإِحْرَامِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ " الْحَيَّةُ " عِوَضُ الْعَقْرَبِ، وَقَالَ فِيهِ:«الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ» . وَالثَّانِي مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ» وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ " فَذَكَرَ الْخَمْسَةَ، وَزَادَ فِيهِ مُسْلِمٌ " وَالْحَيَّةَ " قَالَ: وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ؟ قَالَ: يَقْتُلُ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ، وَالْفُوَيْسِقَةَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَالْحِدَأَةَ وَالسَّبُعَ الْعَادِيَ، وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ السَّبُعَ الْعَادِيَ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَحُمِلَ الْغُرَابُ الْمَنْهِيُّ عَنْ قَتْلِهِ هُنَا عَلَى غَيْرِ الْأَبْقَعِ وَهُوَ الَّذِي يَأْكُلُ الزَّرْعَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنَّمَا يَرْمِيهِ؛ لِيُنَفِّرَهُ عَنْ الزَّرْعِ.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحْرِمَ بِقَتْلِ الذِّئْبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ» وَفِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مُقْتَصِرًا عَلَى الذِّئْبِ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الذِّئْبَ وَكُلَّ عَدُوٍّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَذُكِرَ الذِّئْبُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ:«وَالْحَيَّةُ وَالذِّئْبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . وَقَالَ السَّرَقُسْطِيُّ فِي غَرِيبِهِ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ يُقَالُ لِكُلِّ عَاقِرٍ حَتَّى اللِّصِّ الْمُقَاتِلِ. (قَوْلُهُ: وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ) وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ، أَسْنَدَهُ السَّرَقُسْطِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ سِيلَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ: الْأَسَدُ. (قَوْلُهُ: أَوْ يُقَالُ إنَّ الذِّئْبَ فِي مَعْنَاهُ) يَعْنِي
وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَخْلِطُ؛ لِأَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى، أَمَّا الْعَقْعَقُ فَغَيْرُ مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غُرَابًا وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَغَيْرَ الْعَقُورِ وَالْمُسْتَأْنَسَ وَالْمُتَوَحِّشَ مِنْهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْجِنْسُ،
فَيَلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُوجِبِ لِلْإِلْحَاقِ فِي الدَّلَالَةِ.
وَاَلَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ هُوَ كَوْنُهُنَّ مُبْتَدِئَاتٍ بِالْأَذَى، وَضَمَّ غَيْرُهُ إلَى ذَلِكَ مُخَالَطَتَهَا: يَعْنِي كَوْنَهَا تَعِيشُ بِالِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ، وَسَنَذْكُرُ لِهَذَا إتْمَامًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْجِنْسُ) وَإِنْ كَانَ وَصْفُهُ بِالْعَقُورِ إيمَاءً إلَى الْعِلَّةِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ، وَذُكِرَ الْكَلْبُ مِنْ غَيْرِ وَصْفِهِ بِالْعَقُورِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ وَصْفُهُ بِالْعُقُورِيَّةِ يُرَادُ بِهِ الْكَلْبُ الْوَحْشِيُّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَقُورًا مُبْتَدِئًا بِالْأَذَى، فَأَفَادَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَيْدًا لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِكَوْنِهِ عَقُورًا، وَيَكُونُ مَا فِي الْمَرَاسِيلِ تَعْمِيمُ النَّوْعِ بِنَفْيِ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ صِنْفَيْهِ مُؤْذٍ وَهُوَ الصَّيْدُ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِصَيْدٍ أَصْلًا، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ وَحْشِيًّا وَبَعْضُهُ لَا. فَإِنْ اُسْتُبْعِدَ ذَلِكَ وَادُّعِيَ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ فِطْرَتَهُ فِي الْوَحْشِيَّةِ وَعَدَمِهَا شَامِلَةٌ، لِكُلِّ أَفْرَادِهِ ثُمَّ يَعْرِضُ لِبَعْضِهَا خِلَافُ الطَّبْعِ الْأَصْلِيِّ مِنْ التَّوَحُّشِ وَالِاسْتِئْنَاسِ. قُلْنَا عَلَى التَّنَزُّلِ نَخْتَارُ أَنَّ جِنْسَ الْكَلْبِ غَيْرُ وَحْشِيٍّ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ وَحْشِيٌّ فَالتَّوَحُّشُ عَارِضٌ لَهُ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجِبَ بِقَتْلِ شَيْءٍ مِنْهُ جَزَاءٌ.
وَفَائِدَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى وَصْفٍ بِخُصُوصِهِ بِنَفْيِ الْجَزَاءِ: أَعْنِي مَا هُوَ مَعْرُوضُ التَّوَحُّشِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّهُ وَحْشِيٌّ بِالْأَصَالَةِ فَيَجِبُ بِقَتْلِهِ الْجَزَاءُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَحْشِيًّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ عَقُورًا، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ جَوَازُ الِانْقِسَامِ. وَقَوْلُهُمْ
وَكَذَا الْفَأْرَةُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْوَحْشِيَّةُ سَوَاءٌ. وَالضَّبُّ وَالْيَرْبُوعُ لَيْسَا مِنْ الْخَمْسِ الْمُسْتَثْنَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَبْتَدِئَانِ بِالْأَذَى.
(وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالنَّمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَالْقُرَادِ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ ثُمَّ هِيَ مُؤْذِيَةٌ بِطِبَاعِهَا، وَالْمُرَادُ بِالنَّمْلِ السُّودُ أَوْ الصُّفْرُ الَّذِي يُؤْذِي، وَمَا لَا يُؤْذِي لَا يَحِلُّ قَتْلُهَا، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى.
(وَمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ) مِثْلَ كَفٍّ مِنْ طَعَامٍ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ التَّفَثِ الَّذِي عَلَى الْبَدَنِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَطْعَمَ شَيْئًا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ أَنْ يُطْعِمَ مِسْكَيْنَا شَيْئًا يَسِيرًا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْبِعًا.
(وَمَنْ قَتَلَ جَرَادَةً تَصَدَّقَ
الْفَأْرَةُ الْوَحْشِيَّةُ وَالْأَهْلِيَّةُ يُفِيدُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا حُكِمَ بِإِرَادَةِ حَقِيقَةِ الْكَلْبِ، أَمَّا إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ أَوْ الْأَسَدُ فَلَا إشْكَالَ حِينَئِذٍ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْأَسَدُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ عَلَى الْأَسَدِ الْعَادِي عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْجَزَاءَ بِقَتْلِ الْأَسَدِ إذَا لَمْ يَصُلْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُد. (قَوْلُهُ: وَكَذَا الْفَأْرَةُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْوَحْشِيَّةُ) لِوُجُودِ الْمُبِيحِ فِي الْوَحْشِيَّةِ وَهُوَ فِسْقُهَا، وَالسِّنَّوْرُ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ: مَا كَانَ مِنْهُ بَرِّيًّا فَهُوَ مُتَوَحِّشٌ كَالصَّيُودِ يَجِبُ بِقَتْلِهِ الْجَزَاءُ.
. (قَوْلُهُ: وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْقَمْلَةِ. (قَوْلُهُ: وَمَا لَا يُؤْذِي لَا يَحِلُّ قَتْلُهَا) وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ بِقَتْلِهَا الْجَزَاءُ، وَهَكَذَا الْكَلْبُ الْأَهْلِيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ نُسِخَ فَتَقَيَّدَ الْقَتْلُ بِوُجُودِ الْإِيذَاءِ. (قَوْلُهُ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى) يَعْنِي كَوْنَهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ وَلَا مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا عِلَّتَيْنِ لِلْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الْجَزَاءِ لَكِنَّ نَفْيَهُمَا مَعًا عِلَّةٌ لِنَفْيِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِعِلَلٍ شَتَّى يَكُونُ نَفْيُهُ مَعْلُولًا بِعَدَمِ الْكُلِّ، إذْ لَوْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْهَا لَمْ يَنْتِفْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَتْلِ الْقُنْفُذِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ جَعْلُهُ نَوْعًا مِنْ الْفَأْرَةِ، وَفِي أُخْرَى جَعْلُهُ كَالْيَرْبُوعِ فَفِيهِ الْجَزَاءُ. وَفِي الْفَتَاوَى: لَا شَيْءَ فِي ابْنِ عِرْسٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَأَطْلَقَ غَيْرُهُ لُزُومَ الْجَزَاءِ فِي الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ وَالسَّمُّورِ وَالسِّنْجَابِ وَالدَّلَقِ وَالثَّعْلَبِ وَابْنِ عِرْسٍ وَالْأَرْنَبِ مِنْ غَيْرِ حِكَايَةِ خِلَافٍ فِي شَيْءٍ.
. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ التَّفَثِ الَّذِي عَلَى الْبَدَنِ) يُفِيدُ أَنَّ الْجَزَاءَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَضَاءُ التَّفَثِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ بَدَنِهِ بَلْ وَجَدَ قَمْلَةً عَلَى الْأَرْضِ فَقَتَلَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِلْقَاءَ عَلَى الْأَرْضِ كَالْقَتْلِ تَجِبُ بِهِ الصَّدَقَةُ، وَلَوْ قَالَ مُحْرِمٌ لِحَلَالٍ ارْفَعْ هَذَا الْقَمْلَ عَنِّي أَوْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَيْهِ فَفَلَّى مَا فِيهِ مِنْ الْقَمْلِ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى الْآمِرِ الْجَزَاءُ، وَكَذَا إذَا أَشَارَ إلَى قَمْلَةٍ فَقَتَلَهَا الْحَلَالُ كَانَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهَا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ مُوجِبَةٌ فِي الصَّيْدِ فَكَذَا مَا فِي حُكْمِهِ، كَذَا
بِمَا شَاءَ)؛ لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَإِنَّ الصَّيْدَ مَا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ وَيَقْصِدُهُ الْآخِذُ (وَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ) لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.
(وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَبْحِ السُّلَحْفَاةِ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ فَأَشْبَهَ الْخَنَافِسَ وَالْوَزَغَاتِ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ وَكَذَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَلَمْ يَكُنْ صَيْدًا.
(وَمَنْ حَلَبَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ)؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ فَأَشْبَهَ كُلَّهُ.
(وَمَنْ قَتَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصَّيْدِ كَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ) إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَى الْإِيذَاءِ فَدَخَلَتْ فِي الْفَوَاسِقِ الْمُسْتَثْنَاةِ، وَكَذَا اسْمُ الْكَلْبِ يَتَنَاوَلُ السِّبَاعَ بِأَسْرِهَا لُغَةً.
فِي التَّجْنِيسِ. وَالْقَمْلَتَانِ وَالثَّلَاثُ كَالْوَاحِدَةِ. وَفِي الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ بَالِغًا مَا بَلَغَ نِصْفَ صَاعٍ، وَهَذَا إذَا قَتَلَهَا قَصْدًا وَكَذَا لَوْ أَلْقَى ثَوْبَهُ فِي الشَّمْسِ؛ لِقَصْدِ قَتْلِهَا كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ وَنَحْوُهُ، وَلَوْ أَلْقَاهُ لَا لِلْقَتْلِ فَمَاتَتْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ) عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَيَشْكُلُ عَلَيْهِ مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ، فَاسْتَقْبَلَنَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَجَعَلْنَا نَضْرِبُهُ بِسِيَاطِنَا وَعِصِيِّنَا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُوهُ فَإِنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ» وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا، لَكِنْ تَظَاهَرَ عَنْ عُمَرَ إلْزَامُ الْجَزَاءِ فِيهَا. فِي الْمُوَطَّأِ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ عَنْ جَرَادَةٍ قَتَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: تَعَالَ حَتَّى نَحْكُمَ، فَقَالَ كَعْبٌ: دِرْهَمٌ، فَقَالَ: عُمَرُ: إنَّك لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ، لَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِقِصَّتِهِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ كَعْبًا سَأَلَ عُمَرَ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه سُئِلَ عَنْ الْجَرَادِ يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَتَبِعَ عُمَرَ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْمُحِيطِ: مَمْلُوكٌ أَصَابَ جَرَادَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ إنْ صَامَ يَوْمًا فَقَدْ زَادَ وَإِنْ شَاءَ جَمَعَهَا حَتَّى تَصِيرَ عِدَّةَ جَرَادٍ ثُمَّ يَصُومَ يَوْمًا.
(قَوْلُهُ كَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا) فَالسِّبَاعُ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالْفِيلِ. فَفِي الْمُحِيطِ: إنْ قَتَلَ خِنْزِيرًا أَوْ قِرْدًا أَوْ فِيلًا تَجِبُ الْقِيمَةُ خِلَافًا لَهُمَا اهـ. وَقَوْلُ الْعَتَّابِيِّ: الْفِيلُ الْمُتَوَحِّشُ صَيْدٌ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَإِنَّ الْمُسْتَأْنَسَ يَجِبُ كَوْنُهُ صَيْدًا أَيْضًا لِعُرُوضِ الِاسْتِئْنَاسِ كَمَا قَالُوا فِي الظَّبْيِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ إنَّهُمَا صَيْدٌ، وَإِنْ تَأَلَّفَا. وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَجْرِيَ فِي الْفِيلِ الْمُتَأَلَّفِ رِوَايَتَانِ كَمَا أَنَّ فِي الطُّيُورِ الْمُصَوِّتَةِ رِوَايَتَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ فِيهَا أَنَّهَا صَيْدٌ، وَالْمُرَادُ بِنَحْوِهَا سِبَاعُ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ مُعَلَّمًا وَغَيْرَ مُعَلَّمٍ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا اسْمُ الْكَلْبِ يَتَنَاوَلُ السِّبَاعَ بِأَسْرِهَا) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ دَاعِيًا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
وَلَنَا أَنَّ السَّبْعَ صَيْدٌ لِتَوَحُّشِهِ، وَكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ إمَّا لِجِلْدِهِ أَوْ لِيُصْطَادَ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذَاهُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْفَوَاسِقِ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَدَدِ،
اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ، فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ». (قَوْلُهُ: وَكَوْنُهُ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ) هَذَا زِيَادَةُ قَيْدٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَعْرِيفِهِ السَّابِقِ فَيَلْزَمُ إمَّا فَسَادُ السَّابِقِ أَوْ هَذَا اللَّاحِقِ.
(قَوْلُهُ: لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَدَدِ) الْعَدَدُ الْمَنْصُوصُ هُوَ الْخَمْسُ فَيَلْزَمُ مِنْ الْإِلْحَاقِ بِهِ قِيَاسًا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى شَرْعًا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ فَيَبْطُلُ الْعَدَدُ: أَيْ يَنْتَفِي فَائِدَةُ تَخْصِيصِ اسْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْدَادِ الْمُحِيطَةِ بِالْمُلْحَقِ وَغَيْرِهِ أَوْ الْإِطْلَاقِ: أَعْنِي ذِكْرَهُ بِاسْمٍ عَامٍّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: يُقْتَلُ كُلُّ عَادٍ مُنْتَهِبٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ مِثْلَهُ يَلْزَمُ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ فَيُقَالُ مَثَلًا: لَوْ جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الْمُؤْمِنَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فَائِدَةٌ، وَكَذَا فِي الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْطِ وَسَائِرِ الْمَفَاهِيمِ الْمُخَالِفَةِ، فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ عَنْ هَذَا فَهُوَ بِعَيْنِهِ جَوَابُنَا عَنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَإِنَّ عَدَدَ الْخَمْسِ قَدْ تَحَقَّقَ عَدَمُ قَصْرِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَفُرِغَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ النَّصُّ عَلَى الذِّئْبِ وَالْحَيَّةِ أَيْضًا فِي أَحَادِيثَ لَمْ يُنَصَّ فِي صَدْرِهَا عَلَى عَدَدٍ بَلْ قَالَ: يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ كَذَا وَكَذَا إلَى آخِرِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَثَبَتَ عَدَمُ إرَادَةِ قَصْرِ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى الْخَمْسِ فَانْفَتَحَ بَابُ الْقِيَاسِ، إذْ حَدِيثُ الْفَوَاسِقِ تَخْصِيصٌ لِلْآيَةِ، وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ يُعَلِّلُ وَيُلْحَقُ بِمَا أَخْرَجَهُ مَا تُخْرِجُهُ الْعِلَّةُ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ رحمه الله جَوَّزَ إلْحَاقَ الذِّئْبِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَبْطُلُ أَيْضًا الْعَدَدُ.
وَكَوْنُ الثَّابِتِ دَلَالَةً ثَابِتًا بِالنَّصِّ لَا يَخْرُجُ بِهِ الْحَالُ عَنْ أَنَّهُ بَطَلَ خُصُوصُ الْخَمْسِ. وَيَجِيءُ فِيهِ عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَذَكَرَ عَدَدًا يُحِيطُ بِهِ مَعَهَا فَيَقُولُ سِتٌّ مِنْ الْفَوَاسِقِ. سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْإِلْحَاقَ بِالدَّلَالَةِ لَا بُدَّ فِيهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَعْنًى جَامِعٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ سِوَى عَلَى فَهْمِ اللُّغَةِ دُونَ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ وَلِذَا سَمَّاهُ كَثِيرٌ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَنُسَمِّيهِ نَحْنُ الثَّابِتَ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ فَمَا عَيَّنْتُمُوهُ مِنْ قَوْلِكُمْ؛ لِأَنَّهَا مُبْتَدِئَاتٌ بِالْأَذَى وَنَحْوِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي إلْحَاقِ الذِّئْبِ فَهُوَ الَّذِي يَلْحَقُ بِاعْتِبَارِ سَائِرِ السِّبَاعِ، فَإِنْ سَمَّيْتُمْ ذَلِكَ دَلَالَةً فَهَذَا أَيْضًا دَلَالَةٌ. وَأَمَّا رَابِعًا فَإِنَّا لَمْ نُخْرِجْهُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَكُلُّ سَبُعٍ عَادٍ» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ.
فَإِنْ قِيلَ: نَقُولُ مِنْ الرَّأْسِ يَخْرُجُ مَجْمُوعُ مَا نُصَّ عَلَى إخْرَاجِهِ وَهُوَ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ وَالْغُرَابُ وَالذِّئْبُ وَالْحِدَأَةُ وَالسَّبُعُ الْعَادِي. عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي حَالَةِ اعْتِدَائِهِ وَهُوَ مَا إذَا صَالَ عَلَى الْمُحْرِمِ فَإِنَّهُ حَقِيقَةً اسْمُ الْفَاعِلِ، وَبِهِ نَقُول: إنَّهُ إذَا صَالَ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، ثُمَّ نَمْنَعُ الْإِلْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ نَاسِخٌ عَلَى أُصُولِنَا لَا مُخَصِّصٌ لِاشْتِرَاطِنَا الْمُقَارَنَةَ فِي الْمُخَصِّصِ الْأَوَّلِ، فَمَا لَمْ يُقَارَنْ بِهِ يَكُونُ الْعُمُومُ مُرَادًا، فَإِذَا أَخْرَجَ بَعْضَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِإِرَادَةِ الْكُلِّ كَانَ نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْفَرْدِ الْمُخْرَجِ، وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ عَدَمِ إرَادَةِ الْمُخْرَجِ، وَإِذَا كَانَ نَاسِخًا عِنْدَنَا فَلَا يَلْحَقُ إذْ لَا نَسْخَ بِالْقِيَاسِ.
قُلْنَا: لَا نُخْرِجُ بَلْ بِالْقِيَاسِ بِالدَّلَالَةِ، فَإِنْ أَخَذْتُمْ فِي الْجَامِعِ الدَّلَالِيِّ كَوْنَهَا تَعِيشُ مُخَالِطَةً بِالِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ
وَاسْمُ الْكَلْبِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّبْعِ عُرْفًا وَالْعُرْفُ أَمْلَكُ (وَلَا يُجَاوَزُ بِقِيمَتِهِ شَاةٌ) وَقَالَ زُفَرٌ رحمه الله: تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ اعْتِبَارًا بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ الشَّاةُ»
مَنَعْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِاعْتِبَارِهِ وَأَسْنَدْنَاهُ بِإِخْرَاجِ الذِّئْبِ وَهُوَ لَا يَعِيشُ مُخَالِطًا. وَالْحَقُّ أَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ يَصْلُحُ إلْزَامِيًّا لِلْخَصْمِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا كَوْنُ الْمَسْكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَذْكُورِ.
فُهِمَ مَنْعُ الضَّرْبِ مِنْ مَنْعِ التَّأْفِيفِ، وَلَا تَظْهَرُ أَوْلَوِيَّةُ السِّبَاعِ بِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ مِنْ الْفَوَاسِقِ بَلْ غَايَتُهُ الْمُمَاثَلَةُ. وَأَمَّا إثْبَاتُ مَنْعِ قَتْلِهَا عَلَى أُصُولِنَا فَفِيهِ مَا سَمِعْت، وَلَعَلَّ لِعَدَمِ قُوَّةِ وَجْهِهِ كَانَ فِي السِّبَاعِ رِوَايَتَانِ كَمَا هُوَ فِي الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ السِّبَاعُ كُلُّهَا صُيُودٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْأَسَدَ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالذِّئْبِ. وَفِي الْعَتَّابِيِّ: لَا شَيْءَ فِي الْأَسَدِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يَجِبُ، وَقَدَّمْنَا مِنْ الْبَدَائِعِ التَّصْرِيحَ بِحِلِّ قَتْلِ الْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ أَوَّلَ الْبَابِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ. (قَوْلُهُ: وَاسْمُ الْكَلْبِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّبُعِ عُرْفًا) ظَاهِرُ تَخْصِيصِهِ بِالْعُرْفِ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا لُغَةً بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَتِمُّ مَقْصُودُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّ الْخِطَابَ كَانَ مَعَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ تَخْصِيصٌ مِنْ الشَّرْعِ بِغَيْرِ السَّبُعِ، بَلْ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ عَلَى مَا سَمِعْته عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ قَوْلِهِ «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا» ، فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ فَالْأَوْلَى مَنْعُ وُقُوعِهِ عَلَى السِّبَاعِ حَقِيقَةً لُغَةً وَلَفْظُ الْكَلْبِ فِي دُعَائِهِ عليه الصلاة والسلام مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ الْعَامِّ: أَعْنِي الْمُفْتَرِسَ الضَّارِيَ.
لَا يُقَالُ: ادِّعَاؤُنَا أَنَّهُ فِي كُلِّ السِّبَاعِ حَقِيقَةٌ هُوَ دَعْوَى أَنَّهُ فِي كُلِّ مُفْتَرِسٍ ضَارٍّ حَقِيقَةٌ، وَالْأَفْرَادُ حِينَئِذٍ أَفْرَادُ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْعَامِّ مَجَازًا كَمَا قُلْتُمْ أَوْ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا، وَالِاشْتِرَاكُ الْمَعْنَوِيُّ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ عِنْدَ التَّرَدُّدِ وَهُوَ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِ عَدَمِهِ. وَتَبَادُرُ النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْكَلْبِ دَلِيلُ عَدَمِهِ، إذْ لَوْ كَانَ لِلْمَعْنَى الْأَعَمِّ لَمْ يَتَبَادَرْ خُصُوصُ بَعْضِهَا، وَإِذَا تَبَادَرَ خُصُوصُ بَعْضِهَا كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ الْوَضْعَ كَانَ لِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ لِذَلِكَ وَإِنْ جَازَ عُرُوضُ تَبَادُرِ الْبَعْضِ بِعَيْنِهِ لِعُرُوضِ شُهْرَةٍ وَغَلَبَةِ اسْتِعْمَالٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لَا الْمُجَوَّزَ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَيَتَحَقَّقَ كَذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ») وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ سَبُعٌ، وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ بَلْ الْمَعْرُوفُ حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إذَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَانْفَرَدَ بِزِيَادَةِ فِيهِ كَبْشٌ، وَالْبَاقُونَ رَوَوْهُ وَلَمْ يَذْكُرُوهَا فِيهِ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الضَّبُعُ صَيْدٌ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَيُؤْكَلُ» وَهَذَا دَلِيلُ أَكْلِهِ عِنْدَ الْخَصْمِ وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمُصَنِّفُ إنْ اسْتَدَلَّ بِلَفْظِ السَّبُعِ فَغَيْرُ ثَابِتٍ، وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِلَفْظِ الضَّبُعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ
وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ لِمَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ لَا؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ مُؤْذٍ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يُزَادُ عَلَى قِيمَةِ الشَّاةِ ظَاهِرًا.
(وَإِذَا صَالَ السَّبُعُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَقَتَلَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَقَالَ زُفَرٌ: يَجِبُ الْجَزَاءُ اعْتِبَارًا بِالْجَمَلِ الصَّائِلِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَتَلَ سَبُعًا وَأَهْدَى كَبْشًا وَقَالَ: إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّعَرُّضِ لَا عَنْ دَفْعِ الْأَذَى، وَلِهَذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ الْأَذَى كَمَا فِي الْفَوَاسِقِ فَلَأَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ الْمُتَحَقَّقِ مِنْهُ أَوْلَى،
سَبُعٌ عِنْدَنَا وَغَيْرُ مَأْكُولٍ تَقْدِيمًا لِلنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَنَقُولُ: يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْرَ الْمَالِيَّةِ فِي وَقْتِ التَّنْصِيصِ، وَإِلَّا تَلْزَمُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ قِيمَةُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ.
وَإِذَا كُنْتُمْ قُلْتُمْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ إنَّ مَا بَيْنَ السِّنَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ مِنْ كَوْنِهِ مُقَدَّرًا بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ كِتَابِ الصِّدِّيقِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِهِ كَانَ؛ لِأَنَّهُ قَدْرُ التَّفَاوُتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا أَنَّهُ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَلَأَنْ تَقُولُوا مِثْلَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فِي الصِّحَّةِ وَكَوْنُ ذَلِكَ مُخَلِّصًا مِنْ الْمُعَارَضَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوْلَى، وَقَوْلُهُ فِي الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ (وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَتِهِ لِمَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ لَا؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ مُؤْذٍ) يَعْنِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَاقِطُ الْجَزَاءِ مَعَ أَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلَهُ قَبْلَهُ بِأَسْطُرٍ (وَكَوْنُهُ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ إمَّا لِجِلْدِهِ أَوْ لِيَصْطَادَ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذَاهُ) حَيْثُ زَادَ بَاعِثًا آخَرَ مُعَارَضًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أَوْجَبَ قِيمَةَ الْمَقْتُولِ مُطْلَقًا فَتَعَيُّنُ قِيمَةِ مُجَرَّدِ جِلْدِهِ فِي بَعْضِ الْمَقْتُولِ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَاهُ مَعَ أَنَّ أَخْذَهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي طَلَبِ جِلْدِهِ كَمَا ذَكَرَهُ هُنَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ لِغَرَضِ أَنْ يَصْطَادَ بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَجِبُ قِيمَتُهُ.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ: إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ) هَذَا غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ الْجَزَاءِ إذَا كَانَ الْمُبْتَدِئ السَّبُعَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُ عَدَمِ الْوُجُوبِ فِيهِ إلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ قَدْ نُسِخَ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ فِي الصَّيْدِ عَلَى الْعُمُومِ، فَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحُكْمِ الْعَامِّ
وَمَعَ وُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الشَّارِعِ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ حَقًّا لَهُ، بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَبْدُ.
(فَإِنْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ صَيْدٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ)؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِالْكَفَّارَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ وَالْبَعِيرَ وَالدَّجَاجَةَ وَالْبَطَّ الْأَهْلِيَّ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِصُيُودٍ؛ لِعَدَمِ التَّوَحُّشِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْحِيَاضِ؛ لِأَنَّهُ أَلُوفٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ (وَلَوْ ذَبَحَ حَمَامًا مُسَرْوَلًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ) خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله. لَهُ أَنَّهُ أَلُوفٌ مُسْتَأْنَسٌ وَلَا يَمْتَنِعُ بِجَنَاحَيْهِ لِبُطْءِ نُهُوضِهِ،
فَالْأَوْجَهُ الِاسْتِدْلَال بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ السَّبْعُ الْعَادِي، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِدَلَالَةِ نَصِّ قَتْلِ الْفَوَاسِقِ فَإِنَّهُ أَبَاحَهُ لِتَوَهُّمِ الْأَذَى لَهُ: أَيْ لِلْقَاتِلِ أَوْ لِأَبْنَاءِ نَوْعِهِ، فَمَعَ تَحَقُّقِ الْإِيذَاءِ لَهُ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ سَقَطَ الضَّمَانُ إلَّا أَنْ يُقَيَّدَ الْإِذْنُ بِهِ، فَمَا لَمْ يُقَيَّدْ الْإِذْنُ بِالضَّمَانِ لَا يَجِبُ، فَلِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ إذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِمَأْكَلِهِ عِنْدَ عَدَمِ صِيَالِهِ لِتَقَيُّدِ الْإِذْنِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الْآيَةَ.
(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ فَإِنَّهُ لَا إذْنَ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ) فَيَضْمَنُهُ لَهُ. وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ إذَا صَالَ بِالسَّيْفِ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا إذْنَ أَيْضًا مِنْ مَالِكِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَبْدَ مَضْمُونٌ فِي الْأَصْلِ حَقًّا لِنَفْسِهِ بِالْآدَمِيَّةِ لَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَقْرَانِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ أَوْ قَتَلَ يُقْتَلُ، وَإِذَا كَانَ ضَمَانُ نَفْسِهِ فِي الْأَصْلِ لَهُ سَقَطَ بِمُبِيحٍ جَاءَ مِنْ قَبْلِهِ وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ، وَمَالِيَّةُ الْمَوْلَى فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً مَضْمُونَةً لَهُ فَهِيَ تَبَعٌ لِضَمَانِ النَّفْسِ فَيَسْقُطُ التَّبَعُ فِي ضِمْنِ سُقُوطِ الْأَصْلِ.
(قَوْلُهُ: مُسَرْوَلًا) بِفَتْحِ الْوَاوِ: أَيْ فِي رِجْلَيْهِ رِيشٌ كَأَنَّهُ سَرَاوِيلُ
وَنَحْنُ نَقُولُ: الْحَمَامُ مُتَوَحِّشٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مُمْتَنِعٌ بِطَيَرَانِهِ، وَإِنْ كَانَ بَطِيءَ النُّهُوضِ، وَالِاسْتِئْنَاسُ عَارِضٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ (وَكَذَا إذَا قَتَلَ ظَبْيًا مُسْتَأْنَسًا)؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُبْطِلُهُ الِاسْتِئْنَاسُ كَالْبَعِيرِ إذَا نَدَّ لَا يَأْخُذُ حُكْمَ الصَّيْدِ فِي الْحُرْمَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ.
(وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَذَبِيحَتُهُ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَحِلُّ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ وَهَذَا فِعْلٌ حَرَامٌ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَذَبِيحَةِ
قَوْلُهُ: الْحَمَامُ مُتَوَحِّشُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ) وَالِاسْتِثْنَاءُ عَارِضٌ، بِخِلَافِ الْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالْبُيُوتِ فَإِنَّهُ أَلُوفٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ.
. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ) يَقْتَضِي ظَاهِرًا أَنَّ اللَّامَ فِي لِغَيْرِهِ يَتَعَلَّقُ بِذَبْحِهِ لَا بِيَحِلُّ، وَلَفْظُ الْمَبْسُوطِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ وَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِيَحِلُّ، وَهُوَ الْحَقُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ. وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ التَّعْلِيلِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحِلَّ لِلْقَاتِلِ وَحَلَّ لِغَيْرِهِ لَمْ يُنْزِلْهُ الشَّرْعُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ فَصَارَ عَامِلًا لِغَيْرِهِ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ هُوَ ذَلِكَ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِمْ فَحَلَّ لَهُمْ سَوَاءٌ ذَبَحَ لِأَجْلِهِمْ أَوْ لِنَفْسِهِ
الْمَجُوسِيِّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْمَيْزِ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ تَيْسِيرًا فَيَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِهِ
قَوْلُهُ: وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ إلَخْ) حَاصِلُهُ إثْبَاتُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالْإِقَامَةِ مَقَامَ الْمَيْزِ، ثُمَّ نُفِيَ الثَّانِي فَيَنْتَفِي الْأَوَّلُ: أَعْنِي الْمَشْرُوعِيَّةَ وَهُوَ الْمُفَادُ بِقَوْلِهِ فَيَنْعَدِمُ الْمَشْرُوعُ لِانْعِدَامِهِ: أَيْ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ الَّذِي أُقِيمَ، وَنَحْنُ إلَى غَيْرِ هَذَا الْكَلَامِ أَحْوَجُ فِي إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ.
فَإِنَّ حَاصِلَ هَذَا إثْبَاتُ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ وَهَذَا فِعْلٌ حَرَامٌ، وَهِيَ إنْ كَانَتْ مِنْ الْمُسَلَّمَاتِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً عِنْدَهُ لَا يَنْتَهِضُ الْمَذْكُورُ مُثْبِتًا لَهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إذَا مَنَعَ الْحُرْمَةَ مَنَعَ عَدَمَ الْإِقَامَةِ مُقَامَ الْمَيْزِ لَكِنَّهَا مُسَلَّمَةٌ، وَنَحْنُ نَحْتَاجُ بَعْدَ تَسْلِيمِ حُرْمَةِ الْفِعْلِ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ حُرْمَتِهِ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ اللَّحْمِ مُطْلَقًا، كَمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةَ الْغَيْرِ لَا بِإِذْنِهِ لَا يَصِيرُ لَهَا حُكْمُ الْمَيْتَةِ مَعَ حُرْمَةِ الْفِعْلِ فَيُقَالُ: وَهَذَا فِعْلٌ حِسِّيٌّ مُحَرَّمٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ لِقُبْحٍ اُعْتُبِرَ فِي عَيْنِهِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَنَا فِي إضَافَةِ التَّحْرِيمِ إلَى الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ أَنَّهُ يُضَافُ الْقُبْحُ إلَى عَيْنِهَا؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ بِخِلَافِ الشَّرْعِيَّةِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا فِي ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ، وَنَعْنِي بِثُبُوتِ الْقُبْحِ لِذَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا ذُبِحَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ هُوَ أَنْ يَأْكُلَهُ كَوْنَ الشَّرْعِ اعْتَبَرَهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ عَبَثًا حَيْثُ أَخْرَجَ الذَّابِحَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَذْبُوحَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ فَصَارَ فِعْلًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَكَانَ عَبَثًا بِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ، كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ عَاقِلٌ بِذَبْحِ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُعَدُّ جُنُونًا أَوْ سُخْرِيَةً، بِخِلَافِ شَاةِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إخْرَاجُهَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ الذَّبْحِ شَرْعًا لِلْأَجْنَبِيِّ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا فَلَمْ يُعَدَّ عَبَثًا شَرْعًا.
وَإِذَا صَارَ ذَبْحُ الْمُحْرِمِ عَبَثًا شَرْعًا صَارَ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ فَلَا يُفِيدُ حُكْمَ الْحِلِّ فِيمَا كَانَ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ: أَعْنِي الصَّيْدَ قَبْلَ ذَبْحِهِ. بَقِيَ دَلِيلُ الْإِخْرَاجَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} يُفِيدُهُمَا وقَوْله تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يُفِيدُ إخْرَاجَ الْمُحْرِمِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الذَّبْحِ فَقَطْ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الْعَيْنِ وَهِيَ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ تُضَافَ الْأَحْكَامُ إلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى الْعَيْنِ كَانَ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُرْمَةِ بِالْأَصَالَةِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ نَفْسَ هَذَا الْعَيْنِ حَرَامًا وَنَفْسُ الْحَرَامِ لَا يَقْتَرِبُ مِنْهُ فَكَانَ مَنْعًا عَنْ الِاقْتِرَابِ مِنْهُ نَفْسِهِ، وَهَذَا إخْرَاجُهُ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ.
وَلَوْ قُلْنَا إنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْعَيْنِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَجَازًا عَقْلِيًّا لَمْ يَضُرَّنَا، إذْ الْعُدُولُ عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الْفِعْلِ إلَى إضَافَتِهِ إلَى نَفْسِ الْعَيْنِ سَبَبُهُ مَا قُلْنَا. وَأَفَادَ الثَّانِي أَنَّ التَّحْرِيمَ بِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الذَّابِحِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ فَأَوْجَبَ إخْرَاجَهُ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْإِحْرَامُ هُوَ السَّبَبُ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا عَلَى التَّحْقِيقِ فَلِذَا قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ وَالذَّابِحَ
(فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَقَالَا: لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ مَيْتَةٌ فَلَا يَلْزَمُ بِأَكْلِهَا إلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَكَلَهُ مُحْرِمٌ غَيْرُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ حُرْمَتَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَيْتَةً كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَحْظُورُ إحْرَامِهِ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الصَّيْدَ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ وَالذَّابِحَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّكَاةِ فَصَارَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى إحْرَامِهِ بِخِلَافِ مُحْرِمٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ.
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ لَحْمَ صَيْدٍ اصْطَادَهُ حَلَالٌ وَذَبَحَهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ الْمُحْرِمُ عَلَيْهِ، وَلَا أَمَرَهُ بِصَيْدِهِ) خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله فِيمَا إذَا اصْطَادَهُ؛ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ.
عَنْ الْأَهْلِيَّةِ (قَوْلُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) يَعْنِي سَوَاءٌ أَدَّى ضَمَانَ الْمَذْبُوحِ قَبْلَ الْأَكْلِ أَوْ لَا، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَدَّى قَبْلَهُ ضَمِنَ مَا أَكَلَ عَلَى حِدَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَإِنْ كَانَ أَكَلَ قَبْلَهُ دَخَلَ ضَمَانُ مَا أَكَلَ فِي ضَمَانِ الصَّيْدِ فَلَا يَجِبُ لَهُ شَيْءٌ بِانْفِرَادِهِ.
وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: لَا رِوَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ آخَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَتَدَاخَلَانِ، وَسَوَاءٌ تَوَلَّى صَيْدَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ أَوْ يُطْعِمَ كِلَابَهُ فِي لُزُومِ قِيمَةِ مَا أَطْعَمَ؛ لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِمَحْظُورِ إحْرَامِهِ (قَوْلُهُ فَصَارَتْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ مَيْتَةٌ وَكَوْنُهُ مَيْتَةً بِوَاسِطَةِ خُرُوجِهِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَالصَّيْدِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ وَثُبُوتِهِمَا مَعًا بِوَاسِطَةِ الْإِحْرَامِ، فَكَانَ الْأَكْلُ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ بِوَاسِطَةٍ، وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ خُصُوصًا وَهَذِهِ حُرْمَةٌ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَرْعِ الْكَفَّارَةِ مَعَ الْعُذْرِ فَيَجِبُ بِهِ الْجَزَاءُ، وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ اسْتَغْنَى الشَّيْخُ عَنْ إيرَادِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا لَوْ أَكَلَ الْحَلَالُ مِنْ لَحْمٍ ذَبَحَهُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ بَعْدَ أَدَاءِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَرَمِ بَلْ تَفْوِيتُهُ الْأَمْنَ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِحُلُولِهِ فِي الْحَرَمِ فَقَطْ وَقَدْ ضَمِنَهُ إذْ فَوَّتَهُ فَكَانَ حُرْمَتُهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً فَقَطْ. وَعَنْ هَذَا مَا فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ: لَوْ شَوَى الْمُحْرِمُ بَيْضَ صَيْدٍ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَلِلْحَلَالِ أَكْلُهُ، وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَاعَهُ جَازَ وَيَجْعَلُ ثَمَنَهُ فِي الْفِدَاءِ إنْ شَاءَ، وَكَذَا شَجَرُ الْحَرَمِ وَاللَّبَنُ، وَكَذَا لَوْ شَوَى جَرَادًا أَوْ بَيْضًا ضَمِنَهُ، ثُمَّ إنْ أَكَلَهُ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْرُمُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ.
(قَوْلُهُ: خِلَافًا لِمَالِكٍ فِيمَا إذَا اصْطَادَهُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ) يَعْنِي بِغَيْرِ أَمْرِهِ،
لَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ صَيْدٍ مَا لَمْ يَصِدْهُ أَوْ يُصَدْ لَهُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم تَذَاكَرُوا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا بَأْسَ بِهِ» وَاللَّامُ فِيمَا رُوِيَ لَامُ تَمْلِيكٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ إلَيْهِ الصَّيْدُ دُونَ اللَّحْمِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنْ يُصَادَ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ شُرِطَ عَدَمُ الدَّلَالَةِ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ مُحَرَّمَةٌ،
أَمَّا إذَا اصْطَادَ الْحَلَالُ لِمُحْرِمٍ صَيْدًا بِأَمْرِهِ اُخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَنَا، فَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ تَحْرِيمَهُ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: لَا يَحْرُمُ. قَالَ الْقُدُورِيُّ: هَذَا غَلَطٌ وَاعْتَمَدَ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ. (قَوْلُهُ: لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام) الْحَدِيثُ عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ «لَحْمُ الصَّيْدِ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ» هَكَذَا بِالْأَلِفِ فِي يُصَادَ، فَعَارَضَهُ الْمُصَنِّفُ ثُمَّ أَوَّلَهُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ.
أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِيمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: «تَذَاكَرْنَا لَحْمَ الصَّيْدِ يَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَائِمٌ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: فِيمَ تَتَنَازَعُونَ؟ فَقُلْنَا: فِي لَحْمِ الصَّيْدِ أَيَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ؟ فَأَمَرَنَا بِأَكْلِهِ» أَخْرَجَهُ فِي الْآثَارِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ خُسْرو الْبَلْخِيّ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّام قَالَ: «كُنَّا نَحْمِلُ الصَّيْدَ صَفِيفًا وَكُنَّا نَتَزَوَّدُهُ وَنَأْكُلُهُ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَاخْتَصَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَبِوَجْهَيْنِ، كَوْنُ اللَّامِ لِلْمِلْكِ وَالْمَعْنَى أَنْ يُصْطَادَ وَيُجْعَلَ لَهُ فَيَكُونُ تَمْلِيكُ عَيْنِ الصَّيْدِ مِنْ الْمُحْرِمِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ فَيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ، وَالْحَمْلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُصَادَ بِأَمْرِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ بِطَلَبٍ مِنْهُ فَلْيَكُنْ مَحْمَلُهُ هَذَا دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ. وَقَدْ يُقَالُ: الْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُحْكَمَ هُنَا بِالْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ طَلْحَةَ
قَالُوا: فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَوَجْهُ الْحُرْمَةِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
(وَفِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ قِيمَتُهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ)؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ.
فَأَمَرَنَا بِأَكْلِهِ " مُقَيَّدٌ عِنْدَنَا بِمَا إذَا لَمْ يَدُلَّهُ الْمُحْرِمُ وَلَا أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْمُصَنِّفِ إعْمَالًا لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، فَيَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِمَا إذَا لَمْ يُصَدْ لِلْمُحْرِمِ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ لِدُخُولِ الظَّنِّيَّةِ فِي دَلَالَتِهِ.
وَحَدِيثُ الزُّبَيْرِ حَاصِلُهُ نَقْلُ وَقَائِعِ أَحْوَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَيَجُوزُ كَوْنُ مَا كَانُوا يَحْمِلُونَهُ مِنْ لُحُومِ الصَّيْدِ لِلتَّزَوُّدِ مِمَّا لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِينَ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَزَوَّدُونَهُ مِنْ الْحَضَرِ ظَاهِرًا، وَالْإِحْرَامُ بَعْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْمِيقَاتِ، فَالْأَوْلَى بِهِ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَصْلِ الْمَطْلُوبِ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُجِبْ بِحِلِّهِ لَهُمْ حَتَّى سَأَلَهُمْ عَنْ مَوَانِعِ الْحِلِّ أَكَانَتْ مَوْجُودَةً أَمْ لَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ قَالُوا لَا، قَالَ: فَكُلُوا إذًا» فَلَوْ كَانَ مِنْ الْمَوَانِعِ أَنْ يُصَادَ لَهُمْ لَنَظَمَهُ فِي سِلْكِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنْهَا فِي التَّفَحُّصِ عَنْ الْمَوَانِعِ لِيُجِيبَ بِالْحُكْمِ عِنْدَ خُلُوِّهِ عَنْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى كَالصَّرِيحِ فِي نَفْيِ كَوْنِ الِاصْطِيَادِ لِلْمُحْرِمِ مَانِعًا فَيُعَارِضُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ لِقُوَّةِ ثُبُوتِهِ، إذْ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، بِخِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ قِيلَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لَحْمُ الصَّيْدِ إلَخْ انْقِطَاعٌ؛ لِأَنَّ الْمُطَّلِبَ بْنَ حَنْطَبٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَابِرٍ عِنْدَ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَكَذَا فِي رِجَالِهِ مَنْ فِيهِ لِينٌ. وَبَعْدَ ثُبُوتِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّأْوِيلِ هَذَا.
وَيُعَارِضُ الْكُلَّ حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ فِي مُسْلِمٍ «أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَحْمَ حِمَارٍ، وَفِي لَفْظٍ: رِجْلَ حِمَارٍ، وَفِي لَفْظٍ: عَجُزَ حِمَارٍ، وَفِي لَفْظٍ: شِقَّ حِمَارٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» فَإِنَّهُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ صِيدَ لَهُ أَوْ بِأَمْرِهِ أَوْ لَا، وَهُوَ مَذْهَبٌ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم، أَخْرَجَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله حَدِيثُ مَالِكٍ وَهُوَ أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ حِمَارًا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَهْدَى لَهُ مِنْ لَحْمِ حِمَارٍ: يَعْنِي فَيَكُونُ رَدُّهُ امْتِنَاعُ تَمَلُّكِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ مَنْعٌ بِأَنَّ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوَّلَ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى الْبَعْضِيَّةِ. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ رِجْلِ حِمَارٍ وَعَجُزِهِ وَشِقِّهِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، إذْ يَنْدَفِعُ بِإِرَادَةِ رِجْلٍ مَعَهَا الْفَخِذُ وَبَعْضُ جَانِبِ الذَّبِيحَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ رِوَايَةِ أَهْدَى حِمَارًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِتَعَيُّنِهِ لِامْتِنَاعِ عَكْسِهِ، إذْ إطْلَاقُ الرِّجْلِ عَلَى كُلِّ الْحَيَوَانِ غَيْرُ مَعْهُودٍ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى زَيْدٍ أُصْبُعٌ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ شَرْطَ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ التَّلَازُمُ كَالرَّقَبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالرَّأْسِ فَإِنَّهُ لَا إنْسَانَ دُونَهُمَا، بِخِلَافِ نَحْوِ الرِّجْلِ وَالظُّفُرِ. وَأَمَّا إطْلَاقُ الْعَيْنِ عَلَى الرَّبِيئَةِ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنْسَانٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَقِيبٌ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِلَا عَيْنٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي التَّحْقِيقَاتِ، أَوْ هُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ كَمَا عَدَّهُ لِأَكْثَرَ مِنْهَا.
ثُمَّ إنَّ فِي هَذَا الْحَمْلِ تَرْجِيحًا لِلْأَكْثَرِ أَوْ نَحْكُمُ بِغَلَطِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ رَجَعَ عَنْهَا تَبَيُّنًا لِغَلَطِهِ. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: كَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ: «أَهْدَيْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ» ، وَرُبَّمَا قَالَ: يَقْطُرُ دَمًا، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَكَانَ فِيمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خَلَا: قَالَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ، ثُمَّ صَارَ إلَى لَحْمٍ حَتَّى مَاتَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ وَثَبَاتِهِ عَلَى مَا رَجَعَ إلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِتَبَيُّنِهِ غَلَطَهُ أَوَّلًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَهُ لَحْمًا فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. اهـ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ التَّعْلِيلَ مَا وَقَعَ إلَّا بِالْإِحْرَامِ، فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَقَالَ بِأَنَّك صِدْتَهُ لِأَجْلِي. قُلْنَا: كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ. يَعْنِي عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ صِيدَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ مُعَلِّلًا بِالْإِحْرَامِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ أَكْلِ مَا صِيدَ لِلْمُحْرِمِ، وَبِهِ يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ الصَّعْبِ وَحَدِيثَيْ أَبِي قَتَادَةَ وَجَابِرٍ السَّابِقِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ.
أَمَّا عَلَى رَأْيِنَا وَهُوَ إبَاحَتُهُ بِغَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ فَلَا يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، فَإِنَّا قُلْنَا: إنَّهُ يُفِيدُ عَدَمَ اشْتِرَاطِ أَنْ لَا يُصَادَ؛ لِأَجْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ حُمِلَ حَدِيثُ الصَّعْبِ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ؛ لِأَجْلِهِ تَعَارَضَا فَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ فَيَتَرَجَّحُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ بِعَدَمِ اضْطِرَابِهِ أَصْلًا، بِخِلَافِ حَدِيثِ الصَّعْبِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ:«إنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَكَلَ مِنْهُ» . رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَجُزَ حِمَارٍ وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ الْقَوْمُ» وَمَا قِيلَ هَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ، فَإِنَّ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا إلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، أَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُجْمَعَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ الَّذِي تَعَرَّضَتْ لَهُ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ لَيْسَ سِوَى أَنَّهُ رَدَّهُ، وَعَلَّلَ بِالْإِحْرَامِ، ثُمَّ سَكَتَ الْكُلُّ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لَمَّا رَدَّهُ مُعَلِّلًا بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صِيدَ لِأَجْلِهِ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَصِدْهُ لِأَجْلِهِ فَقَبِلَهُ بَعْدَ الرَّدِّ وَأَكَلَ مِنْهُ، وَهَذَا جَمْعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ عَدَمَ الِاصْطِيَادِ لِأَجْلِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْكُلِّ مَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَمَا ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَالَ: وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَكَأَنَّهُ رَدَّ الْحَيَّ وَقَبِلَ اللَّحْمَ. اهـ.
إلَّا أَنَّ هَذَا جَمْعٌ بِإِنْشَاءِ إشْكَالٍ آخَرَ وَهُوَ رَدُّ رِوَايَةِ أَنَّهُ رَدَّ اللَّحْمَ وَهِيَ بَعْدَ صِحَّتِهَا ثَبَتَ عَلَيْهَا الرَّاوِي وَرَجَعَ عَمَّا سِوَاهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنْ الْكُلِّ فِي رِوَايَةِ رَدِّ اللَّحْمِ وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اضْطِرَابٌ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَحَدِيثَ الصَّعْبِ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَيَكُونُ نَاسِخًا لِمَا قَبْلَهُ. قُلْنَا أَمَّا إنَّ حَدِيثَ الصَّعْبِ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَبَعْضُهُمْ وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِيهِ ثَبْتًا صَحِيحًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ قَالَ:«انْطَلَقْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ» فَسَاقَ الْحَدِيثَ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ وَقَالَ لَهُمْ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ» الْحَدِيثَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَكَانَ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ حَدِيثُ الْبَهْزِيِّ: أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّرِيرِ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ «وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» (وَلَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ)؛ لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ وَلَيْسَتْ بِكَفَّارَةٍ، فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجِبُ بِتَفْوِيتِ وَصْفٍ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْأَمْنُ وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ جَزَاءٌ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهِ وَهُوَ إحْرَامُهُ، وَالصَّوْمُ يُصْلِحُ جَزَاءَ الْأَفْعَالِ لَا ضَمَانَ الْمَحَالِّ. وَقَالَ زُفَرٌ: يُجْزِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِمَا وَجَبَ
بِبَعْضِ أَفْنَاءِ الرَّوْحَاءِ وَهُوَ مُحْرِمٌ إذَا حِمَارٌ مَعْقُورٌ فِيهِ سَهْمٌ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: دَعُوهُ فَيُوشِكُ صَاحِبُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ هُوَ الَّذِي عَقَرَ الْحِمَارَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ رَمْيَتِي فَشَأْنُكُمْ بِهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ.
(قَوْلُهُ: قَالَ صلى الله عليه وسلم) رَوَى السِّتَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ، ثُمَّ بَقِيَتْ حُرْمَتُهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام إلَّا الْإِذْخِرَ» وَالْخَلَى بِالْمُعْجَمَةِ مَقْصُورًا الْحَشِيشُ إذَا كَانَ رَطْبًا وَاخْتِلَاؤُهُ قَطْعُهُ. (قَوْلُهُ: وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إلَخْ) حَاصِلُ مَا هُنَا أَنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ ثَابِتَةٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ سَبَبَهَا فِي الْإِحْرَامِ وُجُوبُ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِهِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي حُرْمَةِ عِبَادَةِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِالْتِزَامِ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ حَالَ التَّلَبُّسِ بِهَا كَالدُّخُولِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَكَانَ حِكْمَةُ مَنْعِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ كَوْنَهُ يُهَيِّجُ النَّفْسَ إلَى حَالَةٍ تُنَافِي حَالَةَ الْإِحْرَامِ الَّتِي هِيَ التَّصَوُّرُ بِصُورَةِ الْمَوْتِ وَالْفَاقَةِ فَإِنَّ فِيهِ ضَرَاوَةً، وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ ضَرَاعَةٌ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهَا أَكْثَرَ مِنْ ظُهُورِهِ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، أَلَا تَرَى إلَى كَشْفِ الرَّأْسِ وَالتَّلَفُّفِ بِثِيَابِ الْمَوْتِ فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ جَنَى عَلَى الْعِبَادَةِ حَيْثُ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُوجِبِهَا وَجَبَرَ الْعِبَادَةَ الْمَحْضَةَ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ فَدَخَلَهُ الصَّوْمُ. وَأَمَّا فِي الْحَرَمِ فَسَبَبُهَا إبْقَاءُ أَمْنِهِ الْحَاصِلِ لَهُ شَرْعًا بِسَبَبِ الْإِيوَاءِ إلَى حِمَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا فَوَّتَهُ وَجَبَ الْجَزَاءُ؛ لِتَفْوِيتِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْكَائِنِ فِي الْمَحَلِّ لَا لِجِنَايَةٍ عَلَى عِبَادَةٍ تَلَبَّسَ بِهَا وَالْتَزَمَهَا بِعَقْدٍ خَاصٍّ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِهَا فَلَا يَدْخُلُ الصَّوْمُ فِيهِ كَتَفْوِيتِ أَمْنٍ كَائِنٍ لِمَمْلُوكِ رَجُلٍ فِي مَالِهِ لِاسْتِهْلَاكِهِ لَا يَكُونُ بِصَوْمٍ وَنَحْوِهِ بَلْ جَبْرُ الْأَمْنِ الْفَائِتِ بِإِثْبَاتِ أَمْنٍ لِلْفَقِيرِ عَنْ بَعْضِ الْحَاجَاتِ أَنْسَبُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَجْبُورِ، وَعَلَى وَفْقِ هَذَا وَقَعَ فِي الشَّرْعِ، إلَّا أَنَّ مُسْتَحِقَّ هَذَا
عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْفَرْقُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَهَلْ يَجْزِيهِ الْهَدْيُ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
الضَّمَانَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ.
فَتَجَاذَبَهُ أَصْلَانِ: شِبْهُ الْغَرَامَاتِ اللَّازِمَةِ لِتَفْوِيتِ الْمَحَالِّ، وَكَوْنُهُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَرَتَّبْنَا عَلَى كُلِّ وَجْهٍ مُقْتَضَاهُ مُحْتَاطِينَ فِي التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فَقُلْنَا: لَا يَدْخُلُهُ الصَّوْمُ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ ضَمَانُ مَحَلٍّ. وَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّبِيِّ لَوْ قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ. وَلَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ حَلَالٌ فِي يَدِ حَلَالٍ صَادَهُ مِنْ الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانٌ كَامِلٌ لِتَفْوِيتِ كُلِّ الْأَمْنِ الْوَاحِدِ الثَّابِتِ لِلصَّيْدِ، أَحَدُهُمَا بِالْأَخْذِ، وَالثَّانِي بِالْقَتْلِ بَعْدَمَا كَانَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يُطْلِقَهُ، وَفِي مِثْلَيْهِمَا مِنْ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْآخِذِ. وَاتَّفَقُوا هُنَا عَلَى رُجُوعِ الْآخِذِ عَلَى الْقَاتِلِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِحْرَامِ يَقُولُ يَرْجِعُ الْآخِذُ عَلَى الْقَاتِلِ مَعَ جِنَايَةٍ لَيْسَ ضَمَانَ مَحَلٍّ فَهُنَا أَوْلَى، وَهُمَا مَنَعَا الرُّجُوعَ هُنَاكَ وَأَثْبَتَاهُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَحَلٍّ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي ضَمَانِ الْمَحَلِّ يَرْجِعُ عَلَى مَنْ يُقَرِّرُ الضَّمَانَ. وَإِذَا تَأَمَّلْت رَأَيْت خُصُوصَ الِاعْتِبَارِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذِهِ بِجِهَةٍ دُونَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ فِيهَا فَتَأَمَّلْ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى تَرْشُدْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ يَدْخُلُ جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ، فَلَوْ قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدَ الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ عَلَى وَفْقِ جَزَائِهِ لِلْإِحْرَامِ خَاصَّةً. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الثَّابِتَ هُنَا حَقٌّ وَاحِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ ارْتِكَابِهِ حُرْمَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُتَحَقِّقَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ قَتْلَهُ وَوَضَعَ لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ سَبَبَيْنِ: حُلُولَهُ فِي الْحَرَمِ، وَوُجُودَ الْإِحْرَامِ، فَأَيُّهُمَا وُجِدَ اسْتَقَلَّ بِإِثَارَةِ الْحُرْمَةِ، فَإِذَا وُجِدَا مَعًا وَهُوَ الْإِحْرَامُ فِي الْحَرَمِ لَمْ يَتَحَقَّقْ سِوَى تِلْكَ الْحُرْمَةِ، وَثُبُوتُ الْأَمْنِ إنَّمَا هُوَ عَنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ وَعَلِمْت أَنَّهَا حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ فَهَهُنَا أَمْرٌ وَاحِدٌ عَنْ حُرْمَةٍ وَاحِدَةٍ فُوِّتَتْ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ الْكَائِنِ بِالْقَتْلِ حَالَ كَوْنِهَا عَنْ سَبَبِ الْإِحْرَامِ جَزَاءً يَدْخُلُهُ الصَّوْمُ وَدَلَّ النَّظَرُ السَّابِقُ حَالَ كَوْنِهَا عَنْ حُلُولِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ عَلَى وُجُوبِ جَزَاءٍ لَا يَدْخُلُهُ، فَإِذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ عَنْ السَّبَبَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ ثُمَّ اُنْتُهِكَتْ بِالْقَتْلِ فِيهِ تَعَذَّرَ فِي الْجَزَاءِ اللَّازِمِ اعْتِبَارُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَلَزِمَ اعْتِبَارُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَرَأَيْنَا اعْتِبَارَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ مَعَ الْإِحْرَامِ هُوَ الْوَجْهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى السَّبَبَيْنِ فَقُلْنَا بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ، قَالَ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} بِخِلَافِ الْكَوْنِ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ النُّصُوصَ إنَّمَا أَفَادَتْ سَبَبِيَّتَهُ لِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِلُزُومِ الْجَزَاءِ ذَاكَ التَّصْرِيحَ فَظَهَرَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَفْوِيتُ أَمْنٍ مُسْتَحَقٍّ كَالْقَتْلِ فِي الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ: أَعْنِي عَلَى وَجْهٍ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ وَعَلَيْهِ تَرْدِيدٌ نُورِدُهُ فِي جِنَايَةِ الْقَارِنِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ: وَهَلْ يُجْزِيهِ الْهَدْيُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ) فِي رِوَايَةٍ لَا فَلَا يَتَأَدَّى بِالْإِرَاقَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّصَدُّقِ بِلَحْمِهِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ لَا إذَا كَانَ دُونَهُ، وَلِذَا لَوْ سُرِقَ الْمَذْبُوحُ وَجَبَ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْإِرَاقَةِ فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ. وَفِي أُخْرَى يَتَأَدَّى فَتَكُونُ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى عَكْسِهَا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ قِيمَةِ الْهَدْيِ قَبْلَ الذَّبْحِ قِيمَةَ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْهَدْيُ مَالٌ يُجْعَلُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ طَرِيقٌ صَالِحٌ شَرْعًا لِجَعْلِ الْمَالِ
(وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ فِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّهُ يَقُولُ: حَقُّ الشَّرْعِ لَا يَظْهَرُ فِي مَمْلُوكِ الْعَبْدِ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ إذْ صَارَ هُوَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ فَاسْتَحَقَّ الْأَمْنَ لِمَا رَوَيْنَا (فَإِنْ بَاعَهُ رَدَّ الْبَيْعَ فِيهِ إنْ كَانَ قَائِمًا)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ وَذَلِكَ حَرَامٌ (وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ)؛ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ بِتَفْوِيتِ الْأَمْنِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ (وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ) لِمَا قُلْنَا.
لَهُ خَالِصًا كَالتَّصَدُّقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَحِّيَ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ خَالِصَةً لَهُ سُبْحَانَهُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ) أَيْ وَهُوَ حَلَالٌ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْرِمًا وَجَبَ إرْسَالُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ اتِّفَاقًا. (قَوْلُهُ: خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) قَاسَهُ عَلَى الِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَرْفَعُهُ، حَتَّى إذَا ثَبَتَ حَالُ الْكُفْرِ ثُمَّ طَرَأَ الْإِسْلَامُ لَا يَرْتَفِعُ، عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ حَقَّ الشَّرْعِ لَا يَظْهَرُ فِي مَمْلُوكِ الْعَبْدِ بَعْدَ تَقَرُّرِ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ تَفَضُّلًا مِنْهُ تَعَالَى لِحَاجَةِ الْعَبْدِ وَغِنَاهُ: وَهَذَا كَذَلِكَ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَحَاصِلُهُ تَقْرِيرُ الْجَامِعِ وَتَرْكُ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَتَلْخِيصُهُ مَمْلُوكٌ لِلْعَبْدِ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحَقَّقَ كَالِاسْتِرْقَاقِ، وَلَك فِي اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ أَنْ تَجْعَلَهُ مِلْكَ الصَّيْدِ عَلَى الِاسْتِرْقَاقِ أَوْ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَرْقُوقِ. (قَوْلُهُ: وَلَنَا إلَخْ) حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالنَّصِّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ.
تَقْرِيرُهُ: هَذَا صَيْدُ الْحَرَمِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لَهُ بِالنَّصِّ فَهَذَا لَا يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لَهُ بِالنَّصِّ. أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهُ لَيْسَ يُرَادُ بِصَيْدِ الْحَرَمِ إلَّا مَا كَانَ حَالًّا فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِإِطْلَاقِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مِنْ السُّنَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الرِّقِّ بَلْ ثَبَتَ شَرْعًا بَقَاؤُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَلْ عَدَّاهُ إلَى أَوْلَادِ الْإِمَاءِ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ الزَّوْجُ بِالْكُفْرِ قَطُّ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ سِرِّ هَذَا الْفَرْقِ التَّغْلِيظَ عَلَى مَنْ أُمِرَ فَخَالَفَ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ حُكْمُ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُخَالِفْ، وَهُوَ الصَّيْدُ (قَوْلُهُ: فَإِنْ بَاعَهُ) يَعْنِي بَعْدَمَا أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ (رُدَّ الْبَيْعُ فِيهِ إنْ كَانَ قَائِمًا) وَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ هَالِكًا سَوَاءٌ بَاعَهُ فِي الْحَرَمِ أَوْ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْإِدْخَالِ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ فَلَا يَحِلُّ إخْرَاجُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ تَبَايَعَ الْحَلَالَانِ وَهُمَا فِي الْحَرَمِ الصَّيْدَ وَهُوَ فِي الْحِلِّ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَعَرُّضٍ يَتَّصِلُ بِهِ بِسَاحِلٍ حُكْمًا، وَلَيْسَ هُوَ بِأَبْلَغَ مِنْ أَمْرِهِ بِذَبْحِ هَذَا الصَّيْدِ،
(وَمَنْ أَحْرَمَ وَفِي بَيْتِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ صَيْدٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ بِإِمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ. وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ صُيُودٌ وَدَوَاجِنُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ إرْسَالُهَا، وَبِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَّةُ وَهِيَ مِنْ إحْدَى الْحُجَجِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَعَرِّضٍ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالْبَيْتِ وَالْقَفَصِ لَا بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي مِلْكِهِ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ فِي مَفَازَةٍ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ. وَقِيلَ: إذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ.
قَالَ (فَإِنْ أَصَابَ حَلَالٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ غَيْرُهُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ)؛ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنْ الْمُنْكَرِ وَ {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وَلَهُ أَنَّهُ مَلَكَ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ مِلْكًا مُحْتَرَمًا فَلَا يَبْطُلُ احْتِرَامُهُ بِإِحْرَامِهِ وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمُرْسِلُ فَيَضْمَنُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَاهُ مِنْ الْحَرَمِ لِلِاتِّصَالِ الْحِسِّيِّ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ أَحْرَمَ وَفِي بَيْتِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ) قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَجَبَ الْإِرْسَالُ اتِّفَاقًا، وَلَوْ هَلَكَ وَهُوَ فِي يَدِهِ وَجَبَ الْجَزَاءُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لَهُ لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِعَدَمِ تَرْكِهِ. فَلِذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ أَوْ لَا بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الصَّيْدِ فِي يَدِهِ بِكَوْنِ الْقَفَصِ فِيهَا وَلِهَذَا يَصِيرُ غَاصِبًا لَهُ بِغَصْبِ الْقَفَصِ أَوْ لَيْسَ فِيهَا بَلْ بِكَوْنِ الْقَفَصِ فِيهَا، وَلِذَا جَازَ لِلْمُحَدِّثِ أَخْذُ الْمُصْحَفِ بِغِلَافِهِ. (قَوْلُهُ وَبِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَةُ) مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ إلَى الْآنَ، وَهُمْ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ حَمَامٌ فِي أَبْرَاجٍ وَعِنْدَهُمْ دَوَاجِنُ وَالطُّيُورُ لَا يُطْلِقُونَهَا. (وَهِيَ إحْدَى الْحُجَجِ) فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اسْتِبْقَاءَهَا فِي الْمِلْكِ مَحْفُوظَةٌ بِغَيْرِ الْيَدِ لَيْسَ هُوَ التَّعَرُّضُ الْمُمْتَنِعُ. (قَوْلُهُ: وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ) أَيْ لَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْمِلْكِ جِنَايَةً عَلَى الصَّيْدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِرْسَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إخْرَاجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَمْلِيكَهُ وَالْعَادَةُ الْفَاشِيَةُ تَنْفِيهِ.
(قَوْلُهُ: وَلَهُ أَنَّهُ مَلَكَ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ حَلَالًا مِلْكًا مُحْتَرَمًا) حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَأَرْسَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ فِي يَدِ شَخْصٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَرْسَلَهُ عَنْ اخْتِيَارٍ. كَذَا عَلَّلَ التُّمُرْتَاشِيُّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ يَكُونُ إبَاحَةً، أَمَّا لَوْ كَانَ صَادَهُ فِي إحْرَامِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ ثُمَّ حَلَّ فَوَجَدَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَهُ بِالْأَخْذِ فِي الْإِحْرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ، فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ عَنْهُ كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَنَظِيرُهُ الِاخْتِلَافُ فِي كَسْرِ الْمَعَازِفِ.
(وَإِنْ أَصَابَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَأَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ غَيْرُهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ، فَإِنَّ الصَّيْدَ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى الْخَمْرَ (فَإِنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاؤُهُ)؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ، وَالْقَاتِلُ مُقَرِّرٌ لِذَلِكَ، وَالتَّقْرِيرُ كَالِابْتِدَاءِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا (وَيَرْجِعُ الْآخِذُ عَلَى الْقَاتِلِ) وَقَالَ زُفَرٌ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مُؤَاخَذٌ بِصُنْعِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْآخِذَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْهَلَاكِ بِهِ، فَهُوَ بِالْقَتْلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخِذِ عِلَّةً فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُحَالُ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا الْمُرْسِلُ آمِرٌ بِمَعْرُوفٍ. فَأَجَابَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَجِبُ الْأَمْرُ بِهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِتَفْوِيتِ يَدِهِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا مُطْلَقِ يَدِهِ، فَإِنْ ادَّعَيَا الثَّانِيَ مَنَعْنَاهُ، أَوْ الْأَوَّلَ سَلَّمْنَاهُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِرْسَالِهِ وَلَوْ فِي قَفَصٍ.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَتْلُ) وَالْمُتَوَجَّهُ قَبْلَ قَتْلِهِ خِطَابُ إرْسَالِهِ وَتَخْلِيَتِهِ (فَهُوَ بِالْقَتْلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخِذِ عِلَّةً فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُحَالُ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ) وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْ بِهَذَا الْقَتْلِ يَدًا مُحْتَرَمَةً وَلَا مِلْكًا فَإِنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهِمَا ضَمَانٌ يَجِبُ لِذِي الْيَدِ وَالْمِلْكِ ابْتِدَاءً بَدَلَ مِلْكِهِ وَيَدِهِ، وَهُنَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الرُّجُوعُ بِمَا غَرِمَهُ؛ لِكَوْنِهِ السَّبَبَ فِيهِ فَإِنَّهُ مَنُوطٌ بِتَفْوِيتِهِ يَدًا مُعْتَبَرَةً، كَمَا فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ، إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِ غَاصِبِهِ فَأَدَّى الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ، وَهُنَا قَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ فَوَّتَ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ التَّمْكِينِ بِهَا مِنْ إسْقَاطِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِرْسَالِ وَدَفَعَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ فَهُوَ مُوَرِّطُهُ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا وَجَبَ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى شُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا فَالرُّجُوعُ هُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ قَرَّرُوا مَا كَانَ مُتَوَهَّمَ السُّقُوطِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ بِاخْتِيَارِهِ.
وَالْقَاتِلُ هُنَا هُوَ الَّذِي حَقَّقَ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَوَهَّمُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ بِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَخْذِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِرْسَالِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَتْلُ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مُبَاشَرَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ لَيْسَ عِلَّةَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ الْقَتْلُ، وَالْأَخْذُ لَيْسَ عِلَّةً لِلْقَتْلِ وَلَا جُزْءَ عِلَّةٍ وَلَا سَبَبًا، بَلْ الْقَتْلُ
(فَإِنْ قَطَعَ حَشِيشَ الْحَرَمِ أَوْ شَجَرَةً لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا فِيمَا جَفَّ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا ثَبَتَتْ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام
مُسْتَقِلٌّ بِسَبَبِيَّةِ إيجَابِ الْجَزَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لَوْ رَمَاهُ مِنْ بَعِيدٍ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ فَالْأَخْذُ قَدْ يَكُونُ شَرْطًا حِسِّيًّا لِلْقَتْلِ وَقَدْ لَا يَكُونُ، إلَّا أَنَّ مُبَاشَرَةَ الشَّرْطِ فِي الْإِتْلَافِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِلْوُقُوعِ وَالْعِلَّةُ ثِقَلُ الْوَاقِعِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَسْقُطُ سُؤَالَانِ: كَيْفَ يَرْجِعُ وَلَمْ يُفَوِّتْ يَدًا مُحْتَرَمَةً وَلَا مِلْكًا؟. وَأَيْضًا أَنَّ الشَّيْءَ إذَا خَرَجَ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْمِلْكِ لَا يَضْمَنُ مُسْتَهْلِكُهُ وَإِنْ جَنَى مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ إذَا غَصَبَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ فَاسْتَهْلَكَهُ مُسْلِمٌ آخَرُ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ الْآخِذُ لِلذِّمِّيِّ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ؟. فَالْجَوَابُ أَنَّ اتِّحَادَ اعْتِقَادِ سُقُوطِ تَقَوُّمِهَا مَنَعَ مِنْ رُجُوعِ الْمُسْلِمِ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَهْلِكِ. هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ فِي النِّهَايَةِ كَيْفَ يَرْجِعُ وَهُوَ قَدْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ تُخْرَجُ بِالصَّوْمِ وَهُوَ إنَّمَا يَرْجِعُ بِضَمَانٍ يَحْبِسُهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا لَزِمَهُ؟.
وَأَجَابَ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّفَاوُتِ لَا يُمْنَعُ كَالْأَبِ إذَا غَصَبَ مُدَبَّرَ ابْنِهِ فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ فَضَمَّنَ الِابْنُ أَبَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ. وَلِلْأَبِ أَنْ يَحْبِسَ مَنْ قَتَلَهُ فِي يَدِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ضَمَانٍ يُفْتِي بِهِ وَضَمَانٍ يُقْضَى بِهِ. فَإِنَّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ، بِخِلَافِ زَكَاةِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ لَهُ طَالِبٌ مُعَيَّنٌ يَكُونُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَا تَتَعَيَّنُ الْمُطَالَبَةُ. وَهَذَا قَدْ يُوهِمُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ وَإِنْ كَفَّرَ بِغَيْرِ الْمَالِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُنْتَقَى بِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ إذَا كَفَّرَ بِالْمَالِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقَاتِلِ صَبِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا فِي ثُبُوتِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ.
وَأَصْلُ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا أَنَّ تَفْوِيتَ الْأَمْنِ عَلَى الصَّيْدِ يُوجِبُ الْجَزَاءَ، وَالْأَمْنُ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِإِحْرَامِ الصَّائِدِ أَوْ دُخُولِهِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ. أَوْ دُخُولِ الصَّيْدِ فِيهِ. وَأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ التَّفْوِيتُ لَا يَبْرَأُ بِالشَّكِّ فَلِذَا قُلْنَا: يَجِبُ الْجَزَاءُ فِي إرْسَالِ الْحَلَالِ الصَّيْدَ فِي أَرْضِ الْحِلِّ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ، وَبِإِرْسَالِ الْمُحْرِمِ إيَّاهُ فِي جَوْفِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ بِهَذَا الْإِرْسَالِ مُمْتَنِعًا ظَاهِرًا، وَلِذَا لَوْ أَخَذَهُ إنْسَانٌ حَلَالٌ كُرِهَ أَكْلُهُ اهـ.
(قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ) جَعَلَهُ
«لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا» وَلَا يَكُونُ لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْقِيمَةِ مَدْخَلٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ لَا بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمَحَالِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَإِذَا أَدَّاهَا مَلَكَهُ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ شَرْعًا، فَلَوْ أُطْلِقَ لَهُ فِي بَيْعِهِ لَتَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى مِثْلِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ، وَالْفَرْقُ مَا نَذْكُرُهُ. وَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً عَرَفْنَاهُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ لِلْأَمْنِ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ الْمَنْسُوبَ إلَى الْحَرَمِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ عَلَى الْكَمَالِ عِنْدَ عَدَمِ النِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ بِالْإِنْبَاتِ.
جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الصَّوْمُ. وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّابِتَ فِي الْحَرَمِ إمَّا إذْخِرٌ أَوْ غَيْرُهُ وَقَدْ جَفَّ أَوْ انْكَسَرَ أَوْ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا فَلَا شَيْءَ فِي الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ مَا لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ أَنْبَتَهُ النَّاسُ أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ لَا شَيْءَ فِيهِ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُسْتَنْبَتُ عَادَةً أَوْ لَا، وَالثَّانِي وَهُوَ مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ بَلْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُونَهُ أَوْ لَا، فَلَا شَيْءَ فِي الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي فِيهِ الْجَزَاءُ، فَمَا فِيهِ الْجَزَاءُ هُوَ مَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ وَلَا مُنْكَسِرًا وَلَا جَافًّا وَلَا إذْخِرًا. وَلَا بُدَّ فِي إخْرَاجِ مَا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْجَزَاءِ مِنْ دَلِيلٍ، فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ الْإِذْخِرَ خَرَجَ بِالنَّصِّ وَمَا أَنْبَتُوهُ بِقِسْمَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْجَافُّ وَالْمُنْكَسِرُ فَفِي مَعْنَاهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا الْبَابِ الشَّجَرُ وَالشَّوْكُ وَالْخَلَى. فَالْخَلَى وَالشَّجَرُ قَدَّمْنَاهُمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالشَّوْكُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، إلَى أَنْ قَالَ: لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا يُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا» الْحَدِيثَ. فَالْخَلَى هُوَ الرَّطْبُ مِنْ الْكَلَأِ، وَكَذَا الشَّجَرُ اسْمٌ لِلْقَائِمِ الَّذِي بِحَيْثُ يَنْمُو فَإِذَا جَفَّ فَهُوَ حَطَبٌ، وَالشَّوْكُ لَا يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ يُقَالُ عَلَى الرَّطْبِ وَالْجَافِّ فَلْيُحْمَلْ عَلَى أَحَدِ نَوْعَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ.
وَأَمَّا الَّذِي نَبَتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْبِتَهُ النَّاسُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُونَهُ فَلَا أَدْرِي مَا الْمَخْرَجُ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ عَلَّلَ إخْرَاجَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ بِأَنَّ إنْبَاتَهُمْ يَقْطَعُ كَمَالَ النِّسْبَةِ إلَى الْحَرَمِ. فَإِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ كَوْنَهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُونَهُ يَمْنَعُ كَمَالَ النِّسْبَةِ إلَيْهِ أُلْحِقَ بِمَا يُنْبِتُونَهُ، وَإِلَّا فَيَحْتَاجُ إلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا وَكُلُّ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ جَازَ إخْرَاجُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَحْجَارُ أَرْضِ الْحَرَمِ وَحَصَاهَا إلَّا أَنْ يُبَالِغَ فِي ذَلِكَ فَيَحْفِرَ كَثِيرًا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ أَوْ الدُّورِ فَيُمْنَعُ. (قَوْلُهُ: وَالْفَرْقُ مَا نَذْكُرُهُ) أَيْ الْفَرْقُ بَيْنَ نَبَاتِ الْحَرَمِ إذَا أَدَّى قِيمَتَهُ حَيْثُ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَيُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَبَيْنَ الصَّيْدِ
وَمَا لَا يَنْبُتُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ الْتَحَقَ بِمَا يَنْبُتُ عَادَةً.
وَلَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَى قَاطِعِهِ قِيمَتَانِ: قِيمَةٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ حَقًّا لِلشَّرْعِ، وَقِيمَةٌ أُخْرَى ضَمَانًا لِمَالِكِهِ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَرَمِ، وَمَا جَفَّ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ لَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَامٍ.
(وَلَا يُرْعَى حَشِيشُ الْحَرَمِ وَلَا يُقْطَعُ إلَّا الْإِذْخِرَ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً، فَإِنَّ مَنْعَ الدَّوَابِّ عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَالْقَطْعُ بِالْمَشَافِرِ كَالْقَطْعِ بِالْمَنَاجِلِ، وَحَمْلُ الْحَشِيشِ مِنْ الْحِلِّ مُمْكِنٌ فَلَا ضَرُورَةَ، بِخِلَافِ الْإِذْخِرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَجُوزُ
حَيْثُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَإِنْ أَدَّى ضَمَانَهُ مَا سَيَذْكُرُهُ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ إلَى آخِرِ مَا يَجِيءُ. (قَوْلُهُ: فَعَلَى قَاطِعِهِ قِيمَتَانِ) هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ تَمَلُّكُ أَرْضِ الْحَرَمِ بَلْ هِيَ سَوَائِبُ عِنْدَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام " لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا " أَيْ لَا يُقْطَعُ، خَلَاهُ وَاخْتَلَاهُ قَطَعَهُ وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا وَالْعَضْدُ: قَطْعُ الشَّجَرِ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ فَقَدْ مُنِعَ الْقَطْعُ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ بِالْمَنَاجِلِ أَوْ الْمَشَافِرِ فَلَا يَحِلُّ الرَّعْيُ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِحَمْلِ الْحَشِيشِ مِنْ الْحِلِّ، وَمِشْفَرُ كُلِّ شَيْءٍ
قَطْعُهُ وَرَعْيُهُ، وَبِخِلَافِ الْكَمْأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ النَّبَاتِ.
(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ دَمًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِحَجَّتِهِ وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: دَمٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا بِإِحْرَامَيْنِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ. قَالَ (إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِالْعُمْرَةِ أَوْ الْحَجِّ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ)
حَرْفُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ شَفْرَةُ السَّيْفِ حَدُّهُ، وَشَفِيرُ الْخَنْدَقِ وَالنَّهْرِ وَالْبِئْرِ حَرْفُهُ، وَمِشْفَرُ الْبَعِيرِ شَفَتُهُ. (قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ الْكَمْأَةِ)؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ النَّبَاتِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَظْهَرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْكَمْأَةُ تُخْلَقُ فِي بَاطِنِهَا لَا يَظْهَرُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَأَيْضًا لَا تَنْمُو وَلَوْ قُدِّرَ كَوْنُهَا نَبَاتًا كَانَتْ مِنْ الْجَافِّ.
(قَوْلُهُ: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ دَمًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ: دَمٌ لِحَجَّتِهِ، وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دَمٌ وَاحِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا بِإِحْرَامَيْنِ) فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ كَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ. وَأَوْرَدَ فَلِمَ لَمْ يَتَدَاخَلَا كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ فِيمَا إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدَ الْحَرَمِ إذْ كَانَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى مِنْ حُرْمَةِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حُرُمَاتٍ كَثِيرَةً غَيْرَ الصَّيْدِ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْحُرُمِ فَاسْتَتْبَعَتْ أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إذَا اجْتَمَعَ مُوجِبَانِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَى أَقْوَاهُمَا وَجُعِلَ الْآخَرُ تَبَعًا لَهُ كَالْعَدَمِ.
وَهَذَا كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ وَالْحَازِّ لِلرَّقَبَةِ مَعَ الْجَارِحِ. وَإِحْرَامُ الْحَجِّ مُسَاوٍ لِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا يَحْرُمُ بِهِ يَحْرُمُ بِالْآخَرِ فَلَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِتْبَاعُ فَيُجْعَلُ
خِلَافًا لِزُفَرٍ رحمه الله لَمَّا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ وَبِتَأْخِيرِ وَاجِبٍ وَاحِدٍ لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ.
(وَإِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
كُلٌّ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ جَرَحَ اثْنَانِ آخَرَ فَمَاتَ.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي دَفْعِ إيجَابِ الشَّافِعِيِّ الْبَدَنَةَ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ بَعْدَمَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ قِيَاسًا عَلَى وُجُوبِهَا إذَا جَامِع فِي الْحَجِّ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَمَنَعَ افْتِرَاضَهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ فَأَظْهَرَ التَّفَاوُتَ فِي الْأَجْزِيَةِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلَوْ اتَّحَدَ رُتْبَةُ إحْرَامَيْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَمْ يَصِحَّ مَا ذَكَرَهُ، وَإِذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ جَازَ الِاسْتِتْبَاعُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَى دَرَجَةِ عَدَمِ الْإِيجَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ مُوجِبَةٌ بِانْفِرَادِهَا مَا يُوجِبُهُ الْإِحْرَامُ، وَمَعَ ذَلِكَ ظَهَرَ التَّفَاوُتُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَوَقَعَ الِاسْتِتْبَاعُ، وَعِنْدَ هَذَا نُورِدُ مَا كُنَّا وَعَدْنَا، وَهُوَ إنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مُحْرِمٌ وَاقَعَ جِنَايَةً عَلَى الْإِحْرَامِ فَمُوجِبُ الْجَزَاءِ إنْ كَانَ نَفْسُ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْقَتْلِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَدَّدَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَدُّدَ فِي الْحُرْمَةِ بَلْ التَّعَدُّدُ فِي السَّبَبِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدَ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالْإِحْرَامُ مُتَعَدِّدٌ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ وَجَبَ التَّعَدُّدُ فِي قَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدَ الْحَرَمِ لِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ بِتَعَدُّدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ وَالْحَرَمُ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْعَ قَتْلِ الصَّيْدِ فِيهِ لِإِثْبَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ حُرْمَةً وَجَعْلِهِ حِمَاهُ وَالْقَتْلُ فِيهِ جِنَايَةٌ عَلَى حَرَمِ اللَّهِ، وَكَوْنُ إحْدَى الْحُرْمَتَيْنِ فَوْقَ الْأُخْرَى لَمْ يُعْرَفْ فِي الشَّرْعِ سَبَبًا لِإِهْدَارِ الْحُرْمَةِ وَجَعْلِهَا تَبَعًا، بَلْ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ حُرْمَةٍ تَسْتَتْبِعُ مُوجِبَهَا سَوَاءٌ سَاوَتْ غَيْرَهَا أَوْ لَا.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوُجُوبَاتِ وَالتَّحْرِيمَاتِ تَتَفَاوَتُ بِالْآكَدِيَّةِ وَقُوَّةِ الثُّبُوتِ وَلَمْ يَسْقُطْ اعْتِبَارُ شَيْءٍ مِنْهَا خُصُوصًا، وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ ظَهَرَ مِنْ الشَّارِعِ الِاحْتِيَاطُ فِي إثْبَاتِهَا حَيْثُ ثَبَتَتْ مَعَ النِّسْيَانِ وَالِاضْطِرَارِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِيَاطُ فِي إسْقَاطِهَا إلَّا لِمُوجِبٍ لَا مَرَدَّ لَهُ كَثُبُوتِ الْحَاجَةِ إلَى تَكْرِيرِ السَّبَبِ كَثِيرًا كَمَا قُلْنَا فِي تَكْرِيرِ آيَةِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ إذْ لَا حَاجَةَ مُتَحَقِّقَةً فِي تَكْثِيرِ الْقَتْلِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ؛ لِيَسْتَلْزِمَ تَعَدُّدَ الْوَاجِبِ الْحَرَجَ فَيُدْفَعُ بِالتَّدَاخُلِ لُطْفًا وَرَحْمَةً فَيَلْزَمُ التَّدَاخُلُ. وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْحَصْرِ؛ لِجَوَازِ كَوْنِ الْجَزَاءِ لِإِدْخَالِ النَّقْصِ فِي الْعِبَادَةِ لَا لِكَوْنِهِ جِنَايَةً.
وَالْقَارِنُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامَيْنِ مُدْخِلٌ لِلنَّقْصِ فِي عِبَادَتَيْنِ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدَ الْحَرَمِ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ وُجُوبَ الدَّمَيْنِ عَلَى الْقَارِنِ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَبْلَ الْوُقُوفِ فِي الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ فَفِي الْجِمَاعِ يَجِبُ دَمَانِ وَفِي سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ دَمٌ وَاحِدٌ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إلَخْ) هَذَا وَجْهُ الْمَذْهَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَ قَوْلِ زُفَرٍ لِضَعْفِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا الصُّورَةُ الَّتِي يَجِبُ بِسَبَبِهَا عَلَى الْقَارِنِ دَمَانِ بِسَبَبِ الْمُجَاوَزَةِ فَهِيَ فِيمَا إذَا جَاوَزَ فَأَحْرَمَ بِحَجٍّ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْحِلِّ مُحْرِمًا فَلَيْسَ كِلَاهُمَا لِلْمُجَاوَزَةِ بَلْ الْأَوَّلُ لَهَا وَالثَّانِي لِتَرْكِ مِيقَاتِ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ الْتَحَقَ بِأَهْلِهَا وَمِيقَاتُهُمْ فِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمَانِ إلَخْ) وَجْهُهَا ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَكَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ اشْتِرَاكِ الْمُحْرِمَيْنِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحَلَالَيْنِ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ
بِالشَّرِكَةِ يَصِيرُ جَانِيًا جِنَايَةً تَفُوقُ الدَّلَالَةَ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ. (وَإِذَا اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ)؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلٌ عَنْ الْمَحَلِّ لَا جَزَاءٌ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ، كَرَجُلَيْنِ قَتَلَا رَجُلًا خَطَأً تَجِبُ عَلَيْهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ.
(وَإِذَا بَاعَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ أَوْ ابْتَاعَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَيًّا تَعَرُّضٌ لِلصَّيْدِ الْآمِنِ وَبَيْعُهُ بَعْدَمَا قَتَلَهُ بَيْعُ مَيْتَةٍ.
فَارْجِعْ إلَيْهِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ مُحْرِمُونَ وَمُحِلُّونَ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَجَبَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ يُقْسَمُ عَلَى عَدَدِهِمْ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُحْرِمٍ مَعَ مَا خَصَّهُ مِنْ ذَلِكَ جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ كَصَبِيٍّ وَكَافِرٍ يَجِبُ عَلَى الْحَلَالِ بِقَدْرِ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْقِسْمَةِ لَوْ قُسِمَتْ عَلَى الْكُلِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَتْلَ الْحَلَالَيْنِ صَيْدَ الْحَرَمِ إنْ كَانَ بِضَرْبَةٍ فَلَا شَكَّ فِي لُزُومِ كُلٍّ نِصْفُ الْجَزَاءِ، أَمَّا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا نَقَصَتْهُ ضَرْبَتُهُ. ثُمَّ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ نِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِضَرْبَتَيْنِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ فِعْلِهِمَا جَمِيعُ الصَّيْدِ صَارَ مُتْلَفًا بِفِعْلِهِمَا فَضَمِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَ الْجَزَاءِ، وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْجَزَاءُ الَّذِي تَلِفَ بِضَرْبَةِ كُلٍّ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِإِتْلَافِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَالْبَاقِي مُتْلَفٌ بِفِعْلِهِمَا فَعَلَيْهِمَا ضَمَانُهُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
(قَوْلُهُ: فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ) لَا شَكَّ فِي حَقِيقَةِ الْبُطْلَانِ إنْ بَاعَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ حَيًّا فَلَا شَكَّ فِيهِ إذَا كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ فِي حَقِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الْعَيْنِ فَيَكُونُ سَاقِطَ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّهِ كَالْخَمْرِ، وَهَذَا هُوَ النَّهْيُ الَّذِي أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيُّ التَّعَرُّضِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ إطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ إضَافَةَ التَّحْرِيمِ إلَى الْعَيْنِ تُفِيدُ مَنْعَ سَائِرِ الِانْتِفَاعَاتِ وَالْكُلُّ مُنْدَرِجٌ فِي مُطْلَقِ التَّعَرُّضِ.
وَحَاصِلُهُ إخْرَاجُ الْعَيْنِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَيَكُونُ تَعْلِيقُ تَصَرُّفِ مَا بِهَا عَبَثًا فَيَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ فَيَبْطُلُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْبَيْعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِمَا جَزَاءَانِ؛ لِأَنَّهُمَا جَنَيَا عَلَيْهِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ الْمُتَبَايِعَانِ مُحْرِمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ حَلَالًا خُصَّ الْمُشْتَرِي وَقَوْلُهُ وَيَضْمَنُ أَيْضًا الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا إذَا وَهَبَ مُحْرِمٌ صَيْدًا مِنْ مُحْرِمٍ فَهَلَكَ عِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ ضَمَانُهُ لِصَاحِبِهِ لِفَسَادِ الْهِبَةِ وَجَزَاءٌ آخَرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَحَلُّهُ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَالْوَاهِبُ حَلَالَيْنِ.
أَمَّا الْبَيْعُ فَظَاهِرٌ كَذِمِّيٍّ بَاعَ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ يَضْمَنُهَا لَهُ. فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الصَّيْدَ مُحْرِمًا فَبَاعَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِهَذَا الْأَخْذِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَهُ حَلَالًا ثُمَّ
(وَمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَمَاتَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُنَّ)؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ بَقِيَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَمْنِ شَرْعًا وَلِهَذَا وَجَبَ رَدُّهُ إلَى مَأْمَنِهِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَتَسْرِي إلَى الْوَلَدِ (فَإِنْ أَدَّى جَزَاءَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْوَلَدِ)؛ لِأَنَّ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لَمْ تَبْقَ آمِنَةً؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْخَلَفِ كَوُصُولِ الْأَصْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَحْرَمَ فَبَاعَهُ. وَأَمَّا الْهِبَةُ فَبَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْوَاهِبُ مَالِكًا بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهِ نَظَرٌ. وَلَوْ تَبَايَعَا صَيْدًا فِي الْحِلِّ ثُمَّ أَحْرَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ صُيُودًا كَثِيرَةً عَلَى قَصْدِ التَّحَلُّلِ وَالرَّفْضِ لِلْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ؛ لِتَنَاوُلِهِ انْقِطَاعَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ أَخْطَأَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ التَّحَلُّلِ وَرَفْضِ الْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ لِكُلٍّ جَزَاءٌ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ) وَهُوَ حَلَالٌ أَوْ مُحْرِمٌ (قَوْلُهُ وَهَذِهِ) أَيْ كَوْنُهَا مُسْتَحِقَّةً الْأَمْنَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ (صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ) فَالتَّأْنِيثُ هُوَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ مِثْلَ قَوْلِك زَيْدٌ هِيَ هَدِيَّةٌ إلَيْك، وَلَا يَصِحُّ عَلَى اعْتِبَارِ اكْتِسَابِ الْكَوْنِ التَّأْنِيثَ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُنَا مِمَّا لَا يَصِحُّ حَذْفُهُ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ؛ لِفَسَادِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ ضَمِيرُ الظَّبْيَةِ، وَلَا يَصِحُّ الظَّبْيَةُ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ، بِخِلَافِ نَحْوِ شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنْ الدَّمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ صِفَةَ اسْتِحْقَاقِ الْأَمْنِ صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَتَسْرِي إلَى الْوَلَدِ عِنْدَ حُدُوثِهِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَصِيرُ خِطَابُ رَدِّ الْوَلَدِ مُسْتَمِرًّا، وَإِذَا تَعَلَّقَ خِطَابُ الرَّدِّ كَانَ الْإِمْسَاكُ تَعَرُّضًا لَهُ مَمْنُوعًا.
فَإِذَا اتَّصَلَ الْمَوْتُ بِهِ ثَبَتَ الضَّمَانُ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ الْغَصْبُ وَهُوَ إزَالَةُ الْيَدِ وَلَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، حَتَّى لَوْ مُنِعَ الْوَلَدُ بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ حَتَّى مَاتَ ضَمِنَهُ أَيْضًا. قَالُوا: وَهَذَا إذَا لَمْ يُؤَدِّ ضَمَانَ الْأُمِّ قَبْلَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَ لَا يَضْمَنُ الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حِينَئِذٍ لَا يَسْرِي إلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ الْأَمْنِ بِالرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الصِّفَةِ عَنْ الْأُمِّ قَبْلَ وُجُودِهِ، حَتَّى لَوْ ذَبَحَ الْأُمَّ وَالْأَوْلَادُ حِلٌّ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ ذَكَرَهُ فِي الْغَايَةِ، وَكُلُّ زِيَادَةٍ فِي هَذَا الصَّيْدِ كَالسِّمَنِ وَالشَّعْرِ فَضَمَانُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ التَّكْفِيرَ: أَعْنِي أَدَاءَ الْجَزَاءِ إنْ كَانَ حَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى إعَادَةِ أَمْنِهَا بِالرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَلَا يَحِلُّ بَعْدَهُ التَّعَرُّضُ لَهَا، بَلْ حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ لَهَا قَائِمَةٌ.
وَإِنْ كَانَ حَالَ الْعَجْزِ عَنْهُ بِأَنْ هَرَبَتْ فِي الْحِلِّ عِنْدَ مَا أَخْرَجَهَا إلَيْهِ خَرَجَ بِهِ عَنْ عُهْدَتِهَا فَلَا يَضْمَنُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ التَّكْفِيرِ مِنْ أَوْلَادِهَا إذَا مُتْنَ، وَلَهُ أَنْ يَصْطَادَهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَجَّهَ قَبْلَ الْعَجْزِ عَنْ تَأْمِينِهَا إنَّمَا هُوَ خِطَابُ الرَّدِّ إلَى الْمَأْمَنِ وَلَا يَزَالُ مُتَوَجَّهًا مَا كَانَ قَادِرًا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْأَمْنِ إنَّمَا هُوَ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا لَمْ يَعْجِزْ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِذَا عَجَزَ تَوَجَّهَ خِطَابُ الْجَزَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ هُوَ بِأَنَّ الْأَخْذَ
بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ
لَيْسَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ بَلْ الْقَتْلُ بِالنَّصِّ، فَالتَّكْفِيرُ قَبْلَهُ وَاقِعٌ قَبْلَ السَّبَبِ فَلَا يَقَعُ إلَّا نَفْلًا، فَإِذَا مَاتَتْ بَعْدَ هَذَا الْجَزَاءِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الْجَزَاءِ، هَذَا الَّذِي أَدِينُ بِهِ. وَأَقُولُ: يُكْرَهُ اصْطِيَادُهَا إذَا أَدَّى الْجَزَاءَ بَعْدَ الْهَرَبِ ثُمَّ ظَفِرَ بِهَا لِشُبْهَةِ كَوْنِ دَوَامِ الْعَجْزِ شَرْطَ إجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ إلَّا إذَا اصْطَادَهَا؛ لِيَرُدَّهَا إلَى الْحَرَمِ.
(فُرُوعٌ) غَصَبَ حَلَالٌ صَيْدَ حَلَالٍ ثُمَّ أَحْرَمَ الْغَاصِبُ وَالصَّيْدُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ وَضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ بَلْ دَفَعَهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَتَّى بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَقَدْ أَسَاءَ. وَهَذَا لُغْزٌ، يُقَالُ غَاصِبٌ يَجِبُ عَلَيْهِ عَدَمُ الرَّدِّ بَلْ إذَا فَعَلَ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ، فَلَوْ أَحْرَمَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَزَاءُ إلَّا إنْ عَطِبَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى يَدِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ اصْطَادَهُ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ لَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَيَلْزَمُ الْجَزَاءُ بِرَمْيِ الْحَلَالِ مِنْ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ كَمَا يَلْزَمُ فِي عَكْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ كَأَشْأَمَ إذَا دَخَلَ فِي أَرْضِ الشَّأَمِ، كَمَا يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي حُرْمَةِ الشَّيْءِ فَبِعُمُومِهِ يُفِيدُهُ، وَكَذَا إرْسَالُ الْكَلْبِ.
وَقَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْجَزَاءِ أَنَّ الْحَلَالَ إذَا رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَأَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ بِأَنْ هَرَبَ إلَى الْحَرَمِ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ فِيهِ أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الرَّمْيِ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ لِلنَّهْيِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ فِي التَّنَاوُلِ حَالَةَ الْإِصَابَةِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ يَحْصُلُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهَا الصَّيْدُ صَيْدُ الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ، وَعَلَى هَذَا إرْسَالُ الْكَلْبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ مُجَاوَزَةِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ)
فَصَلَهُ عَنْ الْجِنَايَاتِ وَأَخَّرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ اسْمِ الْجِنَايَاتِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مَا يَقَعُ جِنَايَةً عَلَى الْإِحْرَامِ وَهِيَ
(وَإِذَا أَتَى الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ وَلَبَّى بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إنْ رَجَعَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْعَوْدِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي أَوَانِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ فَيَسْقُطُ الدَّمُ، بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ عَلَى مَا مَرَّ. غَيْرَ أَنَّ التَّدَارُكَ عِنْدَهُمَا بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ حَقَّ الْمِيقَاتِ كَمَا
مَا تَكُونُ مَسْبُوقَةً بِهِ، وَهَذِهِ الْجِنَايَةُ قَبْلَهُ وَلَا تَبَادُرَ أَيْضًا. ثُمَّ تَحْقِيقُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ أَمْرَانِ: الْبَيْتُ، وَالْإِحْرَامُ لَا الْمِيقَاتُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ الْإِحْرَامُ مِنْهُ إلَّا لِتَعْظِيمِ غَيْرِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَوْجَبَ تَعْظِيمَ الْبَيْتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ، فَإِذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ كَانَ مُخِلًّا بِتَعْظِيمِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ فَيَكُونُ جِنَايَةً عَلَى الْبَيْتِ وَنَقْصًا فِي الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْشِئَهُ مِنْ الْمَكَانِ الْأَقْصَى فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَوْجَدَهُ نَاقِصًا. (قَوْلُهُ: فَإِنْ رَجَعَ إلَى ذَاتِ عِرْقٍ) لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَدَارَكَ بِالرُّجُوعِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى مِيقَاتِهِ الَّذِي جَاوَزَهُ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِيقَاتِهِ أَوْ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ مِنْ مَوَاقِيتِ الْآفَاقِيِّينَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنْ كَانَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مُحَاذِيًا لِمِيقَاتِهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُ فَكَمِيقَاتِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَوَاقِيتِ مِيقَاتٌ لِأَهْلِهِ وَلِغَيْرِ أَهْلِهِ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا بِلَا اعْتِبَارِ الْمُحَاذَاةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآفَاقِيَّ إذَا وَصَلَ إلَى مِيقَاتٍ مِنْ مَوَاقِيتِ الْآفَاقِيِّينَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مِيقَاتٍ آخَرَ فِي طَرِيقِهِ أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ جَازَ لَهُ مُجَاوَزَتُهُ إلَى الْمِيقَاتِ الْأَخِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ كَالْمِيقَاتِ الْأَخِيرِ. فَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ حَتَّى جَاوَزَهُ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبَّى عِنْدَهُ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْمُجَاوَزَةِ اتِّفَاقًا. وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَا يَسْقُطُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. عِنْدَهُمَا يَسْقُطُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَإِنْ لَبَّى فِيهِ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَدَارَكْ الْمَتْرُوكَ)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ
إذَا مَرَّ بِهِ مُحْرِمًا سَاكِنًا.
وَعِنْدَهُ رحمه الله بِعَوْدِهِ مُحْرِمًا مُلَبِّيًا؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا تَرَخَّصَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْمِيقَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِنْشَاءِ التَّلْبِيَةِ فَكَانَ التَّلَافِي بِعَوْدِهِ مُلَبِّيًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ مَكَانَ الْعُمْرَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ عَادَ إلَيْهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ (وَهَذَا) الَّذِي ذَكَرْنَا (إذَا كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ،
إذَا وَقَفَ نَهَارًا إمَّا الْكَوْنُ بِهَا وَقْتَ الْغُرُوبِ أَوْ مَدُّهُ إلَى الْغُرُوبِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَبِالْعَوْدِ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يُتَدَارَكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، أَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَالْوَاجِبُ التَّعْظِيمُ بِالْكَوْنِ مُحْرِمًا فِي الْمِيقَاتِ؛ لِيَقْطَعَ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِالرُّجُوعِ مُحْرِمًا إلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَجِبُ التَّلْبِيَةُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْزَمَ؛ لِسُقُوطِ الدَّمِ التَّلْبِيَةَ تَحْصِيلًا لِلصُّورَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَفِي صُورَةِ إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ لَا بُدَّ مِنْ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُجْبِرَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ مُحْرِمًا حَتَّى جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَلَبَّى ثُمَّ رَجَعَ وَمَرَّ بِهِ وَلَمْ يُلَبِّ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي تَعْظِيمِ الْبَيْتِ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ عَادَ بَعْدَمَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ) وَلَوْ شَوْطًا (لَا يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ)؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ مُبْتَدَإِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ بُطْلَانِ مَا وُجِدَ مِنْهُ مِنْ الطَّوَافِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ مُعْتَدًّا بِهِ فَكَانَ اعْتِبَارًا مَلْزُومًا؛ لِلْفَاسِدِ وَمَلْزُومُ الْفَاسِدِ فَاسِدٌ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعُدْ حَتَّى شَرَعَ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطُوفَ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ بِعَيْنِهِ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ) يُوهِمُ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ إذَا جَاوَزَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَجَبَ الدَّمُ إلَّا أَنْ يَتَلَافَاهُ مَحِلُّهُ مَا إذَا كَانَ الْكُوفِيُّ قَاصِدًا لِلنُّسُكِ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ قَصَدَ التِّجَارَةَ أَوْ السِّيَاحَةَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ،
فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ لِحَاجَةٍ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ، وَهُوَ وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ الْبُسْتَانَ غَيْرُ وَاجِبِ التَّعْظِيمِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِقَصْدِهِ، وَإِذَا دَخَلَهُ الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ، وَلِلْبُسْتَانِيِّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ لَهُ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَوَقْتُهُ الْبُسْتَانُ جَمِيعُ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، فَكَذَا وَقْتُ الدَّاخِلِ الْمُلْحَقِ بِهِ (فَإِنْ أَحْرَمَا مِنْ الْحِلِّ وَوَقَفَا بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ) يُرِيدُ بِهِ الْبُسْتَانِيَّ وَالدَّاخِلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَحْرَمَا مِنْ مِيقَاتِهِمَا.
(وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ إلَى الْوَقْتِ، وَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ) ذَلِكَ (مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ
بَلْ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي قَاصِدِي مَكَّةِ مِنْ الْآفَاقِيِّينَ قَصْدُ النُّسُكِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ: إذَا أَرَادَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ بَيَانَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ لُزُومِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ، أَمَّا مَنْ قَصَدَ مَكَانًا آخَرَ مِنْ الْحِلِّ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ؛ لِتَعْظِيمِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْهُ؛ لِتَعْظِيمِ مَكَّةَ لَا؛ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَا نَفْسِ الْمِيقَاتِ، وَلِذَا قَابَلَ قَوْلَهُ وَهَذَا إذَا أَرَادَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ لِحَاجَةٍ إلَخْ، ثُمَّ مُوجِبُ هَذَا الْحَمْلِ أَنَّ جَمِيعَ الْكُتُبِ نَاطِقَةٌ بِلُزُومِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ سَوَاءٌ قَصَدَ النُّسُكَ أَوْ لَا، وَيَطُولُ تَفْصِيلُ الْمَنْقُولَاتِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ الْآفَاقِيُّ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ سَوَاءٌ قَصَدَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ؛ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ التَّاجِرُ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا، وَلَا أَصْرَحَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ قَصْدَ الْحَرَمِ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا؛ لِلْإِحْرَامِ كَقَصْدِ مَكَّةَ.
(قَوْلُهُ: فَإِنْ دَخَلَ الْبُسْتَانَ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الْمُجَاوَزَةُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ أَنْ يُقِيمَ بِالْبُسْتَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إحْرَامٍ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ الْأَوَّلِ وَلِذَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ؛ لِلْمُتَأَمِّلِ
. (قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عَامِهِ) حَاصِلُ الْأَحْكَامِ الْكَائِنَةِ هُنَا أَرْبَعَةٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِلْآفَاقِيِّ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ. ثَانِيهَا: أَنَّ مَنْ دَخَلَهَا بِلَا إحْرَامٍ يَجِبُ عَلَيْهِ إمَّا حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ. قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: فَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ أَحْرَمَ يُرِيدُ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ مِيقَاتُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ بِالْحَرَمِ وَفِي الْعُمْرَةِ بِالْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِهَا فَيُجْزِيهِ إحْرَامُهُ مِنْ مِيقَاتِهِمْ. اهـ.
وَتَعْلِيلُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِهِ بِتَحْوِيلِ السَّنَةِ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ إلَى الْمِيقَاتِ وَحَجّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ سَقَطَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ. رَابِعُهَا: أَنَّهُ إذَا خَرَجَ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ السَّنَةِ لَا يَسْقُطُ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا مَنْذُورَةً أَوْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مَنْذُورَةٍ وَقَوْلُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ: يَعْنِي مِنْ آخِرِ دُخُولٍ دَخَلَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ مِرَارًا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِكُلِّ مَرَّةٍ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَ فَأَحْرَمَ بِنُسُكٍ أَجْزَأَهُ عَنْ دُخُولِهِ الْأَخِيرِ لَا عَمَّا قَبْلَهُ، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ قَالَ: لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ الْأَخِيرِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالتَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: إذَا دَخَلَ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فَأَهَلَّ بِهِ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِهِ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ. قَالَ:
إحْرَامٍ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجْزِيهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ النَّذْرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ.
وَلَنَا أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِالْإِحْرَامِ، كَمَا إذَا أَتَاهُ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الِابْتِدَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ مَقْصُودٍ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دُونَ الْعَامِ الثَّانِي
(وَمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَفْسَدَهَا مَضَى فِيهَا
يَجْزِيهِ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَوْ أَهَلَّ مِنْهُ أَجْزَأَهُ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ دُخُولِهَا.
(قَوْلُهُ: اعْتِبَارًا بِمَا لَزِمَهُ بِالنَّذْرِ) أَيْ اعْتِبَارًا؛ لِمَا لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ بِمَا لَزِمَهُ بِالنَّذْرِ، وَفِي الْمَنْذُورِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ عَنْهُ، فَكَذَا مَا بِالدُّخُولِ. (وَلَنَا) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ (أَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ إلَخْ) مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا عِنْدَ قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ مِنْ الْمِيقَاتِ تَعْظِيمًا؛ لِلْبُقْعَةِ لَا؛ لِذَاتِ دُخُولِ مَكَّةَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُخُولُهَا، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَدَخَلَ هُوَ بِلَا إحْرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهَا الَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْخُلَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي فَوَّتَهُ، فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ وَقَدِمَ مَكَّةَ فَقَدْ فَعَلَ مَا تَرَكَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ فِيمَا إذَا دَخَلَهَا بِلَا إحْرَامٍ لَيْسَ إلَّا لِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِحْرَامُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِأَحَدِهِمَا قُلْنَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِمَا عَلَيْهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ فِي ضِمْنِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَتَاهَا مُحْرِمًا ابْتِدَاءً بِمَا عَلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي ضِمْنِ مَا عَلَيْهِ.
بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْضِ حَقَّهَا فِي تِلْكَ صَارَ بِتَفْوِيتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ فَصَارَ تَفْوِيتًا مَقْصُودًا مُحْتَاجًا إلَى النِّيَّةِ، كَمَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ هَذَا الرَّمَضَانَ فَاعْتَكَفَ فِيهِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَكِفَهُ فِي رَمَضَانَ الْآتِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَاتَهُ الْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ تَقَرَّرَ اعْتِكَافُهُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا فَلَا يَتَأَدَّى
وَقَضَاهَا)؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَقَعُ لَازِمًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَفْسَدَ الْحَجَّ (وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ) وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ رحمه الله لَا يَسْقُطُ عَنْهُ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي فَائِتِ الْحَجِّ إذَا جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَفِيمَنْ جَاوَزَ الْوَقْتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّتَهُ، هُوَ يَعْتَبِرُ الْمُجَاوَزَةَ هَذِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فِي الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَحْكِي الْفَائِتَ وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ.
(وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْحَرَمِ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ)؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ الْحَرَمُ وَقَدْ جَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْحَرَمِ وَلَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْآفَاقِيِّ
(وَالْمُتَمَتِّعُ إذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ
إلَّا بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ؛ لِعَوْدِ شَرْطِهِ: أَعْنِي الصَّوْمَ إلَى الْكَمَالِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَتَأَدَّى فِي ضِمْنِ صَوْمٍ آخَرَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ سَنَةِ الْمُجَاوَزَةِ وَسَنَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ إذَا دَخَلَهَا بِلَا إحْرَامٍ لَيْسَ إلَّا وُجُوبُ الْإِحْرَامِ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ فَقَطْ. فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَ ذَلِكَ يَقَعُ أَدَاءً؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ لِيَصِيرَ بِفَوَاتِهَا دَيْنًا يُقْضَى. فَمَهْمَا أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ بِنُسُكٍ عَلَيْهِ تَأَدَّى هَذَا الْوَاجِبُ فِي ضِمْنِهِ.
وَعَلَى هَذَا إذَا تَكَرَّرَ الدُّخُولُ بِلَا إحْرَامٍ مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى التَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابًا مُتَعَدِّدَةَ الْأَشْخَاصِ دُونَ النَّوْعِ، كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ يَنْوِي مُجَرَّدَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ الْأَوَّلَ وَلَا غَيْرَهُ جَازَ. وَكَذَا لَوْ كَانَا مِنْ رَمَضَانَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَكَذَا نَقُولُ إذَا رَجَعَ مِرَارًا فَأَحْرَمَ كُلَّ مَرَّةٍ بِنُسُكٍ حَتَّى أَتَى عَلَى عَدَدِ دَخَلَاتِهِ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَرْكِ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَقَضَاهَا كَوْنُ الْقَضَاءِ بِإِحْرَامٍ مِنْ الْمِيقَاتِ. وَهَذَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِلَا إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَمَضَى فَفَاتَهُ فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَقَضَاهُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ جَاوَزَ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَأَفْسَدَهُ وَقَضَاهُ مِنْ الْمِيقَاتِ لَا دَمَ عَلَيْهِ. (قَوْلُهُ: هُوَ يَعْتَبِرُ الْمُجَاوَزَةَ هَذِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ) كَالتَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ، إذْ لَوْ تَطَيَّبَ أَوْ حَلَقَ فِي إحْرَامِ نُسُكٍ ثُمَّ أَفْسَدَهُ وَقَضَاهُ وَاجْتَنَبَ الْمَحْظُورَاتِ فِي الْقَضَاءِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فَكَذَا هَذَا (وَلَنَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّ الْمِيقَاتِ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ يَحْكِي الْفَائِتَ) فَيَنْجَبِرُ بِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَصِيرُ قَاضِيًا حَقَّهُ بِالْقَضَاءِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ مَحْظُورِ إحْرَامٍ فِيهِ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ فِعْلُ مَحْظُورٍ فِي آخَرَ
(قَوْلُهُ: وَإِذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ) يَعْنِي إلَى الْحِلِّ (يُرِيدُ الْحَجَّ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ لِحَاجَةٍ فَأَحْرَمَ مِنْهُ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَالْآفَاقِيِّ إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَاصِدًا الْبُسْتَانَ ثُمَّ أَحْرَمَ مِنْهُ، هَذَا
الْحَرَمِ فَأَحْرَمَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ، وَإِحْرَامُ الْمَكِّيِّ مِنْ الْحَرَمِ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ (فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْحَرَمِ فَأَهَلَّ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآفَاقِيِّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ، وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ).
وَإِذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ إنْ لَمْ يَعُدْ إلَى مِيقَاتِهِ عَلَى مَا عُرِفَ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ إلَى مَكَّةَ إلَخْ) ظَاهِرُ مَسْأَلَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْمَنَاسِكِ أَنَّ بِدُخُولِ أَرْضِ الْحَرَمِ يَصِيرُ لَهُ حُكْمُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمِيقَاتِ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ بِعُمْرَةٍ لَزِمَهُ دَمَانِ: دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَدَمٌ لِتَرْكِ مِيقَاتِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ مَنْ صَارَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الْحِلُّ. اهـ. وَلَمْ أَرَ تَقْيِيدَ مَسْأَلَةِ الْمُتَمَتِّعِ بِمَا إذَا خَرَجَ عَلَى قَصْدِ الْحَجِّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ إلَى الْحِلِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَالْمَكِّيِّ. هَذَا وَفِي مُجَاوَزَةِ الْمَرْقُوقِ مَعَ مَوْلَاهُ بِلَا إحْرَامٍ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فَأَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ دَمٌ يُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ.، وَإِنْ جَاوَزَهُ صَبِيٌّ أَوْ كَافِرٌ فَأَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ). (قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَخْ) حَاصِلُ وُجُوهِ مَا إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ فَأَدْخَلَ عَلَيْهَا إحْرَامَ حَجَّةٍ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يُدْخِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ فَتُرْتَفَضُ عُمْرَتُهُ اتِّفَاقًا، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا آفَاقِيٌّ كَانَ قَارِنًا عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْقِرَانِ، أَوْ يُدْخِلَهُ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ فَتُرْتَفَضُ حَجَّتُهُ اتِّفَاقًا، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا آفَاقِيٌّ كَانَ مُتَمَتِّعًا إنْ كَانَ الطَّوَافُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، أَوْ بَعْدَ أَنْ طَافَ الْأَقَلَّ فَهِيَ الْخِلَافِيَّةُ عِنْدَهُ يُرْفَضُ الْحَجُّ؛ لِمَا يَلْزَمُ رَفْضَ الْعُمْرَةِ مِنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ. وَعِنْدَهُمَا الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا إذْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا فَرْضٌ، بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَأَقَلَّ أَعْمَالًا وَهُوَ ظَاهِرٌ وَأَيْسَرَ قَضَاءً؛ لِعَدَمِ تَوْقِيتِهَا وَقِلَّةِ أَعْمَالِهَا. وَلَوْ فَعَلَ هَذَا آفَاقِيٌّ كَانَ قَارِنًا عَلَى مَا اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي صَدْرِ بَابِ الْقِرَانِ، وَكُلُّ مَنْ رَفَضَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَقَضَاؤُهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَالْعُمْرَةُ أَوْلَى بِالرَّفْضِ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا وَأَقَلُّ أَعْمَالًا وَأَيْسَرُ قَضَاءً لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ الْحَجَّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَتَعَذَّرَ رَفْضُهَا كَمَا إذَا فَرَغَ مِنْهَا، وَلَا كَذَلِكَ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله،
أَمَرَ لِرَفْضِهَا الْعُمْرَةَ بِدَمٍ»، وَلَوْ مَضَى الْمَكِّيُّ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَرْفُضْ شَيْئًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يَعْنِي التَّمَتُّعَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقِرَانَ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِهِ، وَسَمَّاهُ الْمُصَنِّفُ نَهْيًا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ عَنْ فِعْلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى وَجْهِ الشُّرُوعِيَّةِ بِأَصْلِهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ إثْمَهُ كَصِيَامِ يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ نَذَرَهُ، ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي نُسُكِهِ بِارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهِ فَهُوَ دَمُ جَبْرٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ مِنْهُ شَيْئًا، أَمَّا إنْ كَانَ الْمُضِيُّ عَلَيْهِمَا بَعْدَ أَنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ؛ لِلْعُمْرَةِ أَوْ بَعْدَ طَوَافِ الْأَقَلِّ فَظَهَرَ؛ لِأَنَّهُ قَارِنٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فِعْلِ الْأَكْثَرِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ، وَلَيْسَ؛ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ، فَلَوْ كَانَ طَوَافُ الْأَكْثَرِ مِنْهُ لِلْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ عَلَيْهِ الدَّمَ أَيْضًا. قَالَ: لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَكِّيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا صَارَ جَامِعًا مِنْ
وَلَهُ أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ، وَرَفْضُ غَيْرُ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ؛ وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إبْطَالَ الْعَمَلِ.
وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ بِالرَّفْضِ أَيُّهُمَا رَفَضَهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُضِيِّ فِيهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُحْصَرِ إلَّا أَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ قَضَاءَهَا لَا غَيْرُ، وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ قَضَاؤُهُ وَعُمْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا (وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي عَمَلِهِ لِارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ دَمُ جَبْرٍ، وَفِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ دَمُ شُكْرٍ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى،
وَجْهٍ كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ.
(قَوْلُهُ: وَلَهُ) أَوْرَدَ وَجْهَيْنِ: الثَّانِيَ مِنْهُمَا دَافِعٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ مِمَّا أَوْرَدَهُ بَعْضُ الطَّلَبَةِ عَلَى الْأَوَّلِ. وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَكْثَرُ كَالْكُلِّ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَزِمَهُ أَنَّ الْأَقَلَّ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ فِي اعْتِبَارِهِ بَلْ حُكْمُ الْعَدَمِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الْكُلِّ إلَّا نَفْسُ الشَّيْءِ، فَعَدَمُ اعْتِبَارِ الْأَقَلِّ كَالْكُلِّ هُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَوْجُودًا فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا عَدَمًا، فَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ هَذَا الْبَعْضِ عَدَمًا إذْ لَا عِبْرَةَ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ فِي ضِمْنِ الْكُلِّ إذْ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مَا لَمْ
فَإِنْ حَلَقَ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الْأُخْرَى وَعَلَيْهِ دَمٌ قَصَّرَ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ
تَتِمُّ فَصَارَ فِعْلُ الْبَعْضِ كَعَدَمِ فِعْلِ شَيْءٍ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ فَكَذَا إذَا فَعَلَ الْأَقَلَّ. وَجَوَابُهُ مَنْعُ كَوْنِ الْأَقَلِّ إذَا لَمْ يَعْتَبِرْ تَمَامَ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ عَدَمًا؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ عَدَمًا وَلَا كَالْكُلِّ بَلْ يُعْتَبَرُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِهِ عِبَادَةً مُنْتَهِضًا سَبَبًا؛ لِلثَّوَابِ بِنَفْسِهِ إنْ كَانَ الْبَعْضُ يَصْلُحُ عِبَادَةً بِالِاسْتِقْلَالِ، وَبِوَاسِطَةِ إتْمَامِهِ إنْ لَمْ يَصْلُحْ مَعَ إيجَابِ الْإِتْمَامِ، وَحِينَئِذٍ هَذَا الْبَعْضُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا إشْكَالَ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ الثَّانِي فَقَدْ ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِهِ اعْتِبَارُهُ وَتَعْلِيقُ خِطَابِ الْإِتْمَامِ بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَفِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ إبْطَالُهُ فَوَجَبَ إتْمَامُهُ. وَلْنَذْكُرْ تَقْسِيمًا ضَابِطًا لِفُرُوعِ الْبَابِ ثُمَّ نَنْتَقِلُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَنَقُولُ: الْجَمْعُ إمَّا بَيْنَ إحْرَامَيْ حَجَّتَيْنِ فَصَاعِدًا كَعِشْرِينَ أَوْ عُمْرَتَيْنِ كَذَلِكَ أَوْ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ الْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِمَّا بَعْدَ الْحَلْقِ فِي الْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَهُ، وَفِي هَذَا إمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ مِنْ عَامِهِ أَوْ لَا، فَفِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ لَزِمَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْمَعِيَّةِ يَلْزَمُهُ إحْدَاهُمَا، وَفِي التَّعَاقُبِ الْأُولَى فَقَطْ، وَإِذَا لَزِمَاهُ عِنْدَهُمَا ارْتُفِضَتْ إحْدَاهُمَا بِاتِّفَاقِهِمَا وَيَثْبُتُ حُكْمُ الرَّفْضِ. وَاخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الرَّفْضِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ، فَإِذَا حَلَقَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ نُسُكًا فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ فَهُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى حَجَّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَقَدْ أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْ وَقْتِهِ فِي الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُ وَشَرْطُ التَّقْصِيرِ عِنْدَهُمَا.
عَقِيبَ صَيْرُورَتِهِ مُحْرِمًا بِلَا مُهْلَةٍ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا شَرَعَ فِي الْأَعْمَالِ، وَقِيلَ إذَا تَوَجَّهَ سَائِرًا، وَنَصَّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَنَى قَبْلَ الشُّرُوعِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ؛ لِلْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامَيْنِ وَدَمٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِارْتِفَاضِ إحْدَاهُمَا قَبْلَهَا. اهـ.
(وَمِنْ الْفُرُوعِ) لَوْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ أَوْ يَشْرَعَ عَلَى الْخِلَافِ لَزِمَهُ دَمَانِ؛ لِلْجِمَاعِ وَدَمٌ ثَالِثٌ؛ لِلرَّفْضِ، فَإِنَّهُ يَرْفُضُ إحْدَاهُمَا وَيَمْضِي فِي الْأُخْرَى وَيَقْضِي الَّتِي مَضَى فِيهَا وَحَجَّةً وَعُمْرَةً مَكَانَ الَّتِي رَفَضَهَا. وَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ أَوْ أُحْصِرَ فَدَمَانِ، هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ دَمٌ سِوَى دَمِ الرَّفْضِ. وَإِذَا تَرَاخَى فَأَدْخَلَ بَعْدَ الْحَلْقِ فِي الْأُولَى لَزِمَتْهُ الثَّانِيَةُ، وَلَا يَلْزَمُ رَفْضُ شَيْءٍ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُتِمَّ أَفْعَالَ الْأُولَى وَيَسْتَمِرُّ مُحْرِمًا إلَى قَابِلٍ فَيَفْعَلُ الثَّانِيَةَ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الْحَلْقِ وَلَا فَوَاتَ لَزِمَهُ، ثُمَّ إنْ وَقَفَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ رَفَضَهَا وَعَلَيْهِ دَمُ الرَّفْضِ وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا وَيَمْضِي فِيمَا هُوَ فِيهَا، وَهَذَا قَوْلُهُمَا. أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا يَرْفُضُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا وَوَقَفَ لَهَا كَانَ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا فِي لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا وَعَادَ إلَى عَرَفَاتٍ فَوَقَفَ يَصِيرُ مُؤَدِّيًا؛ لِحَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ النَّحْرِ لَمْ يَرْفُضْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ قَدْ فَاتَ فَلَا يَكُونُ بِاسْتِدَامَةِ الْإِحْرَامِ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ فَيُتِمُّ أَعْمَالَ الْحَجَّةِ الْأُولَى وَيُقِيمُ حَرَامًا، ثُمَّ إنْ حَلَقَ فِي الْأُولَى لَزِمَهُ دَمُ الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ الثَّانِيَةِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ بَلْ اسْتَمَرَّ حَتَّى حَلَّ مِنْ قَابِلٍ لَزِمَهُ دَمٌ؛ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَهَلْ يَلْزَمُ دَمٌ آخَرُ؛ لِلْجَمْعِ؟. قِيلَ: فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَقِيلَ لَيْسَ إلَّا رِوَايَةُ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ.
وَإِنْ أَحْرَمَ بِالثَّانِيَةِ بَعْدَمَا فَاتَهُ الْحَجُّ وَجَبَ رَفْضُهَا وَدَمٌ وَقَضَاؤُهَا وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ، وَإِنْ تَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ عُمْرَةٍ هُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامِ حَجَّتَيْنِ فَيَرْفُضُ الثَّانِيَةَ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بِعُمْرَتَيْنِ فَفِي الْمَعِيَّةِ وَالتَّعَاقُبِ: أَعْنِي بِلَا فَصْلِ عَمَلِ مَا فِي الْحَجَّتَيْنِ وَالْخِلَافُ فِيمَا يَلْزَمُ وَوَقْتُ الرَّفْضِ إذَا لَزِمَ، وَفِيمَا إذَا طَافَ؛ لِلْأُولَى شَوْطًا رَفَضَ الثَّانِيَةَ وَعَلَيْهِ دَمُ الرَّفْضِ وَالْقَضَاءُ، وَكَذَا هَذَا مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ السَّعْيِ، فَإِنْ كَانَ فَرَغَ مِنْهُ إلَّا الْحَلْقَ لَمْ يَرْفُضْ شَيْئًا وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِلْجَمْعِ، وَهَذِهِ تُؤَيِّدُ رِوَايَةَ لُزُومِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنْ حَلَقَ لِلْأُولَى لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِلْجِنَايَةِ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ جَامَعَ فِي الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ أَدْخَلَ الثَّانِيَةَ يَرْفُضُهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَيَمْضِي فِي الْأُولَى حَتَّى يُتِمَّهَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، وَلَوْ كَانَتْ الْأُولَى صَحِيحَةً كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِيهَا وَيَرْفُضَ الثَّانِيَةَ فَكَذَا بَعْدَ فَسَادِهَا.
وَإِنْ نَوَى رَفْضَ الْأُولَى وَالْعَمَلَ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا الْأُولَى، وَمَنْ أَحْرَمَ وَلَا يَنْوِي شَيْئًا فَطَافَ ثَلَاثَةً أَوْ أَقَلَّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَعَيَّنَتْ عُمْرَةً حَيْثُ أَخَذَ فِي الطَّوَافِ؛ لِمَا أَسْلَفْنَاهُ، فَحِينَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى صَارَ جَامِعًا بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ فَلِهَذَا يَرْفُضُ الثَّانِيَةَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا الْمَكِّيُّ وَمَنْ بِمَعْنَاهُ كَأَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونَهُمْ أَوْ الْآفَاقِيِّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَيْنِ فَفِي الْكَافِي؛ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ لَا يَقْرِنُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُضِيفُ الْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ وَلَا الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ، فَإِنْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا رَفَضَ الْعُمْرَةَ وَمَضَى فِي الْحَجِّ، وَكَذَا أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونَهُمْ إلَى مَكَّةَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ أَوَّلًا بِالْعُمْرَةِ مِنْ وَقْتِهَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ عُمْرَتَهُ، فَإِنْ مَضَى عَلَيْهِمَا حَتَّى يَقْضِيَهُمَا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ؛ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا دَمٌ، فَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ شَوْطًا أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَ الْحَجَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ. وَإِنْ كَانَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَهَلَّ الْحَجَّ قَالَ: هَذَا يَفْرُغُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ عُمْرَتِهِ وَيَفْرَغُ مِنْ حَجَّتِهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ عَنْ الْعُمْرَةِ وَهُوَ مَكِّيٌّ وَلَا يَنْبَغِي؛ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ كُوفِيًّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَذَا الدَّمُ اهـ.
وَلَفْظُهُ أَظْهَرُ فِي عَدَمِ رَفْضِ الْحَجِّ مِنْهُ فِي الرَّفْضِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَقَالَ: لَا يَرْفُضُ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ، فَكَأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ، وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَقَوْمٌ أَنَّهُ يَرْفُضُ الْحَجَّ إنْ تَعَذَّرَ رَفَضَ الْعُمْرَةَ، وَلَوْ كَانَ الْمَكِّيُّ أَهَلَّ أَوَّلًا بِالْحَجِّ فَطَافَ شَوْطًا ثُمَّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ رَفَضَ الْعُمْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَرْفُضْهَا وَطَافَ لَهَا وَسَعَى وَفَرَغَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ حَجَّتِهِ. وَفِي الْكَافِي: إذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ لِحَاجَةٍ فَاعْتَمَرَ فِيهَا وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ قَرَنَ مِنْ الْكُوفَةِ كَانَ قَارِنًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُوفِيًّا لَوْ قَرَنَ وَطَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ وَافَى الْحَجَّ فَحَجَّ كَانَ قَارِنًا وَلَمْ يَبْطُلْ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِرُجُوعِهِ إلَى أَهْلِهِ كَمَا يَبْطُلُ عَنْهُ دَمُ الْمُتْعَةِ. اهـ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ عَدَمَ الْإِلْمَامِ بِالْأَهْلِ شَرْطُ التَّمَتُّعِ الْمَشْرُوعِ دُونَ الْقِرَانِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا نَقْلَهُ وَقَرَّرْنَاهُ بِالْبَحْثِ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ مِنْ أَنَّ النَّظَرَ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ عَدَمِ الْإِلْمَامِ؛ لِلْقِرَانِ كَالْمُتْعَةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ الْآفَاقِيُّ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَدْخَلَ إحْرَامَ الْحَجِّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ، أَوْ إنْ لَمْ يَطُفْ شَيْئًا فَهُوَ قَارِنٌ وَعَلَيْهِ دَمُ شُكْرٍ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ الْجَامِعِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَارِنًا أَنْ يُؤَدِّيَ طَوَافَ عُمْرَتِهِ أَوْ أَكْثَرَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ تَقَدَّمَ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ مَعَهُ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَدْخَلَ فِيهِ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ إلْمَامٍ صَحِيحٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُفْرِدٌ بِهِمَا. وَإِنْ أَدْخَلَ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ شَيْئًا مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ فَهُوَ قَارِنٌ مُسِيءٌ وَعَلَيْهِ دَمُ شُكْرٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَمَا شَرَعَ فِيهِ وَلَوْ قَلِيلًا فَهُوَ أَكْثَرُ إسَاءَةً وَعَلَيْهِ دَمٌ، اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَعِنْدَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ دَمُ جَبْرٍ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ، وَعِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ دَمُ
(وَمَنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ إلَّا التَّقْصِيرَ فَأَحْرَمَ بِأُخْرَى فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ وَكَفَّارَةٍ
(وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ لَزِمَاهُ)؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ قَارِنًا لَكِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيَصِيرُ مُسِيئًا (وَلَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لِعُمْرَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَجِّ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ (فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ رَافِضًا حَتَّى
شُكْرٍ، وَقَوْلُهُمْ رَفْضُ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُسْتَحَبٌّ يُؤْنَسُ بِهِ فِي أَنَّهُ دَمُ شُكْرٍ.
وَكَذَا إنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ بِعَرَفَةَ وَإِنْ أَهَلَّ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَجَبَ رَفْضُهَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْحَلْقِ اتِّفَاقًا وَالدَّمُ وَالْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ الرَّفْضِ، وَلَوْ لَمْ يَرْفُضْ فِي الصُّورَتَيْنِ أَجْزَأَهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِلْمُضِيِّ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ مَا فَاتَهُ الْحَجُّ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ يَجِبُ رَفْضُ الْعُمْرَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ رَفَضَهُ يَجِبُ؛ لِرَفْضِهِ دَمٌ وَقَضَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ عُمْرَةً لَمْ يَلْزَمْهُ فِي قَضَائِهَا سِوَى عُمْرَةٍ، وَإِنْ كَانَ حَجَّةً لَزِمَهُ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ، أَمَّا الْحَجَّةُ فَلِلْقَضَاءِ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ، وَهُوَ يَتَحَلَّلُ بِهَا ثُمَّ يَقْضِي الْحَجَّ شَرْعًا، وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ فِي سَنَتِهِ لَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. وَلْنَرْجِعْ؛ لِنَحِلَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ رحمه الله.
(قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الْحَلْقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ دَمًا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَذَكَرَهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ، وَأَوْجَبَهُ فِي الْمَنَاسِكِ مِنْ الْمَبْسُوطِ فَجَعَلَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَسُكُوتُهُ فِي الْجَامِعِ لَيْسَ نَفْيًا بَعْدَ وُجُودِ الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُ فِي الْعُمْرَتَيْنِ وَهُوَ عَدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةِ ثَابِتٌ فِي الْحَجَّتَيْنِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْفَرْقِ
يَقِفَ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ
(فَإِنْ طَافَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَمَضَى عَلَيْهِمَا لَزِمَاهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَشْرُوعٌ عَلَى مَا مَرَّ فَيَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّوَافِ طَوَافُ التَّحِيَّةِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِمَا هُوَ رُكْنٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ، فَلِهَذَا لَوْ مَضَى عَلَيْهِمَا جَازَ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبْرٍ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ بَانٍ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ.
(وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفُضَ عُمْرَتَهُ)؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْحَجِّ قَدْ تَأَكَّدَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَطُفْ لِلْحَجِّ، وَإِذَا رَفَضَ عُمْرَتَهُ يَقْضِيهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا (وَعَلَيْهِ دَمٌ) لِرَفْضِهَا (وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَتْهُ) لِمَا قُلْنَا (وَيَرْفُضُهَا) أَيْ يَلْزَمُهُ الرَّفْضُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى رُكْنَ الْحَجِّ فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى
مِنْ أَنَّهُ فِي الْحَجَّتَيْنِ لَا يَصِيرُ جَامِعًا فِعْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي أَفْعَالَ الْأُخْرَى إلَّا فِي سَنَةٍ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي الثَّانِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَيَصِيرُ جَامِعًا فِعْلًا لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ الثَّانِيَةِ لَا يُوجِبُ الْجَمْعَ فِعْلًا فَاسْتَوَيَا، فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا رِوَايَةُ الْوُجُوبِ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي فِي بَابِ الْقِرَانِ
(قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّوَافُ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ فَإِنْ طَافَ؛ لِلْحَجِّ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبْرٍ هُوَ الصَّحِيحُ) فَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ بَيْنَ الصُّورَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ الدَّمَ فِي الْأُولَى دَمُ الْقِرَانِ؛ لِلشُّكْرِ اتِّفَاقًا وَفِي الثَّانِيَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَمُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ دَمُ جَبْرٍ؛ لِأَنَّهُ بَانٍ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ؛ لِتَقْدِيمِ طَوَافِ الْقُدُومِ. وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهُ شُكْرٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَكْثَرُ إسَاءَةً مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هَذَا الطَّوَافَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ رُكْنًا وَلَا وَاجِبًا أَمْكَنَهُ بِنَاءُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا مُوجِبَ لِلدَّمِ جَبْرًا، وَلَا نُسَلِّمُ بِنَاءَهُ مِنْ وَجْهٍ بِسَبَبِ تَقْدِيمِ بَعْضِ السُّنَنِ، وَلَوْ سُلِّمَ مَنَعْنَا كَوْنَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْوَجْهِ الِاعْتِبَارِيِّ يُوجِبُ الْجِنَايَةَ الْمُوجِبَةَ لِلدَّمِ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَصْلًا وَلَا مِنْ سُنَنِ نَفْسِ عِبَادَةِ الْحَجِّ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ؛ لِقُدُومِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَرَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ؛ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَلِذَا سَقَطَ بِطَوَافٍ آخَرَ مِنْ مَشْرُوعَاتِ الْوَقْتِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ مَكَّةَ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الْوُقُوفِ سَقَطَ اسْتِنَانُهُ بِفِعْلِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَكَذَا الْمُعْتَمِرُ لَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِ؛ لِإِغْنَاءِ
أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ رَفْضُهَا، فَإِنْ رَفَضَهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِرَفْضِهَا (وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا) لِمَا بَيَّنَّا (فَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا وَهُوَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِأَدَاءِ بَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيَجِبُ تَخْلِيصُ الْوَقْتِ لَهُ تَعْظِيمًا (وَعَلَيْهِ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا) إمَّا فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ، قَالُوا: وَهَذَا دَمُ كَفَّارَةٍ أَيْضًا. وَقِيلَ إذَا حَلَقَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ لَا يَرْفُضُهَا عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَقِيلَ يَرْفُضُهَا احْتِرَازًا عَنْ النَّهْيِ. .
طَوَافِ الْعُمْرَةِ عَنْهُ، كَمَا تَسْقُطُ الرَّكْعَتَانِ بِإِقَامَةِ الْفَرِيضَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ؛ لِحُصُولِ التَّحِيَّةِ تَعْظِيمًا فِي ضِمْنِ الْفَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مُعْتَبِرًا سُنَّةِ نَفْسِ الْعِبَادَةِ تَابِعًا لَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِحَالٍ كَمَا لَمْ تَسْقُطْ سُنَّةُ الظُّهْرِ بِفِعْلِ الْفَرْضِ فَكَانَ أَظْهَرَ فِي الدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ تَقَدُّمُهُ مُوجِبًا بِنَاءِ الْعُمْرَةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي تَوْجِيهِ سُقُوطِهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَا يُسَنُّ لِلْقَارِنِ؛ لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ إذَا دَخَلَ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ فِي ضِمْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ فَلَا تَعَارُضَ بِمَا ذَكَرْت مِنْ الْمَعْنَى.
قُلْنَا فَيَلْزَمُ بُطْلَانُ سُقُوطِهِ فِيمَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ دَلَالَةَ الْآثَارِ عَلَى اسْتِنَانِ طَوَافَيْنِ؛ لِلْقَارِنِ لَا يَلْزَمُهُ كَوْنُ أَحَدِهِمَا
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا (فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ فَإِنَّهُ يَرْفُضُهَا)؛ لِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقَلِبَ إحْرَامُهُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك فِي بَابِ الْفَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ إحْرَامًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَهَا كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَدَمٌ لِرَفْضِهَا بِالتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
لِلْقُدُومِ، فَادِّعَاءُ أَنَّهُ طَوَافُ الْقُدُومِ ادِّعَاءُ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَاعْتِقَادِي أَنَّ اسْتِنَانَهُ؛ لِإِيقَاعِ سَعْيِ الْحَجِّ، فَإِنَّ السَّعْيَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مُرَتَّبًا عَلَى طَوَافٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ رُخِّصَ فِي تَقْدِيمِ السَّعْيِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَكَانَ الثَّابِتُ فِي الْآثَارِ بَيَانَ طَرِيقِ تَقْدِيمِ سَعْيِ الْحَجِّ لِلْقَارِنِ. وَعَنْ هَذَا قُلْنَا فِي الْمُتَمَتِّعِ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ لَهُ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا يَتَنَفَّلُ بِهِ ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَهُ؛ لِلْحَجِّ، وَلَيْسَ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ. نَعَمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَارِنَ لَوْ لَمْ يُرِدْ تَقْدِيمَ السَّعْيِ لَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِ طَوَافٌ آخَرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْتِزَامِهِ حَالٌ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِنَانِ طَوَافَيْنِ مُطْلَقًا: أَعْنِي غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِقَصْدِ تَقْدِيمِ السَّعْيِ كَوْنُ تَقْدِيمِ السَّعْيِ سُنَّةً لِلْقَارِنِ وَلَا ضَرَرَ فِي الْتِزَامِهِ.
(قَوْلُهُ: قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَشَايِخُنَا عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى وُجُوبِ الرَّفْضِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَلْقِ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَاتٌ مِنْ الْحَجِّ كَالرَّمْيِ وَطَوَافِ الصَّدْرِ وَسُنَّةِ الْمَبِيتِ، وَقَدْ كُرِهَتْ الْعُمْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا فَيَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ بِلَا رَيْبٍ.
بَابُ الْإِحْصَارِ
(وَإِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِعَدُوٍّ أَوْ أَصَابَهُ مَرَضٌ فَمَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ إلَّا بِالْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ؛ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ وَبِالْإِحْلَالِ يَنْجُو مِنْ الْعَدُوِّ لَا مِنْ الْمَرَضِ. وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ
بَابُ الْإِحْصَارِ)
هُوَ مِنْ الْعَوَارِضِ النَّادِرَةِ وَكَذَا الْفَوَاتُ فَأَخَّرَهُمَا. ثُمَّ إنَّ الْإِحْصَارَ وَقَعَ لَهُ عليه الصلاة والسلام فَقَدَّمَ بَيَانَهُ عَلَى الْفَوَاتِ. وَالْإِحْصَارُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَنَا بِالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ كَالْمَرَضِ وَهَلَاكِ النَّفَقَةِ وَمَوْتِ مَحْرَمِ الْمَرْأَةِ أَوْ زَوْجِهَا فِي الطَّرِيقِ، وَفِي التَّجْنِيسِ فِي سَرِقَةِ النَّفَقَةِ إنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ، وَإِلَّا فَمُحْصَرٌ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ، وَلَوْ أَحْرَمَتْ وَلَا زَوْجَ لَهَا وَلَا مَحْرَمَ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ لَا تَحِلُّ إلَّا بِالدَّمِ؛ لِأَنَّهَا مُنِعَتْ شَرْعًا آكَدُ مِنْ الْمَنْعِ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا إحْصَارَ إلَّا بِالْعَدُوِّ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّحَلُّلَ شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ؛ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ) مِنْ السَّبَبِ الْمَانِعِ (وَبِالْإِحْلَالِ يَنْجُو مِنْ الْعَدُوِّ لَا الْمَرَضِ) وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا بِبَادِئِ النَّظَرِ أَنْ يُقَالَ إنْ قُلْت إنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا؛ لِلنَّجَاةِ مِنْ السَّبَبِ مَنَعْنَا الْحَصْرَ، وَإِنْ أَرَدْت أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ شَرْعِيَّتِهِ لَمْ يُفِدْ نَفْيُ شَرْعِيَّتِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلِذَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْوَجْهَ مَبْنِيًّا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ، هَكَذَا الْآيَةُ وَرَدَتْ؛ لِبَيَانِ حُكْمِ إحْصَارِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَكَانَ بِالْعَدُوِّ، وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} إلَى آخِرِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ شَرْعِيَّةَ الْإِحْلَالِ فِي الْعَدُوِّ كَانَ؛ لِتَحْصِيلِ الْأَمْنِ مِنْهُ، وَبِالْإِحْلَالِ لَا يَنْجُو مِنْ الْمَرَضِ وَلَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ فِي مَعْنَاهُ، فَلَا يَكُونُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْعَدُوِّ وَارِدًا فِي الْمَرَضِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً وَلَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ التَّحَلُّلِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
(وَقَوْلُهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ) أَفَادَ هَذَا أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ
وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِبَارِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ،
وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَ لَفْظِ الْإِحْصَارِ الْمَنْعُ الْكَائِنُ بِالْمَرَضِ وَالْآيَةُ وَرَدَتْ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَيَلْزَمُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا ذَلِكَ إلَّا بِنَافٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ نُقِلَ عَنْ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالْقُتَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ. ثُمَّ الْمُقَابَلَةُ فِي نَقْلِهِ قَوْلُهُمْ الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِحْصَارَ خَاصٌّ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرَ خَاصٌّ بِالْعَدُوِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ كَوْنُ الْمَنْعِ بِالْمَرَضِ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْإِحْصَارِ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ وَرَدَ عَلَيْهِ كَوْنُ الْآيَةِ؛ لِبَيَانِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الَّتِي وَقَعَتْ؛ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم، وَاحْتَاجَ إلَى جَوَابِ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ.
وَحَاصِلُهُ كَوْنُ النَّصِّ الْوَارِدِ؛ لِبَيَانِ حُكْمِ حَادِثَةٍ قَدْ يَنْتَظِمُهَا لَفْظًا وَقَدْ يَنْتَظِمُ غَيْرَهَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ حُكْمُهَا دَلَالَةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَذَلِكَ إذْ يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَنْعِ الْعَدُوِّ بِطَرِيقٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْعَدُوِّ حِسِّيٌّ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ، بِخِلَافِهِ فِي الْمَرَضِ إذْ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِالْمَحْمَلِ وَالْمَرْكَبِ وَالْخَدَمِ، فَإِذَا جَازَ التَّحَلُّلُ مَعَ هَذَا فَمَعَ ذَلِكَ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ مُنَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا شُرِعَ؛ لِدَفْعِ الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ حُكْمَ التَّحَلُّلِ مَعَ الْمَرَضِ أَوْلَى مِنْهُ مَعَ الْعَدُوِّ فَلَا يَكُونُ النَّصُّ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ يُفِيدُهُ مَعَ الْعَدُوِّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَة، وَلَا تَنْدَفِعُ الْمُنَافَاةُ بِقَوْلِنَا: إنَّ هَذَا مَذْكُورٌ بِطَرِيقِ التَّنَزُّلِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَيْ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ فَيَثْبُتُ فِي الْمَرَضِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ مُدَّعًى حَقِيقَتُهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَلْزَمُ مَا ذَكَرْنَا. وَالْأَوْلَى إرَادَةُ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَالْمُرَادُ مَنَعَهُمْ الِاشْتِغَالُ بِالْجِهَادِ وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَى الْعَدُوِّ، أَوْ الْمُرَادُ أَهْلُ الصُّفَّةِ مَنَعَهُمْ تَعَلُّمُ الْقُرْآنِ أَوْ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَالْجُهْدُ عَنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ؛ لِلتَّكَسُّبِ.
وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ:
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ
…
عَلَيْك وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْك شُغُولٌ
وَلَيْسَ هُوَ بِالْمَرَضِ. وَفِي الْكَشَّافِ يُقَالُ: أُحْصِرَ فُلَانٌ إذَا مَنَعَهُ أَمْرٌ مِنْ خَوْفٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَجْزٍ، وَحُصِرَ إذَا حَبَسَهُ عَدُوٌّ عَنْ الْمُضِيِّ أَوْ سِجْنٌ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُحْبَسِ الْحَصِيرُ وَلِلْمَلِكِ الْحَصِيرُ، هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ اهـ. وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ يُقَالُ: أَحَصَرَهُ الْمَرَضُ أَوْ السُّلْطَانُ إذَا مَنَعَهُ مِنْ مَقْصِدِهِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَحَصَرَهُ إذَا حَبَسَهُ فَهُوَ مَحْصُورٌ، وَالْمُعَارَضَةُ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ قَائِمَةٌ. وَالْأَقْرَبُ حِينَئِذٍ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ الْآيَةِ تَنْتَظِمُ الْحَادِثَةَ لَفْظًا وَلَوْ بِعُمُومِهَا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ انْتَفَى نَفْيُ الشَّافِعِيِّ إلْحَاقَ الْمَرَضِ بِالْعَدُوِّ وَقَصْرَ إفَادَةِ الْآيَةِ عَلَى شَرْعِيَّتِهِ
وَإِذَا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ (يُقَالُ لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يَذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلَ) وَإِنَّمَا يَبْعَثُ إلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ قُرْبَةٌ، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَلَى مَا مَرَّ فَلَا يَقَعُ قُرْبَةً دُونَهُ
لِلنَّجَاةِ مِنْ الْعَدُوِّ ثُمَّ وَجَدْنَاهُ وَاقِعًا فِي الْحَدِيثِ.
رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا: صَدَقَ، رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي شَرْحِ الْآثَارِ: حَدَّثَنَا فَهْدٌ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ شَدَّادٍ الْعَبْدِيُّ صَاحِبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: لُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ فَذَكَرْنَاهُ لِابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَيُوَاعِدُ أَصْحَابَهُ مَوْعِدًا، فَإِذَا نُحِرَ عَنْهُ حَلَّ. وَبِهِ إلَى جَرِيرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَانِ يُفِيدَانِ شَرْعِيَّتَهُ؛ لِدَفْعِ أَذَى امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ مَعَ الْحَابِسِ عَنْ الْأَعْمَالِ.
وَقَدْ يُقَالُ: حَدِيثُ " مَنْ كُسِرَ " غَيْرُ مُصَرِّحٍ بِجَوَازِ الْإِحْلَالِ فَيَجُوزُ كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّهُ إذَا حُبِسَ بِذَلِكَ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، فَإِذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِلْحَابِسِ مُطْلَقًا اُسْتُفِيدَ جَوَازُهُ؛ لِمَنْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ لَا إنْ قَدَرَ كَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يَجِبَ الْمَشْيُ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَلْزَمُ بَعْدَ الشُّرُوعِ، كَالْفَقِيرِ إذَا شَرَعَ فِي الْحَجِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا مَاتَ مَحْرَمُهَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ زَوْجُهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ إقَامَةٍ وَلَا قَرِيبَ مِنْهُ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ فَهُوَ مُحْصَرٌ إلَّا أَنَّهُ يَزُولُ إحْصَارُهُ بِوُجُودِ مَنْ يَبْعَثُ مَعَهُ هَدْيَ التَّحَلُّلِ فَإِنَّهُ بِهِ يَذْهَبُ الْمَانِعُ إذْ يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ مَعَهُ إلَى مَكَّةَ، فَهُوَ كَالْمُحْصَرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَدْيِ فَيَبْقَى مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَحُجَّ إنْ زَالَ الْإِحْصَارُ قَبْلَ فَوَاتِ الْحَجِّ أَوْ يَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إذَا اسْتَمَرَّ الْإِحْصَارُ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ. هَذَا إذَا ضَلَّ فِي الْحِلِّ، أَمَّا إنْ ضَلَّ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ الْإِحْصَارَ فِي الْحَرَمِ إذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ إنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ وَيَحِلُّ، كَذَا ذُكِرَ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَعْلِيلِ مَنْعِ الْإِحْصَارِ فِي الْحَرَمِ تَخْصِيصُهُ بِالْعَدُوِّ أَمَّا إنْ أُحْصِرَ فِيهِ بِغَيْرِهِ فَالظَّاهِرُ تَحَقُّقُهُ عَلَى قَوْلٍ لِلْكُلِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(قَوْلُهُ: وَوَاعَدَ) الِاحْتِيَاجُ إلَى الْمُوَاعَدَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ الْإِحْصَارِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا حَاجَةَ؛ لِأَنَّهُمَا عَيَّنَا يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتًا لَهُ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ تَحَلَّلَ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَهُ حَتَّى لَوْ ظَنَّ الْمُحْصَرُ أَنَّ الْهَدْيَ قَدْ ذُبِحَ فِي يَوْمِ الْمُوَاعَدَةِ فَفَعَلَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَدَمُ الذَّبْحِ إذْ ذَاكَ كَانَ عَلَيْهِ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ، وَكَذَا لَوْ ذَبَحَ فِي الْحِلِّ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ
فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ. قُلْنَا: الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ،
ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ وَمَا أَكَلَ مِنْهُ الَّذِي مَعَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْ الْمُحْصَرِ إنْ كَانَ غَنِيًّا. (قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ) مَرْجِعُ الضَّمِيرِ التَّوَقُّتُ بِالْحَرَمِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ يَذْبَحُ فِي الْحَرَمِ مَعَ قَوْلِهِ وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان، وَالْآيَةُ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} إمَّا فِي الْإِحْصَارِ بِخُصُوصِهِ أَوْ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، أَوْ هُوَ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ فَيَتَنَاوَلُ مَنْعَ الْحَلْقِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ فِي الْإِحْصَارِ وَبَعْدَهَا فِي غَيْرِهِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَبَيَّنَ مَحِلَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَعَنْهَا قُلْنَا: إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْصَرُ الْهَدْيَ يَبْقَى مُحْرِمًا حَتَّى يَجِدَهُ فَيَتَحَلَّلَ بِهِ أَوْ يَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إنْ لَمْ يَجِدْهُ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ وَلَا إلَى الْهَدْيِ بَقِيَ مُحْرِمًا أَبَدًا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ.
وَلَوْ سُرِقَ الْهَدْيُ بَعْدَ ذَبْحِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُسْرَقْ تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الذَّابِحُ ضَمِنَ قِيمَةَ مَا أَكَلَ إنْ كَانَ غَنِيًّا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْ الْمُحْصَرِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُحْصَرِ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا قَوَّمَ الْهَدْيَ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا فَيَتَحَلَّلُ بِهِ، رَوَاهُ عَنْ عَطَاءٍ. قَالَ فِي الْأَمَالِي: وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ. قُلْنَا: هَذَا قِيَاسٌ يُخَالِفُ النَّصَّ فِي عَيْنِ الْمَقِيسِ فَلَا يُقْبَلُ. وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: إنْ لَمْ يَجِدْ بَقِيَ مُحْرِمًا. وَقِيلَ يَصُومُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَتَحَلَّلُ، وَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ بِإِزَاءِ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا. وَمَنْ أُحْصِرَ فَوَصَلَ إلَى مَكَّةَ لَمْ يَبْقَ مُحْصَرًا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَعْمَالِ صَبَرَ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ وَيَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ. وَكَذَا قِيلَ: لَوْ قَدِمَ قَارِنٌ فَطَافَ وَسَعَى؛ لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْآفَاقِ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَأُحْصِرَ فَإِنَّهُ يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَيَحِلُّ بِهِ وَيَقْضِي حَجَّةً وَعُمْرَةً لِحَجَّتِهِ وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ لِعُمْرَتِهِ مَعَ أَنَّهُ طَافَ، وَسَعَى لِحَجَّتِهِ، وَلَا يَحِلُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ الْفَوَاتِ. وَلَوْ أُحْصِرَ عَبْدٌ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ بَعَثَ الْمَوْلَى الْهَدْيَ نَدْبًا، وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي وُجُوبِ بَعْثِ الْمَوْلَى وَعَدَمِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ الْعِتْقِ.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ) لَمْ يُذْكَرْ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اعْتَبَرَ نِهَايَةَ التَّخْفِيفِ، لَكِنْ دَعْوَاهُ الْقَائِلَةُ أَنَّ التَّوْقِيتَ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إنْ قُلْت إنَّ الْمُرَاعَى نِهَايَةُ التَّخْفِيفِ مَنَعْنَاهُ أَوْ أَصْلُهُ، فَبِالتَّوْقِيتِ لَا يَنْتَفِي أَصْلُ التَّخْفِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِتَيَسُّرِ مَنْ يُرْسِلُ مَعَهُ الْهَدْيَ عَادَةً مِنْ الْمُسَافِرِينَ. وَأَمَّا الِاسْتِيضَاحُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَاعَى أَصْلَ التَّخْفِيفِ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَبْقَى مُحْرِمًا أَبَدًا فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقُولُ بِهِ، بَلْ إذَا لَمْ يَجِدْهُ عِنْدَهُ قُوِّمَتْ شَاةٌ وَسَطٌ فَيَصُومُ
وَتَجُوزُ الشَّاةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَالشَّاةُ أَدْنَاهُ، وَتُجْزِيهِ الْبَقَرَةُ وَالْبَدَنَةُ أَوْ سُبْعُهُمَا كَمَا فِي الضَّحَايَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْثَ الشَّاةِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَعَذَّرُ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِالْقِيمَةِ حَتَّى تُشْتَرَى الشَّاةُ هُنَالِكَ وَتُذْبَحَ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ تَحَلَّلَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ «؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رضي الله عنهم بِذَلِكَ» . وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ قُرْبَةً مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ نُسُكًا قَبْلَهَا وَفَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِيُعَرِّفَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَتِهِمْ عَلَى الِانْصِرَافِ.
عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمًا، وَفِي قَوْلٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كَمَا فِي الْعَجْزِ عَنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ عِنْدَهُ، وَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ التَّرْدِيدُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. (قَوْلُهُ: إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ)، وَإِلَّا قَالَ ثُمَّ احْلِقْ وَنَحْوَهُ، فَلَمَّا عَدَلَ إلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ اسْتَفَدْنَا عَدَمَ تَعَيُّنِ الْحَلْقِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَطْلَقَهُ عَنْهُمَا، وَفِي الْكَافِي: إنَّمَا لَا يَحْلِقُ إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ، أَمَّا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ فَيَحْلِقُ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مُوَقَّتٌ بِالْحَرَمِ عِنْدَهُمَا، فَعَلَى هَذَا كَانَ حَلْقُهُ صلى الله عليه وسلم؛ لِكَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى مَا قَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلِمَا لَمْ يَقُلْ الْمُصَنِّفُ فِي جَوَابِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ حَلْقِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْحَرَمِ بَلْ إنَّ حَلْقَهُ كَانَ لَيُعَرَّفُ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَوْ بِتَخْفِيفِهَا مَبْنِيًّا؛ لِلْمَفْعُولِ اسْتِحْكَامُ عَزِيمَتِهِمْ عَلَى الِانْصِرَافِ أَيْ؛ لِيُعَرِّفَ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ فَلَا يَشْتَغِلُوا بِأَمْرِ الْحَرْبِ
(وَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ) لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامَيْنِ، فَإِنْ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
(وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ) اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، وَرُبَّمَا يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلَّلٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
كَانَ ظَاهِرًا فِي اعْتِقَادِهِ إطْلَاقَ الْوُجُوبِ فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُمَا الْحَلْقُ سَوَاءٌ أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ أَوْ الْحَرَمِ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ) أَيْ لَيْسَ غَيْرُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أُحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» فِي الصَّحِيحِ.
(قَوْلُهُ: وَرُبَّمَا يُعْتَبَرُ أَنَّهُ إلَخْ) أَمَّا اعْتِبَارُهُمَا إيَّاهُ بِالْحَلْقِ فَبِجَامِعِ أَنَّهُ مُحَلَّلٌ وَهُوَ إلْزَامِيٌّ، فَإِنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِتَوَقُّتِ الْحَلْقِ فِي الْحَرَمِ بَلْ مِنْ حَيْثُ السُّنِّيَّةُ، وَالْمُلْحَقُ هُنَا عِنْدَهُمَا اللُّزُومُ، وَالْإِلْزَامِيُّ لَا يُفِيدُ فِي الْمَطْلُوبِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَرَفَ الْخَصْمُ بِالْخَطَأِ فِي أَحَدِهِمَا فَقَالَ أَعْتَرِفُ بِالْخَطَإِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عَدَمِ تَوْقِيتِ الذَّبْحِ بِالزَّمَانِ أَوْ تَوْقِيتِ الْحَلْقِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ خَطَؤُهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ عَيْنًا. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمَا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَبِجَامِعِ أَنَّهُ هَدْيٌ تَتَعَلَّقُ الْقُرْبَةُ فِيهِ بِنَفْسِ الْإِرَاقَةِ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ، وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْجَامِعَ فِي قِيَاسِهِمَا إنَّمَا هُوَ أَثَرُهُ فِي تَوَقُّتِهِ بِالْمَكَانِ بِسَبَبِ أَنَّهُ اسْمٌ إضَافِيٌّ، إذْ مَعْنَاهُ مَا يُهْدَى إلَى مَكَان وَذَلِكَ الْمَكَانُ هُوَ الْحَرَمُ بِالِاتِّفَاقِ وَالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَتَوَقُّتُهُ بِالزَّمَانِ لَيْسَ مَعْلُولًا؛ لِكَوْنِهِ هَدْيًا، بَلْ اتَّفَقَ مَعَهُ اتِّفَاقًا حُكْمًا شَرْعِيًّا
رحمه الله أَنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ، بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ، وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَانِهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ يَنْتَهِي بِهِ.
قَالَ: (وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّ الْحَجَّةَ
لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ فِيهِ فَكَانَ وَصْفًا طَرْدِيًّا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ، بِخِلَافِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي سَتْرِ الْجِنَايَةِ، وَهَذَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ التَّأْثِيمَ فِي مُبَاشَرَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَرْفَعُهُ، وَمَعْنَى سَتْرِ الْجِنَايَةِ مُؤَثِّرٌ فِي عَدَمِ التَّأْخِيرِ مَا أَمْكَنَ، وَلَازِمُهُ جَوَازُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، مَعَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} مُطْلَقٌ فَلَا يُنْسَخُ إطْلَاقُهُ بِمَا ذَكَرَاهُ لَوْ صَحَّ.
(قَوْلُهُ: هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ) وَذَكَرَهُ الرَّازِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ ذَكَرَ وَجْهَهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَهُوَ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ. وَقَدْ يُوْرَدُ عَلَيْهِ أَنَّ وُجُوبَ الْعُمْرَةِ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ إنَّمَا هُوَ؛ لِلتَّحَلُّلِ بِهَا، وَالْمُحْصَرُ يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ فَلَا تَجِبُ الْعُمْرَةُ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْهَدْيَ؛ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّهُ مَتَى صَحَّ الشُّرُوعُ فِي الْإِحْرَامِ انْعَقَدَ لَازِمًا وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ: أَيْ أَفْعَالِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا فَاتَهُ مَا أَحْرَمَ بِهِ مِنْ الْحَجِّ لَمْ يُسَوَّغْ خُرُوجُهُ إلَّا بِأَفْعَالٍ هِيَ أَفْعَالُ عُمْرَةٍ، وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَنْوِي الْفَرْضَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ أَدَّاهُ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ مَظْنُونُ الْوُجُوبِ.
، وَإِذَا أَفْسَدَهُ وَجَبَ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْأَفْعَالِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَإِذَا صَحَّ شُرُوعُ الْمُحْصَرِ لَا يَتَحَلَّلُ بِمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَا إلَّا بِأَفْعَالِ عُمْرَةٍ، كَفَائِتٍ؛ لِلْحَجِّ فَإِنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِوُجُوبِ قَضَائِهَا رَدًّا إلَى مَا عُهِدَ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ الدَّمَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ لَا يَنْفِي بَقَاءَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ، وَعَنْ هَذَا
يَجِبُ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا وَالْعُمْرَةُ لِمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ) وَالْإِحْصَارُ عَنْهَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابَهُ رضي الله عنهم أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا عُمَّارًا؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ.
(وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ)
قُلْنَا: لَوْ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى تَحَقَّقَ بِوَصْفِ الْفَوَاتِ تَحَلَّلَ بِالْأَفْعَالِ بِلَا دَمٍ وَلَا عُمْرَةٍ فِي الْقَضَاءِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْمُحْصَرِ هُوَ فِيمَا إذَا قَضَاهَا مِنْ قَابِلٍ، فَلَوْ قَضَى الْحَجَّةَ مِنْ عَامِهِ لَا تَجِبُ مَعَهَا عُمْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَفَائِتِ الْحَجِّ كَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّعْيِينِ إذَا قَضَاهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، ذَكَرَهُمَا مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ مَا إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ تَطَوُّعٍ فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا وَحَلَّلَهَا ثُمَّ أَذِنَ لَهَا بِالْإِحْرَامِ فَأَحْرَمَتْ مِنْ عَامِهَا أَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ، وَإِذَا قَضَاهُمَا مِنْ قَابِلٍ إنْ شَاءَ قَرَنَ بِهِمَا، وَإِنْ شَاءَ أَفْرَدَهُمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ نِيَّةَ الْقَضَاءِ إنَّمَا تَلْزَمُ إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ اتِّفَاقًا فِيمَا إذَا كَانَ الْإِحْصَارُ بِحَجِّ نَفْلٍ، أَمَّا إذَا كَانَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَلَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يُؤَدِّهَا فَيَنْوِي حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ قَابِلٍ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا لَا تَتَوَّقَتْ) فَلَا يَتَحَقَّقُ خَوْفُ الْفَوَاتِ. قُلْنَا خَوْفُ الْفَوَاتِ لَيْسَ هُوَ الْمُبِيحُ؛ لِلتَّحَلُّلِ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَذَلِكَ لَا يَفُوتُ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا أُبِيحَ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ضَرَرِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ مَعَ ظُهُورِ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ.
وَمِنْ فُرُوعِ الْإِحْصَارِ بِالْعُمْرَةِ: رَجُلٌ أَهَلَّ بِنُسُكٍ مُبْهَمٍ فَأُحْصِرَ قَبْلَ التَّعْيِينِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَيَقْضِيَ عُمْرَةً اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ حَجَّةً وَعُمْرَةً؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ إنْ كَانَ لِلْحَجِّ لَزِمَاهُ فَكَانَ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ الْمُتَيَقَّنَ وَهُوَ الْعُمْرَةُ فَتَصِيرُ هِيَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا الْإِحْرَامِ بِأَدَاءِ عُمْرَةٍ فَكَذَا بَعْدَهُ. وَعَنْ هَذَا أَيْضًا قُلْنَا: لَوْ جَامَعَ قَبْلَ التَّعْيِينِ لَزِمَهُ دَمُ الْجِمَاعِ وَالْمُضِيُّ فِي أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَقَضَاؤُهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ عَيَّنَ نُسُكًا فَنَسِيَهُ ثُمَّ أُحْصِرَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَيَقَّنَّا عَدَمَ نِيَّةِ الْحَجِّ وَهُنَا جَازَ كَوْنُ الْمَنْوِيِّ كَانَ الْحَجَّ فَيَحِلُّ بِهَدْيٍ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ لِهَذَا الِاحْتِيَاطِ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِشَيْئَيْنِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ فَأُحْصِرَ بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ وَيَقْضِي حَجَّةً وَعُمْرَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ.
. (قَوْلُهُ: وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ) يَقْضِيهِمَا بِقِرَانٍ أَوْ إفْرَادٍ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَقْضِ
أَمَّا الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ مُخْرَجٌ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا.
(فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ، فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصْبِرَ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِنَحْرِ الْهَدْيِ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ
فِي سَنَةِ الْإِحْصَارِ، وَأَمَّا إذَا زَالَ الْإِحْصَارُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِالذَّبْحِ وَالْوَقْتُ يَسَعُ لِتَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ وَالْأَدَاءِ فَفَعَلَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ عُمْرَةُ الْقِرَانِ عَلَى مَا هُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ
(قَوْلُهُ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا) الصَّوَابُ الْمُحْصَرُ مَكَانَ الْقَارِنِ، وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ فِي النُّسَخِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَخُصُّ الْقَارِنَ فَالْحَاجَةُ إلَى بَيَانِهِ مُطْلَقًا لَا عَلَى خُصُوصِ الْقَارِنِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْقَارِنَ إنَّمَا يَبْعَثُ بِدَمَيْنِ. (قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكْ إلَخْ) حَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْإِحْصَارُ بَعْدَ الْبَعْثِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُدْرِكُ الْهَدْيَ وَالْحَجَّ أَوْ لَا يُدْرِكُهُمَا، أَوْ يُدْرِكُ الْحَجَّ فَقَطْ أَوْ الْهَدْيَ فَقَطْ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَذَكَرَ أَحْكَامَ الْأَقْسَامِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ تَوَجَّهَ؛ لِيَحِلَّ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهُ ذَلِكَ) وَلَهُ فِي هَذَا فَائِدَةٌ هِيَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عُمْرَةٌ فِي الْقَضَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُحْصَرُ قَارِنًا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ فِي الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا. قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا عَلَى
(وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَزِمَهُ التَّوَجُّهُ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ، وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ (وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ) لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ (وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ دُونَ الْهَدْيِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ) اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ يُدْرِكُ الْحَجَّ يُدْرِكُ الْهَدْيَ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَفِي الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ يَسْتَقِيمُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّتِ الدَّمِ بِيَوْمِ النَّحْرِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْحَجُّ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَهُوَ الْهَدْيُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ التَّوَجُّهُ لَضَاعَ مَالُهُ؛ لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ الْهَدْيُ يَذْبَحُهُ وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَلَهُ الْخِيَارُ
الْوَجْهِ الَّذِي تَلْزَمُهُ وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ إذْ بِفَوَاتِ الْحَجِّ يَفُوتُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: لَزِمَهُ التَّوَجُّهُ) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ؛ لِعَجْزِهِ عَنْ إدْرَاكِ الْحَجِّ وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الْخَلَفُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (قَوْلُهُ: وَلَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ فَكَذَا عَلَى مَالِهِ) فَإِنَّا رَأَيْنَا الشَّرْعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْمَالَ كَالنَّفْسِ حَتَّى أَبَاحَ الْقِتَالَ دُونَهُ وَالْقَتْلُ كَالنَّفْسِ. وَفِي الْبَدَائِعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ صَارَ كَأَنَّ الْإِحْصَارَ زَالَ عَنْهُ بِالذَّبْحِ فَيَحِلُّ بِهِ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ مَضَى؛ لِسَبِيلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَبْعُوثِ مَعَهُ بِالذَّبْحِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَمَا ذُبِحَ عَنْهُ. اهـ.
إنْ شَاءَ صَبَرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ لِيُذْبَحَ عَنْهُ فَيَتَحَلَّلُ، وَإِنْ شَاءَ تَوَجَّهَ لِيُؤَدِّيَ النُّسُكَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْإِحْرَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ (وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا) لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ الْفَوَاتِ.
(وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ فَهُوَ مُحْصَرٌ)؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ فَصَارَ كَمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ) أَمَّا عَلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِهِ وَالدَّمُ بَدَلٌ عَنْهُ فِي التَّحَلُّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَلَا يُثْلِجُ الْخَاطِرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَوَجَّهَ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْإِيفَاءَ بِمَا الْتَزَمَهُ كَمَا الْتَزَمَهُ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ أُحْصِرَ) بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ (لَا يَكُونُ مُحْصَرًا؛ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْ الْفَوَاتِ) بِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ فَلَا يَرِدُ النَّقْضُ بِالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ مِنْ الْفَوَاتِ مُتَحَقِّقٌ فِيهَا مَعَ تَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْفِعْلُ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَهُ فَسَادٌ وَلَا فَوَاتٌ، وَسَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الطَّوَافُ فِي أَيِّ وَقْتٍ اتَّفَقَ مِنْ عُمَرِهِ، بِخِلَافِ مَعْنَى عَدَمِ الْفَوَاتِ فِي الْعُمْرَةِ فَلَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ مَعْنَى الْإِحْصَارِ عَنْ الْحَجِّ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْمَنْعُ عَنْ أَفْعَالِهِ، وَهَذَا قَدْ فَعَلَ مَا لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ فَلَمْ يَلْزَمْ امْتِدَادُ الْإِحْرَامِ الْمُوجِبِ لِلْحَرَجِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْإِحْلَالِ بِالْحَلْقِ يَوْمَ النَّحْرِ عَنْ كُلِّ مَحْظُورٍ سِوَى النِّسَاءِ، ثُمَّ إنْ حَلَقَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَزِمَهُ دَمٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعُذْرُ الْمُجَوِّزُ لِلْإِحْلَالِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ عَلَى سُنَنِ الْمَشْرُوعِ الْأَصْلِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى الْمَنْعُ فِي يَسِيرٍ وَهُوَ النِّسَاءُ فَيَزُولُ بِالطَّوَافِ، وَلَا يَعْجِزُ الْمُحْصَرُ عَنْ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ يَجِدُ بِهَا فُرْصَةَ قَدْرِ الطَّوَافِ مُخْتَفِيًا فِي زَمَانٍ قَدْرَ شَهْرٍ، وَالْمَنْعُ مِنْ النِّسَاءِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَسْتَلْزِمُ حَرَجًا يُبِيحُ الْإِحْلَالَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الْأَصْلِيِّ: أَعْنِي الْحَلْقَ، بِخِلَافِ الْإِحْصَارِ بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِهَا، هَذَا، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ بَعْدَ مُجَرَّدِ الْوُقُوفِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِوُقُوفِ الْمُزْدَلِفَةِ وَدَمُ الرَّمْيِ وَدَمَانِ؛ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ عَنْ الْمَكَانِ وَتَأْخِيرِ الطَّوَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَخَّرَهُمَا وَدَمٌ آخَرُ إنْ حَلَقَ فِي الْحِلِّ.
وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ قِيلَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْلِقَ فِي مَكَانِهِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى يَحْلِقَ فِي الْحَرَمِ تَأَخَّرَ عَنْ زَمَانِهِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ الزَّمَانِ أَهْوَنُ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ. وَقِيلَ لَهُ، إذْ رُبَّمَا لَوْ أَخَّرَهُ؛ لِيَحْلِقَ فِي الْحَرَمِ يَمْتَدُّ الْإِحْصَارُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْحَلْقِ فِي الْحِلِّ فَيَفُوتُ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ (قَوْلُهُ: وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ) وَهُوَ مَا ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ
تَعَالَى وَالصَّحِيحُ مَا أَعْلَمْتُك مِنْ التَّفْصِيلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ الْفَوَاتِ
(وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ)؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَيْهِ (وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَتَحَلَّلَ وَيَقْضِيَ الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ)؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَالْعُمْرَةُ لَيْسَتْ إلَّا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ،
عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ بِالْحَرَمِ فَقَالَ: لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، فَقُلْت: أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ؟ فَقَالَ: إنَّ مَكَّةَ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ دَارَ الْحَرْبِ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: إذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ قَوْلُ الْكُلِّ. وَفِيهِ أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ مِنْ الْحَرَمِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا مِنْ الْحِلِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا أَنَّ بَعْضَهَا مِنْ الْحَرَمِ، وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى إذَا لَاحَظْتَ تَعْلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِمُلَاحَظَتِهِ أَيْضًا يَتَّضِحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَمْلِ مَنْعِهِ الْإِحْصَارَ بِالْحَرَمِ عَلَى مَا بِالْعُذْرِ، إذْ لَا يَخْفَى إمْكَانُ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ الذَّهَابِ إلَى مَكَّةَ بِشِدَّةِ الْمَرَضِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِضْرَارِ بِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ مَعَ الْمَرَضِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[تَقْسِيمٌ] الْمُتَحَلِّلُ قَبْلَ أَعْمَالِ مَا أَحْرَمَ بِهِ إمَّا مُحْصَرٌ أَوْ فَائِتُ الْحَجِّ أَوْ غَيْرُهُمَا، وَتَحَلَّلَ الْأَوَّلُ فِي الْحَالِ بِالدَّمِ وَالثَّانِي بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالثَّالِثِ بِلَا شَيْءٍ يَتَقَدَّمُهُ وَهُوَ كُلُّ مَنْ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ شَرْعًا؛ لِحَقِّ الْعَبْدِ، كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعَيْنِ؛ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى إذَا أَحْرَمَا بِغَيْرِ إذْنٍ فَإِنَّ لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَاهُمَا فِي الْحَالِ بِلَا شَيْءٍ؛ ثُمَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْعَثَ بِهَدْيٍ يُذْبَحُ عَنْهَا فِي الْحَرَمِ، وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا أُعْتِقَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ، وَعَلَيْهِمَا مَعًا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَنْثُورَةِ.
(بَابُ الْفَوَاتِ). (قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلِيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»)
وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ، وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ فَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ وَقَعَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
(وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِيهَا فِعْلُهَا،
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي سَنَدِهِ رَحْمَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَضَعَّفَهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَضَعَّفَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ عِيسَى النَّهْشَلِيُّ ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ خُصُوصِ هَذَا الْمَتْنِ الِاسْتِدْلَال عَلَى نَفْيِ لُزُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْفَوَاتِ، وَكَانَ الْمَذْكُورُ جَمِيعَ مَا لَهُ مِنْ الْحُكْمِ، وَإِلَّا نَافَى الْحِكْمَةَ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَذْكُورِ لُزُومُ الدَّمِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ حُكْمِهِ لَذَكَرَهُ. (قَوْلُهُ: كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ) وَهُوَ أَنْ لَا يَزِيدَ فِي النِّيَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ يُلَبِّي فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الطَّوَافِ، فَإِذَا شَرَعَ قَبْلَ التَّعْيِينِ تَعَيَّنَتْ الْعُمْرَةُ وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى طَافَ أَقَلَّ الْأَشْوَاطِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا وَلَزِمَهُ حُكْمُ الرَّفْضِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ شَيْئًا فِي بَابِ الْإِحْرَامِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ مَا انْعَقَدَ صَحِيحًا اللَّازِمُ لِيَخْرُجَ بِهِ الْعَبْدُ وَالزَّوْجَةُ بِغَيْرِ إذْنٍ لَا مُقَابِلَ مَا فَسَدَ.
(قَوْلُهُ: وَلَا دَمَ عَلَيْهِ) وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: عَلَيْهِ الدَّمُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَلَنَا فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ آنِفًا، وَهُوَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى؛ لِلنَّهْشَلِيِّ، وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ؛ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ فَاتَهُ الْحَجُّ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ قَدْ حَلَلْت، فَإِذَا أَدْرَكَك الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ؛ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ فَاتَهُمْ الْحَجُّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ مَا عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِهِ حِينَ بَيَانِهِ لِحُكْمِ الْفَوَاتِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمَا فِيهِ
وَهِيَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ الْحَجِّ فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ وَقْتِ رُكْنِ الْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَدَّاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ صَحَّ وَيَبْقَى مُحْرِمًا بِهَا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِغَيْرِهَا وَهُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْحَجِّ وَتَخْلِيصُ وَقْتِهِ لَهُ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، وَتَأَيَّدَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ لِفَائِتِ الْحَجِّ جُعِلَتْ شَرْعًا شَرْطًا لِلتَّحَلُّلِ، وَكَانَتْ كَالدَّمِ فِي الْمُحْصَرِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّحَلُّلَ إلَخْ الْمُرَادُ أَنَّ لُزُومَ الدَّمِ عَلَى الْمُحْصَرِ؛ لِكَوْنِهِ تَعَجَّلَ الْإِحْلَالَ قَبْلَ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا قَدْ حَلَّ بِالْأَعْمَالِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ لَا مَا يَتَخَايَلُ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ؛ لِيُقَالَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُحْصَرِ عُمْرَةٌ فِي قَضَاءِ الْحَجَّةِ حِينَئِذٍ
. (قَوْلُهُ: لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ. حَلَّتْ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ اهـ.
وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُفِيدُهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَنَافِعٌ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ الْبَحْرُ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ: خَمْسَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَالثَّلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ اعْتَمِرْ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا مَا شِئْت. اهـ. هَذَا وَأَمَّا أَفْضَلُ أَوْقَاتِهَا فَرَمَضَانُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» وَفِي طَرِيقٍ؛ لِمُسْلِمٍ «تُقْضَى حَجَّةً أَوْ حَجَّةٌ مَعِي» وَفِي رِوَايَةٍ؛ لِأَبِي دَاوُد «تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي» مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَكَانَ السَّلَفُ رحمهم الله يُسَمُّونَهَا الْحَجَّ الْأَصْغَرَ.
هَذَا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْحَجِّ الْوَعْدَ بِعَدَدِ عُمُرَاتِهِ عليه الصلاة والسلام فَنَقُولُ: قَدْ «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمُرَاتٍ كُلُّهُنَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ» ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ مُدَّةَ مُقَامَهُ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ شَيْئًا، وَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَنْ هَذَا ادَّعَى مَنْ ادَّعَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْعَلَ دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ لَا خَارِجًا، بِأَنْ يَخْرُجَ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ إلَى الْحِلِّ فَيَعْتَمِرَ كَمَا يُفْعَلُ الْيَوْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَمْنُوعًا؛ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْأَرْبَعَةِ، إحْرَامَهُ بِهِنَّ، فَأَمَّا مَا تَمَّ لَهُ مِنْهَا فَثَلَاثٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ:«اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمْرَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ فَلَمْ يَحْتَسِبْ بِعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ» ، كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ.
[الْأُولَى] عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَصُدَّ بِهَا فَنَحَرَ الْهَدْيَ بِهَا وَحَلَقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ. [الثَّانِيَةُ] عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَهِيَ قَضَاءٌ عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ، هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لَا قَضَاءٌ عَنْهَا، وَتَسْمِيَةُ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعِ السَّلَفِ إيَّاهَا بِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِهِ، وَتَسْمِيَةُ بَعْضِهِمْ إيَّاهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ لَا يَنْفِيهِ، فَإِنَّهُ اتَّفَقَ فِي الْأُولَى مُقَاضَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَدْخُلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، وَهَذَا الْأَمْرُ قَضِيَّةٌ تَصِحُّ إضَافَةُ هَذِهِ الْعُمْرَةِ إلَيْهَا، فَإِنَّهَا عُمْرَةٌ كَانَتْ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَهِيَ قَضَاءٌ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَتَصِحُّ إضَافَتُهَا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا تَسْتَلْزِمُ الْإِضَافَةُ إلَى الْقَضِيَّةِ نَفْيَ الْقَضَاءِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْقَضَاءِ يُفِيدُ ثُبُوتَهُ فَيَثْبُتُ مُفِيدُ ثُبُوتِهِ بِلَا مُعَارِضٍ.
وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيمَنْ شَرَعَ فِي إحْرَامٍ بِنُسُكٍ فَلَمْ يُتِمَّهُ لِإِحْصَارٍ فَحَلَّ أَنْ يَقْضِيَ وَهَذِهِ تَحْتَمِلُ الْقَضَاءَ فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ، وَعَدَمُ نَقْلِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِالْقَضَاءِ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ، بَلْ الْمُفِيدُ لَهُ نَقْلُ الْعَدَمِ لَا عَدَمُ النَّقْلِ. نَعَمْ هُوَ مِمَّا يُؤْنَسُ بِهِ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ، لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الثَّابِتِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِعِلْمِهِمْ بِهِ وَقَضَائِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ طَرِيقِ عِلْمِهِمْ. [الثَّالِثَةُ] عُمْرَتُهُ الَّتِي قَرَنَهَا مَعَ حَجَّتِهِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا إثْبَاتَهُ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَجَّ قَارِنًا أَوْ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا إلَى الْحَجِّ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ حَجَّ مُتَمَتِّعًا، أَوْ الَّتِي اعْتَمَرَهَا فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ أَفْرَدَ وَاعْتَمَرَ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الرَّابِعِ.
[الرَّابِعَةُ] عُمْرَتُهُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ لَمَّا خَرَجَ صلى الله عليه وسلم إلَى حُنَيْنٍ وَدَخَلَ بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ إلَى مَكَّةَ لَيْلًا وَخَرَجَ مِنْهَا لَيْلًا إلَى الْجِعْرَانَةِ فَبَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَزَالَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ فِي الطَّرِيقِ، وَمِنْ ثَمَّةَ خَفِيَتْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا أَنَّهُنَّ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَلِمَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم «لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ». وَأَمَّا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:«اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرَ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، إلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ» : عُمْرَةٌ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ فَلَا يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَ عُمْرَةِ الْقِرَانِ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَفِعْلُهَا كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَصَحَّ طَرِيقَا الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعًا إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا بَلَغَهَا ذَلِكَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمْرَةً قَطُّ إلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ» فَقَدْ حَكَمَ الْحُفَّاظُ بِغَلَطِ هَذَا الْحَدِيثِ، إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ عُمَرَهُ كُلَّهَا لَمْ تَزِدْ عَنْ أَرْبَعٍ، وَقَدْ عَيَّنَهَا أَنَسٌ وَعَدَّهَا وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ ذِي الْقَعْدَةَ سِوَى الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، فَلَوْ كَانَتْ لَهُ عُمْرَةٌ فِي رَجَبٍ وَأُخْرَى فِي رَمَضَانَ لَكَانَتْ سِتًّا، وَلَوْ كَانَتْ أُخْرَى فِي شَوَّالٍ كَمَا هُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ كَانَتْ سَبْعًا» . وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ فِيهِ وَجَبَ ارْتِكَابُهُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ فِيهِ حُكِمَ بِمُقْتَضَى الْأَصَحِّ وَالْأَثْبَتِ، وَهَذَا أَيْضًا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَمْعُ بِإِرَادَةِ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ فَإِنَّهُ خَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ وَالْإِحْرَامُ بِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَكَانَ
فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ.
(وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ» وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» ؛ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ.
مَجَازًا؛ لِلْقُرْبِ، هَذَا إنْ صَحَّ وَحُفِظَ، وَإِلَّا فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الثَّابِتُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ كُلَّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَعَ تَرَدُّدٌ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ أَفْضَلَ أَوْقَاتِ الْعُمْرَةِ أَشْهُرُ الْحَجِّ أَوْ رَمَضَانُ، فَفِي رَمَضَانَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وَلَكِنَّ فِعْلَهُ لَمَّا لَمْ يَقَعْ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ ظَاهِرًا أَنَّهُ أَفْضَلُ إذْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ سبحانه وتعالى يَخْتَارُ لِنَبِيِّهِ إلَّا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ، أَوْ أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ بِتَنْصِيصِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ. وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ؛ لِاقْتِرَانِهِ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ كَاشْتِغَالِهِ بِعِبَادَاتٍ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ تَبَتُّلًا وَأَلَّا يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ اعْتَمَرَ فِيهِ لَخَرَجُوا مَعَهُ وَلَقَدْ كَانَ بِهِمْ رَحِيمًا، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَنَّ تَرْكَهُ لَهَا؛ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُ كَالْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ بِهِمْ وَمَحَبَّتِهِ لَأَنْ يُسْقِيَ بِنَفْسِهِ مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ ثُمَّ تَرَكَهُ كَيْ لَا يَغْلِبَهُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِهِمْ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ عليه الصلاة والسلام فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. وَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ حَدِيثٍ فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذِكْرَ جَمِيعِ مَا اعْتَمَرَ عليه الصلاة والسلام؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ اعْتَمَرَ أَكْثَرَ، فَكَانَ الْمُرَادُ ذِكْرَ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي سَنَةٍ يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِالْغَلَطِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَظَافَرَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، ثُمَّ لَمْ يَعْتَمِرْ إلَّا مِنْ قَابِلٍ سَنَةَ سَبْعٍ سِوَى الَّتِي فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ إلَى مَكَّةَ حَتَّى فَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي دُخُولِهِ فِي الْفَتْحِ، ثُمَّ أُخْرِجَ إلَى حُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْهَا فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَمَتَى اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ؟ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، وَلَا عِلْمَ إلَّا مَا عَلَّمَ.
(قَوْلُهُ: وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) أَيْ مَنْ أَتَى بِهَا مَرَّةً فِي الْعُمُرِ فَقَدْ أَقَامَ السُّنَّةَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ غَيْرَ مَا ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا فِيهِ، إلَّا أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ، هَذَا إذَا أَفْرَدَهَا فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْحَجِّ لَا إلَى الْعُمْرَةِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْإِتْيَانَ بِالْعُمْرَةِ عَلَى وَجْهٍ أَفْضَلَ فِيهَا فَفِي رَمَضَانَ أَوْ الْحَجَّ عَلَى وَجْهٍ أَفْضَلَ فِيهِ فَبِأَنْ يَقْرِنَ مَعَهُ عُمْرَةً. (قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فَرِيضَةٌ) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ مِنْ مَشَايِخِ بُخَارَى: فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَقِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ. وَجْهُ
وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ إذْ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ.
قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ» قَالَ الْحَاكِمُ: الصَّحِيحُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِ. اهـ.
وَفِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ ضَعَّفُوهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: حَذَفْنَا حَدِيثَهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مَوْقُوفًا وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَأَنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ وَتَعْتَمِرَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهَا شُذُوذٌ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ عَدَمِ دَلَالَةٍ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ:«لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا» وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إلَّا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّ عُمْرَتَهُمْ طَوَافُهُمْ، فَلْيَخْرُجُوا إلَى التَّنْعِيمِ ثُمَّ لْيَدْخُلُوهَا» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي مُنَاظَرَةِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ: أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ. وَلَنَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ فَهُوَ أَفْضَلُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا غَيْرُ. قِيلَ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ هَذَا فِيهِ مَقَالٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْقِرَانِ مَا فِيهِ وَأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِهِ عَنْ كَوْنِ حَدِيثِهِ حَسَنًا وَالْحَسَنُ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ إنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَقَدْ اتَّفَقَتْ الرُّوَاةُ عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَلَى تَحْسِينِ حَدِيثِهِ هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِطَرِيقٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَضَعَّفَهُ. وَرَوَى عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ، وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ إنَّهُ مُرْسَلٌ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، وَتَضْعِيفُ عَبْدِ الْبَاقِي وَمَاهَانُ اعْتَرَضَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ بِأَنَّ عَبْدَ الْبَاقِي بْنَ قَانِعٍ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ ثِقَاتٌ،
قَالَ (وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ
مَعَ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا عَلَى التَّنَزُّلِ.
قَالَ: وَتَضْعِيفُ مَاهَانَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مَشَاهِيرُ وَذَكَرَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي سَنَدِهِ مَجَاهِيلُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَفِيهِ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ. قَالَ فِي الْإِمَامِ: مُتَكَلَّمٌ فِيهِ اهـ. وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُخْرِجُ حَدِيثَهُ عَنْ الْحَسَنِ فَلَا يَنْزِلُ عَنْ مُطْلَقِ الْحُجِّيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: " الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ " وَكَفَى بِعَبْدِ اللَّهِ قُدْوَةً. فَبَعْدَ إرْخَاءِ الْعِنَانِ فِي تَحْسِينِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ تَعَدُّدُ طُرُقِهِ يَرْفَعُهُ إلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ، كَمَا أَنَّ تَعَدُّدَ طُرُقِ الضَّعِيفِ يَرْفَعُهُ إلَى الْحَسَنِ؛ لِضَعْفِ الِاحْتِمَالِ بِهَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَقَامَ رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ، وَالِافْتِرَاضُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَمْنَعُهُ عَنْ إثْبَاتِ مُقْتَضَاهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله الْفَرْضُ الظَّنِّيُّ وَهُوَ الْوُجُوبُ عِنْدَنَا، وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ لَا يَثْبُتَ مُقْتَضَى مَا رَوَيْنَاهُ أَيْضًا؛ لِلِاشْتِرَاكِ فِي مُوجِبِ الْمُعَارَضَةِ. فَحَاصِلُ التَّقْرِيرِ حِينَئِذٍ تَعَارُضُ مُقْتَضَيَاتِ الْوُجُوبِ وَالنَّفَلِ فَلَا يَثْبُتُ وَيَبْقَى مُجَرَّدُ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ السُّنِّيَّةَ فَقُلْنَا بِهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
[فُرُوعٌ] وَإِنْ اُسْتُفِيدَ شَيْءٌ مِنْهَا مِمَّا تَقَدَّمَ فَإِنِّي لَا أَكْرَهُ تَكْرَارَهَا، فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْمَوَاقِعِ يُوَسِّعُ بَابَ الْوِجْدَانِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. إحْرَامُ فَائِتِ الْحَجِّ حَالَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ إحْرَامُ الْحَجِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَصِيرُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْمَفْعُولُ أَيْضًا أَفْعَالُ الْحَجِّ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَجَزَ عَنْ الْكُلِّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. الثَّابِتُ شَرْعًا التَّحَلُّلُ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا قَبْلَهُ، وَلَا تَحَلُّلَ إلَّا بِطَوَافٍ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ، فَلَوْ قَدِمَ مُحْرِمٌ بِحَجَّةٍ فَطَافَ وَسَعَى ثُمَّ خَرَجَ إلَى الرَّبَذَةِ مَثَلًا فَأُحْصِرَ بِهَا حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَكْفِيهِ طَوَافُ التَّحِيَّةِ وَالسَّعْيِ فِي التَّحَلُّلِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَارِنًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَتِهِ الَّتِي قَرَنَهَا؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا وَلَمْ يَطُفْ شَيْئًا حَتَّى فَاتَهُ يَطُوفُ الْآنَ لِعُمْرَتِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ وَيَسْعَى، وَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَهَا، وَإِنَّمَا يَقْطَعُهَا إذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ.
وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَمَكَثَ حَرَامًا حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ حَجِّهِ بَاقٍ، إذْ لَوْ انْقَلَبَ إحْرَامَ عُمْرَةٍ كَانَ مُتَمَتِّعًا إذْ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّمَتُّعِ تَقَدُّمُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ أَوْقَعَ أَفْعَالَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ لِفَائِتِ الْحَجِّ أَنْ يَحُجَّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ إحْرَامِ حَجٍّ، حَتَّى لَوْ مَكَثَ مُحْرِمًا إلَى قَابِلٍ لَمْ يَفْعَلْ أَفْعَالَ عُمْرَةِ التَّحَلُّلِ، وَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ إحْرَامِ حَجِّهِ تَغَيَّرَ شَرْعًا بِالْفَوَاتِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجِبِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ أَبُو يُوسُفَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا عَلَى صَيْرُورَتِهَا إحْرَامَ عُمْرَةٍ، وَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ
الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ
التَّحَلُّلِ بِعُمْرَةٍ بَيْنَ كَوْنِ الْفَوَاتِ حَالَ الصِّحَّةِ أَوْ بَعْدَمَا فَسَدَ بِالْجِمَاعِ. وَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَهَلَّ بِأُخْرَى طَافَ لِلْفَائِتَةِ وَسَعَى وَرَفَضَ الَّتِي أَدْخَلَهَا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ جَامَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ حَجَّتَيْنِ، وَعَلَيْهِ فِيهَا مَا عَلَى الرَّافِضِ.
وَلَوْ نَوَى بِهَذِهِ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا قَضَاءَ الْفَائِتَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِهْلَالِ شَيْءٌ سِوَى الَّتِي هُوَ فِيهَا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ بَاقٍ، وَنِيَّةُ إيجَادِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ لَغْوٌ فَيَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَيَقْضِي الْفَائِتَ فَقَطْ، فَلَوْ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ إحْرَامًا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَمَلًا عَلَى قَوْلِهِمَا. وَلَوْ أَهَلَّ رَجُلٌ بِحَجَّتَيْنِ فَقَدِمَ مَكَّةَ وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا بِعُمْرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّرْكِ وَالشُّرُوعِ رَفَضَ إحْدَاهُمَا، وَالتَّحَلُّلُ بِالْعُمْرَةِ إنَّمَا يَجِبُ لِغَيْرِ مَا رَفَضَ وَذَلِكَ وَاحِدَةٌ.
(بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ)
إدْخَالُ اللَّامِ عَلَى غَيْرِ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ بَلْ هُوَ مَلْزُومُ الْإِضَافَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ كَوْنَ عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ قَدَّمَ مَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي أَنَّ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَيْسَ لَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُهُ، بَلْ فِي أَنَّهُ يَنْجَعِلُ بِالْجَعْلِ أَوَّلًا بَلْ يَلْغُو جَعْلُهُ (قَوْلُهُ أَوْ غَيْرِهَا) كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ (قَوْلُهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُخَالِفَ لِمَا ذَكَرَ خَارِجٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ رضي الله عنهما لَا يَقُولَانِ بِوُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ بَلْ غَيْرِهَا كَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ أَصْحَابَنَا لَهُمْ كَمَالُ الِاتِّبَاعِ وَالتَّمَسُّكِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِاسْمِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ وَصْفًا عَبَّرَ عَنْهُمْ بِهِ.
وَخَالَفَ فِي كُلِّ الْعِبَادَاتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} وَسَعْيُ غَيْرِهِ لَيْسَ سَعْيَهُ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَسُوقَةً قَصًّا لِمَا
وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ» جَعَلَ تَضْحِيَةَ إحْدَى الشَّاتَيْنِ لِأُمَّتِهِ.
وَالْعِبَادَاتُ أَنْوَاعٌ: مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالزَّكَاةِ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَاةِ، وَمُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا كَالْحَجِّ، وَالنِّيَابَةُ تَجْرِي فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ
فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عليهما السلام فَحَيْثُ لَمْ يُتَعَقَّبْ بِإِنْكَارٍ كَانَ شَرِيعَةً لَنَا عَلَى مَا عُرِفَ. وَالْجَوَابُ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِيمَا قَالُوهُ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا نُسِخَتْ أَوْ مُقَيَّدَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ مَا يُوجِبُ الْمَصِيرَ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ» . وَالْمَلْحَةُ بَيَاضٌ يَشُوبُهُ شَعَرَاتٌ سُودٌ.
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ يَشْتَرِيَ كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَهُ بِالْبَلَاغِ، وَذَبَحَ الْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} الْآيَةَ، اللَّهُمَّ لَكَ وَمِنْكَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ ذَبَحَ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ بِنَقْصٍ فِي الْمَتْنِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَتَى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَقَرْنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَأَضْجَعَ أَحَدَهُمَا وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَضْجَعَ الْآخَرَ وَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ» وَكَذَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدَيْهِمَا. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ. وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدَ الْغِفَارِيُّ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْفَضَائِلِ.
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمِنْ طَرِيقِهِ، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ.
وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا وَالدَّارَقُطْنِيّ، فَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَانْتَشَرَتْ مُخْرِجُوهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ أَنَّهُ ضَحَّى عَنْ أُمَّتِهِ مَشْهُورًا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْكِتَابِ بِهِ بِمَا لَمْ يَجْعَلْهُ صَاحِبُهُ، أَوْ نَنْظُرُ إلَيْهِ وَإِلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَانَ لِي أَبَوَانِ أَبَرُّهُمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا فَكَيْفَ لِي بِبِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِنْ الْبِرِّ بَعْدَ الْمَوْتِ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِكَ، وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِكَ» وَإِلَى مَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ وَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً ثُمَّ وَهَبَ أَجْرَهَا لِلْأَمْوَاتِ أُعْطِيَ مِنْ الْأَجْرِ بِعَدَدِ الْأَمْوَاتِ» وَإِلَى مَا «عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَتَصَدَّقُ عَنْ مَوْتَانَا وَنَحُجُّ عَنْهُمْ وَنَدْعُو لَهُمْ فَهَلْ يَصِلُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إنَّهُ لَيَصِلُ إلَيْهِمْ وَإِنَّهُمْ لَيَفْرَحُونَ بِهِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالطَّبَقِ إذَا أُهْدِيَ إلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ الْعُكْبَرِيُّ.
وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَهَذِهِ الْآثَارُ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا فِي السُّنَّةِ أَيْضًا مِنْ نَحْوِهَا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ تَرَكْنَاهُ لِحَالِ الطُّولِ يَبْلُغُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْكُلِّ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الصَّالِحَاتِ لِغَيْرِهِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ مَبْلَغَ
لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ النَّائِبِ، وَلَا تَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِحَالٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إتْعَابُ النَّفْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ، وَتَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ عِنْدَ الْعَجْزِ لِلْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ الْمَشَقَّةُ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ، وَلَا تَجْرِي عِنْدَ الْقُدْرَةِ لِعَدَمِ إتْعَابِ النَّفْسِ، وَالشَّرْطُ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ، وَفِي الْحَجِّ النَّفْلِ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ حَالَةَ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ بَابَ النَّفْلِ أَوْسَعُ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ
التَّوَاتُرِ، وَكَذَا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} وَمِنْ الْإِخْبَارِ بِاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} وَسَاقَ عِبَارَتَهُمْ {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} إلَى قَوْلِهِ {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} قَطْعِيٌّ فِي حُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِعَمَلِ الْغَيْرِ فَيُخَالِفُ ظَاهِرَ الْآيَةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا، إذْ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ اسْتِغْفَارُ أَحَدٍ لِأَحَدٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَطَعْنَا بِانْتِفَاءِ إرَادَةِ ظَاهِرِهَا عَلَى صِرَافَتِهِ فَتَتَقَيَّدُ بِمَا لَمْ يَهَبْهُ الْعَامِلُ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ النَّسْخِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ أَسْهَلُ إذْ لَمْ يَبْطُلْ بَعْدَ الْإِرَادَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارَاتِ وَلَا يَجْرِي النَّسْخُ فِي الْخَبَرِ، وَمَا يُتَوَهَّمُ جَوَابًا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عليهما السلام أَنْ لَا يَجْعَلَ الثَّوَابَ لِغَيْرِ الْعَامِلِ ثُمَّ جَعَلَهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ شَرِيعَتِنَا حَقِيقَةُ مَرْجِعِهِ إلَى تَقْيِيدِ الْإِخْبَارِ لَا إلَى النَّسْخِ إذْ حَقِيقَتُهُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَى ثُمَّ تُرْفَعَ إرَادَتُهُ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ بِالْإِرَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَلَمْ يَقَعْ نَسْخٌ لَهُمْ، وَلَمْ يَرِدْ الْإِخْبَارُ أَيْضًا فِي حَقِّنَا ثُمَّ نُسِخَ.
وَأَمَّا جَعْلُ اللَّامِ فِي لِلْإِنْسَانِ بِمَعْنَى عَلَى فَبَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِهَا وَمِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهَا وَعْظٌ لِلَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى، وَقَدْ ثَبَتَ فِي ضِمْنِ إبْطَالِنَا لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ انْتِفَاءُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِمَا فِي الْآثَارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُوَفِّقُ (قَوْلُهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ)
وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ كَحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِ «حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي» .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ، وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ أُقِيمَ
الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ التَّكَالِيفِ الِابْتِلَاءُ لِيَظْهَرَ مِنْ الْمُكَلَّفِ مَا سَبَقَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ بِوُقُوعِهِ مِنْهُ مِنْ الِامْتِثَالِ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ تَارِكًا هَوَى نَفْسِهِ لِإِقَامَةِ أَمْرِ رَبِّهِ سبحانه وتعالى فَيُثَابُ.
أَوْ الْمُخَالَفَةِ فَيُعْفَى عَنْهُ، أَوْ يُعَاقَبُ فَتَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ آثَارُ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ تَعَالَى اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْبَاهِرَةُ وَكَمَالُ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْ الْمُخَالَفَةِ قَبْلَ ظُهُورِهِ عَنْ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ. ثُمَّ مِنْ التَّكَالِيفِ الْعِبَادَاتُ وَهِيَ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَمُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا، وَالْمَشَقَّةُ فِي الْبَدَنِيَّةِ تَقَيُّدُ الْجَوَارِحِ وَالنَّفْسِ بِالْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ فِي مَقَامِ الْخِدْمَةِ.
وَفِي الْمَالِيَّةِ فِي تَنْقِيصِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ لِلنَّفْسِ، وَفِيهَا مَقْصُودٌ آخَرُ وَهُوَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَالْمَشَقَّةُ فِيهَا لَيْسَ بِهِ بَلْ بِالتَّنْقِيصِ فَكُلُّ مَا تَضَمَّنَ الْمَشَقَّةَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ إذْ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ فَلِذَا لَمْ تَجُزْ النِّيَابَةُ فِي الْبَدَنِيَّةِ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِشْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ فَمَا فِيهِ الْمَشَقَّةُ مِنْ أَحَدِ مَقْصُودٍ بِهَا وَهُوَ تَنْقِيصُ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهِ لَمْ تَجُزْ فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَا يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ إذْ لَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ. وَالْوَاقِعُ مِنْ النَّائِبِ لَيْسَ إلَّا الْمُنَاوَلَةُ لِلْفَقِيرِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا مَشَقَّةَ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ. وَعَلَى هَذَا كَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ لَا تَجْرِيَ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ لِتَضَمُّنِهِ الْمَشَقَّتَيْنِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَالْأَوْلَى لَمْ تَقُمْ بِالْآمِرِ لَكِنَّهُ تَعَالَى رَخَّصَ فِي إسْقَاطِهِ بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ الْأُخْرَى: أَعْنِي إخْرَاجَ الْمَالِ عِنْدَ الْعَجْزِ الْمُسْتَمِرِّ إلَى الْمَوْتِ رَحْمَةً وَفَضْلًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْفَعَ نَفَقَةَ الْحَجِّ إلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، بِخِلَافِ حَالِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْذُرْهُ لِأَنَّ تَرْكَهُ فِيهَا لَيْسَ إلَّا لِمُجَرَّدِ إيثَارِ رَاحَةِ نَفْسِهِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ بِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لَا التَّخْفِيفَ فِي طَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَإِنَّمَا شَرَطَ دَوَامَهُ إلَى الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ، فَحَيْثُ تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُهُ لِقِيَامِ الشُّرُوطِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِي أَوَّلِ أَعْوَامِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أَثِمَ وَتَقَرَّرَ الْقِيَامُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِالشُّرُوطِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ رَخَّصَ لَهُ الِاسْتِنَابَةَ رَحْمَةً وَفَضْلًا مِنْهُ، فَحَيْثُ قَدَرَ عَلَيْهِ وَقْتًا مَا مِنْ عُمْرِهِ بَعْدَمَا اسْتَنَابَ فِيهِ لِعَجْزٍ لَحِقَهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ظَهَرَ انْتِفَاءُ شَرْطِ الرُّخْصَةِ، فَلِذَا لَوْ أَحَجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ لِمَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ أَوَّلًا، أَوْ كَانَ مَحْبُوسًا كَانَ أَمْرُهُ مُرَاعًى إنْ اسْتَمَرَّ بِذَلِكَ الْمَانِعِ حَتَّى مَاتَ ظَهَرَ أَنَّهُ وَقَعَ مُجْزِيًا، وَإِنْ عُوفِيَ أَوْ خُلِّصَ مِنْ السِّجْنِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مُجْزِيًا وَظَهَرَ وُجُوبُ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَحَجَّ صَحِيحٌ غَيْرَهُ ثُمَّ عَجَزَ لَا يَجْزِيهِ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَذِنَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ.
وَلَا يَتَخَايَلُ خِلَافُ هَذَا مِمَّا فِي الْفَتَاوَى أَيْضًا، قَالَ: إذَا قَالَ رَجُلٌ لِلَّهِ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ حَجَّةً فَأَحَجَّ عَنْهُ ثَلَاثِينَ نَفْسًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، إنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ الْحَجِّ جَازَ عَنْ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ قُدْرَتُهُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ مَجِيءِ وَقْتِ الْحَجِّ فَجَازَ، وَإِنْ جَاءَ وَقْتُ الْحَجِّ وَهُوَ يَقْدِرُ بَطَلَتْ حَجَّتُهُ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ بِنَفْسِهِ عَلَيْهَا فَانْعَدَمَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِحْجَاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَعَلَى هَذَا كُلُّ سَنَةٍ تَجِيءُ وَفِيهَا الْمَرْأَةُ إذَا لَمْ تَجِدْ مُحْرِمًا لَا تَخْرُجُ إلَى الْحَجِّ إلَى أَنْ تَبْلُغَ الْوَقْتَ الَّذِي تَعْجِزَ عَنْ الْحَجِّ فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَبْعَثَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهَا، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ وُجُودِ الْمُحْرِمِ، فَإِنْ بَعَثَتْ رَجُلًا إنْ دَامَ عَدَمُ وُجُودِ الْمُحْرِمِ إلَى أَنْ مَاتَتْ فَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْمَرِيضِ إذَا أَحَجَّ عَنْهُ رَجُلًا وَدَامَ الْمَرَضُ إلَى أَنْ مَاتَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ كَوْنِ شَرْطِ الْإِحْجَاجِ عَنْ الْفَرِيضَةِ مَجِيءُ الْوَقْتِ وَهُوَ قَادِرٌ فَلَا يَحُجُّ حَتَّى يَعْرِضَ الْمَانِعُ وَيَدُومَ إلَى الْمَوْتِ، فَلَوْ أَوْصَى قَبْلَ الْوَقْتِ فَمَاتَ لَا يَصِحُّ.
وَقَدَّمْنَا مِنْ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ فِي نَصْرَانِيٍّ أَسْلَمَ أَوْ صَبِيٍّ بَلَغَ فَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ وَأَوْصَيَا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ لِمَا قُلْنَا، وَجَائِزَةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِمَا وَالْوَقْتُ شَرْطُ الْأَدَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَوَّلًا فِي كَوْنِهِ شَرْطِ الْأَدَاءِ بَلْ هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ. وَالسَّبَبُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَيْتُ لَكِنَّ الْمُوصَى بِهِ لَيْسَ مُطْلَقَ الْحَجِّ لِيَلْزَمَ الْوَرَثَةَ إنْ وَسِعَ الثُّلُثُ بَلْ الْحَجُّ الْفَرْضُ وَقَدْ تَحَقَّقْنَا عَدَمَهُ عَلَيْهِمَا إلَى أَنْ مَاتَا، فَقَوْلُ زُفَرَ أَنْظُرُ.
وَفِي الْبَدَائِعِ. لَوْ كَانَ فَقِيرًا صَحِيحَ الْبَدَنِ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَالَ شَرْطُ الْوُجُوبِ، فَإِذْ لَا مَالَ لَا وُجُوبَ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلَا وَاجِبَ حِينَئِذٍ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْحَجُّ النَّفَلُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَجْزُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَاحِدَةً مِنْ الْمَشَقَّتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ تَرْكُهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ إحْدَاهُمَا تَقَرُّبًا إلَى رَبِّهِ عز وجل فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ صَحِيحًا. ثُمَّ إنَّ وُجُوبَ الْإِيصَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً إذَا كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحُهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ.
وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ تَعَلَّقَ بِهِ وَإِنْ كَانَ زَمَنًا أَوْ مَفْلُوجًا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ أَنَّ مِنْ الشَّرَائِطِ عِنْدَهُ صِحَّةَ الْجَوَارِحِ خِلَافًا لَهُمَا، وَأَسْلَفْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ قَوْلَهُمَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ وَأَنَّهَا أَوْجَهُ وَذَكَرْنَا الْوَجْهَ ثَمَّةَ فَلْيُرَاجَعْ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ أَوْ عَنْ الْمَأْمُورِ. فَعَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَأْمُورِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أُقِيمَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْحَاجِّ مَقَامَ نَفْسِ الْفِعْلِ شَرْعًا كَالشَّيْخِ الْفَانِي حَيْثُ أُقِيمَ الْإِطْعَامُ فِي حَقِّهِ مَقَامَ الصَّوْمِ، قَالُوا: إنَّ بَعْضَ الْفُرُوعِ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا وَسَيَأْتِي وَعَلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ والإسبيجابي وَقَاضِي خَانْ، حَتَّى نَسَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ هَذَا لِأَصْحَابِنَا فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا: أَصْلُ الْحَجِّ عَنْ الْمَأْمُورِ.
وَمُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَجَمْعٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ الْآثَارُ مِنْ السُّنَّةِ وَمِنْ الْمَذْهَبِ بَعْضُ الْفُرُوعِ.
فَمِنْ الْآثَارِ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَهُوَ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ نَعَمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَى فِعْلِهَا الْحَجَّ كَوْنَهُ عَنْهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِلرَّجُلِ «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْحَجَّةِ، فَلَوْ كَانَتْ عَنْهُ لَسَقَطَتْ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ تَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ وَتَلْغُو الْجِهَةُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ. وَلَمْ يَسْتَدِلَّ فِي الْبَدَائِعِ بَعْدَ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ سِوَى بِاحْتِيَاجِ النَّائِبِ إلَى إسْنَادِ الْحَجِّ إلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فِي النِّيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ نَفْسُ الْحَجِّ عَنْ الْآمِرِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْطَ الْإِجْزَاءِ كَوْنُ أَكْثَرِ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْآمِرِ، وَالْقِيَاسُ كَوْنُ الْكُلِّ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَنَّ فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ حَرَجًا بَيِّنًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَصْحِبُ الْمَالَ لَيْلًا وَنَهَارًا فِي كُلِّ حَرَكَةٍ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى شَرْبَةِ مَاءٍ وَكِسْرَةِ خُبْزٍ فِي بَغْتَةٍ فَأَسْقَطْنَا اعْتِبَارَ الْقَلِيلِ اسْتِحْسَانًا وَاعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ إذْ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ، فَإِنْ أَنْفَقَ الْأَكْثَرَ أَوْ الْكُلَّ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَفِي الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَفَاءٌ لِحَجِّهِ رَجَعَ بِهِ فِيهِ، إذْ قَدْ يُبْتَلَى بِالْإِنْفَاقِ فِي مَالِ نَفْسِهِ لِبَغْتَةِ الْحَاجَةِ وَلَا يَكُونُ الْمَالُ حَاضِرًا فَيَجُوزُ ذَلِكَ، كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ وَيُعْطِي الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَشْكُلُ مَا فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ لَوْ قَالَ: أَحِجُّوا فُلَانًا حَجَّةً وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي وَلَمْ يُسَمِّ، كَمْ يُعْطِي؟ قَالَ: يُعْطِي قَدْرَ مَا يَحُجُّ بِهِ، وَلَهُ أَنْ لَا يَحُجَّ بِهِ إذَا أَخَذَهُ وَيَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ لِأَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِذَلِكَ إنَّمَا جُعِلَ الْحَجُّ عِيَارٌ لِمَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً وَمَشُورَتُهُ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ، فَإِنْ شَاءَ حَجَّ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحُجَّ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِمَالٍ يَبْلُغُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ.
وَفِي غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِلسَّيِّدِ الْإِمَامِ بْنِ شُجَاعٍ: رَجُلٌ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَحَجَّ عَنْهُ ابْنُهُ لِيَرْجِعَ فِي التَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَالدَّيْنِ إذَا قَضَاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. وَلَوْ حَجَّ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ لَا يَجُوزُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَيَتَخَايَلُ خِلَافَهُ.
فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ قَالَ: إذَا أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بَعْضُ وَرَثَتِهِ فَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ وَهُمْ كِبَارٌ جَازَ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا أَوْ غُيَّبًا كِبَارًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِالنَّفَقَةِ فَلَا تَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ اهـ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا إذَا أَمَرَهُ بَاقِي الْوَرَثَةِ بِذَلِكَ. وَالنَّفَقَةُ الْمَشْرُوطَةُ مَا تَكْفِيهِ لِذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِلْمَيِّتِ.
وَلَوْ تَوَطَّنَ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بَطَلَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ تَوَطَّنَ حِينَئِذٍ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ فَإِنَّهُ مُسَافِرٌ عَلَى حَالِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إذَا أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ فَهِيَ فِي مَالِ نَفْسِهِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الثَّلَاثِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لَا لِلْأَكْثَرِ قَالُوا: هَذَا فِي زَمَانِهِمْ، إذْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مَتَى شَاءَ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا إلَّا مَعَ النَّاسِ، فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مَقَامُهُ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا لِانْتِظَارِ قَافِلَتِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا مَعَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ مُتَوَطِّنًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ خُرُوجِهَا فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَحَقَّ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، فَهُوَ كَالنَّاشِزَةِ إذَا عَادَتْ إلَى الْمَنْزِلِ، وَالْمُضَارِبِ إذَا أَقَامَ فِي بَلْدَتِهِ أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لَمْ يُنْفِقْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ خَرَجَ مُسَافِرًا بَعْدَ ذَلِكَ عَادَتْ فِيهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تَعُودُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ فِي الرُّجُوعِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَيِّتِ، لَكِنَّا قُلْنَا: إنَّ أَصْلَ سَفَرِهِ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَمَا بَقِيَ ذَلِكَ السَّفَرُ بَقِيَتْ النَّفَقَةُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ أَنَّهُ إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا سَقَطَتْ، فَإِنْ عَادَ عَادَتْ، وَإِنْ تَوَطَّنَهَا سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا تَعُودُ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ التَّوَطُّنَ غَيْرُ مُجَرَّدِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا وَطَنًا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَلَا يُحَدُّ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَتَسْقُطُ النَّفَقَةُ. ثُمَّ الْعَوْدُ إنْشَاءُ سَفَرٍ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَلَوْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَصَرَّحَ فِي الْبَدَائِعِ بَعْدَ نَقْلِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَقَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَّخِذْ مَكَّةَ دَارًا فَأَمَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا ثُمَّ عَادَ لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ كَانَ أَقَامَ بِهَا أَيَّامًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ قَالُوا: إنْ كَانَتْ إقَامَةً مُعْتَادَةً لَمْ تَسْقُطْ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ سَقَطَتْ، وَلَوْ تَعَجَّلَ إلَى مَكَّةَ فَهِيَ فِي مَالِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ عَشْرُ ذِي الْحَجَّةِ فَتَصِيرُ فِي مَالِ الْآمِرِ، وَلَوْ سَلَكَ طَرِيقًا أَبْعَدَ مِنْ الْمُعْتَادِ إنْ كَانَ مِمَّا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَفِي مَالِ الْآمِرِ وَإِلَّا فَفِي مَالِ نَفْسِهِ وَمَا دَامَ مَشْغُولًا بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا فَرَغَ عَادَتْ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ كَانَ بَدَأَ بِالْعُمْرَةِ لِنَفْسِهِ ثُمَّ حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ قَالُوا: يَضْمَنُ جَمِيعَ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْأَمْرَ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ ضَاعَتْ النَّفَقَةُ بِمَكَّةَ أَوْ بِقُرْبٍ مِنْهَا أَوْ لَمْ تَبْقَ: يَعْنِي فَنِيَتْ فَأَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَقَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ بِأَسْطُرٍ إذَا قُطِعَ الطَّرِيقُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَقَدْ أَنْفَقَ بَعْضَ الْمَالِ فِي الطَّرِيقِ فَمَضَى وَحَجَّ وَأَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ لِأَنَّ سُقُوطَهُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ سِوَى أَنَّهُ قَيَّدَ الْأُولَى بِكَوْنِ ذَلِكَ الضَّيَاعِ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ يُوجِبُ اتِّفَاقَ الصُّورَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الرُّجُوعُ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَتَبَرَّعَ بِهِ، إنْ كَانَ الْأَقَلَّ جَازَ وَإِلَّا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَالِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفَقَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ وَمِنْهُ اللَّحْمُ وَشَرَابُهُ وَثِيَابُهُ وَرُكُوبُهُ وَثِيَابُ إحْرَامِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدًا إلَى طَعَامِهِ وَلَا يَتَصَدَّقَ بِهِ وَلَا يُقْرِضَ أَحَدًا وَلَا يَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ إلَّا لِحَاجَةٍ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَلَا يَشْتَرِيَ مِنْهَا مَاءَ الْوُضُوءِ بَلْ يَتَيَمَّمَ وَلَا يَدْخُلَ الْحَمَّامَ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِالْمُتَعَارَفِ: يَعْنِي مِنْ الزَّمَانِ، وَيُعْطِيَ أُجْرَةَ الْحَارِسِ مِنْ مَالِ الْآمِرِ، وَلَهُ أَنْ يَخْلِطَ دَرَاهِمَ النَّفَقَةِ مَعَ الرُّفْقَةِ وَيُودِعَ الْمَالَ. وَاخْتُلِفَ فِي شِرَاءِ دُهْنِ السِّرَاجِ وَالِادِّهَانِ، قِيلَ لَا، وَقِيلَ يَشْتَرِي دُهْنًا يَدَّهِنُ بِهِ لِإِحْرَامِهِ وَزَيْتًا لِلِاسْتِصْبَاحِ، وَلَا يَتَدَاوَى مِنْهُ وَلَا يَحْتَجِمُ وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْحَلَّاقِ إلَّا أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ أَوْ الْوَارِثُ.
وَقِيَاسُ مَا فِي الْفَتَاوَى أَنْ يُعْطِيَ أُجْرَةَ الْحَلَّاقِ وَلَا يُنْفِقَ عَلَى مَنْ يَخْدُمُهُ إلَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْدُمُ نَفْسَهُ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَابَّةً يَرْكَبَهَا وَمَحْمَلًا وَقِرْبَةً وَإِدَاوَةً وَسَائِرَ الْآلَاتِ وَمَهْمَا فَضَلَ مِنْ الزَّادِ وَالْأَمْتِعَةِ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ أَوْ الْوَصِيِّ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَارِثُ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ الْمَيِّتُ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْحَاجِّ بِالْإِحْجَاجِ وَإِنَّمَا يُنْفِقُ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ لَكَانَ بِالِاسْتِئْجَارِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّاعَاتِ.
وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَوْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا أَوْ دَفَعَهُ إلَى وَارِثٍ لِيَحُجَّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ وَهُمْ كِبَارٌ، لِأَنَّ هَذَا كَالتَّبَرُّعِ بِالْمَالِ فَلَا يَصِحُّ لِلْوَارِثِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ.
وَلَوْ قَالَ الْمَيِّتُ لِلْوَصِيِّ: ادْفَعْ الْمَالَ لِمَنْ يَحُجَّ عَنِّي لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا
وَإِذَا عَلِمَ هَذَا فَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مِنْ قَوْلِهِ: إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَحْبُوسُ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَتْ الْحَجَّةُ عَنْ الْمَحْبُوسِ إذَا مَاتَ فِي الْحَبْسِ وَلِلْأَجِيرِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مُشْكِلٌ، لَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِي فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ أَبِي الْفَضْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: وَلَهُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ هِيَ الْعِبَارَةُ الْمُحَرَّرَةُ، وَزَادَ إيضَاحَهَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَهَذِهِ النَّفَقَةُ لَيْسَ يَسْتَحِقُّهَا بِطَرِيقِ الْعِوَضِ بَلْ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ يَنْتَفِعُ الْمُسْتَأْجِرُ
الْإِنْفَاقُ مُقَامَهُ كَالْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ.
قَالَ (وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَجَّةً فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا فَهِيَ عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ)
بِهِ، هَذَا وَإِنَّمَا جَازَ الْحَجُّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ بَقِيَ الْأَمْرُ بِالْحَجِّ فَيَكُونُ لَهُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَا فَضَلَ لِلْمَأْمُورِ مِنْ الثِّيَابِ وَالنَّفَقَةِ يَقُولُ لَهُ: وَكَّلْتُك أَنْ تَهَبَ الْفَضْلَ مِنْ نَفْسِك وَتَقْبِضَهُ لِنَفْسِك، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَوْتٍ قَالَ: وَالْبَاقِي مِنِّي لَك وَصِيَّةٌ.
وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ حَجَّ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مَاشِيًا وَأَمْسَكَ مَئُونَةَ الْكِرَاءِ كَانَ ضَامِنًا مَالَ الْمَيِّتِ وَالْحَجُّ لِنَفْسِهِ لِانْصِرَافِ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْطِيَ بَعِيرَهُ هَذَا إلَى رَجُلٍ يَحُجُّ عَنْهُ فَأَكْرَاهُ الرَّجُلُ وَأَنْفَقَ الْكِرَاءَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الطَّرِيقِ وَحَجَّ مَاشِيًا جَازَ عَنْ الْمَيِّتِ اسْتِحْسَانًا هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَحُجَّ بِثَمَنِهِ فَكَذَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ كَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ وَلَا يَضْمَنُ كَالْغَاصِبِ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَتَضَرَّرُ الْمَيِّتُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْإِجَارَةَ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يُؤَدِّيَ الْبَعِيرَ إلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ مِلْكُ مُوَرِّثِهِمْ.
قَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي النَّوَازِلِ: وَعِنْدِي أَنَّ الْحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ نُقْصَانَ الْبَعِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ فَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَبِيعَ بَعِيرَهُ بِمِائَةٍ فَآجَرَهُ بِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ فَكَذَا هَذَا اهـ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ أَحَجُّوا عَنْهُ غَيْرَهُ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَأْمُورُ وَالْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ فَقَالَ وَقَدْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ مُنِعْت مِنْ الْحَجِّ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ لَا يُصَدَّقُ وَيَضْمَنُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا ظَاهِرًا يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ ظَهَرَ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَفْعِهِ إلَّا بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ حَجَجْت وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِيَ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْبَلَدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ. نَظِيرُهُ: قَالَ الْمُودِعُ دَفَعْتهَا إلَيْك بِمَكَّةَ وَأَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي ادَّعَى فِيهِ الدَّفْعَ بِمَكَّةَ بِالْكُوفَةِ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ كَانَ بِالْكُوفَةِ. أَمَّا لَوْ كَانَ الْحَاجُّ مَدْيُونًا لِلْمَيِّتِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ بِمَالِهِ الَّذِي عَلَيْهِ وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ بِحَالِهَا فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي قَضَاءَ الدَّيْنِ.
وَفِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ: الْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوَرَثَةِ مُطَالِبٌ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ غَرِيمِ الْمَيِّتِ إلَّا بِالْحَجَّةِ.
وَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ: أَوْصَى رَجُلًا أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَلَمْ يُقَدَّرْ فِيهِ شَيْئًا وَالْوَصِيُّ إنْ أَعْطَى لِلْحَاجِّ فِي مَحْمَلٍ احْتَاجَ إلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ أَوْ رَاكِبًا لَا فِي مَحْمَلٍ يَكْفِيهِ الْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ يَجِبُ الْأَقَلُّ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.
وَلَوْ مَرِضَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ لِيَحُجَّ بِهِ، إلَّا إذَا قَالَ لَهُ الدَّافِعُ اصْنَعْ مَا شِئْت: فَهَذِهِ فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا قَدَّمْنَاهَا أَمَامَ مَا فِي الْكِتَابِ تَتْمِيمًا أَوْ تَكْمِيلًا لِفَائِدَتِهِ.
وَلْنَرْجِعْ إلَى الشَّرْحِ (قَوْلُهُ وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ إلَخْ) صُوَرُ الْإِبْهَامِ هُنَا أَرْبَعَةٌ: أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ. أَوْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ، أَوْ يُحْرِمَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بِلَا تَعْيِينٍ لِمَا أَحْرَمَ بِهِ. فَفِي الْأُولَى قَالَ هِيَ عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ. وَفِي الثَّانِيَةِ قَالَ إنْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ إلَخْ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْأَعْمَالِ فَالْأَمْرُ مَوْقُوفٌ لَمْ يَنْصَرِفْ الْإِحْرَامُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْآمِرِينَ، فَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ انْصَرَفَ إلَيْهِ وَإِلَّا انْصَرَفَ إلَى نَفْسِهِ وَضَمِنَ النَّفَقَةَ. وَفِي الثَّالِثَةِ قَالَ فِي الْكَافِي: لَا نَصَّ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ
لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ أَنْ يُخْلِصَ الْحَجَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِجَعْلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ سَبَبًا لِثَوَابِهِ، وَهُنَا يَفْعَلُ بِحُكْمِ الْآمِرِ، وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُمَا فَيَقَعُ عَنْهُ.
وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا لِأَنَّهُ صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى حَجِّ نَفْسِهِ،
يَصِحَّ التَّعْيِينُ هُنَا إجْمَاعًا لِعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ. وَفِي الرَّابِعَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ. وَمَبْنَى الْأَجْوِبَةِ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَنْ نَفْس الْمَأْمُورِ لَا يَتَحَوَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْآمِرِ، وَأَنَّهُ بَعْدَمَا صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى نَفْسِهِ ذَاهِبًا إلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَ النَّفَقَةَ لَهُ لَا يَنْصَرِفُ الْإِحْرَامُ إلَى نَفْسِهِ إلَّا إذَا تَحَقَّقَتْ الْمُخَالَفَةُ أَوْ عَجَزَ شَرْعًا عَنْ التَّعْيِينِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي تَحَقُّقِ الْمُخَالَفَةِ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ وَاحِدَةٍ عَنْهُمَا وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْإِطْنَابِ.
وَمَا يَتَخَايَلُ مَنْ جَعَلَ الْحَجَّةَ الْوَاحِدَةَ عَنْ أَبَوَيْهِ مُضْمَحِلٌّ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِفِعْلٍ بِحُكْمِ الْآمِرِ عَلَى وَزَّانِهِ لَا فِيمَا إذَا حَجَّ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِي تَرْكِهِ تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ فَيُحْتَمَلُ التَّعْيِينُ فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ جَعْلُ الثَّوَابِ وَنَقُولُ: لَوْ أَمَرَهُ كُلٌّ
وَإِنْ أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ نَوَى عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِنْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ صَارَ مُخَالِفًا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْمُضِيِّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِبْهَامُ يُخَالِفُهُ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً حَيْثُ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ هُنَاكَ مَجْهُولٌ وَهَاهُنَا الْمَجْهُولُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْأَفْعَالِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ. وَالْمُبْهَمُ يَصْلُحُ وَسِيلَةً بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ فَاكْتَفَى بِهِ شَرْطًا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى الْأَفْعَالَ عَلَى الْإِبْهَامِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ فَصَارَ مُخَالِفًا
مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَمَ بِهَا عَنْهُمَا كَانَ الْجَوَابُ كَالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَجْنَبِيَّيْنِ، فَلَا إشْكَالَ أَنَّ مُخَالَفَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا لَمْ تَتَحَقَّقْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِحَجَّةٍ وَأَحَدُهُمَا صَالِحٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا صَادِقٌ عَلَيْهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَصِيرَ لِلْمَأْمُورِ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِجَعْلِهَا لِأَحَدِ الْآمِرَيْنِ فَلَا تَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا إذَا وَجَدَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدُ لِأَنَّ مَعَهُ مُكْنَةَ التَّعْيِينِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْأَعْمَالِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى شَرَعَ وَطَافَ وَلَوْ شَوْطًا لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَقَعُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَتَقَعُ عَنْهُ ثُمَّ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الشَّرْعُ ذَلِكَ فِي الثَّوَابِ وَلَوْلَا السَّمْعُ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ فِي الثَّوَابِ أَيْضًا. وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ إحْرَامَهُ بِحَجَّةٍ بِلَا زِيَادَةٍ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةُ أَحَدٍ وَلَا تَعَذُّرُ التَّعْيِينِ وَلَا يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَأَظْهَرُ مِنْ الْكُلِّ. وَلَوْ أَمَرَهُ رَجُلٌ بِحَجَّةٍ فَأَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْأُخْرَى عَنْ الْآمِرِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَضَمُّنِ الْإِذْنِ بِالْحَجِّ مَعَ كَوْنِ نَفَقَةِ السَّفَرِ هِيَ الْمُحَقِّقَةُ لِلصِّحَّةِ إفْرَادَ السَّفَر لِلْآمِرِ، فَلَوْ رَفَضَ الَّتِي عَنْ نَفْسِهِ جَازَتْ الْبَاقِيَةُ عَنْ الْآمِرِ كَأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا وَحْدَهَا ابْتِدَاءً، إذْ لَا إخْلَالَ فِي ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِالرَّفْضِ. وَالْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ إنْ شَاءَ قَالَ لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ عَنْهُ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، وَسَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيَجُوزُ إحْجَاجُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ. وَفِي الْأَصْلِ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَرْأَةِ. فِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنْ أَحَجَّ امْرَأَتَهُ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّ حَجَّ الْمَرْأَةِ أَنْقَصُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا رَمَلٌ وَلَا سَعْيٌ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَلَا رَفْعُ صَوْتِ التَّلْبِيَةِ وَلَا الْحَلْقُ اهـ.
وَالْأَفْضَلُ إحْجَاجُ الْحُرِّ الْعَالِمِ بِالْمَنَاسِكِ الَّذِي حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ كَرَاهَةَ إحْجَاجِ الصَّرُورَةِ لِأَنَّهُ تَارِكٌ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْعَبْدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ فَيُكْرَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِمَا أُمِرَ بِهِ عَنْ الْآمِرِ وَإِنْ مَرِضَ فِي الطَّرِيقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الدَّفْعِ قِيلَ لَهُ اصْنَعْ مَا شِئْت فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَفِيهِ لَوْ أَحَجَّ رَجُلًا يَحُجُّ ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ جَازَ لِأَنَّ الْفَرْضَ صَارَ مُؤَدًّى، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعُودَ إلَيْهِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً) هَذِهِ هِيَ الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صُوَرِ الْإِبْهَامِ تَوَهَّمَهَا وَارِدَةً عَلَيْهِ فَدَفَعَ الْإِيرَادَ بِالْفَرْقِ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ فِيهَا مَجْهُولٌ دُونَ الْمُلْتَزَمِ لَهُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ قَلْبُهُ.
وَجَهَالَةُ الْمُلْتَزِمِ لَا تَمْنَعُ لِمَا عُرِفَ فِي الْإِقْرَارِ بِمَجْهُولٍ لِمَعْلُومٍ
قَالَ (فَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ) لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وَفَقَّهَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ
(وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ بِأَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ) فَالدَّمُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا
حَيْثُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ الْبَيَانُ، بِخِلَافِهِ بِمَعْلُومٍ لِمَجْهُولٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَصْلًا
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ) وَهُوَ الْمَأْمُورُ لَا فِي مَالِ الْآمِرِ. وَقَرَنَ يَقْرُنُ مِنْ بَابِ نَصَرَ يَنْصُرُ (لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ قَالُوا: إنَّ هَذِهِ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله مِنْ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ) وَإِنَّمَا لِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ يَسْقُطُ بِهِ الْحَجُّ عَنْ الْآمِرِ شَرْعًا.
وَقَدْ يُقَالُ: لَا تَلْزَمُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَفْعَالَ إنَّمَا وُجِدَتْ مِنْ الْمَأْمُورِ حَقِيقَةً غَيْرَ أَنَّهَا تَقَعُ عَنْ الْآمِرِ شَرْعًا. وَوُجُوبُ هَذَا الدَّمِ شُكْرًا مُسَبَّبٌ عَنْ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ، وَلِأَنَّ مُوجِبَ هَذَا الْفِعْلِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ مِنْ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ غَيْرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَجِبُ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَأَحَدُهُمَا بِتَقْدِيرِهِ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَكَذَا الْآخَرُ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مُوجِبٌ وَاحِدٌ لِهَذَا الْعَمَلِ
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ فِي الْقِرَانِ) يَعْنِي يَكُونُ الدَّمُ فِي مَالِهِ (لِمَا قُلْنَا) وَقَيَّدَ بِإِذْنِهِمَا لَهُ بِالْقِرَانِ لِأَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَأْذَنَا لَهُ فَقَرَنَ عَنْهَا كَانَ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ نَفَقَتَهُمَا، لَا لِأَنَّ إفْرَادَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَانِهِمَا بَلْ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الْآمِرِ بِالنُّسُكِ يَتَضَمَّنُ إفْرَادَ السَّفَرِ لَهُ بِهِ لِمَكَانِ النَّفَقَةِ أَعْنِي تَضَمُّنَ الْأَمْرِ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي جَمِيعِ سَفَرِهِ وَيَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الثَّوَابِ، وَفِي الْقِرَانِ عَدَمُ إفْرَادِ السَّفَرِ فَقَلَّتْ النَّفَقَةُ وَنَقَصَ الثَّوَابُ فَكَانَ مُخَالِفًا،
(وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَى الْحَاجِّ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلتَّحَلُّلِ
هَذَا وَلَوْ كَانَ وَاحِدٌ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَقَرَنَ عَنْهُ ضَمِنَ النَّفَقَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، لَهُمَا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ، فَقَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ أَحْسَنَ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا، كَالْوَكِيلِ إذَا بَاعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ الْمُوَكِّلُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ لِسَفَرٍ مُفْرَدٍ لِلْحَجِّ وَقَدْ خَالَفَ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ تَمَتَّعَ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ بَعْدَ هَذَا قَوْلُهُمَا أَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ فَكَانَ صَحِيحًا إذْ يَثْبُتُ الْإِذْنُ دَلَالَةً، بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ فَإِنَّ السَّفَرَ وَقَعَ لِلْعُمْرَةِ بِالذَّاتِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ تَضَمَّنَ السَّفَرُ لَهُ وُقُوعَ إحْرَامِهِ مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَالْمُتَمَتِّعُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ.
وَالْأَوْجَهُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ لَمْ تَقَعْ عَنْ الْآمِرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهَا وَلَا وِلَايَةَ لِلْحَاجِّ فِي إيقَاعِ نُسُكٍ عَنْهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْمُرْ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهُ عَنْهُ، فَكَذَا إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْعُمْرَةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْعُمْرَةُ عَنْ الْمَيِّتِ صَارَتْ عَنْ نَفْسِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً، وَبِمِثْلِهِ امْتَنَعَ التَّمَتُّعُ لِعَدَمِ وُقُوعِ الْعُمْرَةِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَمَا إذَا أَمَرَهُ بِعُمْرَةٍ فَقَرَنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْبَدَائِعِ أَنَّهُ يَضْمَنُ أَيْضًا عِنْدَهُ كَالْحَجِّ إذَا قَرَنَ عِنْدَهُ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَقَرَنَ مَعَهُ عُمْرَةً لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ اتِّفَاقًا فَكَذَا هَذَا.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ وَإِنْ نَوَى الْعُمْرَةَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَلَكِنْ يَرُدُّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ الْحَجِّ عَنْهُ بِجَمِيعِ النَّفَقَةِ، فَإِذَا ضَمَّ إلَيْهِ عُمْرَةً لِنَفْسِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ بِبَعْضِ النَّفَقَةِ وَهُوَ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ كَالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ إذَا اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَجْرِيدِ السَّفَرِ لِلْمَيِّتِ ثَمَّ، وَيَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَبِتَنْقِيصِهَا يَنْقُصُ الثَّوَابُ بِقَدْرِهِ، فَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ ضَرَرًا عَلَيْهِ، وَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ إذَا بَدَأَ بِعُمْرَةٍ لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ لِلْمُخَالَفَةِ وَلَا تَقَعُ الْحَجَّةُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَقَعُ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ وَهُوَ قَدْ صَرَفَهَا عَنْهُ فِي النِّيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَلَوْ حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْحَجِّ، فَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِعُمْرَةٍ فَقَرَنَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا بَقِيَّةَ مَا بَقِيَ مِنْ الْحَجِّ بَعْدَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ تَكُونُ نَفَقَتُهُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ.
وَلَوْ اعْتَمَرَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ بِالسَّفَرِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَجَّ فَاشْتِغَالُهُ بِهِ كَاشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا وَنَفَقَتُهُ مِقْدَارُ مَقَامِهِ لِلْحَجِّ مِنْ مَالِهِ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا حَجَّ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ فَطَافَ لِحَجَّةٍ وَسَعَى ثُمَّ أَضَافَ عُمْرَةً عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةُ الرَّفْضِ فَكَانَتْ كَعَدَمِهَا، وَلَوْ كَانَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا: أَيْ قَرَنَ ثُمَّ لَمْ يَطُفْ حَتَّى وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَرَفَضَ الْعُمْرَةَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُخَالِفٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا فَقَدْ صَارَ مُخَالِفًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَوَقَعَتْ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا تَحْتَمِلُ النَّفَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ
(قَوْلُهُ وَدَمُ الْإِحْصَارِ إلَخْ) الدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي الْحَجِّ إمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ وَهُوَ عَلَى الْآمِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى
دَفْعًا لِضَرَرِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ الدَّمُ عَلَيْهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ (فَإِنْ كَانَ يَحُجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَأُحْصِرَ فَالدَّمُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ) عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله، ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ صِلَةٌ كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَأْمُورِ فَصَارَ دَيْنًا (وَدَمُ الْجِمَاعِ عَلَى الْحَاجِّ) لِأَنَّهُ دَمُ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ (وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ) مَعْنَاهُ: إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ مَا فَاتَهُ بِاخْتِيَارِهِ.
أَمَّا إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْأَمْرِ.
وَعَلَيْهِ الدَّمُ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ عَلَى الْحَاجِّ لِمَا قُلْنَا
(وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَأَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا فَلَمَّا بَلَغَ الْكُوفَةَ مَاتَ
الْمَأْمُورِ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ مَيِّتًا فَفِي مَالِهِ عِنْدَهُمَا. ثُمَّ هَلْ هُوَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ مِنْ كُلِّ الْمَالِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ وَتَقْرِيرُ الْوَجْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ فَلَا نُطِيلُ بِهِ، ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ بِمَالِ نَفْسِهِ وَإِمَّا دَمُ الْقِرَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، قَالُوا: هَذَا وَدَمُ الْقِرَانِ يَشْهَدَانِ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي دَمِ الْقِرَانِ. وَأَمَّا كَوْنُ حَجِّ الْقَضَاءِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الْأَفْعَالَ بِسَبَبِ الْإِحْصَارِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَا هُوَ مُسَمَّى الْحَجِّ عَنْهُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ.
وَإِمَّا دَمُ الْجِنَايَةِ كَجَزَاءِ صَيْدٍ وَطِيبٍ وَشَعْرٍ وَجِمَاعٍ فَفِي مَالِ الْحَاجِّ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ، وَالْأَمْرُ بِالْحَجِّ لَا يَنْتَظِمُ الْجِنَايَةَ بَلْ يَنْتَظِمُ ظَاهِرًا عَدَمَهَا فَيَكُونُ مُخَالِفًا فِي فِعْلِهَا فَيَثْبُتُ مُوجِبُهَا فِي مَالِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْجِمَاعُ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ الْحَاجُّ ضَمِنَ النَّفَقَةَ لِلْمُخَالَفَةِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا يَشْكُلُ كَوْنُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا يَفْسُدُ وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ، وَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ فَهُوَ كَالْمُحْصَرِ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ بِمَالِ نَفْسِهِ.
وَلَوْ أَتَمَّ الْحَجَّ إلَّا طَوَافَ الزِّيَارَةِ فَرَجَعَ وَلَمْ يَطُفْهُ لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ وَيَعُودُ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ لِيَقْضِيَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَانٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، أَمَّا لَوْ مَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ قَبْلَ الطَّوَافِ جَازَ عَنْ الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَدَّى الرُّكْنَ الْأَعْظَمَ، وَإِمَّا دَمُ رَفْضِ النُّسُكِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا تَحَقَّقَ إلَّا فِي مَالِ الْحَاجِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ لَوْ فَرَضَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا فَفَعَلَ حَتَّى ارْتُفِضَتْ إحْدَاهُمَا كَوْنُهُ عَلَى الْآمِرِ وَلَمْ أَرَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ إلَخْ) لَا خِلَافَ أَنَّ
أَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ وَقَدْ أَنْفَقَ النِّصْفَ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَا: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ الْأَوَّلُ) فَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي اعْتِبَارِ الثُّلُثِ وَفِي مَكَانِ الْحَجِّ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَإِلَّا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا بِتَعْيِينِ الْمُوصِي إذْ تَعْيِينُ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحَلُّ لِنَفَاذِ الْوَصِيَّةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِسْمَةَ الْوَصِيِّ وَعَزْلَهُ الْمَالَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُوصِي لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ لِيَقْبِضَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِفْرَازِ وَالْعَزْلِ فَيَحُجُّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ.
إطْلَاقَ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ إذَا كَانَ الثُّلُثَ يَحْتَمِلُ الْإِحْجَاجَ مِنْ بَلَدِهِ رَاكِبًا وَلَمْ يَكُنْ الْمُوصِي حَاجًّا عَنْ نَفْسِهِ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْمَكَانَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَوْ مَكَانًا آخَرَ يُوجِبُ تَعْيِينَ الْبَلَدِ وَالرُّكُوبِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مُقَدِّمَةِ الْبَابِ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ الْمَأْمُورُ مَاشِيًا وَأَمْسَكَ مَئُونَةَ الْكِرَاءِ لِنَفْسِهِ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الثُّلُثُ لَا يَبْلُغُ إلَّا مَاشِيًا فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا أَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا جَازَ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَجْزِيهِ وَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا جَازَ، وَمِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا جَازَ، لِأَنَّ فِي كُلٍّ نَقْصًا مِنْ وَجْهِ زِيَادَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَاعْتَدَلَا؛ وَلَوْ أَحَجُّوا مِنْ مَوْضِعٍ يَبْلُغُ وَفَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَبْلُغُ رَاكِبًا مِنْ مَوْضِعٍ أَبْعَدَ يَضْمَنُ الْوَصِيُّ وَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ إلَّا إذَا كَانَ الْفَاضِلُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ زَادٍ وَكِسْوَةٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.
هَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ كَمِّيَّةً، فَإِنْ عَيَّنَ بِأَنْ قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي بِأَلْفٍ أَوْ بِثُلُثِ مَالِي، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ بَلَدِهِ جَاءَ مَا قُلْنَاهُ وَإِنْ بَلَغَ وَاحِدَةً لَزِمَتْ وَإِنْ بَلَغَ حِجَجًا كَثِيرَةً. فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْأَلْفِ فَذَكَرَهَا فِي الْمَبْسُوطِ قَالَ: الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ عَنْهُ كُلَّ سَنَةٍ حَجَّةً وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ رِجَالًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ كَالْوَصِيَّةِ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ بَعُدَ مِنْ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِهَلَاكِ الْمَالِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الثُّلُثِ فَذَكَرَهَا فِي الْبَدَائِعِ، وَذَكَرَ الْجَوَابَ عَلَى نَحْوِ مَسْأَلَةِ الْأَلْفِ نَقْلًا عَنْ الْقُدُورِيِّ، إلَّا أَنَّهُ حَكَى فِيهَا خِلَافًا؛ فَقِيلَ: إنَّ الْقَاضِيَ: يَعْنِي الْإِسْبِيجَابِيَّ قَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً مِنْ وَطَنِهِ وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، إلَّا إذَا قَالَ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ.
قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَثْبَتُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ وَبِالثُّلُثِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجَمِيعِ السَّهْمِ، وَذَكَرَهَا فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا وَأَجَابَ بِصَرْفِهِ إلَى الْحَجِّ إذَا لَمْ يَقُلْ حَجَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا، قَالَ: لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ مَصْرُوفًا إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقُرْبَةِ فَيَجِبُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ السَّفَرِ قَدْ بَطَلَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ وَطَنِهِ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَبْطُلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الْآيَةَ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كُتِبَ لَهُ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ» وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ سَفَرُهُ اُعْتُبِرَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الَّذِي
تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فِي جَمِيعِ الثُّلُثِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يَفْعَلَ بِثُلُثِهِ طَاعَةً أُخْرَى، وَلَوْ ضَمَّ إلَى الْحَجِّ غَيْرَهُ وَالثُّلُثُ يَضِيقُ عَنْ الْجَمِيعِ، إنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً بُدِئَ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصِي كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ لِأَنَّ فِيهَا حَقَّيْنِ. وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ يُقَدَّمَانِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ، وَالْكَفَّارَاتُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَهِيَ عَلَى النَّذْرِ، وَهُوَ وَالْكَفَّارَاتُ عَلَى الْأُضْحِيَّةَ، وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّفْلِ، وَالنَّوَافِلُ يُقَدَّمُ مِنْهَا مَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ. وَحُكْمُ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ عَنْ كَفَّارَةٍ حُكْمُ النَّفْلِ وَالْوَصِيَّةُ لِآدَمِيٍّ كَالْفَرَائِضِ: أَعْنِي الْمُعَيَّنَ.
فَإِنْ قَالَ لِلْمَسَاكِينِ فَهُوَ كَالنَّفْلِ. وَمِنْ الصُّوَرِ الْمَنْقُولَةِ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْفَرْضِ وَعِتْقِ نَسَمَةٍ وَلَا يَسَعُهُمَا الثُّلُثُ يَبْدَأُ بِالْحَجَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى بِالْحَجَّةِ وَلِأُنَاسٍ وَلَا يَسَعُهُمَا الثُّلُثُ قَسَمَ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ يَضْرِبُ لِلْحَجِّ بِأَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَجِّ ثُمَّ مَا خَصَّ الْحَجَّ يَحُجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمْكِنُ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ وَلِلْمَسَاكِينِ بِأَلْفٍ وَأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِأَلْفٍ وَثُلُثُهُ أَلْفَانِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى حِصَّةِ الْمَسَاكِينِ فَيُضَافُ إلَى الْحَجَّةِ فَمَا فَضَلَ فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ بَعْدَ تَكْمِيلِ الْحَجِّ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَطَوُّعٌ وَالْحَجَّ فَرْضٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ زَكَاةً فَيَتَحَاصَصُونَ فِي الثُّلُثِ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ فَيَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ، وَلَوْ أَوْصَى بِكَفَّارَةِ إفْسَادِ رَمَضَانَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ الْعِتْقُ وَلَمْ تَجُزْ الْوَرَثَةُ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
هَذَا وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى تَعْيِينِ الْوَطَنِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَطَنٌ وَاحِدٌ أَوْ أَوْطَانٌ، فَإِنْ اتَّحَدَ تَعَيَّنَ. وَمِنْ فُرُوعِهِ مَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِي خُرَاسَانِيٍّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِمَكَّةَ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ خُرَاسَانَ، وَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مَكِّيٍّ قَدِمَ إلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الرَّيِّ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ.
أَمَّا لَوْ أَوْصَى أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقْرُنُ عَنْهُ مِنْ الرَّيِّ لِأَنَّهُ لَا قِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَيَحْمِلُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَوْطَانٌ فِي بُلْدَانٍ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِهَا إلَى مَكَّةَ، وَلَوْ عَيَّنَ مَكَانًا جَازَ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إذَا عَيَّنَ مَكَانًا مَاتَ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يُعَيِّنْ مَكَانَ مَوْتِهِ وَقَدْ مَاتَ فِي سَفَرٍ، إنْ كَانَ سَفَرَ الْحَجِّ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الَّذِي يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ: يَعْنِي إذَا مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَأَطْلَقَ يَلْزَمُ الْحَجَّ مِنْ بَلَدِهِ عِنْدَهُ إلَّا إنْ عَجَزَ الثُّلُثَ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ حَيْثُ مَاتَ.
وَلَوْ كَانَ سَفَرَ تِجَارَةٍ حَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ تَعَيُّنَ مَكَانِ مَوْتِهِ فِي سَفَرِ الْحَجِّ عِنْدَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ عِبَادَةُ سَفَرِهِ مِنْ بَلَدِهِ إلَى مَحَلِّ مَوْتِهِ، فَبِالسَّفَرِ مِنْهُ يَتَحَقَّقُ سَفَرُ الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَا عِبَادَةَ فِي سَفَرِ التِّجَارَةِ لِيَعْتَبِرَ الْبَعْضَ الَّذِي قَطَعَ عِبَادَةً مَعَ الْبَعْضِ الَّذِي بَقِيَ فَيَجِبُ إنْشَاءُ السَّفَرِ مِنْ الْبَلَدِ تَحْصِيلًا لِلْوَاجِبِ. فَإِنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَلَدِهِ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ وَهُوَ الْعَادَةُ أَيْضًا أَنْ يَخْرُجَ الْإِنْسَانُ مِنْ بَلَدِهِ مُجَهَّزًا فَيَنْصَرِفَ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ وَلِهَذَا وَافَقَا أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْحَاجِّ الَّذِي مَاتَ فِي الطَّرِيقِ فِيمَا لَوْ أَقَامَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فِي طَرِيقِهِ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ مَاتَ فَأَوْصَى مُطْلَقًا أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَجَّةُ الَّتِي خَرَجَ لَهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ عَنْ الْحَجِّ إذَا حَصَلْنَا عَلَى هَذَا، فَلَوْ أَوْصَى عَلَى وَجْهٍ انْصَرَفَتْ إلَى بَلَدِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَالًا فَفَعَلَ الْوَاجِبَ فَأَحَجُّوا مِنْهَا وَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَقَدْ أَنْفَقَ بَعْضَهَا أَوْ سُرِقَتْ كُلُّهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحُجُّ عَنْهُ ثَانِيًا مِنْ بَلَدِهِ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ. وَقَالَا: مِنْ حَيْثُ مَاتَ.
وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمَالِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْظُرُ إنْ بَقِيَ مِنْ الْمَدْفُوعِ شَيْءٌ حَجَّ بِهِ وَإِلَّا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ. إنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ تَمَامَ الثُّلُثِ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضَهُ يُكَمَّلُ، فَإِنْ بَلَغَ بَاقِيهِ مَا يَحُجُّ بِهِ وَإِلَّا بَطَلَتْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى مَا يَبْلُغُ فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ، مَثَلًا: كَانَ الْمُخَلَّفُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ دَفَعَ الْوَصِيُّ أَلْفًا فَهَلَكَتْ يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي أَوْ كُلِّهِ وَهُوَ أَلْفٌ، فَلَوْ هَلَكَتْ الثَّانِيَةُ دَفَعَ إلَيْهِ مِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي بَعْدَهَا هَكَذَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إلَّا أَنْ لَا يَبْقَى مَا ثُلُثُهُ يَبْلُغُ الْحَجَّ فَتَبْطُلُ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَأْخُذُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا فَإِنَّهَا مَعَ تِلْكَ الْأَلْفِ ثُلُثُ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ، فَإِنْ كَفَتْ وَإِلَّا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: إنْ فَضَلَ مِنْ الْأَلْفِ الْأُولَى مَا يَبْلُغُ وَإِلَّا بَطَلَتْ. فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِيمَا يَدْفَعُ ثَانِيًا وَفِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَجِبُ الْإِحْجَاجُ مِنْهُ ثَانِيًا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ تَعْيِينَ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِ الْمُوصِي، وَلَوْ عَيَّنَ الْمُوصِي مَالًا فَهَلَكَتْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، فَكَذَا إذَا عَيَّنَ الْوَصِيُّ.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَتَعْيِينُ الْوَصِيِّ إيَّاهُ صَحِيحٌ وَتَعْيِينُهُ
يَحُجُّ بِنَفْسِهِ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ.
قَالَ (وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ يَجْزِيهِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا) لِأَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّمَا يَجْعَلُ ثَوَابَ حَجِّهِ لَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ، وَصَحَّ جَعْلُهُ ثَوَابَهُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ عَلَى مَا فَرَّقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ، فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْمَالُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِلْمُوصِي بَلْ مَقْصُودُهُ الْحَجُّ بِهِ. فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا التَّعْيِينُ هَذَا الْمَقْصُودَ صَارَ كَعَدَمِهِ، وَمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ كَانَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ هَذَا الْإِفْرَازِ وَالْوَصِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَعْدُ بِالْإِحْجَاجِ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى ثُلُثِ الْبَاقِي إذَا صَارَ الْهَالِكُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ فَيَكُونُ مَحَلُّهَا ثُلُثَهُ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ هَلْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ أَوْ لَا فَقَالَا لَا وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَ نَعَمْ وَهُوَ قِيَاسٌ، وَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ أَوْجَهُ وَهُمَا هُنَا أَوْجَهُ. لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ. صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
وَلَهُمَا فِي أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُعْتَمِرِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْغَازِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ.
رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَبَقِيَّةُ رُوَاتِهِ ثِقَاتٌ. وَأَنْتَ قَدْ أَسْمَعْنَاك أَنَّ الْحَقَّ فِي ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ ثِقَةٌ أَيْضًا. ثُمَّ مَا رَوَاهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ الْعَمَلِ وَالْكَلَامُ فِي بُطْلَانِ الْقَدْرِ الَّذِي وُجِدَ فِي حُكْمِ الْعِبَادَةِ وَالثَّوَابِ وَهُوَ غَيْرُهُ وَغَيْرُ لَازِمِهِ، لِأَنَّ انْقِطَاعَ الْعَمَلِ لِفَقْدِ الْعَامِلِ لَا يَسْتَلْزِمُ مَا كَانَ قَدْ وُجِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} فِيمَا كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ حِينَ وُجِدَ ثُمَّ طَرَأَ الْمَنْعُ مِنْهُ.
وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ الِانْقِطَاعِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَالِانْقِطَاعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُهُ هُنَا كَمَنْ صَامَ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ حَضَرَهُ الْمَوْتُ يَجِبُ أَنْ يُوصِيَ بِفِدْيَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنْ كَانَ ثَوَابُ إمْسَاكِ ذَلِكَ الْيَوْم بَاقِيًا.
[فَرْعٌ]
مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَتَرَكَ تِسْعَمِائَةٍ فَأَنْكَرَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَاعْتَرَفَ الْآخَرُ فَدَفَعَ مِنْ حِصَّتِهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ لِمَنْ يَحُجُّ بِهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ حَجَّ بِأَمْرِ الْوَصِيِّ يَأْخُذُ الْمُقِرُّ مِنْ الْجَاحِدِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ لِأَنَّهُ جَازَ عَنْ الْمَيِّتِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَبَقِيَتْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مِيرَاثًا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ حَجَّ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَصِيِّ يَحُجُّ مَرَّةً أُخْرَى بِثَلَاثِمِائَةٍ
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا) فَاسْتَفَدْنَا أَنَّهُ إذَا أَهَلَّ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ نِيَّتَهُ لَهُمَا تَلْغُو بِسَبَبِ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ مِنْ قِبَلِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فَتَقَعُ الْأَعْمَالُ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ لَهُمَا الثَّوَابَ وَتَرَتُّبُهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَتَلْغُو نِيَّتُهُ قَبْلَهُ فَيَصِحُّ جَعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا، وَلَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ مُتَنَفِّلًا عَنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَجُّ الْفَرْضِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ عَنْهُ بِمَالِ نَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُوَرِّثِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَتَبَرَّعَ عَنْهُ بِالْإِحْجَاجِ أَوْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. يَجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ» الْحَدِيثَ، شَبَّهَهُ بِدَيْنِ الْعِبَادِ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَضَى الْوَارِثُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ يَجْزِيهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَكَذَا هَذَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَبَرُّعَ الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا قَيَّدَ الْجَوَابَ بِالْمَشِيئَةِ بَعْدَمَا صَحَّ الْحَدِيثُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ بَلْ الظَّنَّ، فَمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي طَرِيقُهَا الْعَمَلُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْمَشِيئَةِ فِيهِ لِأَنَّ الظَّنَّ طَرِيقُهُ فَقَدْ تَطَابَقَا، وَسُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْ الْمَيِّتِ بِأَدَاءِ الْوَرَثَةِ طَرِيقُهُ الْعِلْمُ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَشْهَدُ بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْقَطْعِ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ بِهِ فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ الْوَلَدِ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ جِدًّا لِمَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَنْ حَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ أَوْ قَضَى عَنْهُمَا مَغْرَمًا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَبْرَارِ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَنْ حَجَّ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَقَدْ قُضِيَ عَنْهُ حَجَّتُهُ وَكَانَ لَهُ فَضْلُ عَشْرِ حِجَجٍ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ وَالِدَيْهِ تُقَبِّلَ مِنْهُ وَمِنْهُمَا وَاسْتَبْشَرَتْ أَرْوَاحُهُمَا وَكُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ بَرًّا» هَذَا وَقَدْ سَبَقَ الْوَعْدُ بِتَقْرِيرِ مَسْأَلَةِ حَجِّ الصَّرُورَةِ عَنْ الْغَيْرِ.
وَالصَّرُورَةُ يُرَادُ بِهِ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إسْنَادٌ لَيْسَ فِي الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ. وَعَنْ هَذَا لَمْ يُجَوِّزْ الشَّافِعِيُّ النَّفَلَ لِلصَّرُورَةِ. قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرَبٌ فِي وَقْفِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَفْعِهِ، وَالرُّوَاةُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، فَرَفَعَهُ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: عَبْدَةُ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُيَسَّرٍ وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي كُلُّهُمْ عَنْ سَعِيدٍ، وَوَقَفَهُ غُنْدَرٌ عَنْ سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَذَكَرَهُ مَوْقُوفًا، وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي تَعَارُضِ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ تُقْبَلُ مِنْ الثِّقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمٍ مُجَرَّدٍ عَنْ قِصَّةٍ وَاقِعَةٍ فِي الْوُجُودِ رَوَاهُ وَاحِدٌ عَنْ الصَّحَابِيِّ يَرْفَعُهُ وَآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَطْ، فَإِنَّ هَذَا يَتَقَدَّمُ فِيهِ الرَّفْعُ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ حَاصِلُهُ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ ابْتِدَاءً عَلَى وَجْهِ إعْطَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ جَوَابًا لِسُؤَالٍ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنُ مَا ذَكَرَهُ مَأْثُورًا عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
أَمَّا فِي مِثْلِ هَذِهِ وَهِيَ حِكَايَةُ قِصَّةٍ: هِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ مَنْ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَوْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سَمِعَ مَنْ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَهُوَ حَقِيقَةُ التَّعَارُضِ فِي شَيْءٍ وَقَعَ فِي الْوُجُودِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ أَوْ فِي زَمَنٍ آخَرَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ غَيْرِهِ، وَتَجْوِيزُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام ثُمَّ وَقَعَ بِحَضْرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمَاعُهُ رَجُلًا آخَرَ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ لَهُ مَنْ شُبْرُمَةُ؟ فَقَالَ أَخٌ أَوْ قَرِيبٌ يُعَيِّنُ ذَلِكَ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ عَقْلًا لَكِنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا فِي الْعَادَةِ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ حُكْمُ التَّعَارُضِ الثَّابِتِ ظَاهِرًا طَالِبًا لِحُكْمِهِ فَيَتَهَاتَرَانِ.
أَوْ يُرَجَّحُ وُقُوعُهُ فِي زَمَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْحَجِّ كَانَتْ خَفِيَّةً فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام حَتَّى وَقَعَ الْخَطَأُ فِي تَرْتِيبِ أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا «فَقَالَ رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ» وَكَثِيرٌ، وَإِنَّمَا تَرَكُوا السُّؤَالَ ابْتِدَاءً ظَنًّا مِنْهُمْ بِأَنْ لَا تَرْتِيبَ مُعَيَّنًا فِي هَذِهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ أَرْكَانًا لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحَجَّ عَرَفَةَ عَنْهُ
بَابُ الْهَدْيِ
- عليه الصلاة والسلام وَالطَّوَافُ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام خِلَافُ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ فَزِعُوا إلَى السُّؤَالِ فَعَذَرَهُمْ بِالْجَهْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَمَّا حَجُّ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ فَأَمْرٌ يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ إذَا خَلَّى وَالنَّظَرُ فِي مَقْصُودِ التَّكَالِيفِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ فَلَمْ يَكُنْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِلَا سُؤَالٍ، ثُمَّ يَتَّفِقُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِالْحُكْمِ، بِخِلَافِهِ فِي زَمَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ الْأَحْكَامُ وَعَرَفَ جَوَازَ النِّيَابَةِ بِاشْتِهَارِ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَغَيْرِهِ بِعِلْمِ النَّاسِ لَهُ وَصَحَّ تَكْرَارُ ذَلِكَ فَهُوَ مَظِنَّةُ أَنْ يَعْلَمَ أَصْلَ جَوَازِ النِّيَابَةِ فَيَفْعَلَ بِلَا سُؤَالٍ فَيَكُونُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَأْيًا مِنْهُ وَلِأَنَّ ابْنَ الْمُفْلِسِ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ بِالْبَصْرَةِ فَيَجْعَلُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ كَانَ بِالْكُوفَةِ يُسْنِدُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا يُفِيدُ اشْتِبَاهَ الْحَالِ عَلَى سَعِيدٍ وَقَدْ عَنْعَنَهُ قَتَادَةُ وَنُسِبَ إلَيْهِ تَدْلِيسٌ فَلَا تُقْبَلُ عَنْعَنَتُهُ، وَلَوْ سَلِمَ فَحَاصِلُهُ أُمِرَ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّدْبَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ وَهُوَ إطْلَاقُهُ عليه الصلاة والسلام.
«قَوْلُهُ لِلْخَثْعَمِيَّةِ: حُجِّي عَنْ أَبِيكِ» مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا عَنْ حَجِّهَا لِنَفْسِهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عُمُومِ الْخِطَابِ فَيُفِيدُ جَوَازَهُ عَنْ الْغَيْرِ مُطْلَقًا. وَحَدِيثُ شُبْرُمَةَ يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ تَقْدِيمِ حَجَّةِ نَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْجَمْعُ وَيُثْبِتُ أَوْلَوِيَّةَ تَقْدِيمِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ مَعَ جَوَازِهِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ حَجَّ الصَّرُورَةِ عَنْ غَيْرِهِ إنْ كَانَ بَعْدَ تَحْقِيقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالصِّحَّةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ لِأَنَّهُ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي أَوَّلِ سَنَى الْإِمْكَانِ فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَكَذَا لَوْ تَنَفَّلَ لِنَفْسِهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لَعَيْنِ الْحَجِّ الْمَفْعُولِ بَلْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ لَا يُدْرِكَ الْفَرْضَ، إذْ الْمَوْتُ فِي سَنَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ.
فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» عَلَى الْوُجُوبِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفِي الصِّحَّةَ وَيُحْمَلُ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ عَلَى عِلْمِهِ بِأَنَّهَا حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَوَّلًا وَإِنْ لَمْ يَرْوِ لَنَا طَرِيقَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا: أَعْنِي دَلِيلَ التَّضْيِيقِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَحَدِيثِ شُبْرُمَةَ وَالْخَثْعَمِيَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْهَدْيِ)
هَذَا الْبَابُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَبْوَابُ السَّابِقَةُ، فَإِنَّ الْهَدْيَ إمَّا لِمُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ إحْصَارٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ أَوْ كَفَّارَةِ جِنَايَةٍ أُخْرَى، فَأَخَّرَهُ عَنْهَا لِأَنَّ مَعْرِفَةَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَرْعُ مَعْرِفَةِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَكَذَا الْبَاقِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ
(الْهَدْيُ أَدْنَاهُ شَاةٌ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ: أَدْنَاهُ شَاةٌ» قَالَ (وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَعَلَ الشَّاةَ أَدْنَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْلَى وَهُوَ الْبَقَرُ وَالْجَزُورُ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ لِيُتَقَرَّبَ بِهِ فِيهِ، وَالْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى
(وَلَا يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا إلَّا مَا جَازَ فِي الضَّحَايَا) لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ تَعَلَّقَتْ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ كَالْأُضْحِيَّةِ فَيَتَخَصَّصَانِ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ
(وَالشَّاةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: مَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا. وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إلَّا الْبَدَنَةُ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيمَا سَبَقَ
(وَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةَ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ وَحَسَا مِنْ الْمَرَقَةِ» وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا لِمَا رَوَيْنَا، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عُرِفَ فِي الضَّحَايَا (وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا) لِأَنَّهَا
حَالَاتٍ تَسْتَدْعِي سَبْقَ تَصَوُّرِهِ مَفْهُومَاتِ مُتَعَلِّقَاتِهَا وَتَصْدِيقَاتٍ بِبَعْضِ أَحْكَامٍ مِنْهَا (قَوْلُهُ أَدْنَاهُ شَاةٌ) يُفِيدُ أَنَّ لَهُ أَعْلَى.
وَعِنْدَنَا أَفْضَلُهَا الْإِبِلُ ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الْغَنَمُ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام) هَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ كَلَامِ عَطَاءٍ، أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: أَدْنَى مَا يُهْرَاقُ مِنْ الدِّمَاءِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ شَاةٌ. وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ بَابِ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ فَأَفْتَانِي بِهَا، وَسَأَلْته عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ: فِيهِ جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ الْحَدِيثَ فَخَاصٌّ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ
(قَوْلُهُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ) تَقَدَّمَ ثَالِثٌ، وَهُوَ مَا إذَا طَافَتْ امْرَأَةٌ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ (قَوْلُهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ) يَعْنِي قَبْلَ الْحَلْقِ عَلَى مَا أَسْلَفَهُ مِنْ أَنَّ الْجِمَاعَ بَعْدَهُ فِيهِ شَاةٌ (قَوْلُهُ فِيمَا سَبَقَ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ) يَعْنِي الْجِمَاعَ (أَعْلَى أَنْوَاعِ الارتفاقات)(قَوْلُهُ وَقَدْ صَحَّ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَكَلَ مِنْ الْكُلِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ» الْحَدِيثَ، فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَكَذَا أَزْوَاجُهُ عَلَى مَا رَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ، وَهَدْيُ الْقِرَانِ لَا يَسْتَغْرِقُ مِائَةَ بَدَنَةٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ هَدْيِ الْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا أَكَلَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ بَعْدَمَا صَارَ إلَى الْحَرَمِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَبْلُغْ بِأَنْ عَطِبَ أَوْ ذَبَحَهُ فِي الطَّرِيقِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ فِي الْحَرَمِ تَتِمُّ الْقُرْبَةُ فِيهِ بِالْإِرَاقَةِ، وَفِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَا يَحْصُلُ بِهِ بَلْ بِالتَّصَدُّقِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصَدُّقِ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ ضَمِنَ مَا أَكَلَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ أَكَلَ لُقْمَةً ضَمِنَهُ كُلَّهُ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا أَوْ أَعْطَى الْجَزَّارَ أَجْرَهُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ، وَحَيْثُمَا جَازَ الْأَكْلُ لِلْمُهْدِي جَازَ أَنْ يَأْكُلَ الْأَغْنِيَاءُ أَيْضًا.
(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عُرِفَ فِي الضَّحَايَا) وَهُوَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا وَيُهْدِيَ ثُلُثَهَا وَكُلُّ دَمٍ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبَعَثَ الْهَدَايَا عَلَى يَدَيْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ لَهُ: لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَرُفْقَتُكَ مِنْهَا شَيْئًا»
(وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَفِي الْأَصْلِ يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي التَّطَوُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا هَدَايَا وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِتَبْلِيغِهَا إلَى الْحَرَمِ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ جَازَ ذَبْحُهَا فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فِيهَا أَظْهَرُ، أَمَّا دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}
التَّصَدُّقُ بَعْدَ الذَّبْحِ لِتَمَامِ الْقُرْبَةِ بِهِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدِّمَاءَ نَوْعَانِ: مَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ وَهُوَ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ وَهُوَ دَمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْإِحْصَارِ، وَكُلُّ دَمٍ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَبَطَلَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ بِالْأَكْلِ، وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي النَّوْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْهَلَاكِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْفُقَرَاءِ لِتَعَدِّيهِ عَلَى حَقِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِبُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ.
وَلَوْ بَاعَ اللَّحْمَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ فِي النَّوْعَيْنِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ إلَّا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِثَمَنِهِ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ (قَوْلُهُ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ وَقَالَ لَهُ: إنْ عَطِبَ فَانْحَرْهُ ثُمَّ اُصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ فِيهِ «لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا رُفْقَتُكَ» وَقَدْ أَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ فِي أَوَّلِ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَعْمَلَ عَلَى هَدْيِهِ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيَّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ بِهَا، قَالَ: وَكَانَتْ سَبْعِينَ بَدَنَةً، فَذَكَرَهُ إلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: عَطِبَ مَعِي بَعِيرٌ مِنْ الْهَدْيِ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَبْوَاءِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: انْحَرْهَا وَاصْبُغْ قَلَائِدَهَا فِي دَمِهَا وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِكَ مِنْهَا شَيْئًا وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ»
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سِنَانِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذُؤَيْبًا الْخُزَاعِيَّ أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ بِالْبُدْنِ مَعَهُ ثُمَّ يَقُولُ: إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ» وَأُعِلَّ بِأَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يُدْرِكْ سِنَانًا.
وَالْحَدِيثُ مُعَنْعَنٌ فِي مُسْلِمٍ وَابْنِ مَاجَهْ، إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا ذَكَرَ لَهُ شَوَاهِدَ وَلَمْ يُسَمِّ ذُؤَيْبًا بَلْ قَالَ إنَّ رَجُلًا، وَإِنَّمَا نَهَى نَاجِيَةَ وَمَنْ ذُكِرَ عَنْ الْأَكْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ: لَا دَلَالَةَ لِحَدِيثِ نَاجِيَةَ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ فِيمَا عَطِبَ مِنْهَا فِي الطَّرِيقِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا بَلَغَ الْحَرَمَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ أَوْ لَا اهـ.
وَقَدْ أَوْجَدْنَا فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا ذُبِحَ فِي الطَّرِيقِ امْتِنَاعَ أَكْلِهِ مِنْهُ وَجَوَازَهُ بَلْ اسْتِحْبَابَهُ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ. وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَنَّهَا دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ يَسْتَقِلُّ بِالْمَطْلُوبِ
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّ دَمَ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَلَا يَجُوزُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ إلَّا فِيهَا، وَدَمُ الْإِحْصَارِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَبْلَهَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (قَوْلُهُ أَمَّا دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا} الْآيَةَ، إلَى قَوْلِهِ {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قَدْ بَيَّنَّا فِي كَوْنِ وَقْتِ الطَّوَافِ وَقْتِ الذَّبْحِ مَا يُفِيدُ مِثْلُهُ وَجْهَ كَوْنِ وَقْتِ الذَّبْحِ وَقْتِ
وَقَضَاءُ التَّفَثِ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ (وَيَجُوزُ ذَبْحُ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ اعْتِبَارًا بِدَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَمُ جَبْرٍ عِنْدَهُ.
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ دِمَاءُ كَفَّارَاتٍ فَلَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ كَانَ التَّعْجِيلُ بِهَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا إلَّا فِي الْحَرَمِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَصَارَ أَصْلًا فِي كُلِّ دَمٍ هُوَ كَفَّارَةٌ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَان وَمَكَانُهُ الْحَرَمُ. قَالَ صلى الله عليه وسلم «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ»
(وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قُرْبَةٌ مَعْقُولَةٌ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى كُلِّ
قَضَاءِ التَّفَثِ فَارْجِعْ تَأَمَّلْهُ.
وَأَمَّا وَجْهُ الِاخْتِصَاصِ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجَوَازَ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ فِيهَا فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، وَالْمُرَادُ الِاخْتِصَاصُ مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَّا لَوْ ذَبَحَ بَعْدَهَا أَجْزَأَ إلَّا أَنَّهُ تَارِكٌ لِلْوَاجِبِ وَقَبْلَهَا لَا يُجْزِئُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا كَذَلِكَ فِي الْقِبْلِيَّةِ وَكَوْنُهُ فِيهَا هُوَ السُّنَّةُ، حَتَّى لَوْ ذَبَحَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ دَمٌ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ. وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَإِطْلَاقُ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ إلَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ فِيهِ نَوْعُ إيهَامٍ (قَوْلُهُ وَيَجُوزُ ذَبْحُ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا) وَهِيَ هَدْيُ الْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ وَالْإِحْصَارِ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا إلَّا فِي الْحَرَمِ) سَوَاءٌ كَانَ تَطَوُّعًا أَوْ غَيْرَهُ، قَالَ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَكَانَ أَصْلًا فِي كُلِّ دَمٍ وَجَبَ كَفَّارَةً، وَقَالَ تَعَالَى فِي دَمِ الْإِحْصَارِ {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَقَالَ فِي الْهَدَايَا مُطْلَقًا {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَان فَالْإِضَافَةُ ثَابِتَةٌ فِي مَفْهُومِهِ وَهُوَ الْحَرَمُ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ وَلَا يَخْتَصُّ بِمِنًى.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِمِنًى، وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا، قَالَ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ الدِّمَاءَ قِسْمَانِ
فَقِيرٍ قُرْبَةٌ.
قَالَ (وَلَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ بِالْهَدَايَا) لِأَنَّ الْهَدْيَ يُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ إلَى مَكَان لِيَتَقَرَّبَ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فِيهِ لَا عَنْ التَّعْرِيفِ فَلَا يَجِبُ، فَإِنْ عُرِفَ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ فَحَسَنٌ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَعَسَى أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُمْسِكُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعَرِّفَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى التَّشْهِيرِ بِخِلَافِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَسَبَبُهَا الْجِنَايَةُ فَيَلِيقُ بِهَا السَّتْرُ.
قَالَ (وَالْأَفْضَلُ فِي الْبُدْنِ النَّحْرُ وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ الْجَزُورُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وَالذِّبْحُ مَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الْإِبِلَ وَذَبَحَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ» ثُمَّ إنْ شَاءَ نَحَرَ الْإِبِلَ فِي الْهَدَايَا قِيَامًا وَأَضْجَعَهَا، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَنْحَرَهَا قِيَامًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الْهَدَايَا قِيَامًا» ، وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانُوا يَنْحَرُونَهَا قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَلَا يَذْبَحُ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ قِيَامًا لِأَنَّ فِي حَالَةِ الِاضْطِجَاعِ الْمَذْبَحَ أَبْيَنُ فَيَكُونُ الذَّبْحُ أَيْسَرَ وَالذَّبْحُ هُوَ السُّنَّةُ فِيهِمَا.
(قَوْلُهُ وَالْأَفْضَلُ إلَخْ) أَمَّا نَحْرُ الْإِبِلِ فَحَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِيهِ «فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ» الْحَدِيثَ.
وَأَمَّا ذَبْحُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ «فَدَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ قَالُوا: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ» وَأَخْرَجَ السِّتَّةُ حَدِيثَ التَّضْحِيَةِ بِالْغَنَمِ بِمَا يُفِيدُ الذَّبْحَ. وَمِنْ قَرِيبٍ سَمِعْتُ حَدِيثَ «ذَبْحِهِ عليه الصلاة والسلام الْكَبْشَيْنِ الْأَمْلَحَيْنِ» .
وَأَمَّا أَنَّهُ نَحَرَ الْإِبِلَ قِيَامًا وَأَصْحَابُهُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ يَنْحَرُ بَدَنَةً وَهِيَ بَارِكَةٌ فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم " وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَنَحْنُ مَعَهُ، إلَى أَنْ قَالَ: وَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ بَدَنَاتٍ قِيَامًا» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٌ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا» وَأُبْعِدَ مَنْ قَالَ هَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ بَلْ هُوَ مُسْنَدٌ عَنْ جَابِرٍ وَإِنْ كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ مَرَّةً عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ كَمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ.
هَذَا وَإِنَّمَا سَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّحْرَ قِيَامًا عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} وَالْوُجُوبُ السُّقُوطُ، وَتَحَقُّقُهُ فِي حَالِ الْقِيَامِ أَظْهَرُ قَالَ (وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَوَلَّى ذَبْحَهَا بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ، وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا رضي الله عنه» ، وَلِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَالتَّوَلِّي فِي الْقُرُبَاتِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، إلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ وَلَا يُحْسِنُهُ فَجَوَّزْنَا تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ.
قَالَ (وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا
مَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَمَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ فَقَطْ
(قَوْلُهُ وَلَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ بِالْهَدَايَا) سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالتَّعْرِيفِ الذَّهَابُ بِهَا إلَى عَرَفَاتٍ أَوْ التَّشْهِيرُ بِالتَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ.
وَقَوْلُهُ (فَعَسَى أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُمْسِكُهُ) يُشِيرُ إلَى الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ (فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى التَّشْهِيرِ) إلَى الثَّانِي
(قَوْلُهُ نَيِّفًا وَسِتِّينَ) ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهَا ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَالنَّيْفُ مِنْ وَاحِدٍ إلَى ثَلَاثٍ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةً: نَحَرْت بَدَنَةً قَائِمَةً فَكِدْت أُهْلِكُ
وَخِطَامِهَا وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْهَا) «لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَبِخَطْمِهَا وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا»
(وَمَنْ سَاقَ بَدَنَةً فَاضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهَا رَكِبَهَا، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَرْكَبْهَا) لِأَنَّهُ جَعَلَهَا خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهَا أَوْ مَنَافِعِهَا إلَى نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رُكُوبِهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ» وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا مُحْتَاجًا وَلَوْ رَكِبَهَا فَانْتَقَصَ بِرُكُوبِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ
(وَإِنْ كَانَ لَهَا لَبَنٌ لَمْ يَحْلُبْهَا) لِأَنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ (وَيُنْضِحُ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِد حَتَّى يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ) وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الذَّبْحِ
فِئَامًا مِنْ النَّاسِ لِأَنَّهَا نَفَرَتْ فَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا أَنْحَرَ الْإِبِلَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بَارِكَةً مَعْقُولَةً وَأَسْتَعِينَ بِمَنْ هُوَ أَقْوَى عَلَيْهِ مِنِّي.
وَفِي الْأَصْلِ: وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَذْبَحَهُ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، فَإِنْ ذَبَحَهُ جَازَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ كَأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ» وَيَكْفِي عَنْ هَذَا أَنْ يَنْوِيَهُ أَوْ يَذْكُرَهُ قَبْلَ ذِكْرِ التَّسْمِيَةِ ثُمَّ يَقُولَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعَلِيٍّ) رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَقْسِمَ جُلُودَهَا وَجِلَالَهَا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» وَفِي لَفْظٍ «وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِجُلُودِهَا وَجِلَالِهَا» وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ الْبُخَارِيُّ «وَنَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» وَفِي لَفْظٍ «وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا لُحُومَهَا وَجِلَالَهَا وَجُلُودَهَا فِي الْمَسَاكِينِ وَلَا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا» ، قَالَ السَّرَقُسْطِيُّ: جِزَارَتُهَا بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا فَبِالْكَسْرِ الْمَصْدَرُ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ لِلْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعُنُقِ، وَكَانَ الْجَزَّارُونَ يَأْخُذُونَهَا فِي أُجْرَتِهِمْ
(قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ) فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ ارْكَبْهَا، قَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ ارْكَبْهَا، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ: لَمْ نَرَ اسْمَ هَذَا الْمُبْهَمِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي رُكُوبِ الْبَدَنَةِ الْمُهْدَاةِ؛ فَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِإِطْلَاقِ هَذَا الْأَمْرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ سِيرَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ مُجَانَبَةُ السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي. وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَرْكَبْ هَدْيَهُ وَلَمْ يَرْكَبْهُ وَلَا أَمَرَ النَّاسَ بِرُكُوبِ هَدَايَاهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تَمَسُّكًا بِإِطْلَاقِ هَذَا.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله: لَا يَرْكَبُهَا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ حَمْلًا لِلْأَمْرِ الْمَذْكُورِ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَمَّا رَأَى عليه الصلاة والسلام مِنْ حَاجَةِ الرَّجُلِ إلَى ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي وَاقِعَةِ حَالٍ فَاحْتَمَلَ الْحَاجَةَ بِهِ وَاحْتَمَلَ عَدَمَهَا، فَإِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ يُفِيدُ أَحَدَهُمَا حَمَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ وَجَدَ مِنْ الْمَعْنَى مَا يُفِيدُهُ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَهَا كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ مِنْهَا شَيْئًا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَيَجْعَلَ مَحْمَلَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ.
ثُمَّ رَأَيْنَا اشْتِرَاطَ الْحَاجَةِ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ «أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَسْأَلُ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إذْ أُلْجِئْتَ إلَيْهَا» فَالْمَعْنَى يُفِيدُ مَنْعَ الرُّكُوبِ مُطْلَقًا وَالسَّمْعُ وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ رُخْصَةً فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْمَنْعِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْمَعْنَى لَا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ.
وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ: فَإِنْ رَكِبَهَا أَوْ حَمَلَ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا ذَلِكَ: يَعْنِي إنْ نَقَصَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَهُ
(قَوْلُهُ وَيُنْضِحُ ضَرْعَهَا) أَيْ يَرُشُّهُ بِالْمَاءِ وَهُوَ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ
فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ يَحْلُبُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِلَبَنِهَا كَيْ لَا يَضُرَّ ذَلِكَ بِهَا، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ
(وَمَنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ) لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِهَذَا الْمَحَلِّ وَقَدْ فَاتَ (وَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ (وَإِنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ كَبِيرٌ يُقِيمُ غَيْرَهُ مَقَامَهُ) لِأَنَّ الْمَعِيبَ بِمِثْلِهِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فَلَا بُدَّ مِنْ غَيْرِهِ (وَصَنَعَ بِالْمَعِيبِ مَا شَاءَ) لِأَنَّهُ اُلْتُحِقَ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِ
(وَإِذَا عَطِبَتْ الْبَدَنَةُ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهَا وَصَبَغَ نَعْلَهَا بِدَمِهَا وَضَرَبَ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا وَلَا يَأْكُلُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ) مِنْهَا بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيَّ رضي الله عنه، وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ قِلَادَتُهَا، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَأْكُلُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
قَوْلُهُ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِهَذَا الْمَحَلِّ وَقَدْ فَاتَ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ لِمَ لَا يَكُونُ كَأُضْحِيَّةِ الْفَقِيرِ فَإِنَّهَا تَطَوُّعٌ عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَاهَا لِلتَّضْحِيَةِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِلْوَعْدِ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْغَنِيِّ، حَتَّى إنَّ الْغَنِيَّ إذَا اشْتَرَى أُضْحِيَّةً فَضَلَّتْ فَاشْتَرَى أُخْرَى ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِمَا.
أُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَوْجَبَ الْفَقِيرُ بِلِسَانِهِ فِي كُلٍّ مِنْ الشَّاتَيْنِ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، أَمَّا لَوْ لَمْ يُوجِبْ بِلِسَانِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَاسْتَوْضَحَهُ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ اشْتَرَى الْفَقِيرُ الْأُضْحِيَّةَ فَمَاتَتْ أَوْ بَاعَهَا لَا تَلْزَمُهُ أُخْرَى، وَكَذَا لَوْ ضَلَّتْ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْإِيرَادِ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مَسْأَلَةَ أُضْحِيَّةِ الْفَقِيرِ مُطْلَقَةً عَنْ الْإِيجَابِ بِلِسَانِهِ فَرَدُّهَا إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ لَازِمٌ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى لِظُهُورِ عَدَمِ الْوُجُوبِ بِلَا إيجَابٍ مِنْ الشَّرْعِ أَوْ الْعَبْدِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَدَنَةُ عَنْ وَاجِبٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهَا مَقَامَهَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ شَاةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَبِشِرَاءِ شَاةٍ لِلْإِسْقَاطِ لَا تَتَعَيَّنُ عَنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ مَا لَمْ تُذْبَحْ عَنْهُ وَالذِّمَّةُ مَا عَنْهُ يُثْبِتُ فِي الْآدَمِيِّ أَهْلِيَّةَ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ كَبِيرٌ) بِأَنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ الْأُذُنِ مَثَلًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: إذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْأُضْحِيَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
(قَوْلُهُ وَإِذَا عَطِبَتْ الْبَدَنَةُ) أَيْ قَرُبَتْ مِنْ الْعَطَبِ حَتَّى خِيفَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ أَوْ امْتَنَعَ عَلَيْهَا السَّيْرُ لِأَنَّ النَّحْرَ بَعْدَ حَقِيقَةِ الْهَلَاكِ لَا يَكُونُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَطَبِ الْأَوَّلِ حَقِيقَتُهُ وَبِالثَّانِي الْقُرْبُ مِنْهُ، ذَكَرَهُ لِبَيَانِ مَا شَرَعَ فِيهِ إذَا بَلَغَ هَذِهِ الْحَالَةَ (قَوْلُهُ وَبِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام) تَقَدَّمَ قَرِيبًا (قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ ذَلِكَ) أَيْ فَائِدَةُ صَبْغِ نَعْلِهَا
وَهَذَا لِأَنَّ الْإِذْنَ بِتَنَاوُلِهِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلًا، إلَّا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُ جَزَرًا لِلسِّبَاعِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَقَرُّبٍ وَالتَّقَرُّبُ هُوَ الْمَقْصُودُ (فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَقَامَ غَيْرَهَا مَقَامَهَا وَصَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِمَا عَيَّنَهُ وَهُوَ مِلْكُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ
(وَيُقَلِّدُ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ، وَفِي التَّقْلِيدِ إظْهَارُهُ وَتَشْهِيرُهُ فَيَلِيقُ بِهِ (وَلَا يُقَلِّدُ دَمَ الْإِحْصَارِ وَلَا دَمَ الْجِنَايَاتِ) لِأَنَّ سَبَبَهَا الْجِنَايَةُ وَالسَّتْرُ أَلْيَقُ بِهَا، وَدَمُ الْإِحْصَارِ جَابِرٌ فَيَلْحَقُ بِجِنْسِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْهَدْيَ وَمُرَادُهُ الْبَدَنَةُ لِأَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الشَّاةَ عَادَةً. وَلَا يُسَنُّ تَقْلِيدُهَا عِنْدَنَا لِعَدَمِ فَائِدَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بِدَمِهَا وَضَرْبِ صَفْحَتِهَا بِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ (قَوْلُهُ جَزَرًا لِلسِّبَاعِ) الْجَزَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: اللَّحْمُ الَّذِي تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ
…
مَا بَيْنَ قُلَّةِ رَأْسِهِ وَالْمِعْصَمِ
وَقَالَ آخَرُ:
إنْ يَفْعَلَا فَلَقَدْ تَرَكْت أَبَاهُمَا
…
جَزَرَ الْخَامِعَةِ وَنَسْرَ قَشْعَمِ
(قَوْلُهُ وَصَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ) مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ
(قَوْلُهُ وَدَمُ الْإِحْصَارِ جَابِرٌ فَيَلْحَقُ بِجِنْسِهَا) أَيْ بِجِنْسِ الدِّمَاءِ الْجَابِرَةِ وَهِيَ دِمَاءُ الْجِنَايَاتِ فَلَا يُقَلِّدُهَا هَدْيُ الْإِحْصَارِ كَمَا لَا يُقَلِّدُ هَدْيَ الْجِنَايَاتِ (قَوْلُهُ وَمُرَادُهُ) يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ يُقَلِّدُ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَهُوَ الْبَدَنَةُ فَيَدْخُلُ الْبَقَرُ دُونَ الشَّاةِ (قَوْلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ) يُرِيدُ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ بَابِ الْقِرَانِ مِنْ قَوْلِهِ وَتَقْلِيدُ الشَّاةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ عَدَمَ الْفَائِدَةِ الَّتِي هِيَ عَدَمُ الضَّيَاعِ، فَإِنَّ الْغَنَمَ تَضِيعُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا صَاحِبُهَا.
[فُرُوعٌ مِنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ الْأَصْلِ مَشْرُوحَةٌ فِي الْمَبْسُوطِ] كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ مِنْ الْمَنَاسِكِ جَازَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ سِتَّةَ نَفَرٍ قَدْ وَجَبَ الدِّمَاءُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا مِنْ دَمِ مُتْعَةٍ وَإِحْصَارٍ وَجَزَاءِ صَيْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَانَ أَحَبُّ إلَيَّ، فَإِنْ اشْتَرَى بَدَنَةً لِمُتْعَةٍ مَثَلًا ثُمَّ اشْتَرَكَ فِيهَا سِتَّةٌ بَعْدَمَا أَوْجَبَهَا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَهَا صَارَ الْكُلُّ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَدْرَ مَا يَجْزِي فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ بِإِيجَابِهِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِمَّا أَوْجَبَهُ هَدْيًا، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ يَشْتَرِكَ مَعَهُ فِيهَا سِتَّةُ نَفَرٍ أَجْزَأَتْهُ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الْكُلَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَلَكِنْ لَمْ يُوجِبْهَا حَتَّى أَشْرَكَ السِّتَّةَ جَازَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمْ بِأَمْرِ الْبَاقِينَ حَتَّى تَثْبُتَ الشَّرِكَةُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا وَلَدَتْ الْبَدَنَةُ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا لِهَدْيِهِ ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْهَا ثُمَّ انْفَصَلَ بَعْدَمَا سَرَى إلَيْهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ مَعَهَا.
وَلَوْ بَاعَ الْوَلَدَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا هَدْيًا فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا فَحَسَنٌ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ بِالْوَلَدِ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُذْبَحَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ كَذَلِكَ أَجْزَأَ فَكَذَلِكَ بِالْقِيمَةِ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَرَضِيَ وَارِثُهُ أَنْ يَنْحَرَهَا مَعَهُمْ عَنْ الْمَيِّتِ أَجْزَأَهُمْ اسْتِحْسَانًا
مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ
(أَهْلُ عَرَفَةَ إذَا وَقَفُوا فِي يَوْمٍ وَشَهِدَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجْزِيَهُمْ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ فَلَا يَقَعُ عِبَادَةٌ دُونَهُمَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجْزِيهِمْ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يُوصِ بِهِ فَقَدْ انْقَطَعَ حَقُّ الْقُرْبَةِ عَنْ نَصِيبِهِ فَصَارَ مِيرَاثًا، وَهَذَا التَّقَرُّبُ تَقَرُّبٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَنْ الْمَيِّتِ إلَّا بِأَمْرِهِ كَالْعِتْقِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّصَدُّقُ وَتَقَرُّبُ الْوَارِثِ بِالتَّصَدُّقِ عَنْ الْمَيِّتِ صَحِيحٌ بِلَا إيصَاءٍ، فَكَذَا تَقَرُّبُهُ بِإِبْقَاءِ مَا قَصَدَ الْمُوَرِّثُ بِنَصِيبِهِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ يَكُونُ صَحِيحًا، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا يُرِيدُ بِهِ اللَّحْمَ دُونَ الْهَدْيِ لَمْ يُجْزِهِمْ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ وَاحِدَةٌ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا الْقُرْبَةُ وَعَدَمُهَا، وَأَيُّ الشُّرَكَاءِ نَحَرَهَا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَ عَنْ الْكُلِّ.
وَإِذَا غَلِطَ رَجُلَانِ فَذَبَحَ كُلٌّ مِنْهُمَا هَدْيَ صَاحِبِهِ أَجْزَأَهُمَا اسْتِحْسَانًا لَا فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ كُلًّا غَيْرُ مَأْمُورٍ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ فَصَارَ ضَامِنًا، لَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ: كُلٌّ مَأْذُونٌ فِيمَا صَنَعَ دَلَالَةً لِأَنَّ صَاحِبَ الْهَدْيِ يَسْتَعِينُ بِكُلِّ أَحَدٍ عَادَةً فَكَانَ كَالْإِفْصَاحِ بِالْإِذْنِ وَيَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمَا هَدْيَهُ مِنْ صَاحِبِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ صَاحِبِهِ هَدْيَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهُ فَيَشْتَرِيَ بِالْقِيمَةِ هَدْيًا آخَرَ يَذْبَحَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا تَصَدَّقَ بِالْقِيمَةِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْهَدْيِ مِثْلُهُ فِي الْأُضْحِيَّةَ.
وَمَنْ اشْتَرَى هَدْيًا فَضَلَّ فَاشْتَرَى مَكَانَهُ آخَرَ وَأَوْجَبَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْأَوَّلَ، فَإِنْ نَحَرَهُمَا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ نَحَرَ الْأَوَّلَ وَبَاعَ الثَّانِيَ جَازَ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنْ بَاعَ الْأَوَّلَ وَذَبَحَ الثَّانِيَ أَجْزَأَهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ فَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ. وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالتَّطَوُّعِ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا صَارَا لِلَّهِ تَعَالَى إذْ جَعَلَهُمَا هَدْيًا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا
وَإِنْ سَاقَ بَدَنَةً لَا يَنْوِي بِهَا الْهَدْيَ قَالَ: إنْ كَانَ سَاقَهَا إلَى مَكَّةَ فَهِيَ هَدْيٌ، وَأَرَادَ بِهَذَا إذَا قَلَّدَهَا وَسَاقَهَا لِأَنَّ هَذَا لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا بِالْهَدْيِ فَكَانَ سَوْقُهَا بَعْدَ إظْهَارِ عَلَامَةِ الْهَدْيِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِهِ إيَّاهَا بِلِسَانِهِ هَدْيًا.
(مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ)
مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا عَقِيبَ الْأَبْوَابِ مَا شَذَّ مِنْهَا مِنْ الْمَسَائِلِ فَتَصِيرُ مَسَائِلُ مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَتُتَرْجَمُ تَارَةً بِمَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ وَتَارَةً بِمَسَائِلَ شَتَّى (قَوْلُهُ وَشَهِدَ قَوْمٌ) صُورَتُهَا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلَالَ ذِي الْحَجَّةِ فِي لَيْلَةِ
شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ وَعَلَى أَمْرٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ حَجِّهِمْ، وَالْحَجُّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ فَلَا تُقْبَلُ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَلْوَى عَامًا لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِعَادَةِ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَزُولَ الِاشْتِبَاهُ
كَذَا الْيَوْمُ يَكُونُ يَوْمُ الْوُقُوفِ مِنْهُ الْعَاشِرَ. وَذَكَرَ لِلِاسْتِحْسَانِ أَوْجُهًا: أَحَدَهَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ: أَيْ نَفْيِ جَوَازِ الْوُقُوفِ وَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى الْإِثْبَاتِ حَقِيقَةً وَهُوَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي لَيْلَةٍ قَبْلَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ هُوَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ وُقُوفِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحُكْمِ بَلْ الْفَتْوَى تُفِيدُ عَدَمَ سُقُوطِ الْفَرْضِ فَيُخَاطَبُ بِهِ، وَعَدَمُ سُقُوطِهِ هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا وَصَارَ كَمَا لَوْ رَآهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ كَذَلِكَ ثُمَّ أَخَّرُوا الْوُقُوفَ.
ثَانِيَهَا: أَنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صِحَّةِ الْوُقُوفِ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي وَقْتِهِ بَلْ قَدْ وَقَعَ فِي وَقْتِهِ شَرْعًا، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ النَّاسُ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ» أَيْ أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْيَوْمُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ عَنْ اجْتِهَادٍ وَرَأَى أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ.
ثَالِثَهَا: أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ لَكِنَّ وُقُوفَهُمْ جَائِزٌ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ مِمَّا يَغْلِبُ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْجَوَازِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ لَزِمَ الْحَرَجُ الشَّدِيدُ وَقَدْ نَفَاهُ بِفَضْلِهِ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَصْلُحُ بَيَانًا بِالْحِكْمَةِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْمَذْكُورُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عَدَمُ صِحَّةِ الْوُقُوفِ فَلَا فَائِدَةَ فِي سَمَاعِهَا لِلْإِمَامِ فَلَا يَسْمَعُهَا لِأَنَّ سَمَاعَهَا يُشْهِرُهَا بَيْنَ عَامَّةِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَكْثُرُ الْقِيلُ وَالْقَالُ فِيهَا وَتَثُورُ الْفِتْنَةُ وَتَتَكَدَّرُ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّكِّ فِي صِحَّةِ حَجِّهِمْ بَعْدَ طُولِ عَنَائِهِمْ، فَإِذَا جَاءُوا لِيَشْهَدُوا يَقُولُ لَهُمْ انْصَرِفُوا لَا نَسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ قَدْ تَمَّ حَجُّ النَّاسِ.
وَهَلْ يَجُوزُ وُقُوفِ الشُّهُودِ؟ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوفُهُمْ وَحَجُّهُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: وَإِذَا كَانَ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَقَفَ يَوْمَ عَرَفَةَ: يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الَّذِي شَهِدَ لَمْ يُجْزِ وُقُوفُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُقُوفَ مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ فَلَا يَعْتَدُّ بِمَا فَعَلَهُ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الْإِمَامُ الْوُقُوفَ لِمَعْنًى يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُ مَنْ وَقَفَ قَبْلَهُ.
فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِهِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ لَا عِلَّةَ بِالسَّمَاءِ فَوَقَفَ بِشَهَادَتِهِمَا قَوْمٌ قَبْلَ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُهُمْ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُ بِسَبَبٍ يَجُوزُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَّرَهُ لِلِاشْتِبَاهِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ) يَعْنِي إذَا ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ وَالْكَلَامُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وُقُوفَهُمْ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ عَلَى أَنَّهُ التَّاسِعُ لَا يُعَارِضُهُ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ أَنَّهُ الثَّامِنُ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ أَنَّهُ الثَّامِنُ إنَّمَا يَكُونُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَوَّلَ ذِي الْحَجَّةِ ثَبَتَ بِإِكْمَالِ عِدَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ وَاعْتِقَادُهُ التَّاسِعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رُئِيَ
يَوْمَ عَرَفَةَ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤَخَّرِ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا كَذَلِكَ جَوَازُ الْمُقَدَّمِ.
قَالُوا: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَسْمَعَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَيَقُولَ قَدْ تَمَّ حَجُّ النَّاسِ فَانْصَرِفُوا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيقَاعُ الْفِتْنَةِ. وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ لَمْ يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ.
قَالَ (وَمَنْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَالثَّالِثَةَ وَلَمْ يَرْمِ الْأُولَى، فَإِنْ رَمَى الْأُولَى ثُمَّ الْبَاقِيَتَيْنِ فَحَسَنٌ) لِأَنَّهُ رَاعَى التَّرْتِيبَ الْمَسْنُونَ (وَلَوْ رَمَى الْأُولَى وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ التَّرْتِيبَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجْزِيهِ مَا لَمْ يُعِدْ الْكُلَّ لِأَنَّهُ شَرَعَ مُرَتَّبًا فَصَارَ كَمَا إذَا سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ أَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا
قَبْلَ الثَّلَاثِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَهَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ.
وَالْقَائِلُونَ إنَّهُ الثَّامِنُ حَاصِلُ مَا عِنْدَهُمْ نَفْيٌ مَحْضٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَرَآهُ الَّذِينَ شَهِدُوا فَهِيَ شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ لَا مُعَارِضَ لَهَا (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ) بِأَنْ شَهِدُوا فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي هُمْ بِهَا فِي مِنًى مُتَوَجِّهِينَ إلَى عَرَفَاتٍ أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي خَرَجْنَا بِهِ مِنْ مَكَّةَ الْمُسَمَّى بِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ كَانَ التَّاسِعَ لَا الثَّامِنَ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ بِأَنْ يَسِيرَ إلَى عَرَفَاتٍ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِيَقِفَ لَيْلَةَ النَّحْرِ بِالنَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا وَيَقِفَ مِنْ الْغَدِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ صَارَ كَشَهَادَتِهِمْ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ فِي اللَّيْلِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَلَا يُدْرِكُهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ لَزِمَهُ الْوُقُوفُ ثَانِيًا، فَإِنْ لَمْ يَقِفْ فَاتَ حَجُّهُ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا) فَلَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُ رَمْيِ إحْدَاهَا بِرَمْيِ أُخْرَى، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْقُرَبِ الْمُتَسَاوِيَةِ الرُّتَبِ. وَلَوْلَا وُرُودُ النَّصِّ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ بِالتَّرْتِيبِ قُلْنَا لَا يَلْزَمُ فِيهَا أَيْضًا، بِخِلَافِ تَرْتِيبِ السَّعْيِ عَلَى الطَّوَافِ لِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ تَبَعًا حَتَّى لَا يَشْرَعَ إلَّا عَقِيبَ طَوَافٍ، وَبِخِلَافِ الْمَرْوَةِ فَإِنَّ الْبُدَاءَةَ مِنْ الصَّفَا قَدْ ثَبَتَتْ
فَلَا يَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِتَقْدِيمِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، بِخِلَافِ السَّعْيِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلطَّوَافِ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَالْمَرْوَةُ عُرِفَتْ مُنْتَهَى السَّعْيِ بِالنَّصِّ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُدَاءَةُ.
قَالَ (وَمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَإِنَّهُ لَا يَرْكَبُ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ،
بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» بِصِيغَةِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَخْرِيجِهِ، فَالتَّرْتِيبُ الْوَاقِعُ فِعْلًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مَحْمُولٌ عَلَى السُّنَّةِ إذْ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا التَّقْرِيرُ مَنْعَ مَا قِيلَ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ قُرْبَةٌ وَاحِدَةٌ بِدَلِيلِ لُزُومِ دَمٍ وَاحِدٍ فِي تَرْكِ كُلِّهَا. قُلْنَا: إقَامَتُهَا فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ ظَاهِرٌ فِي التَّعَدُّدِ فَيَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَهُ حَتَّى يُوجِبَ الْخُرُوجَ عَنْهُ مُوجِبٌ، وَتَمَاثُلُ الْأَعْمَالِ لَا يُوجِبُهُ بَلْ هِيَ أَوْلَى بِالتَّعَدُّدِ مِنْ الْأَسَابِيعِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنْ الطَّوَافِ لِأَنَّهَا تُقَامُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَاتِّحَادُ الدَّمِ لَيْسَ لِلْوَحْدَةِ الْحَقِيقِيَّةِ شَرْعًا بَلْ يَثْبُتُ مَعَ التَّعَدُّدِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي الْجِنَايَاتِ رَحْمَةً وَفَضْلًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَزْنًا غَيْرَ الْمُحْصَنِ مِرَارًا إذَا ثَبَتَتْ كُلُّهَا يَلْزَمُ مُوجِبٌ وَاحِدٌ، فَكَذَا الدَّمُ لِأَنَّ لُزُومَهُ مُوجِبٌ جِنَايَةً.
وَلَوْ سَلِمَ اعْتِبَارُهَا وَاحِدَةً فِي حَقِّ حُكْمٍ لَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُهَا كَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ حُكْمٍ مَعَ قِيَامِ التَّعَدُّدِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْمَعْقُولَ فِي مَحَلِّ اعْتِبَارِهَا وَاحِدَةً وَهُوَ مَوْضِعُ الْجِنَايَةِ الْحُكْمُ بِتَدَاخُلِهَا فَضْلًا وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي تَرْكِ التَّرْتِيبِ
(قَوْلُهُ وَمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَإِنَّهُ لَا يَرْكَبُ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) وَهَذَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقُرْبَةَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَتَلْزَمُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ كَالْتِزَامِ التَّتَابُعِ فِي الصَّوْمِ (وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَرْكَبَ وَبَيْنَ أَنْ يَمْشِيَ، وَهَذَا) أَعْنِي مَا فِي الْجَامِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَا يَرْكَبُ حَتَّى يَطُوفَ (إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ) وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَا قُلْنَا؛ وَإِنَّمَا انْتَهَى الْمَشْيُ بِالطَّوَافِ لِأَنَّهُ مُنْتَهَى أَعْمَالِ الْحَجِّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحَجَّ مَاشِيًا فَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةَ كَمَالٍ؟ قُلْنَا إنَّمَا كَرِهَهُ إذَا كَانَ مَظِنَّةَ سُوءِ خُلُقِ الْفَاعِلِ لَهُ كَأَنْ يَكُونَ صَائِمًا مَعَ الْمَشْيِ أَوْ مِمَّنْ لَا يُطِيقُ الْمَشْيَ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْمَأْثَمِ مِنْ مُجَادَلَةِ الرَّفِيقِ وَالْخُصُومَةِ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى التَّوَاضُعِ وَالتَّذَلُّلِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ لَمَّا كُفَّ بَصَرُهُ: مَا أَسِفْت عَلَى شَيْءٍ كَأَسَفِي عَلَى أَنْ لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ فَقَالَ تَعَالَى {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ مَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: كُلُّ حَسَنَةٍ بِسَبْعِمِائَةٍ». لَا يُقَالُ: لَا نَظِيرَ لِلْمَشْيِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النَّذْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَنْذُورِ وَاجِبٌ عَلَى مَا ذَكَرْته فِي كِتَابِ الصَّوْمِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ لَهُ نَظِيرٌ، وَهُوَ مَشْيُ الْمَكِّيِّ الَّذِي لَا يَجِدُ الرَّاحِلَةَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا وَنَفْسُ الطَّوَافِ أَيْضًا. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي مَحَلِّ ابْتِدَاءِ وُجُوبِ الْمَشْيِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْهُ قِيلَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنْ بَيْتِهِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ عُرْفًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الرِّوَايَةِ مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ أَنَّ بَغْدَادِيًّا قَالَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا فَلَقِيَهُ بِالْكُوفَةِ فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ مِنْ بَغْدَادَ، وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ فَالْإِنْفَاقُ عَلَى أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ هَذَا أَنْ لَا فَرْقَ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَ أَنْ يُنْجِزَ النَّذْرَ أَوْ يُعَلِّقَهُ كَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ قَدِمَ زَيْدٌ فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَوْ عَلَيَّ حَجَّةٌ فِي الْإِيجَابِ، وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ تُعُورِفَ إيجَابُ النُّسُكِ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَكَانَ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَإِنْ جَعَلَهَا حَجَّةَ مَشْيٍ فَلَمْ يَرْكَبْ حَتَّى يَطُوفَ أَوْ عُمْرَةَ مَشْيٍ حَتَّى يَحْلِقَ، وَلَوْ قَرَنَهَا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ جَازَ.
فَإِنْ رَكِبَ فَعَلَيْهِ دَمٌ مَعَ دَمِ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا، وَلَوْ نَذَرَ حَجَّةً مَاشِيًا ثُمَّ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ بِعُمْرَةٍ تَطَوُّعًا ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهَا الْحَجَّةَ أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَطُفْ لِعُمْرَتِهِ وَهُوَ قَارِنٌ، وَلَوْ أَحْرَمَ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَكُلُّ مَنْ نَذَرَ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى الْأَصْلِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ إذَا رَكِبَ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّوْمَ مُتَتَابِعًا فَقَطَعَ التَّتَابُعَ، وَلَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ نَصًّا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسَنَدُهُ حُجَّةٌ.
وَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيهَا " لِتَمْشِ وَلِتَرْكَبَ " وَلَمْ يَزِدْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَمَحْمُولٌ عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ الْمَرْوِيِّ بِدَلِيلِ مَا صَرَّحَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، ثُمَّ إطْلَاقُ الرُّكُوبِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى عِلْمِهِ بِعَجْزِهَا عَنْ الْمَشْيِ بِدَلِيلِ مَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً وَإِنَّهَا لَا تُطِيقُ الْمَشْيَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِ أُخْتِكَ، فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً» إلَّا أَنَّهُ عَمِلَ بِإِطْلَاقِ الْهَدْيِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ بَدَنَةٍ لِقُوَّةِ رِوَايَتِهَا.
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ إيجَابَ النُّسُكِ بِنَذْرِ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَعَارُفِ إرَادَةِ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ غَيْرَهُ، فَلَوْ نَوَى بِهِ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ الْمُكَرَّمَةِ أَوْ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَسْجِدٍ غَيْرِهِمَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. أَمَّا صِحَّةُ نِيَّتِهِ فَلِمُطَابَقَتِهَا لِلَفْظِهِ إذْ الْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا صَحَّتْ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ يَجُوزُ الدُّخُولُ فِيهَا بِلَا إحْرَامٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ وَقَوْلُهُ عَلَى الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْكَعْبَةِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ.
وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِي الْتِزَامِ النُّسُكِ بِهِ، وَقَالَا: يَلْزَمُهُ النُّسُكُ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْحَرَمِ وَلَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَّا بِالْإِحْرَامِ فَكَانَ بِذَلِكَ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
وَقَوْلُهُ أَوْجَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَرَفَ فَإِنَّ الِالْتِزَامَ لِلنُّسُكِ بِهَذَا اللَّفْظِ لَيْسَ مَدْلُولًا وَضْعِيًّا بَلْ عُرْفِيًّا، فَكَوْنُ التَّوَصُّلِ فِي الْخَارِجِ بِالْفِعْلِ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْسَ إلَّا بِالْإِحْرَامِ لَا يُوجِبُ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ يُفِيدُهُ إذَا تَأَمَّلْت قَلِيلًا. وَأَمَّا كَوْنُ التَّوَصُّلِ إلَى الْحَرَمِ أَيْضًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يَسْتَدْعِي الْإِحْرَامَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِ الْآفَاقِيُّ إلَّا مَكَانًا فِي الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ أَوْ لَا جَازَ لَهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِلَا إحْرَامٍ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا لُزُومَ لَوْ قَالَ إلَى الصَّفَا أَوْ الْمَرْوَةِ أَوْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهَا بِالْفِعْلِ إلَّا بِالْإِحْرَامِ شَرْعًا، فَعَرَفَ أَنَّ الْمَدَارَ تَعَارُفُ الْإِيجَابِ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ، وَكَذَا لَوْ قَالَ مَكَانَ الْمَشْيِ غَيْرَهُ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ لَا يَلْزَمُ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْخُرُوجُ أَوْ السَّفَرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَوْ عَلَيَّ إحْرَامٌ حَيْثُ يَلْزَمُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَارَفْ الْإِيجَابُ بِهِ لِإِفَادَتِهِ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ وَضْعًا، وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الرُّكُوبُ أَوْ الْإِتْيَانُ لَا شَيْءَ فِيهِ، وَكَذَا الشَّدُّ وَالْهَرْوَلَةُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ أَوْ بَابِهَا أَوْ مِيزَابِهَا أَوْ عَرَفَاتٍ أَوْ مُزْدَلِفَةِ أَوْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَدَمِ تَعَارُفِ إيجَابِ النُّسُكِ بِهِ، وَفِي مَوْضِعٍ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ إلَى الرُّكْنِ يَلْزَمُهُ، وَإِلَى أُسْطُوَانَةِ الْبَيْتِ أَوْ زَمْزَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مِنْ عَدَمِ اللُّزُومِ مَذْكُورٌ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ نِصْفُ حَجَّةٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا أُحْرِمُ فَإِنْ نَوَى بِهِ الْعِدَّةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَوْ الْإِيجَابَ لَزِمَهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ لِلْعُرْفِ فِي إرَادَةِ التَّحْقِيقِ لِمِثْلِهِ لِلْحَالِ كَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ وَالشَّاهِدِ أَشْهَدُ. وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِيهِ لَوْ قَالَ أَنَا أَمْشِي إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ نَوَى الْعِدَّةَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُنْدَبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ. وَإِنْ نَوَى النَّذْرَ كَانَ نَذْرًا، وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ نَذْرٌ لِلْعَادَةِ اهـ. وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الْعُرْفِ فِي النَّذْرِ بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَالَ أَنَا أَحُجُّ لَا حَجَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت فَأَنَا أَحُجُّ يَلْزَمُهُ عِنْدَ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ عَلَّقَهُ لِأَنَّ تَعَارُفَ الْإِيجَابِ بِهِ إنَّمَا هُوَ فِي التَّعْلِيقِ.
وَلَوْ قَالَ إنْ عَافَانِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَرَضِي هَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ فَبَرِئَ لَزِمَتْهُ، فَإِذَا حَجَّ جَازَ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهَا، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَرِيضَ الَّذِي فَرَّطَ فِي الْفَرْضِ حَتَّى مَرِضَ ذَلِكَ. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ فَعَلَيَّ حَجَّةٌ حَيْثُ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ سِوَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ حَيْثُ يَجْزِي عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي الْخُلَاصَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مِثْلِهِ بَيْنَهُمَا قَالَ الْتَزَمَ حَجَّةً ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ سَقَطَ عَنْهُ مَا الْتَزَمَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
وَمَنْ نَذَرَ مِائَةَ حَجَّةٍ وَنَحْوَهَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. هَلْ تَلْزَمُهُ كُلُّهَا فَيَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ بِهَا أَوْ يَلْزَمُهُ قَدْرُ مَا عَاشَ؟ فَفِي الْخُلَاصَةِ نَصَّ عَلَى لُزُومِ الْكُلِّ. وَذَكَرَ غَيْرَهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الثَّانِي وَاخْتَارَهُ السُّرُوجِيُّ وَقَبِلَهُ شَدَّادٌ. أُلْحِقَ بِمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ سَنَةَ عِشْرِينَ فَمَاتَ قَبْلَهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَقَدْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَمَاتَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَزِمَتْهُ حَجَّةٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ لُزُومَ الْكُلِّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِالْتِزَامِ ابْتِدَاءً وَإِضَافَتِهِ.
وَلَوْ قَالَ عَشْرَ حِجَجٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَزِمَهُ عَشْرٌ فِي عَشْرِ سِنِينَ، وَمَنْ قَالَ ثَلَاثِينَ حَجَّةً وَنَحْوَهَا فَأَحَجَّ عَنْهُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا فِي سَنَةٍ جَازَ، وَكُلَّمَا عَاشَ النَّاذِرُ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةً بَطَلَتْ مِنْهَا حَجَّةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّهَا بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ فَظَهَرَ عَدَمُ صِحَّةِ إحْجَاجِهَا، فَإِنْ لَمْ يَحُجَّ لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِقَدْرِ مَا عَاشَ مِنْ بَعْدِ الْإِحْجَاجِ.
وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ فِي سَنَةِ كَذَا فَحَجَّ قَبْلَهَا جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَقْيَسُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي نَذْرِ الصَّوْمِ فَارْجِعْ إلَيْهِ
وَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْمَنْذُورِ إنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي نَذْرِ الْمَرِيضِ. وَمَا فِي الْمُنْتَقَى: نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ
وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقُرْبَةَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَتَلْزَمُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، كَمَا إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ مُتَتَابِعًا
فَحَجَّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ تَطَوُّعٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ هِشَامٌ: عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ خِلَافًا، إذْ لَا خِلَافَ فِي تَأَدِّي فَرْضِ الْحَجِّ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ عِنْدَنَا، وَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَمَا عَنْ هِشَامٍ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ إلَى الْمَنْذُورِ بِلَا نِيَّةٍ.
وَمَنْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ يَوْمَ أُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِهَا بَلْ لَزِمَتْهُ يَفْعَلُهَا مَتَى شَاءَ، كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ حَجَّةٌ الْيَوْمَ إنَّمَا تَلْزَمُهُ فِي ذِمَّتِهِ يُحْرِمُ بِهَا مَتَى شَاءَ.
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ عَلَيَّ حَجَّةٌ إنْ شِئْت فَقَالَ شِئْت لَزِمَتْهُ، وَكَذَا إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَشَاءَ، وَهَلْ تَقْتَصِرُ مَشِيئَةُ فُلَانٍ عَلَى مَجْلِسِ بُلُوغِهِ ذَلِكَ الْخَبَرِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا تَقْتَصِرَ، بِخِلَافِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْحَالِفِ فَكَانَ تَمْلِيكًا مِنْ ذِي الْمَشِيئَةِ فَاسْتَدْعَى جَوَابَهُ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَاتِ تَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَانْتَفَى مُوجِبُ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ.
وَمَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ بِفُلَانٍ، فَإِنْ نَوَى أَحُجَّ وَهُوَ مَعِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِهِ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يُحِجَّهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحِجَّهُ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَقَدْ أَلْصَقَ فُلَانًا بِحَجِّهِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَنْ يَحُجَّ فُلَانٌ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَنْ يُعْطِيَ فُلَانًا مَا يَحُجُّ بِهِ مِنْ الْمَالِ، وَالْتِزَامُ الْأَوَّلِ بِالنَّذْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالثَّانِي صَحِيحٌ لِأَنَّ الْحَجَّ يُؤَدَّى بِالْمَالِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ الْأَدَاءِ فَكَانَ هَذَا فِي حُكْمِ الْبَدَلِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْبَدَلِ كَمَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْأَصْلِ، فَإِذَا نَوَى الْوَجْهَ الْأَوَّلَ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ، وَلَكِنَّ الْمَنْوِيَّ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ خَاصَّةً.
وَإِنْ نَوَى الثَّانِيَ لَزِمَهُ فَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَحُجُّ بِهِ أَوْ يُحِجَّهُ مَعَ نَفْسِهِ لِيَحْصُلَ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَصْلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحِجَّ فُلَانًا لِأَنَّ لَفْظَهُ فِي حَقِّ فُلَانٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَعَدَمَهُ، وَالْمُعَيِّنُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ لَيْسَ إلَّا النِّيَّةُ وَقَدْ فُقِدَتْ. وَلَوْ كَانَ قَالَ فَعَلَيَّ أَنْ أُحِجَّ فُلَانًا فَهَذَا مُحْكَمٌ وَالنَّذْرُ بِهِ صَحِيحٌ.
وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ زَحْفًا فَطَافَ كَذَلِكَ قِيلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا، وَقِيلَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُعِيدَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَذَا أَوْجَهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَهِدَ شَرْعِيَّتَهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا فِعْلًا فِي الِاخْتِيَارِ فَالْتِزَامُهَا قَاعِدًا الْتِزَامُ أَحَدِ صِنْفَيْهَا، بِخِلَافِ الطَّوَافِ النَّفْلِ فَالْتِزَامُهُ حَالَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ كَالْتِزَامِ الصَّلَاةِ إيمَاءً حَالَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَسَنَذْكُرُ خَاتِمَةً فِي نَذْرِ الْهَدْيِ وَالْمُجَاوَرَةِ وَزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَأَفْعَالُ الْحَجِّ تَنْتَهِي بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَيَمْشِي إلَى أَنْ يَطُوفَهُ.
ثُمَّ قِيلَ: يَبْتَدِئُ الْمَشْيَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ، وَقِيلَ مِنْ بَيْتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَلَوْ رَكِبَا أَرَاقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْصًا فِيهِ، قَالُوا إنَّمَا يَرْكَبُ إذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ وَشَقَّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، وَإِذَا قَرُبَتْ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَادُ الْمَشْيَ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْكَبَ
(وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً مُحْرِمَةً قَدْ أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي ذَلِكَ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهَا وَيُجَامِعَهَا) وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ سَبَقَ مِلْكَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَنْكُوحَةً. وَلَنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهَا، فَكَذَا الْمُشْتَرِي
تَسْلِيمًا
(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً مُحْرِمَةً قَدْ أَذِنَ لَهَا إلَخْ) الْأَصْلُ أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ إذَا أَحْرَمَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ وَيُحَلِّلَهُ بِلَا هَدْيٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصْنَعَ بِهِ أَدْنَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ كَقَلْمِ ظُفْرِهِ وَنَحْوِهِ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ هَدْيُ الْإِحْصَارِ وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ إنْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِحَجَّةٍ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى كُرِهَ لَهُ تَحْلِيلُهُ، وَلَوْ حَلَّلَهُ حَلَّ، وَلَوْ أُحْصِرَ فَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَبْعَثَ دَمَ الْإِحْصَارِ وَيَتَحَلَّلَ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَنْ إحْرَامٍ مَأْذُونٍ فِيهِ فَكَانَ كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ خِلَافًا فِي بَابِ الْإِحْصَارِ، وَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ أَوْ الْأَمَةُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ بَاعَهُمَا نَفَذَ الْبَيْعُ وَلِلْمُشْتَرِي مَنْعُهُمَا وَتَحْلِيلُهُمَا وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ خِلَافًا لِزُفَرَ قَالَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَحْرَمَتْ الْحُرَّةُ بِحَجِّ نَفْلٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ سَبَقَ مِلْكَهُ) بِنَصْبِ مِلْكِهِ مَفْعُولًا لَسَبَقَ: أَيْ سَبَقَ وُجُودُهُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ (كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَنْكُوحَةً) لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فَكَذَا هَذَا. قُلْنَا: الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ إبْطَالِ النِّكَاحِ وَلَهُ التَّحْلِيلُ وَإِنْ كَرِهَ فَكَذَا الْمُشْتَرِي، إلَّا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِمَكَانِ خَلْفِ الْوَعْدِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْمُشْتَرِي.
ثُمَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ، فَعِنْدَهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ التَّحْلِيلُ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلزَّوْجِ تَحْلِيلُ الزَّوْجَةِ إذَا أَحْرَمَتْ بِنَفْلٍ بِإِذْنِهِ، وَإِنَّمَا لَهُ ذَلِكَ إذَا أَحْرَمَتْ بِلَا إذْنٍ فَقَاسَ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِجَامِعِ الْإِذْنِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ، وَقِيَاسًا عَلَى إبْطَالِ عَمَلِ نَفْسِهِ بِجَامِعِ الرِّضَا بِوَاسِطَةِ الْإِذْنِ هُنَا، وَنَحْنُ نَمْنَعُ عَمَلَ الْإِذْنِ فِي السُّقُوطِ مُطْلَقًا، بَلْ إنْ كَانَ الثَّابِتُ مُجَرَّدَ حَقٍّ كَمَا فِي الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهَا، وَإِنَّمَا لَهُ حَقٌّ فِيهَا فَيَسْقُطُ بِالْإِذْنِ. أَمَّا إنْ كَانَ الثَّابِتُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فَلَا إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَسْقُطُ بِهِ.
وَإِنَّمَا عَمَلُهُ فِي التَّبَرُّعِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِمَنَافِعِهِ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ دَائِمًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ عَمَلُهُ فِي رَفْعِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُشَاقَقَةِ فِيمَا أَتَاهُ، فَمَتَى نَهَاهُ كَانَ ذَلِكَ مُنْتَهَى عَمَلِ الْإِذْنِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي دَوَامِ السُّقُوطِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَصَارَ كَالْإِذْنِ فِي اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ لِغَيْرِهِ وَكَتَبْوِئَتِهَا مَعَ الزَّوْجِ لَهُ فِيهِمَا الرَّدُّ إلَى الِاسْتِخْدَامِ وَالْمَنْعِ مِمَّا أَذِنَ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ جل جلاله أَسْقَطَ الْمِلْكَ وَآثَارَهُ بِالْإِذْنِ بِالْإِحْرَامِ فَبَقِيَ عَلَى مَا عَهِدَ لَهُ مِنْ اللَّوَازِمِ، بَلْ عَهِدَ أَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ قَدَّمَ حَقَّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِفَقْرِهِ وَغِنَى الْعَزِيزِ الْعَظِيمِ.
هَذَا وَإِذَا أَحْرَمَتْ الْحُرَّةُ بِالْفَرْضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا إنْ كَانَ لَهَا مُحْرِمٌ عِنْدَنَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فَلَهُ مَنْعُهَا، فَإِنْ أَحْرَمَتْ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ لِحَقِّ الشَّرْعِ. فَلِذَا إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ تَحْلِيلَهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَحْرَمَتْ بِنَفْلٍ بِلَا إذْنٍ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا وَلَا يَتَأَخَّرُ تَحْلِيلُهُ إيَّاهَا إلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ بَلْ يُحَلِّلُهَا مِنْ سَاعَتِهِ وَعَلَيْهَا هَدْيٌ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا حَقَّ لِلزَّوْجِ فِي مَنْعِهَا لَوْ وَجَدَتْ مُحْرِمًا.
وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ لِفَقْدِ الْمُحْرِمِ شَرْعًا فَلَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ، وَهُنَا قَدْ تَعَذَّرَ الْخُرُوجُ لِحَقِّ الزَّوْجِ. فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُبْطِلَ حَقَّهُ لَيْسَ لَهَا أَيْضًا أَنْ تُؤَخِّرَهُ، كَذَا فِي بَابِ الْإِحْصَارِ مِنْ الْمَبْسُوطِ. وَالتَّحْلِيلُ أَنْ يَنْهَاهَا وَيَفْعَلَ بِهَا أَدْنَى مَا يَحْرُمُ بِالْإِحْرَامِ كَقَصِّ ظُفْرٍ وَتَقْبِيلٍ أَوْ مُعَانَقَةٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّحْلِيلِ بِالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى تَعَلَّقَ بِهِ الْفَسَادُ فَلَا يَفْعَلُهُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحَجِّ، وَلَا يَقَعُ التَّحْلِيلُ بِقَوْلِهِ حَلَلْتُك بَلْ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهَا بِأَمْرِهِ كَالِامْتِشَاطِ بِأَمْرِهِ «لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَائِشَةَ: امْتَشِطِي وَارْفُضِي عُمْرَتَكِ حِينَ حَاضَتْ فِي الْعُمْرَةِ».
وَلَوْ جَامَعَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ الْمُحْرِمَةَ وَلَا يَعْلَمُ بِإِحْرَامِهَا لَمْ يَكُنْ تَحْلِيلًا وَفَسَدَ حَجُّهَا، وَإِنْ عَلِمَهُ كَانَ تَحْلِيلًا، وَلَوْ حَلَّلَهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فَأَذِنَ فَأَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ وَلَوْ بَعْدَمَا جَامَعَهَا مِنْ عَامِهَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عُمْرَةٌ وَلَا نِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ كَانَ عَلَيْهَا عُمْرَةٌ مَعَ الْحَجِّ.
وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِمَا الْعُمْرَةُ فِيهِمَا وَنِيَّةُ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُمَا تَقَرَّرَا فِي ذِمَّتِهَا بِرَفْضِ الْحَجِّ فَلَا تَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِمَا إلَّا بِهِمَا مَعَ نِيَّةِ الْقَضَاءِ، فَلَوْ لَمْ تَنْوِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ عَامِ الْإِحْلَالِ وَالْعَامِ الْقَابِلِ. قُلْنَا: إنْ قُلْت بِمُجَرَّدِ التَّحْلِيلِ تَقَرَّرَا مَنَعْنَاهُ. بَلْ اللَّازِمُ عَيْنُ تِلْكَ الْحَجَّةِ مَا لَمْ يَمْضِ الْوَقْتُ. فَإِذَا مَضَى بِلَا إيقَاعٍ فِيهِ حِينَئِذٍ لَزِمَهُ مِثْلُهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ أَدَاءُ مِثْلِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَصَارَ كَمَا إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا ثُمَّ قَطَعَهَا فِيهِ ثُمَّ أَدَّاهَا فِيهِ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ اللُّزُومُ مَا لَمْ تَتَحَوَّلْ السَّنَةُ عَيْنَ الْوَاجِبِ لَمْ تَلْزَمْهُ عُمْرَةٌ وَلَا يَنْوِي الْقَضَاءَ.
وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَوْ حَلَّلَهَا فَأَحْرَمَتْ فَحَلَّلَهَا فَأَحْرَمَتْ هَكَذَا مِرَارًا ثُمَّ حَجَّتْ مِنْ عَامِهَا أَجْزَأَهَا عَنْ كُلِّ التَّحَلُّلَاتِ تِلْكَ الْحَجَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَلَوْ لَمْ تَحُجَّ بَعْدَ التَّحْلِيلَاتِ إلَّا مِنْ قَابِلٍ كَانَ عَلَيْهَا لِكُلِّ تَحْلِيلٍ عُمْرَةٌ. هَذَا وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ الْإِحْصَارِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْإِحْصَارُ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يَنْوِي الْقَضَاءَ.
وَلَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّهَا وَلَمْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ لِتَصِيرَ قَضَاءً لِأَنَّ وَقْتَهَا الْعُمْرُ وَالتَّضَيُّقُ فِي أَوَّلِ سَنَى الْإِمْكَانِ لَا يَنْفِيهِ لِمَا حَقَّقْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ وُجُوبُ احْتِيَاطِ لَا افْتِرَاضٍ. وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ التَّأْخِيرِ بِلَا عُذْرٍ وَتَحَمُّلِ الْإِثْمِ يَقَعُ أَدَاءً، وَإِذَا أَذِنَ لِأَمَتِهِ الْمُتَزَوِّجَةِ فِي الْحَجِّ فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا مَنْعُهَا لِأَنَّ مَنَافِعَهَا لِلسَّيِّدِ.
وَهَذِهِ الْخَاتِمَةُ الْمَوْعُودَةُ وَفِيهَا ثَلَاثَةُ مَقَاصِدُ:
[الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ فِي إيجَابِ الْهَدْيِ وَمَا يَتْبَعُهُ] يَثْبُتُ لُزُومُ الْهَدْيِ بِنَذْرِهِ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَوْ عَلَيَّ هَدْيٌ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَلْزَمُ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُ، فَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهَذَا هَدْيٌ لِغَيْرِ مَمْلُوكٍ
إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَلْفِ الْوَعْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَهُ إذَا بَاشَرَتْ بِإِذْنِهِ فَكَذَا لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ
لَهُ فَفَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُشَارُ إلَيْهِ ابْنَهُ فَفِيهِ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ فِي نَذْرِ ذَبْحِ الْوَلَدِ وَكَذَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ لِمَمْلُوكٍ لَهُ فَبَاعَهُ ثُمَّ فَعَلَ، وَلَوْ قَالَ فَهَذَا حُرٌّ يَوْمَ أَشْتَرِيهِ فَفَعَلَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْفِعْلِ ثُمَّ فَعَلَ لَا يُعْتَقُ، وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت فَأَنَا أُهْدِي كَذَا لَزِمَهُ إذَا فَعَلَ، وَيَلْزَمُهُ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْهَدْيِ أَمْرَانِ: جَوَازُ مَا يَجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةَ مِنْ الشَّاةِ الضَّأْنِ أَوْ الْمَعْزِ أَوْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا يَذْبَحَ إلَّا فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَالسُّنَّةُ ذَبْحُهُ بِمِنًى وَإِلَّا فَفِي مَكَّةَ، وَلَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ.
وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ جَزُورًا تَعَيَّنَ الْإِبِلُ وَالْحَرَمُ، وَلَوْ قَالَ جَزُورٌ فَقَطْ جَازَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ كَمِصْرِ وَالشَّامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْهَدْيَ، وَلَوْ قَالَ بَدَنَةٌ فَقَطْ جَازَ الْبَقَرَةُ وَالْبَعِيرُ حَيْثُ شَاءَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مُعَيَّنًا مِنْ الْبُدْنِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَتَعَيَّنُ الْحَرَمُ. فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَزُورِ بِأَنَّ اسْمَ الْبُدْنَ لَا يُذْكَرُ فِي مَشْهُورِ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا فِي مَعْنَى الْمُهْدَاةِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِالْهَدْيِ يَتَعَيَّنُ الْحَرَمُ فَكَذَا الْبَدَنَةُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ إلَّا أَنْ يَزِيدَ فَيَقُولَ بَدَنَةٌ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَيُمْنَعُ أَنَّ فِيهِ نَفْلًا شَرْعِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُشْتَرِكٌ فِيهَا، وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي الْحَرَمِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَيْضًا جَازَ لِأَنَّ مَعْنَى اسْمِ الْهَدْيِ لَا يُعَيِّنُ فُقَرَاءَ مَحَلٍّ أَصْلًا بَلْ إنَّمَا يُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ إلَى مَكَان وَذَلِكَ هُوَ الْحَرَمُ إجْمَاعًا، فَتَعَيَّنَ الْحَرَمُ إنَّمَا هُوَ لِإِفَادَةِ مَأْخَذِ اسْمِ النَّقْلِ، ثُمَّ تَعَيَّنَ الْمَكَانُ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ فَتَعْيِينُ فُقَرَاءِ الْحَرَمِ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقُرْبَةَ بِالْإِهْدَاءِ تَتِمُّ بِالنَّفْلِ إلَى الْحَرَمِ وَالذَّبْحِ بِهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَلِذَا لَوْ سُرِقَ لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهُ وَبِذَلِكَ انْتَهَى مَدْلُولُهُ وَيَصِيرُ لَحْمًا.
وَجْهُ الْقُرْبَةِ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ هُوَ التَّصَدُّقُ، وَفِي هَذَا مَسَاكِينُ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ. وَهَلْ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ فِي الْحَرَمِ فِي نَذَرَ الْهَدْيِ كَأَنْ يَقُولَ هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ؟ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ يَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لَا يَجُوزُ. وَجْهُ الْأُولَى اعْتِبَارُ النَّذْرِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِهِ مِنْ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ فِي اسْمِ الْهَدْيِ زِيَادَةً عَلَى مُجَرَّدِ اسْمِ الشَّاةِ وَهُوَ الذَّبْحُ، فَالْقُرْبَةُ فِيهِ تَتَعَلَّقُ بِالذَّبْحِ ثُمَّ التَّصَدُّقُ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَعٌ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْقُرْبَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ فِي الشَّاةِ بِالصَّدَقَةِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْقِيمَةِ فَيَجُوزُ، وَلَيْسَ الذَّبْحُ ثَابِتًا فِي قِيمَةِ الْهَدْيِ فَلَا يَجُوزُ وَهَذَا حَسَنٌ. وَمَنْ نَذَرَ شَاةً فَأَهْدَى مَكَانَهَا جَزُورًا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْقِيمَةِ لِثُبُوتِ الْإِرَاقَةِ فِي الْبُدْنِ الْأَعْلَى كَالْأَصْلِ.
وَقَالُوا: إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ شَاتَيْنِ فَأَهْدَى شَاةً تُسَاوِي شَاتَيْنِ قِيمَةً لَمْ يُجْزِهِ، فَلَوْ عَيَّنَ الْهَدْيَ مِمَّا لَا يُذْبَحُ فِيمَا يَقْبَلُ النَّقْلَ كَالْعَبِيدِ وَالْقُدُورِ وَالثِّيَابِ فَقَالَ إنْ فَعَلْت فَثَوْبِي هَذَا هَدْيٌ أَوْ هَذَا الْقِدْرُ هَدْيٌ أَوْ هَذَا الْعَبْدُ جَازَ إهْدَاءُ قِيمَتِهِ إلَى مَكَّةَ أَوْ عَيْنِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ لِحَجَبَةِ الْبَيْتِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ كَالْكُوفَةِ وَمِصْرَ جَازَ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْأَمْتِعَةِ لَيْسَ إلَّا التَّصَدُّقُ وَهُوَ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْهَدْيِ بِمَا يَشْرَعُ ذَبْحُهُ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ بِالْإِرَاقَةِ وَلَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي الْحَرَمِ فَيَتَعَيَّنُ الْحَرَمُ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ نَذَرَ التَّصَدُّقَ فِي مَكَان فَتَصَدَّقَ فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ النَّذْرَ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ وَالْقُرْبَةُ إنَّمَا هِيَ بِالتَّصَدُّقِ فَيَنْعَقِدُ النَّذْرُ مُجَرَّدَ التَّصَدُّقِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ كَالدَّارِ وَالْأَرْضِ تَتَعَيَّنُ الْقِيمَةُ إذَا أَرَادَ الْإِيصَالَ إلَى مَكَّةَ.
وَقَوْلُهُ فَهَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إلَى الْبَيْتِ
رَدِّهَا بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَتَمَكَّنُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ غَشَيَانِهَا
أَوْ مَكَّةَ أَوْ الْكَعْبَةِ مُوجِبٌ، وَلَوْ قَالَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْتِزَامِ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عِنْدَهُمَا مُوجِبٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا.
وَقَوْلُهُ هَدْيٌ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْمَشْيِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ هُنَا عَلَى قَوْلِهِ أَيْضًا لِأَنَّ مُجَرَّدَ ذِكْرِ الْهَدْيِ مُوجِبٌ فَزِيَادَةُ ذِكْرِ الْحَرَمِ لَا تَرْفَعُ الْوُجُوبَ بَعْدَ الثُّبُوتِ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ غَيْرُ مُوجِبٍ بَلْ مَعَ مَا يَمْشِي إلَيْهِ. أُجِيبُ بِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ إنَّمَا يُوجِبُ بِاعْتِبَارِ ذِكْرِ مَكَّةَ مُضْمَرًا بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، فَإِذَا نَصَّ عَلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ تَعَذَّرَ إضْمَارُ مَكَّةَ فِي كَلَامِهِ، إذْ قَدْ صَرَّحَ بِمُرَادِهِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِهِ.
وَقَوْلُهُ فَثَوْبِي هَذَا سِتْرٌ لِلْبَيْتِ أَوْ أَضْرَبَ بِهِ حَطِيمَ الْبَيْتِ مُلْزِمٌ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ هَدْيُهُ.
وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَالِي أَوْ جَمِيعُهُ هَدْيٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالَهُ كُلَّهُ وَيُمْسِكَ مِنْهُ قَدْرَ قُوتِهِ، فَإِذَا أَفَادَ مَالًا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ. وَأَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا إذَا قَالَ مَالِي صَدَقَةٌ فَقَالَ فِي الْقِيَاسِ يَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ مَالٍ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ خَاصَّةً بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ. فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا جَوَابُ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْهَدْيِ فِي كُلِّ مَالٍ كَالْتِزَامِ الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ مَالٍ.
وَالْأَصَحُّ الْفَرْقُ بِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ، فَكَذَا مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُنَا إنَّمَا أَوْجَبَ بِلَفْظِ الْهَدْيِ، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَفْظِ الْهَدْيِ لَا يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَمْ يَقُلْ صَدَقَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِمَا مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ الذَّبْحَ بِنَفْسِهِ.
وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ شَاةٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ لَزِمَهُ مَكَانَ كُلِّ وَلَدٍ شَاةٌ، وَكَذَا إذَا نَذَرَ ذَبْحَ عَبْدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ الشَّاةُ فِي الْوَلَدِ لَا الْعَبْدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَلْزَمُهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
[الْمَقْصِدُ الثَّانِي فِي الْمُجَاوَرَةِ] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَةِ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَعَدَمِهَا. فَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُخْتَارَ اسْتِحْبَابُهَا إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي الْمَحْذُورِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَى كَرَاهَتِهَا، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ هِجْرَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ: مَا كَانَ النَّاسُ يَرْحَلُونَ إلَيْهَا إلَّا عَلَى نِيَّةِ الْحَجِّ وَالرُّجُوعِ وَهُوَ أَعْجَبُ، وَهَذَا أَحْوَطُ لِمَا فِي خِلَافِهِ مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ عَلَى الْخَطَرِ إذْ طَبْعُ الْإِنْسَانِ التَّبَرُّمُ وَالْمَلَلُ مِنْ تَوَارُدِ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُ فِي الْمَعِيشَةِ وَزِيَادَةِ الِانْبِسَاطِ الْمُخِلِّ بِمَا يَجِبُ مِنْ الِاحْتِرَامِ لِمَا يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ عَلَيْهِ وَمُدَاوَمَةُ نَظَرِهِ إلَيْهِ.
وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ مَحَلُّ الْخَطَإِ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ» وَالْمَعَاصِي تَضَاعُفٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه إنْ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهَا فِي حَرَمِ اللَّهِ أَفْحَشُ وَأَغْلَظُ فَتَنْهَضُ سَبَبًا لِغِلَظِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْعِقَابُ.
وَيُمْكِنُ كَوْنُ هَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْمَرْوِيِّ مِنْ التَّضَاعُفِ كَيْ لَا يُعَارَضَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} أَعْنِي أَنَّ السَّيِّئَةَ تَكُونُ فِيهِ سَبَبًا لِمِقْدَارٍ مِنْ الْعِقَابِ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِهِ عَنْهَا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مِقْدَارِ عِقَابِ سَيِّئَاتٍ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ سَبَبٌ لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا سَجِيَّةُ الشَّرِّ فَالسَّبِيلُ النُّزُوحُ عَنْ سَاحَتِهِ، وَقَلَّ مَنْ يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ فِي دَعْوَاهَا الْبَرَاءَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إلَّا وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَغْرُورٌ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أَلَا يَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَبِّبِينَ إلَيْهِ الْمَدْعُوِّ لَهُ كَيْفَ اتَّخَذَ الطَّائِفَ دَارًا وَقَالَ: لَأَنْ أُذْنِبَ خَمْسِينَ ذَنْبًا بِرُكْبَةٍ وَهُوَ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الطَّائِفِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُذْنِبَ ذَنْبًا وَاحِدًا بِمَكَّةَ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: مَا مِنْ بَلْدَةٍ يُؤَاخَذُ الْعَبْدُ فِيهَا بِالْهِمَّةِ قَبْلَ الْعَمَلِ إلَّا مَكَّةُ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لِلَّذِي جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ: ارْجِعْ إلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّا نَسْمَعُ أَنَّ سَاكِنَ مَكَّةَ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَكُونَ الْحَرَمُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِلِّ لِمَا يَسْتَحِلُّ مِنْ حُرُمِهَا.
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: خَطِيئَةٌ أُصِيبُهَا بِمَكَّةَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ سَبْعِينَ خَطِيئَةً بِغَيْرِهَا. نَعَمْ أَفْرَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ اسْتَخْلَصَهُمْ وَخَلَّصَهُمْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الطِّبَاعِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَهْلُ الْجِوَارِ الْفَائِزُونَ بِفَضِيلَةٍ مِنْ تَضَاعُفِ الْحَسَنَاتِ وَالصَّلَوَاتِ مِنْ غَيْرِ مَا يُحْبِطُهَا مِنْ الْخَطِيئَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْته: يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ طَافَ أُسْبُوعًا بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ» وَقَالَ سَمِعْته يَقُولُ «مَا رَفَعَ رَجُلٌ قَدَمًا وَلَا وَضَعَهَا إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ» .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهَا، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَبِكُلِّ لَيْلَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَكُلِّ يَوْمٍ حُمْلَانَ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَلَكِنَّ الْفَائِزَ بِهَذَا مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ إحْبَاطِهِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ، فَلَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِمْ وَلَا يَذْكُرُ حَالُهُمْ قَيْدًا فِي جَوَازِ الْجِوَارِ لِأَنَّ شَأْنَ النُّفُوسِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةُ وَالْمُبَادَرَةُ إلَى دَعْوَى الْمَلَكَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى مَا يَشْتَرِطُ فِيمَا تَتَوَجَّهُ إلَيْهِ وَتَطْلُبُهُ، وَإِنَّهَا لَأَكْذَبُ مَا يَكُونُ إذَا حَلَفْت فَكَيْفَ إذَا ادَّعَتْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ كَوْنُ الْجِوَارِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ تَضَاعُفَ السَّيِّئَاتِ أَوْ تَعَاظُمَهَا وَإِنْ فُقِدَ فِيهَا فَمَخَافَةُ السَّآمَةِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ الْمُفْضِي إلَى الْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ التَّوْقِيرِ وَالْإِجْلَالِ قَائِمٌ. وَهُوَ أَيْضًا مَانِعٌ إلَّا لِلْأَفْرَادِ ذَوِي الْمَلَكَاتِ فَإِنَّ مَقَامَهُمْ وَمَوْتَهُمْ فِيهَا هِيَ السَّعَادَةُ الْكَامِلَةُ. فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ شَهِيدًا» وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا» .
[الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ: فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم] قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: مِنْ أَفْضَلِ الْمَنْدُوبَاتِ وَفِي مَنَاسِكِ الْفَارِسِيِّ وَشَرْحِ الْمُخْتَارِ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ الْوُجُوبِ لِمَنْ لَهُ سِعَةٌ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَزَّارُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَا تَعْمَلُهُ حَاجَةٌ إلَّا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا «مَنْ حَجَّ وَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي» هَذَا وَالْحَجُّ إنْ كَانَ فَرْضًا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ ثُمَّ يُثْنِي بِالزِّيَارَةِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا كَانَ بِالْخِيَارِ، فَإِذَا نَوَى زِيَارَةَ الْقَبْرِ فَلْيَنْوِ مَعَهُ زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ: أَيْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَإِنَّهُ أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُشَدُّ إلَيْهَا الرِّحَالُ.
فِي الْحَدِيثِ «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» وَإِذَا تَوَجَّهَ إلَى الزِّيَارَةِ يُكْثِرُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُدَّةَ الطَّرِيقِ، وَالْأَوْلَى فِيمَا يَقَعُ عِنْدَ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ تَجْرِيدُ النِّيَّةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ إذَا حَصَلَ لَهُ إذَا قَدَّمَ زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ أَوْ يَسْتَفْتِحُ فَضْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي مَرَّةٍ أُخْرَى يَنْوِيهِمَا فِيهَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ تَعْظِيمِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْلَالِهِ، وَيُوَافِقُ ظَاهِرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَعْمَلُهُ حَاجَةٌ إلَّا زِيَارَتِي» وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمَدِينَةِ اغْتَسَلَ بِظَاهِرِهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ، وَلُبْسُ نَظِيفَ ثِيَابِهِ وَالْجَدِيدُ أَفْضَلُ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ النُّزُولِ بِالْقُرْبِ مِنْ الْمَدِينَةِ وَالْمَشْيِ عَلَى أَقْدَامِهِ إلَى أَنْ يَدْخُلَهَا حَسَنٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ أَدْخَلَ فِي الْأَدَبِ وَالْإِجْلَالِ كَانَ حَسَنًا.
وَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الْآيَةَ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَارْزُقْنِي مِنْ زِيَارَةِ رَسُولِك صلى الله عليه وسلم مَا رَزَقْت أَوْلِيَاءَك وَأَهْلَ طَاعَتِك، وَاغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي يَا خَيْرَ مَسْئُولٍ، وَلْيَكُنْ مُتَوَاضِعًا مُتَخَشِّعًا مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهَا لَا يَفْتُرُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَحْضِرًا أَنَّهَا بَلْدَتُهُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ تَعَالَى دَارَ هِجْرَةِ نَبِيِّهِ وَمَهْبِطًا لِلْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْبَعًا لِلْإِيمَانِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كُلُّ الْبِلَادِ اُفْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ إلَّا الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا اُفْتُتِحَتْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَلْيُحَضِّرْ قَلْبَهُ أَنَّهُ رُبَّمَا صَادَفَ مَوْضِعَ قَدَمِهِ، وَلِذَا كَانَ مَالِكٌ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ لَا يَرْكَبُ فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَطَأَ تُرْبَةً فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَافِرِ دَابَّةٍ.
وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَعَلَ مَا هُوَ السُّنَّةُ فِي دُخُولِ الْمَسَاجِدِ مِنْ تَقْدِيمِ الْيَمِينِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك، وَيَدْخُلُ مِنْ بَابِ جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَقْصِدُ الرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ وَهِيَ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ الشَّرِيفِ، فَيُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ مُسْتَقْبِلًا السَّارِيَةَ الَّتِي تَحْتَهَا الصُّنْدُوقُ بِحَيْثُ يَكُونُ عَمُودُ الْمِنْبَرِ حِذَاءَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ إنْ أَمْكَنَهُ، وَتَكُونُ الْحَنِيَّةُ الَّتِي فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَذَلِكَ مَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قِيلَ قَبْلَ أَنْ يُغَيَّرَ الْمَسْجِدُ. وَفِي بَعْضِ الْمَنَاسِكِ: يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فِي مَقَامِهِ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الْحُفْرَةُ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَصَاحِبُ الِاخْتِيَارِ: وَيَسْجُدُ لِلَّهِ شُكْرًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَيَسْأَلُهُ تَمَامَهَا وَالْقَبُولَ. وَقِيلَ ذَرْعُ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَمَوْقِفِهِ عليه الصلاة والسلام الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعَةَ عَشْرَ ذِرَاعًا وَشِبْرٌ، وَمَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا وَشِبْرٌ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ فَيَسْتَقْبِلُ جِدَارَهُ وَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْ السَّارِيَةِ الَّتِي عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ فِي زَاوِيَةِ جِدَارِهِ.
وَمَا عَنْ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مَرْدُودٌ بِمَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: مِنْ السُّنَّةَ أَنْ تَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَتَجْعَلَ ظَهْرَك إلَى الْقِبْلَةِ وَتَسْتَقْبِلَ الْقَبْرَ بِوَجْهِك ثُمَّ تَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَوْعٍ مَا مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْقَبْرِ الشَّرِيفِ الْمُكَرَّمِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. وَقَالُوا فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ مُطْلَقًا: الْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ الزَّائِرُ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ الْمُتَوَفَّى لَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ أَتْعَبُ لِبَصَرِ الْمَيِّتِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُقَابِلًا بَصَرَهُ لِأَنَّ بَصَرَهُ نَاظِرٌ إلَى جِهَةِ قَدَمَيْهِ إذَا كَانَ عَلَى جَنْبِهِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِبْلَةُ عَنْ يَسَارِ الْوَاقِفِ مِنْ جِهَةِ قَدَمَيْهِ عليه الصلاة والسلام بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، فَإِذَا أَكْثَرَ الِاسْتِقْبَالَ إلَيْهِ عليه الصلاة والسلام لَا كُلَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الِاسْتِقْبَالِ بِكَوْنِ اسْتِدْبَارِهِ الْقِبْلَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَخْذِهِ إلَى جِهَتِهَا فَيَصْدُقُ الِاسْتِدْبَارُ وَنَوْعٌ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وُقُوفُ الزَّائِرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ تَمَامِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِقْبَالِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يَكُونُ الْبَصَرُ نَاظِرًا إلَى جَنْبِ الْوَاقِفِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ الْوَاقِفُ مُسْتَقْبِلًا وَجْهَهُ عليه الصلاة والسلام وَبَصَرَهُ فَيَكُونُ أَوْلَى، ثُمَّ يَقُولُ فِي مَوْقِفِهِ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا خَيْرَ خَلْقِ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا خِيرَةِ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا حَبِيبَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّك عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَشْهَدُ أَنَّك يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَّغْت الرِّسَالَةَ وَأَدَّيْت الْأَمَانَةَ وَنَصَحْت الْأُمَّةَ وَكَشَفْت الْغُمَّةَ، فَجَزَاك اللَّهُ عَنَّا خَيْرًا، جَازَاك اللَّهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَازَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ.
اللَّهُمَّ أَعْطِ سَيِّدَنَا عَبْدَك وَرَسُولَك مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ الرَّفِيعَةَ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْته، وَأَنْزِلْهُ الْمَنْزِلَ الْمُقَرَّبَ عِنْدَك، إنَّك سُبْحَانَك ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ مُتَوَسِّلًا إلَى اللَّهِ بِحَضْرَةِ نَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام. وَأَعْظَمُ الْمَسَائِلِ وَأَهَمُّهَا سُؤَالُ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الشَّفَاعَةَ فَيَقُولُ. يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُك الشَّفَاعَةَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُك الشَّفَاعَةَ وَأَتَوَسَّلُ بِك إلَى اللَّهِ فِي أَنْ أَمُوتَ مُسْلِمًا عَلَى مِلَّتِك وَسُنَّتِك، وَيَذْكُرُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعْطَافِ وَالرِّفْقِ بِهِ، وَيَجْتَنِبُ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِدْلَالِ وَالْقُرْبِ مِنْ الْمُخَاطَب فَإِنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ. وَعَنْ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ قَالَ: سَمِعْت بَعْضَ مَنْ أَدْرَكْت يَقُولُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: صلى الله عليه وسلم يَا مُحَمَّدُ سَبْعِينَ مَرَّةً، نَادَاهُ مَلَكٌ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْك يَا فُلَانُ وَلَمْ تَسْقُطْ لَهُ حَاجَةٌ.
هَذَا وَلْيُبَلِّغْ سَلَامَ مَنْ أَوْصَاهُ بِتَبْلِيغِ سَلَامِهِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَوْ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ يُسَلِّمُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ. يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله كَانَ يُوصِي بِذَلِكَ وَيُرْسِلُ الْبَرِيدَ مِنْ الشَّامِ إلَى الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ بِذَلِكَ، وَمَنْ ضَاقَ وَقْتُهُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ.
وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْإِيجَازُ فِي ذَلِكَ جِدًّا، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ عَنْ يَمِينِهِ إذَا كَانَ مُسْتَقْبِلًا قَيْدَ ذِرَاعٍ فَيُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَإِنَّ رَأْسَهُ حِيَالَ مَنْكِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ تَأَخُّرُهُ إلَى وَرَائِهِ بِجَانِبِهِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَثَانِيَهُ فِي الْغَارِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، جَزَاك اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ كَذَلِكَ قَدْرَ ذِرَاعٍ فَيُسَلِّمُ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه، لِأَنَّ رَأْسَهُ مِنْ الصِّدِّيقِ كَرَأْسِ الصِّدِّيقِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ الْفَارُوقَ الَّذِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، جَزَاك اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى حِيَالِ وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي وَيُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّهِ وَيَدْعُو وَيَسْتَشْفِعُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِمَنْ أَحَبَّ، وَيَخْتِمُ دُعَاءَهُ بِآمِينَ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ.
وَقِيلَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعَوْدِ إلَى رَأْسِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْت: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ
(وَ) ذُكِرَ (فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَوْ يُجَامِعُهَا) وَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَلِّلُهَا بِغَيْرِ الْجِمَاعِ بِقَصِّ شَعْرٍ أَوْ بِقَلْمِ ظُفْرٍ ثُمَّ يُجَامِعُ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَلِّلُهَا بِالْمُجَامَعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْدِيمِ مَسٍّ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهَا بِغَيْرِ الْمُجَامَعَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَكَشَفَتْ عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ.
وَزَادَ: «فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقَدَّمًا، وَأَبَا بَكْرٍ رَأْسُهُ بَيْنَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعُمَرُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الزِّيَارَةِ يَأْتِي الرَّوْضَةَ فَيُكْثِرُ فِيهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتٌ تُكْرَهُ فِيهِ الصَّلَاةُ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «قَبْرِي وَمِنْبَرِي» وَيَقِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَيَدْعُو، فَفِي الْحَدِيثِ «قَوَاعِدُ مِنْبَرِي رَوَاتِبُ فِي الْجَنَّةِ» وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ» وَكَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى رُمَّانَةِ الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ الَّتِي كَانَ عليه الصلاة والسلام يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْخُطْبَةِ، وَهُنَاكَ الْآنَ قِطْعَةٌ تُدْخِلُ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مِنْ طَاقَةٍ فِي الْمِنْبَرِ إلَيْهَا يَتَبَرَّكُونَ بِهَا يُقَالُ إنَّهَا مِنْ بَقَايَا مِنْبَرِهِ عليه الصلاة والسلام، وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يَفُوتَهُ مُدَّةَ مَقَامِهِ صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ صَلَاةً فِي مَسْجِدِهِ تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَهَذَا التَّفْضِيلُ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ.
وَقِيلَ فِي النَّفْلِ أَيْضًا، وَلَعَلَّنَا قَدَّمْنَا مَا يَنْفِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّ «أَفْضَلَ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي مَنْزِلِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ، وَهَذَا قَالَهُ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ يُشَافِهُ بِهِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْغَائِبِينَ، ثُمَّ هُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ التَّنَفُّلَ فِي الْمَسْجِدِ بَلْ فِي بَيْتِهِ مِنْ التَّهَجُّدِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُصَلِّ نَافِلَةً إلَّا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَخِلَافُهُ قَلِيلٌ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ خُصُوصًا وَمَنْ بَيْتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ نَقَلَ قَدَمًا وَاحِدَةً.
وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمَرْأَةَ الَّتِي سَأَلَتْهُ الْحُضُورَ وَالصَّلَاةَ مَعَهُ أَنْ تُصَلِّيَ فِي بَيْتِهَا مَعَ أَنَّ الْخُرُوجَ لَهُنَّ كَانَ مُبَاحًا إذْ ذَاكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَخْرِيجَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ. فَعُلِمَ أَنَّ إطْلَاقَ الْخُرُوجِ لَهُنَّ إذْ ذَاكَ كَانَ لِيَتَعَلَّمْنَ مَا يُشَاهِدْنَهُ مِنْ آدَابِ الصَّلَاةِ وَحُسْنِ أَدَاءِ النَّاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَيَتَعَوَّدْنَ الْمُوَاظَبَةَ وَلَا يَسْتَثْقِلْنَ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ كُلَّ يَوْمٍ إلَى الْبَقِيعِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَيَزُورُ الْقُبُورَ الَّتِي بِهَا خُصُوصًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيُبَكِّرُ كَيْ لَا تَفُوتَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهُ «وَقَالَ لِأُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ لَمَّا أَخَذَ بِيَدِهَا فَذَهَبَا إلَيْهِ: تَرَيْنَ هَذِهِ الْمَقْبَرَةَ؟ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ: يُبْعَثُ مِنْهَا سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ» وَإِذَا انْتَهَى إلَيْهِ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ.
وَيَزُورُ الْقُبُورَ الْمَشْهُورَةَ كَقَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه وَقَبْرِ الْعَبَّاسِ وَهُوَ فِي قُبَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ، وَفِيهَا قَبْرَانِ الْغَرْبِيُّ مِنْهُمَا قَبْرُ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه وَالشَّرْقِيُّ قَبْرُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَزَيْنُ الْعَابِدِينَ وَوَلَدُهُ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ وَابْنُهُ جَعْفَرُ الصَّادِقُ رضي الله عنهم كُلُّهُمْ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ بَابِ الْبَقِيعِ عَنْ يَسَارِ الْخَارِجِ قَبْرُ صَفِيَّةَ أُمِّ الزُّبَيْرِ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ قَبْرُ فَاطِمَةَ بِنْتُ أَسَدٍ أُمُّ عَلِيٍّ رضي الله عنهما، وَيُصَلِّي فِي مَسْجِدِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِبَيْتِ الْأَحْزَانِ، وَقِيلَ قَبْرُهَا فِيهِ، وَقِيلَ بَلْ فِي الصُّنْدُوقِ الَّذِي هُوَ أَمَامَ مُصَلَّى الْإِمَامِ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ، وَاسْتَبْعَدَهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.
وَقِيلَ إنَّ قَبْرَهَا فِي بَيْتِهَا وَهُوَ فِي مَكَانِ الْمِحْرَابِ الْخَشَبِ الَّذِي خَلْفَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ دَاخِلَ الدَّارَبْزِينِ قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَبِالْبَقِيعِ قُبَّةٌ يُقَالُ إنَّ فِيهَا قَبْرَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَالْمَنْقُولُ أَنَّ قَبْرَ عَقِيلٍ فِي دَارِهِ، وَفِيهِ حَظِيرَةٌ مُسْتَهْدَمَةٌ مَبْنِيَّةٌ بِالْحِجَارَةِ يُقَالُ إنَّ فِيهَا قُبُورَ مَنْ دُفِنَ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن، وَفِيهِ قَبْرُ إبْرَاهِيمَ ابْنِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَدْفُونٌ إلَى جَنْبِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَدُفِنَ إلَى جَنْبِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَعُثْمَانُ هَذَا أَوَّلُ مَنْ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَةِ.
وَيَأْتِي أُحُدًا يَوْمَ الْخَمِيسِ مُبَكِّرًا كَيْ لَا تَفُوتُهُ جَمَاعَةُ الظُّهْرِ بِالْمَسْجِدِ فَيَزُورُ قُبُورَ شُهَدَاءِ أَحَدٍ، وَيَبْدَأُ بِقَبْرِ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَزُورُ جَبَلَ أُحُدٍ نَفْسَهُ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ «أَنَّهُ عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ عَيْرًا عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ النَّارِ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ فَزُورُوهُمْ وَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إلَّا رَدُّوا عَلَيْهِ السَّلَامَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ قُبَاءَ يَوْمَ السَّبْتِ اقْتِدَاءً بِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ «كَانَ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ فِيهِ حَجَرًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ رضي الله عنهم وَيَنْوِي زِيَارَتَهُ وَالصَّلَاةَ فِيهِ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ كَعُمْرَةٍ» وَيَأْتِي فِي قُبَاءَ بِئْرَ أَرِيسٍ الَّتِي تَفَلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهَا سَقَطَ خَاتَمُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه، فَيَتَوَضَّأُ وَيَشْرَبُ وَيَزُورُ مَسْجِدَ الْفَتْحِ وَهُوَ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْ جَبَلِ سَلْعٍ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ فَيَرْكَعُ فِيهِ وَيَدْعُو.
رَوَى جَابِرٌ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى الْأَحْزَابِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ» . وَالْمَسَاجِدُ الَّتِي هُنَاكَ مِنْهَا مَسْجِدٌ يُقَالُ لَهُ مَسْجِدُ بَنِي ظُفْرٍ وَفِيهِ حَجَرٌ جَلَسَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَيُقَالُ مَا جَلَسَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ تُرِيدُ الْوَلَدَ إلَّا حَبِلَتْ، وَيُقَالُ إنَّ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ الْمُفَضَّلَةِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثُونَ يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَيَقْصِدُ الْآبَارَ الَّتِي كَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ مِنْهَا وَيَشْرَبُ وَهِيَ سَبْعَةٌ مِنْهَا بِئْرُ بُضَاعَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوَدِّعَ الْمَسْجِدَ بِصَلَاةٍ وَيَدْعُوَ بَعْدَهَا بِمَا أَحَبَّ، وَأَنْ يَأْتِيَ الْقَبْرَ الْكَرِيمَ فَيُسَلِّمَ وَيَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَإِخْوَانِهِ وَأَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَصِّلَهُ إلَى أَهْلِهِ سَالِمًا غَانِمًا فِي عَافِيَةٍ مِنْ بَلِيَّاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَقُولَ: غَيْرَ مُوَدَّعٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيَسْأَلَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَى حَرَمِهِ وَحَرَمِ نَبِيِّهِ فِي عَافِيَةٍ. وَلْيُكْثِرْ دُعَاءَهُ بِذَلِكَ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ الْقَبْرِ، وَيَجْتَهِدَ فِي خُرُوجِ الدَّمْعِ فَإِنَّهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْقَبُولِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ عَلَى جِيرَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَنْصَرِفَ
كِتَابُ النِّكَاحِ
مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فِرَاقِ الْحَضْرَةِ الشَّرِيفَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْقُرْبِ مِنْهَا.
وَمِنْ سُنَنِ الرُّجُوعِ أَنْ يُكَبِّرَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ وَيَقُولَ «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَنَصَرَ عَبْدَهُ. وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِمَّا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ مِنْ إظْهَارِ التَّنَدُّمِ عَلَى السَّفَرِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ.
وَقَوْلُهُ لِغَيْرِهِ احْذَرْ أَنْ تَعُودَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ تَعَرُّضٌ لِلْمَقْتِ بَلْ دَلِيلُ عَدَمِ الْقَبُولِ وَالْمَقْتِ فِي الْحَالِ. وَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى بَلَدِهِ حَرَّكَ دَابَّتَهُ وَيَقُولُ: آيِبُونَ أَيْضًا إلَخْ.
وَرَوَى النَّسَائِيّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَرَ قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا إلَّا قَالَ حِينَ يَرَاهَا: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ. وَرَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ. فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِيهَا قَرَارًا وَرِزْقًا حَسَنًا» وَيُرْسِلُ إلَى أَهْلِهِ مَنْ يُخْبِرُهُمْ وَلَا يَبْغَتُهُمْ بِمَجِيئِهِ دَاخِلًا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَإِذَا دَخَلَهَا بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ كَرَاهَةٍ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ وَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَشْكُرُهُ مَا أَوْلَاهُ مِنْ إتْمَامِ الْعِبَادَةِ وَالرُّجُوعِ بِالسَّلَامَةِ، وَيُدِيمُ حَمْدَهُ وَشُكْرَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَيَجْتَهِدُ فِي مُجَانَبَةِ مَا يُوجِبُ الْإِحْبَاطَ فِي بَاقِي عُمُرِهِ. وَعَلَامَةُ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ أَنْ يَعُودَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلُ.
(قَالَ الْمُصَنِّفُ مَتَّعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِوُجُودِهِ)
وَهَذَا تَمَامُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعَبْدِهِ الضَّعِيفِ مِنْ رُبْعِ الْعِبَادَاتِ. أَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ذَا الْجُودِ الْعَمِيمِ أَنْ يُحَقِّقَ لِي فِيهِ الْإِخْلَاصَ وَيَجْعَلَهُ نَافِعًا لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إنَّهُ عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ. وَالْآنَ أَشْرَعُ بَرِيئًا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ مُفْتَتِحًا كِتَابَ النِّكَاحِ. سَائِلًا مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيَّ بِخَتْمِ الرُّبْعِ الثَّانِي وَإِكْمَالِ مَقَاصِدِهِ عَلَى وَجْهٍ يَرْضَاهُ وَيَرْضَى بِهِ عَنْ عَبْدِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَاحِبِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
كِتَابُ النِّكَاحِ
هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعِبَادَاتِ حَتَّى إنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي عَنْهُ لِمَحْضِ الْعِبَادَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلِذَا أَوْلَاهُ الْعِبَادَاتُ
وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَزِيَادَةٌ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْمُسْلِمِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْجِهَادُ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ، كَذَا قِيلَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْجِهَادَ أَيْضًا سَبَبٌ لَهُمَا إذْ نَقْلُ الْمَوْصُوفِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ: أَعْنِي مِنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِسْلَامِ يُصَحِّحُ قَوْلَنَا إنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْمُسْلِمِ وَالْإِسْلَامِ، فَالْحَقُّ اشْتِرَاكُهُمَا فِي ذَلِكَ لَكِنْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا يَحْصُلُ بِأَنْكِحَةِ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِالْقِتَالِ، إذْ الْغَالِبُ حُصُولُ الْقَتْلِ بِهِ أَوْ الذِّمَّةُ دُونَ إسْلَامِ أَهْلِ الدَّارِ فَقُدِّمَ لِلْأَكْثَرِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا مِنْ أَوْلَى الْعِبَادَات الْبُيُوعُ فَنَظَرٌ إلَى بَسَاطَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ تَمَحُّضِ مَعْنَى الْمُعَامَلَةِ فِيهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْجِزُ فِي إبْدَاءِ وَجْهِ تَقْدِيمِ مَعْنًى عَلَى مَعْنًى، فَإِنَّ كُلَّ مَعْنًى لَهُ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ، فَالْمُقَدِّمُ يَعْتَبِرُ مَا لِمَا قَدَّمَهُ وَيَسْكُتُ عَمَّا لِمَا أَخَّرَهُ، وَالْعَاكِسُ يَعْكِسُ ذَلِكَ النَّظَرَ، وَإِنَّمَا إبْدَاءُ وَجْهِ أَوْلَوِيَّةِ تَقْدِيمِ هَذَا عَلَى ذَلِكَ هُوَ التَّحْقِيقُ، وَهُوَ يَسْتَدْعِي النَّظَرَ بَيْنَ الْخُصُوصِيَّتَيْنِ أَيُّهُمَا يَقْتَضِي أَوْ أَكْثَرُ اقْتِضَاءً لِلتَّقْدِيمِ، وَقَدْ يُفْضِي إلَى تَكْثِيرِ جِهَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ وَخُصُوصِيَّاتِهِ وَيَسْتَدْعِي تَطْوِيلًا مَعَ قِلَّةِ الْجَدْوَى، فَالِاقْتِصَارُ فِي ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي طَرِيقَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّحْصِيلِ، وَلَا بُدَّ فِي تَحْصِيلِ زِيَادَةِ الْبَصِيرَةِ فِيمَا نَشْرَعُ فِيهِ مِنْ تَقْدِيمٍ تَحْصِيلُ أُمُورٍ: الْأَمْرِ الْأَوَّلِ مَفْهُومُهُ لُغَةً، قِيلَ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالْعَقْدِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، وَقِيلَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ، وَقِيلَ بِقَلْبِهِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رحمهم الله صَرَّحُوا بِهِ وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الضَّمِّ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامَيْهِمْ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْ أَفْرَادِ الضَّمِّ، وَالْمَوْضُوعُ لِلْأَعَمِّ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْ أَفْرَادِهِ كَإِنْسَانٍ فِي زَيْدٍ لَا يَعْرِفُ الْقُدَمَاءُ غَيْرَ هَذَا إلَى أَنْ حَدَثَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُصُوصُ الشَّخْصِ بِعَيْنِهِ، يَجْعَلُ خُصُوصَ عَوَارِضِهِ الْمُشَخِّصَةِ مُرَادًا مَعَ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ بِلَفْظِ الْأَعَمِّ فَيَكُونُ مَجَازًا وَإِلَّا فَحَقِيقَةٌ، وَكَأَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ قَلَّمَا تَخْطِرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَتَّى تَرَكَ الْأَقْدَمُونَ تَقْدِيرَ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ بَلْ الْمُتَبَادَرُ مِنْ مُرَادِ مَنْ يَقُولُ لِزَيْدٍ يَا إنْسَانُ يَا مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ لَا يُلَاحِظُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمُشْتَرَكُ الْمَعْنَوِيُّ حَقِيقَةً فِيهِمَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَحَقِّقَ الِاسْتِعْمَالُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي. فَفِي الْوَطْءِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» أَيْ مِنْ وَطْءٍ حَلَالٍ لَا مِنْ وَطْءٍ حَرَامٍ. وَقَوْلُهُ «يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمِنْ أَيْمٍ قَدْ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا
…
وَأُخْرَى عَلَى خَالٍ وَعَمٍّ تَلْهَفُ
وَقَوْلُهُ:
وَمَنْكُوحَةٌ غَيْرُ مَمْهُورَةٍ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
التَّارِكِينَ عَلَى طُهْرِ نِسَاءَهُمْ
…
وَالنَّاكِحِينَ بِشَطَّيْ دِجْلَةَ الْبَقَرَا
وَفِي الْعَقْدِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَلَا تَقْرَبَن جَارَةً إنَّ سَرَّهَا
…
عَلَيْك حَرَامٌ فَانْكِحْنَ أَوْ تَأَبَّدَا
وَفِي الْمَعْنَى الْأَعَمِّ قَوْلُ الْقَائِلِ:
ضَمَمْت إلَى صَدْرِي مُعَطَّرَ صَدْرِهَا
…
كَمَا نَكَحَتْ أُمُّ الْغُلَامِ صَبِيَّهَا
أَيْ ضَمَّتْهُ، وَقَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ:
أَنْكَحْت صُمْ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمُلَةٍ
…
تَغَشْرَمَتْ بِي إلَيْك السَّهْلَ وَالْجَبَلَا
فَمُدَّعِي الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ يَقُولُ تَحَقُّقُ الِاسْتِعْمَالِ وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ.
وَالثَّانِي: يَقُولُ كَوْنُهُ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ فِي الْآخَرِ حَيْثُ أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ ثُمَّ يَدَّعِي تَبَادُرَ الْعَقْدِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ النِّكَاحِ دُونَ الْوَطْءِ وَيُحِيلُ فَهْمَ الْوَطْءِ مِنْهُ حَيْثُ فُهِمَ عَلَى الْقَرِينَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ هِيَ عَطْفُ السِّفَاحِ بَلْ يَصِحُّ حَمْلُ النِّكَاحِ فِيهِ عَلَى الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْوِلَادَةَ بِالذَّاتِ مِنْ الْوَطْءِ، وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي إضَافَةُ الْمَرْأَةِ إلَى ضَمِيرِ الرَّجُلِ، فَإِنَّ امْرَأَتَهُ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فَيَلْزَمُ إرَادَةُ الْوَطْءِ مِنْ النِّكَاحِ الْمُسْتَثْنَى وَإِلَّا فَسَدَ الْمَعْنَى إذْ يَصِيرُ يَحِلُّ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْعَقْدَ، وَفِي الْأَبْيَاتِ الْإِضَافَةُ إلَى الْبَقَرِ وَنَفْيُ الْمَهْرِ وَالْإِسْنَادُ إلَى الرِّمَاحِ، إذْ يُسْتَفَادُ أَنَّ الْمُرَادَ وَطْءُ الْبَقَرِ وَالْمَسْبِيَّاتِ.
وَالْجَوَابُ مَنْعُ تَبَادُرِ الْعَقْدِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ النِّكَاحِ لُغَةً بَلْ ذَلِكَ فِي الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ الْفِقْهِيِّ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فَهْمَ الْوَطْءِ فِيمَا ذُكِرَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْقَرِينَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً، إذْ وُجُودُ قَرِينَةٍ يُؤَيِّدُ إرَادَةَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ إرَادَةِ الْحَقِيقِيِّ فَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَوْنَ الْمَعْنَى مَجَازِيًّا بَلْ الْمُعْتَبَرُ تَجْرِيدُ النَّظَرِ إلَى الْقَرِينَةِ إنْ عُرِفَ أَنَّهُ لَوْلَاهَا لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى مَا عَيَّنَتْهُ فَهُوَ مَجَازٌ وَإِلَّا فَلَا، وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْمَوَادِّ الْمَذْكُورَةِ نَفْهَمُ الْوَطْءَ قَبْلَ طَلَبِ الْقَرِينَةِ وَالنَّظَرِ فِي وَجْهِ دَلَالَتِهَا فَيَكُونُ اللَّفْظُ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ مَقْرُونًا بِمَا إذَا نَظَرَ فِيهِ اسْتَدْعَى إرَادَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
أَلَا يَرَى أَنَّ مَا ادَّعُوا فِيهِ الشَّهَادَةَ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مِنْ بَيْتِ الْأَعْشَى فِيهِ قَرِينَةٌ تُفِيدُ الْعَقْدَ أَيْضًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ فَلَا تَقْرَبَن جَارَةً نَهْيٌ عَنْ الزِّنَا بِدَلِيلِ إنَّ سَرَّهَا عَلَيْك حَرَامٌ فَيَلْزَمُ أَنَّ قَوْلَهُ فَانْكِحْنَ أَمْرٌ بِالْعَقْدِ: أَيْ فَتَزَوَّجْ إنْ كَانَ الزِّنَا عَلَيْك حَرَامًا أَوْ تَأَبَّدْ، أَيْ تَوَحَّشْ: أَيْ كُنْ مِنْهَا كَالْوَحْشِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآدَمِيَّاتِ فَلَا يَكُنْ مِنْك قُرْبَانٌ لَهُنَّ كَمَا لَا يَقْرَبهُنَّ وَحْشِيٌّ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِي الْعَقْدِ حَقِيقَةً عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْبَيْتِ إذْ هُمْ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَأَمَّا ادِّعَاءُ أَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ لِلْعَقْدِ فَيَسْتَلْزِمُ التَّجَوُّزَ فِي نِسْبَةِ الْوِلَادَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا هُوَ سَبَبُ السَّبَبِ، فَفِيهِ دَعْوَى حَقِيقَةٌ بِالْخُرُوجِ عَنْ حَقِيقَةٍ وَهُوَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ لَوْ كَانَا سَوَاءً، فَكَيْفَ وَالْأَنْسَبُ كَوْنُهُ فِي الْوَطْءِ لِيَتَحَقَّقَ التَّقَابُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى مِنْ وَطْءٍ حَلَالٍ لَا مِنْ وَطْءٍ حَرَامٍ فَيَكُونُ عَلَى خَاصٍّ مِنْ الْوَطْءِ، وَالدَّالُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ لَفْظُ السِّفَاحِ أَيْضًا فَثَبَتَ إلَى هُنَا أَنَّا لَمْ نَزِدْ عَلَى ثُبُوتِ مُجَرَّدِ الِاسْتِعْمَالِ شَيْئًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ.
وَقَدْ عَلِمَ ثُبُوتَ الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا فِي الضَّمِّ، فَبِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةً فِيهِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا مِنْ أَفْرَادِهِ الْوَطْءُ وَالْعَقْدُ إنْ اعْتَبَرْنَا الضَّمَّ أَعَمَّ مِنْ ضَمِّ الْجِسْمِ إلَى الْجِسْمِ وَالْقَوْلِ إلَى الْقَوْلِ أَوْ الْوَطْءِ فَقَطْ فَيَكُونُ مَجَازًا فِي الْعَقْدِ لِأَنَّهُ إذَا دَارَ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَانَ الْمَجَازُ أَوْلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ صَرِيحًا خِلَافُهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَقْلُ ذَلِكَ بَلْ قَالُوا: نَقَلَ الْمُبَرِّدُ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ وَغُلَامُ ثَعْلَبَ الشَّيْخِ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ عَنْ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ، ثُمَّ الْمُتَبَادِرُ مِنْ لَفْظِ الضَّمِّ تَعَلُّقُهُ بِالْأَجْسَامِ لَا الْأَقْوَالِ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ يَتَلَاشَى الْأَوَّلُ مِنْهَا قَبْلَ وُجُودِ الثَّانِي، فَلَا يُصَادِفُ الثَّانِي مَا يَنْضَمُّ إلَيْهِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَجَازًا فِي الْعَقْدِ، ثُمَّ أَفْرَادُ الضَّمِّ تَخْتَلِفُ بِالشِّدَّةِ فَيَكُونُ لَفْظُ النِّكَاحِ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَكِّكِ.
الْأَمْرِ الثَّانِي مَفْهُومِهِ اصْطِلَاحًا وَهُوَ عَقْدٌ وُضِعَ لِتَمَلُّكِ الْمُتْعَةِ بِالْأُنْثَى قَصْدًا، وَالْقَيْدُ الْأَخِيرُ لِإِخْرَاجِ شِرَاءِ الْأَمَةِ لِلتَّسَرِّي، وَالْمُرَادُ وَضْعُ الشَّارِعِ لَا وَضْعُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهُ وَإِلَّا وَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشِّرَاءِ قَدْ لَا يَكُونُ إلَّا الْمُتْعَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ هَذَا بِتَفْسِيرِهِ شَرْعًا.
وَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ عُرْفُ أَهْلِ الشَّرْعِ وَهُوَ مَعْنَى الِاصْطِلَاحِ الَّذِي عَبَّرْنَا بِهِ لَا أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ الشَّارِعُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَلَى وَفْقِ اللُّغَةِ فَلِذَا حَيْثُ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرَائِنِ نَحْمِلُهُ عَلَى الْوَطْءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} حَتَّى أَثْبَتُوا بِهَا حُرْمَةَ مَنْ زَنَا بِهَا الْأَبُ عَلَى الِابْنِ.
وَقَوْلُ قَاضِي خَانْ: إنَّهُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْمُجْتَبَى: هُوَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدُ يُوَافِقُ مَا بَيَّنَّا. وَالْمُرَادُ بِالْعَقْدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ نِكَاحًا أَوْ غَيْرَهُ مَجْمُوعُ إيجَابِ أَحَدِ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعَ قَبُولِ الْآخَرِ، سَوَاءٌ كَانَا بِاللَّفْظَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ مِنْ زَوَّجْتُ أَوْ تَزَوَّجْتُ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا سَنَذْكُرُ أَوْ كَلَامِ الْوَاحِدِ الْقَائِمِ مَقَامَهُمَا: أَعْنِي الْمُتَوَلِّيَ الطَّرَفَيْنِ. وَقَوْلُ الْوَرْسَكِيِّ: إنَّهُ مَعْنَى يُحِلُّ الْمَحَلَّ فَيَتَغَيَّرُ بِهِ وَزَوَّجْت وَتَزَوَّجْت آلَةُ انْعِقَادِهِ إطْلَاقٌ لَهُ عَلَى حُكْمِهِ فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ حَالُ الْمَحَلِّ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِإِخْرَاجِ اللَّفْظَيْنِ عَنْ مُسَمَّاهُ وَهُوَ اصْطِلَاحٌ آخَرُ غَيْرُ مَشْهُورٍ.
الْأَمْرِ الثَّالِثِ سَبَبِ شَرْعِيَّتِهِ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ فِي الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ بَقَاءُ النَّوْعِ بِالْوَطْءِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَكِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّظَالُمِ وَالسَّفْكِ وَضَيَاعِ الْأَنْسَابِ، بِخِلَافِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. الْأَمْرِ الرَّابِعِ شَرْطِهِ الْخَاصِّ بِهِ سَمَاعُ اثْنَيْنِ بِوَصْفٍ خَاصٍّ يُذْكَرْ، وَأَمَّا الْمَحَلِّيَّةُ فَمِنْ الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ وَتَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَشْيَاءِ وَالْأَحْكَامِ كَمَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ لِلْبَيْعِ وَالْأُنْثَى لِلنِّكَاحِ. الْأَمْرِ الْخَامِسِ: شَرْطِهِ الَّذِي لَا يَخُصُّهُ الْأَهْلِيَّةُ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ فِي الْوَلِيِّ لَا فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَلَا فِي مُتَوَلِّي الْعَقْدِ، فَإِنَّ تَزْوِيجَ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ جَائِزٌ، وَتَوْكِيلَ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا فِي الْبَيْعِ، فَصِحَّتُهُ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ مَحْضُ سَفِيرٍ، وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَشَرْطُ النَّفَاذِ بِلَا إذْنِ أَحَدٍ. الْأَمْرِ السَّادِسِ رُكْنِهِ. وَهُوَ الْجِنْسُ الْمُقَيَّدُ فِي التَّعْرِيفِ. الْأَمْرِ السَّابِعِ حُكْمِهِ حِلُّ اسْتِمْتَاعِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا، فَخَرَجَ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَمِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ مِمَّا سَيَرِدُ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ.
الْأَمْرِ الثَّامِنِ صِفَتِهِ، أَمَّا فِي حَالِ التَّوَقَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَوْ يَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الْحَرَامِ، وَفِي النِّهَايَةِ: إنْ كَانَ لَهُ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّحَرُّزِ إلَّا بِهِ كَانَ فَرْضًا اهـ.
وَيُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُرَادِ فَإِنَّهُ قَيَّدَ الْخَوْفَ الْوَاقِعَ سَبَبًا لِلِافْتِرَاضِ بِكَوْنِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّحَرُّزِ إلَّا بِهِ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِهِ فِي الْعِبَارَةِ الْأُولَى، وَلَيْسَ الْخَوْفُ مُطْلَقًا يَسْتَلْزِمُ بُلُوغَهُ إلَى عَدَمِ التَّمَكُّنِ فَلْيَكُنْ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَبْلَغِ فَرْضًا وَإِلَّا فَوَاجِبٌ. هَذَا مَا لَمْ يُعَارِضْهُ خَوْفُ الْجَوْرِ، فَإِنْ عَارَضَهُ كُرِهَ. قِيلَ: لِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا شُرِعَ لِتَحْصِينِ النَّفْسِ وَتَحْصِيلِ الثَّوَابِ بِالْوَلَدِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى. وَاَلَّذِي يَخَافُ الْجَوْرَ يَأْثَمُ وَيَرْتَكِبُ الْمُحَرَّمَاتِ فَتَنْعَدِمُ الْمَصَالِحُ لِرُجْحَانِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ، وَقَضِيَّتُهُ الْحُرْمَةُ إلَّا أَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفْصِلُ فَقُلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ اهـ.
وَيَنْبَغِي تَفْصِيلُ خَوْفِ الْجَوْرِ كَتَفْصِيلِ خَوْفِ الزِّنَا، فَإِنْ بَلَغَ مَبْلَغَ مَا اُفْتُرِضَ فِيهِ النِّكَاحُ حَرُمَ وَإِلَّا كُرِهَ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْبَدَائِعِ: قَيَّدَ الِافْتِرَاضَ فِي التَّوَقَانِ بِمِلْكِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، فَإِنَّ مَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ يَأْثَمُ، وَصَرَّحَ قَبْلَهُ بِالِافْتِرَاضِ فِي حَالَةِ التَّوَقَانِ.
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الِاعْتِدَالِ فَدَاوُد وَأَتْبَاعُهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ وَالْإِنْفَاقِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الْآيَةَ، «وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَكَّافِ بْنِ وَدَاعَةَ الْهِلَالِيِّ: أَلَكَ زَوْجَةٌ يَا عَكَّافُ؟ قَالَ لَا، قَالَ: وَلَا جَارِيَةٌ؟ قَالَ لَا، قَالَ: وَأَنْتَ صَحِيحٌ مُوسِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَأَنْتَ إذًا مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ، إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَأَنْتَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَّا فَاصْنَعْ كَمَا نَصْنَعُ، وَإِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحَ، شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ، وَأَرَاذِلُ مَوْتَاكُمْ عُزَّابُكُمْ، وَيْحَك يَا عَكَّافُ تَزَوَّجْ، قَالَ: فَقَالَ عَكَّافٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَتَزَوَّجُ حَتَّى تُزَوِّجَنِي مَنْ شِئْتَ، قَالَ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: فَقَدْ زَوَّجْتُكَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَالْبَرَكَةِ كَرِيمَةَ بِنْتَ كُلْثُومٍ الْحِمْيَرِيِّ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدٍ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا، فَقِيلَ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعَامِّ لَا يَنْفِي كَوْنَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكِفَايَةِ عَلَى الْكُلِّ وَالْمُعَرَّفِ لِكَوْنِهِ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ مَعْرِفَةُ سَبَبِ شَرْعِيَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ كَانَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَدْ عَقَلْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِيجَابِ تَكْثِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ وَعَدَمُ انْقِطَاعِهِمْ، وَلِذَا صَرَّحَ بِالْعِلَّةِ حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَكَّافٍ فَإِيجَابٌ عَلَى مُعَيَّنٍ فَيَجُوزُ كَوْنُ سَبَبِ الْوُجُوبِ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ. وَقِيلَ: وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الظَّنُّ وَالْآيَةُ لَمْ تُسَقْ إلَّا لِبَيَانِ الْعَدَدِ الْمُحَلَّلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ. وَقِيلَ مُسْتَحَبٌّ.
وَقِيلَ إنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِ مَنْ أَطْلَقَ الِاسْتِحْبَابَ. وَكَثِيرًا مَا يَتَسَاهَلُ فِي إطْلَاقِ الْمُسْتَحَبِّ عَلَى السُّنَّةِ.
وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَأَنَّ التَّجَرُّدَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَحَقِيقَةُ أَفْضَلَ يَنْفِي كَوْنَهُ مُبَاحًا إذْ لَا فَضْلَ فِي الْمُبَاحِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ إنْ اقْتَرَنَ بِنِيَّةٍ كَانَ ذَا فَضْلٍ، وَالتَّجَرُّدُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} مَدَحَ يَحْيَى عليه السلام بِعَدَمِ إتْيَانِ النِّسَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا مَعْنَى الْحَصُورِ.
وَحِينَئِذٍ فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّجْ الْحَرَائِرَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحِنَّاءُ، وَالتَّعَطُّرُ. وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ»
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيهِنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَبَدَنًا عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرًا، وَزَوْجَةً لَا تَبْغِيهِ حُوبًا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَإِسْنَادُ أَحَدِهِمَا جَيِّدٌ. لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ لَا أُنْكِرُ الْفَضِيلَةَ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ وَإِنَّمَا أَقُولُ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ. فَالْأَوْلَى فِي جَوَابِهِ التَّمَسُّكُ بِحَالِهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ وَرَدُّهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أُمَّتِهِ التَّخَلِّيَ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي عَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَأَلُوا أَزْوَاجَهُ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَرَدَّ هَذَا الْحَالَ رَدًّا مُؤَكَّدًا حَتَّى تَبْرَأَ مِنْهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَفْضَلِيَّةُ فِي الِاتِّبَاعِ لَا فِيمَا يُخَيَّلُ لِلنَّفْسِ أَنَّهُ أَفْضَلُ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ عِبَادَةٍ وَتَوَجُّهٍ، وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ عز وجل يَرْضَى لِأَشْرَفِ أَنْبِيَائِهِ إلَّا بِأَشْرَفِ الْأَحْوَالِ، وَكَانَ حَالُهُ إلَى الْوَفَاةِ النِّكَاحَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَرِّرَهُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَحَالُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عليهما السلام كَانَ أَفْضَلَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ نُسِخَتْ الرَّهْبَانِيَّةُ فِي مِلَّتِنَا، وَلَوْ تَعَارَضَا
(النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ
قُدِّمَ التَّمَسُّكُ بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: " تَزَوَّجُوا فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً " وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ مِنْ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَوْسِعَةِ الْبَاطِنِ بِالتَّحَمُّلِ فِي مُعَاشَرَةِ أَبْنَاءِ النَّوْعِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ بِهَا وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ وَإِعْفَافِ الْحُرْمِ وَنَفْسِهِ وَدَفْعِ الْفِتْنَةِ عَنْهُ وَعَنْهُنَّ وَدَفْعِ التَّقْتِيرِ عَنْهُنَّ بِحَبْسِهِنَّ لِكِفَايَتِهِنَّ مَئُونَةِ سَبَبِ الْخُرُوجِ ثُمَّ الِاشْتِغَالِ بِتَأْدِيبِ نَفْسِهِ وَتَأْهِيلِهِ لِلْعُبُودِيَّةِ وَلِتَكُونَ هِيَ أَيْضًا سَبَبًا لِتَأْهِيلِ غَيْرِهَا وَأَمْرِهَا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْفَرَائِضَ كَثِيرَةٌ لَمْ يَكَدْ يَقِفْ عَنْ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي، بِخِلَافِ مَا إذَا عَارَضَهُ خَوْفُ الْجَوْرِ إذْ الْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ بَلْ فِي الِاعْتِدَالِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ.
وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةٌ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَمَبْنَى الْعِبَادَة عَلَى خِلَافِهِ. وَأَقُولُ: بَلْ فِيهِ فَضْلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَضَائِهَا بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ، فَالْعُدُولُ إلَيْهِ مَعَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَلْزِمُ أَثْقَالًا فِيهِ قَصْدُ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ وَعَلَيْهِ يُثَابُ وَوُعِدَ الْعَوْنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِاسْتِحْسَانِ حَالَتِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ.
أَمَّا إذَا لَمْ يَتَزَوَّجْ الْمَرْأَةَ إلَّا لِعِزِّهَا أَوْ مَالِهَا أَوْ حَسَبِهَا فَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا، قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا ذُلًّا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا دَنَاءَةً. وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يُرِدْ بِهَا إلَّا أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ وَيُحْصِنَ فَرْجَهُ أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا وَبَارَكَ لَهَا فِيهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا تَتَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ. وَلَا تَتَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ. وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، فَلَأَمَةٌ خَرْقَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ بْنِ أَنْعُمٍ.
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حُسْنٍ وَجَمَالٍ وَحَسَبٍ وَمَنْصِبٍ وَمَالٍ إلَّا أَنَّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
هَذَا وَيُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَكَوْنُهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ الزِّفَافِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ» وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهَا قَالَتْ «زَفَفْنَا امْرَأَةً إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشَةُ أَمَا يَكُونُ مَعَهُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ» وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْمُرَادُ بِالدُّفِّ مَا لَا جَلَاجِلَ لَهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) قَدَّمْنَا أَنَّ النِّكَاحَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْعَقْدُ، وَهَذَا بَيَانٌ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَمْ يَثْبُتْ انْعِقَادُهُ حَتَّى يَتِمَّ عَقْدًا مُسْتَعْقَبًا لِأَحْكَامِهِ، فَلَفْظُ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ: أَيْ ذَلِكَ الْعَقْدُ الْخَاصُّ يَنْعَقِدُ حَتَّى تَتِمَّ حَقِيقَتُهُ فِي الْوُجُودِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَالِانْعِقَادُ هُوَ ارْتِبَاطُ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يُسَمَّى بِاعْتِبَارِهِ عَقْدًا شَرْعِيًّا وَيَسْتَعْقِبُ الْأَحْكَامَ
بِلَفْظَيْنِ يُعَبِّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي) لِأَنَّ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْإِخْبَارِ وَضْعًا فَقَدْ جُعِلَتْ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ
وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الثَّانِي جَوَابًا مُعْتَبَرًا مُحَقِّقًا لِغَرَضِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَيَسْمَعُ كُلٌّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ كَلَامَ صَاحِبِهِ، وَالْكَلَامَانِ هُمَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ. فَمَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْإِيجَابِ إنَّهُ إصْدَارُ الصِّيغَةِ الصَّالِحَةِ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ الْعَقْدِ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ عَلَى الْقَبُولِ خِلَافُ الْوَاقِعِ مِنْ الْعُرْفِ الْمَشْهُورِ، بَلْ إنَّ الْإِيجَابَ هُوَ نَفْسُ الصِّيغَةِ الصَّالِحَةِ لِتِلْكَ الْإِفَادَةِ بِقَيْدِ كَوْنِهَا أَوَّلًا وَالْقَبُولُ هِيَ بِقَيْدِ وُقُوعِهَا ثَانِيًا مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا
فَمَا ذُكِرَ فِي الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ قَدَّمَ الْقَبُولَ عَلَى الْإِيجَابِ، بِأَنْ قَالَ تَزَوَّجْت بِنْتَك فَقَالَ زَوَّجْتُكهَا يَنْعَقِدُ بِهِ صَحِيحٌ فِي الْحُكْمِ مَمْنُوعٌ كَوْنُهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْقَبُولِ، بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمُهُ لِأَنَّ مَا يُقَدَّمُ هُوَ الْإِيجَابُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ هُنَا وَصَرَّحَ الْكُلُّ بِهِ فِي الْبَيْعِ، وَكَانَ الْحَامِلُ عَلَى جَعْلِهِ الْإِصْدَارِ وَصْلَ قَوْلِهِ بِلَفْظَيْنِ بِقَوْلِهِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَأَفَادَ آلِيَّتَهُمَا لَهُمَا فَكَانَا خِلَافَيْهِمَا.
وَالْحَقُّ مَا أَعْلَمْتُك وَوَصَلَهُمَا إبْدَالٌ أَوْ بَيَانٌ يَدْفَعُ بِهِ مَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْعُرْفِ فَيُعَمِّمُ الْمُقَيَّدَ فَأَبْدَلَ مِنْهُ لِتَخْرُجَ الْكِتَابَةُ، فَلَوْ كَتَبَا الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَا يَنْعَقِدُ، وَالْمُرَادُ بِاللَّفْظَيْنِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَالْحُكْمِ فَيَدْخُلُ مُتَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ أَوْ مَا يَخُصُّ الْحَقِيقَةَ، وَلَيْسَ هَذَا بِحَدٍّ بَلْ إخْبَارَاتٌ مَنْسُوقٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِإِفَادَةِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ فَقَالَ: وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدِهِمَا مُسْتَقْبَلٌ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ، وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ فَيَنْعَقِدُ بِكَلَامِ الْوَاحِدِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِكَلَامِ الِاثْنَيْنِ. وَلَا إشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَعُرِفَ مِنْ تَعْرِيفِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِأَنَّهُمَا اللَّفْظَانِ الصَّالِحَانِ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ الْعَقْدِ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَعَدَمُ لُزُومِ ذِكْرِ الْمَفْعُولَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ دَلَالَةِ الْمَقَامِ وَالْمُقَدِّمَاتِ عَلَى الْغَرَضِ لِأَنَّ الْحَذْفَ لِدَلِيلٍ جَائِزٌ فِي كُلِّ لِسَانٍ، وَعَدَمُ لُزُومِ لَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، فَعَنْ هَذَا قُلْنَا: إذَا قَالَتْ زَوَّجْتُك نَفْسِي فَقَالَ قَبِلْت، أَوْ قَالَ تَزَوَّجْتُك فَقَالَتْ قَبِلْت جَازَ وَلَا مَفْعُولَ حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَابِلُ سَفِيرًا وَلَا مَفْعُولَ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى الْمُوَكِّلِ نَفَذَ عَلَيْهِ.
فِي التَّجْنِيسِ: رَجُلٌ خَطَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ امْرَأَةً، فَلَمَّا اجْتَمَعَا لِلْعَقْدِ قَالَ أَبُو الْمَرْأَةِ لِأَبِي الزَّوْجِ: دادم بِزِنَى أَيْنَ دخترر ابْهَزَا ردرم، فَقَالَ أَبُو الزَّوْجِ: بِزِيرٍ فَتَمَّ يَجُوزُ النِّكَاحُ عَلَى الْأَبِ وَإِنْ جَرَى بَيْنَهُمَا مُقَدِّمَاتُ النِّكَاحِ لِلِابْنِ هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّ الْأَبَ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَبُو الصَّغِيرَةِ: زَوَّجْت بِنْتِي مِنْ ابْنِك، فَقَالَ أَبُو الِابْنِ قَبِلْت وَلَمْ يَقُلْ لِابْنِي يَجُوزُ النِّكَاحُ لِلِابْنِ لِإِضَافَةِ الْمُزَوِّجِ النِّكَاحَ إلَى الِابْنِ بِيَقِينٍ. وَقَوْلُ الْقَابِلِ قَبِلْت جَوَابٌ لَهُ، وَالْجَوَابُ يَتَقَيَّدُ بِالْأَوَّلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ قَبِلْت لِأَبِي، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ فِي الْبَيْعِ لَوْ قَالَ لِآخَرَ بَعْدَ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا مُقَدِّمَاتُ الْبَيْعِ بِعْت هَذَا بِأَلْفٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْك، فَقَالَ الْآخَرُ اشْتَرَيْت صَحَّ وَلَزِمَ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ: خويشتن خريدم بَعْدَهُ وَكَآبِّينَ، فَقَالَ الزَّوْجُ: فروختم صَحَّ وَلَزِمَ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْك
(قَوْلُهُ يُعَبِّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي) مِثْلَ أَنْكَحَتْك وَزَوَّجْتُك فَيَقُولُ قَبِلْت أَوْ فَعَلْت أَوْ رَضِيت. وَفِي الِانْعِقَادِ بِصِرْتِ لِي وَصِرْتُ لَك خِلَافٌ، وَظَاهِرُ الْخُلَاصَةِ اخْتِيَارُهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبُولُ.
وَلَوْ قَالَتْ عَرَسْتُك نَفْسِي فَقَبِلَ يَنْعَقِدُ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الِانْعِقَادَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جُعِلَ إنْشَاءً شَرْعًا فَصَارَ هُوَ عِلَّةٌ لِمَعْنَاهُ فَيَثْبُتُ الْمَعْنَى عَقِيبَهُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ جُعِلَتْ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا تَقْرِيرُ الشَّرْعِ مَا كَانَ فِي اللُّغَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ كَانَ يَنْشَأُ بِهَا قَبْلَ الشَّرْعِ فَقَرَّرَهُ الشَّرْعُ وَإِنَّمَا اُخْتِيرَتْ لِلْإِنْشَاءِ لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى الْوُجُودِ وَالتَّحَقُّقِ حَيْثُ أَفَادَتْ دُخُولَ الْمَعْنَى فِي الْوُجُودِ قَبْلَ الْإِخْبَارِ فَأُفِيدَ بِهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ وُجُودُ اللَّفْظِ، ثُمَّ لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُلَاحَظَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي ثُبُوتِ الِانْعِقَادِ وَلُزُومِ حُكْمِهِ جَانِبُ الرِّضَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} عَدَّيْنَا ثُبُوتَ الِانْعِقَادِ وَلُزُومَ حُكْمِ الْعَقْدِ إلَى كُلِّ لَفْظٍ يُفِيدُ ذَلِكَ بِلَا احْتِمَالِ مُسَاوٍ لِلطَّرَفِ الْآخَرِ فَقُلْنَا: لَوْ قَالَ بِالْمُضَارِعِ ذِي الْهَمْزَةِ أَتَزَوَّجك فَقَالَتْ زَوَّجْت نَفْسِي انْعَقَدَ، وَفِي الْمَبْدُوءِ بِالتَّاءِ نَحْوَ تُزَوِّجنِي بِنْتَكَ؟ فَقَالَ فَعَلْتُ عِنْدَ عَدَمِ قَصْدِ الِاسْتِيعَادِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَخْبِرُ نَفْسَهُ عَنْ الْوَعْدِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَالنِّكَاحُ مِمَّا لَا تَجْرِي فِيهِ الْمُسَاوَمَةُ كَانَ لِلتَّحْقِيقِ فِي الْحَالِ فَانْعَقَدَ بِهِ لَا بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ لِلْإِنْشَاءِ بَلْ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَرَضِ تَحْقِيقِهِ وَاسْتِفَادَةِ الرِّضَا مِنْهُ حَتَّى قُلْنَا: لَوْ صَرَّحَ بِالِاسْتِفْهَامِ اُعْتُبِرَ فَهْمُ الْحَالِ. فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ قَالَ هَلْ أَعْطَيْتنِيهَا فَقَالَ أَعْطَيْتُ، إنْ كَانَ الْمَجْلِسُ لِلْوَعْدِ فَوَعْدٌ وَإِنْ كَانَ لِلْعَقْدِ فَنِكَاحٌ، فَيُحْمَلُ قَوْلُ السَّرَخْسِيِّ بِالْفَارِسِيَّةِ ميدهي لَيْسَ بِشَيْءٍ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُ التَّحْقِيقِ ظَاهِرًا، وَلَوْ قَالَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَكَذَلِكَ.
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ جِئْتُك خَاطِبًا بِنْتَك أَوْ لِتُزَوِّجَنِي ابْنَتَك فَقَالَ الْأَبُ زَوَّجْتُك فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ، وَلَيْسَ لِلْخَاطِبِ أَنْ لَا يَقْبَلَ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْمُسَاوَمَةِ فِيهِ كَمَا قُلْنَا، وَالِانْعِقَادُ بِقَوْلِهِ أَنَا مُتَزَوِّجُك يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْمُضَارِعِ الْمَبْدُوءِ بِالْهَمْزَةِ سَوَاءٌ، وَقُلْنَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ وُضِعَ أَحَدُهُمَا لِلْمُسْتَقْبَلِ: يَعْنِي الْأَمْرَ، فَلَوْ قَالَ زَوِّجْنِي بِنْتَك فَقَالَ زَوَّجْتُك انْعَقَدَ، وَمِنْهُ كُونِي امْرَأَتِي يَنْعَقِدُ إذَا قَبِلَتْ.
وَفِي النَّوَازِلِ: قَالَ زَوِّجِي نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ صَحَّ النِّكَاحُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الصِّحَّةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالنِّكَاحِ وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ فَيَكُونُ تَمَامُ الْعَقْدِ عَلَى هَذَا قَائِمًا بِالْمُجِيبِ، وَصَرَّحَ غَيْرُهُ بِأَنَّهَا نَفْسُهَا إيجَابٌ فَيَكُونُ قَائِمًا بِهِمَا. فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: وَلَفْظَةُ الْأَمْرِ فِي النِّكَاحِ إيجَابٌ، وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ إذَا قَالَتْ طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَ كَانَ تَامًّا، وَكَذَا فِي الْخُلْعِ؛ وَكَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اُكْفُلْ لِي بِنَفْسِ فُلَانٍ هَذَا أَوْ بِمَا عَلَيْهِ فَقَالَ كَفَلْت تَمَّتْ الْكَفَالَةُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ هَبْ لِي هَذَا الْعَبْدَ فَقَالَ وَهَبْت فِي مَسَائِلَ أُخَرَ ذَكَرَهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ الْإِيجَابَ لَيْسَ إلَّا اللَّفْظُ الْمُفِيدُ قَصْدَ تَحَقُّقِ الْمَعْنَى أَوَّلًا وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى لَفْظَةِ الْأَمْرِ فَلْيَكُنْ إيجَابًا. وَيَسْتَغْنِي عَمَّا أَوْرَدَ عَلَى تَقْرِيرِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ. وَجَوَابُهُ بِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فَيَكُونُ قَبُولُهُ تَحْصِيلَ الْفِعْلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ تَوْكِيلًا وَإِلَّا بَقِيَ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ حَيْثُ لَا يَتِمُّ بِقَوْلِهِ بِعْنِيهِ بِكَذَا فَيَقُولُ بِعْتُ بِلَا جَوَابٍ، إذْ جَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَيْعِ بِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ فَصَحَّ دُونَ الْبَيْعِ، وَحِينَئِذٍ فَتَمَامُ الْعَقْدِ قَائِمٌ بِالْمُجِيبِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبِّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، فَلِذَا قِيلَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ أَتَزَوَّجُك بِأَلْفٍ فَتَقُولُ قَبِلْت عَلَى إرَادَةِ الْحَالِ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ شَرْطَ الْقَبُولِ فِي النِّكَاحِ الْمَجْلِسُ كَالْبَيْعِ لَا الْفَوْرُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله.
وَقَدْ يُوهِمُ مَا ذَكَرَ فِي الْمُنْيَةِ قَالَ: زَوَّجْتُك بِنْتِي بِأَلْفٍ فَسَكَتَ الْخَاطِبُ فَقَالَ الصِّهْرُ ادْفَعْ الْمَهْرَ فَقَالَ نَعَمْ فَهُوَ قَبُولٌ، وَقِيلَ لَا أَنَّ فِيهِ خِلَافًا وَإِنْ كَانَ الْمُخْتَارُ الصِّحَّةَ، وَقَدْ يَكُونُ مُنْشَؤُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ مُتَّصِفًا بِكَوْنِهِ خَاطِبًا، فَحَيْثُ سَكَتَ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ ظَاهِرًا فِي رُجُوعِهِ فَيَحْكُمُ بِهِ أَوَّلًا، فَقَوْلُهُ نَعَمْ بَعْدَهُ لَا يُفِيدُ بِمُفْرَدِهِ لِأَنَّ الْفَوْرَ شَرْطٌ مُطْلَقًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَصُورَةُ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ أَنْ يُوجِبَ أَحَدُهُمَا فَيَقُومَ الْآخَرُ قَبْلَ الْقَبُولِ أَوْ يَكُونَ قَدْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قِيلَ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الِانْعِقَادَ هُوَ ارْتِبَاطُ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِالْآخَرِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ يَتَفَرَّقَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَلَوْ عَقَدَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ عَلَى الدَّابَّةِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ سَائِرَةٍ جَازَ، وَسَتَعْرِفُ الْفَرْقَ فِي الْبَيْعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[فُرُوعٌ]
تَزَوَّجَ بِاسْمِهَا الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لَهَا اسْمَانِ اسْمٌ فِي صِغَرِهَا وَآخَرُ فِي كِبَرِهَا تَزَوَّجَ بِالْأَخِيرِ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَعْرُوفَةً بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ بِنْتَانِ كُبْرَى اسْمُهَا عَائِشَةُ وَصُغْرَى اسْمُهَا فَاطِمَةُ فَقَالَ زَوَّجْتُك بِنْتِي فَاطِمَةَ وَهُوَ يُرِيدُ عَائِشَةَ فَقَبِلَ انْعَقَدَ عَلَى فَاطِمَةَ، وَلَوْ قَالَ زَوَّجْتُك بِنْتِي فَاطِمَةَ الْكُبْرَى قَالُوا يَجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ عَلَى إحْدَاهُمَا وَلَوْ قَالَ زَوَّجْت بِنْتِي فُلَانَةَ مِنْ ابْنِك فَقَبِلَ وَلَيْسَ لَهُمَا إلَّا ابْنٌ وَاحِدٌ وَبِنْتٌ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ لَهُمَا ابْنَتَانِ أَوْ ابْنَانِ لَا، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَا الْبِنْتَ وَالِابْنَ.
وَلَوْ زَوَّجَ غَائِبَةَ وَكِيلٍ فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ يَعْرِفُونَهَا فَذَكَرَ مُجَرَّدَ اسْمِهَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمِهَا وَاسْمِ أَبِيهَا وَجَدِّهَا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً مُتَنَقِّبَةً فَقَالَ تَزَوَّجْت هَذِهِ وَقَبِلَتْ جَازَ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَعْرُوفَةً بِالْإِشَارَةِ.
وَأَمَّا الْغَائِبَةُ فَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ فِي الْحَاضِرَةِ كَشْفُ النِّقَابِ. وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ عَدَمِهِ فِي الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَذَا الْحَالُ فِي تَسْمِيَةِ الزَّوْجِ الْغَائِبِ. وَفِي التَّجْنِيسِ: لَهُ ابْنَةٌ اسْمُهَا فَاطِمَةُ فَقَالَ وَقْتَ الْعَقْدِ زَوَّجْتُك بِنْتِي عَائِشَةَ وَلَمْ تَقَعْ الْإِشَارَةُ إلَى شَخْصِهَا لَا يَصِحُّ. فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُشِرْ إلَيْهَا يَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى الْمُسَمَّى وَلَيْسَ لَهُ ابْنَةٌ بِذَلِكَ الِاسْمِ.
وَفِي النَّوَازِلِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: خُنْثَى مُشْكِلٌ زُوِّجَ مِنْ خُنْثَى مُشْكِلٍ بِرِضَا الْوَلِيِّ فَلَمَّا كَبِرَا إذَا الزَّوْجُ امْرَأَةٌ وَالزَّوْجَةُ رَجُلٌ جَازَ نِكَاحُهُمَا عِنْدِي لِأَنَّ قَوْلَهُ زَوَّجْتُك يَسْتَوِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَفِي صَغِيرَيْنِ قَالَ أَبُو أَحَدِهِمَا زَوَّجْت بِنْتِي هَذِهِ مِنْ ابْنِك هَذَا وَقَبِلَ الْآخَرُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ غُلَامٌ وَالْغُلَامَ جَارِيَةٌ جَازَ لِذَلِكَ أَيْضًا. وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ: لَا يَجُوزُ.
وَفِي الْمُنْيَةِ: زَوَّجْت وَتَزَوَّجْت يَصْلُحُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَفِي التَّجْنِيسِ: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَةٍ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ رَاجَعْتُك فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ رَضِيت يَكُونُ نِكَاحًا. فَإِنَّهُ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا إنْ رَاجَعْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ تَنْصَرِفُ الرَّجْعَةُ إلَى النِّكَاحِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا النِّكَاحُ فَيَنْظُرُ إلَى الْمَحَلِّ وَالْمَحَلُّ هُنَا لَا يَقْبَلُ الرَّجْعَةَ الْمَعْرُوفَةَ فَانْصَرَفَتْ إلَى النِّكَاحِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الرَّجْعَةِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ فِي الْأَجْنَاسِ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَةً بَائِنًا ثُمَّ قَالَ رَاجَعْتُك عَلَى كَذَا وَكَذَا فَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ فَإِنَّ هَذَا نِكَاحٌ جَائِزٌ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مَالًا فَلَيْسَ بِنِكَاحٍ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ نِكَاحًا فَكَانَ نِكَاحًا. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا ذَكَرَ الْمَالَ أَوْ أَقَرَّ أَنَّ الزَّوْجَ أَرَادَ بِهِ النِّكَاحَ اهـ.
وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْصِيلًا بَيْنَ الْمُبَانَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ. فَفِي الْمُبَانَةِ تَكُونُ نِكَاحًا وَفِي الْأَجْنَبِيَّةِ لَا وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَحْسَنُ.
فَإِنَّ التَّزَوُّجَ بِلَفْظِ الرَّجْعَةِ فِي نِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّتَهُ فِي غَيْرِهَا.
رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَقَرَّا بِالنِّكَاحِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ فَقَالَ هِيَ امْرَأَتِي وَأَنَا زَوْجُهَا، وَقَالَتْ هُوَ زَوْجِي وَأَنَا امْرَأَتُهُ وَقَالَ الْآخَرُ نَعَمْ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إظْهَارٌ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ فَهُوَ فَرْعٌ سَبَقَ الثُّبُوتَ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ كَذِبًا لَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَا أَجَزْنَاهُ أَوْ رَضِينَاهُ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ
(وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبِّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ زَوِّجْنِي فَيَقُولَ زَوَّجْتُك) لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِالنِّكَاحِ وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
(وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالصَّدَقَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِيهِ وَلَا مَجَازًا عَنْهُ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لِلتَّلْفِيقِ وَالنِّكَاحَ لِلضَّمِّ، وَلَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ
لَا يَنْعَقِدُ بِخِلَافِ جَعَلْنَاهُ.
وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ جَعَلْتُمَا هَذَا نِكَاحًا فَقَالَا نَعَمْ انْعَقَدَ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْجَعْلِ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ جَعَلْت نَفْسِي زَوْجَةً لَك فَقَبِلَ ثُمَّ قَالَ أَعْطَيْتُك أَلْفًا عَلَى أَنْ تَكُونِي امْرَأَتِي فَقَبِلَتْ ثُمَّ قَالَ زَوِّجْ بِنْتَك فُلَانَةَ مِنِّي بِكَذَا فَقَالَ ادْفَعْهَا وَاذْهَبْ بِهَا حَيْثُ شِئْت لَا يَنْعَقِدُ. فِي التَّجْنِيسِ كَأَنَّهُ لِأَنَّهُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الدَّفْعِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْمُضَافِ. لَوْ قَالَ زَوَّجْتُكهَا غَدًا فَقَبِلَ لَا يَصِحُّ، فَعَدَمُ صِحَّةِ الْمُعَلَّقِ أَوْلَى. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: يَكُونُ ذَلِكَ نِكَاحًا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ قَوْلِهِ.
وَيَجُوزُ النِّكَاحُ الْمُعَلَّقُ إذَا كَانَ عَلَى أَمْرٍ مَضَى لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلْحَالِ. وَعَلَيْهِ فُرِّعَ مَا لَوْ قَالَ خَطَبْت بِنْتَك فُلَانَةَ لِابْنِي فُلَانٍ فَقَالَ زَوَّجْتهَا مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ هَذَا فَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْخَاطِبُ فَقَالَ إنْ لَمْ أَكُنْ زَوَّجْتهَا مِنْ فُلَانٍ قَبْلُ فَقَدْ زَوَّجْتهَا مِنْ ابْنِك وَقَبِلَ أَبُو الِابْنِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَلَمْ يَكُنْ زَوَّجَهَا مِنْ أَحَدٍ صَحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِكَائِنٍ لِلْحَالِ تَحْقِيقٌ وَتَنْجِيزٌ، وَإِذَا أَضَافَ النِّكَاحَ إلَى نِصْفِهَا مَثَلًا فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الصِّحَّةِ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي مَوْضِعٍ جَوَازَهُ كَالطَّلَاقِ
(قَوْلُهُ وَيَنْعَقِدُ إلَخْ) حَاصِلُ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا خِلَافَ فِي الِانْعِقَادِ بِهِ فِي الْمَذْهَبِ بَلْ الْخِلَافُ فِيهِ مِنْ خَارِجِ الْمَذْهَبِ. وَقِسْمٌ فِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَالصَّحِيحُ الِانْعِقَادُ. وَقِسْمٌ فِيهِ خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الِانْعِقَادِ. وَقِسْمٌ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ بِهِ. وَالْأَوْجَهُ أَنْ تُرَتَّبَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لِيَلِيَ كُلُّ قِسْمٍ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَهَكَذَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ إلَّا فِي لَفْظِ الْوَصِيَّةِ.
[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ] مَا سِوَى لَفْظَيْ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مِنْ لَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْجَعْلِ نَحْوَ جَعَلْت بِنْتِي لَك بِأَلْفٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَجَوَازُهُ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، فَإِنَّ الْمَجَازَ كَمَا يَجْرِي فِي الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ يَجْرِي فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَحَقُّقِ طَرِيقِهِ هُنَا فَنَفَاهُ الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ مَا يُجَوِّزُ التَّجَوُّزَ. أَمَّا إجْمَالًا فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَصَحَّ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِلَفْظٍ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَكَانَ يُقَالُ أَنْكَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ مُرَادًا بِهِ مَلَّكْتُك، كَمَا يُقَالُ مَلَّكْتُك نَفْسِي أَوْ بِنْتِي مُرَادًا بِهِ أَنْكَحْتُك، وَلَيْسَ فَلَيْسَ.
وَأَمَّا تَفْصِيلًا فَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ هُوَ التَّلْفِيقُ وَضْعًا وَالنِّكَاحُ لِلضَّمِّ وَلَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكَةِ وَلِذَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ عِنْدَ وُرُودِ مِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ لَمْ يُنَافِهِ تَأَكَّدَ بِهِ، وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْوَجْهُ عَنْهُ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ لُغَةٌ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ
وَالْمَمْلُوكَةِ أَصْلًا. وَلَنَا أَنَّ التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ.
وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ
الْعَقْدُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ بِنَاءً عَلَى النَّقْلِ (وَلَنَا أَنَّ التَّمْلِيكَ) أَيْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ (سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا بِوَاسِطَةِ) كَوْنِهِ سَبَبُ (مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَ) مِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا (هُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ) وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ اسْتِعَارَةُ النِّكَاحِ لِلتَّمْلِيكِ فَلَيْسَ لِعَدَمِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ لِمَا فَرَغَ مِنْهُ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعَارَةُ اسْمِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ عِنْدَنَا إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ السَّبَبِ شَرْعِيَّتَهُ كَالْبَيْعِ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَلَيْسَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ النِّكَاحَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّمْلِيكِ بَلْ مِلْكُ الرَّقَبَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي مَنْعُ أَنَّهُ لَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكَةِ. وَقَوْلُهُ وَلِذَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ إلَخْ. قُلْنَا: فَسَادُهُ لِلُزُومِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا مَالِكًا لِكُلِّ الْآخَرِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ الْآخَرِ مَالِكًا بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ لِبَعْضِ مَا يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْآخَرُ بِحُكْمِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا لِعَدَمِ الضَّمِّ وَالِازْدِوَاجِ. وَلِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ كَمَا خَصَّ النِّكَاحَ بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ إظْهَارًا لِخَطَرِهِ خَصَّ بِاللَّفْظَيْنِ النِّكَاحَ وَالتَّزْوِيجَ وَلِذَا لَمْ يُرِدْ غَيْرَهُمَا شَرْعًا.
وَالْجَوَابُ مَنْعُهَا، بَلْ قَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَلَمْ يَخْتَصَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} عَطْفًا عَلَى الْمُحَلَّلَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُهَا وقَوْله تَعَالَى {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يَرْجِعُ إلَى عَدَمِ الْمَهْرِ بِقَرِينَةِ إعْقَابِهِ بِالتَّعْلِيلِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ لَيْسَ فِي تَرْكِ لَفْظٍ إلَى غَيْرِهِ خُصُوصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْصَحِ الْعَرَبِ بَلْ فِي لُزُومِ الْمَالِ وَبِقَرِينَةِ وُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْتَى أُجُورُهُنَّ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَحْلَلْنَا لَك الْأَزْوَاجَ الْمُؤْتَى مُهُورُهُنَّ وَاَلَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَك فَلَمْ تَأْخُذْ مَهْرًا خَالِصَةً هَذِهِ الْخَصْلَةُ لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَمَّا هُمْ فَقَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَاهُ عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ مِنْ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ، وَأَبْدَى صَدْرُ الشَّرِيعَةِ جَوَازَ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِأَحْلَلْنَا قَيْدًا فِي إحْلَالِ أَزْوَاجِهِ لَهُ لِإِفَادَةِ عَدَمِ حِلِّهِنَّ لِغَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَهُ أَيْضًا أَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ، وَالْكِنَايَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النِّيَّةِ وَلَا اطِّلَاعَ لِلشُّهُودِ عَلَيْهَا.
قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: قُلْنَا لَيْسَتْ شَرْطًا مَعَ ذِكْرِ الْمَهْرِ. وَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ مُطْلَقًا لِعَدَمِ اللُّبْسِ كَقَوْلِهِمْ لِلشُّجَاعِ أَسَدٌ، وَكَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا صَرَّحَا بِهِ وَلَمْ يَبْقَ احْتِمَالٌ اهـ.
وَيَشْكُلُ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمَجَازِ يَسْتَدْعِي أَمْرَيْنِ: أَحَدَهُمَا انْتِفَاءَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَلِذَا لَوْ طَلَبَ الزِّنَا مِنْ امْرَأَةٍ فَقَالَتْ وَهَبْت نَفْسِي مِنْك أَوْ آجَرْت نَفْسِي مِنْك وَقَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ.
وَالْآخَرَ وُجُودَ قَرِينَةٍ تُفِيدُ إرَادَةَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَلِذَا لَوْ قَالَ أَبُو الْبِنْتِ وَهَبْت بِنْتِي مِنْك لِتَخْدُمَك وَقَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ هَذَا
هُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ طَرِيقِ الْمَجَازِ
فِي الْحُكْمِ بِهِ، أَمَّا فِي جَوَازِ التَّجَوُّزِ فَقَطْ فَالشَّرْطُ مَعَ الْأَوَّلِ الْإِرَادَةُ لَا قَرِينَتُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ثُبُوتِ مَعْنًى بِعَيْنِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ لَفْظٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ لِذَاتِ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَيْهِ كَنِسْبَتِهِ إلَى غَيْرِهِ، فَالْمُخَصَّصُ لِمَعْنًى مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ لَيْسَ إلَّا عَلَاقَةُ وَضْعِهِ لَهُ أَوْ إرَادَةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وُضِعَ لَهُ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ ثَبَتَ اعْتِبَارُ نَوْعِهِ عَنْ الْوَاضِعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ فَالْإِرَادَةُ لَازِمَةٌ فِي الْمَحَلَّيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ مِنْ السَّامِعِ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نَصْبِ قَرِينَةٍ تُفِيدُ إرَادَتَهُ بَلْ يَكْفِي عَدَمُ قَرِينَةٍ تُصْرَفُ عَنْهُ، وَهَذَا مَا يُقَالُ الْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى مَجَازِهِ، بِخِلَافِ حُكْمِهِ بِإِرَادَةِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ حَيْثُ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلِ إرَادَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ الشُّهُودِ بِمُرَادِهِ بِأَنْ أَعْلَمَهُمْ بِهِ، وَلِذَا قَالَ فِي الدِّرَايَةِ فِي تَصْوِيرِ الِانْعِقَادِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ أَوْ لَا يُجِيزُهُ أَنْ يَقُولَ آجَرْت بِنْتِي وَنَوَى بِهِ النِّكَاحَ وَأَعْلَمَ بِهِ الشُّهُودَ اهـ.
بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ بِعْتُك بِنْتِي بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ فَإِنَّ عَدَمَ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْبَيْعُ لِلْحُرِّيَّةِ يُوجِبُ الْحَمْلَ عَلَى الْمَجَازِيِّ فَهُوَ الْقَرِينَةُ فَيَكْتَفِي بِهَا الشُّهُودُ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا أَمَةً اُحْتِيجَ إلَى قَرِينَةٍ زَائِدَةٍ.
فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ وَهَبْت أَمَتِي مِنْك، فَإِنْ كَانَ الْحَالُ يَدُلُّ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ وَتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ مُؤَجَّلًا أَوْ مُعَجَّلًا يَنْصَرِفُ إلَى النِّكَاحِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَالُ يَدُلُّ عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنْ نَوَى وَصَدَّقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَنْصَرِفْ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ الْحَالُ فَلَا بُدَّ مَعَ النِّيَّةِ مِنْ إعْلَامِ الشُّهُودِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَهْمِهِمَا الْمُرَادِ عَلَى الْمُخْتَارِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَدْ رَجَعَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَى التَّحْقِيقِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا صَرَّحَا بِهِ وَلَمْ يَبْقَ احْتِمَالٌ وَلَا يَخْفَى عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ عَدَمِ اللَّبْسِ وَحُكْمِهِ وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، إذْ عَدَمُ اللَّبْسِ إنَّمَا يَصْلُحُ لِتَعْلِيلِ دَعْوَى ظُهُورِهَا وَفَهْمِهَا. وَأَمَّا الْحَالِفُ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَمَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِإِرَادَةِ الْمَجَازِيِّ نَظَرًا إلَى تَعَذُّرِ الْحَقِيقِيِّ وَكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وَاعِيًا.
وَأَمَّا الْهَازِلُ فَمُرِيدٌ لِمَعْنَى اللَّفْظِ غَيْرُ مُرِيدٍ لِحُكْمِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ لِقَصْدِهِ عَدَمِ الْحُكْمِ. نَعَمْ قَدْ يُقَالُ فِي عَقْدِ الْمُلْجَإِ يَتَعَيَّنُ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْإِلْجَاءِ قَرِينَةً تَصْرِفُ عَنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ إذْ غَرَضُهُ لَيْسَ إلَّا التَّخَلُّصُ وَذَلِكَ بِإِجْرَاءِ اللَّفْظِ فَقَطْ، أَوْ مُرِيدًا حَقِيقَتَهُ لِلتَّخَلُّصِ وَهِيَ مُتَعَذِّرَةٌ إذْ لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْحُرَّةِ وَبَيْعُهَا.
وَاَلَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» هُوَ الْحَقِيقَةُ دُونَ الْمَجَازِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَوْرَدَ كَيْفَ يَنْعَقِدُ بِالْهِبَةِ وَبِهِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَهُوَ سُؤَالٌ سَاقِطٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَهُوَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ إذْ يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي التَّزَوُّجِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ إذَا نَوَى بِقَوْلِهِ تَزَوَّجِي.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْهِبَةَ فِيهَا عَلَاقَةُ السَّبَبِيَّةِ لِلْمِلْكِ فَيَتَجَوَّزُ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْمِلْكَ الْمُتَجَوَّزَ عَنْهُ بِالْهِبَةِ إلَيْهَا نَفْسَهَا بِقَوْلِهِ وَهَبْت نَفْسَك لَك صَحَّ طَلَاقًا، وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى الرَّجُلِ صَحَّ نِكَاحًا. فَظَهَرَ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُوجِبِ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لَيْسَ إلَّا لِاخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ بَلْ بِنَفْسِ تَوْجِيهِ السُّؤَالِ يَظْهَرُ صِحَّةُ اسْتِعَارَتِهَا لِلْمِلْكِ الْمُغَايِرِ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ إذْ لَمْ يَجِئْ الطَّلَاقُ إلَّا بِاعْتِبَارِ اسْتِعَارَتِهَا لَهُ.
[الْقِسْمُ الثَّانِي] مَا اخْتَلَفُوا فِي الِانْعِقَادِ بِهِ، وَالصَّحِيحُ الصِّحَّةُ نَحْوَ بِعْت نَفْسِي مِنْك بِكَذَا أَوْ ابْنَتِي أَوْ اشْتَرَيْتُك بِكَذَا فَقَالَتْ نَعَمْ يَنْعَقِدُ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ، وَقَوْلُهُ (لِوُجُودِ طَرِيقِ الْمَجَازِ) تَعْلِيلٌ لِلصَّحِيحِ، وَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَا فِي تَقْرِيرِ التَّمْلِيكِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الِانْعِقَادِ بِلَفْظِ السَّلَمِ فَقِيلَ لَا لِأَنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ
(وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ) فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ (وَ) لَا بِلَفْظِ (الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِعَارَةِ) لِمَا قُلْنَا (وَ) لَا بِلَفْظِ (الْوَصِيَّةِ) لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
لَا يَصِحُّ. وَقِيلَ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ تُمْلَكُ بِهِ الرِّقَابُ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَالسَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ يَنْعَقِدُ، حَتَّى لَوْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ يَنْعَقِدُ الْمِلْكُ فَاسِدًا لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يُفْسِدُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لِلَّفْظِ يُفْسِدُ مَجَازَيْهِ لِعَدَمِ لُزُومِ اشْتِرَاكِ الْمُفْسِدِ فِيهِمَا.
وَفِي لَفْظِ الصَّرْفِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَفِي الْبَدَائِعِ: قِيلَ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا يَتَعَيَّنُ. وَقِيلَ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الْعَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمَا قَوْلَانِ، وَكَأَنَّ مَنْشَأَهُمَا الرِّوَايَتَانِ.
وَأَمَّا الْفَرْضُ فَقِيلَ يَنْعَقِدُ بِهِ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْعَيْنِ بِهِ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ. قِيلَ الْأَوَّلُ قِيَاسُ قَوْلِهِمَا، وَالثَّانِي قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِهِ فِي الْعَيْنِ وَعِنْدَهُ لَا.
وَأَمَّا لَفْظُ الصُّلْحِ فَذَكَرَ صَاحِبُ الْأَجْنَاسِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَالْعَطِيَّةِ جَائِزٌ.
[الْقِسْمُ الثَّالِثُ] لَا يَنْعَقِدُ بِالْإِجَارَةِ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ، وَجْهُهُ أَنَّ الثَّابِتَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِلْكُ مَنْفَعَةٍ فَوُجِدَ الْمُشْتَرَكُ، وَجْهُ الصَّحِيحِ عَلَى مَا ذَكَرُوا أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَقَّتَةً، وَالنِّكَاحُ يُشْتَرَطُ فِيهِ نَفْيُهُ فَتَضَادَّا، فَلَا يُسْتَعَارُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنْ كَانَ الْمُتَضَادَّانِ هُمَا الْعَرْضَانِ اللَّذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ لَزِمَكُمْ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يُجَامِعُ النِّكَاحَ مَعَ جَوَازِ الْعَقْدِ بِهِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّوْقِيتَ لَيْسَ جُزْءُ مَفْهُومِ لَفْظِ الْإِجَارَةِ بَلْ شَرْطٌ لِاعْتِبَارِهِ شَرْعًا خَارِجٌ عَنْهُ فَهُوَ مُجَرَّدُ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ مُجَرَّدًا لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا عَلَى مِثَالِ الصَّلَاةِ هِيَ الْقِيَامُ إلَخْ، وَلَوْ وُجِدَتْ بِلَا طَهَارَةٍ لَا تُعْتَبَرُ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ الطَّهَارَةَ جُزْءُ مَفْهُومِ الصَّلَاةِ، وَلِذَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ التَّوْجِيهِ بِهَذَا إلَى نَفْيِ السَّبَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَاقَةُ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ حَتَّى يَتَجَوَّزَ بِهَا عَنْ النِّكَاحِ وَلِهَذَا تَبْطُلُ بِالْإِعَارَةِ، وَهَذَا إذَا جُعِلَتْ الْمَرْأَةُ مُسْتَأْجَرَةً. أَمَّا إذَا جُعِلَتْ بَدَلَ الْإِجَارَةِ أَوْ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ كَأَنْ يُقَالَ اسْتَأْجَرْت دَارَك بِابْنَتِي هَذِهِ أَوْ أَسْلَمْتهَا إلَيْك فِي كَرِّ حِنْطَةٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِي جَوَازِهِ، فَإِنَّهُ أَضَافَ إلَيْهَا بِلَفْظٍ تُمْلَكُ بِهِ الرِّقَابُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَلَا بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ) وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَعَنْ الْكَرْخِيِّ إنْ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَالِ بِأَنْ قَالَ: أَوْصَيْت لَك بِبِنْتِي هَذِهِ الْآنَ يَنْعَقِدُ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ بِهِ صَارَ مَجَازًا عَنْ التَّمْلِيكِ اهـ.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِي صِحَّتِهِ حِينَئِذٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا قَيَّدَتْ بِالْحَالِ يَصِحُّ، أَوْ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِأَنْ قَالَ أَوْصَيْت لَك بِابْنَتِي بَعْدَ مَوْتِي لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا، وَلَوْ قَالَ أَوْصَيْت
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَك بِهَا وَلَمْ يَزِدْ فَقِيلَ لَا يَكُونُ نِكَاحًا، وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ يَنْعَقِدُ. ثُمَّ كَوْنُ الْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْإِضَافَةِ يَسْتَقِلُّ بِضَمِّ الصِّحَّةِ لَوْ قَالَ زَوَّجْتُكهَا غَدًا لَمْ يَصِحَّ.
وَحَاصِلُ الْوَجْهِ أَنَّ الْإِضَافَةَ مَأْخُوذَةٌ فِي مَفْهُومِ الْوَصِيَّةِ وَعَدَمِهَا فِي النِّكَاحِ فَتَضَادَّا. وَلَا يَتَجَوَّزُ بِلَفْظٍ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ عَنْ الْآخَرِ. بِخِلَافِ الْهِبَةِ لَيْسَ جُزْءُ مَفْهُومِ اللَّفْظِ الْإِضَافَةَ إلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ، بَلْ هِيَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا بَدَلٍ، ثُمَّ هُوَ يَتَأَخَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَيْسَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لِضَعْفِ سَبَبِيَّتِهَا بِسَبَبِ عَدَمِ الْعِوَضِ، وَلِذَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ تَمَّ الْمِلْكُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ.
[الْقِسْمُ الرَّابِعُ] لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالتَّمَتُّعِ لِعَدَمِ تَمْلِيكِ الْمُتْعَةِ فِي كُلٍّ مِنْهَا فَانْتَفَى الْجَامِعُ وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِمَا قُلْنَا. وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ وَالْخُلْعِ لِأَنَّهُمَا لِفَسْخِ عَقْدٍ ثَابِتٍ.
[فُرُوعٌ: الْأَوَّلُ] كُلُّ لَفْظٍ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِهِ الشُّبْهَةُ فَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، وَيَجِبُ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إنْ دَخَلَ بِهَا.
الثَّانِي: لَوْ لُقِّنَتْ الْمَرْأَةُ زَوَّجْت نَفْسِي بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا تَعْلَمُ مَعْنَاهَا وَقَبِلَ الزَّوْجُ وَالشُّهُودُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ صَحَّ كَالطَّلَاقِ. وَقِيلَ لَا كَالْبَيْعِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ. وَمِثْلُ هَذَا فِي جَانِبِ الرَّجُلِ إذَا لَقَّنَهُ وَلَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ. وَهَذِهِ فِي جُمْلَةِ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ وَاقِعَةٌ فِي الْحُكْمِ، ذَكَرَهُ فِي عَتَاقِ الْأَصْلِ فِي بَابِ التَّدْبِيرِ. وَإِذَا عَرَفَ الْجَوَابَ فِيهَا قَالَ قَاضِي خَانْ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ اللَّفْظِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ لِأَجْلِ الْقَصْدِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا فِي الْخُلْعِ إذَا لُقِّنَتْ اخْتَلَعْتُ نَفْسِي مِنْك بِمَهْرِي وَنَفَقَةِ عِدَّتِي فَقَالَتْهُ وَلَا تَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَلَا أَنَّهُ لَفْظُ الْخُلْعِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قِيلَ لَا يَصِحُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَسْقُطَ الْمَهْرُ وَلَا النَّفَقَةُ، وَكَذَا لَوْ لُقِّنَتْ أَنْ تُبْرِئَهُ، وَكَذَا الْمَدْيُونُ إذَا لَقَّنَ رَبَّ الدَّيْنِ لَفْظَ الْإِبْرَاءِ لَا يَبْرَأُ.
الثَّالِثُ: إذَا سَمَّى الْمَهْرَ مَعَ الْإِيجَابِ بِأَنْ قَالَ تَزَوَّجْتُك بِكَذَا فَقَالَتْ قَبِلْت النِّكَاحَ وَلَا أَقْبَلُ الْمَهْرَ قَالُوا لَا يَصِحُّ. وَلَا يَشْكُلُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النِّكَاحِ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ أَوْ وُجُودِهَا، لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ النِّكَاحَ إلَّا بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُسَمَّى. فَلَوْ صَحَّحْنَاهُ إذَا قَبِلَتْ فِي النِّكَاحِ دُونَ الْمَهْرِ لَلَزِمَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِالنِّكَاحِ بِهِ بَلْ بِمَا سُمِّيَ فَيَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ مِنْ الْأَصْلِ لِأَنَّ غَرَضَهُ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ حَيْثُ سَكَتَ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَازِمٌ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ، وَلَوْ قَالَتْ قَبِلْت النِّكَاحَ وَلَمْ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ صَحَّ النِّكَاحُ بِمَا سَمَّى.
وَقَدْ يُخَالِفُهُ مَا فِي الْمُنْتَقَى: عَبْدٌ تَزَوَّجَ عَلَى رَقَبَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَبَلَغَهُ فَقَالَ أُجِيزُ النِّكَاحَ وَلَا أُجِيزُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَجُوزُ النِّكَاحُ وَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَمِنْ قِيمَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ. بِخِلَافِ مَا فِي الْجَامِعِ: أَمَةٌ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَقَالَ أَجَزْت النِّكَاحَ عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا وَرَضِيَ بِهِ الزَّوْجُ جَازَ لِأَنَّ هَذِهِ مَقْرُونَةٌ بِرِضَا الزَّوْجِ فَهِيَ مُلْحَقَةٌ بِإِجَازَتِهِ.
وَالْحَقُّ مَا أَعْلَمْتُك مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ فَيَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا عَنْ مُحَمَّدٍ.
الرَّابِعُ: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالْخِطَابِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهَا يَخْطُبَهَا، فَإِذَا بَلَغَهَا الْكِتَابُ أَحْضَرَتْ الشُّهُودَ وَقَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَتْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ. أَوْ تَقُولَ إنَّ فُلَانًا قَدْ كَتَبَ إلَيَّ يَخْطُبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ.
أَمَّا لَوْ لَمْ تَقُلْ بِحَضْرَتِهِمْ سِوَى زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ سَمَاعَ الشَّطْرَيْنِ شَرْطُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صِحَّةِ النِّكَاحِ.
وَبِإِسْمَاعِهِمْ الْكِتَابِ أَوْ التَّعْبِيرِ عَنْهُ مِنْهَا قَدْ سَمِعُوا الشَّطْرَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَفَيَا، وَمَعْنَى الْكِتَابِ بِالْخُطْبَةِ أَنْ يَكْتُبَ زَوِّجِينِي نَفْسَك فَإِنِّي رَغِبْت فِيك وَنَحْوَهُ، وَلَوْ جَاءَ الزَّوْجُ بِالْكِتَابِ إلَى الشُّهُودِ مَخْتُومًا فَقَالَ هَذَا كِتَابِي إلَى فُلَانَةَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَعْلَمَ الشُّهُودُ مَا فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ رَجَعَ وَجَوَّزَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إعْلَامِ الشُّهُودِ بِمَا فِيهِ.
وَأَصْلُ الْخِلَافِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ فِي الْمُصَفَّى: هَذَا يَعْنِي الْخِلَافَ إذَا كَانَ الْكِتَابُ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ، أَمَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ زَوِّجِي نَفْسَك مِنِّي لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُهَا الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ وَنَقَلَهُ مِنْ الْكَامِلِ.
قَالَ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَحَدَ الزَّوْجُ الْكِتَابَ بَعْدَمَا أَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا إعْلَامِهِمْ بِمَا فِيهِ وَقَدْ قَرَأَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ وَقَبِلَ الْعَقْدَ بِحَضْرَتِهِمْ فَشَهِدُوا أَنَّ هَذَا كِتَابَهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمَا وَلَا يُقْضَى بِالنِّكَاحِ، وَعِنْدَهُ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِهِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَصَحِيحٌ بِلَا إشْهَادٍ، وَهَذَا الْإِشْهَادُ لِهَذَا وَهُوَ أَنْ تَتَمَكَّنَ الْمَرْأَةُ مِنْ إثْبَاتِ الْكِتَابِ عِنْدَ جُحُودِ الزَّوْجِ الْكِتَابِ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْكَامِلِ. وَأَجْمَعُوا فِي الصَّكِّ أَنَّ الْإِشْهَادَ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَعْلَمْ الشَّاهِدُ مَا فِي الْكِتَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا نَقَلَهُ مِنْ نَفْيِ الْخِلَافِ فِي صُورَةِ الْأَمْرِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْمُحَقِّقِينَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَفْظَ الْأَمْرِ إيجَابًا كَقَاضِي خَانْ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ إعْلَامِهَا إيَّاهُمْ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ الْكَاتِبُ بِمَا فِي الْكِتَابِ تَكُونُ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ، وَعَلَى هَذَا مَا صَدَّرْنَا بِهِ الْمَسْأَلَةَ.
الْخَامِسُ: يَنْعَقِدُ بِالْإِشَارَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَتْ لَهُ إشَارَةٌ مَعْلُومَةٌ.
السَّادِسُ: يَنْعَقِدُ بِنَقْلِ الرَّسُولِ عِبَارَةِ الْمُرْسِلِ إذَا أَجَابَتْ وَسَمِعَ الشُّهُودُ كَلَامَيْهِمَا، وَسَنُفَصِّلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ.
السَّابِعُ: لَا يَبْطُلُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَلَوْ قَالَ أَتَزَوَّجُك عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي عَبْدَك فَأَجَابَتْهُ بِالنِّكَاحِ انْعَقَدَ مُوجِبًا لِمَهْرِ مِثْلِهَا عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ.
الثَّامِنُ: لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ النِّكَاحِ بِالْخَطَرِ، لَوْ قَالَ إذَا جَاءَ فُلَانٌ فَقَدْ زَوَّجْتُك بِنْتِي فُلَانَةَ فَقَبِلَ فَجَاءَ فُلَانٌ لَا يَنْعَقِدُ، وَكَذَا تَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلْزَامٌ. وَاَلَّذِي يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ مَا هُوَ إسْقَاطٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَوْ الْتِزَامٌ كَالنَّذْرِ، إلَّا التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ إذَا أَبْطَلَ مَنْ لَهُ الْمَشِيئَةُ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى مَا فِي التَّجْنِيسِ. فِي رَمْزِ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَغَيْرِهَا: إذَا قَالَ تَزَوَّجْتُك إنْ شِئْت أَوْ إنْ شَاءَ زَيْدٌ فَأَبْطَلَ صَاحِبُ الْمَشِيئَةِ مَشِيئَتَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ إذَا بَطَلَتْ فِي الْمَجْلِسِ صَارَ نِكَاحًا بِغَيْرِ مَشِيئَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي السَّلَمِ إذَا بَطَلَ الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ السَّلَمُ ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ إذَا بَدَأَتْ الْمَرْأَةُ، أَمَّا إذَا بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ تَزَوَّجْتُك إنْ شِئْت ثُمَّ قَبِلَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إبْطَالِ الْمَشِيئَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَبُولَ مَشِيئَةٌ اهـ.
وَهَذَا نَاظِرٌ إلَى أَنَّ مَا مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ هُوَ الْقَبُولُ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. وَمَا مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ إيجَابٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْأَوَّلَ إيجَابٌ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، وَالثَّانِيَ قَبُولٌ كَذَلِكَ وَلِعَدَمِ جَوَازِ تَعْلِيقِهِ بِالْخَطَرِ امْتَنَعَ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِ فَيَبْطُلُ، كَمَا لَوْ قَالَ تَزَوَّجْتُك عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فَقَبِلَتْ صَحَّ وَلَا خِيَارَ لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ رَضِيَ أَبِي لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ مَنْ خُطِبَتْ إلَيْهِ ابْنَتَهُ فَقَالَ زَوَّجْتهَا فَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْخَاطِبُ فَقَالَ إنْ لَمْ أَكُنْ زَوَّجْتهَا مِنْ فُلَانٍ فَقَدْ زَوَّجْتهَا مِنْك فَقَبِلَ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ زَوَّجَهَا حَيْثُ يَنْعَقِدُ
قَالَ (وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِحُضُورِ شَاهِدَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ مُسْلِمَيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ أَوْ مَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ) اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ
النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ لِلْحَالِ وَمِثْلُهُ تَحْقِيقٌ، كَذَا أَجَابَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَسَنُفَصِّلُ الْكَلَامَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ فِي بَابِ الْمَهْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
التَّاسِعُ: إذَا وَصَلَ الْإِيجَابَ بِتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ كَانَ مِنْ تَمَامِهِ، حَتَّى لَوْ قَبِلَ الْآخَرُ قَبْلَهُ لَا يَصِحُّ، كَامْرَأَةٍ قَالَتْ لِرَجُلٍ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْك بِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَبِلَ أَنْ تَقُولَ بِمِائَةِ دِينَارٍ قَبِلَ الزَّوْجُ لَا يَنْعَقِدُ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ عَلَى آخِرِهِ إذَا كَانَ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ مُجَرَّدَ زَوَّجْت يَنْعَقِدُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَذِكْرُ الْمُسَمَّى مَعَهُ يُغَيِّرُ ذَلِكَ إلَى تَعْيِينِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَعْمَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ قَبْلَهُ.
الْعَاشِرُ: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ مِنْ الْهَازِلِ وَتَلْزَمُ مَوَاجِبُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَجَعَلَ الْعِتْقَ بَدَلَ الرَّجْعَةِ وَكَذَا يَنْعَقِدُ مِنْ الْمُكْرَهِ
(قَوْلُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِحُضُورِ إلَخْ) احْتِرَازٌ عَنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إذْ سَيَأْتِي أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ الشُّهُودِ صَحِيحَةٌ إذَا كَانُوا يَدِينُونَ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ بِحُضُورٍ لَا يُوجِبُ السَّمَاعَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الْقَاضِي عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ، وَنُقِلَ عَنْ أَبْوَابِ الْأَمَانِ مِنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا، وَعَلَى هَذَا جَوَّزُوهُ بِالْأَصَمَّيْنِ وَالنَّائِمَيْنِ، وَالصَّحِيحُ اشْتِرَاطُ السَّمَاعِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحُضُورِ وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ. أَمَّا اشْتِرَاطُ الشَّهَادَةِ فَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ دُونَ الْإِشْهَادِ) وَظَاهِرٌ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي الْأَمْرَيْنِ: اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِشْهَادِ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْإِشْهَادِ، وَإِنَّمَا زَادَ ذِكْرَ الْإِعْلَانِ تَتْمِيمًا لِنَقْلِ مَذْهَبِهِ.
وَنَفَى اشْتِرَاطَ الشَّهَادَةِ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ.
قِيلَ وَزَوَّجَ ابْنُ عُمَرَ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَكَذَا فَعَلَ الْحَسَنُ وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ «ابْنِ عَبَّاسٍ الْبَغَايَا اللَّاتِي يَنْكِحْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِغَيْرِ شُهُودٍ» وَلَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ عَبْدُ الْأَعْلَى فِي التَّفْسِيرِ، وَوَقَفَهُ فِي الطَّلَاقِ، لَكِنَّ ابْنَ حِبَّانَ رَوَى مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنْ تَشَاجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَصِحُّ فِي ذِكْرِ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ هَذَا، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: إنَّ حَدِيثَ الشُّهُودِ مَشْهُورٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِهِ:
الْحُرِّيَّةِ فِيهَا لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ بِدُونِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ،
أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الْآيَةَ، فَيَنْدَفِعُ بِهِ الْإِيرَادُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ لُزُومُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَجَوَابٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْمُحَرَّمَاتِ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثَانِيًا، وَلَوْ عَدَلَ إلَى النَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فَالْجَوَابُ بِأَنَّ الْآخَرَ مَخْصُوصٌ بِالْمُشْرِكَةِ وَنَحْوِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشَايِخَ رحمهم الله نَصَبُوا الْخِلَافَ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَفِي الْإِعْلَانِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِمَالِكٍ فِي إثْبَاتِهِ بِالْمَنْقُولِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَعْلِنُوا بِالنِّكَاحِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ حَرَامَ هَذَا الْفِعْلِ يَكُونُ سِرًّا فَضِدُّهُ يَكُونُ جَهْرًا لِتَنْتَفِي التُّهْمَةُ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا نَصْبٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ أَجْوِبَتِهِمْ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ كَلِمَتَهُمْ قَاطِبَةٌ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِمُوجِبِ دَلَائِلِ الْإِعْلَانِ وَادِّعَاءِ الْعَمَلِ بِهَا بِاشْتِرَاطِ الْإِشْهَادِ إذْ بِهِ يَحْصُلُ الْإِعْلَانُ، وَكَلَامُ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا كَانَ الْإِظْهَارُ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَا هُوَ طَرِيقُ الظُّهُورِ شَرْعًا وَذَلِكَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ مَعَ شَهَادَتِهِمَا لَا يَبْقَى سِرًّا. وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ: نِكَاحُ السِّرِّ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ شُهُودٌ، فَإِذَا حَضَرُوا فَقَدْ أُعْلِنَ قَالَ: وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِيِّ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْإِعْلَانَ الْمُشْتَرَطَ هَلْ يَحْصُلُ بِالْإِشْهَادِ حَتَّى لَا يَضُرَّ بَعْدَهُ تَوْصِيَتُهُ لِلشُّهُودِ بِالْكِتْمَانِ إذْ لَا يَضُرُّ بَعْدَ الْإِعْلَانِ التَّوْصِيَةُ بِالْكِتْمَانِ أَوْ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْإِشْهَادِ حَتَّى يَضُرَّ، فَقُلْنَا نَعَمْ وَقَالُوا لَا. وَلَوْ أُعْلِنَ بِدُونِ الْإِشْهَادِ لَا يَصِحُّ لِتَخَلُّفِ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ وَعِنْدَهُ يَصِحُّ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ شَرْطَ الْإِشْهَادِ يَحْصُلُ فِي ضِمْنِهِ الشَّرْطُ الْآخَرُ، فَكُلُّ إشْهَادٍ إعْلَانٌ وَلَا يَنْعَكِسُ، كَمَا لَوْ أَعْلَنُوا بِحَضْرَةِ صَبِيَّانِ أَوْ عَبِيدٍ
(قَوْلُهُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ) يَعْنِي الْقَاصِرَةَ وَهِيَ وِلَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا التَّامَّةَ وَهِيَ نَفَاذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّ تِلْكَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْأَدَاءُ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ شَهَادَةِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَجْنُونِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْأَدَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ وَالشَّهَادَةُ فَرْعُهَا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً وَلِذَا جَازَتْ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ لِوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ كَالْقِنِّ لَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَتِهِمْ. وَلَوْ حَضَرَ الْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ لِلْعَقْدِ مَعَ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ تَصِحُّ شَهَادَتُهُ ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَاحْتِيجَ إلَى الْأَدَاءِ لِجَحْدِ النِّكَاحِ فَشَهِدَا بِهِ دُونَ مَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِمَّنْ كَانَ الْعَقْدُ بِحُضُورِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صِحَّةُ الْعَقْدِ كَانَتْ بِحُضُورِهِمَا.
هَذَا وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ جَوَازُ شَهَادَةِ الْعَبْدِ مُطْلَقًا، وَاسْتُبْعِدَ نَفْيُهَا لِأَنَّهُ لَا كِتَابَ وَلَا سُنَّةَ وَلَا إجْمَاعَ فِي نَفْيِهَا. وَحُكِيَ عَنْ
وَلَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ الذُّكُورَةِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَسَتَعْرِفُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحَضْرَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. لَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ وَالْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْإِهَانَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ،
أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلِمْت أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُهَا عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ لَا تُقْبَلُ هُنَا، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ. وَاَلَّذِي ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ مِمَّا يُمْنَعُ فَإِنَّهُ لَا تَلَازُمَ عَقْلًا بَيْنَ تَصْدِيقِ مُخْبِرٍ فِي إخْبَارِهِ بِمَا شَاهَدَهُ بَعْدَ كَوْنِهِ عَدْلًا تَقِيًّا وَبَيْنَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَمْلُوكِ الْمَنَافِعِ وَلَا شَرْعًا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْتَلَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِالرِّقِّ وَيُقْبَلُ إخْبَارُهُ؟ كَيْفَ وَلَيْسَ الشَّرْطُ هُنَا كَوْنُ الشَّاهِدِ مِمَّنْ يُقْبَلُ أَدَاؤُهُ، وَلِذَا جَازَ بِعَدْوَى الزَّوْجَيْنِ وَلَا أَدَاءَ لَهُمَا، وَغَايَةُ مَا يُلْمَحُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ وِلَايَةً عَلَى نَفْسِهِ شَرْعًا وَلَمْ يُصَحِّحْ لَهُ التَّصَرُّفَ اُلْتُحِقَ بِالْجَمَادَاتِ فِي حَقِّ الْعُقُودِ وَنَحْوِهَا فَكَانَ حُضُورُهُ كَلَا حُضُورٍ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدُ لَا يُدْعَوْنَ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ عَادَةً فَكَانَ حُضُورُهُمَا كَلَا حُضُورٍ. فَحَاصِلُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ لِإِظْهَارِ الْخَطَرِ وَلَا خَطَرَ فِي إحْضَارِ مُجَرَّدِ الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ، وَكَذَا أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٌ عَنْ الرِّجَالِ، فَشَمِلَ هَذَا الْوَجْهَ نَفْيَ شَهَادَةِ الْكُلِّ.
وَعَلَى اعْتِبَارِهِ الْأَوْلَى أَنْ يَنْفِيَ شَهَادَةَ السَّكَارَى حَالِ سُكْرِهِمْ وَعَرْبَدَتِهِمْ وَإِنْ كَانُوا بِحَيْثُ يَذْكُرُونَهَا بَعْدَ الصَّحْوِ، وَهَذَا الَّذِي أَدَّيْنَ اللَّهَ بِهِ
(قَوْلُهُ وَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحَضْرَةِ الْفَاسِقِينَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. لَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ) حَقِيقَتُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْقَائِلِ بِأَنَّهَا شُرِطَتْ إظْهَارًا لِلْخَطَرِ وَهُوَ مَعْنَى التَّكَرُّمَةِ (وَالْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْإِهَانَةِ) فَلَا تَكَرُّمَةَ وَلَا تَعْظِيمَ لِلْعَقْدِ بِإِحْضَارِهِ. عَارَضَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَنَا أَنَّهُ) أَيْ الْفَاسِقُ (مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ) تَحْلِيلُهُ مِنْ شَرْطِيَّةٍ وُضِعَ فِيهَا الْمُقَدَّمُ أَسْهَلُ مِنْ تَحْلِيلِهِ مِنْ اقْتِرَانِيٍّ كَمَا سَلَكَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ فَأَطَالَ: أَيْ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَهَذِهِ دَعْوَى مُلَازَمَةٌ شَرْعِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحَرِّمْ الْوِلَايَةَ عَلَى نَفْسِهِ إلَخْ مُلَازَمَةٌ أُخْرَى لِبَيَانِ الْمُلَازَمَةِ الْأُولَى فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ كَالْأُولَى فَعَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ: أَيْ لِأَنَّ الْغَيْرَ مِنْ جِنْسِ الْفَاسِقِ وَيَجُوزُ قَلْبُهُ.
وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ لِبَعْضِهِمْ بَعِيدٌ مِنْ اللَّفْظِ. وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ أَحْكَامَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْمُتَّحِدِ مُتَّحِدَةٌ بِحَسَبِ الْأَصْلِ، فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ خِطَابَاتِ الْأَحْكَامِ
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحَرِّمْ الْوِلَايَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِإِسْلَامِهِ لَا يُحَرِّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَلِأَنَّهُ صَلُحَ مُقَلَّدًا فَيَصْلُحُ مُقَلِّدًا وَكَذَا شَاهِدًا. وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ ثَمَرَةُ الْأَدَاءِ بِالنَّهْيِ لِجَرِيمَتِهِ فَلَا يُبَالِي بِفَوَاتِهِ كَمَا
مَا يَتَعَلَّقُ بِمِثْلِهِ فَلَمَّا لَمْ يُحْرِمْ الشَّارِعُ الْفَاسِقَ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ شَرْعًا فِسْقَهُ سَالِبًا لِأَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ مُطْلَقًا فَجَازَ ثُبُوتُهَا عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ كَنَفْسِهِ، إلَّا أَنَّ ثُبُوتَهَا عَلَى غَيْرِهِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِرِضَاهُ وَذَلِكَ بِتَوْلِيَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَشْهَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْلَاهُ وَرَضِيَ بِهِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَهُوَ صِحَّةُ سَمَاعِهِ عَلَيْهِ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ سَمَاعُهُ لِأَحَدِ شَطْرَيْ مَا يَعْقِدُهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَمُجَرَّدُ السَّمَاعِ هُوَ الشَّرْطُ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِيهِ: أَيْ سَمَاعُهُ.
أَمَّا الْأَدَاءُ فَمُتَوَقِّفٌ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ إجَازَةُ الْقَاضِي. وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْت هَذَا الْوَجْهَ ظَهَرَ لَك أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى اقْتِضَاءِ تَجْوِيزِ كَوْنِ الْفَاسِقِ شَاهِدًا فَتَثْبُتُ شَهَادَتُهُ لِعَدَمِ النَّافِي. وَالْوَجْهُ السَّابِقُ مِنْ اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ لِإِظْهَارِ تَعْظِيمِ الْعَقْدِ وَتَعْظِيمِ الْمَحَلِّ الْوَارِدِ هُوَ عَلَيْهِ يَنْفِيهِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ إحْضَارِ الْفَاسِقِ لَيْسَ بِتَكَرُّمَةٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ إنَّمَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إحْضَارِ الْفُسَّاقِ حَالَ سُكْرِهِمْ عَلَى مَا فَرَّعُوا مِنْ أَنَّهُ إذَا عَقَدَ بِحَضْرَةِ سُكَارَى يَفْهَمُونَ كَلَامَ الْعَاقِدَيْنِ جَازَ وَإِنْ كَانُوا بِحَيْثُ يَنْسَوْنَهُ إذَا صَحُّوا وَهُوَ الَّذِي دَنَا بِهِ آنِفًا.
أَمَّا مَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ فَاسِقًا وَلَهُ مُرُوءَةٌ وَحِشْمَةٌ فَإِنَّ إحْضَارَهُ لِلشَّهَادَةِ لَا يُنَافِيهِ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ، فَالْحَقُّ صِحَّةُ الْعَقْدِ بِحَضْرَةِ فُسَّاقٍ لَا فِي حَالِ فِسْقِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ صَلُحَ مُقَلِّدًا) بِكَسْرِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ.
وَجْهٌ ثَانٍ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي صِحَّةِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ أَنَّهُ صَلُحَ مُقَلِّدًا: أَيْ سُلْطَانًا وَخَلِيفَةً (فَيَصْلُحُ مُقَلَّدًا) بِفَتْحِ اللَّامِ: أَيْ قَاضِيًا (وَكَذَا شَاهِدًا) بِالْوَاوِ فِي نُسَخٍ وَبِالْفَاءِ فِي نُسَخٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ هِيَ مُلَازَمَةٌ
فِي شَهَادَةِ الْعُمْيَانِ وَابْنَيْ الْعَاقِدَيْنِ.
قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا يَجُوزُ) لِأَنَّ السَّمَاعَ فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ
وَاحِدَةٌ.
حَاصِلُهَا أَنَّهُ لَمَّا صَلُحَ لِلْوِلَايَةِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ أَعَمُّ ضَرَرًا وَنَفْعًا صَلُحَ لِلصُّغْرَى الَّتِي هِيَ الْأَقَلُّ وَهِيَ الْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. بَيَانُ الِاسْتِثْنَائِيَّة الْمُقَدَّرَةِ الْمُسْتَغْنَى عَنْ إظْهَارِهَا بِلَفْظَةِ لَمَّا فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى وَضْعِ الْمُقَدَّمِ أَنَّ الْخُلَفَاءَ غَيْرَ الْأَرْبَعَةِ السَّابِقِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَلَّمَا خَلَوْا مِنْ فِسْقٍ مَعَ عَدَمِ إنْكَارِ السَّلَفِ وَلَا يُتَّهَمُ وَتَصْحِيحِ تَقْلِيدِهِمْ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ.
وَعَلَى الثَّانِي مُلَازَمَتَانِ بَيْنَ صَلَاحِيَةِ الْكُبْرَى وَصَلَاحِيَةِ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ صَلَاحِيَةِ الْقَضَاءِ وَصَلَاحِيَةِ الشَّهَادَةِ، وَالْأَوَّلُ سَبَبٌ لِلثَّانِي فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. فَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ حَيْثُ قَالَ لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُولَى شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَكَذَا شَاهِدًا عَطْفٌ عَلَى مُقَلِّدًا بِكَسْرِ اللَّامِ وَإِنْ تَخَلَّلَ مَعْطُوفٌ غَيْرُهُ كَعَمْرٍو مِنْ قَوْلِك جَاءَ زَيْدٌ وَبَكْرٌ وَعَمْرٌو عُطِفَ عَلَى زَيْدٍ لَا بَكْرٍ، وَمُسَبَّبِيَّتُهُ عَنْهُ ظَاهِرَةٌ وَلَا مُنَاقَضَةَ حِينَئِذٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ يَقْتَضِي تَرَتُّبَ كُلٍّ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَمَا فِي جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو فَبَكْرٌ.
[فَرْعٌ]
فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: لِلْقَاضِي أَنْ يَبْعَثَ إلَى شَفْعَوِيٍّ لِيُبْطِلَ الْعَقْدَ إذَا كَانَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَلِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَبَعَثَ إلَى شَافِعِيٍّ يُزَوِّجُهَا مِنْهُ بِغَيْرِ مُحَلِّلٍ ثُمَّ يَقْضِي بِالصِّحَّةِ، وَبُطْلَانُ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ إذَا لَمْ يَأْخُذْ الْقَاضِي الْكَاتِبَ وَلَا الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ شَيْئًا وَلَا يَظْهَرُ بِهَذَا حُرْمَةُ الْوَطْءِ السَّابِقِ وَلَا شُبْهَةَ وَلَا خَبَثَ فِي الْوَلَدِ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ: لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إلَى شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ، أَمَّا لَوْ فَعَلُوا فَقَضَى يَنْفُذُ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ السَّمَاعَ فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ) يُنْتَجُ لَا سَمَاعَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَكِنَّهُ عَدَلَ فِي النَّتِيجَةِ إلَى التَّشْبِيهِ فَقَالَ: فَصَارَ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ مُرَادَهُ مِنْ النَّتِيجَةِ نَفْيُ السَّمَاعِ الْمُعْتَبَرِ لَا نَفْيُ حَقِيقَتِهِ، وَإِذَا انْتَفَى الِاعْتِبَارُ صَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَصَحَّ تَشْبِيهُ السَّمَاعِ بِعَدَمِهِ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ، وَتَمَامُ هَذَا الدَّلِيلِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ صُغْرَى الْقِيَاسِ مُنْعَكِسَةٌ كَنَفْسِهَا فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْمَادَّةِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ نَفْيُ الشَّهَادَةِ لِنَفْيِ السَّمَاعِ الْمُعْتَبَرِ، فَلَوْ أَنَّ الشَّهَادَةَ مُجَرَّدُ الْحُضُورِ كَمَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ الْقُدُورِيِّ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ مِمَّنْ قَالَ بِهِ السُّغْدِيُّ والإسبيجابي لَمْ يَتِمَّ.
وَنَصَّ الْقُدُورِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى اشْتِرَاطِ السَّمَاعِ وَلِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْحُضُورِ فَلَا يَجُوزُ بِالْأَصَمَّيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَعَنْ اشْتِرَاطِ السَّمَاعِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِ الشُّهُودِ مَا فِي الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْخُطْبَةِ بِأَنْ تَقْرَأَهُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِمْ أَوْ سَمَاعِهِمْ الْعِبَارَةِ عَنْهُ بِأَنْ تَقُولَ: إنَّ فُلَانًا كَتَبَ إلَيَّ يَخْطُبُنِي ثُمَّ تُشْهِدَهُمْ أَنَّهَا زَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا، أَمَّا لَوْ لَمْ تَزِدْ عَلَى الثَّانِي لَا يَصِحُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْفُرُوعِ. وَلَقَدْ أُبْعِدَ عَنْ
فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ شُرِطَتْ فِي النِّكَاحِ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِوُرُودِهِ عَلَى مَحَلِّ ذِي خَطَرٍ لَا عَلَى اعْتِبَارِ وُجُوبِ الْمَهْرِ إذْ لَا شَهَادَةَ تُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْمَالِ وَهُمَا شَاهِدَانِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْعَقْدَ
الْفِقْهِ وَعَنْ الْحِكْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْ زَادَ النَّائِمِينَ وَنَصَّ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَهُمَا ثُمَّ الشَّرْطُ أَنْ يَسْمَعَا مَعًا كَلَامَهُمَا مَعَ الْفَهْمِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَذُكِرَ فِي رَوْضَةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ الْأَصَحُّ، قَالَ وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ اهـ. إذْ لَوْ سَمِعَ أَحَدُ الشُّهُودِ ثُمَّ أُعِيدَ عَلَى الْآخَرِ فَسَمِعَهُ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ عَلَى كُلِّ عَقْدٍ سِوَى شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنْ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْهُ: لَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِهِمَا مَعًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ تَزَوَّجَهَا بِحَضْرَةِ هِنْدِيَّيْنِ لَمْ يَفْهَمَا لَمْ يَجُزْ. وَعَنْهُ: إنْ أَمْكَنَهُمَا أَنْ يُعَبِّرَا مَا سَمِعَا جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَى فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ خِلَافًا فِيهِ وَجَعَلَ الظَّاهِرَ عَدَمَ الْجَوَازِ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ شُرِطَتْ فِي النِّكَاحِ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ) أَيْ مِلْكَهُ عَلَيْهَا (لِوُرُودِهِ عَلَى حَمْلِ ذِي خَطَرِ) وَهُوَ بُضْعُ أُنْثَى لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ مُحَلَّلَةً مِنْ بَنَاتِ آدَمَ عَلَى وَجْهٍ يُقْصِرُهَا عَلَى نَفْسِهِ لِاسْتِيفَاءِ حَاجَاتِهِ مِنْهَا وَهَذِهِ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ، وَهُوَ مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِاشْتِرَاطِ إحْضَارِ السَّامِعِينَ الْعُقَلَاءِ إظْهَارًا لِتَعْظِيمِ هَذَا الْعَقْدِ لِيَقَعَ فِي مَحْفِلٍ مِنْ الْمَحَافِلِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ بِإِيجَابِ الْمَالِ عَلَيْهِ دُونَهَا مَعَ أَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ مُشْتَرَكٌ.
فَعُلِمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الشَّهَادَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ لَيْسَ لِمِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا التَّمَتُّعُ بِكُلٍّ وَإِلَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِلُزُومِهِ وَلَا عَلَى اعْتِبَار وُجُوبِ الْمَهْرِ لَهَا عَلَيْهِ لِيَكُونَا شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ، إذْ لَا شَهَادَةَ تُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْمَالِ فِيمَا عُهِدَ مِنْ تَقْرِيرَاتِ الشَّرْعِ فِي مَوْضِعٍ، وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ مِلْكِهِمَا الِازْدِوَاجُ الْمُشْتَرَكُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ تَبَعًا لِمِلْكِ الْبُضْعِ وَلَا تُشْتَرَطُ لِلتَّوَابِعِ وَإِلَّا وَجَبَ الْإِشْهَادُ عَلَى شِرَاءِ الْأَمَةِ لِلْوَطْءِ فَإِنَّ مِلْكَهُ مِنْ تَوَابِعِ مِلْكِ رَقَبَتِهَا.
وَإِذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا كَانَا شَاهِدَيْنِ عَلَيْهَا وَهِيَ ذِمِّيَّةٌ فَيَجُوزُ بِذِمِّيِّينَ فَإِنَّهُ إظْهَارُ خَطَرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا شَرْعًا، وَلِهَذَا لَوْ كَانَا ذِمِّيِّينَ حَكَمَ الشَّرْعُ بِصِحَّتِهِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَا بَقِيَ عَلَى الصِّحَّةِ (بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الزَّوْجِ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ اُشْتُرِطَتْ فِي الْعَقْدِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَالْعَقْدُ يَقُومُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِهِمَا. هَذَا وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهَا إذَا أَنْكَرَتْ لَا عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَقُولَا كَانَ مَعَنَا مُسْلِمَانِ.
وَعَنْهُ لَا تُقْبَلُ مُطْلَقًا لِإِثْبَاتِهَا فِعْلِ الْمُسْلِمِ وَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا. وَلَوْ أَسْلَمَا ثُمَّ أَدَّيَا تُقْبَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ سَمَاعَهُمَا كَلَامِ الْمُسْلِمِ مُعْتَبَرٌ وَامْتِنَاعُ الْأَدَاءِ لِلْكُفْرِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُقْبَلُ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ إلَّا إذَا قَالَا كَانَا مَعَنَا مُسْلِمَانِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ ابْنَيْهَا قُبِلَا عَلَيْهَا فَقَطْ، أَوْ ابْنَيْهِ فَعَلَيْهِ فَقَطْ أَوْ ابْنَيْهِمَا فَلَا يُقْبَلَانِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَا أَعْمَيَيْنِ أَوْ أَخْرَسَيْنِ سَمِيعَيْنِ حَيْثُ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِمَا وَلَا أَدَاءَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْبَصَرِ وَالتَّكَلُّمِ، وَالْعُدْوَانِ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَعَدُوُّهُ يُقْبَلَانِ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ، وَعَدُوَّاهَا يُقْبَلَانِ عَلَيْهِ لَا عَلَيْهَا، وَعَدُوَّاهُمَا لَا يُقْبَلَانِ مُطْلَقًا.
أَمَّا الِانْعِقَادُ فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَعْدَاءِ كَيْفَ كَانُوا، وَأَمَّا الْأَخَوَانِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ وَادَّعَاهُ الْأَبُ وَالْبِنْتُ كَبِيرَةٌ أَوْ الْمَرْأَةُ فَشَهِدَ لَا تُقْبَلُ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةٌ أَوْ الْأَبُ قُبِلَتْ، هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي الْأَبَ أَوْ الْمَرْأَةَ أَيْضًا.
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَدَّعِيهِ الْأَبُ فَشَهَادَتُهُمَا فِيهِ بَاطِلَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ لِشُبْهَةِ الْأُبُوَّةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِثُبُوتِ مَنْفَعَةِ نَفَاذِ كَلَامِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ شَيْءٍ لِلْأَبِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ جَحْدًا وَادِّعَاءً، فَشَهَادَةُ ابْنَيْهِ فِيهِ بَاطِلَةٌ، وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ وَلِيَهُ مِمَّا يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ كَالْبَيْعِ وَنَظَائِرِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ مَنْفَعَةَ نَفَاذِ الْقَوْلِ مَنْفَعَةً، وَلَوْ كَانَتْ الْبِنْتُ صَغِيرَةً لَا تُقْبَلُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهَا لِلْأَبِ. قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فِي تَفْسِيرِهِ: يُرِيدُ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَبْطُلُ فِي حَالِ ادِّعَائِهِ مِنْ طَرِيقِ التُّهْمَةِ، وَكَذَا فِي حَالِ جُحُودِهِ لِوُقُوعِهَا لِغَيْرِ خَصْمٍ يَدَّعِي اهـ.
وَفَسَّرَ فِي الْمَبْسُوطِ جُحُودَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ عِنْدَ جُحُودِهِ إنْ كَانَ الْآخَرُ جَاحِدًا أَيْضًا لَا تُقْبَلُ لِعَدَمِ الدَّعْوَى، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْآخَرُ مُدَّعِيًا فَمَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ مَنْفَعَةٌ فِيهَا كَمَا إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِبَيْعِ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِلْأَبِ فَلَا تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ كَلَّمَك فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَ ابْنَا فُلَانٍ أَنَّ أَبَاهُمَا كَلَّمَهُ جَازَتْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ جَاحِدًا أَوْ مُدَّعِيًا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا.
وَلَوْ زَوَّجَ الرَّجُلُ بِنْتَه ثُمَّ شَهِدَ مَعَ أَخِيهَا عَلَيْهَا بِالرِّضَا وَهِيَ تُنْكِرُ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ مُطْلَقًا لَا تُقْبَلُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا هُوَ فِيهِ خَصْمٌ أَوْ لَا
[فَرْعَانِ]
لَوْ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا إنْ سَمَّيَا الْمَهْرَ يَنْعَقِدُ نِكَاحًا مُبْتَدَأً كَذَا فِي الدِّرَايَةِ. وَقَدَّمْنَا أَنَّهُمَا إذَا أَقَرَّا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إنْ قَالَ الشُّهُودُ جَعَلْتُمَا هَذَا نِكَاحًا فَقَالَا نَعَمْ فَيَنْعَقِدُ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِالْجَعْلِ.
قَالَ قَاضِي خَانْ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ إنْ أَقَرَّا بِعَقْدٍ مَاضٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ عَقْدٌ لَا يَكُونُ نِكَاحًا. وَإِنْ أَقَرَّتْ أَنَّهُ زَوْجُهَا وَهُوَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ يَكُونُ نِكَاحًا وَيَتَضَمَّنُ إقْرَارُهُمَا الْإِنْشَاءَ، بِخِلَافِ إقْرَارِهِمَا بِمَاضٍ لِأَنَّهُ كَذِبٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ لَسْت لِي امْرَأَةٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ يَقَعُ كَأَنَّهُ قَالَ لِأَنِّي طَلَّقْتُك. وَلَوْ قَالَ لَمْ أَكُنْ تَزَوَّجْتهَا وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ اهـ.
يَعْنِي إذَا لَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ جَعَلْتُمَا هَذَا نِكَاحًا وَالْحَقُّ هَذَا التَّفْصِيلُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: بَعَثَ أَقْوَامًا لِلْخُطْبَةِ فَزَوَّجَهَا الْأَبُ بِحَضْرَتِهِمْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ وَإِنْ قَبِلَ عَنْ الزَّوْجِ إنْسَانٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شُهُودٍ لِأَنَّ الْقَوْمَ كُلَّهُمْ خَاطِبُونَ مَنْ تَكَلَّمَ وَمَنْ لَا، لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ هَكَذَا أَنْ يَتَكَلَّمَ وَاحِدٌ وَيَسْكُتَ الْبَاقُونَ وَالْخَاطِبُ لَا يَصِيرُ شَاهِدًا. وَقِيلَ يَصِحُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي جَعْلِ الْكُلِّ خَاطِبًا فَيَجْعَلَ الْمُتَكَلِّمَ خَاطِبًا فَقَطْ وَالْبَاقِي شُهُودٌ
يَنْعَقِدُ بِكَلَامِهِمَا وَالشَّهَادَةُ شُرِطَتْ عَلَى الْعَقْدِ.
قَالَ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَزَوَّجَهَا وَالْأَبُ حَاضِرٌ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ سِوَاهُمَا جَازَ النِّكَاحُ) لِأَنَّ الْأَبَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَيَبْقَى الْمُزَوِّجُ شَاهِدًا (وَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُخْتَلِفٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْعَلَ الْأَبَ مُبَاشِرًا، وَعَلَى هَذَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِمَحْضَرِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَزَوَّجَهَا وَالْأَبُ حَاضِرٌ بِحَضْرَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ جَازَ النِّكَاحُ) وَكَذَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِحُضُورِهَا مَعَ وَاحِدٍ أَوْ امْرَأَتَيْنِ أَوْ وَكِيلُ الْمَرْأَةِ بِحُضُورِهَا مَعَ امْرَأَتَيْنِ جَازَ النِّكَاحُ. ثُمَّ إنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُزَوِّجِ إذَا لَمْ يَقُلْ أَنَا زَوَّجْتهَا بَلْ يَقُولُ هَذِهِ زَوْجَةُ هَذَا، وَإِنَّمَا صَحَّ بِحُضُورِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا كَانَ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْهُ حَاضِرًا وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعِبَارَةَ تَنْتَقِلُ إلَيْهِ كَانَ مُبَاشِرًا لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تَنْتَقِلُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ وَلَيْسَ الْمُبَاشِرُ سِوَى هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ غَائِبًا لِأَنَّ انْتِقَالَ الْعِبَارَةِ إلَيْهِ حَالَ عَدَمِ الْحُضُورِ لَا يَصِيرُ بِهِ مُبَاشِرًا لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِهِ الْحُضُورِ ضَرُورَةً فَيَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَى عَدَمِ رُجُوعِ الْحُقُوقِ إلَى الْوَكِيلِ، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ وَكِيلُ السَّيِّدِ الْعَبْدَ بِحُضُورِهِ مَعَ آخَرَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ إنَّمَا تَنْتَقِلُ إلَى مُقَيِّدِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ السَّيِّدُ وَهُوَ غَائِبٌ.
فَظَهَرَ مِنْ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّ إنْزَالَهُ مُبَاشِرًا مَعَ حُضُورِهِ جَبْرِيٌّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الْحَاجَةِ إلَى اعْتِبَارِهِ. فَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّهُ تَكَلُّفٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَإِنَّ الْأَبَ يَصْلُحُ شَاهِدًا فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِهِ مُبَاشِرًا إلَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ فِي الْكِتَابِ، وَهِيَ مَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ بِنْتَه الْبَالِغَةَ بِحَضْرَةِ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ شَاهِدَةً عَلَى نَفْسِهَا فَأُنْزِلَتْ مُبَاشِرَةً ضَرُورَةَ التَّصْحِيحِ، وَلَوْ أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ فِي التَّزَوُّجِ فَعَقَدَا بِحَضْرَةِ وَاحِدٍ مَعَ السَّيِّدِ قِيلَ لَا يَجُوزُ لِلِانْتِقَالِ إلَى السَّيِّدِ لِأَنَّهُمَا وَكِيلَانِ عَنْهُ، وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ كَوْنِهِمَا وَكِيلَيْنِ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكَّ الْحَجْرَ عَنْهُمَا فَيَتَصَرَّفَانِ بَعْدَهُ بِأَهْلِيَّتِهِمَا لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ.
وَمِمَّا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ وَكِيلِ السَّيِّدِ يَظْهَرُ أَنَّ ثُبُوتَ الصِّحَّةِ فِيمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ بِحُضُورِهِمَا مَعَ شَاهِدٍ مَحَلُّ نَظَرٍ، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّيِّدِ لَيْسَ فَكًّا لِلْحَجْرِ عَنْهُمَا فِي التَّزَوُّجِ مُطْلَقًا وَإِلَّا لَصَحَّ فِي مَسْأَلَةِ وَكِيلِهِ وَلِذَا خَالَفَ فِي صِحَّتِهَا الْمَرْغِينَانِيُّ، قَالَ: وَقَالَ أُسْتَاذِي: فِيهِمَا رِوَايَتَانِ: أَيْ فِي وَكِيلِ السَّيِّدِ وَالسَّيِّدَةِ
[فُرُوعٌ]
إذَا جَحَدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ النِّكَاحَ فَإِمَّا أَصْلُهُ أَوْ شَرْطُهُ؛ فَفِي أَصْلِهِ لَوْ جَحَدَهُ الزَّوْجُ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً بِهِ أَوْ عَلَى إقْرَارِهِ قُبِلَتْ وَلَا يَكُونُ جُحُودُهُ طَلَاقًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ يُنْقِصُ الْعَدَدَ وَبِارْتِفَاعِ أَصْلِ النِّكَاحِ لَا نَقْصَ. وَأَمَّا إنْكَارُ الشَّرْطِ كَإِنْكَارِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُنْكِرَةُ بِأَنْ قَالَتْ تَزَوَّجَنِي بِلَا شُهُودٍ وَقَالَ الزَّوْجُ بِشُهُودٍ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَائِلُ ذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِإِقْرَارِهِ بِالْحُرْمَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَالْفِرْيَةِ مِنْ قِبَلِهِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِلَّا فَكُلُّهُ وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ إنْكَارِهِ أَصْلِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَذَّبَهُ بِالْحُجَّةِ فِي زَعْمِهِ فَلَا يَبْقَى زَعْمُهُ مُعْتَبَرًا، وَهُنَا مَا كَذَّبَهُ فِي زَعْمِهِ بِحُجَّةٍ وَلَكِنْ رَجَحَ قَوْلُهَا لِمَعْنًى هُوَ أَنَّ الشَّرْطَ تَبَعٌ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَصْلِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْأَصْلِ اتِّفَاقٌ عَلَى التَّبَعِ فَالْمُنْكِرُ لَهُ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ كَالرَّاجِعِ عَنْهُ فَيَبْقَى زَعْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ تَزَوَّجْتهَا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٌ ثُمَّ أَسْلَمَتْ أَوْ أُخْتُهَا عِنْدِي أَوْ وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ أَمَةٌ بِلَا إذْنٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِعَ كُلَّهَا فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ وَالْمُحَالُ فِي حُكْمِ الشُّرُوطِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فِي صِغَرِهِ بِمُبَاشَرَتِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ مَعْنًى، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ مِنْهُمَا هُنَا فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرُ الْمِثْلِ لِلدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَهُوَ رِضًا بِذَلِكَ النِّكَاحِ، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ لَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ الَّذِي عَقَدَ لَهُ قَبْلَهُ جَازَ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ الدُّخُولِ إجَازَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْقَائِلَةُ تَزَوَّجَنِي وَأَنَا مُعْتَدَّةٌ وَمَا بَعْدَهَا إلَى آخِرِ الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهُوَ يُنْكِرُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِمَا قُلْنَا فِي الشَّهَادَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَمْسِ وَآخِرَ الْيَوْمِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ النِّكَاحَ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا فَمِنْ شَرَائِطِهِ مَا هُوَ فِعْلٌ وَهُوَ الْحُضُورُ، فَكَانَ كَالْأَفْعَالِ فِي الِاخْتِلَافِ، وَاخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فِي الْأَفْعَالِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ، وَلِأَنَّ كُلًّا شَهِدَ بِعَقْدٍ حَضَرَهُ وَاحِدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ)
قَالَ (لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَلَا بِجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى
فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ)
الْمَحَلِّيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ النِّكَاحِ
وَإِنَّمَا أُفْرِدَ هَذَا الشَّرْطُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِكَثْرَةِ شُعَبِهِ وَانْتِشَارِ مَسَائِلِهِ. وَانْتِفَاءُ مَحَلِّيَّةِ الْمَرْأَةِ لِلنِّكَاحِ شَرْعًا بِأَسْبَابٍ: الْأَوَّلُ النَّسَبُ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ فُرُوعُهُ وَهُمْ بَنَاتُهُ وَبَنَاتُ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلْنَ وَأُصُولُهُ وَهُمْ أُمَّهَاتُهُ وَأُمَّهَاتُ أُمَّهَاتِهِ وَآبَائِهِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَفُرُوعُ أَبَوَيْهِ وَإِنْ نَزَلْنَ، فَتَحْرُمُ بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنَاتُ أَوْلَادِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَإِنْ نَزَلْنَ، وَفُرُوعُ أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ لِبَطْنٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا تَحْرُمُ الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ، وَتَحِلُّ بَنَاتُ الْعَمَّاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْخَالَاتِ وَالْأَخْوَالِ. الثَّانِي الْمُصَاهَرَةُ، يَحْرُمُ بِهَا فُرُوعُ نِسَائِهِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ وَإِنْ نَزَلْنَ، وَأُمَّهَاتُ الزَّوْجَاتِ وَجَدَّاتُهُنَّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ وَإِنْ عَلَوْنَ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالزَّوْجَاتِ، وَتَحْرُمُ مَوْطُوءَاتُ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا وَلَوْ بِزِنًا وَالْمَعْقُودَاتُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَتَحْرُمُ مَوْطُوءَاتُ أَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا وَلَوْ بِزِنًا، وَالْمَعْقُودَاتُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ. الثَّالِثُ الرَّضَاعُ، يُحَرِّمُ كَالنَّسَبِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ كَالْأَمَةِ مَعَ الْحُرَّةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهَا. الْخَامِسُ حَقُّ الْغَيْرِ، كَالْمَنْكُوحَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ وَالْحَامِلِ بِثَابِتِ النَّسَبِ.
السَّادِسُ عَدَمُ الدِّينِ السَّمَاوِيِّ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُشْرِكَةِ.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ، إذْ الْأُمُّ هِيَ الْأَصْلُ لُغَةً أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ، قَالَ (وَلَا بِبِنْتِهِ) لِمَا تَلَوْنَا (وَلَا بِبِنْتِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَتْ) لِلْإِجْمَاعِ.
(وَلَا بِأُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أَخِيهِ وَلَا بِعَمَّتِهِ وَلَا بِخَالَتِهِ) لِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَدْخُلُ فِيهَا الْعَمَّاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَالْخَالَاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ لِأَنَّ جِهَةَ الِاسْمِ عَامَّةٌ.
قَالَ (وَلَا بِأُمِّ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}
السَّابِعُ: التَّنَافِي كَنِكَاحِ السَّيِّدِ أَمَتَهُ وَالسَّيِّدَةِ عَبْدَهَا (قَوْلُهُ إذْ الْأُمُّ هِيَ الْأَصْلُ لُغَةً) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وَسُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا وَالْخَمْرُ أُمَّ الْخَبَائِثِ، فَعَلَى هَذَا ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْجَدَّاتِ بِمَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَحَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْأُمَّ عَلَى هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُشَكِّكِ (قَوْلُهُ أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ إطْلَاقُ الْأُمِّ عَلَى الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يَتَنَاوَلَ النَّصُّ الْجَدَّاتِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأُمَّ مُرَادٌ بِهَا الْأَصْلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ إنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَإِلَّا فَيَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِإِرَادَتِهِ مَجَازًا فَتَدْخُلُ الْجَدَّاتُ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ وَالْمُعَرِّفُ لِإِرَادَةِ ذَلِكَ فِي النَّصِّ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَتِهِنَّ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ إطْلَاقُ لَفْظِ الْبِنْتِ عَلَى الْفَرْعِ حَقِيقَةً فَلِذَا اقْتَصَرَ فِي حُرْمَةِ بَنَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَظَاهِرُ بَعْضِ الشُّرُوحِ ثُبُوتُهُ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَا الِاسْتِدْلَال فِي الْبَنَاتِ، فَإِنَّ بِنْتَ الْبِنْتِ تُسَمَّى بِنْتًا حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْبِنْتَ يُرَادُ بِهِ الْفَرْعُ فَيَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا عِنْدَ الْبَعْضِ. وَقَوْلُهُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُرِيدُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَهُ إذَا كَانَ فِي مَحَلَّيْنِ. وَعَلَى مَا أَسْمَعْنَاك مِنْ التَّقْرِيرِ يَتَنَاوَلُهُنَّ مَجَازًا عِنْدَ الْكُلِّ. وَمِنْ الطُّرُقِ فِي تَحْرِيمِ الْجَدَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَوْلَادِ دَلَالَةُ النَّصِّ الْمُحَرِّمِ لِلْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، فَفِي الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْأَشِقَّاءَ مِنْهُنَّ أَوْلَادُ الْجَدَّاتِ، فَتَحْرِيمُ الْجَدَّاتِ وَهُنَّ أَقْرَبُ أَوْلَى، وَفِي الثَّانِي لِأَنَّ بَنَاتَ الْأَوْلَادِ أَقْرَبُ مِنْ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ.
[فَرْعَانِ: الْأَوَّلُ]
لِبِنْتِ الْمُلَاعَنَةِ حُكْمُ الْبِنْتِ، فَلَوْ لَاعَنَ فَنَفَى الْقَاضِي نَسَبَهَا مِنْ الرَّجُلِ وَأَلْحَقَهَا بِالْأُمِّ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ وَيَدَّعِيَهَا فَيَثْبُتُ نَسَبُهَا مِنْهُ. الثَّانِي يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا بِصَرِيحِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهَا بِنْتُهُ لُغَةً، وَالْخِطَابُ إنَّمَا هُوَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ فَيَصِيرُ مَنْقُولًا شَرْعِيًّا
(قَوْلُهُ لِأَنَّ جِهَةَ الِاسْمِ عَامَّةٌ) أَيْ الْجِهَةَ الَّتِي وُضِعَ الِاسْمُ مَعَ اعْتِبَارِهَا، فَاسْمُ الْأَخِ مَثَلًا وُضِعَ لِذَاتٍ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهَا إلَى أُخْرَى بِالْمُجَاوَرَةِ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ حُلُولِهَا مَا حَلَّتْهُ مِنْ صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ كَيْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى التَّوْأَمِ وَبِهَذِهِ الْجِهَةِ تَعُمُّ الْمُتَفَرِّقَاتُ فَكَانَ حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ بِالتَّوَاطُؤِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ بَنَاتُ الْأَجْدَادِ وَإِنْ عَلَوْا لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ آبَاءٍ أَعْلَوْنَ وَبَنَاتُ الْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُ أُمَّهَاتٍ عَلِييَّاتٍ وَفِي بَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ بَنَاتُهُنَّ وَإِنْ سَفَلْنَ
(قَوْلُهُ وَلَا بِأُمِّ امْرَأَتِهِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ) إذَا كَانَ نِكَاحُ الْبِنْتِ صَحِيحًا
مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الدُّخُولِ
(وَلَا بِبِنْتِ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا) لِثُبُوتِ قَيْدِ الدُّخُولِ بِالنَّصِّ (سَوَاءً كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ) لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ بِنَفْيِ الدُّخُولِ
أَمَّا بِالْفَاسِدِ فَلَا تَحْرُمُ الْأُمُّ إلَّا إذَا وَطِئَ بِنْتَهَا وَيَدْخُلُ فِي أُمِّ امْرَأَتِهِ جَدَّاتُهَا (قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الدُّخُولِ) عَلَيْهِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ رضي الله عنهم وَالْجُمْهُورُ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَقْيِيدَ الْمَعْطُوفِ بِصِفَةٍ أَوْ حَالٍ كَمَا فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ {مِنْ نِسَائِكُمْ} حَالٌ مِنْ الرَّبَائِبِ لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِهِ لَكِنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَمْتَنِعُ، وَلِهَذَا خَالَفَ فِيهِ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنهما وَنَاهِيك بِهِمَا عِلْمًا فَجَعَلَا الدُّخُولَ قَيْدًا فِي حُرْمَةِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِشْرُ الْمَرِيسِيِّ وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ.
وَوَجْهُهُ الْبِنَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ وَالِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ كَلِمَاتٍ مَنْسُوقَةً انْصَرَفَ إلَى الْكُلِّ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ شَرْطًا بَلْ صِفَةً، وَلَا يَلْزَمُ وَصْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِوَصْفِ الْمَعْطُوفِ، ثُمَّ يَبْطُلُ جَوَازُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاسْتِلْزَامِهِ كَوْنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَعْمُولَ عَامِلَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ الْمُضَافَ إلَيْهِ أُمَّهَاتٌ مَخْفُوضٌ بِالْإِضَافَةِ وَالْمَجْرُورُ بِمِنْ بِهَا، فَلَوْ كَانَ الْمَوْصُولُ وَهُوَ قَوْلُهُ {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} صِفَةً لَهُمَا لَزِمَ ذَلِكَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الصِّفَةِ هُنَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَأَبْطَلَهُ فِي الْكَشَّافِ بِلُزُومِ كَوْنِ مِنْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْنِ مُتَخَالِفَيْنِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْبَيَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّسَاءِ الْمُضَافِ إلَيْهِنَّ أُمَّهَاتٌ وَالِابْتِدَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّبَائِبِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ فِيهِمَا. قَالَ الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ فِي حَوَاشِيهِ: وَمَا يُقَالُ إنَّ الِابْتِدَاءَ مَعْنًى كُلِّيٌّ صَادِقٌ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِي مِنْ فَضَرْبٌ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي إيصَالِ شَيْءٍ فَيَتَنَاوَلُ إيصَالُ الْأُمَّهَاتِ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ وَالِدَاتٌ وَبِالرَّبَائِبِ لِأَنَّهُنَّ مَوْلُودَاتٌ، فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ جَعْلُ {مِنْ نِسَائِكُمْ} مُتَعَلِّقًا بِالْأُمَّهَاتِ وَالرَّبَائِبِ جَمِيعًا حَالًا مِنْهُمَا.
وَفَائِدَةُ إيصَالِ الْأُمَّهَاتِ بِالنِّسَاءِ بَعْدَ إضَافَتِهَا إلَيْهَا فِي زِيَادَةِ قَيْدِ الدُّخُولِ، لَكِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى حُرْمَةِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مَدْخُولَاتٍ كُنَّ أَوْ غَيْرَ مَدْخُولَاتٍ يَأْبَى هَذَا الْمَعْنَى، فَمِنْ هُنَا جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِرَبَائِبِكُمْ فَقَطْ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حَالًا مِنْ النِّسَاءِ الْمُضَافِ إلَيْهِنَّ أُمَّهَاتٌ وَمِنْ الرَّبَائِبِ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الْحَالِ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ مَنْ جَوَّزَهُ بِمُسَوِّغٍ مِنْ كَوْنِ الْمُضَافِ صَالِحًا لِلْعَمَلِ فِي الْحَالِ أَوْ جُزْءًا لِلْمُضَافِ إلَيْهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ شِبْهَ الْجُزْءِ فِي صِحَّةِ حَذْفِهِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ نَحْوُ {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}
(قَوْلُهُ سَوَاءً كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ) وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَشَرَطَهُ عَلِيٌّ، وَرَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ إلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ قَيْدَ الْحَجْرِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ وَالْغَالِبِ، إذْ الْغَالِبُ كَوْنُ الْبِنْتِ مَعَ الْأُمِّ عِنْدَ زَوْجِ الْأُمِّ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَجْرِ هُنَا، وَلَوْلَا هَذَا لَثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْقِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، وَبِالرُّجُوعِ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ الْمَفْهُومَ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهُ إلَى التَّحْرِيمِ مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ فَإِذَا انْتَفَى الْقَيْدُ رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ لَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ قَيْدًا فِي الْحُرْمَةِ اُكْتُفِيَ فِي مَوْضِعِ نَفْيِ الْحُرْمَةِ بِنَفْيِ الدُّخُولِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
(قَالَ وَلَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
(وَلَا بِامْرَأَةِ ابْنِهِ وَبَنِي أَوْلَادِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ}
{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَحَيْثُ خَصَّهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ بِالذِّكْرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي إضَافَةِ الْحُرْمَةِ، وَإِلَّا لَقِيلَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَلَسْنَ فِي حُجُورِكُمْ، أَوْ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أَوْ لَسْنَ فِي حُجُورِكُمْ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ فِي إضَافَةِ نَفْيِ الْحُكْمِ إلَى نَفْيِ تَمَامِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ أَوْ أَحَدِ جُزْأَيْهَا الدَّائِرِ وَإِنْ صَحَّ إضَافَتُهُ إلَى نَفْيِ جُزْئِهَا الْمُعَيَّنِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْمُسْتَمِرِّ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ.
هَذَا وَيَدْخُلُ فِي الْحُرْمَةِ بَنَاتُ الرَّبِيبَةِ وَالرَّبِيبِ وَإِنْ سَفَلَ لِأَنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُهُنَّ، بِخِلَافِ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ لِأَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ فَلِذَا جَازَ التَّزْوِيجُ بِأُمِّ زَوْجَةِ الِابْنِ وَبِنْتِهَا، وَجَازَ لِلِابْنِ التَّزَوُّجُ بِأُمِّ زَوْجَةِ الْأَبِ وَبِنْتِهَا
(قَوْلُهُ وَلَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} اعْلَمْ أَنَّ امْرَأَةَ الْأَبِ وَالْأَجْدَادِ تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ اسْتَدَلَّ بِهَا الْمَشَايِخُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ عَلَى ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ أُرِيدَ مِنْ حُرْمَةِ امْرَأَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مَا يُطَابِقُهَا مِنْ إرَادَةِ الْوَطْءِ قَصْرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ، وَتَصْدُقُ امْرَأَةُ الْأَبِ بِعَقْدِهِ عَلَيْهَا وَإِلَّا لَمْ يُفِدْ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى اعْتِبَارِ لَفْظِ النِّكَاحِ فِي نِكَاحِ الْآبَاءِ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ يَعُمُّ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ، وَلَك النَّظَرُ فِي تَعْيِينِهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يُوجِبُ اعْتِبَارَهَا فِي الْمَجَازِيِّ، وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْمَوْطُوءَةِ بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا بِلَا وَطْءٍ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْحُرْمَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَفْظُ الدَّلِيلِ صَالِحٌ لَهُ كَانَ مُرَادًا مِنْهُ بِلَا شُبْهَةٍ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ تَابِعٌ لِلنَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ عَنْ أَحَدِهِمَا يَكُونُ، وَلَوْ كَانَ عَنْ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ يَخْلُقُ لَهُمْ يَثْبُتُ بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُرَادٌ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ إذَا احْتَمَلَهُ.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} إنْ اُعْتُبِرَ الْحَلِيلَةُ مِنْ حُلُولِ الْفِرَاشِ أَوْ حَلِّ الْإِزَارِ تَنَاوَلَتْ الْمَوْطُوءَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ شُبْهَةً أَوْ زِنًا فَيَحْرُمُ الْكُلُّ عَلَى الْآبَاءِ وَهُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ عِنْدَنَا، كَمَا تَحْرُمُ الْمَزْنِيُّ بِهَا وَمَنْ ذَكَرْنَا لِلْآبَاءِ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَلَا تُتَنَاوَلُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا لِلِابْنِ أَوْ بَنِيهِ وَإِنْ سَفَلُوا قَبْلَ الْوَطْءِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَحْرُمُ عَلَى الْآبَاءِ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ الْحِلِّ بِكَسْرِ الْحَاءِ،
وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ
(وَلَا بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا بِأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» .
(وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ نِكَاحًا وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ» .
وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ، وَهُوَ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي أَعَمِّ مِنْ الْحِلِّ وَالْحَلِّ، ثُمَّ يُرَادُ مِنْ الْأَبْنَاءِ الْفُرُوعُ فَتَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ السَّافِلِ عَلَى الْجَدِّ الْأَعْلَى مِنْ النَّسَبِ، وَكَمَا تَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ تَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ.
وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ فِي الْآيَةِ لِإِسْقَاطِ حَلِيلَةِ الْمُتَبَنَّى. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَنَّ ذِكْرَ الْأَصْلَابِ لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الْمُتَبَنَّى لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَذْهَبِنَا فَلَا خِلَافَ
(قَوْلُهُ وَلَا بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ) وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ إلَى هُنَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ، حَتَّى لَوْ أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا حَرُمَ عَلَيْهِ زَوْجَةُ زَوْجِ الظِّئْرِ الَّذِي نَزَلَ لَبَنُهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا امْرَأَةُ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ الظِّئْرِ امْرَأَةُ هَذَا الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَسَنَسْتَوْفِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ
(قَوْلُهُ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ نِكَاحًا) أَيْ عَقْدًا (وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا) وَهَذَانِ تَمْيِيزَانِ لِنِسْبَةٍ إضَافِيَّةٍ، وَالْأَصْلُ بَيْنَ نِكَاحِ أُخْتَيْنِ وَوَطْئِهِمَا مَمْلُوكَتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمَا أُخْتَيْنِ مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعَةِ حَتَّى قُلْنَا لَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ رَضِيعَتَانِ أَرْضَعَتْهُمَا أَجْنَبِيَّةٌ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمَذْكُورَ أَوَّلَ الْآيَةِ أُضِيفَ بِوَاسِطَةِ الْعَطْفِ إلَى الْجَمْعِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَقْدًا أَوْ وَطْئًا. وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه إبَاحَةُ وَطْءِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ قَالَ: لِأَنَّهُمَا أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ أُخْرَى وَهُمَا هَذِهِ وقَوْله تَعَالَى {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَرَجَحَ الْحِلُّ.
قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَالْإِجْمَاعُ اللَّاحِقُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ السَّابِقَ وَإِنَّمَا يَتِمُّ إذَا لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَ أَمَةٍ لَهُ قَدْ وَطِئَهَا صَحَّ النِّكَاحُ) لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ (وَ) إذَا جَازَ (لَا يَطَأُ الْأَمَةَ
وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَالْمُرَجَّحُ التَّحْرِيمُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» إلَخْ غَرِيبٌ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي» الْحَدِيثُ، إلَى أَنْ قَالَ «إنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي» وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُد عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجَيَشَانِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ الضَّحَّاكَ بْنَ فَيْرُوزَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ فَيْرُوزَ الدِّيلِيِّ قَالَ «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، قَالَ: طَلِّقْ أَيَّهُمَا شِئْتَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حَبَّانِ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد «اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ» .
(قَوْلُهُ فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَ أَمَةٍ لَهُ قَدْ وَطِئَهَا صَحَّ النِّكَاحُ) خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا بِاعْتِرَافِكُمْ فَيَصِيرُ بِالنِّكَاحِ جَامِعًا وَطْئًا حُكْمًا وَهُوَ بَاطِلٌ بِاعْتِرَافِكُمْ لِأَنَّكُمْ عَلَّلْتُمْ عَدَمَ جَوَازِ وَطْءِ الْأَمَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَنْكُوحَةَ بِلُزُومِ الْجَمْعِ وَطْئًا حُكْمًا، وَقَدْ قُلْتُمْ إنَّ حُكْمَ وَطْءِ الْأَمَةِ السَّابِقِ قَائِمٌ حَتَّى اُسْتُحِبَّ لَهُ لَوْ أَرَادَ بَيْعَهَا أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، وَمَا قِيلَ حَالَةَ صُدُورِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ جَامِعًا وَطْئًا بَلْ بَعْدَ تَمَامِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فَيَتَعَقَّبُهُ لَيْسَ بِدَافِعٍ، فَإِنَّ صُدُورَهُ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ جَمْعًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ حَيْثُ كَانَ هُوَ حُكْمُهُ، وَهُوَ لَازِمٌ بَاطِلٌ شَرْعًا وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي صَفَحَاتِ كَلَامِهِمْ مَوَاضِعُ عَلَّلُوا الْمَنْعَ فِيهَا بِمِثْلِهِ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ هَذَا اللَّازِمَ بِيَدِهِ إزَالَتُهُ فَلَيْسَ لَازِمًا عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ فَلَا يَضُرُّ بِالصِّحَّةِ وَيُمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ بَعْدَهَا لِقِيَامِهِ إذْ ذَاكَ (قَوْلُهُ وَلَا يَطَأُ الْأَمَةَ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَطَأُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ حَتَّى يُحَرِّمَ الْأَمَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ كَبَيْعِ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ وَالْهِبَةِ مَعَ التَّسْلِيمِ وَالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ وَالتَّزْوِيجِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا تَحِلُّ الْمَنْكُوحَةُ بِالْكِتَابَةِ. وَعَنْهُ: لَوْ مَلَكَ فَرْجَهَا غَيْرُهُ لَا تَحِلُّ الْمَنْكُوحَةُ حَتَّى تَحِيضَ الْمَمْلُوكَةُ حَيْضَةً بَعْدَ وَطْئِهَا لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا حَامِلًا مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ حَلَّتْ الْمَنْكُوحَةُ بِمُجَرَّدِ التَّمْلِيكِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: تَحِلُّ الْمَنْكُوحَةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَرْقُوقَةِ
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطَأْ الْمَنْكُوحَةَ) لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا، وَلَا يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِلْجَمْعِ إلَّا إذَا حَرَّمَ الْمَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَحِينَئِذٍ يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ، وَيَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَطْئًا إذْ الْمَرْقُوقَةُ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهمَا أُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا) لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ،
بِسَبَبٍ لِأَنَّ حُرْمَةَ وَطْئِهَا قَدْ ثَبَتَتْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ التَّحْرِيمِ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَأُجِيبُوا بِأَنَّ حُكْمَ وَطْءِ الْمَرْقُوقَةِ قَائِمٌ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ بَيْعَهَا اُسْتُحِبَّ لَهُ اسْتِبْرَاؤُهَا، فَبِالْوَطْءِ يَكُونُ جَامِعًا وَطْئًا حُكْمًا وَإِطْلَاقُ الْآيَةِ يَمْنَعُهُ، هَذَا كَلَامُهُمْ وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِمَا وَعَدْنَاهُ آنِفًا، وَهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، بِخِلَافِ الْفَاسِدِ إلَّا إذَا دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ لِوُجُودِ الْجَمْعِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ وَطْءٌ مُعْتَبَرٌ تَتَرَتَّبُ الْأَحْكَامُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَرْقُوقَةَ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا) لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَمْ يُوضَعْ لِلْوَطْءِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا بِدَعْوَى.
[فَرْعٌ]
لَوْ اشْتَرَى أُخْتَيْنِ لَيْسَ لَهُ وَطْؤُهُمَا، فَإِنْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى حَتَّى يُحَرِّمَ الْمَوْطُوءَةَ بِسَبَبٍ، وَلَوْ وَطِئَهَا أَثِمَ ثُمَّ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُخْرَى بِسَبَبٍ. وَلَوْ بَاعَ إحْدَاهُمَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ رُدَّتْ إلَيْهِ الْمَبِيعَةُ أَوْ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ أَوْ طَلُقَتْ الْمَنْكُوحَةُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ يَحِلَّ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُخْرَى بِسَبَبٍ كَمَا كَانَ أَوَّلًا
(قَوْلُهُ فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّهمَا الْأُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا) هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ، وَقَيَّدَ بِعُقْدَتَيْنِ إذْ لَوْ كَانَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ بَطَلَا يَقِينًا وَبِعَدَمِ عِلْمِ الْأَوَّلِيَّةِ، إذْ لَوْ عَلِمَ صَحَّ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ وَبَطَلَ الثَّانِي، وَلَهُ وَطْءُ الْأُولَى إلَّا أَنْ يَطَأَ الثَّانِيَةَ فَتَحْرُمُ الْأُولَى إلَى انْقِضَاءِ عِدَّةِ الثَّانِيَةِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ حَيْثُ تَحْرُمُ امْرَأَتُهُ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّةُ ذَاتِ الشُّبْهَةِ. وَفِي الدِّرَايَةِ عَنْ الْكَامِلِ: لَوْ زَنَى بِإِحْدَى الْأُخْتَيْنِ لَا يَقْرَبُ الْأُخْرَى حَتَّى تَحِيضَ الْأُخْرَى حَيْضَةً وَهَذَا مُشْكِلٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ مَعَ التَّجْهِيلِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ لِلضَّرَرِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ (وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْأُولَى مِنْهُمَا، وَانْعَدَمَتْ الْأَوْلَوِيَّةُ لِلْجَهْلِ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِمَا، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا الْأُولَى أَوْ الِاصْطِلَاحِ لِجَهَالَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ.
قَوْلُهُ وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ) طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا وَنَسِيَهَا حَيْثُ يُؤْمَرُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يُفَارِقُ الْكُلَّ. وَأُجِيبَ بِإِمْكَانِهِ هُنَاكَ لَا هُنَا لِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ كَانَ مُتَيَقَّنُ الثُّبُوتِ، فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ نِكَاحَ مَنْ شَاءَ مُعَيَّنَةً مِنْهُنَّ تَمَسُّكًا بِمَا كَانَ مُتَيَقَّنًا وَلَمْ يَثْبُتْ هُنَا نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا، فَدَعْوَاهُ حِينَئِذٍ تَمَسُّكٌ بِمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ثُبُوتُهُ (قَوْلُهُ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ مَعَ التَّجْهِيلِ) أَيْ تَنْفِيذُ نِكَاحِهِمَا مَعَ جَهْلِ الْمُحَلَّلَةِ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَوْ تَنْفِيذُ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا مَعَ تَجْهِيلِهِ بِأَنْ يُنْفِذَ الْأَحَدَ الدَّائِرَ بَيْنَهُمَا (لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ) وَهُوَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ إذْ لَا يَقَعُ إلَّا فِي مُعَيَّنَةِ وَلَا حِلَّ فِي الْمُعَيَّنَةِ (أَوْ لِلضَّرَرِ) عَلَيْهِ بِإِلْزَامِهِ النَّفَقَةَ وَسَائِرَ الْمُوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَلَيْهَا بِصَيْرُورَتِهَا مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلَا مُطَلَّقَةً وَلِتَضَرُّرِ الْأُولَى لَوْ وَقَعَ تَعْيِينُهُ لِغَيْرِهَا وَهِيَ الصَّحِيحَةُ وَالثَّانِيَةُ لِوُقُوعِهَا فِي الْوَطْءِ الْحَرَامِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِعَدَمِ قَصْدِ التَّجَانُفِ لِإِثْمٍ، وَلَوْ قَالَ وَلِلضَّرَرِ بِالْوَاوِ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَازِمٌ لِلتَّنْفِيذِ مَعَ التَّجْهِيلِ (فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَاقٌ حَتَّى يَنْقُصَ مِنْ طَلَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا طَلْقَةً لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ لِلْحَالِ أَوْ بَعْدَهُ بِهِمَا فَلَيْسَ لَهُ بِأَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَاءَ حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهُمَا.
وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّةُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَلَهُ تَزَوُّجُ الَّتِي لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتَهَا دُونَ الْأُخْرَى كَيْ لَا يَصِيرُ جَامِعًا، وَإِنْ بَعْدَهُ بِإِحْدَاهُمَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْحَالِ دُونَ الْأُخْرَى فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَمْنَعُ مِنْ تَزَوُّجِ أُخْتِهَا (قَوْلُهُ وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ) الْمُسَمَّى لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ قَبْلَ الدُّخُولِ مَعَ تَسَاوِي مَهْرَيْهِمَا جِنْسًا وَقَدْرًا سَوَاءً بَرْهَنَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهَا سَابِقَةٌ أَوْ ادَّعَتْهُ فَقَطْ، أَمَّا لَوْ قَالَتَا لَا نَدْرِي السَّابِقَةَ مِنَّا لَمْ يَقْضِ بِشَيْءٍ فَلَوْ كَانَ التَّفْرِيق بَعْدَ الدُّخُول وَجَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَهْرَهَا كَامِلًا. وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَقْضِي بِمَهْرٍ كَامِلٍ وَعُقْرٍ كَامِلٍ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا اتَّحَدَ الْمُسَمَّى لَهُمَا قَدْرًا وَجِنْسًا، أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِيهِ فَيَتَعَذَّرُ إيجَابُ عُقْرٍ إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى بِجَعْلِهَا ذَاتَ الْعُقْرِ مِنْ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ فَرْعُ الْحُكْمِ بِأَنَّهَا
(وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا» وَهَذَا مَشْهُورٌ،
الْمَوْطُوءَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْفَاسِدَ لَيْسَ حُكْمُ الْوَطْءِ فِيهِ إذَا سُمِّيَ فِيهِ الْعُقْرُ بَلْ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا جِنْسًا أَوْ قَدْرًا قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بِرُبْعِ مَهْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ تَجِبُ مُتْعَةُ وَاحِدَةٍ لَهُمَا بَدَلُ نِصْفِ الْمَهْرِ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ثَابِتَةٌ بَيْنَ كُلِّ مَنْ لَا يَجُوزُ جَمْعُهُ مِنْ الْمَحَارِمِ، وَالتَّقْيِيدُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: أَيْ دَعْوَاهَا أَنَّهَا الْأُولَى أَوْ يَصْطَلِحَانِ بِأَنْ يَقُولَا نِصْفَ الْمَهْرِ لَنَا عَلَيْهِ لَا يَعْدُونَا فَنَصْطَلِحُ عَلَى أَخْذِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ يَنْدَفِعُ بِهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُمَا لِجَهَالَةِ الْمَقْضِيِّ لَهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَحَدِ هَذَيْنِ عِنْدِي أَلْفٌ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ لِجَهَالَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ مَهْرًا كَامِلًا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ أَقَرَّ بِجَوَازِ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا فَيَجِبُ مَهْرٌ كَامِلٌ. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إيجَابُ الْقَضَاءِ بِمَا تَحَقَّقَ عَدَمُ لُزُومِهِ، فَإِنَّ إيجَابَ كَمَالِهِ حُكْمُ الْمَوْتِ أَوْ الدُّخُولِ
(قَوْلُهُ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا) تَكْرَارٌ لِغَيْرِ دَاعٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الْجَمْعِ، بِخِلَافِ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَنْعُ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا مَنْعَ الْقَلْبِ لِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ بِمَنْعِ نِكَاحِ ابْنَةِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ عَلَيْهِمَا دُونَ إدْخَالِهِمَا عَلَى الِابْنَةِ لِزِيَادَةِ تَكَرُّمَتِهِمَا عَلَى الِابْنَةِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَيُؤْنِسُهُ حُرْمَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ مَعَ جَوَازِ الْقَلْبِ فَكَانَ التَّكْرَارُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَلَا يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَغَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى قَوْلِ:«لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا» . انْتَهَى فِي الصَّحِيحَيْنِ (قَوْلُهُ وَهَذَا مَشْهُورٌ) أَعْنِي الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ ثَابِتٌ فِي صَحِيحَيْ مُسْلِمٍ وَابْنِ حَبَّانِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَتَلَقَّاهُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ بِالْقَبُولِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرَوَاهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْهُمْ
يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ.
(وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) لِأَنَّ
أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهم (فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ) يَعْنِي بِالزِّيَادَةِ هُنَا تَخْصِيصُ عُمُومٍ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} لَا الزِّيَادَةُ الْمُصْطَلَحَةُ مِنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَنَّ الْعُمُومَ الْمَذْكُورَ مَخْصُوصٌ بِالْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَبَنَاتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ أَيْضًا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى كَوْنِهِ مَشْهُورًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ادِّعَاءِ الشُّهْرَةِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقِعُهُ النَّسْخُ لَا التَّخْصِيصُ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} نَاسِخٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} إذْ لَوْ تَقَدَّمَ لَزِمَ نَسْخُهُ بِالْآيَةِ فَلَزِمَ حِلُّ الْمُشْرِكَاتِ وَهُوَ مُنْتَفٍ أَوْ تَكْرَارُ النَّسْخِ وَحَاصِلُهُ خِلَافُ الْأَصْلِ.
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنْ يَكُونَ السَّابِقُ حُرْمَةَ الْمُشْرِكَاتِ ثُمَّ يُنْسَخُ بِالْعَامِّ وَهُوَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ثُمَّ يَجِبُ تَقْدِيرُ نَاسِخٍ آخَرَ لِأَنَّ الثَّابِتَ الْآنَ الْحُرْمَةُ
(قَوْلُهُ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) ثَنَّى بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْفَرْعِ بِأَصْلٍ كُلِّيٍّ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ كَحُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ عَمَّتَيْنِ وَخَالَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ أُمَّ الْآخَرِ فَيُولَدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِنْتٌ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْبِنْتَيْنِ عَمَّةً لِلْأُخْرَى، أَوْ يَتَزَوَّجُ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ بِنْتَ الْآخَرِ وَيُولَدُ لَهُمَا بِنْتَانِ فَكُلٌّ مِنْ الْبِنْتَيْنِ خَالَةٌ لِلْأُخْرَى فَيَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ «فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عِيسَى بْن طَلْحَةَ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى قَرِيبَتِهَا مَخَافَةَ الْقَطِيعَةِ»
الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ مُحَرِّمَةٌ لِلْقَطْعِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ يَحْرُمُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ.
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبِنْتِ زَوْجٍ كَانَ لَهَا مِنْ قَبْلُ) لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا رَضَاعَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ابْنَةَ الزَّوْجِ لَوْ قَدَّرْتَهَا ذَكَرًا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ. قُلْنَا: امْرَأَةُ الْأَبِ لَوْ صَوَّرْتَهَا ذَكَرًا جَازَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَذِهِ وَالشَّرْطُ أَنْ يُصَوَّرَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
فَأَوْجَبَ تَعْدِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْجَمْعِ إلَى كُلِّ قَرَابَةٍ يُفْرَضُ وَصْلُهَا وَهُوَ مَا تَضَمُّنُهُ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ، وَبِهِ تَثْبُتُ الْحُجَّةُ عَلَى الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيِّ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ فِي إبَاحَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ غَيْرِ الْأُخْتَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي خُصُوصِ الْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ حَدِيثٌ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبَيْنَ الْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ» وَإِنْ تَكَلَّمَ فِي خُصَيْفٍ فَالْوَجْهُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَهَذَا مُؤَيِّدٌ (قَوْلُهُ وَالْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ) أَيْ بِمُقْتَضَى آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ (مُحَرِّمَةُ لِلْقَطْعِ) عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ فِيهِمَا وَفِي الْجَمْعِ الْقَطْعُ فَلَا يَحِلُّ.
وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ مُحَرَّمَةٌ لِلْقَطْعِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فِي الثَّانِي أَيْ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِلْقَطْعِ فَإِنَّهُ عَادَةٌ يَقَعُ التَّشَاجُرُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ فَيُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ فَلِذَلِكَ حُرِّمَتْ تِلْكَ الْقَرَابَاتُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِنَّ فِي الْآيَةِ أَعْنِي {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إلَى آخِرِهَا عَلَى الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا غَيْرُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمُنَافَاةِ الِاحْتِرَامِ الْوَاجِبِ لِلْأُمَّهَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ بِالِافْتِرَاشِ فَيُمْكِنُ إدْرَاجُهُ فِي الْقَطِيعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَفْضَى إلَيْهِ لِأَكْثَرِيَّةِ الْمُضَارَّةِ بَيْنَ الضَّرَائِرَ فَكَانَتْ حُرْمَةُ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ حُرْمَةِ الْأَقَارِبِ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ (بِسَبَبِ الرَّضَاعِ لَا يَحِلُّ الْجَمْعُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلِ) وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ امْرَأَةٍ وَابْنَةِ أَخٍ لَهَا مِنْ الرَّضَاعِ لِأَنَّهَا عَمَّتُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ وَابْنَةِ أُخْتِهَا مِنْ الرَّضَاعِ لِأَنَّهَا خَالَتُهَا مِنْ الرَّضَاعِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا رَضَاعَ) يَعْنِي أَنَّ الْمُوجِبَ لِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْأَصْلِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَكَرًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى هُوَ قِيَامُ الْقَرَابَةِ الْمُفْتَرَضُ وَصْلُهَا أَوْ الرَّضَاعِ الْمُفْتَرَضُ وَصْلُ مُتَعَلَّقِهِ وَاحْتِرَامُهُ، حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ عَمَّةٍ أَوْ خَالَةٍ وَابْنَةِ أَخٍ أَوْ أُخْتٍ مِنْ الرَّضَاعِ.
وَكَذَا كُلُّ مَحْرَمِيَّةٍ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي الرَّبِيبَةِ وَزَوْجَةِ الْأَبِ فَكَانَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا قَوْلًا لَا بِدَلِيلٍ. وَهَذِهِ أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّبِيبَةِ وَزَوْجَةِ أَبِيهَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَقَدْ جَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ زَوْجَةِ عَلِيٍّ وَبِنْتِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَازِ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ قُثَمَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بِنْتَ عَلِيٍّ وَامْرَأَةَ عَلِيٍّ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. قَالَ: وَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ وَتَعْلِيقَاتُهُ صَحِيحَةٌ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً.
ثُمَّ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَيَتَزَوَّجَ
قَالَ (وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِالْمَحْظُورِ.
ابْنَهُ أُمِّهَا أَوْ بِنْتِهَا لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ. وَقَدْ تَزَوَّجَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ امْرَأَةً وَزَوَّجَ ابْنَهُ بِنْتَهَا
(قَوْلُهُ وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا) أَيْ وَإِنْ عَلَتْ، فَتَدْخُلُ الْجَدَّاتُ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ الْأُمَّ هِيَ الْأَصْلُ لُغَةً (وَابْنَتُهَا) وَإِنْ سَفَلَتْ، وَكَذَا تَحْرُمُ الْمَزْنِيُّ بِهَا عَلَى آبَاءِ الزَّانِي وَأَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا وَأَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا هَذَا إذَا لَمْ يَفُضَّهَا الزَّانِي، فَإِنْ أَفْضَاهَا لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْحُرُمَاتُ لِعَدَمِ تَيَقُّنِ كَوْنِهِ فِي الْفَرْجِ إلَّا إذَا حَبِلَتْ وَعُلِمَ كَوْنُهُ مِنْهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: أَكْرَهُ لَهُ الْأُمَّ وَالْبِنْتَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: التَّنَزُّهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَكِنْ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهَا. وَقَدْ يُقَالُ: إذَا كَانَ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ تَنْتَشِرُ بِهَا الْآلَةُ مُحَرَّمًا يَجِبُ الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ إذَا أَفْضَاهَا إنْ لَمْ يُنْزِلْ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، وَإِنْ انْتَشَرَ مَعَهُ أَوْ زَادَ انْتِشَارُهُ كَمَا فِي غَيْرِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ الْوَطْءُ السَّبَبُ لِلْوَلَدِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِالْمَسِّ لَيْسَ إلَّا لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِهَذَا الْوَطْءِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي صُورَةِ الْإِفْضَاءِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُهُ فِي الْقَبْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مُشْتَهَاةً حَالًا أَوْ مَاضِيًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا وَطِئَ صَغِيرَةً لَا تُشْتَهَى تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ قِيَاسًا عَلَى الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْعِلَّةَ وَطْءُ سَبَبٍ لِلْوَلَدِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى. بِخِلَافِ الْكَبِيرَةِ لِجَوَازِ وُقُوعِهِ كَإِبْرَاهِيمَ وَزَكَرِيَّا عليهما السلام.
وَلَهُ أَنْ يَقُولَ الْإِمْكَانُ الْعَقْلِيُّ ثَابِتٌ فِيهِمَا وَالْعَادِي مُنْتَفٍ عَنْهُمَا فَتَسَاوَيَا، وَالْقِصَّتَانِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ لَا تُوجِبَانِ الثُّبُوتَ الْعَادِيَ وَلَا تُخْرِجَانِ الْعَادَةَ عَنْ النَّفْيِ. وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ حُرْمَةٌ خِلَافًا لِمَا عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَوَجْهُهُ مَا تَضَمُّنُهُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ. وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٌ فِي أُخْرَى، وَقَوْلُنَا قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَصَحِّ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَجَابِرٍ وَأُبَيُّ وَعَائِشَةَ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ كَالْبَصْرِيِّ وَالشُّعَبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيَّ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
وَلَوْ وُلِدَتْ مِنْهُ بِنْتًا بِأَنْ زَنَى بِبِكْرٍ وَأَمْسَكَهَا حَتَّى وَلَدَتْ بِنْتًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْبِنْتُ لِأَنَّهَا بِنْتُهُ حَقِيقَةً وَإِنْ لَمْ تَرِثْهُ وَلَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ وَلَمْ تَصِرْ أُمَّهَاتُهَا أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلَدُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ عَارَضَهُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وَالْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَائِهِ بِنْتُهُ حَقِيقَةً لُغَةً، وَلَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ فِي اسْمِ الْبِنْتِ وَالْوَلَدِ شَرْعًا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى حُرْمَةِ الِابْنِ مِنْ الزِّنَا عَلَى أُمِّهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ مِمَّا اُعْتُبِرَ فِيهِ جِهَةُ الْحَقِيقَةِ. ثُمَّ هُوَ الْجَارِي عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الْخُرُوجِ، وَبِحُرْمَةِ الْبِنْتِ مِنْ الزِّنَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ أُخْتُهُ مِنْ الزِّنَا وَبِنْتُ أَخِيهِ وَبِنْتُ أُخْتِهِ أَوْ ابْنُهُ مِنْهُ بِأَنْ زَنَى أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ أُخْتُهُ أَوْ ابْنُهُ فَأَوْلَدُوا بِنْتًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الْأَخِ وَالْعَمِّ
وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ حَتَّى يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلًا فَتَصِيرُ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا كَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَكَذَلِكَ عَلَى الْعَكْسِ،
وَالْخَالُ وَالْجَدُّ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ) اعْلَمْ أَنَّ الدَّلِيلَ يَتِمُّ بِأَنْ يُقَالَ هُوَ وَطْءٌ سَبَبٌ لِلْوَلَدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ قِيَاسًا عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ بِنَاءً عَلَى إلْغَاءِ وَصْفِ الْحِلِّ فِي الْمَنَاطِ وَهُوَ يَعْتَبِرُهُ فَهَذَا مُنْشَأُ الِافْتِرَاقِ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ إلْغَاءَهُ شَرْعًا بِأَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَجَارِيَةِ الِابْنِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَأَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءِ وَوَطْءَ الْمُحْرِمِ وَالصَّائِمِ كُلُّهُ حَرَامٌ وَتَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ الْمَذْكُورَةُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأَصْلِ هُوَ ذَاتُ الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِكَوْنِهِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا. وَمَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامَ» غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، أَرَأَيْت لَوْ بَالَ أَوْ صَبَّ خَمْرًا فِي مَاءٍ قَلِيلٍ مَمْلُوكٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا مَعَ أَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فَيَجِبُ كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّ الْحَرَامَ لَا يَحْرُمُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَرَامًا، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ إذَا لَمْ نَقُلْ بِإِثْبَاتِ الزِّنَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ زِنًا بَلْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَطْئًا، هَذَا لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ، لَكِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُضَعَّفٌ بِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِي عَلَى مَا طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ بِالْكَذِبِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ قَالَ: فِي إسْنَادِهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي فَرْوَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ ضُعِّفَ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ قُضَاةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقِيلَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَالَفَهُ كِبَارُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ، إمَّا لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ أَوْ مَجَازٌ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةٍ قَوْله تَعَالَى {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا} وَإِنَّمَا الْفَاحِشَةُ الْوَطْءُ لَا نَفْسُ الْعَقْدِ. وَيُمْكِنُ مَنْعُ هَذَا بَلْ نَفْسُ لَفْظِهِ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّارِعُ لِاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ إذَا ذُكِرَ لِاسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ: أَيْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِنَّ لَهُمْ بَعْدَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ قَبِيحًا قَبِيحٌ، وَقَدَّمْنَا لِلْمُصَنِّفِ اعْتِبَارَ الْآيَةِ دَلِيلًا
وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَوْطُوءَةُ، وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ الْوَلَدِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا.
(وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا)
عَلَى تَحْرِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا لِلْأَبِ.
وَقَدْ رَوَى أَصْحَابُنَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْهَا «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ بِامْرَأَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَفَأَنْكِحُ ابْنَتَهَا؟ قَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحَ امْرَأَةً تَطَّلِعُ مِنْ ابْنَتِهَا عَلَى مَا تَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْهَا» وَهُوَ مُرْسَلٌ وَمُنْقَطِعٌ، وَفِيهِ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمِّ حَكِيمٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الَّذِي يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيَغْمِزُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ: لَا يَتَزَوَّجُ ابْنَتَهَا» وَهُوَ مُرْسَلٌ وَمُنْقَطِعٌ، إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ الرِّجَالُ ثِقَاتٍ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَنْقُولَاتِ تَكَافَأَتْ، وَقَوْلُهُ نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِالْمَحْظُورِ مَغْلَطَةٌ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ لَيْسَتْ التَّحْرِيمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَحْرِيمٌ لِأَنَّهُ تَضْيِيقٌ، وَلِذَا اتَّسَعَ الْحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُصَاهَرَةِ، فَحَقِيقَةُ النِّعْمَةِ هِيَ الْمُصَاهَرَةُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُصَيِّرُ الْأَجْنَبِيُّ قَرِيبًا وَعَضُدًا وَسَاعِدًا يُهِمُّهُ مَا أَهَمَّكَ وَلَا مُصَاهَرَةَ بِالزِّنَا، فَالصِّهْرُ زَوْجُ الْبِنْتِ مَثَلًا لَا مَنْ زَنَى بِبِنْتِ الْإِنْسَانِ فَانْتَفَى الصِّهْرِيَّةُ.
وَفَائِدَتُهَا أَيْضًا إذْ الْإِنْسَانُ يَنْفِرُ عَنْ الزَّانِي بِبِنْتِهِ فَلَا يَتَعَرَّفُ بِهِ بَلْ يُعَادِيه فَأَنَّى يَنْتَفِعُ بِهِ؟ فَالْمَرْجِعُ الْقِيَاسُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ إلْغَاءَ وَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى كَوْنِهِ وَطْئًا، وَظَهَرَ أَنَّ حَدِيثَ الْجُزْئِيَّةِ وَإِضَافَةَ الْوَلَدِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلًا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي تَمَامِ الدَّلِيلِ، إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَهُ بَيَانًا لِحِكْمَةِ الْعِلَّةِ: يَعْنِي أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِهَذَا الْوَطْءِ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْجُزْئِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ الْمُضَافِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلًا، وَهُوَ إنْ انْفَصَلَ فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَاطٍ مَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاخْتِلَاطَ لَا يَحْتَاجُ تَحَقُّقُهُ إلَى الْوَلَدِ وَإِلَّا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ بِوَطْءٍ غَيْرِ مُعَلَّقٍ وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ فَتَضَمَّنَتْ جُزْأَهُ (وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ» (إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ) وَإِلَّا لَاسْتَلْزَمَ الْبَقَاءُ مُتَزَوِّجًا حَرَجًا عَظِيمًا تَضِيقُ عَنْهُ الْأَمْوَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِذَا تَضَمَّنَتْ جُزْأَهُ صَارَتْ أُمَّهَاتُهَا كَأُمَّهَاتِهِ وَبَنَاتُهَا كَبَنَاتِهِ فَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ كَمَا تَحْرُمُ أُمَّهَاتُهُ وَبَنَاتُهُ حَقِيقَةً. أَوْ نَقُولُ وَهُوَ الْأَوْجُهُ: إنَّ بِالِانْفِصَالِ لَا تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَهِيَ الْمَدَارُ. وَعِنْدَ عَدَمِ الْعُلُوقِ غَايَةُ مَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْمَظِنَّةِ خَالِيَةً عَنْ الْحِكْمَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّعْلِيلُ كَالْمِلْكِ الْمُرَفِّهِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ) أَيْ بِدُونِ حَائِلٍ أَوْ بِحَائِلٍ رَقِيقٍ تَصِلُ مَعَهُ حَرَارَةُ الْبَدَنِ إلَى الْيَدِ. وَقِيلَ الْمَدَارُ وُجُودُ الْحَجْمِ، وَفِي مَسِّ الشَّعْرِ رِوَايَتَانِ، وَنُقِلَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ وَمَسُّهُ امْرَأَةً كَذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهَا مُشْتَهَاةً حَالًا أَوْ مَاضِيًا، فَلَوْ مَسَّ عَجُوزًا بِشَهْوَةٍ أَوْ جَامَعَهَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تُشْتَهَى، قَالَ ابْنُ الْفَضْلِ: بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ مُشْتَهَاةٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَبِنْتُ خَمْسِ سِنِينَ فَمَا دُونَهَا لَا بِلَا تَفْصِيلٍ، وَبِنْتُ ثَمَانٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ سِتٍّ إنْ كَانَتْ عَبْلَةً كَانَتْ مُشْتَهَاةً وَإِلَّا فَلَا. وَكَذَا يَشْتَرِطُ فِي الذَّكَرِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ ابْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ زَوْجَةَ أَبِيهِ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَهَذَا مَا وَعُدْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ. وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْمَسِّ بَيْنَ كَوْنِهِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ مُخْطِئًا، حَتَّى لَوْ أَيْقَظَ زَوْجَتَهُ لِيُجَامِعَهَا فَوَصَلَتْ يَدُهُ إلَى بِنْتِهِ مِنْهَا فَقَرَصَهَا بِشَهْوَةٍ وَهِيَ مِمَّنْ تُشْتَهَى يَظُنُّ أَنَّهَا أُمُّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُمُّ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، وَلَك أَنْ تُصَوِّرَهَا مِنْ جَانِبِهَا بِأَنْ أَيْقَظَتْهُ هِيَ كَذَلِكَ فَقَرَصَتْ ابْنَهُ مِنْ غَيْرِهَا وَقَوْلُهُ بِشَهْوَةٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيُفِيدُ اشْتِرَاطَ الشَّهْوَةِ حَالَ الْمَسِّ، فَلَوْ مَسَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ثُمَّ اشْتَهَى عَنْ ذَلِكَ الْمَسِّ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ. وَمَا ذَكَرَ فِي حَدِّ الشَّهْوَةِ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ أَوْ تَزْدَادُ انْتِشَارًا هُوَ قَوْلُ السَّرَخْسِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمْ يَشْتَرِطُوا سِوَى أَنْ يَمِيلَ قَلْبَهُ إلَيْهَا وَيَشْتَهِي جِمَاعَهَا، وَفُرِّعَ عَلَيْهِ مَا لَوْ انْتَشَرَ فَطَلَبَ امْرَأَتَهُ فَأَوْلَجَ بَيْنَ فَخْذَيْ بِنْتِهَا خَطَأً لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْأُمُّ مَا لَمْ يَزْدَدْ الِانْتِشَارُ. ثُمَّ هَذَا الْحَدُّ فِي حَقِّ الشَّابِّ أَمَّا الشَّيْخُ وَالْعِنِّينُ فَحَدُّهَا تَحَرُّكُ قَلْبِهِ أَوْ زِيَادَةُ تَحَرُّكِهِ إنْ كَانَ مُتَحَرِّكًا لَا مُجَرَّدَ مَيَلَانِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ يُوجَدُ فِيمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ أَصْلًا كَالشَّيْخِ الْفَانِي، وَالْمُرَاهِقُ كَالْبَالِغِ، حَتَّى لَوْ مَسَّ وَأَقَرَّ أَنَّهُ بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ مُقَاتِلٍ لَا يُفْتِي بِالْحُرْمَةِ عَلَى هَذَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا تَحَرُّكُ الْآلَةِ. ثُمَّ وُجُودُ الشَّهْوَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا كَافٍ وَلَمْ يَحُدُّوا الْحَدَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ وَأَقَلُّهُ تَحَرُّكُ الْقَلْبِ عَلَى وَجْهٍ يُشَوِّشُ الْخَاطِرَ. هَذَا وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِمَسِّهَا مَشْرُوطٌ بِأَنْ يُصَدِّقَهَا أَوْ يَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ صِدْقُهَا. وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي مَسِّهِ إيَّاهَا: لَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَاهُ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِمَا صِدْقُهُ.
ثُمَّ رَأَيْت عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَمَالِي مَا يُفِيدُ ذَلِكَ، قَالَ: امْرَأَةٌ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا وَقَالَتْ كَانَ عَنْ شَهْوَةٍ، إنْ كَذَّبَهَا الزَّوْجُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ صَدَّقَهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَرْجِعُ بِهِ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ إنْ تَعَمَّدَ الْفَسَادَ. وَلَوْ وَطِئَهَا الِابْنُ حَتَّى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الِابْنِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِهَذَا الْوَطْءِ فَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ، وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ بِشَهْوَةٍ. وَلَوْ أَقَرَّ بِالتَّقْبِيلِ وَأَنْكَرَ الشَّهْوَةَ وَلَمْ يَكُنْ انْتِشَارٌ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ وَالْمُنْتَقَى يُصَدَّقُ. وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: لَا يُصَدَّقُ لَوْ قَبَّلَهَا عَلَى الْفَمِ. قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الْإِمَامُ خَالِي. وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: يُصَدَّقُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، حَتَّى رَأَيْته أَفْتَى فِي الْمَرْأَةِ إذَا أَخَذَتْ ذَكَرَ الْخَتَنِ فِي الْخُصُومَةِ فَقَالَتْ كَانَ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ أَنَّهَا تُصَدَّقُ اهـ.
وَلَا إشْكَالَ فِي هَذَا، فَإِنَّ وُقُوعَهُ فِي حَالَةِ الْخُصُومَةِ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الشَّهْوَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَّلَهَا مُنْتَشِرًا فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى عَدَمِ الشَّهْوَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالنَّظَرِ وَأَنْكَرَ الشَّهْوَةَ صُدِّقَ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الْمُبَاشَرَةِ إذَا قَالَ بِلَا شَهْوَةٍ لَا يُصَدَّقُ بِلَا خِلَافٍ فِيمَا أَعْلَمُ، وَفِي التَّقْبِيلِ إذَا أَنْكَرَ الشَّهْوَةَ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قِيلَ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ شَهْوَةٍ غَالِبًا فَلَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خِلَافُهُ بِالِانْتِشَارِ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ يُقْبَلُ، وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ كَوْنِهِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدِّ فَيُصَدَّقُ أَوْ عَلَى الْفَمِ فَلَا، وَالْأَرْجَحُ هَذَا إلَّا أَنَّ الْخَدَّ يَتَرَاءَى إلْحَاقُهُ بِالْفَمِ،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تَحْرُمُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَسُّهُ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ وَنَظَرُهُ إلَى فَرْجِهَا وَنَظَرُهَا إلَى ذَكَرِهِ عَنْ شَهْوَةٍ. لَهُ أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ لَيْسَا فِي مَعْنَى الدُّخُولِ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ فَلَا يَلْحَقَانِ بِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مُقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، ثُمَّ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ أَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ أَوْ تَزْدَادَ انْتِشَارًا هُوَ الصَّحِيحُ،
وَيُحْمَلُ مَا فِي الْجَامِعِ فِي بَابِ قَبُولِ مَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا الْمُدَّعِيَ تَزَوَّجَ أُمَّهَا أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بِشَهْوَةٍ قَيْدٌ فِي اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ الْقُبْلَةِ عَلَى الْفَمِ وَنَحْوِهِ أَوْ فِي اللَّمْسِ فَقَطْ إنْ أُرِيدَ غَيْرُ الْفَمِ وَنَحْوِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّعْوَى إذَا وَافَقَتْ الظَّاهِرَ قُبِلَتْ وَإِلَّا رُدَّتْ فَيُرَاعَى الظُّهُورُ. وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ جَارِيَةٌ فَقَالَ وَطِئْتُهَا لَا تَحِلُّ لِابْنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ تَحِلُّ لِابْنِهِ إنْ كَذَّبَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَحْرُمُ) قِيلَ عَلَيْهِ إنَّ ثُبُوتَ خِلَافِهِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَسَّ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ هُنَا مَفْرُوضٌ فِي الْحَلَالِ وَإِنْ كَانَ لَا تَفَاوُتَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْمَسِّ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَثُبُوتُ خِلَافِهِ فِي الْمَسِّ الْحَلَالِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالسَّابِقَةِ. وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ فَرْضِ كَوْنِ الْمَمْسُوسِ أَمَتَهُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ حَيْثُ قَالَ الْمُرَادُ بِالْمَرْأَةِ الْمَنْظُورِ إلَيْهَا: يَعْنِي الَّتِي فِيهَا خِلَافُ الشَّافِعِيِّ الْأَمَةُ: يَعْنِي أَمَتَهُ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرَادَ الْمَنْكُوحَةُ أَوْ الْأَجْنَبِيَّةُ أَوْ الْأَمَةُ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ أُمَّ الْمَنْكُوحَةِ حَرُمَتْ بِالْعَقْدِ وَبِنْتَهَا بِالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ، لَا أَنَّ حُرْمَتَهُمَا جَمِيعًا بِالنَّظَرِ وَالْمَسِّ فَلَا يَسْتَقِيمُ فِي الْمَنْكُوحَةِ إلَّا فَائِدَةُ التَّحْرِيمِ فِي الرَّبِيبَةِ دُونَ الْأُمِّ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ لِأَنَّ الدُّخُولَ
وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ الدَّاخِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ اتِّكَائِهَا، وَلَوْ مَسَّ فَأَنْزَلَ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُهَا لِأَنَّهُ بِالْإِنْزَالِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ، وَعَلَى هَذَا إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي الدُّبُرِ.
بِهَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (قَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ الدَّاخِلِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: النَّظَرُ إلَى مَنَابِتِ الشَّعْرِ مُحَرِّمٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَنْ يَنْظُرَ إلَى الشَّقِّ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْفَرْجِ، وَالدَّاخِلُ فَرْجٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْخَارِجُ فَرْجٌ مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ الْخَارِجِ مُتَعَذِّرٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ اهـ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ الثَّانِي وَيَقُولُ فِي الْأَوَّلِ: قَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ فِي فَصْلِ الْغُسْلِ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ مَا إذَا نَقَلَ نَظِيرَهُ إلَى هُنَا كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْخَارِجِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّهُ مَتَى وَجَبَ الْغُسْلُ مِنْ وَجْهٍ فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ نَفْسَ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِالْمَسِّ ثُبُوتُهُ بِالِاحْتِيَاطِ فَلَا يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِي الِاحْتِيَاطِ.
[فُرُوعٌ]
النَّظَرُ مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ إلَى الْفَرْجِ مُحَرِّمٌ، بِخِلَافِ النَّظَرِ فِي الْمِرْآةِ. وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَاءِ فَنَظَرَ فِيهِ فَرَأَى فَرْجَهَا فِيهِ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الشَّطِّ فَنَظَّرَ فِي الْمَاءِ فَرَأَى فَرْجَهَا لَا يُحَرِّمُ، كَأَنَّ الْعِلَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْئِيَّ فِي الْمِرْآةِ مِثَالُهُ لَا هُوَ، وَبِهَذَا عَلَّلُوا الْحِنْثَ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَنْظُرُ إلَى وَجْهِ فُلَانٍ فَنَظَرَهُ فِي الْمِرْآةِ أَوْ الْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّحْرِيمُ بِهِ مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ بِنَاءً عَلَى نُفُوذِ الْبَصَرِ مِنْهُ فَيَرَى نَفْسَ الْمَرْئِيِّ، بِخِلَافِ الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ، وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الْإِبْصَارِ مِنْ الْمِرْآةِ وَمِنْ الْمَاءِ بِوَاسِطَةِ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ وَإِلَّا لَرَآهُ بِعَيْنِهِ بَلْ بِانْطِبَاعٍ مِثْلُ الصُّورَةِ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْمَرْئِيِّ فِي الْمَاءِ لِأَنَّ الْبَصَرَ يَنْفُذُ فِيهِ إذَا كَانَ صَافِيًا فَيَرَى نَفْسَ مَا فِيهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا اشْتَرَى سَمَكَةً رَآهَا فِي مَاءٍ بِحَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهُ بِلَا حِيلَةٍ وَتَحْقِيقُ سَبَبِ اخْتِلَافِ الْمَرْئِيِّ فِيهِ فِي فَنٍّ آخَرَ.
ثُمَّ شَرْطُ الْحُرْمَةِ بِالنَّظَرِ أَوْ الْمَسِّ أَنْ لَا يُنْزِلَ، فَإِنْ أَنْزَلَ قَالَ الْأُوزْجَنْدِيُّ وَغَيْرُهُ: تَثْبُتُ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَالْإِنْزَالُ لَا يُوجِبُ رَفْعَهَا بَعْدَ الثُّبُوتِ. وَالْمُخْتَارُ لَا تَثْبُتُ كَقَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْبَزْدَوِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ حَالَ الْمَسِّ إلَى ظُهُورِ عَاقِبَتِهِ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ حَرُمَتْ وَإِلَّا لَا، وَالِاسْتِدْلَالُ وَاضِحٌ فِي الْكِتَابِ إلَّا أَنَّ إقَامَةَ السَّبَبِ إذَا نِيطَ الْحُكْمُ بِالْمُسَبِّبِ، إنَّمَا تَكُونُ لِخَفَاءِ الْمُسَبِّبِ، وَإِلَّا فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِغَيْرِ الْمَنَاطِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَالْأُولَى ادِّعَاءُ كَوْنِ الْمَنَاطِ شَرْعًا نَفْسُ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَحَلِّ الْوَلَدِ بِالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِالْحُرْمَةِ فِي الْمَسِّ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْغَايَةِ السَّمْعَانِيَّةِ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا» وَفِي الْحَدِيثِ «مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا» وَعَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ جَرَّدَ جَارِيَةً وَنَظَرَ إلَيْهَا ثُمَّ اسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ بَعْضُ بَنِيهِ فَقَالَ: أَمَّا إنَّهَا لَا تَحِلُّ لَك.
وَهَذَا إنْ تَمَّ كَانَ دَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ فِي كَوْنِ النَّظَرِ إلَى مَنَابِتِ الشَّعْرِ كَافِيًا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا
(وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَةً طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ يَجُوزُ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ إعْمَالًا لِلْقَاطِعِ، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ يَجِبُ الْحَدُّ. وَلَنَا أَنَّ نِكَاحَ الْأُولَى قَائِمٌ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ وَالْفِرَاشِ وَالْقَاطِعُ تَأَخَّرَ عَمَلُهُ
بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا. وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: بِيعُوا جَارِيَتِي هَذِهِ، أَمَّا إنِّي لَمْ أُصِبْ مِنْهَا إلَّا مَا يُحَرِّمُهَا عَلَى وَلَدِي مِنْ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ
(قَوْلُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهَا) وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ جَائِزٍ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ جَازَ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تُزَوَّجُ أَرْبَعٌ سِوَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ بَائِنٍ، وَبِقَوْلِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ مَذْهَبُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ ذَكَرَ فِي الْأَمَالِي رُجُوعَ زَيْدٍ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ.
حُكِيَ أَنَّ مَرْوَانَ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي هَذَا فَاتَّفَقُوا عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَخَالَفَهُمْ زَيْدٌ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمْ. وَقَالَ عُبَيْدَةُ: مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ. ثُمَّ إنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ: الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ، وَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَقَاسَ الْبَائِنَ عَلَى الثَّانِي بِجَامِعِ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ إعْمَالًا لِلْقَاطِعِ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ. وَيَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِهِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ حُدَّ. وَقِسْنَا عَلَى الْأَوَّلِ بِجَامِعِ قِيَامِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ انْقِطَاعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِنَا النِّكَاحُ قَائِمٌ حَالَ قِيَامِ الْعِصْمَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَضْلًا عَنْ حَالَةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ إلَّا قِيَامَ أَحْكَامِهِ، لِأَنَّ لَفْظَ تَزَوَّجْت وَزَوَّجْت تَلَاشَى بِمُجَرَّدِ انْقِضَائِهِ، فَقِيَامُهُ بَعْدَهُ لَيْسَ إلَّا قِيَامُ حُكْمِهِ الرَّاجِعِ إلَى الِاخْتِصَاصِ اسْتِمْتَاعًا وَإِمْسَاكًا، وَقَدْ بَقِيَ الْإِمْسَاكُ وَالْفِرَاشُ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ حَالَ قِيَامِ عِدَّةِ الْبَائِنِ فَيَبْقَى النِّكَاحُ مِنْ وَجْهٍ، وَإِذَا كَانَ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ حَرُمَ تَزَوُّجُ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٌ سِوَاهَا مِنْ وَجْهٍ فَتَحْرُمُ مُطْلَقًا إلْحَاقًا بِالرَّجْعِيِّ أَوْ بِمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا جِهَتَا تَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ مَعَ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الْفُرُوجِ.
وَيَخُصُّ تَزَوُّجَ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ دَلَالَةُ النَّصِّ الْمَانِعِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَإِنَّهُ عَلَّلَ فِيهِ بِالْقَطِيعَةِ وَهِيَ هُنَا أَظْهَرُ وَأَلْزَمُ، فَإِنَّ مُوَاصَلَةَ أُخْتِهَا فِي حَالِ حَبْسِهَا بِلَا اسْتِمْتَاعٍ أَغْيَظُ لَهَا مِنْ مُوَاصَلَتِهَا مَعَ مُشَارَكَتِهَا فِي الْمُتْعَةِ. وَالْفَرْعُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الِانْقِطَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: مُعْتَدَّةٌ عَنْ طَلَاقِ ثَلَاثٍ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ
وَلِهَذَا بَقِيَ الْقَيْدُ، وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى عِبَارَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْحِلِّ فَيَتَحَقَّقُ الزِّنَا وَلَمْ يَرْتَفِعْ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا فَيَصِيرُ جَامِعًا.
لِلزَّوْجِ إذَا أَنْكَرَهُ.
فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى نَسَبَهُ ثَبَتَ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْوَطْءَ فِي عِدَّةِ الثَّلَاثِ لَيْسَ زِنَا مُسْتَعْقَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ رِوَايَةً فِي عَدَمِ الْحَدِّ، وَإِنْ سَلَّمَ كَمَا فِي عِبَارَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ فَغَايَةُ مَا يُفِيدُ انْقِطَاعُ الْحِلِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَقَدْ قُلْنَا بِهِ عَلَى مَا سَتَسْمَعُهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ أَثَرَ النِّكَاحِ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ وَبِهِ يَقُومُ هُوَ مِنْ وَجْهٍ وَبِهِ تَحْرُمُ الْأُخْتُ مِنْ وَجْهٍ وَبِهِ تَحْرُمُ مُطْلَقًا. وَفِي الْمُجْتَبَى جَوَازُ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ يُؤَدِّي إلَى جَمْعِ مَائِهِ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ لِجَوَازِ الْعُلُوقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَيَثْبُتُ فِي الْمُعْتَدَّةِ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِالْحَدِيثِ اهـ. يَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ» وَمِثْلُهُ لَوْ عُلِّقَتْ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ دَخَلَ بِأُخْتِهَا بَعْدَهُ يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ أَيْضًا.
[فُرُوعٌ: الْأَوَّلُ]
إذَا أَخْبَرَ الْمُطَلِّقُ عَنْ الْمُطَلَّقَةِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ فَإِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْمُدَّةُ أَوْ لَا، لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ أُخْتَهَا فِي الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَلَا قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِمَا هُوَ مُحْتَمِلٌ مِنْ إسْقَاطِ سَقْطٍ مُسْتَبِينِ الْخَلْقِ. وَفِي الْأَوَّلِ يَصِحُّ نِكَاحُهُ أُخْتَهَا سَوَاءً سَكَتَتْ الْمُخْبَرُ عَنْهَا أَوْ صَدَّقَتْهُ أَوْ كَذَّبَتْهُ أَوْ كَانَتْ غَائِبَةً. وَقَالَ زُفَرُ: إذَا كَذَّبَتْهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ أُخْتَهَا لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ وَقَدْ قَبِلَ تَكْذِيبَهَا حَتَّى اسْتَمَرَّتْ نَفَقَتُهَا وَثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا أَتَتْ بِهِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالنَّفَقَةِ الْقَوْلُ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانُ النِّكَاحِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحْتَمِلٌ فَيَجِبُ قَبُولُهُ فِي الْحَالِ وَتَكْذِيبُهَا لَا يَنْفَعُ إلَّا فِي حَقِّهَا فَقُلْنَا بِبَقَاءِ النَّفَقَةِ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْأُخْتِ لَا حَقَّ لَهَا فِيهِ فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالنَّفَقَةِ الْحُكْمُ شَرْعًا بِقِيَامِ الْعِدَّةِ وَالْفِرَاشِ كَالْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَدَتْ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِنَسَبِهِ الْحُكْمَ بِإِسْنَادِ الْعُلُوقِ فَيُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْأَصْلِ هُنَا إنْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ وَكَانَ الْمِيرَاثُ لِلْأُخْرَى.
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْأُولَى دُونَ الْأُخْرَى، وَلَكِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ وَكَذَّبَتْهُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَأَمَّا الْبَائِنُ وَهُوَ فِي الصِّحَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لِلْأُولَى وَإِنْ لَمْ يُخْبَرْ الزَّوْجُ بِهَا. وَفِي كِتَابِ الطَّلَاقِ لَمَّا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَرِيضِ وَكَانَ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِمَالِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّهَا كَمَا فِي نَفَقَتِهَا وَهُنَا وَضْعُهَا فِي الصَّحِيحِ وَلَا حَقَّ لَهَا فِي مَالِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا فِي إبْطَالِ إرْثِهَا. تَوْضِيحُهُ أَنَّ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَاقِعَ
(وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ،
يَعْنِي الطَّلَاقَ صَارَ بَائِنًا، فَكَأَنَّهُ أَبَانَهَا فِي صِحَّتِهِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَلَوْ أَبَانَهَا فِي مَرَضِهِ كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ.
وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ جَعْلُ الرَّجْعِيِّ بَائِنًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَمَتَى كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْأُولَى فَلَا مِيرَاثَ لِلثَّانِيَةِ. الثَّانِي: لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ تَزَوُّجُ أُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتَهَا وَيَحِلُّ أَرْبَعٌ سِوَاهَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا تَحِلُّ الْأُخْتُ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَى تَزَوُّجِ الْأَرْبَعِ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ لَمْ تَمْنَعْ فَكَيْفَ بِالْعِدَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَثَرُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بِضَعْفِ الْفِرَاشِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَقُوَّتِهِ بَعْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَزَوُّجِهَا قَبْلَهُ لَا بَعْدَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ، فَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ كَانَ مُسْتَلْحِقًا نَسَبَ وَلَدَيْ أُخْتَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الْأَرْبَعِ سِوَاهَا، إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ فُرُشِ الْخَمْسِ وَلَا بَأْسَ بِهِ. الثَّالِثُ: لِزَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ تَزَوُّجُ أُخْتِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا كَمَا إذَا مَاتَتْ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ الْمُسْلِمِ لِلتَّبَايُنِ، فَإِنْ عَادَتْ مُسْلِمَةً فَإِمَّا بَعْدَ تَزَوُّجِ الْأُخْتِ أَوْ قَبْلَهُ؛ فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَفْسُدُ نِكَاحُ الْأُخْتِ لِعَدَمِ عَوْدِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَعُودُ الْعِدَّةُ، وَفِي إبْطَالِ نِكَاحِ أُخْتِهَا عَنْهُ رِوَايَتَانِ، وَفِي الثَّانِي كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ سُقُوطِهَا لَا تَعُودُ بِلَا سَبَبٍ جَدِيدٍ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ تَزَوُّجُ الْأُخْتِ وَعَوْدُهَا مُسْلِمَةً يَصِيرُ شَرْعًا لِحَاقُهَا كَالْغَيْبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعَادُ إلَيْهَا مَالُهَا فَتَعُودُ مُعْتَدَّةً.
(قَوْلُهُ وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ) وَلَوْ مَلَكَ بَعْضَهَا (وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا) وَإِنْ لَمْ تَمْلِكْ سِوَى سَهْمٍ وَاحِدٍ مِنْهُ. وَقَدْ حُكِيَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ الْإِجْمَاعُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَحُكِيَ غَيْرَهُ فِيهِ خِلَافَ الظَّاهِرِيَّةِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شَرَعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْمُتَنَاكِحِينَ) أَيْ فِي الْمِلْكِ مِنْهَا مَا تَخْتَصُّ هِيَ بِمِلْكِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْقَسْمِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْعَزْلِ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ هُوَ بِمِلْكِهِ كَوُجُوبِ التَّمْكِينِ وَالْقَرَارِ فِي الْمَنْزِلِ وَالتَّحَصُّنِ
وَالْمَمْلُوكِيَّةُ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ الثَّمَرَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ.
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أَيْ الْعَفَائِفُ،
عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الْمِلْكُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُشْتَرَكًا كَالِاسْتِمْتَاعِ مُجَامَعَةً وَمُبَاشَرَةً وَالْوَلَدِ فِي حَقِّ الْإِضَافَةِ (وَالْمَمْلُوكِيَّةُ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ) فَقَدْ نَافَتْ لَازِمُ عَقْدِ النِّكَاحِ وَمُنَافِي اللَّازِمِ مُنَافٍ لِلْمَلْزُومِ. وَلَا وَجْهَ إذَا تَأَمَّلَتْ بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ لِلسُّؤَالِ الْقَائِلِ يَجُوزُ كَوْنُهَا مَمْلُوكَةً مِنْ وَجْهِ الرِّقِّ مَالِكَةً مِنْ جِهَةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ لَازِمَ النِّكَاحِ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ عَلَى الْخُلُوصِ وَالرِّقُّ يَمْنَعُهُ مِنْ غَيْرِ النَّفَقَةِ فَنَافَاهُ.
وَلَوْ اشْتَرَتْ زَوْجَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فَسَدَ النِّكَاحُ وَيَسْقُطُ الْمَهْرُ، كَمَا لَوْ دَايَنَ عَبْدًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ سَقَطَ الدَّيْنُ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ
(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ) وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يَأْكُلَ ذَبِيحَتَهُمْ إلَّا لِلضَّرُورَةِ. وَتُكْرَهُ الْكِتَابِيَّةُ الْحَرْبِيَّةُ إجْمَاعًا لِانْفِتَاحِ
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
بَابِ الْفِتْنَةِ مِنْ إمْكَانِ التَّعَلُّقِ الْمُسْتَدْعِي لِلْمُقَامِ مَعَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتَعْرِيضِ الْوَلَدِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَعَلَى الرِّقِّ بِأَنْ تُسْبَى وَهِيَ حُبْلَى فَيُولَدُ رَقِيقًا وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا. وَالْكِتَابِيُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ. وَالسَّامِرِيَّةُ مِنْ الْيَهُودِ. أَمَّا مَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُد وَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَنَا.
ثُمَّ قَالَ فِي الْمُسْتَصْفَى: قَالُوا هَذَا يَعْنِي الْحِلَّ إذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا الْمَسِيحَ إلَهًا، أَمَّا إذَا اعْتَقَدُوهُ فَلَا. وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: وَيَجِبُ أَنْ لَا يَأْكُلُوا ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ إلَهٌ وَأَنَّ عُزَيْرًا إلَهٌ. وَلَا يَتَزَوَّجُوا نِسَاءَهُمْ. وَقِيلَ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَكِنْ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلَائِلِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْأَكْلُ وَالتَّزَوُّجُ اهـ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي رَضَاعِ مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِي الذَّبِيحَةِ قَالَ: ذَبِيحَةُ النَّصْرَانِيِّ حَلَالٌ مُطْلَقًا سَوَاءً قَالَ بِثَالِثِ ثَلَاثَةٍ أَوْ لَا وَمُوَافِقٌ لِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ هُنَا. وَالدَّلِيلُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فَسَّرَهُ بِالْعَفَائِفِ احْتِرَازًا عَنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ بِالْمُسْلِمَاتِ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيَّةِ مُطْلَقًا لِانْدِرَاجِهَا فِي الْمُشْرِكَةِ، قَالَ تَعَالَى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلَى أَنْ قَالَ {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قُلْنَا: وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ طَائِفَتَانِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى انْقَرَضُوا لَا كُلُّهُمْ، وَيَهُودُ دِيَارِنَا يُصَرِّحُونَ بِالتَّنْزِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَالتَّوْحِيدِ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَمْ أَرَ إلَّا مَنْ يُصَرِّحُ بِالِابْنِيَّةِ قَبَّحَهُمْ اللَّهُ، لَكِنَّ هَذَا يُوجِبُ نُصْرَةُ الْمَذْهَبِ الْمُفَصِّلِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَمَّا مَنْ أَطْلَقَ حِلَّهُمْ فَيَقُولُ مُطْلَقُ لَفْظِ الْمُشْرِكِ إذَا ذُكِرَ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ صَحَّ لُغَةً فِي طَائِفَةٍ بَلْ وَطَوَائِفَ، وَأَطْلَقَ لَفْظُ الْفِعْلِ: أَعْنِي يُشْرِكُونَ عَلَى فِعْلِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَنْ رَاءَى بِعَمَلِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَعْمَلْ إلَّا لِأَجَلٍ زِيدَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ لُغَةً، وَلَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ إطْلَاقِ الشَّارِعِ لَفْظَ الْمُشْرِكِ إرَادَتُهُ لِمَا عَهِدَ مِنْ إرَادَتِهِ بِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَا يَدَّعِي اتِّبَاعَ نَبِيٍّ وَلَا كِتَابٍ، وَلِذَلِكَ عَطَفَهُمْ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} وَنَصَّصَ عَلَى حِلِّهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيْ الْعَفَائِفُ مِنْهُنَّ. وَتَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتِ بِالْمُسْلِمَاتِ يُفِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى، أُحِلَّ لَكُمْ الْمُسْلِمَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَإِنْ كُنَّ قَدْ انْقَرَضْنَ فَلَا فَائِدَةَ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْخِطَابُ بِحَلِّ الْأَمْوَاتِ لِلْمُخَاطَبِينَ الْأَحْيَاءِ، وَإِنْ كُنَّ أَحْيَاءً وَدَخَلْنَ فِي دِينِ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَالْحِلُّ حِينَئِذٍ مَعْلُومٌ مِنْ حُكْمِ الْمُسْلِمَاتِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ، بَلْ وَيَدْخُلُ فِي الْمُحْصَنَاتِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} ثُمَّ يَصِيرُ الْمَعْنَى فِيهِ وَالْمُسْلِمَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَهُوَ بَعِيدٌ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِمْ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِ بِالْعَفَائِفِ.
ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِهِ حَثَّ الْإِنْسَانِ عَلَى التَّخَيُّرِ لِنُطْفَتِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِفَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمُؤْمِنَاتِ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْنَ فَهُوَ عَيْنُ الدَّلِيلِ حَيْثُ أُبِيحَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ الْبَاقِيَاتِ عَلَى مِلَّتِهِنَّ، وَلَوْ سَلَّمَ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ، أَعْنِي {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} نُسِخَتْ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُثَلِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ وَبَقِيَ مَنْ سِوَاهُمْ تَحْتَ الْمَنْعِ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ كُلَّهَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ قَطُّ، عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُحْصَنَاتِ
وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ
بِالْمُسْلِمَاتِ لَيْسَ مِنْ اللُّغَةِ بَلْ هُوَ تَفْسِيرُ إرَادَةٍ لَا لُغَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ تَزَوُّجُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ وَخِطْبَةُ بَعْضِهِمْ، فَمِنْ الْمُتَزَوِّجِينَ حُذَيْفَةُ وَطَلْحَةُ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالُوا نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ غَضَبُهُ لِخُلْطَةِ الْكَافِرَةِ بِالْمُؤْمِنِ وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ فِي صِغَرِهِ أَلْزَمُ لِأُمِّهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ مَالِكٍ تَصِيرُ تَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يُقَبِّلُ وَيُضَاجِعُ لَا لِعَدَمِ الْحِلِّ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ لَمْ يُتَصَوَّرْ طَلَاقٌ حَقِيقَةً وَلَا وَقْفٌ إلَى زَمَنِهِ.
وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ هِنْدًا بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَكَانَتْ تَنَصَّرَتْ وَدَيْرُهَا بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ وَكَانَتْ قَدْ عَمِيَتْ فَأَبَتْ وَقَالَتْ: أَيُّ رَغْبَةٍ لِشَيْخٍ أَعْوَرَ فِي عَجُوزٍ عَمْيَاءَ؟ وَلَكِنْ أَرَدْت أَنْ تَفْتَخِرَ بِنِكَاحِي فَتَقُولُ تَزَوَّجْت بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: صَدَقْت، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَدْرَكَتْ مَا مَنَّيْت نَفْسِي خَالِيًا
…
لِلَّهِ دَرُّك يَا ابْنَةَ النُّعْمَانِ
فَلَقَدْ رَدَدْت عَلَى الْمُغِيرَةِ ذِهْنَهُ
…
إنَّ الْمُلُوكَ ذَكِيَّةُ الْأَذْهَانِ
وَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ فَيُكْرِمُهَا وَيَسْأَلُهَا عَنْ حَالِهَا، فَقَالَتْ فِي أَبْيَاتٍ:
فَبَيْنَمَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا
…
إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا
…
تُقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتُصَرِّفُ
قَوْلُهَا نَتَنَصَّفُ: أَيْ نُسْتَخْدَمُ، وَالْمُنَصَّفُ الْخَادِمُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَلَا جُرْمَ أَنْ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ إلَى تَفْسِيرِ الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ، ثُمَّ لَيْسَتْ الْعِفَّةُ شَرْطًا بَلْ هُوَ لِلْعَادَةِ أَوْ لِنَدْبٍ أَنْ لَا يَتَزَوَّجُوا غَيْرَهُنَّ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا.
وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى حِلِّ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهَا
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ) عَلَيْهِ الْأَرْبَعَةُ، وَنُقِلَ الْجَوَازُ عَنْ دَاوُد وَأَبِي ثَوْرٍ، وَنَقَلَهُ إِسْحَاقُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَوَاقَعَ مَلِكُهُمْ أُخْتَهُ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ فَأُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ فَنَسُوهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّا نَعْنِي بِالْمَجُوسِ عَبَدَةَ النَّارِ، فَكَوْنُهُمْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَوَّلًا لَا أَثَرَ لَهُ. فَإِنَّ الْحَاصِلَ أَنَّهُمْ الْآنَ دَاخِلُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ وَبِهَذَا يُسْتَغْنَى عَنْ مَنْعِ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} مِنْ غَيْرِ تَعْقِيبٍ بِإِنْكَارٍ، وَعَدَّهُمْ الْمَجُوسَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ ثَلَاثُ طَوَائِفَ، وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَبِالرَّفْعِ وَالنِّسْيَانِ أُخْرِجُوا عَنْ كَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِهِمْ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَلِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ، فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» .
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ مُرْسَلٌ، وَمَعَ إرْسَالِهِ فِيهِ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ وَهُوَ ابْنُ الرَّبِيعِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ مِمَّنْ سَاءَ حِفْظُهُ بِالْقَضَاءِ. وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ طَرِيقٍ لَيْسَ فِيهَا قَيْسٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ» الْحَدِيثُ، إلَى أَنْ قَالَ «بِأَنْ لَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ وَلَا
وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» قَالَ (وَلَا الْوَثَنِيَّاتِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} .
تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ». وَفِي سَنَدِهِ الْوَاقِدِيُّ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» اهـ. وَسَيَأْتِي بَاقِي مَا فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ وَلَا الْوَثَنِيَّاتِ) وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ، وَيَدْخُلُ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ عَبَدَةُ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ وَالصُّوَرِ الَّتِي اسْتَحْسَنُوهَا وَالْمُعَطِّلَةُ وَالزَّنَادِقَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَالْإِبَاحِيَّةُ.
وَفِي شَرْحِ الْوَجِيزِ: وَكُلُّ مَذْهَبٍ يَكْفُرُ بِهِ مُعْتَقِدُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُهُمْ جَمِيعًا. وَقَالَ الرُّسْتُغْفَنِيُّ: لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالِاعْتِزَالِ وَالْفَضْلِيُّ وَلَا مَنْ قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَمُقْتَضَاهُ مَنْعُ مُنَاكَحَةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَكَذَا، قِيلَ يَجُوزُ، وَقِيلَ يَتَزَوَّجُ بِنْتَهمْ وَلَا يُزَوِّجُهُمْ بِنْتَه. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّمَا يُرِيدُ إيمَانَ الْمُوَافَاةِ صَرَّحُوا بِهِ: يَعْنُونَ الَّذِي يَقْبِضُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ نَفْسِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ اسْتِصْحَابِهِ إلَيْهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ شَرْطًا لَا كَمَا يُقَالُ إنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّبَرُّكِ، وَكَيْفَ كَانَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ كُفْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَنَا خِلَافُ الْأُولَى، لِأَنَّ تَعْوِيدَ النَّفْسِ بِالْجَزْمِ فِي مِثْلِهِ لِيَصِيرَ مَلَكَةً خَيْرٌ مِنْ إدْخَالِ أَدَاةِ التَّرَدُّدِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا عِنْدَ الْمُوَافَاةِ أَوْ لَا.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَمُقْتَضَى الْوَجْهِ حِلُّ مُنَاكَحَتِهِمْ لِأَنَّ الْحَقَّ عَدَمُ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَإِنْ وَقَعَ إلْزَامًا فِي الْمَبَاحِثِ، بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَ الْقَوَاطِعَ الْمَعْلُومَةَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ مِثْلُ الْقَائِلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَأَقُولُ: وَكَذَا الْقَوْلُ بِالْإِيجَابِ بِالذَّاتِ وَنَفْيِ الِاخْتِيَارِ
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ وَيُقِرُّونَ بِكِتَابٍ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَتُهُمْ) لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ، فَكُلٌّ أَجَابَ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا حِلُّ ذَبِيحَتِهِمْ.
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ، وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ وَلِيَّتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
[فَرْعٌ]
تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ بِمَعْنَى تَزَوَّجَ الْيَهُودِيُّ نَصْرَانِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً وَالْمَجُوسِيُّ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ حَيْثُ الْكُفْرِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ، فَتَجُوزُ مُنَاكَحَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَأَجَازَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَطْءَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِوُرُودِ الْإِطْلَاقِ فِي سَبَايَا الْعَرَبِ كَأَوْطَاسٍ وَغَيْرِهَا وَهُنَّ مُشْرِكَاتٌ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْعُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ الْوَطْءُ أَوْ كُلٌّ مِنْهُ وَمِنْ الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرِكٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوْ خَاصٌّ فِي الضَّمِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَسْلَمْنَ.
(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ وَيُقِرُّونَ بِكِتَابٍ) وَإِنْ عَظَّمُوا الْكَوَاكِبَ كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِ الْكَعْبَةَ، بِهَذَا فَسَّرَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فَبَنَى عَلَيْهِ الْحِلَّ، وَفَسَّرَاهُمْ بِعَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ فَبَنَيَا عَلَيْهِ الْحُرْمَةَ، وَقِيلَ فِيهِمْ الطَّائِفَتَانِ، وَقِيلَ فِيهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَوْ اُتُّفِقَ عَلَى تَفْسِيرِهِمْ اُتُّفِقَ عَلَى الْحُكْمِ فِيهِمْ
(قَوْلُهُ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا حَالَةَ الْإِحْرَامِ) وَفِيهِ خِلَافُ الثَّلَاثَةِ (وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ مَوْلَاتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
لَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ بِمَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ.
«لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعَتْ أَبِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» زَادَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد فِي رِوَايَةٍ وَلَا يَخْطُبُ وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ " وَلَا يُخْطَبُ عَلَيْهِ " وَمُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ أَبَا غَطَفَانَ الْمُرِّيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَرَدَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نِكَاحَهُ.
وَلَنَا مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ فِي بَابِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي: «وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفَ» وَلَهُ أَيْضًا عَنْهُ وَلَمْ يَصِلْ سَنَدُهُ بِهِ قَالَ: «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ رضي الله عنها فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ» وَمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» لَمْ يَقْوَ قُوَّةَ هَذَا فَإِنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السِّتَّةُ. وَحَدِيثُ يَزِيدَ لَمْ يُخْرِجُهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا النَّسَائِيّ، وَأَيْضًا لَا يُقَاوَمُ بِابْنِ عَبَّاسٍ حِفْظًا وَإِتْقَانًا، وَلِذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لِلزُّهْرِيِّ: وَمَا يُدْرِي ابْنَ الْأَصَمِّ أَعْرَابِيٌّ كَذَا وَكَذَا لِشَيْءٍ قَالَهُ أَتَجْعَلُهُ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولُ بَيْنَهُمَا» لَمْ يُخَرَّجْ فِي وَاحِدٍ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ وَإِنْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ سِوَى حَدِيثٍ حَسَنٍ.
قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ حَمَّادٍ عَنْ مَطَرٍ. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ» فَمُنْكَرٌ عَنْهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ بَعْدَمَا اُشْتُهِرَ إلَى أَنْ كَانَ أَنْ يَبْلُغَ الْيَقِينَ عَنْهُ فِي خِلَافِهِ. وَلِذَا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ ذَلِكَ عَارَضَهُ بِأَنْ أَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ طَرِيقًا «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَفِي لَفْظٍ «وَهُمَا مُحْرِمَانِ» وَقَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَمَا أُوِّلَ بِهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْمَعْنَى وَهُوَ فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ أَنْجَدَ إذَا دَخَلَ أَرْضَ نَجْدٍ، وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ أَرْضَ الْحَرَمِ بَعِيدٌ. وَمِمَّا يُبْعِدُهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ» وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَامَ رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثَيْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْوَى مِنْهُمَا سَنَدًا، فَإِنْ رَجَّحْنَا بِاعْتِبَارِهِ كَانَ التَّرْجِيحُ مَعَنَا، وَيَعْضُدُهُ مَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ نِسَائِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ» قَالَ: وَنَقْلَةُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ اهـ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَزَّارُ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: إنَّمَا أَرَادَتْ نِكَاحَ مَيْمُونَةَ وَلَكِنَّهَا لَمْ تُسَمِّهَا، وَبِقُوَّةِ ضَبْطِ الرُّوَاةِ وَفِقْهِهِمْ فَإِنَّ الرُّوَاةَ عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ لَيْسُوا كَمَنْ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ فِقْهًا وَضَبْطًا كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَإِنْ تَرَكْنَاهَا تَتَسَاقَطُ لِلتَّعَارُضِ وَصِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ فَهُوَ مَعَنَا لِأَنَّهُ عَقْدٌ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي يُتَلَفَّظُ بِهَا مِنْ شِرَاءِ الْأُمَّةِ لِلتَّسَرِّي وَغَيْرِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ حَرُمَ لَكَانَ غَايَتُهُ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَةَ نَفْسِ الْوَطْءِ وَأَثَرُهُ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ لَا فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ نَفْسِهِ. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَبَطَلَ عَقْدُ الْمَنْكُوحَةِ سَابِقًا لِطُرُوِّ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْعَقْدِ يَسْتَوِي فِي الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ كَالطَّارِئِ عَلَى الْعَقْدِ، وَإِنْ رَجَّحْنَا مِنْ حَيْثُ الْمَتْن كَانَ مَعَنَا لِأَنَّ رِوَايَةَ
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَافِيَةٌ وَرِوَايَةَ يَزِيدَ مُثْبِتَةٌ، لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْمُثْبِتَ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُ أَمْرًا عَارِضًا عَلَى الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْحِلُّ الطَّارِئُ عَلَى الْإِحْرَامِ كَذَلِكَ، وَالنَّافِي هُوَ الْمُبْقِيهَا لِأَنَّهُ يَنْفِي طُرُوُّ طَارِئٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِلِّ الطَّارِئِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ لَهُ كَيْفِيَّاتٌ خَاصَّةٌ مِنْ التَّجَرُّدِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ فَكَانَ نَفْيًا مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ فَيُعَارِضُ الْإِثْبَاتَ فَيُرَجِّحُ بِخَارِجٍ وَهُوَ زِيَادَةُ قُوَّةِ السَّنَدِ وَفِقْهُ الرَّاوِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِلِّ اللَّاحِقِ، وَأَمَّا عَلَى إرَادَةِ الْحِلِّ السَّابِقِ عَلَى الْإِحْرَامِ كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» كَذَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِلْمُسْتَغْفِرِي؛ فَابْنُ عَبَّاسٍ مُثْبِتٌ وَيَزِيدُ نَافٍ، فَيُرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَاتِ الْمَتْنِ لِتَرَجُّحِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي، وَلَوْ عَارَضَهُ بِأَنْ كَانَ نَفْيُ يَزِيدَ مِمَّا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ لِأَنَّ حَالَةَ الْحِلِّ تُعْرَفُ أَيْضًا بِالدَّلِيلِ وَهِيَ هَيْئَةُ الْحَلَالِ فَالتَّرْجِيحُ بِمَا قُلْنَا مِنْ قُوَّةِ السَّنَدِ وَفِقْهِ الرَّاوِي لَا بِذَاتِ الْمَتْنِ. وَإِنْ وُفِّقْنَا لِدَفْعِ التَّعَارُضِ فَيُحْمَلُ لَفْظُ التَّزَوُّجِ فِي حَدِيثِ ابْنِ الْأَصَمِّ عَلَى الْبِنَاءِ بِهَا مَجَازًا بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ الْعَادِيَةِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ» إمَّا عَلَى نَهْيِ التَّحْرِيمِ وَالنِّكَاحِ لِلْوَطْءِ. وَالْمُرَادُ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ التَّمْكِينُ مِنْ الْوَطْءِ وَالتَّذْكِيرِ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ: أَيْ لَا تُمَكِّنُ الْمُحْرِمَةُ مِنْ الْوَطْءِ زَوْجَهَا.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُضَعِّفُ هَذَا الْوَجْهَ بِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الْوَطْءِ لَا يُسَمَّى نِكَاحًا مَعَ أَنَّ اللَّازِمَ الْإِنْكَاحُ لَا النِّكَاحُ. وَأَمَّا اسْتِبْعَادُهُ بِاخْتِلَالِهِ عَرَبِيَّةً فَلَيْسَ بِوَاقِعٍ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ دُخُولُ لَا النَّاهِيَةِ عَلَى الْمُسْنَدِ لِلْغَائِبِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ، وَعَلَى النَّفْيِ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَفِيهِ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ، أَوْ عَلَى نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ فِي شَغْلٍ عَنْ مُبَاشَرَةِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ شَغْلُ قَلْبِهِ عَنْ الْإِحْسَانِ فِي الْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ خِطْبَةِ وَمُرَاوَدَاتٍ وَدَعْوَةٍ وَاجْتِمَاعَاتٍ وَيَتَضَمَّنُ تَنْبِيهَ النَّفْسِ لِطَلَبِ الْجِمَاعِ وَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِهِ " وَلَا يَخْطُبُ " وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم بَاشَرَ الْمَكْرُوهَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَنُوطَ بِهِ الْكَرَاهَةُ، وَهُوَ عليه الصلاة والسلام مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وَلَا بُعْدَ فِي اخْتِلَافِ حُكْمٍ فِي حَقِّنَا وَحَقِّهِ لِاخْتِلَافِ الْمَنَاطِ فِينَا وَفِيهِ، كَالْوِصَالِ نَهَانَا عَنْهُ وَفَعَلَهُ.
(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً إلَخْ) قَيْدُ الْحُرِّ غَيْرُ مُفِيد لِأَنَّ
بِالْمُسْلِمَةِ وَلِهَذَا جَعَلَ طَوْلَ الْحُرَّةِ مَانِعًا مِنْهُ. وَعِنْدَنَا الْجَوَازُ مُطْلَقٌ لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي، وَفِيهِ امْتِنَاعٌ عَنْ تَحْصِيلِ الْجُزْءِ الْحُرِّ لَا إرْقَاقُهُ وَلَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْأَصْلَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْوَصْفَ.
الشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ فَكَانَ الصَّوَابُ إبْدَالُهُ بِالْمُسْلِمِ. وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ كَقَوْلِهِ، وَعَنْهُمَا كَقَوْلِنَا. لَهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ اُسْتُفِيدَ مِنْهَا عِدَّةُ أَحْكَامٍ: عَدَمُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ طَوْلِ الْحُرَّةِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَعَدَمُ جَوَازِ النِّكَاحِ الْأَمَةِ مُطْلَقًا حِينَ لَا ضَرُورَةَ مِنْ خَشْيَةِ الْعَنَتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} فَاسْتَنْبَطْنَا مِنْ قَصْرِ الْحِلِّ عَلَى الضَّرُورَةِ مَعْنًى مُنَاسِبًا وَهُوَ مَا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مِنْ تَعْرِيضِ الْوَلَدِ عَلَى الرِّقِّ الَّذِي هُوَ مَوْتٌ حُكْمًا. وَعَدَمُ جَوَازِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ مُطْلَقًا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وَأَيْضًا إذَا لَمْ تَجُزْ الْأَمَةُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ فَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْمُسْلِمَةِ.
وَعِنْدَنَا الْجَوَازُ مُطْلَقٌ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِهَا فِي الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَعِنْدَ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَعَدَمِهِ لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضَى مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِمَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ، وَلَمْ يَنْتَهِضْ مَا ذَكَرُوا حُجَّةً مُخْرِجَةً. أَمَّا أَوَّلًا فَالْمَفْهُومَانِ: أَعْنِي مَفْهُومَ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ لَيْسَا بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَبِتَقْدِيرِ الْحُجِّيَّةِ مُقْتَضَى الْمَفْهُومَيْنِ عَدَمُ الْإِبَاحَةِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْقَيْدِ الْمُبِيحِ. وَعَدَمُ الْإِبَاحَةِ أَعَمُّ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ أَوْ الْكَرَاهَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى أَخَصَّ بِخُصُوصِهِ فَيَجُوزُ ثُبُوتُ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ وَعِنْدَ وُجُودِ طُولِ الْحُرَّةِ، كَمَا يَجُوزُ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ عَلَى السَّوَاءِ وَالْكَرَاهَةِ أَقَلُّ فَتَعَيَّنَتْ فَقُلْنَا بِهَا، وَبِالْكَرَاهَةِ صَرَّحَ فِي الْبَدَائِعِ. وَأَمَّا تَعْلِيلُ عَدَمِ الْحِلِّ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ بِتَعْرِيضِ الْوَلَدِ عَلَى الرِّقِّ لِتَثْبُتَ الْحُرْمَةُ بِالْقِيَاسِ عَلَى أُصُولٍ شَتَّى أَوْ لِتَعْيِينِ أَحَدِ فَرْدَيْ الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ مُرَادًا بِالْأَعَمِّ، فَإِنْ عَنَوْا أَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ مَوْصُوفٍ بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ سَلَّمْنَا اسْتِلْزَامَهُ لِلْحُرْمَةِ، وَلَكِنَّ وُجُودَ الْوَصْفِ مَمْنُوعٌ، إذْ لَيْسَ هُنَا مُتَّصِفٌ بَحْرِيَّة عُرِّضَ لِلرِّقِّ بَلْ الْوَصْفَانِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ يُقَارِنَانِ وُجُودَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ أُمِّهِ، إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَحُرٌّ أَوْ رَقِيقَةً فَرَقِيقٌ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ تَعْرِيضَ الْوَلَدِ الَّذِي سَيُوجَدُ لَأَنْ يُقَارِنَهُ الرِّقُّ فِي الْوُجُودِ لَا إرْقَاقُهُ سَلَّمْنَا وُجُودَهُ وَمَنَعْنَا تَأْثِيرَهُ فِي الْحُرْمَةِ بَلْ فِي الْكَرَاهَةِ.
وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْوَلَدُ أَصْلًا بِنِكَاحِ الْآيِسَةِ وَنَحْوِهَا، فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يُحَصِّلَهُ رَقِيقًا بَعْدَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْلَى، إذْ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ التَّنَاسُلِ إنَّمَا هُوَ تَكْثِيرُ الْمُقِرِّينَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَرَفَ لَهُ بِهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْوَلَدِ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرِّيَّةُ مَعَ ذَلِكَ كَمَالٌ يَرْجِعُ أَكْثَرُهُ إلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، وَقَدْ جَازَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ الْوَلَدِ عَلَى الرِّقِّ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ وَعَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَكَوْنُ الْعَبْدِ أَبًا لَا أَثَرَ لَهُ فِي ثُبُوتِ رِقِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً كَانَ وَلَدُهُ حُرًّا، وَالْمَانِعُ إنَّمَا يَعْقِلُ كَوْنُهُ ذَاتَ الرِّقِّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ
(وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ،
لِلنَّقْصِ الَّذِي جَعَلُوهُ مُحَرَّمًا لَا مَعَ قَيْدِ حُرِّيَّةِ الْأَبِ فَوَجَبَ اسْتِوَاءُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ، لَوْ صَحَّ ذَلِكَ التَّعْلِيلُ: أَعْنِي تَعْلِيلَ الْحُرْمَةِ بِالتَّعْرِيضِ لِلرِّقِّ ثُمَّ بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ طُولِ الْحُرَّةِ شَرْطٌ أَنْ لَا تَكُونَ جَارِيَةَ ابْنِهِ: أَيْ مِلْكَ الِابْنِ، قَالَ فِي خُلَاصَتِهِمْ: لَوْ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ فَنَزَلَ مِلْكُ وَلَدِهِ مَنْزِلَةَ مِلْكِهِ، وَعِنْدَنَا لَا مِلْكَ لِلْأَبِ مِنْ وَجْهٍ أَصْلًا وَإِلَّا لَحَرُمَتْ عَلَى الِابْنِ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ») أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «طَلَاقُ الْعَبْدِ اثْنَتَانِ» الْحَدِيثُ، إلَى أَنْ قَالَ «وَتُتَزَوَّجُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ، وَلَا تُتَزَوَّجُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَفِيهِ مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِسَنَدِهِ إلَى الْحَسَنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ. قَالَ: وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ» . قَالَ: وَهَذَا مُرْسَلٌ الْحَسَنُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا مُرْسَلًا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ:" لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ ". وَأَخْرَجَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ " عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ " وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: " تُتَزَوَّجُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ، وَلَا تُتَزَوَّجُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ ". وَعَنْ مَكْحُولٍ نَحْوَهُ. فَهَذِهِ آثَارٌ ثَابِتَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم تُقَوِّي الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ لَوْ لَمْ يَقُلْ بِحُجِّيَّتِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، ثُمَّ اُعْتُضِدَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ إضَافَتِهِمْ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ أَضَافُوهُ إلَى مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ يَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ طَوْلِ الْحُرَّةِ فَلَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إجَازَةِ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ) يَعْنِي حُجَّةً جَبْرًا لِأَنَّا أَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِهِ بَلْ وُجُوبُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ بَعْدَ ثِقَةِ رِجَالِهِ، وَلِأَنَّهُ يَرَى حُجِّيَّتَهُ إذَا اقْتَرَنَ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا يَرَى حُجِّيَّتَهُ إذَا أَفْتَى بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُنَا كَذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ: يَعْنِي تَعَدُّدَ الْمَخْرَجِ نَظَرَ إلَى بَعْضِ مَا يُرْوَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا لَهُ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُوَافِقُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ
وَعَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ بِرِضَا الْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ دُونَ حَالَةِ الِانْضِمَامِ
لَمْ يُرْسِلْ إلَّا عَنْ أَصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوَامُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفْتُونَ بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـ.
وَبِهِ يَخُصُّ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} إذْ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَا. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ إخْرَاجَ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ بِطَرِيقِ النَّسْخِ عَلَى مَا قَالُوا وَالْمَجُوسِيَّاتُ مُشْرِكَاتٌ وَالنَّاسِخُ لَا يَصِيرُ الْعَامُّ بِهِ ظَنِّيًّا فَلَا يَخُصُّ بَعْدَهُ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ أَوْ قِيَاسٍ. وَمَا قِيلَ إنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجَمْعَ لِيَتَحَقَّقَ إخْرَاجُهُ لِأَنَّهُ مِمَّا قُدِّمَ ذِكْرُهُ مَعَ الْمُحَرَّمَاتِ ثُمَّ قَالَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أَيْ مَا وَرَاءَ الْمَذْكُورَاتِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَالْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فَيَشْمَلُ الْعَبْدَ فَإِخْرَاجُهُ يَسْتَدْعِي ثَبْتًا وَلَمْ يُثْبِتْ إذْ إضَافَةُ إخْرَاجِهِ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الَّتِي ادَّعَوْا أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ لِحُرْمَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ طَوْلِ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ الْعَبْدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ وَجْهٌ لَمَّا عُلِمَتْ أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهَا يَجِبُ اسْتِوَاءُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِيهَا، لِأَنَّ الْمَعْقُولَ تَأْثِيرُ ذَاتِ الرِّقِّ فِي الْمَنْعِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ وَوُجُودِ الطَّوْلِ (قَوْلُهُ وَعَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ بِرِضَا الْحُرَّةِ) مَالِكٌ رحمه الله يَقُولُ بِحُجِّيَّةِ الْمُرْسَلِ إذَا صَحَّ طَرِيقُهُ إلَى التَّابِعِيِّ، لَكِنَّهُ عَلَّلَهُ بِإِغَاظَةِ الْحُرَّةِ بِإِدْخَالِ نَاقِصَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ انْتَفَى مَا لِأَجْلِهِ الْمَنْعُ فَيَجُوزُ وَهَذَا اسْتِنْبَاطُ مَعْنًى يُخَصَّصُ النَّصَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا وَلَا مُومًى إلَيْهِ كَانَ تَقْدِيمًا لِلْقِيَاسِ عَلَى لَفْظِ النَّصِّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا بَلْ الْعِبْرَةُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَاهُ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ جَوَازِ ذَلِكَ فَتَعْلِيلُهُ بِمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ وَهُوَ تَنْصِيفُ النِّعْمَةِ بِالرِّقِّ الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْقَسْمُ أَوْلَى، فَيَكُونُ الْمَنْعُ بِاعْتِبَارِ التَّعْلِيلِ بِهِ لِلتَّنْصِيفِ فِي أَحْوَالِ نِكَاحِ الْأَمَةِ.
بَيَانُهُ أَنَّ الْحِلَّ الثَّابِتَ فِي النِّكَاحِ نِعْمَةٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ النِّكَاحِ لَمَا لَمْ يُمْكِنْ تَنْصِيفُ نَفْسِ الْحِلِّ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بَلْ نِصْفُ الْحِلِّ أَيْضًا وَهُوَ تَنْصِيفُ الْقَسْمِ إذْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ لَيْلَتِهَا لَأَمْكَنَ، فَيَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْحَدِيثِ لِإِرَادَةِ تَنْصِيفِ الْأَحْوَالِ جَرْيًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ مَنُوطًا بِالرِّقِّ، وَذَلِكَ أَنَّ لِنِكَاحِهَا حَالَتَيْ انْضِمَامٍ إلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ سَابِقَةٍ وَانْفِرَادٍ عَنْهُ، فَالتَّنْصِيفُ إذَا كَانَ إمْكَانُ الْحَالَتَيْنِ قَائِمًا بِتَصْحِيحِ نِكَاحِهَا فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ، وَتَصْحِيحُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ فِي الْحَالَتَيْنِ حَالَةُ الِانْفِرَادِ
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ إذْ لَا مُنَصِّفَ فِي حَقِّهَا.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَزَوُّجٍ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمُحَرَّمُ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بَاقٍ مِنْ وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَيَبْقَى الْمَنْعُ احْتِيَاطًا، بِخِلَافِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ لَا يُدْخِلَ غَيْرَهَا فِي قَسْمِهَا.
وَالِانْضِمَامِ إلَى أَمَةٍ سَابِقَةٍ ثُمَّ عَيَّنَ الشَّرْعُ لِلْمَنْعِ حَالَةَ الِانْضِمَامِ إلَى الْحُرَّةِ لِمَا فِي اعْتِبَارِ نَقْصِهَا عَنْ الْحُرَّةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ مِنْ مُنَاسَبَةِ ذَلِكَ. وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ لِزِيَادَةِ غَيْظِ الْحُرَّةِ زِيَادَةً مُعْتَبَرَةً دَخَلَا أَيْضًا، أَمَّا أَصْلُ غَيْظِهَا فَلَا أَثَرَ لَهُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِإِدْخَالِ الْحُرَّةِ أَيْضًا عَلَى الْأَمَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مِنْ الْأَصْلِ مَا يُورِدُ مِنْ أَنَّ الِانْضِمَامَ يُصَدَّقُ عَلَى مَا إذَا أَدْخَلَ الْحُرَّةَ أَيْضًا عَلَى الْأَمَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يُفْسِدَ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِإِدْخَالِ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا.
وَيُجَابُ بِأَنَّ الِانْضِمَامَ يَقُومُ بِالْمُتَأَخِّرِ لِأَنَّهُ الْمُنْضَمُّ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَقَدِّمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مَنْعَ إدْخَالِ الْأَمَةِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَتَعْلِيلُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ يَثْبُتُ لِنَسْلِهِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ طُولِ الْحُرَّةِ قَبْلَ نِكَاحِهَا فَلَا يَثْبُتُ لِلنَّسْلِ ذَلِكَ. هَذَا وَأَمَّا حَالَةُ الْمُقَارَنَةِ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عُقْدَةٍ فَيَجْتَمِعُ فِي الْأَمَةِ مُحَرِّمٌ وَمُبِيحٌ فَتَحْرُمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ لِلْقِيَاسِ، وَيُسْتَدْعَى أَصْلًا يَلْحَقُ بِهِ مَنْصُوصًا أَوْ مَجْمَعًا عَلَيْهِ فَيُمْكِنُ جَعْلُهُ هُنَا تَنْصِيفَ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ
(قَوْلُهُ فَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ إلَخْ) وَكَذَا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ قُيِّدَ بِالْبَائِنِ لِأَنَّ فِي عِدَّةِ الرُّجْعَى لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ اتِّفَاقًا، وَقَوْلُهُمَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لَيْسَ الْجَمْعُ لِيَمْتَنِعَ فِي عِدَّةِ الْبَائِنِ كَالْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ وَإِلَّا حَرُمَ إدْخَالُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا بَلْ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ.
لَا يُقَالُ: تَزَوَّجَ عَلَيْهَا إذَا تَزَوَّجَ وَهِيَ مُبَانَةٌ مُعْتَدَّةٌ، وَلِذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَتَزَوَّجَ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ عَنْ بَائِنٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي عِدَّةِ الْحُرَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ وَبِاعْتِبَارِهَا يُعَدُّ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ كَانَ بِالتَّزَوُّجِ فِيهَا مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ حَرَامًا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْحُرُمَاتِ كَالْحَقِيقَةِ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي عِدَّةِ الْحُرَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَقِيلَ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُمَا لَا قَوْلُهُ، وَلَوْ سَلَّمَ فَالْمَنْعُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِقِيَامِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِيَبْقَى بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا لَا يَحْنَثُ فِيهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَلِفِهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا هُوَ أَنْ لَا يُدْخِلَ عَلَيْهَا شَرِيكَةً فِي الْقَسْمِ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ
(وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
أَنْ لَا يُسَمَّى مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِبَانَة إلَّا إذَا كَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ حَالُ قِيَامِ الْعِصْمَةِ.
(قَوْلُهُ مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ) أَيْ جَمْعًا وَتَفْرِيقًا، إلَّا أَنَّ فِي الْجَمْعِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا أَخَّرَ الْحَرَائِرَ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الْجَوَارِي فَلَهُ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ. وَفِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَأَلْفُ جَارِيَةٍ، أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً أُخْرَى فَلَامَهُ رَجُلٌ آخَرُ يَخَافُ عَلَيْهِ الْكُفْرَ. وَقَالُوا: إذَا تَرَكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ كَيْ لَا يُدْخِلَ الْغَمَّ عَلَى زَوْجَتِهِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ كَانَ مَأْجُورًا. وَأَجَازَ الرَّوَافِضُ تِسْعًا مِنْ الْحَرَائِرِ. وَنُقِلَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَجَازَ الْخَوَارِجُ ثَمَانِي عَشْرَةَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ إبَاحَةُ أَيِّ عَدَدٍ شَاءَ بِلَا حَصْرٍ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ بَيَّنَ الْعَدَدَ الْمُحَلَّلَ بِمَثْنًى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ تِسْعٌ. وَجْهُ الثَّانِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ مَثْنًى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مَعْدُولٌ عَنْ عَدَدٍ مُكَرَّرٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَيَصِيرُ الْحَاصِلُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ.
وَكَأَنَّ وَجْهَ الثَّالِثِ الْعُمُومَاتُ مِنْ نَحْوِ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَلَفْظُ مَثْنًى إلَى آخِرِهِ تَعْدَادٌ عُرْفِيٌّ لَهُ لَا قَيْدٌ، كَمَا يُقَالُ خُذْ مِنْ الْبَحْرِ مَا شِئْت قِرْبَةً وَقِرْبَتَيْنِ وَثَلَاثًا. وَيَخُصُّ الْأَوَّلِينَ تَزَوُّجُهُ صلى الله عليه وسلم تِسْعًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَنَّ آيَةَ الْإِحْلَالِ هَاهُنَا وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} لَمْ تُسَقْ إلَّا لِبَيَانِ الْعَدَدِ الْمُحَلَّلِ لَا لِبَيَانِ نَفْسِ الْحِلِّ، لِأَنَّهُ عُرِفَ مِنْ غَيْرِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا كِتَابًا وَسُنَّةً فَكَانَ ذِكْرُهُ هُنَا مُعَقِّبًا بِالْعَدَدِ لَيْسَ إلَّا لِبَيَانِ قَصْرِ الْحِلِّ عَلَيْهِ، أَوْ هِيَ لِبَيَانِ الْحِلِّ الْمُقَيَّدِ بِالْعَدَدِ لَا مُطْلَقًا، كَيْف وَهُوَ حَالٌ مِمَّا طَابَ فَيَكُونُ قَيْدًا فِي الْعَامِلِ وَهُوَ الْإِحْلَالُ الْمَفْهُومُ مِنْ فَانْكِحُوا، ثُمَّ إنَّ مَثْنًى مَعْدُولٌ عَنْ عَدَدٍ مُكَرَّرٍ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ هُوَ اثْنَانِ اثْنَانِ هَكَذَا إلَى مَا لَا يَقِفُ، وَكَذَا ثُلَاثُ فِي ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ، وَمِثْلُهُ رُبَاعُ فِي أَرْبَعَةٍ أَرْبَعَةٍ، فَمُؤَدَّى التَّرْكِيبِ عَلَى
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ: وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَا إذْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ يَنْتَظِمُهَا اسْمُ النِّسَاءِ كَمَا فِي الظِّهَارِ.
(وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ) وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ عِنْدَهُ حَتَّى مَلَّكَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى.
هَذَا مَا طَابَ لَكُمْ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ جَمْعًا فِي الْعَقْدِ أَوْ عَلَى التَّفْرِيقِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا جَمْعًا أَوْ تَفْرِيقًا وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا كَذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ قَيْدٌ فِي الْحِلِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَانْتَهَى الْحِلُّ إلَى أَرْبَعٍ مُخَيَّرٌ فِيهِنَّ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ.
وَأَمَّا حِلُّ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِحِلِّ النِّكَاحُ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُتَصَوَّرُ بِالْوَاحِدَةِ. فَحَاصِلُ الْحَالِ أَنَّ حِلَّ الْوَاحِدَةِ كَانَ مَعْلُومًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ لِبَيَانِ حِلِّ الزَّائِدِ عَلَيْهَا إلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ مَعَ بَيَانِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ فِي ذَلِكَ، وَبِهِ يَتِمُّ جَوَابُ الْفَرِيقَيْنِ. أَوْ نَقُولُ: عُرِفَ حِلُّ الْوَاحِدَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فَكَانَ الْعَدَدُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مُحَلِّلًا عِنْدَ عَدَمِ خَوْفِ الْجَوْرِ، ثُمَّ أَفَادَ أَنَّ عِنْدَ خَوْفِهِ بِقَصْرِ الْحِلِّ عَلَى وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا لَمْ يَعْطِفْ بِأَوْ فَيُقَالُ أَوْ ثُلَاثُ أَوْ رُبَاعُ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ بِأَوْ لَكَانَ الْإِحْلَالُ مُقْتَصِرًا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُحَصِّلُوا هَذِهِ الْأَعْدَادَ إنْ شَاءُوا بِطَرِيقِ التَّثْنِيَةِ وَإِنْ شَاءُوا بِطَرِيقِ التَّثْلِيثِ وَإِنْ شَاءُوا بِطَرِيقِ التَّرْبِيعِ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ صِحَّةُ التِّسْعِ وَالثَّمَانِي عَشَرَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» وَمِثْلُهُ وَقَعَ لِفَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ وَقَيْسِ بْنِ حَارِثَةَ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ: يَعْنِي التَّنْصِيصَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، فَكَانَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ أَوْ الْحُضُورِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْعَدَدُ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَدَدٌ لَا يَمْنَعُهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» حَيْثُ أَلْحَقَ بِهَا الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ وَالْعِتْقَ لِوُقُوعِهِ حَالًا قَيْدًا فِي الْإِحْلَالِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِيرَادُ بِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَدَدٌ لَا يُمْنَعُ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ تَمْتَنِعُ مَعَهُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ كَعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ وَقَدْ لَا وَلَا نَحْوَ سَبْعِينَ مَرَّةً فِي قَوْله تَعَالَى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الْآيَةُ، وَقَدْ تَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ النَّقْصُ فَقَطْ كَمَا فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ لِذَاتِ الْعَدَدِ بَلْ لِخَوَارِجَ كَمَنْعِ الزِّيَادَةِ هُنَا لِتَقْيِيدِ الْحِلِّ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُطْلَبُ السَّبَبُ (قَوْلُهُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَاهُ) وَهُوَ عُمُومُ {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} مُقْتَصِرًا عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ إذْ الْأَمَةُ وَالْمَنْكُوحَةُ يُرِيدُ بِالْمَنْكُوحَةِ الْحُرَّةُ، وَإِلَّا فَالْمَنْكُوحَةُ لَا تُنَافِي الْأَمَةَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْأَمَةِ لَيْسَ إلَّا الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ الْمَنْكُوحَةُ عَلَى الصِّفَةِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِدْلَال بِجَوَازِ تَزَوُّجِ الْإِمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لِتَنَاوُلِ اسْمِ النِّسَاءِ ذَلِكَ. وَعَلَى مَا قَالَ مِنْ وَجْهِ التَّنَاوُلِ يَلْزَمُ نِكَاحُ الْمَنْكُوحَةِ وَالْمَنْكُوحَةُ لَا تُنْكَحُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ الْمَنْكُوحَةَ أَصْلًا، وَالْعِنَايَةُ بِهِ أَنْ يُرَادَ الْمَنْكُوحَةُ بِالْقُوَّةِ: أَيْ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا يَنْتَظِمَهَا إلَخْ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ عِنْدَهُ) لِأَنَّ السَّبْيَ لَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْمَسْبِيِّ وَزَوْجَتِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ
وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ فَيَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ. .
قَالَ (فَإِنْ طَلَّقَ الْحُرُّ إحْدَى الْأَرْبَعِ طَلَاقًا بَائِنًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَابِعَةً حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَهُوَ نَظِيرُ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ.
قَالَ (فَإِنْ تَزَوَّجَ حُبْلَى مِنْ زِنًا جَازَ النِّكَاحُ وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) وَهَذَا عِنْدَ
وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ أَصْلُ النِّكَاحِ بِالْإِذْنِ فَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي حَقِّهِ لَمْ يَمْلِكْهُ كَمَا لَمْ يَمْلِكْ الْمَالَ فَلَمَّا مَلَكَهُ سَاوَى الْحُرَّ فِيهِ. وَجَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ السَّبْيَ أَحَدُ أَسْبَابِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَمَحَلُّهُ الْمَالُ لَا النِّكَاحُ فَلِذَا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ. وَجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ مِلْكَ أَصْلِ الشَّيْءِ لَا يَمْنَعُ التَّنْصِيفَ إذَا تَحَقَّقَ مَا يُوجِبُهُ كَالْأَمَةِ تَمْلِكُ طَلَبَ أَصْلِ الْوَطْءِ مِنْ زَوْجِهَا وَيَنْتَصِفُ قَسْمُهَا (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ مُنَصَّفٌ) تَوْضِيحُ مُرَادِهِ أَنَّ الْحِلَّ الثَّابِتَ بِالنِّكَاحِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى إنَّ لِلْمَرْأَةِ الْمُطَالَبَةَ بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ نَصَّفَ الرِّقُّ الْمَرْأَةَ مَا لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِلِّ حَتَّى إذَا كَانَتْ تَحْتَ الرَّجُلِ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ يَكُونُ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَانِ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ، فَلَمَّا نَصَّفَ رِقُّهَا مَالَهَا وَجَبَ أَنْ يُنَصِّفَ رِقُّهُ مَالَهُ وَلِلْحُرِّ تَزَوُّجُ أَرْبَعٍ وَلِلْعَبْدِ ثِنْتَانِ.
بَقِيَ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} نَظَرًا إلَى عُمُومِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إطْلَاقِ الزَّائِدِ عَلَى الْأَمَةِ نَظَرًا إلَى الْعُمُومِ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمْ الْأَحْرَارُ بِدَلِيلِ آخِرِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا هُمْ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ فَلَزِمَ كَوْنُ الْمُرَادِ الْأَحْرَارُ
(قَوْلُهُ فَإِنْ تَزَوَّجَ حُبْلَى مِنْ زِنًا) مِنْ غَيْرِهِ (جَازَ النِّكَاحُ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله كَقَوْلِنَا وَقَوْلُ الْآخَرِينَ وَزُفَرَ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. أَمَّا لَوْ كَانَ الْحَبَلُ مِنْ زِنًا مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ مُحَالًا إلَى النَّوَازِلِ.
قَالَ: رَجُلٌ تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ زِنًا مِنْهُ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَيَحِلُّ وَطْؤُهَا عِنْدَ الْكُلِّ. وَإِذَا جَازَ فِي الْخِلَافِيَّةِ عِنْدَهُمَا وَلَا يَطَؤُهَا هَلْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ؟ ذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَقِيلَ لَهَا النَّفَقَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَإِنْ وَجَبَتْ مِنْ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ عِنْدَنَا لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ مِنْ الدُّخُولِ مِنْ جِهَتِهَا، بِخِلَافِ الْحَائِضِ فَإِنَّ عُذْرَهَا سَمَاوِيٌّ وَهَذَا يُضَافُ إلَى فِعْلِهَا الزِّنَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَكَمَا لَا يُبَاحُ وَطْؤُهَا لَا يُبَاحُ دَوَاعِيه، وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِوَطْئِهَا، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَأَنَّهُ يَقِيسُهُ عَلَى الَّتِي زَنَتْ حَيْثُ جَازَ تَزَوُّجُهَا وَحَلَّ وَطْؤُهَا فِي الْحَالِ مَعَ احْتِمَالِ الْعُلُوقِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعُلُوقَ مِنْ الزِّنَا لَا يَمْنَعُ الْوَطْءُ وَإِلَّا لَمَنَعَ مَعَ تَجْوِيزِهِ فِي مَقَامِ الِاحْتِيَاطِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُحَقَّقِ وَالْمَوْهُومِ فِي الشُّغْلِ الْحَرَامِ ثَابِتٌ شَرْعًا لِوُرُودِ عُمُومِ النَّهْيِ فِي الْمُحَقَّقِ، وَهُوَ مَا رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: النِّكَاحُ فَاسِدٌ (وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ثَابِتَ النَّسَبِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأَصْلِ لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ، وَهَذَا الْحَمْلُ مُحْتَرَمٌ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ. وَلَهُمَا أَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ بِالنَّصِّ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ كَيْ لَا يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَالِامْتِنَاعُ فِي ثَابِتِ النَّسَبِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْمَاءِ وَلَا حُرْمَةَ لِلزَّانِي.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ السَّبْيِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ) لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» يَعْنِي إتْيَانَ الْحَبَالَى.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ (قَوْلُهُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي ثَابِتَ النَّسَبِ. حَاصِلُهُ قِيَاسُ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا عَلَى الْحَامِلِ بِثَابِتِ النَّسَبِ فِي حُكْمٍ هُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا فَعَيْنُ عِلَّةِ الْأَصْلِ كَوْنُ حَمْلِهَا مُحْتَرَمًا فَيَمْنَعُ وُرُودَ الْمِلْكِ عَلَى مَحَلِّهِ، وَهَذَا كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ وَأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ فَيَمْنَعُ الْمِلْكَ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِعُمُومِ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَحِينَ عُلِمَ أَنَّهُ يَرِدُ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ عَلَى مَا قِيلَ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ احْتَاجَ إلَى مَنْعِ عِلَّتِهِ فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ فِي الْأَصْلِ احْتِرَامُ الْحَمْلِ بَلْ احْتِرَامُ صَاحِبِ الْمَاءِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْفَرْعِ إذْ لَا حُرْمَةَ لِلزَّانِي. وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ فِي تَعْيِينِ الْعِلَّةِ فَيَقُولُ الِامْتِنَاعُ فِي الْأَصْلِ لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ فَيُصَانُ عَنْ سَقْيِهِ بِمَاءٍ حَرَامٍ، وَقَدْ يُزَادُ أَيْضًا فَيُقَالُ: فَيُصَانُ عَنْ سَقْيِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الْوَطْءُ لِحُرْمَةِ السَّقْيِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ لَا يَصِحُّ، وَهِيَ زِيَادَةٌ تُوجِبُ النَّقْصَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا لَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَحِلِّ الْوَطْءِ وَلَمْ نَقُلْ بِهِ فَيُقَالُ: إنْ قُلْت لَا يَتَرَتَّبُ مُطْلَقًا مَنَعْنَاهُ أَوْ فِي الْحَالِ فَقَطْ مَنَعْنَا اقْتِضَاءَهُ الْبُطْلَانَ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رحمه الله يَدْفَعُ التَّعْلِيلَ بِحُرْمَةِ صَاحِبِ الْمَاءِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَقِّهِ لَجَازَ بِأَمْرِهِ، فَالْأَوْلَى تَعْلِيلُ الْمَنْعِ فِي الْأَصْلِ بِلُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ وَهُوَ السَّبَبُ فِي امْتِنَاعِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا.
وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا الدَّفْعَ مُغَالَطَةٌ خُيِّلَ أَنَّ حُرْمَتَهُ وَحَقَّهُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَعْنَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى حُرْمَتِهِ أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَنْعُ الْعَقْدِ عَلَى مَحَلِّ مَائِهِ مَا دَامَ قَائِمًا، وَحُرْمَتُهُ لَا تَسْقُطُ بِإِذْنِهِ فِي الْعَقْدِ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ الْحَامِلِ وَالْمُهَاجِرَةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَلَا، فَالْمُطَّرِدُ مَا ذَكَرْنَا عَلَى مَا هُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ أَنْسَبُ بِالتَّعْلِيلِ بِحُرْمَةِ صَاحِبِ الْمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ
(وَإِنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ) لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، فَلَوْ صَحَّ النِّكَاحُ لَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ حَتَّى يَنْتَفِيَ الْوَلَدُ بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ.
يُقَالُ لَهُ نَضْرَةُ بْنُ أَكْتَمَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فِي سِتْرِهَا، فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَإِذَا هِيَ حُبْلَى، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَالْوَلَدُ عَبْدٌ لَكَ، وَفَرَّقَ بَيْنَنَا. وَقَالَ: إذَا وَضَعَتْ فَحُدُّوهَا» وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ صِحَّةِ نِكَاحِ الْحَامِلِ مِنْ زِنًا لِقَوْلِهِ " وَفَرَّقَ بَيْنَنَا " إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَفْرِيقِ الْأَبْدَانِ فَقَطْ بِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ الْخَلْوَةِ بِهَا إلَى أَنْ تَلِدَ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مِنْ الْمَنْسُوخَاتِ جَعْلَ الْوَلَدِ عَبْدًا، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إرَادَةِ أَنَّهُ يَصِيرُ يَخْدُمُك، وَهُوَ يُوَافِقُ حَمْلَ التَّفْرِيقِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ مُجَرَّدِ الْمُخَالَطَةِ وَهُوَ أَوْلَى لِاسْتِبْعَادِ إرَادَةِ جَعْلِ الْوَلَدِ عَبْدًا يَبِيعُهُ الزَّوْجُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقَابِلِهِ لِقِلَّةِ نَظِيرِهِ فِي الشَّرْعِ فَيُجْعَلُ هَذَا قَرِينَةُ إرَادَةِ التَّفْرِيقِ عَنْ الْمُخَالَطَةِ لَا فِي الْعَقْدِ.
وَهَذَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ فِيهِ إذَا كَانَ مَعَ أُمُّهُ عِنْدَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ
(قَوْلُهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ) وَذَكَر الْفَاسِدَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا) لِثُبُوتِ حَدِّ الْفِرَاشِ وَهُوَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنَةً لِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْ الرَّجُلِ إذَا أَتَتْ بِهِ، فَلَوْ صَحَّ حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ وَهُوَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ فِي الْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ: لَوْ كَانَتْ فِرَاشًا لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهَا وَهِيَ حَائِلٌ كَمَا لَا يَجُوزُ وَهِيَ حَامِلٌ. فَأَجَابَ بِأَنَّ فِرَاشَهَا غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ، وَيَتَأَكَّدُ بِاتِّصَالِ الْحَبَلِ بِهَا مِنْهُ، فَإِنَّ الْحَبَلَ مَانِعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَا الْفِرَاشُ فَيَقَعُ التَّأَكُّدُ بِاجْتِمَاعِهِمَا فَيَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمَنْعِ، بِخِلَافِ حَالَةِ عَدَمِهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ تَأَكُّدِهِ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ وَلَدِهَا بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَانِعَ لَيْسَ مُطْلَقًا بَلْ الْمُتَأَكِّدُ مِنْهُ إمَّا بِنَفْسِهِ وَهُوَ فِرَاشُ الْمَنْكُوحَةِ أَوْ بِالْحَبَلِ.
قَالُوا: الْفُرُشُ ثَلَاثَةٌ: قَوِيٌّ وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ فَلَا يَنْتَفِي وَلَدُهَا إلَّا بِاللِّعَانِ. وَمُتَوَسِّطٌ وَهُوَ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ وَيَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ. وَضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ إلَّا بِدَعْوَةٍ وَهُوَ فِرَاشُ الْأَمَةِ الَّتِي لَمْ يَثْبُتْ لَهَا أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ.
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه كَلَامُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِصَرِيحِهِ أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ أَصْلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ
قَالَ (وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا صِيَانَةً لِمَائِهِ، وَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ (فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الشَّغْلَ بِمَاءِ الْمَوْلَى فَوَجَبَ التَّنَزُّهُ
الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَعَلَّلَهُ بِعَدَمِ صِدْقِ حَدِّ الْفِرَاشِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ (فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ) فَيَلْزَمُ إمَّا انْحِصَارُهُ فِي الْفِرَاشِ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ الْفُرُشِ الثَّلَاثَةِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمَنْكُوحَةِ؛ فَأُمُّ الْوَلَدِ الْحَائِلِ فِرَاشٌ ضَعِيفٌ فَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا، وَالْحَامِلُ مُتَوَسِّطٌ لِنَوْعٍ مِنْ التَّأَكُّدِ فَيَمْتَنِعُ، وَحُكْمُهُ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ، وَالْمَنْكُوحَةُ هِيَ الْفِرَاشُ الْقَوِيُّ وَهُوَ الْأَوْجُهُ. وَأَوْرَدَ إذَا كَانَ وَلَدُهَا يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ النِّكَاحُ وَيَكُونُ نَفْيًا دَلَالَةً، فَإِنَّ النَّسَبَ كَمَا يَنْتَفِي بِالصَّرِيحِ يَنْتَفِي بِالدَّلَالَةِ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْأَمَةِ جَاءَتْ بِأَوْلَادٍ ثَلَاثَةٍ فَادَّعَى الْمَوْلَى أَكْبَرَهُمْ حَيْثُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَنْتَفِي نَسَبُ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ اقْتِصَارِهِ فِي الدَّعْوَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ. أُجِيبَ بِأَنَّ النَّفْيَ دَلَالَةٌ إنَّمَا يَعْمَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحٌ بِخِلَافِهِ، وَهُنَا كَذَلِكَ. إذْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ: رَجُلٌ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْحَمْلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ النِّكَاحُ وَيَكُونُ نَفْيًا.
(قَوْلُهُ وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْجَوَازِ بِنَفْيِ جِنْسِ عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنْ التَّزْوِيجِ فَضْلًا عَنْ نَفْيِهَا بِعَيْنِهَا فَلِذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ وُجُودَ الْفِرَاشِ مُطْلَقًا يَمْنَعُ وَإِلَّا لَمَنَعَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ الْحَائِلِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ فِرَاشٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْقَوِيُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالتَّأَكُّدِ لَا مُطْلَقَ الْفِرَاشِ، ثُمَّ بَيَّنَ نَفْيَ الْفِرَاشِ بِنَفْيِ حَدِّهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا) أَيْ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ لَا الْحَتْمِ، وَلَيْسَ اسْتِبْرَاءُ الْمَوْلَى مَذْكُورًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَلْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَصَرَّحَ الْوَلْوَالِجِيُّ بِالِاسْتِحْبَابِ (قَوْلُهُ وَإِذَا جَازَ) يَعْنِي جَازَ النِّكَاحُ بِدُونِ اسْتِبْرَاءٍ مِنْ الْمَوْلَى، فَإِنَّ خِلَافَ مُحَمَّدٍ فِي اسْتِبْرَاءِ الزَّوْجِ إنَّمَا هُوَ فِيهِ،
كَمَا فِي الشِّرَاءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا اسْتِحْبَابًا وَلَا وُجُوبًا.
وَلِذَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رحمه الله فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَا أُحِبُّ لَهُ: أَيْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، لِأَنَّهُ اُحْتُمِلَ الشَّغْلُ بِمَاءِ الْمَوْلَى.
هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، فَلَوْ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا جَازَ وَطْءُ الزَّوْجِ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ اتِّفَاقًا. وَقَدْ وَفَّقَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله نَفَى الِاسْتِحْبَابَ وَهُمَا أَثْبَتَا جَوَازَ النِّكَاحِ بِدُونِهِ فَلَا مُعَارَضَةَ فَيَجُوزُ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَلَا نِزَاعَ، فَإِنَّ لَفْظَهُ فِي الْجَامِعِ: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا قَالَ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أُحِبُّ لَهُ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا اهـ. وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِبْرَاءُ الْمَوْلَى أَصْلًا، وَفِيهِ تَصْرِيحُ مُحَمَّدٍ بِالِاسْتِحْبَابِ لِلزَّوْجِ. قِيلَ قَوْلُهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ قَوْلُهُ خَاصَّةً وَهُوَ ظَاهِرُ السَّوْقِ. وَصَرِيحُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا اسْتِحْبَابًا وَلَا وُجُوبًا يُخَالِفُهُ. ثُمَّ الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ لِمُحَمَّدِ إنَّمَا مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّ أَصْلَ قِيَاسِهِ الشِّرَاءُ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِالْقِيَاسِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ فَهُوَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ لَا الِاسْتِحْبَابَ.
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ قَوْلَهُ أَحَبُّ إلَيَّ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ، وَدَلِيلُهُ يُوجِبُ أَنَّ مُرَادَهُ الْوُجُوبُ، فَاعْتِبَارُهُ أَوْلَى لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا لَا يُطَابِقُ الدَّعْوَى أَبْعَدُ مِنْ إطْلَاقِ أُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا فِي وَاجِبٍ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُ الْمُتَقَدِّمُونَ: أَكْرَهُ كَذَا فِي التَّحْرِيمِ أَوْ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ وَأُحِبُّ مُقَابِلُهُ، فَجَازَ أَنْ يُطْلِقَ فِي مُقَابِلِهِ وَهُوَ الْوُجُوبُ. ثُمَّ لَوْ أَوْرَدَ عَلَى مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ التَّوَهُّمَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ بَلْ لِلنَّدْبِ كَمَا فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ عَقِيبَ النَّوْمِ لِتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْفُرُوجِ، أَمَّا فِيهَا فَالْمَعْهُودُ شَرْعًا جَعْلُهُ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ، وَمِنْهُ نَفْسُ أَصْلِ هَذَا الْقِيَاسِ، فَإِنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي التَّحْقِيقِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَيْسَ إلَّا تَوَهُّمُ الشَّغْلِ بِالْمَاءِ الْحَلَالِ. وَاعْتِبَارُ اسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ عِلَّةٌ إنَّمَا هُوَ لِضَبْطِهِ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْلَال مِنْ عِنْدِ الْمُصَنِّفِ فَهُوَ الْمُؤَاخَذُ بِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ) أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ ثَابِتٌ فِي الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا؛ وَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: جَوَابُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بِأَنَّهُ طَرْدٌ لَا نَقْضٌ، فَإِنَّ جَوَازَ النِّكَاحِ ثَابِتٌ فِي الصُّورَتَيْنِ بِالْمُقْتَضَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} إلَّا أَنَّ الْوَطْءَ هُنَاكَ حَرُمَ لِوُجُودِ الشَّغْلِ حَقِيقَةً كَيْ لَا يَسْقِي مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَدُلَّ جَوَازُ النِّكَاحِ هُنَاكَ عَلَى حِلِّ الْوَطْءِ لِلْحَمْلِ، أَمَّا هُنَا لَا حَمْلَ حَقِيقَةً، فَلَوْ كَانَ إنَّمَا كَانَ حُكْمًا وَشَرْعًا فَكَانَ جَوَازُ النِّكَاحِ شَرْعًا
بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الشَّغْلِ.
(وَكَذَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عِنْدَهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا) وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا.
قَالَ (وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ أَتَمَتَّعُ بِكَ كَذَا مُدَّةً بِكَذَا مِنْ الْمَالِ
أَمَارَةُ الْفَرَاغِ دَلِيلُ فَرَاغِ الرَّحِمِ حُكْمًا. وَجَوَابُ شَارِحِ الْكَنْزِ وَغَيْرِهِ بِتَخْصِيصِ الدَّعْوَى، فَإِنَّ مُرَادَنَا أَنَّهُ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ عَنْ حِمْلٍ ثَابِتِ النَّسَبِ.
أَوْ نَقُولُ: هُوَ دَلِيلُ الْفَرَاغِ فِي الْمُحْتَمَلِ لَا فِيمَا تَحَقَّقَ وُجُودُهُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ جَوَابُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ إذَا تَأَمَّلَتْ وَهُوَ الْأَوْلَى: أَعْنِي كَوْنَهُ دَلِيلَ الْفَرَاغِ فِي الْمُحْتَمَلِ وَمَحَلُّ النِّزَاعِ مُحْتَمِلٌ، وَمَعَ الْحُكْمِ بِالْفَرَاغِ لَا يَثْبُتُ تَوَهُّمُ الشَّغْلِ شَرْعًا فَلَا مُوجِبَ لِاسْتِحْبَابِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَكِنَّ صِحَّتَهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى دَلِيلِ اعْتِبَارِهَا أَمَارَةُ الْفَرَاغِ عَنْهُ لِأَنَّ حَاصِلَهُ ادِّعَاءُ وَضْعٍ شَرْعِيٍّ، وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا عُرِفَ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّحَّةِ، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِهَا دَلِيلُ الْفَرَاغِ فِي الْمُحْتَمَلِ دُونَ الْمُتَحَقِّقِ فَلَا. وَاخْتَارَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّهُ أَحْوَطُ. هَذَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ لِلتَّزَوُّجِ بَعْدَ كُلِّ وَطْءٍ وَلَوْ زِنًا
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عِنْدَهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا) وَعِنْدَ زُفَرَ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِمَا قُلْنَاهُ عَنْهُ، وَقِيلَ يَكْفِي حَيْضَةً (قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى) أَيْ فِي حِلِّ وَطْءِ الزَّانِيَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ عَقِيبَ الْعِلْمِ بِزِنَاهَا عِنْدَهُمَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَعْدَهُ (مَا ذَكَرْنَا) لَهُمَا مِنْ أَنَّ الصِّحَّةَ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ فِي الْمُحْتَمَلِ فَلَا مُوجِبَ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِلَا سَبَبٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَطْءُ يُوجِبُ تَوَهُّمَ الشَّغْلِ فَتُسْتَبْرَأُ كَالْمُشْتَرَاةِ.
(قَوْلُهُ وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ) خَالِيَةٌ مِنْ الْمَوَانِعِ (أَتَمَتَّعُ بِكَ كَذَا مُدَّةِ) عَشَرَةِ أَيَّامٍ مَثَلًا أَوْ يَقُولُ أَيَّامًا أَوْ مَتِّعِينِي نَفْسَك أَيَّامًا أَوْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ أَيَّامًا (بِكَذَا مِنْ الْمَالِ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ أَنْ يُذْكَرَ الْمُوَقَّتُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجُ وَفِي الْمُتْعَةِ أَتَمَتَّعُ أَوْ أَسْتَمْتِعُ اهـ. يَعْنِي مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَادَّةِ مُتْعَةٍ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ فِي الْمُتْعَةِ وَتَعْيِينُ الْمُدَّةِ، وَفِي الْمُوَقَّتِ الشُّهُودُ وَتَعْيِينُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِهَؤُلَاءِ عَلَى تَعْيِينِ كَوْنِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ الَّذِي أَبَاحَهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ حَرَّمَهُ هُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَادَّةُ م ت ع لِلْقَطْعِ مِنْ الْآثَارِ بِأَنَّ الْمُتَحَقِّقَ لَيْسَ إلَّا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنْ بَاشَرَ هَذَا الْمَأْذُونَ فِيهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُخَاطِبَهَا بِلَفْظِ أَتَمَتَّعُ وَنَحْوُهُ لِمَا عُرِفَ مَنْ أَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يُطْلَقُ
وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: هُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ نَاسِخُهُ. قُلْنَا: ثَبَتَ النَّسْخُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِهِمْ فَتَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ.
وَيُرَادُ مَعْنَاهُ، فَإِذَا قَالَ تَمَتَّعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسْوَةِ فَلَيْسَ مَفْهُومُهُ قُولُوا أَتَمَتَّعُ بِك بَلْ أَوْجِدُوا مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ الْمَشْهُورُ أَنْ يُوجَدَ عَقْدًا عَلَى امْرَأَةٍ لَا يُرَادُ بِهِ مَقَاصِدَ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ الْقَرَارِ لِلْوَلَدِ وَتَرْبِيَتِهِ بَلْ إلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يَنْتَهِي الْعَقْدُ بِانْتِهَائِهَا أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِمَعْنَى بَقَاءِ الْعَقْدِ مَا دُمْت مَعَك إلَى أَنْ أَنْصَرِفَ عَنْك فَلَا عَقْدَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الْمُتْعَةِ عَقْدٌ مُوَقَّتٌ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا بِمَادَّةِ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحُ الْمُوَقَّتُ أَيْضًا فَيَكُونُ النِّكَاحُ الْمُوَقَّتُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتْعَةِ وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ وَأُحْضِرَ الشُّهُودُ وَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُفِيدُ التَّوَاضُعَ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَلَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ لَفْظٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ بَاشَرَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بِلَفْظِ تَمَتَّعْت بِك وَنَحْوِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ جَائِزٌ) نِسْبَتُهُ إلَى مَالِكٍ غَلَطٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ النَّسْخُ) هَذَا مُتَمَسِّكُ مَنْ يَقُولُ بِهَا كَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (قُلْنَا قَدْ ثَبَتَ النَّسْخُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم) هَذِهِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَلَيْسَتْ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً فِيهَا فَإِنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَدِّرَ مَحْذُوفٌ: أَيْ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِإِجْمَاعِهِمْ: أَيْ لَمَّا عُرِفَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ عُلِمَ أَنَّهُ نُسِخَ بِدَلِيلِ النَّسْخِ أَوْ هِيَ لِلْمُصَاحَبَةِ: أَيْ لِمَا ثَبَتَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ عُلِمَ مَعَهُ النَّسْخُ.
وَأَمَّا دَلِيلُ النَّسْخِ بِعَيْنِهِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ» وَالتَّوْفِيقُ أَنَّهَا نُسِخَتْ مَرَّتَيْنِ. قِيلَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ نُسِخَتْ
(وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ بَاطِلٌ) مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
مَرَّتَيْنِ: الْمُتْعَةُ، وَلُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالتَّوَجُّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النَّاسِخِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ أَبَاحَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَبِانْقِضَائِهَا تَنْتَهِي الْإِبَاحَةُ، وَذَلِكَ لِمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْأَصْلِ: بَلَغَنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَحَلَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الدَّهْرِ فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ فِيهَا الْعُزُوبَةُ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا» . وَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ حِينَ صَدَرَتْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلِذَا قَالَ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا. وَهُوَ يُشْبِهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُتْعَةِ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ كَأَنَّهَا بَكْرَةٌ عَيْطَاءُ فَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَنْفُسَنَا فَقَالَتْ: مَا تُعْطِينِي؟ فَقُلْتُ رِدَائِي وَقَالَ صَاحِبِي رِدَائِي، وَكَانَ رِدَاءُ صَاحِبِي أَجْوَدَ مِنْ رِدَائِي وَكُنْتُ أَنَا أَشَبَّ مِنْهُ، فَإِذَا نَظَرَتْ إلَى رِدَاءِ صَاحِبِي أَعْجَبَهَا، وَإِذَا نَظَرَتْ إلَيَّ أَعْجَبْتُهَا، ثُمَّ قَالَتْ: أَنْتَ وَرِدَاؤُكَ تَكْفِينِي، فَمَكَثْتُ مَعَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهِنَّ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا» فَهَذَا مِثْلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ أَقَامَتْ ثَلَاثًا لَا أَنَّهَا تَعَلَّقَتْ مُقَيَّدَةً بِالثَّلَاثِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّاسِخِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ. وَأَمَّا ظَاهِرُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُعْطِي الْإِجْمَاعَ فَمَا أَخْرَجَهُ الْحَازِمِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى جَابِرٍ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى إذَا كُنَّا عِنْدَ الْعَقَبَةِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ جَاءَتْ نِسْوَةٌ فَذَكَرْنَا تَمَتُّعَنَا مِنْهُنَّ وَهُنَّ يَظْعَنَّ فِي رِحَالِنَا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إلَيْهِنَّ وَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسْوَةٌ تَمَتَّعْنَا مِنْهُنَّ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ وَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَامَ فِينَا خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، فَتَوَادَعْنَا يَوْمَئِذٍ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَلَمْ نَعُدْ وَلَا نَعُودُ إلَيْهَا أَبَدًا» وَابْنُ عَبَّاسٍ صَحَّ رُجُوعُهُ بَعْدَمَا اُشْتُهِرَ عَنْهُ مِنْ إبَاحَتِهَا، فَمَا ذَكَرَ مِنْ رُجُوعِهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ: إنَّك رَجُلٌ تَائِهٍ «إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُلَيِّنُ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَقَالَ: مَهْلًا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ» .
وَهَذَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي رُجُوعِهِ بَلْ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ لَهُ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ حِينَ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَامَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: إنَّ نَاسًا أَعْمَى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ كَمَا أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ يُفْتُونَ بِالْمُتْعَةِ يُعَرِّضُ بِرَجُلٍ فَنَادَاهُ فَقَالَ: إنَّك لَجِلْفٌ جَافٌّ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَتْ الْمُتْعَةُ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ إمَامِ الْمُتَّقِينَ، يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَجَرِّبْ نَفْسَك، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَهَا لَأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكِ " الْحَدِيثُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَلَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الرَّجُلُ الْمُعَرَّضُ بِهِ وَكَانَ رضي الله عنه قَدْ كَفَّ
وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: هُوَ صَحِيحٌ لَازِمٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي،
بَصَرَهُ، فَلِذَا قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَمَا أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ عَلِيٍّ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَمِرُّ الْقَوْلِ عَلَى جَوَازِهَا وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ مُقِيمٌ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ شَأْنَهُ، حَتَّى إذَا نَزَلَتْ الْآيَةُ {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ اهـ.
فَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَرَجَعَ إلَيْهِ أَوْ حَكَاهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَهَا حَالَةَ الِاضْطِرَارِ وَالْعَنَتِ فِي الْأَسْفَارِ. أَسْنَدَ الْحَازِمِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْخَطَّابِيِّ إلَى الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ سَارَتْ بِفُتْيَاك الرُّكْبَانُ وَقَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ قَالَ: وَمَا قَالُوا؟ قُلْت قَالُوا:
قَدْ قُلْت لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مُحْبَسُهُ
…
يَا صَاحِ هَلْ لَك فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ
هَلْ لَك فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةً
…
تَكُونُ مَثْوَاك حَتَّى يَصْدُرَ النَّاسُ
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا بِهَذَا أَفْتَيْت وَمَا هِيَ إلَّا كَالْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا تَحِلُّ إلَّا لِلْمُضْطَرِّ اهـ. وَلِهَذَا قَالَ الْحَازِمِيُّ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ أَبَاحَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَوْطَانُهُمْ، وَإِنَّمَا أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ بِحَسْبِ الضَّرُورَاتِ حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ فِي آخَرِ سِنِيهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ تَحْرِيمُ تَأْبِيدٍ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا طَائِفَةً مِنْ الشِّيعَةِ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ زُفَرُ هُوَ جَائِزٌ) يَعْنِي النِّكَاحَ الْمُوَقَّتَ هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ بَلْ تَبْطُلُ هِيَ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ، فَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ صَحَّ وَبَطَلَ الشَّرْطُ. أَمَّا لَوْ تَزَوَّجَ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ مُدَّةٍ نَوَاهَا صَحَّ، وَلَا بَأْسَ بِتَزَوُّجِ النَّهَارِيَّاتِ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْعِبْرَةِ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي) وَلِذَا لَوْ قَالَ جَعَلْتُكَ وَكِيلًا بَعْدَ مَوْتِي انْعَقَدَ وَصِيَّةً، أَوْ جَعَلَتْك وَصِيًّا فِي حَيَاتِي انْعَقَدَ وَكَالَةً، وَلَوْ أَعْطَى الْمَالَ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ الرِّبْحَ لِلْمُضَارِبِ كَانَ قَرْضًا أَوْ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ بِضَاعَةً: وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ يَكُونُ الْمُوَقَّتُ مِنْ نَفْسِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِ إبْدَاءِ النَّاسِخِ فِي دَفْعِ قَوْلِ زُفَرَ. هَذَا وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ يَتَرَجَّحَ قَوْلُهُ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّتُ مُتْعَةً وَهُوَ مَنْسُوخٌ، لَكِنْ نَقُولُ: الْمَنْسُوخُ مَعْنَى الْمُتْعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَتْ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يَنْتَهِي الْعَقْدُ فِيهِ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَيَتَلَاشَى، وَأَنَا لَا أَقُولُ بِهِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَقُولُ يَنْعَقِدُ مُؤَبَّدًا وَيَلْغُو شَرْطَ التَّوْقِيتِ، فَحَقِيقَةُ إلْغَاءِ شَرْطِ التَّوْقِيتِ هُوَ أَثَرُ النَّسْخِ.
وَأَقْرَبُ نَظِيرٍ إلَى هَذَا نِكَاحُ الشِّغَارِ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلَانِ كُلَّ مُوَلِّيَةِ الْآخَرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُلٍّ مَهْرًا لِمُوَلِّيَةِ الْآخَرِ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ، وَقُلْنَا: إذَا عَقَدَ كَذَلِكَ صَحَّ مُوجِبًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَمْ يَلْزَمْنَا النَّهْيُ لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِهِ كَذَلِكَ مُوجِبًا لِلْبُضْعَيْنِ مَهْرَيْنِ بَلْ عَلَى إلْغَاءِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فَلَمْ
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا طَالَتْ مُدَّةُ التَّأْقِيتِ أَوْ قَصُرَتْ لِأَنَّ التَّأْقِيتَ هُوَ الْمُعَيِّنُ لِجِهَةِ الْمُتْعَةِ وَقَدْ وُجِدَ
يَلْزَمْنَا النَّهْيُ، فَقَوْلُ زُفَرَ مِثْلُ هَذَا سَوَاءً. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَأَصْلٌ مُنْضَمٌّ إلَى أُصُولٍ شَتَّى مِمَّا اُشْتُرِطَ فِيهِ مِنْ النِّكَاحِ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَكَوْنُهُ غَيْرَ صَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا عُقِدَ مُؤَبَّدًا وَلِذَا إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ لَا يَنْتَهِي النِّكَاحُ بَلْ هُوَ مُسْتَمِرُّ إلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا يَنْدَفِعُ بِمَا ذَكَرْنَا مِمَّا يُوجِبُ أَنَّ أَثَرَ التَّوْقِيتِ فِي إبْطَالِهِ مُوَقَّتًا لَا فِي إبْطَالِهِ مُطْلَقًا. فَإِنْ قُلْت: فَلَوْ عَقَدَ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ وَأَرَادَ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ الْمُؤَبَّدَ هَلْ يَنْعَقِدُ أَوْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ هَلْ يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتْعَةِ؟ فَالْجَوَابُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ النِّكَاحَ وَحَضَرَهُ الشُّهُودُ، وَلَيْسَ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ تَوْقِيتٌ بَلْ التَّأْبِيدُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَجَازًا عَنْ مَعْنَى النِّكَاحِ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ كَالْإِحْلَالِ. قَالَ: فَإِنَّ مَنْ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ طَعَامًا أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ اهـ.
يَعْنِي انْتَفَى طَرِيقُ الْمَجَازِ الَّذِي بَيِّنَاهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ) نَفْيٌ لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا إذَا سَمَّيَا مُدَّةً لَا يَعِيشَانِ إلَيْهَا صَحَّ لِتَأْبِيدِهِ مَعْنًى. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا تَأْبِيدًا مَعْنًى بَلْ تَوْقِيتٌ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَالْمُبْطِلُ هُوَ التَّوْقِيتُ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ الْمُعَيِّنُ لِجِهَةِ الْمُتْعَةِ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ الْمُوَقَّتَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتْعَةِ. هَذَا وَإِذَا انْسَاقَ الْكَلَامُ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ وَهُوَ اشْتِرَاطُ مَا لَيْسَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ بَلْ يَبْطُلُ هُوَ نَاسَبَ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ الْكَلَامُ فِي اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوْ هِيَ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ الْخِيَارُ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ كَالْهَزْلِ لِأَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلسَّبَبِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ أَبَدًا وَشَارِطَ الْخِيَارِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ. فَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ الْهَزْلُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ لِلْحَدِيثِ «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» وَقَدْ أَسْلَفْنَا تَخْرِيجَهُ فَشَرْطُ الْخِيَارِ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَهُ، وَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ ثُبُوتَ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ حِينِ صُدُورِ الْعَقْدِ كَانَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَبْطُلُ.
وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَحَقِيقَتُهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي مَوْضِعٍ يَثْبُتُ كَالْبَيْعِ، بَلْ إذَا اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ بِلَا اشْتِرَاطٍ وَالنِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِلَا رُؤْيَةٍ إجْمَاعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فِيهِ، وَلَوْ فُرِضَ اشْتِرَاطُ خِيَارِ الْفَسْخِ إذَا رَآهَا كَانَ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَبْطُلُ، وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ إذَا وُجِدَ مَعِيبًا بِبَرَصٍ أَوْ جُذَامٍ أَوْ رَتْقٍ أَوْ قَرْنٍ أَوْ عَفَلٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ فَالِجٍ أَوْ غَيْرِهِ أَيًّا كَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سِوَى عَيْبِ الْجُبِّ وَالْعُنَّةِ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ الْقَرْنُ وَالرَّتْقُ وَالْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ. وَلِمُحَمَّدٍ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تُطِيقُ الْمَقَامَ مَعَهُ حَيْثُ يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ. لَنَا مَا رُوِيَ «عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِلَّتِي تَزَوَّجَهَا فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا الْحَقِي بِأَهْلِكِ» وَهَذَا مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، بَلْ لَا يَبْعُدُ عَدُّهُ مِنْ صَرَائِحِهِ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ بِالِاسْتِقْرَاءِ فَعُرِفَ أَنَّهُ لَا فَسْخَ عَنْ عَيْبٍ
(وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا صَحَّ نِكَاحُ الَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأُخْرَى) لِأَنَّ الْمُبْطِلَ فِي إحْدَاهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ شَرْطٌ فِيهِ، ثَمَّ جَمِيعُ الْمُسَمَّى لِلَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا
وَحُجَّتُنَا أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا تُرَدُّ الْحُرَّةُ عَنْ عَيْبٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا وَجَدَ بِامْرَأَتِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ لَهُ إنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ، وَحَمْلُهُ عَلَى خِيَارِ الطَّلَاقِ بَعِيدٌ فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلِ إثْبَاتِ عُمَرَ إيَّاهُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَرْجَحُ فِيمَا يَظْهَرُ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّخَلُّصِ بِالطَّلَاقِ وَمَا أَفَادَتْهُ هَذِهِ الدَّلَائِلُ إنَّمَا هُوَ فِي تَخَلُّصِ الرَّجُلِ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى التَّخَلُّصِ وَمَأْمُورَةٌ بِالْفِرَارِ قَالَ صلى الله عليه وسلم «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ» وَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَوِيلُ الذَّيْلِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ يَحْتَمِلُ أَنْظَارًا لَسْنَا بِصَدَدِهَا إذْ لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الْكِتَابِ بَلْ الْمَقْصُودُ تَتْمِيمُ الْفَائِدَةِ بِالْفُرُوعِ الْمُنَاسِبَةِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ السَّلَامَةَ مِنْ تِلْكَ الْعُيُوبِ أَوْ مِنْ الْعَمَى وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ أَوْ شَرَطَ صِفَةَ الْجَمَالِ فَوَجَدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ. وَمِنْ هَذَا وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطٍ أَنَّهَا بِكْرٌ فَإِذَا هِيَ ثَيِّبٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ، بَلْ إنْ شَاءَ طَلَّقَ، وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا لَا تَحِلُّ لَهُ) لِرَضَاعٍ أَوْ قَرَابَةٍ مُحَرَّمَةٍ (صَحَّ نِكَاحُ الْمُحَلَّلَةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْمُحَرَّمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ) حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ شَرْطٌ فَاسِدٌ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ فَيُبْطِلُهُ، وَهُنَا الْمُبْطِلُ يَخُصُّ الْمُحَرَّمَةِ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ (قَوْلُهُ ثُمَّ جَمِيعُ الْمُسَمَّى لِلَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا) كَأَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى أَلْفًا وَمَهْرُ مِثْلِ الْمُحَرَّمَةِ أَلْفَانِ وَالْمُحَلَّلَةِ أَلْفٌ فَيَلْزَمُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ لِلَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا وَيَسْقُطُ الْبَاقِي، وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِاَلَّتِي لَا تَحِلُّ فَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ وَالْأَلْفُ كُلُّهَا لِلْمُحَلَّلَةِ، قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا وَلَا يُجَاوِزُ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ،
وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْأَصْلِ.
(وَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً فَجَعَلَهَا الْقَاضِي امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ تَزَوَّجَهَا وَسِعَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ وَأَنْ تَدَعَهُ يُجَامِعُهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ الْحُجَّةَ إذْ الشُّهُودُ كَذَبَةٌ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ
وَلَوْ كَانَ صَحَّ نِكَاحُهُمَا انْقَسَمَتْ الْأَلْفُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا اتِّفَاقًا (قَوْلُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْأَصْلِ) مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ يَقْصِدُ بِهِ الْإِحَالَةَ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ لِتَتْمِيمِ مُتَعَلِّقَاتِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُ. وَحَاصِلُ الْمَذْكُورِ لَهُمَا فِيهِ أَنَّ الْمُسَمَّى قُوبِلَ بِالْبُضْعَيْنِ وَلَمْ يُسَلَّمَا، وَكُلُّ مَا قُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ وَلَمْ يُسَلَّمَا فَاللَّازِمُ حِصَّةُ السَّالِمِ.
بَيَانُ تَقَرُّرِ الْكُبْرَى شَرْعًا مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ. فَإِذَا أَحَدُهُمَا مُدَبَّرٌ أَوْ خَاطَبَ امْرَأَتَيْنِ بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ فَأَجَابَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى بَلْ مَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى فَإِنَّ الْمُحَرَّمَةَ دَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ عِنْدَهُ وَلِذَا لَا يُحَدُّ بِوَطْئِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ عِنْدَهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ دُخُولِهَا انْقِسَامُ الْبَدَلِ. وَلَهُ مَنْعُ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى بَلْ الْمَضْمُومُ إلَى الْمُحَلَّلَةِ إمَّا مُحِلٌّ أَوْ لَا، فَفِي الْأَوَّلِ يَنْقَسِمُ وَفِي الثَّانِي لَا، كَمَا لَوْ ضَمَّ جِدَارًا أَوْ حِمَارًا فَإِنَّ الْكُلَّ فِيهِ لِلْمُحِلِّ وَالضَّمُّ لَغْوٌ وَضَمُّ الْمُحَرَّمَةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ الْحِلُّ، فَالْمُحَرَّمَةُ لَيْسَتْ بِمُحِلٍّ فَلَمْ تَدْخُلْ وَالْمُدَبَّرُ مَالٌ فَهُوَ مُحِلٌّ، وَلِذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ نَفَذَ فَيَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّ نَفْسَهُ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَسُقُوطُ الْحَدِّ عِنْدَهُ فِي وَطْءِ الْمُحَرَّمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مِنْ حُكْمِ صُورَةِ الْعَقْدِ، وَسَنُبَيِّنُ وَجْهَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ لَا مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِهِ وَالِانْقِسَامُ مِنْ حُكْمِ الِانْعِقَادِ. وَالِانْقِسَامُ فِي الْمُخَاطَبَتَيْنِ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الْإِيجَابِ لِلْمَحَلِّيَّةِ، فَإِنَّهُمَا لَوْ أَجَابَتَا صَحَّ نِكَاحُهُمَا مَعًا وَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا.
هَذَا وَقَدْ ادَّعَى أَنَّ مَا فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ بِاَلَّتِي لَا تَحِلُّ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُجَاوِزُ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّهُ فَرَّعَ دُخُولَهَا فِي الْعَقْدِ، وَدَفَعَ بِأَنَّهُ قَوْلُهُمَا لَا قَوْلُهُ فِي الْأَصَحِّ، وَقَوْلُهُ يَجِبُ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالْمَنْعُ مِنْ الْمُجَاوَزَةِ لِمُجَرَّدِ التَّسْمِيَةِ وَرِضَاهَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى لَا بِدُخُولِهَا فِي الْعَقْدِ. فَأَمَّا الِانْقِسَامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ فَبِاعْتِبَارِ الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ، فَاَلَّتِي تَحِلُّ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِذَلِكَ فَالْكُلُّ لَهَا. وَقَدْ يُورِدُ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ إنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ أَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ يَقْتَضِي أَجْنَبِيَّتَهَا عَنْهُ، فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَجِبُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَهُوَ فَرْعُ الدُّخُولِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ؟ وَيُجَابُ بِأَنَّ وُجُوبَهُ بِالْعُذْرِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ دَرْءُ الْحَدِّ وَهُوَ صُورَةُ الْعَقْدِ. وَيُورِدُ عَلَى قَوْلِهِمَا أَيْضًا كَيْفَ وَجَبَ لَهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ بِالدُّخُولِ وَهُوَ حُكْمُ دُخُولِهَا فِي الْعَقْدِ ثُمَّ يَجِبُ الْحَدُّ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ، وَلَا مَخْلَصَ إلَّا بِتَخْصِيصِهِمَا الدَّعْوَى فَيَجِبُ الْحَدُّ لِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْحِلِّ وَالْمَهْرُ لِلِانْقِسَامِ بِالدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةً) لَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الْقَاضِيَ إنْشَاءُ الْعَقْدِ فِيهِ، فَلَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ أَوْ هِيَ ادَّعَتْ النِّكَاحَ أَوْ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ كَذِبًا وَبَرْهَنَا زُورًا فَقَضَى بِالنِّكَاحِ أَوْ الطَّلَاقِ نَفَذَ ظَاهِرًا، فَتُطَالِبُ الْمَرْأَةُ فِي الْحُكْمِ بِالْقَسْمِ وَالْوَطْءِ وَالنَّفَقَةِ، وَبَاطِنًا فَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَلَهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ. وَقَوْلُنَا
أَوْ كُفَّارٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشُّهُودَ صَدَقَةٌ عِنْدَهُ وَهُوَ الْحُجَّةُ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الصِّدْقِ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِمَا مُتَيَسِّرٌ، وَإِذَا ابْتَنَى الْقَضَاءُ عَلَى الْحُجَّةِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ بَاطِنًا بِتَقْدِيمِ النِّكَاحِ نَفَذَ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ،
إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الْقَاضِي إنْشَاؤُهُ يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ أَوْ مُطَلَّقَتَهُ ثَلَاثًا فَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْقَاضِي عَلَى إنْشَاءِ الْعَقْدِ فِيهِ. أَمَّا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فَفِي نَفَاذِ الْقَضَاءِ بِهِمَا بَاطِنًا رِوَايَتَانِ إذَا ادَّعَيَا كَذِبًا. وَجْهُ الْمَانِعَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَ مَالِ الْغَيْرِ بِلَا عِوَضٍ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَطَأَهَا إذَا ادَّعَى كَذِبًا، وَإِذَا كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ يُطَلِّقُهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَكَمَا لَا تَحِلُّ لِلثَّانِي لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ فِيمَا إذَا ادَّعَتْ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ كَذِبًا فَقَضَى بِهِ وَتَزَوَّجَتْ آخَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَحِلُّ لِلثَّانِي لَا لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ عَلَى الْغَيْرِ أَحْيَانًا، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ وَأُخْتِهَا، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي دَعْوَى الْفَسْخِ بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ فَسْخَ الْبَيْعِ كَذِبًا وَبَرْهَنَ زُورًا فَفَسَخَ الْقَاضِي يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَيَحِلُّ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى بَيْعَ الْأَمَةِ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ بَاعَهَا فَقَضَى بِهَا الْقَاضِي لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ حَلَّتْ لَهُ، وَكَذَا فِي دَعْوَى الْعِتْقِ وَالنَّسَبِ. وَجْهُ تَمَسُّكِهِمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَأَيْضًا الْقَضَاءُ إمَّا إمْضَاءٌ لِعَقْدٍ سَابِقٍ أَوْ إنْشَاءٍ لَا يَصِحُّ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ سَابِقٍ، وَلَا الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ وَلَا شُهُودٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَإِنَّمَا فِي وُسْعِهِ الْقَضَاءُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَهُ وَقَدْ فَعَلَ وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَلِمَ كَذِبَ الشُّهُودِ لَا يُنَفِّذُ، وَلَمَّا لَمْ يَسْتَلْزِمْ مَا ذَكَرَ النَّفَاذَ بَاطِنًا إذْ الْقَدْرُ الَّذِي تُوجِبُهُ الْحُجَّةُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّفَاذَ بَاطِنًا إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ وَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ زَادَ قَوْلُهُ (وَإِذَا ابْتَنَى الْقَضَاءُ عَلَى الْحُجَّةِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ بَاطِنًا بِتَقْدِيمِ النِّكَاحِ يَنْفُذُ) فَأَفَادَ اخْتِيَارُ أَحَدِ شِقَّيْ تَرْدِيدِهِمَا وَهُوَ أَنَّهُ إنْشَاءٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْإِنْشَاءُ اقْتِضَاءً لِلْقَضَاءِ بِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ، وَأَفَادَ بِذَلِكَ جَوَابُهُمَا عَمَّا أَبْطَلَا بِهِ هَذَا الشِّقُّ مِنْ عَدَمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالشُّهُودِ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ضِمْنِيًّا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِلضِّمْنِيَّاتِ مَا يُشْتَرَطُ لَهَا إذَا كَانَتْ قَصْدِيَّاتٍ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَشَايِخِ شَرَطُوا حُضُورَ الشُّهُودِ الْقَضَاءَ لِلنَّفَاذِ بَاطِنًا وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَوْجُهُ، وَلَوْ أَنَّهُمَا أَبْطَلَا هَذَا الشِّقَّ بِعَدَمِ التَّرَاضِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَنْدَفِعْ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ الْمُقْتَضَى مَا ثَبَتَ ضَرُورَةَ صِحَّةِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ احْتِيَاجِ صِحَّةِ الْقَضَاءِ إلَى تَقْدِيمِ الْإِنْشَاءِ إلَّا إذَا افْتَقَرَتْ صِحَّتُهُ إلَى نَفَاذِهِ بَاطِنًا وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ لِثُبُوتِهِ مَعَ انْتِفَائِهِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ حَيْثُ يَصِحُّ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا زَادَ قَوْلُهُ (قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا تَنْقَطِعُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلَّا بِتَنْفِيذِهِ بَاطِنًا، إذْ لَوْ بَقِيَتْ الْحُرْمَةُ تَكَرَّرَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي طَلَبِهَا الْوَطْءَ أَوْ طَلَبِهِ مَعَ امْتِنَاعِ الْآخَرِ لِعِلْمِهِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْإِنْشَاءِ فَكَأَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ زَوَّجْتُكهَا وَقَضَيْت بِذَلِكَ كَقَوْلِك هُوَ حُرٌّ فِي جَوَابِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ حَيْثُ يَتَضَمَّنُ الْبَيْعُ مِنْهُ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّين أَنَّ بَعْضَ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْمَغَارِبَةِ مَنَعَ الْحَصْرَ وَقَالَ يُمْكِنُ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا، قَالَ فَأَجَبْته مَا تُرِيدُ بِالطَّلَاقِ، الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ أَوْ غَيْرُهُ لَا عِبْرَةَ بِغَيْرِهِ، وَالْمَشْرُوعُ يَسْتَلْزِمُ الْمَطْلُوبَ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ. قَالَ شَيْخُنَا سِرَاجُ الدِّينِ: لَيْسَ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ، إذْ لَهُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقَ غَيْرَ الْمَشْرُوعِ، وَكَوْنُهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي كَوْنِهِ طَلَاقًا صَحِيحًا لَا يَضُرُّ، إذْ قَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَطْعَ الْمُنَازَعَةِ الْوَاجِبَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّنْفِيذِ بَاطِنًا لِيَجِبَ التَّنْفِيذُ بَاطِنًا بَلْ تَحَقَّقَ طَرِيقٌ آخَرُ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَهُوَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَجِبْ التَّنْفِيذُ بَاطِنًا حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجَبٌ سِوَى انْحِصَارِ طَرِيقِ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِيهِ وَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْحَصِرْ. وَالْحَقُّ أَنَّ قَطْعَ الْمُنَازَعَةِ يَنْتَهِضْ سَبَبًا لِلتَّنْفِيذِ بَاطِنًا فِيمَا إذَا كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ لَا فِيمَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ لِمَا ذَكَرَ، فَفِيهِ قُصُورٌ عَنْ صُوَرِ الْمُدَّعِي وَهُوَ النَّفَاذُ بَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ.
الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ فَقَضَى عَلِيٌّ بِذَلِكَ. فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: إنْ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْهُ بُدٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ، فَقَالَ: شَاهِدَاك زَوْجَاك، يَخُصُّ مَا إذَا انْحَصَرَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فِي التَّنْفِيذِ بَاطِنًا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ بَاطِنًا لَأَجَابَهَا فِيمَا طَلَبَتْ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهَا. وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُنَازَعَةِ فِي قَوْلِهِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ اللَّجَاجُ الْمُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ لَا فَتَنَاوَلَ مَا إذَا لَجَّ الْأَوَّلُ فِي طَلَبِهَا بَاطِنًا بِأَنْ يَأْتِيَهَا لِقَصْدِ جِمَاعِهَا كَرْهًا أَوْ بِاسْتِرْضَائِهَا وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَالْحِلِّ الْبَاطِنِ.
وَفِي هَذَا بَعْدَ كَوْنِهِ مُنْشَأَ مَفْسَدَةِ التَّقَاتُلِ وَالسَّفْكِ لِكَوْنِهِ عُرْضَةً لَهُ بِاطِّلَاعِ الزَّوْجِ عَلَيْهِ قُبْحُ اجْتِمَاعِ زَوْجَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ أَحَدِهِمَا سِرًّا وَالْآخَرِ جَهْرًا، وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ يَنْبُو عَنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فَلَا تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَعَمِّيَّةِ إلَّا بِالْحُكْمِ بِالنَّفَاذِ بَاطِنًا وَثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِفَسْخِ الْقَاضِي فَعَمَّ الصُّوَرَ ثُمَّ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِالدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ وَإِثْبَاتُهَا بِالطَّرِيقِ الْبَاطِلِ إثْمٌ يَا لَهُ مِنْ إثْمٍ غَيْرَ أَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حِلٍّ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْجَهُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ ادَّعَى فَسْخَ بَيْعِهَا كَذِبًا وَبَرْهَنَ فَقَضَى بِهِ حَلَّ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِ دَعْوَى الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ بِالْعِتْقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إتْلَافٌ
بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لِأَنَّ فِي الْأَسْبَابِ تَزَاحُمًا فَلَا إمْكَانَ
بَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ
مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِأَمْرَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا وَذَلِكَ مَا يَسْلَمُ لَهُ فِيهِ دِينُهُ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ) أَيْ الْمُطْلَقَةُ عَنْ تَعْيِينِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِأَنْ ادَّعَى الْمِلْكَ فِي هَذَا الشَّيْءِ وَلَمْ يُعَيِّنْ سَبَبًا، فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِهِ قَضَاءٌ بِالْيَدِ لَيْسَ غَيْرُ لِتَزَاحُمِ الْأَسْبَابِ: أَيْ تَعَدُّدِهَا فَلَا يُمْكِنُ الْقَاضِيَ تَعْيِينُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ إذْ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ بِخُصُوصِهِ، بِخِلَافِ مَا عُيِّنَ السَّبَبُ فِيهِ وَوَقَعَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى تَعْيِينِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ)
أُولَى الشَّرَائِطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا غَالِبًا الشَّرْطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وَهُوَ عَقْدُ الْوَلِيِّ. وَالْوَلِيُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْوَارِثُ، فَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ.
الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ نَوْعَانِ: وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَوِلَايَةُ إجْبَارٍ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَكَذَا الْكَبِيرَةُ الْمَعْتُوهَةُ وَالْمَرْقُوقَةُ. وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ بِأَسْبَابٍ أَرْبَعَةٍ: بِالْقَرَابَةِ، وَالْمِلْكِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْإِمَامَةِ. وَافْتَتَحَ الْبَابَ بِالْوِلَايَةِ الْمَنْدُوبَةِ نَفْيًا لِوُجُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُهِمٌّ لِاشْتِهَارِ الْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الدِّيَارِ وَكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ عَنْ الْأَصْحَابِ فِيهِ وَاخْتِلَافِهَا.
وَحَاصِلُ مَا عَنْ عُلَمَائِنَا رحمهم الله فِي ذَلِكَ سَبْعُ رِوَايَاتٍ: رِوَايَتَانِ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَجُوزُ مُبَاشَرَةُ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ عَقْدَ نِكَاحِهَا وَنِكَاحَ غَيْرِهَا مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْمُسْتَحَبِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ إنْ عَقَدَتْ مَعَ كُفْءٍ جَازَ وَمَعَ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ، وَاخْتِيرَتْ لِلْفَتْوَى لِمَا ذُكِرَ أَنَّ كَمْ مِنْ وَاقِعٍ لَا يُرْفَعُ وَلَيْسَ كُلُّ وَلِيٍّ يُحْسِنُ الْمُرَافَعَةَ وَالْخُصُومَةَ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، وَلَوْ أَحْسَنَ الْوَلِيُّ وَعَدَلَ الْقَاضِي فَقَدْ يَتْرُكُ أَنَفَةً لِلتَّرَدُّدِ عَلَى أَبْوَابِ الْحُكَّامِ وَاسْتِثْقَالًا لِنَفْسِ الْخُصُومَاتِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّرَرُ فَكَانَ مَنْعُهُ دَفْعًا لَهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ عَدَمَ الصِّحَّةِ الْمُفْتَى بِهِ بِمَا إذَا كَانَ لَهَا أَوْلِيَاءُ أَحْيَاءٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ إنَّمَا كَانَ عَلَى مَا وَجَّهَ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ دَفْعًا لِضَرَرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَقَرَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا، أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّهَا فَقَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ
(وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ بِرِضَاهَا) وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا وَلِيٌّ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ) رحمه الله (أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِوَلِيٍّ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْعَقِدُ وُقُوفًا) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِمَقَاصِدِهِ وَالتَّفْوِيضُ إلَيْهِنَّ مُخِلٌّ بِهَا، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله يَقُولُ: يَرْتَفِعُ الْخَلَلُ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا إذَا كَانَ لَهَا وَلِيٌّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الْكُفْءِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا مِنْ الْكُفْءِ وَغَيْرِهِ. وَرِوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ: انْعِقَادُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ إنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِلَّا بَطَلَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ كُفْئًا وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ يُجَدِّدُ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ. وَرِوَايَةُ رُجُوعِهِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ الثَّابِتَ الْآنَ هُوَ اتِّفَاقُ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا مِنْ الْكُفْءِ وَغَيْرِهِ، هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ تَرْتِيبِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عَدَمُ الْجَوَازِ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَكَذَا الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ الْأَخِيرُ فَلَا، وَرُجِّحَ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقْدَمُ وَأَعْرَفُ بِمَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا، لَكِنَّ ظَاهِرَ الْهِدَايَةِ اعْتِبَارُ مَا نَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ. وَعَلَى الْمُخْتَارِ لِلْفَتْوَى لَوْ زَوَّجَتْ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا نَفْسَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ وَدَخَلَ بِهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ تُحْفَظَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ غَيْرَ كُفْءٍ. وَأَمَّا لَوْ بَاشَرَ الْوَلِيُّ عَقْدَ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَإِذَا جَازَ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا أَصِيلَةً كَانَتْ أَوْ وَكِيلَةً.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ) شُرُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُرَادُ لِذَاتِهِ بَلْ لِمَقَاصِدِهِ مِنْ السَّكَنِ وَالِاسْتِقْرَارِ لِتَحْصِيلِ النَّسْلِ
وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهَا عَاقِلَةً مُمَيِّزَةً وَلِهَذَا كَانَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ وَلَهَا اخْتِيَارُ الْأَزْوَاجِ،
وَتَرْبِيَتِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ كُلِّ زَوْجٍ، وَالتَّفْوِيضُ إلَيْهِنَّ مُخِلٌّ بِهَذِهِ الْمَقَاصِدِ؛ لِأَنَّهُنَّ سَرِيعَاتُ الِاغْتِرَارِ سَيِّئَاتُ الِاخْتِيَارِ فَيَخْتَرْنَ مَنْ لَا يَصْلُحُ خُصُوصًا عِنْدَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ غَالِبُ أَحْوَالِهِنَّ، فَصَارَتْ الْأُنُوثَةُ مَظِنَّةَ قُصُورِ الرَّأْيِ لِمَا غَلَبَ عَلَى طَبْعِهِنَّ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَاسْتَلْزَمَ هَذَا التَّقْرِيرُ كَوْنَ عِلَّةِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ الْأُنُوثَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَاصِرٌ عَنْ عُمُومِ الدَّعْوَى فَإِنَّهَا لَوْ عَقَدَتْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ لَهَا فِي رَجُلٍ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ، وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ لَا يَشْمَلُهُ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ عِلِّيَّةَ الْأُنُوثَةِ، وَنَهْيُهَا عَنْ الْمُبَاشَرَةِ نَدْبٌ كَيْ لَا تُنْسَبَ إلَى الْوَقَاحَةِ، بَلْ الْعِلَّةُ لَيْسَتْ إلَّا
وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ كَيْ لَا تُنْسَبَ إلَى الْوَقَاحَةِ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْءِ وَغَيْرِ الْكُفْءِ وَلَكِنْ لِلْوَلِيِّ الِاعْتِرَاضُ فِي غَيْرِ الْكُفْءِ.
الصِّغَرُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ، وَالْمَفْسَدَةُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِمُبَاشَرَتِهَا وَلَا غَالِبَةً، وَلَا يُنَاطُ الْحُكْمُ بِالْأُنُوثَةِ إذْ لَيْسَتْ مَلْزُومَةً دَائِمًا وَلَا غَالِبًا كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَظِنَّةِ، وَمُجَرَّدُ الْوُقُوعِ أَحْيَانَا لَا يُوجِبُ الْمَظِنَّةَ، وَإِذَا وُجِدَ فَلِلْوَلِيِّ رَفْعُهُ، وَكَوْنُ وَلِيٍّ يَحْتَشِمُ عَنْ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يَقُومُ فِي دَفْعِ الْعَارِ الْمُسْتَمِرِّ عَنْ نَفْسِهِ، فَوُقُوعُ الْمَفْسَدَةِ قَلِيلٌ وَتَقْرِيرُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا قَلِيلٌ فِي قَلِيلٍ فَانْتَفَتْ الْمَظِنَّةُ، وَبَقِيَ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهَا عَاقِلَةً بَالِغَةً، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا اخْتِيَارُ الْأَزْوَاجِ فَلَا تُزَوَّجُ مِمَّنْ لَا تَرْضَاهُ.
ثُمَّ اسْتَشْعَرَ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِ مَنْعَ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا وَإِلَّا لَمْ يُطَالِبْ الْوَلِيَّ بِهِ. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُطَالِبُ الْوَلِيَّ بِهِ كَيْ لَا تُنْسَبَ إلَى الْوَقَاحَةِ. وَهَذَا كَلَامٌ عَلَى السَّنَدِ وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ إلَّا لَوْ سَاوَى وَهُوَ مُنْتَفٍ، فَإِنَّ لَهُ أَدِلَّةً أُخْرَى سَمْعِيَّةً هِيَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهَا وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} نَهَى الْأَوْلِيَاءَ عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنْ نِكَاحِ مَنْ يَخْتَرْنَهُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ مِمَّنْ فِي يَدِهِ الْمَمْنُوعُ وَهُوَ الْإِنْكَاحُ، وَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحَادِيثُ أُخَرُ فِي ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ أَمَّا الْآيَةُ فَمَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهِنَّ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ لَا تَمْنَعُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا أُرِيدَ بِالنِّكَاحِ الْعَقْدُ.
هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْخِطَابِ لِلْأَوْلِيَاءِ وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ لِلْأَزْوَاجِ فَإِنَّ الْخِطَابَ مَعَهُمْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أَيْ لَا تَمْنَعُوهُنَّ حِسًّا حَبْسًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ، وَيُوَافِقُهَا قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْكُفْءِ
إسْنَادِ الْفِعْلِ إلَى الْفَاعِلِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَمَا بِمَعْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فَمُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ. وَالْأَيِّمُ: مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا. فِي كِتَابِ الْأَمْثَالِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ فِي أَمْثَالِ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ: كُلُّ ذَاتِ بَعْلٍ سَتَئِيمُ. يُضْرَبُ لِتَحَوُّلِ الزَّمَنِ بِأَهْلِهِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْأَوَّلِ
:
أَفَاطِمُ إنِّي هَالِكٌ فَتَثَبَّتِي
…
وَلَا تَجْزَعِي كُلُّ النِّسَاءِ تَئِيمُ
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِكُلٍّ مِنْهَا وَمِنْ الْوَلِيِّ حَقًّا فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ أَحَقُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ سِوَى مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ إذَا رَضِيَتْ وَقَدْ جَعَلَهَا أَحَقَّ مِنْهُ بِهِ، فَبَعْدَ هَذَا إمَّا أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا رَوَوْا حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ أَوْ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَرَجَّحُ هَذَا بِقُوَّةِ السَّنَدِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّتِهِ، بِخِلَافِ الْحَدِيثَيْنِ فَإِنَّهُمَا: إمَّا ضَعِيفَانِ: فَحَدِيثُ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» مُضْطَرِبٌ فِي إسْنَادِهِ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ وَإِرْسَالِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَسَمَّى جَمَاعَةً مِنْهُمْ إسْرَائِيلُ وَشَرِيكُ، رَوَوْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَزَيْدُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى. وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَدْ اضْطَرَبَ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ. وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا اضْطِرَابٌ فِي إرْسَالِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا بُرْدَةَ لَمْ يَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَشُعْبَةُ وَسُفْيَانُ أَضْبَطُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ. قَالَ: وَأَسْنَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ سُفْيَانَ عَنْ سُفْيَانَ وَلَا يَصِحُّ ثُمَّ أُسْنِدَ إلَى شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَسْأَلُ أَبَا إِسْحَاقَ أَسَمِعْت أَبَا بُرْدَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» قَالَ نَعَمْ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إلْزَامِيٌّ، أَمَّا عَلَى رَأْيِنَا فَلَا يَضُرُّ الْإِرْسَالُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَقَدْ أَنْكَرَهُ الزُّهْرِيُّ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهُ ابْنَ شِهَابٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بِذَلِكَ.
وَإِمَّا حَسَنَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ فِي الْأَوَّلِ وَصْلُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصْلَ وَالرَّفْعَ مُقَدَّمَانِ عَلَى الْوَقْفِ وَالْإِرْسَالِ عِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ أَحْفَظَ مِنْ غَيْرِهِمَا، لَكِنَّ حِكَايَةَ شُعْبَةَ تُفِيدُ أَنَّهُمْ سَمِعَاهُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ظَاهِرًا وَغَيْرُهُمَا سَمِعُوهُ مِنْهُ فِي مَجَالِسَ. وَفِي الثَّانِي أَنَّ الثِّقَةَ قَدْ يَنْسَى الْحَدِيثَ وَلَا يُعَدُّ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ بَعْدَ عَدَالَةِ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَثِقَتِهِ. وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ أَشْهَرُهَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَبِيعَةَ ذَكَرَ لِسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ
لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاقِعٍ لَا يَرْفَعُ. وَيُرْوَى رُجُوعُ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِمَا
(وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ) خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ رحمه الله. لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالصَّغِيرَةِ وَهَذَا لِأَنَّهَا جَاهِلَةٌ بِأَمْرِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ التَّجْرِبَةِ
حَدِيثًا فَأَنْكَرَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبِيعَةُ: أَنْتَ حَدَّثْتَنِي بِهِ عَنْ أَبِيك فَكَانَ سُهَيْلُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي عَدَمِ التَّكْذِيبِ، أَمَّا إذَا كَذَّبَهُ بِأَنْ يَقُولَ مَا رَوَيْت ذَلِكَ فَنَصُّوا فِي الْأُصُولِ عَلَى رَدِّهِ.
وَفِي حِكَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ إيمَاءٌ إلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ إيَّاهَا فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى حَيْثُ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَلَقِيتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْته عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى حَدَّثَنَا بِهِ عَنْك، قَالَ: فَأَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ خَيْرًا وَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ وَهَمَ عَلَيَّ اهـ.
فَهَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفِيدُ مَعْنَى نَفْيِهِ بِلَفْظِ النَّفْيِ. وَأَمَّا مَا ضَعَّفَهُ بِهِ مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها رَاوِيَتُهُ عَمِلَتْ بِخِلَافِهِ عَلَى مَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ غَائِبٌ بِالشَّامِّ فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ، فَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: إنَّ ذَلِكَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا كُنْت لِأَرُدَّ أَمْرًا قَضَيْته، فَاسْتَمَرَّتْ حَفْصَةُ عِنْدَ الْمُنْذِرِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا فَأُوِّلَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا أَذِنَتْ فِي التَّزْوِيجِ وَمَهَّدَتْ أَسْبَابَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَقْدُ أَشَارَتْ إلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهَا عِنْدَ غَيْبَةِ أَبِيهَا أَنْ يَعْقِدَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تُخْطَبُ إلَيْهَا الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهَا فَتَشْهَدُ، فَإِذَا بَقِيَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ قَالَتْ لِبَعْضِ أَهْلِهَا: زَوِّجْ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ. وَفِي لَفْظٍ: فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَنْكِحْنَ. أَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ.
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالتَّقْدِمَةُ لِلصَّحِيحِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَهُوَ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ.
وَعَلَى الثَّانِي وَهُوَ إعْمَالُ طَرِيقَةِ الْجَمْعِ فَبِأَنْ يُحْمَلَ عُمُومُهُ عَلَى الْخُصُوصِ وَذَلِكَ سَائِغٌ، وَهَذَا يَخُصُّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى بَعْدَ جَوَازِ كَوْنِ النَّفْيِ لِلْكَمَالِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِهِ «فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا تَلِي وَلَا يَنْكِحْنَ» فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ. وَبِأَنْ يُرَادَ بِالْوَلِيِّ مَنْ يُتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ، أَيْ لَا نِكَاحَ إلَّا بِمَنْ لَهُ وِلَايَةٌ لِيَنْفِيَ نِكَاحَ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ وَالْمَعْتُوهَةَ وَالْأَمَةَ وَالْعَبْدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْحَدِيثِ عَامٌّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ.
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَتِمُّ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الْجَامِعِ لِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ وَالْوَلِيِّ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ فِي فَصْلِ الشَّهَادَةِ، وَيَخُصُّ حَدِيثُ عَائِشَةَ بِمَنْ نَكَحَتْ غَيْرَ الْكُفْءِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ حَقِيقَتُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ مَا بَاشَرَتْهُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، أَوْ حُكْمُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُصَحِّحُهُ، وَيَثْبُتُ لِلْوَلِيِّ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي فَسْخِهِ، كُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ فِي إطْلَاقَاتِ النُّصُوصِ وَيَجِبُ ارْتِكَابُهُ لِدَفْعِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهَا، عَلَى أَنَّهُ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ إذَا أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا كَانَ صَحِيحًا وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَثَبَتَ مَعَ الْمَنْقُولِ الْوَجْهُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهُوَ نَفْسُهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ كَالْمَالِ فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الْأَوْلَى
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ) مَعْنَى الْإِجْبَارِ أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ فَيَنْفُذُ عَلَيْهَا شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ، وَمَبْنَى الْخِلَافِ أَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ أَهُوَ الصِّغَرُ أَوْ الْبَكَارَةُ؟ فَعِنْدَنَا الصِّغَرُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْبَكَارَةُ، فَانْبَنَى عَلَى هَذِهِ مَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ الصَّغِيرَةَ فَدُخِلَ بِهَا وَطَلُقَتْ قَبْلَ الْبُلُوغِ
وَلِهَذَا يَقْبِضُ الْأَبُ صَدَاقَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا. وَلَنَا أَنَّهَا حُرَّةٌ مُخَاطَبَةٌ فَلَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ، وَالْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ لِقُصُورِ عَقْلِهَا وَقَدْ كَمُلَ بِالْبُلُوغِ بِدَلِيلِ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ فَصَارَ كَالْغُلَامِ وَكَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ،
لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهَا عِنْدَهُ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُشَاوَرَ لِعَدَمِ الْبَكَارَةِ. وَعِنْدَنَا لَهُ تَزْوِيجُهَا لِوُجُودِ الصِّغَرِ. وَحَاصِلُ وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَلْحَقَ الْبِكْرَ الْكَبِيرَةَ بِالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ إجْبَارِهَا فِي النِّكَاحِ بِجَامِعِ الْجَهْلِ بِأَمْرِ النِّكَاحِ وَعَاقِبَتِهِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّ الْجَهْلَ بِأَمْرِ النِّكَاحِ هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ بَلْ هُوَ مَعْلُومُ الْإِلْغَاءِ لِلْقَطْعِ بِجَوَازِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِمَّنْ جَهِلَهُ لِعَدَمِ الْمُمَارَسَةِ، مَعَ أَنَّ الْجَهْلَ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا تَجْهَلُ بَالِغَةٌ مَعْنَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَحُكْمِهِ وَبِهَذَا يَسْقُطُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِيَكُنْ الْجَهْلُ حِكْمَةَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالصِّغَرِ كَمَا ذَكَرْتُمْ، لَكِنْ يَجُوزُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ الْمُجَرَّدَةِ إنْ وُجِدَتْ عَلَى الْمُخْتَارِ، بَلْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِالصِّغَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِقُصُورِ الْعَقْلِ الْمُخْرِجِ لَهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ فِي رَأْيٍ أَوْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ فِي أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَهَذَا الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاقْتِضَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ اتِّفَاقًا، عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْحِكْمَةِ الْمُجَرَّدَةِ الظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْفَرِيقَيْنِ هُنَاكَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الشَّرْعِ بَعْدُ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْجَهْلَ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَصْلًا، بَلْ الْمَظِنَّةُ وَالْكَلَامُ فِيهَا أَهِيَ الْبَكَارَةُ أَوْ الصِّغَرُ فَقُلْنَا الصِّغَرُ. أَمَّا الْبَكَارَةُ فَمَعْلُومٌ إلْغَاؤُهَا مِنْ الصَّرِيحِ وَالدَّلَالَةِ وَنَوْعٍ مِنْ الِاقْتِضَاءِ وَمَقْصُودِ الشَّرْعِ.
أَمَّا الصَّرِيحُ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ عَنْ حُسَيْنٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُسَيْنٌ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَحَدُ الْمُخَرَّجِ لَهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَوْلُ الْبَيْهَقِيّ إنَّهُ مُرْسَلٌ لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد إيَّاهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ تَخْطِئَةَ الْوَصْلِ لِرِوَايَةِ حَمَّادٍ هَذِهِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، وَنِسْبَةُ الْوَهْمِ فِي الْوَصْلِ إلَى حُسَيْنٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ جَرِيرٍ غَيْرُهُ مَرْدُودٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَبِحُجِّيَّةِ الْمُرْسَلِ الصَّحِيحِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَقَدْ تَابَعَ حُسَيْنًا عَلَى الْوَصْلِ عَنْ جَرِيرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ عَنْ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ: فَبَرِئَتْ عُهْدَتُهُ، يَعْنِي حُسَيْنًا وَزَالَتْ تَبَعَتُهُ ثُمَّ أَسْنَدَهُ عَنْهُ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ سُوَيْد هَكَذَا عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ حِبَّانَ عَنْ أَيُّوبَ فَزَالَ الرَّيْبُ وَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ مَرَّةً: إنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ، وَذَكَرَ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا صَحِيحٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ «خَنْسَاءَ بِنْتَ خِذَامٍ الَّتِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْهُ فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِكَاحَهُ» ، فَإِنَّ هَذِهِ بِكْرٌ وَتِلْكَ ثَيِّبٌ اهـ.
عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ خَنْسَاءَ أَيْضًا كَانَتْ بِكْرًا، أَخْرَجَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ حَدِيثَهَا وَفِيهِ أَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا. وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ «عَنْ خَنْسَاءَ قَالَتْ: أَنْكَحَنِي أَبِي وَأَنَا كَارِهَةٌ وَأَنَا بِكْرٌ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
- صلى الله عليه وسلم». الْحَدِيثَ، لَكِنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ تَتَرَجَّحُ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا ثِنْتَانِ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ نِكَاحَ ثَيِّبٍ وَبِكْرٍ أَنْكَحَهُمَا أَبُوهُمَا وَهُمَا كَارِهَتَانِ» . قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَتَزَوَّجَتْ خَنْسَاءُ بِمَنْ هَوِيَتْهُ وَهُوَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، صَرَّحَ بِهِ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ فَوَلَدَتْ لَهُ السَّائِبَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ اهـ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَكِنْ لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ عَنْ الذِّمَارِيِّ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا أَبُو سَلَمَةَ مُسْلِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ الصَّنْعَانِيُّ. وَوَهَّمَ الدَّارَقُطْنِيُّ الذِّمَارِيَّ نَفْسَهُ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَصَوَّبَ إرْسَالَهُ عَنْ يَحْيَى عَنْ الْمُهَاجِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَتِمُّ بِهِ الْمَقْصُودُ الَّذِي سُقْنَاهُ لَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ بِكْرٌ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا» فَهَذَا عَنْ جَابِرٍ، وَوَهَّمَ شُعَيْبًا فِي رَفْعِهِ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَبِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُنَا إمَّا لِأَنَّهُ حُجَّةٌ وَإِمَّا لِأَنَّا ذَكَرْنَاهُ لِلِاسْتِشْهَادِ وَالتَّقْوِيَةِ. وَأَحَادِيثُ أُخَرُ رُوِيَتْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَإِنْ تُكُلِّمَ فِيهَا.
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا» بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَصَّ الثَّيِّبَ بِأَنَّهَا أَحَقُّ، فَأَفَادَ أَنَّ الْبِكْرَ لَيْسَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْهُ فَاسْتِفَادَةُ ذَلِكَ بِالْمَفْهُومِ وَهُوَ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَنَا، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا يُعَارِضُ الْمَفْهُومَ الصَّرِيحَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ رَدِّهِ، وَلَوْ سَلِمَ فَنَفْسُ نَظْمِ بَاقِي الْحَدِيثِ يُخَالِفُ الْمَفْهُومَ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا» إلَخْ، إذْ وُجُوبُ الِاسْتِئْمَارِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ مُنَافٍ لِلْإِجْبَارِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ الْأَمْرِ أَوْ الْإِذْنِ، وَفَائِدَتُهُ الظَّاهِرَةُ لَيْسَتْ إلَّا لِيَسْتَعْلِمَ رِضَاهَا أَوْ عَدَمَهُ فَيَعْمَلَ عَلَى وَفْقِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ طَلَبِ الِاسْتِئْذَانِ فَيَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَهُ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَفْهُومِ لَوْ عَارَضَهُ.
وَالْحَاصِلُ مِنْ لَفْظِ إثْبَاتِ الْأَحَقِّيَّةِ لِلثَّيِّبِ بِنَفْسِهَا مُطْلَقًا، ثُمَّ أَثْبَتَ مِثْلَهُ لِلْبِكْرِ حَيْثُ أَثْبَتَ لَهَا حَقَّ أَنْ تُسْتَأْمَرَ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَحَقِّيَّةِ كُلٍّ مِنْ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ بِلَفْظٍ يَخُصُّهَا كَأَنَّهُ قَالَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَالْبِكْرُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّهُ أَفَادَ أَحَقِّيَّةَ الْبِكْرِ بِإِخْرَاجِهِ فِي ضِمْنِ إثْبَاتِ حَقِّ الِاسْتِئْمَارِ لَهَا. وَسَبَبُهُ أَنَّ الْبِكْرَ لَا تُخْطَبُ إلَى نَفْسِهَا عَادَةً بَلْ إلَى وَلِيِّهَا، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ، فَلَمَّا كَانَ الْحَالُ أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَخُطْبَتُهَا تَقَعُ لِلْوَلِيِّ صَرَّحَ بِإِيجَابِ اسْتِئْمَارِهِ إيَّاهَا فَلَا يَفْتَاتُ عَلَيْهَا بِتَزْوِيجِهَا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ رِضَاهَا بِالْخَاطِبِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الثَّابِتَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَالْأَيِّمُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي إثْبَاتِ الْأَحَقِّيَّةِ لِلْبِكْرِ ثُمَّ تَخْصِيصِهَا بِالِاسْتِئْذَانِ وَذَلِكَ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ السَّبَبِ وَبِهِ تَتَّفِقُ الرِّوَايَتَانِ، بِخِلَافِ مَا مَشَوْا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمَا وَتَخْصِيصُ الْمَنْطُوقِ وَهُوَ الْأَيِّمُ لِإِعْمَالِ الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ بَاقِيَ نَفْسِ رِوَايَةِ الثَّيِّبِ ظَاهِرَةٌ فِي خِلَافِ الْمَفْهُومِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَصَرِيحُ الرَّدِّ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا مَرَّ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَمَّا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي تَقْرِيرِ الْحَدِيثِ خُصُوصًا وَهُوَ جَمْعٌ ظَاهِرٌ لَا بِطَرِيقِ الْحَمْلِ وَالتَّخْصِيصِ وَلَا يَدْفَعُهُ قَاعِدَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَلَا أَصْلِيَّةٌ وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّ فَتَاةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا
وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْأَبُ قَبْضَ الصَّدَاقِ بِرِضَاهَا دَلَالَةً
فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ خَسِيسَتَهُ وَأَنَا كَارِهَةٌ، فَقَالَتْ اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ، فَأَرْسَلَ إلَى أَبِيهَا فَجَعَلَ الْأَمْرَ إلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُعَلِّمَ النِّسَاءَ أَنْ لَيْسَ إلَى الْآبَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ» وَهَذَا يُفِيدُ بِعُمُومِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ حَقًّا ثَابِتًا بَلْ اسْتِحْبَابٌ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهَا ذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ حَدِيثٌ حُجَّةٌ، وَمَا قِيلَ هُوَ مُرْسَلُ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ فَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ سَنَدَ النَّسَائِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَرَّابٍ عَنْ كَهَمْسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهَمْسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَتْ فَتَاةٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ مَعَ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا يَعْتَبِرُونَ فِي الْكَفَاءَةِ النَّسَبَ، وَالزَّوْجُ كَانَ ابْنَ عَمِّهَا.
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَكُلُّ الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ أَنْ يُخْرِجَهَا قَسْرًا إلَى مَنْ هُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَيْهَا وَيُمَلِّكُهُ رِقَّهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَهَابَ جَمِيعِ مَالِهَا أَهْوَنُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يَنْبُو عَنْهُ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ فَجَمِيعُ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ الْمُصَرِّحَةِ بِاسْتِئْذَانِ الْبِكْرِ وَمَنْعِ التَّنْفِيذِ عَلَيْهَا بِلَا إذْنِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي لَا يُعْقَلُ لَهُ فَائِدَةٌ إلَّا الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ اسْتِئْذَانِهَا أَنْ تُخَالِفَ، فَلَوْ كَانَ الْإِجْبَارُ ثَابِتًا لَزِمَ ذَلِكَ وَعَرَى الْأَمْرُ بِالِاسْتِئْذَانِ عَنْ الْفَائِدَةِ بَلْ لَزِمَتْ الْإِحَالَةُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الِاقْتِضَاءُ الْمُصْطَلَحُ قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ فَظَهَرَ ظُهُورًا لَا مَرَدَّ لَهُ أَنَّ إيجَابَ اسْتِئْذَانِهَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ إجْبَارِهَا وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا تَحْقِيقُ مَقْصُودِ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ انْتِظَامُ الْمَصَالِحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِيَحْصُلَ النَّسْلُ وَيَتَرَبَّى بَيْنَهُمَا وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا مَعَ غَايَةِ الْمُنَافَرَةِ. فَإِذَا عُرِفَ قِيَامُ سَبَبِ انْتِفَاءِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عَقْدٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَتُهُ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا ثُمَّ يَطْرَأُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِقَبْضِ الْآبَاءِ أَصْدِقَةَ الْأَبْكَارِ لِيُجَهِّزُوهُنَّ بِهَا مَعَ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ الْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ لِآبَائِهِنَّ، وَلِاسْتِحْيَاءِ الْبَنَاتِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَالِاقْتِضَاءِ فَكَانَ الْإِذْنُ مِنْهُنَّ ثَابِتًا دَلَالَةً نَظَرًا إلَى مَا ذَكَرْنَا فَعَنْ ذَلِكَ يَبْرَأُ الزَّوْجُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ نَهْيُهَا صَرِيحًا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الصَّرِيحِ بِخِلَافِ مُتَعَلِّقِهَا. وَمِنْ فُرُوعِ قَبْضِ الْأَبِ صَدَاقَهَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا قَبْضَ الْمُسَمَّى حَتَّى لَوْ كَانَتْ بِيضًا لَا يَلِي قَبْضَ السُّودِ وَبِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ وَلَا يَمْلِكُهُ. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا، وَعَنْ عُلَمَاءِ بَلْخٍ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا ذَلِكَ وَهُوَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ. وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: وَإِنْ قَبَضَ الضِّيَاعَ: يَعْنِي بَدَلَ الْمُسَمَّى لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَكَان جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ بِذَلِكَ كَمَا فِي رساتيقنا يَأْخُذُونَ بِبَعْضِ الْمَهْرِ ضِيَاعًا، هَذَا إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً بِكْرًا، فَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً جَازَ قَبْضُ الضِّيَاعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَخْتَارُهُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَالْأَبُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِ بِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ.
وَفِي النَّوَازِلِ: وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَتَعَارَفُونَ قَبْضَ الضِّيَاعِ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَبْضُ الْمَهْرِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ وَلَيْسَ شِرَاءً فِي الْحَقِيقَةِ، وَلِلْأَبِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَهْرِ وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ صَغِيرَةً لَا يُسْتَمْتَعُ بِهَا، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ، وَوُجُوبُ الْمَهْرِ حُكْمُ نَفْسِ الْعَقْدِ.
وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ
وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ مَعَ نَهْيِهَا.
قَالَ (وَإِذَا اسْتَأْذَنَهَا فَسَكَتَتْ أَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ إذْنٌ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ» وَلِأَنَّ جَنْبَةَ الرِّضَا فِيهِ رَاجِحَةٌ، لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي عَنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ لَا عَنْ الرَّدِّ، وَالضَّحِكُ أَدَلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ السُّكُوتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَكَتْ لِأَنَّهُ دَلِيلُ السُّخْطِ وَالْكَرَاهَةِ. وَقِيلَ إذَا
الْأَبِ كَالْأَبِ وَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُمَا قَبْضَ الْمَهْرِ وَلَا الْأُمُّ إلَّا بِحُكْمِ الْوِصَايَةِ وَالزَّوْجَةُ صَغِيرَةٌ، حَتَّى لَوْ قَبَضَتْ الْأُمُّ بِلَا وِصَايَةٍ فَكَبُرَتْ الْبِنْتُ لَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْأُمِّ، كَذَا ذَكَرَ. وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ زَادَ: لِلْقَاضِي قَبْضُ صَدَاقِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً إلَّا إذَا زُفَّتْ. وَلَوْ طَلَبَ الْأَبُ مَهْرَهَا، أَعْنِي الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ فَقَالَ الزَّوْجُ دَخَلْتُ بِهَا: يَعْنِي فَلَا تَمْلِكَ قَبْضَهُ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْأَبْكَارِ وَقَالَ الْأَبُ بَلْ هِيَ بِكْرٌ فِي مَنْزِلِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي حَادِثًا بِلَا بَيِّنَةٍ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ حَلِّفْهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنِّي دَخَلْتُ بِهَا قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَحْلِفَ وَهُوَ صَوَابٌ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَهْرِ وَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لِلْبِنْتِ فَكَانَ التَّحْلِيفُ مُفِيدًا. قَالَ: وَرَأَيْت فِي أَدَبِ الْخَصَّافِ بِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ، وَلَوْ طَالَبَتْ الزَّوْجَ فَادَّعَى دَفْعَهُ لِلْأَبِ وَلَا بَيِّنَةَ غَيْرَ أَنَّ الْأَبَ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ إنْ كَانَتْ الْبِنْتُ بِكْرًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ صُدِّقَ أَوْ ثَيِّبًا فَلَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حَالَةَ الْبَكَارَةِ فِي حَالِ وِلَايَةِ قَبْضِهِ بِخِلَافِ حَالِ الثُّيُوبَةِ، وَلَا يُشْكِلُ عَدَمُ تَصْدِيقِهِ حَالَ الثُّيُوبَةِ إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً، فَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً صُدِّقَ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا صَغِيرَةً فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ بَلَغَتْ فَطَلَبَتْ الْمَهْرَ فَقَالَ الزَّوْجُ دَفَعْته إلَى أَبِيك وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ وَصَدَّقَهُ الْأَبُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا الْيَوْمَ. وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْمَهْرَ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْقَبْضَ إلَّا إنْ قَالَ عِنْدَ الْقَبْضِ الْمَهْرُ أَخَذْته مِنْك عَلَى أَنْ أَبْرَأْتُك مِنْ صَدَاقِ بِنْتِي، فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَتْ
(قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَأْذَنَهَا فَسَكَتَتْ إلَخْ) ظَاهِرٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا، وَالْمُرَادُ بِالسُّكُوتِ الِاخْتِيَارِيُّ، فَلَوْ أَخَذَهَا سُعَالٌ أَوْ عُطَاسٌ أَوْ أَخَذَ فَمَهَا فَخَلَصَتْ فَرَدَّتْ ارْتَدَّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ.
فِي التَّجْنِيسِ: حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ السُّكُوتَ رِضًا جَازَ، وَلَوْ تَبَسَّمَتْ يَكُونُ إذْنًا فِي الصَّحِيحِ، وَمَا حَكَاهُ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ إذَا ضَحِكَتْ كَالْمُسْتَهْزِئَةِ لَا يَكُونُ رِضًا، وَضِحْكُ الِاسْتِهْزَاءِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَحْضُرُهُ، وَإِذَا بَكَتْ بِلَا صَوْتٍ لَا يَكُونُ رَدًّا اُخْتِيرَ لِلْفَتْوَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي االْبُكَاءِ أَنَّهُ رِضًا؛ لِأَنَّهُ لِشِدَّةِ الْحَيَاءِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رُدَّ؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فِي الْبُكَاءِ وَالضَّحِكِ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ أَوْ أُشْكِلَ اُحْتِيطَ، وَعَنْ هَذَا مَا اعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ دُمُوعَهَا إنْ كَانَتْ حَارَّةً فَهُوَ رَدٌّ أَوْ بَارِدَةً فَهُوَ رِضًا، لَكِنَّهُ اعْتِبَارٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى أَوْ عَدِيمُهُ، إذْ الْإِحْسَاسُ بِكَيْفِيَّتَيْ الدَّمْعِ لَا يَتَهَيَّأُ إلَّا لِخَدِّ الْبَاكِي، وَلَوْ ذَهَبَ إنْسَانٌ يُحِسُّهُ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْمَقْصُودِ وَلَيْسَ بِمُعْتَادٍ وَلَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، إلَّا أَنَّهُ كَذَا ذَكَرَ.
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ مَسَائِلَ اعْتَبَرْت السُّكُوتَ فِيهَا رِضًا مِنْهَا هَذِهِ، وَضَمَمْت إلَيْهَا مَا تَيَسَّرَ وَقَدْ جَمَعْتهَا فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ تَسْهِيلًا لِحِفْظِهَا:
سُكُوتُ بِكْرٍ فِي النِّكَاحِ وَفِي
…
قَبْضِ الْأَبْيَنِ صَدَاقُهَا إذْنُ
قَبْضُ الْمُمَلَّكِ وَالْمَبِيعِ وَلَوْ
…
فِي فَاسِدٍ وَإِذَا اشْتَرَى قِنُّ
وَكَذَا الصَّبِيُّ وَذُو الشِّرَاءِ إذَا
…
كَانَ الْخِيَارُ لَهُ كَذَا سَنُّوا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مَوْلَى الْأَسِيرِ يُبَاعُ وَهُوَ يَرَى
…
وَأَبُو الْوَلِيدِ إذَا انْقَضَى الزَّمَنُ
وَعَقِيبَ شَقِّ الزِّقِّ أَوْ حَلِفٍ
…
يُنْفَى بِهِ الْإِسْكَانُ إذْ ضَنُّوا
وَعَقِيبَ قَوْلِ مَوَاضِعَ نُمْضِي
…
أَوْ وَضْعِ مَالٍ ذَا لَهُ يَرْنُو
وَبُلُوغِ جَارِيَةٍ وَزَوَّجَهَا
…
غَيْرُ الْأَبْيَنِ بِذَاكَ قَدْ مَنُّوا
وَكَذَا الشَّفِيعُ وَذُو الْجَهَالَةِ فِي
…
نَسَبٍ شَرَاهُ مَنْ بِهِ ضَغَنُ
وَإِذَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ فَسَكَتْ
…
هَذَا مَتَاعِي بِعْهُ يَا مَعْنُ
وَإِذَا رَأَى مِلْكًا يُبَاعُ لَهُ
…
وَتَصَرَّفُوا زَمَنًا فَلَمْ يَدْنُو
قَوْلِي سُكُوتُ بِكْرٍ يَشْمَلُ مَا قَبْلَ النِّكَاحِ وَمَا بَعْدَهُ: أَعْنِي إذَا زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا فَسَكَتَتْ، وَقَبْضُ الْمُمَلَّكِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَوْهُوبُ وَالْمُتَصَدَّقُ بِهِ إذَا قَبَضَ بِمَرْأًى مِنْ الْمُمَلَّكِ فَسَكَتَ كَانَ قَبْضًا مُعْتَبَرًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، وَكَذَا الْمَبِيعُ وَلَوْ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِمَرْأًى مِنْ الْبَائِعِ فَسَكَتَ صَحَّ فَيَسْقُطُ حَقُّ حَبْسِ الْبَائِعِ إيَّاهُ إلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بَلْ يُطَالِبُ بِالثَّمَنِ. وَفِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ لَا يَكُونُ إذْنًا صَحِيحًا فِي الْفَاسِدِ.
وَإِذَا اشْتَرَى قِنٌّ: يَعْنِي إذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ شَيْئًا بِحَضْرَةِ سَيِّدِهِ فَسَكَتَ كَانَ إذْنًا. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: لَكِنْ نَفْسُ مَا وَقَعَتْ الرُّؤْيَةُ فِيهِ لَا يَجُوزُ بَلْ مَا بَعْدَهُ، وَالصَّبِيُّ إذَا اشْتَرَى أَوْ بَاعَ بِمَرْأًى مِنْ وَلِيِّهِ فَسَكَتَ كَالْعَبْدِ، وَذُو الشِّرَاءِ: أَيْ الْمُشْتَرِي عَبْدًا إذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَرَأَى الْعَبْدَ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي فَسَكَتَ سَقَطَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَرْعُ نَفَاذِ الْبَيْعِ.
وَمَوْلَى الْأَسِيرِ: أَيْ الْعَبْدُ الَّذِي أُسِرَ إذَا ظَهَرَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَوَقَعَ فِي سَهْمِ مُسْلِمٍ كَانَ مَوْلَاهُ أَحَقَّ بِهِ بِالْقِيمَةِ، فَلَوْ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ وَمَوْلَاهُ يَرَاهُ فَسَكَتَ بَطَلَ حَقُّهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ.
وَأَبُو الْوَلِيدِ إذَا سَكَتَ وَلَمْ يَنْفِهِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّهْنِئَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مِقْدَارِ زَمَنِهِ أَهُوَ الْأُسْبُوعُ أَوْ مُدَّةُ النِّفَاسِ لَزِمَهُ فَلَا يَنْتَفِي بَعْدُ، وَالسُّكُوتُ عَقِيبَ شَقِّ رَجُلٍ زِقَّهُ حَتَّى سَالَ مَا فِيهِ لَا يَضْمَنُ الشَّاقُّ مَا سَالَ وَعَقِيبَ الْحَلِفِ عَلَى أَنْ لَا أُسْكِنَ فُلَانًا وَفُلَانٌ سَاكِنٌ فَيَحْنَثُ، فَإِنْ قَالَ عَقِبَهُ اُخْرُجْ فَأَبَى لَمْ يَحْنَثْ.
وَعَقِيبَ قَوْلِ مُوَاضِعٍ أَيْ رَجُلٍ وَاضَعَ غَيْرَهُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ بَيْعُ تَلْجِئَةٍ ثُمَّ قَالَ بَدَا لِي أَنْ أَجْعَلَهُ بَيْعًا نَافِذًا بِمِسْمَعٍ مِنْ الْآخَرِ فَسَكَتَ ثُمَّ عَقَدَ كَانَ نَافِذًا.
وَعَقِيبَ وَضْعِ رَجُلٍ مَتَاعَهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ يَكُونُ قَبُولًا لِلْوَدِيعَةِ فَيَلْزَمُهُ حِفْظُهَا وَيَضْمَنُ بِتَرْكِهِ.
وَالشَّفِيعُ إذَا بَلَغَهُ بَيْعُ مَا يَشْفَعُ فِيهِ فَسَكَتَ كَانَ تَسْلِيمًا، وَذُو الْجَهَالَةِ: أَيْ مَجْهُولُ النَّسَبِ إذَا بِيعَ فَسَكَتَ فَهُوَ إقْرَارٌ بِالرِّقِّ فَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ الْحُرِّيَّةَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، زَادَ الطَّحَاوِيُّ فِي اعْتِبَارِ سُكُوتِهِ رِضًا. وَقِيلَ لَهُ قُمْ مَعَ سَيِّدِك فَقَامَ. وَإِذَا يَقُولُ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ بِعْ مَتَاعِي فَسَكَتَ ثُمَّ بَاعَهُ بَعْدُ يَكُونُ سُكُوتُهُ قَبُولًا لِلْوَكَالَةِ فَلَا يَكُونُ بَيْعَ فُضُولِيٍّ؛ وَلَيْسَ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ مَا فِي الْجَوَامِعِ: لَوْ اسْتَأْمَرَ بِنْتَ عَمِّهِ لِنَفْسِهِ وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ فَسَكَتَتْ فَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا بِسُكُوتِهَا. وَإِذَا رَأَى مِلْكًا لَهُ مَنْقُولًا أَوْ عَقَارًا يُبَاعُ فَسَكَتَ حَتَّى قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَتَصَرَّفَ فِيهِ زَمَانًا سَقَطَ دَعْوَاهُ إيَّاهُ ذَكَرَهُ فِي مُنْيَةِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ سُكُوتَهُ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ رِضًا اعْتِرَافًا بِأَنْ لَا حَقَّ فِيهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَاَلَّتِي زِدْتهَا مَسْأَلَةُ الْوَدِيعَةِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ عَدَمَ
ضَحِكَتْ كَالْمُسْتَهْزِئَةِ بِمَا سَمِعَتْ لَا يَكُونُ رِضًا، وَإِذَا بَكَتْ بِلَا صَوْتٍ لَمْ يَكُنْ رَدًّا.
قَالَ (وَإِنْ)(فَعَلَ هَذَا غَيْرُ وَلِيٍّ) يَعْنِي اسْتَأْمَرَ غَيْرُ الْوَلِيِّ (أَوْ وَلِيُّ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ)(لَمْ يَكُنْ رِضًا حَتَّى تَتَكَلَّمَ بِهِ) لِأَنَّ هَذَا السُّكُوتَ لِقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى كَلَامِهِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا، وَلَوْ وَقَعَ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَالِاكْتِفَاءُ بِمِثْلِهِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمَرُ رَسُولَ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِئْمَارِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ لِتَظْهَرَ رَغْبَتُهَا فِيهِ مِنْ رَغْبَتِهَا عَنْهُ
الْحَصْرِ وَهَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْمَحْصُورَةُ
(قَوْلُهُ وَإِنْ فَعَلَ هَذَا) أَيْ الِاسْتِئْذَانَ (غَيْرُ وَلِيٍّ) بِأَنْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا (أَوْ وَلِيُّ غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْهُ) كَالْأَخِ مَعَ الْأَبِ (لَمْ يَكُنْ) سُكُوتُهَا وَلَا ضَحِكُهَا (رِضًا) بَلْ نُطْقُهَا بِهِ وَهَذَا يَشْمَلُ رَسُولَ الْوَلِيِّ فَأَخْرَجَهُ آخِرًا بِقَوْلِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمَرُ رَسُولَ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَيَكُونُ سُكُوتُهَا عِنْدَ اسْتِئْذَانِهِ رِضًا. وَعَنْ الْكَرْخِيِّ: يَكْفِي سُكُوتُهَا وَإِنْ كَانَ اسْتَأْمَرَ أَجْنَبِيًّا؛ لِأَنَّ اسْتِحْيَاءَهَا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْهُ مَعَ الْوَلِيِّ. قُلْنَا: السُّكُوتُ فِيهِ لَهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَهُوَ قِلَّةُ الِالْتِفَاتِ إلَى كَلَامِهِ فَصَارَ مُحْتَمَلًا عَلَى السَّوَاءِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا إلَّا لِلْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِاعْتِبَارِهِ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُزَوِّجُونَ غَالِبًا فَكَانَ اعْتِبَارُهُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ إذْ لَا يُعْتَبَرُ الْمُحْتَمَلُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَاجَةً لِأَنَّهَا لَا تَنْطِقُ، فَلَوْ لَمْ يَكْتَفِ بِالْمُحْتَمَلِ تَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ عَلَى السَّوَاءِ. وَيُنَافِيهِ قَوْلُهُ لِأَنَّ جَنْبَةَ الرِّضَا فِيهِ غَالِبٌ فَكَانَ الْأَوْلَى الِاقْتِصَارَ عَلَى قَوْلِهِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلَوْ وَقَعَ كَانَ مُحْتَمَلًا، ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ: وَلَوْ وَقَعَ دَلَالَةً كَانَ مُحْتَمَلًا إنْ أَرَادَ احْتِمَالًا مُسَاوِيًا لَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ دَلَالَةً. وَإِنْ أَرَادَ مَرْجُوحًا كَانَ الرِّضَا مَظْنُونًا فَهُوَ دَلَالَةٌ فَيَكُونُ كَافِيًا مُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ بِحَالَةِ كَوْنِ الْمُسْتَأْمَرِ وَلِيًّا. فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ إطْلَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذْنُهَا أَنْ تَسْكُتَ» وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ الْمُسْتَأْمَرِ وَلِيًّا. قُلْنَا: يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ لِلْبِكْرِ لَيْسَ إلَّا الْوَلِيُّ بَلْ لَا يَخْلُصُ إلَيْهَا غَيْرُهُ.
(قَوْلُهُ وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِئْمَارِ) أَيْ يُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا فِي الِاسْتِئْمَارِ (تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ لَهَا) إمَّا بِاسْمِهِ كَأُزَوِّجُكِ مِنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ أَوْ فِي ضِمْنِ الْعَامِّ لَا كُلِّ عَامٍّ نَحْوَ مِنْ جِيرَانِي أَوْ بَنِي عَمِّي وَهُمْ مَحْصُورُونَ مَعْرُوفُونَ لَهَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا مُعَارِضٌ، بِخِلَافِ: مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَوْ مِنْ رَجُلٍ؛ لِأَنَّهُ لِعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ يَضْعُفُ الظَّنُّ. وَلَوْ زَوَّجَهَا بِحَضْرَتِهَا فَسَكَتَتْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا أَوْ عَرَفَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ زَوَّجَهَا بِحَضْرَتِهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ فَسَكَتَتْ
(وَلَا تُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بِدُونِهِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَسَكَتَتْ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
لَمْ يَكُنْ رِضًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَهُمَا فِي الصَّغِيرَةِ
(قَوْلُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ) أَيْ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ لِاخْتِلَافِ الرَّغْبَةِ بِاخْتِلَافِ الصَّدَاقِ قِلَّةً وَكَثْرَةً، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صِحَّةٌ بِدُونِهِ. وَصَحَّحَ فِي شَرْحِ الْوَافِي أَنَّ الْمُزَوِّجَ إنْ كَانَ الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ لَا يُشْتَرَطُ وَإِلَّا اُشْتُرِطَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ نَزَلَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَرْبُو عَلَيْهِ، فَإِنْ سَمَّى الْمَهْرَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا اهـ.
وَالْأَوْجَهُ الْإِطْلَاقُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْصِيلِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي تَزْوِيجِهِ الصَّغِيرَةَ بِحُكْمِ الْجَبْرِ، وَالْكَلَامُ فِي الْكَبِيرَةِ الَّتِي وَجَبَتْ مُشَاوَرَتُهُ لَهَا وَالْأَبُ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ لَا يَصْدُرُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهَا إلَّا بِرِضَاهَا، غَيْرَ أَنَّ رِضَاهَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ عَدَمِ مَا يُضْعِفُ ظَنَّ كَوْنِهِ رِضًا. وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ لَا يَصِحَّ بِلَا تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ لَهَا لِجَوَازِ كَوْنِهَا لَا تَرْضَى إلَّا بِالزَّائِدِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بِكَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَمَا لَمْ تَعْلَمْ ثُبُوتَهَا لَا تَرْضَى، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ بِلَا تَسْمِيَةٍ هُوَ فِيمَا إذَا رَضِيَتْ بِالتَّفْوِيضِ وَقَنَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ بِدَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى السُّكُوتِ، وَكَوْنُ الظَّاهِرِ مِنْ الْأَبِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ إلَّا لِمَا يَرْبُو عَلَيْهِ لَا يَقْتَضِي رِضَاهَا بِتَرْكِهِ لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَقَدْ لَا تَخْتَارُ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِيهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّغِيرَةِ، أَمَّا الْكَبِيرَةُ فَنَفَاذُ تَزْوِيجِ الْأَبِ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَاهَا كَالْوَكِيلِ، غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَهَا جُعِلَ دَلَالَةً شَرْعًا، فَإِذَا عَارَضَهُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ أَوْ تَسْمِيَةُ النَّاقِصِ صَارَ مُحْتَمِلًا عَلَى السَّوَاءِ لِكَوْنِهِ لِلرِّضَا أَوْ لِخَوْفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِهِ فَلَا يَثْبُتُ الرِّضَا بِهِ، وَفِي غَيْرِهِ لَيْسَ الِاحْتِمَالُ مُتَسَاوِيًا بَلْ الرَّاجِحُ جَنْبَةُ الرِّضَا، فَمَا اكْتَفَى إلَّا بِالْمَظْنُونِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ يُقَالُ: سُكُوتُهَا إذًا لَمْ يُسَمِّ لَهَا الْوَلِيُّ مَهْرًا مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ رِضًا وَيَنْفُذُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا تَفْوِيضٌ وَرِضًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَبِكُلِّ مَهْرٍ، لَكِنْ يُدْفَعُ بِأَنَّ عِلْمَهَا بِأَنَّ سُكُوتَهَا رِضًا مَعَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ بِكُلِّ مَهْرٍ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَا يَلْزَمُ عِلْمُهَا. وَفِي التَّجْنِيسِ فِي بَابِ مَا يَكُونُ رِضًا وَإِجَازَةً: إذَا ذَكَرَ الزَّوْجَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَهْرَ فَسَكَتَتْ، إنْ وَهَبَهَا يَعْنِي إنْ فَوَّضَهَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ، وَإِنْ زَوَّجَهَا بِمَهْرٍ مُسَمًّى لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَهَبَهَا فَتَمَامُ الْعَقْدِ بِالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةُ عَالِمَةٌ بِهِ، وَإِذَا سَمَّى مَهْرًا فَتَمَامُهُ بِهِ أَيْضًا. وَهُوَ فَرْعُ اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا، وَيَجِبُ كَوْنُ الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُقَيَّدًا بِمَا إذَا عَلِمْت بِالتَّفْوِيضِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّهَا إنْ سَكَتَتْ أَوْ ضَحِكَتْ بِلَا اسْتِهْزَاءٍ
لِأَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي السُّكُوتِ لَا يَخْتَلِفُ، ثُمَّ الْمُخْبِرُ إنْ كَانَ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله
أَوْ بَكَتْ بِغَيْرِ صَوْتٍ فَهُوَ رِضًا وَإِلَّا فَلَا اهـ. وَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ: لَا يَكُونُ السُّكُوتُ بَعْدَ الْعَقْدِ رِضًا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَبْلَهُ رِضًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَالْحَاجَةُ إلَى الْإِجَازَةِ وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ إجَازَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ الِاسْتِئْمَارِ لَيْسَ مُلْزِمًا وَبَعْدَهُ إذَا بَلَغَهَا الْخَبَرُ مُلْزِمٌ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: السُّكُوتُ بَعْدَ الْعَقْدِ رَدَّ ذِكْرَهُ فِي الْبَدَائِعِ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ وَجْهَ كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا لَا يَخْتَلِفُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ، فَكَمَا كَانَ إذْنًا قَبْلَهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً بَعْدَهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بِكَوْنِهِ مُلْزِمًا وَعَدَمِهِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ مُلْزِمٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ فِي تَقَدُّمِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ بِهِ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ وَقَبْلَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّزْوِيجِ مِنْ الْمُسْتَأْذِنِ. فَإِنْ قِيلَ يُوَجَّهُ قَوْلُ ابْنِ مُقَاتِلٍ وَرِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ بِالنَّصِّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» فَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَنْعِ النِّكَاحِ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا لَوْ صَرَّحَتْ بِالرِّضَا بَعْدَ الْعَقْدِ نُطْقًا جَازَ النِّكَاحُ مَعَ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ ظَاهِرَ النَّهْيِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ الْمَنْعُ عَنْ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَإِبْرَامُهُ قَبْلَ إذْنِهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْإِجَازَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَاذَا تَكُونُ، فَقُلْنَا: دَلَّ النَّصُّ عَلَى كَوْنِهَا بِمَا كَانَ الْإِذْنُ بِهِ قَبْلَهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ النَّهْيُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى هَذَا فَرَّعُوا أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْذَنَهَا فِي مُعَيَّنٍ فَرَدَّتْ ثُمَّ زَوَّجَهَا مِنْهُ فَسَكَتَتْ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَلَغَهَا فَرَدَّتْ ثُمَّ قَالَتْ رَضِيتُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَطَلَ بِالرَّدِّ فَالرِّضَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ مَفْسُوخٌ، وَلِذَا اسْتَحْسَنُوا التَّجْدِيدَ عِنْدَ الزِّفَافِ فِيمَا إذَا زَوَّجَ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ، إذْ غَالِبُ حَالِهِنَّ إظْهَارُ النَّفْرَةِ عِنْدَ فَجْأَةِ السَّمَاعِ. هَذَا وَالْأَوْجَهُ عَدَمُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ الصَّرِيحَ لَا يَنْزِلُ عَنْ تَضْعِيفِ كَوْنِ ذَلِكَ السُّكُوتِ دَلَالَةَ الرِّضَا، وَلَوْ كَانَتْ قَالَتْ قَدْ كُنْت قُلْتُ لَا أُرِيدُهُ وَلَمْ تَزِدْ عَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا.
[فُرُوعٌ] وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ مُسْتَوِيَانِ كُلٌّ مِنْ وَاحِدٍ فَسَكَتَتْ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ بَطَلَا كَمَا لَوْ أَجَازَتْهُمَا مَعًا وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهَا رِضًا. وَظَاهِرُ الْجَوَابِ أَنَّهُمَا يَتَوَقَّفَانِ حَتَّى تُجِيزَ أَحَدَهُمَا بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَنَقَلَهُ فِي الْبَدَائِعِ عَنْ مُحَمَّدٍ فَعَنْهُ حِينَئِذٍ رِوَايَتَانِ. وَلَوْ زَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ فَبَلَغَهَا فَرَدَّتْ ثُمَّ قَالَتْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بَعْدَمَا قَالَ لَهَا إنَّ أَقْوَامًا
خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ كَانَ رَسُولًا لَا يُشْتَرَطُ إجْمَاعًا وَلَهُ نَظَائِرُ
(وَلَوْ اسْتَأْذَنَ الثَّيِّبَ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقَوْلِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» وَلِأَنَّ النُّطْقَ لَا يُعَدُّ عَيْبًا مِنْهَا وَقَلَّ الْحَيَاءُ بِالْمُمَارَسَةِ
يَخْطُبُونَك: أَنَا رَاضِيَةٌ بِمَا تَفْعَلُ فَزَوَّجَهَا مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا إلَّا بِإِجَازَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ إذَا رَغِبْت عَنْ فُلَانٍ فَإِنَّ أَقْوَامًا آخَرِينَ يَخْطُبُونَك فَلَا يَنْصَرِفُ رِضَاهَا الْآنَ إلَى مَا يَعُمُّ الْأَوَّلَ، وَهَذَا كَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ إنِّي كَرِهْت فُلَانَةَ فَطَلَّقْتهَا فَزَوِّجْنِي بِامْرَأَةٍ تَرْضَاهَا فَزَوَّجَهُ الْمُطَلَّقَةَ لَا يَصِحُّ. وَكَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا ثُمَّ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَى لَهُ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا فَقَالَتْ لَا أُرِيدُ النِّكَاحَ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَوْلُهَا غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ قَبْلَ الْعَقْدِ رَدٌّ، وَبَعْدَهُ إذْنٌ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ النِّكَاحِ بِالشَّكِّ وَلَا يَبْطُلُ بَعْدَهُ بِالشَّكِّ، كَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ. وَقَوْلُهَا ذَلِكَ إلَيْك إذْنٌ، وَقَوْلُهَا أَنْت أَعْلَمُ لَيْسَ بِإِذْنٍ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيبُ قَوْلِهَا أَوْ يُقَارِبُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ " توبه دان " وَلَوْ اسْتَأْذَنَهَا فَقَالَتْهُ لَا يَكُونُ إذْنًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ لِلتَّعْرِيضِ لِعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ. وَحَقِيقَةُ توبه دان أَنْت بِالْمَصْلَحَةِ أَخْبَرُ أَوْ بِالْأَحْسَنِ أَعْلَمُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا ذَلِكَ إلَيْك فَإِنَّهُ إذْنٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُذْكَرُ لِلتَّوْكِيلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَسْأَلَةَ: غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مُشْكِلَةٌ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ قَوْلِهِ لَا يَبْطُلُ بَعْدَهُ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَهِيَ بَعْدَ الْإِذْنِ.
(قَوْلُهُ وَلَهُ نَظَائِرُ) كَإِخْبَارِ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ وَالْمَأْذُونِ بِالْحَجْرِ وَالْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ لِيَكُونَ بَيْعُهُ وَإِعْتَاقُهُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ وَالشَّفِيعُ يَبِيعُ مَا يَشْفَعُ فِيهِ وَبِفَسْخِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَوُجُوبِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ رَسُولًا لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقًا وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ فَإِخْبَارُهُ كَإِخْبَارِهِ، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا فَعَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْحُكْمِ الْعَدَدُ أَوْ عَدَالَةُ الْوَاحِدِ، فَلَوْ أَخْبَرَ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ إلَّا بِاثْنَيْنِ أَوْ عَدَالَةِ الْوَاحِدِ
(قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَأْذَنَ الثَّيِّبَ) أَيْ الْكَبِيرَةَ، أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا اسْتِئْذَانَ فِي حَقِّهَا أَصْلًا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ (فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقَوْلِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ») وَلَا تَكُونُ الْمُشَاوَرَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّهَا طَلَبُ الرَّأْيِ، ثُمَّ هِيَ مُفَاعَلَةٌ فَتَقْتَضِي وُجُودَهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي كُلٍّ مِنْ الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ نَظَرٌ. أَمَّا الدَّلِيلُ فَلِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى لُزُومِ الْقَوْلِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ طَلَبُ الرَّأْيِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي إفَادَةِ الرَّأْيِ فِعْلُ اللِّسَانِ بَلْ قَدْ يُفَادُ بِغَيْرِهِ وَلُزُومُ الْقَوْلِ فِي حَقِّ الطَّالِبِ ضَرُورِيٌّ لَا مَفْهُومُ اللُّغَةِ، وَحِينَئِذٍ فَكَوْنُ الْمُشَاوَرَةِ تَسْتَدْعِي جَوَابًا بِاللَّفْظِ مَمْنُوعٌ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى
فَلَا مَانِعَ مِنْ النُّطْقِ فِي حَقِّهَا
(وَإِذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ تَعْنِيسٍ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْأَبْكَارِ) لِأَنَّهَا بِكْرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ مُصِيبَهَا أَوَّلُ مُصِيبٍ لَهَا وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ وَالْبُكْرَةُ وَلِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي لِعَدَمِ الْمُمَارَسَةِ (وَلَوْ زَالَتْ) بَكَارَتُهَا (بِزِنًا فَهِيَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ مُصِيبَهَا عَائِدٌ إلَيْهَا وَمِنْهُ الْمَثُوبَةُ وَالْمَثَابَةُ وَالتَّثْوِيبُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّاسَ عَرَفُوهَا بَكْرًا
تُسْتَأْمَرَ» وَالْأَمْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ لَا بِغَيْرِهِ، وَمُنِعَ بِمَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» . وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَقِيقَتِهِ هُنَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ «وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَيُوجَدُ مِثْلُهَا فِي الثَّيِّبِ فَتَجِبُ حَقِيقَتُهُ. وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ وَهُوَ النَّظَرُ الثَّانِي، بَلْ إمَّا بِهِ كَنَعَمْ أَوْ رَضِيتُ أَوْ بَارَكَ اللَّهُ لَنَا أَوْ أَحْسَنْتَ، وَبِالدَّلَالَةِ كَطَلَبِ الْمَهْرِ أَوْ النَّفَقَةِ أَوْ تَمْكِينِهَا مِنْ الْوَطْءِ وَقَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَالضَّحِكِ سُرُورًا لَا اسْتِهْزَاءً، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ لَا بُدَّ فِي حَقِّهَا مِنْ دَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مُجَرَّدِ السُّكُوتِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ، إلَّا التَّمْكِينَ فَيَثْبُتُ بِدَلَالَةِ نَصِّ إلْزَامِ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْقَوْلِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا إلَخْ) أَيْ إذَا زَالَتْ بِوَثْبَةٍ أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ تَعْنِيسٍ وَهُوَ أَنْ تَصِيرَ عَانِسًا: أَيْ نَصَفًا لَمْ تَتَزَوَّجْ، أَوْ خَرْقَ اسْتِنْجَاءٍ أَوْ عُودٍ أَوْ حِمْلٍ ثَقِيلٍ تُزَوَّجُ كَالْأَبْكَارِ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إذَا فَارَقَهَا الزَّوْجُ لِجَبٍّ أَوْ عُنَّةٍ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَوْ بَعْدَ الْخَلْوَةِ، وَهَذَا مِمَّا تُخَالِفُ حُكْمَ الْخَلْوَةِ وَالدُّخُولِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا بِكْرٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهَا لَمْ يُصِبْهَا مُصِيبٌ، وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى بِأَبْكَارِ بَنِي فُلَانٍ دَخَلَتْ هَذِهِ وَمَنَعَ بِالْجَارِيَةِ تُبَاعُ عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ حَيْثُ تُرَدُّ
فَيُعَيِّبُونَهَا بِالنُّطْقِ فَتَمْتَنِعُ عَنْهُ فَيُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ عَلَيْهَا مَصَالِحُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَظْهَرَهُ حَيْثُ عَلَّقَ بِهِ أَحْكَامًا، أَمَّا الزِّنَا فَقَدْ نُدِبَ إلَى سَتْرِهِ، حَتَّى لَوْ اُشْتُهِرَ حَالُهَا لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا
إذَا وُجِدَتْ زَائِلَةَ الْبَكَارَةِ بِوَثْبَةٍ وَنَحْوِهَا، فَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ تُرَدَّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبِكْرَ يُقَالُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصِبْهَا مُصِيبٌ، وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ لِأَوَّلِ الثِّمَارِ وَالْبُكْرَةُ لِأَوَّلِ النَّهَارِ، وَعَلَى الْعَذْرَاءِ وَهِيَ أَخَصُّ أَوْ هِيَ مَنْ لَمْ يُصِبْهَا مُصِيبٌ وَمِنْ أَفْرَادِهِ قَائِمَةُ الْعُذْرَةِ فَهُوَ مُتَوَاطِئٌ، وَحُمِلَ عَلَى هَذَا الْفَرْدُ فِي الْبَيْعِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُشَاحَحَةِ فَتُرَدُّ لِفَوَاتِ الْعُذْرَةِ وَهِيَ تِلْكَ الْجِلْدَةُ. وَعَلَى الْأَعَمِّ الْأَوْسَعِ فِي النِّكَاحِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَشِدَّةِ التَّثَبُّتِ حَتَّى لَزِمَ مِنْ الْهَازِلِ وَالْمُكْرَهِ وَبِصِيغَةِ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إذَا اعْتَرَفَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّ زَوَالَهَا بِوَثْبَةٍ لَا تُرَدُّ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ إرَادَةُ الْعُذْرَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَكَارَةِ فِي الْبَيْعِ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا. وَأَيْضًا لَوْ أَوْصَى لِأَبْكَارِ بَنِي فُلَانٍ دَخَلَتْ هَذِهِ. وَأَيْضًا الِاسْتِحْيَاءُ قَائِمٌ وَأَنَّهَا عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَوَاضِعِ وُجُودِهَا بِالنَّصِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الِاسْتِحْيَاءُ حِكْمَةٌ نُصَّ عَلَيْهَا لَا يُنَاطُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا، وَلِذَا لَوْ فُرِضَ أَنَّ اسْتِحْيَاءَ مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِزِنًا أَشَدُّ مِنْ الْعَذْرَاءِ لَا تُزَوَّجُ كَالْبِكْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَا يُنَاطُ بِهَا إذَا كَانَ فِيهَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ أَوْ خَفَاءٌ فِي تَحَقُّقِهَا فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ، وَلَا يُنَاطُ إلَّا بِظَاهِرٍ ضَابِطٍ لِكُلِّ مَرْتَبَةٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَظِنَّةِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى الْحِكْمَةِ وُجِدَتْ أَوْ عُدِمَتْ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ هُنَا حَيَاءُ الْبِكْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْضَبِطُ اتَّحَدَ الْحَاصِلُ إذْ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْبَكَارَةِ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَإِنْ زَالَتْ بِزِنًا مَشْهُورٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ زُوِّجَتْ كَالثَّيِّبَاتِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ زَالَتْ بِزِنًا غَيْرِ مَشْهُورٍ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، فَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ تُزَوَّجُ كَالثَّيِّبِ وَعِنْدَهُ كَالْبِكْرِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً فَإِنَّ مُصِيبَهَا عَائِدٌ إلَيْهَا، وَمِنْهُ الْمَثُوبَةُ؛ لِأَنَّهَا جَزَاءُ عَمَلِهِ يَعُودُ إلَيْهِ، وَالْمَثَابَةُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلثَّيِّبَاتِ مِنْ بَنَاتِ فُلَانٍ. وَلَهُ أَنَّهَا عُرِفَتْ بِكْرًا فَتَمْتَنِعُ عَنْ النُّطْقِ مَخَافَةَ أَنْ يُعْلَمَ زِنَاهَا حَيَاءً مِنْ ظُهُورِهِ، وَذَلِكَ
(وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ بَلَغَك النِّكَاحُ فَسَكَتَتْ وَقَالَتْ رَدَدْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: الْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ السُّكُوتَ أَصْلٌ وَالرَّدَّ عَارِضٌ، فَصَارَ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ يَدَّعِي لُزُومَ الْعَقْدِ وَتَمَلُّكَ الْبُضْعِ وَالْمَرْأَةُ تَدْفَعُهُ فَكَانَتْ مُنْكِرَةً، كَالْمُودِعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ اللُّزُومَ قَدْ ظَهَرَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سُكُوتِهَا ثَبَتَ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ،
أَشَدُّ مِنْ حَيَائِهَا بِكْرًا مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ بِدَلَالَةِ نَصِّ سُكُوتِ الْبِكْرِ، وَهَذَا يُفِيدُ لَوْ كَانَ الْحَيَاءُ مُطْلَقًا هُوَ الْعِلَّةُ لَكِنَّهُ حَيَاءُ الْبِكْرِ الصَّادِرِ عَنْ كَرَمِ الطَّبِيعَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ. وَبِهِ يَنْدَفِعُ جَوَابُ مَا أَوْرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» مِنْ أَنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ وَالْأَمَةُ فَيُخَصُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ جَعْلِ الشَّارِعِ الْحَيَاءَ عِلَّةً وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُزَنِيَّةِ، وَنَفْسُ الْمُجِيبِ صَرَّحَ بَعْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ بِأَنَّ الْأَيِّمَ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا بَعْدَمَا نَقَلَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ لَوْ أَوْصَى لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ لَا تَدْخُلُ الْأَبْكَارُ وَصَحَّحَ دُخُولَهُنَّ كَقَوْلِ الْكَرْخِيِّ اهـ.
وَالْأَوْلَى أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الزِّنَا غَيْرُ مَشْهُورٍ، فَفِي إلْزَامِهَا النُّطْقَ دَلِيلُ الْمَنْعِ مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْمَنْعُ يُقَدَّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُعْمَلُ دَلِيلُ نُطْقِ الثَّيِّبِ فِيمَا وَرَاءَ هَذِهِ، وَأَيْضًا الظَّاهِرُ مِنْ مُرَادِ الشَّارِعِ مِنْ الْبِكْرِ الْمُعْتَبَرِ سُكُوتُهَا رِضَا الْبِكْرِ ظَاهِرًا كَمَا هُوَ فِي أَمْثَالِهِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلِذَا لَمْ يُوجِب عَلَى الْوَلِيِّ اسْتِكْشَافَ حَالِهَا عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا، أَهِيَ بِكْرٌ الْآنَ لِيَكْتَفِيَ بِسُكُوتِهَا أَمْ لَا؟ اكْتَفَى بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ خِلَافًا، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي ثُيُوبَةٍ بِزِنًا لَمْ يَظْهَرْ فَيَجِبُ كَوْنُهَا بِكْرًا شَرْعًا، وَلِذَا قُلْنَا لَوْ ظَهَرَ لَا يَكْفِي سُكُوتُهَا
(قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ بَلَغَك إلَخْ) صُورَتُهَا: ادَّعَى عَلَى بِكْرٍ بَالِغَةٍ أَنَّ وَلِيَّهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ قَبْلَ اسْتِئْذَانِهَا فَلَمَّا بَلَغَهَا سَكَتَتْ وَقَالَتْ بَلْ رَدَدْت فَالْقَوْلُ لَهَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ: لَهُ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْكَلَامِ. وَنَظِيرُ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ سَيِّدُ الْعَبْدِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ وَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ أَدْخُلْ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ قَوْلُ الْعَبْدِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَبْسُوطِ: إنَّ الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِنَاءٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ إذْ لَيْسَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ مَبْنَى الْخِلَافِ فِي الْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ بَلْ الْخِلَافُ فِيهِمَا مَعًا ابْتِدَاءً.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِيهِمَا التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ الْمُتَبَادَرِ وَهُوَ عَدَمُ الدُّخُولِ وَعَدَمُ الْكَلَامِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إذَا ادَّعَى بَعْدَ مُدَّةِ الْخِيَارِ رَدَّ الْبَيْعِ قَبْلَ مُضِيِّهَا وَقَالَ الْبَائِعُ بَلْ سَكَتَ حَتَّى انْقَضَتْ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِلْبَائِعِ اتِّفَاقًا لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ، وَالشَّفِيعُ إذَا قَالَ عَلِمْت بِالْبَيْعِ أَمْسِ وَطَلَبْت الشُّفْعَةَ
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَسَتَأْتِيك
وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ سَكَتَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، أَمَّا لَوْ قَالَ طَلَبْت الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمْت بِالْبَيْعِ فَالْقَوْلُ لَهُ، وَالْمُزَوَّجَةُ صَغِيرَةٌ مِنْ الْوَلِيِّ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ إذَا قَالَتْ بَعْدَ الْبُلُوغِ كُنْت رَدَدْت حِينَ بَلَغَنِي الْخَبَرُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ حِينَ بَلَغْت وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ فَإِنَّ الْقَوْلَ لَهُ.
وَعِنْدَنَا الْقَوْلُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الظَّاهِرُ هُوَ الْأَصْلُ بِحَسَبِ مَا يَتَبَادَرُ أَوْ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَلَا يَخْفَى تَرَجُّحُ هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ادَّعَى بِدَعْوَاهُ سُكُوتَهَا تَمَلُّكَ بُضْعِهَا مِنْ غَيْرِ ظَاهِرٍ مَعَهُ وَهِيَ تُنْكِرُ، وَالظَّاهِرُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْحَالَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ مِنْ عَدَمِ وُرُودِ مِلْكٍ عَلَيْهَا الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، فَكَانَتْ هِيَ مُتَمَسِّكَةً بِأَصْلِ مَعْنًى هُوَ الظَّاهِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ لَهَا كَالْمُودَعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَالْمُودِعِ يُنْكِرُ فَإِنَّ الْقَوْلَ لَمُدَّعِي الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا صُورَةً لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا لَا لِكَوْنِهِ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ ثَبَتَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ وَقَدْ لَزِمَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ظَاهِرًا فَالتَّمَسُّكُ بِعَدَمِهِ تَمَسُّكٌ بِالظَّاهِرِ، وَكَذَا الْمُزَوَّجَةُ صَغِيرَةً تَدَّعِي زَوَالَ مِلْكِهِ بَعْدَمَا نَفَذَ عَلَيْهَا حَالِ صِغَرِهَا يَقِينًا وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَمِثْلُهُ الشَّفِيعُ.
ثُمَّ إنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سُكُوتِهَا عَمِلَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقُمْ عَلَى النَّفْيِ بَلْ عَلَى حَالَةٍ وُجُودِيَّةٍ فِي مَجْلِسٍ خَاصٍّ يُحَاطُ بِطَرَفَيْهِ، أَوْ هُوَ نَفْيٌ يُحِيطُ بِهِ الشَّاهِدُ فَيَقْبَلُ، كَمَا لَوْ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا تَكَلَّمَ بِمَا هُوَ رِدَّةٌ فِي مَجْلِسٍ فَأَقَامَهَا عَلَى عَدَمِ التَّكَلُّمِ فِيهِ يُقْبَلُ، وَكَذَا إذَا قَالَ الشُّهُودُ كُنَّا عِنْدَهَا وَلَمْ نَسْمَعْهَا تَتَكَلَّمُ ثَبَتَ سُكُوتُهَا بِذَلِكَ، كَذَا فِي الْجَوَامِعِ.
وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَتُهَا أَوْلَى لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ: أَعْنِي الرَّدَّ، فَإِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى السُّكُوتِ، وَلَوْ كَانَ أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهَا رَضِيَتْ أَوْ أَجَازَتْ حِينَ عَلِمَتْ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِثْبَاتِ وَزِيَادَةِ بَيِّنَتِهِ بِإِثْبَاتِ اللُّزُومِ. كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ لِلتُّمُرْتَاشِيِّ، وَكَذَا هُوَ فِي غَيْرِ نُسْخَةٍ مِنْ الْفِقْهِ، لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ نَقْلًا عَنْ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ أَقَامَ الْأَبُ أَوْ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى الرَّدِّ فَبَيِّنَتُهَا أَوْلَى، فَتَحَصَّلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ السُّكُوتَ لَمَّا كَانَ مِمَّا تَتَحَقَّقُ الْإِجَازَةُ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالْإِجَازَةِ كَوْنُهَا بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى السُّكُوتِ مَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ فَلَمْ يَجْزِمْ بِاسْتِوَاءِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْإِثْبَاتِ. وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَوْ قَالَتْ لَمْ أُجْزِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا إنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَحِينَئِذٍ الْقَوْلُ لَهَا لِظُهُورِ دَلِيلِ السَّخَطِ دُونَ الرِّضَا، وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهَا قَوْلُ وَلِيِّهَا بِالرِّضَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَ بُلُوغِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي لُزُومِهِ أَيْضًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ بَيِّنَةٌ تَذْهَبُ مِنْ
فِي الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
(وَيَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ بِكْرًا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ أَوْ ثَيِّبًا وَالْوَلِيُّ هُوَ الْعَصَبَةُ) وَمَالِكٌ رحمه الله يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِ الْأَبِ، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَفِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا. وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْحُرَّةِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا لِانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْجَدُّ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ.
عِصْمَتِهِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ تَلْزَمُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ بَقِيَ النِّكَاحُ عِنْدَهُمَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَزِيدَ عَلَيْهَا دَعْوَى الْأَمَةِ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَجَمَعْتهَا فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
نِكَاحٌ وَفَيْئَةُ إيلَائِهِ
…
وَرِقٌّ وَرَجْعُ وَلَاءِ نَسَبْ
وَدَعْوَى الْإِمَاءِ أُمُومِيَّةً
…
فَلَيْسَ بِهَا مِنْ يَمِينٍ وَجَبْ
وَسَيَأْتِي فِي الدَّعْوَى صُوَرُهَا، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِيهَا. وَقِيلَ يَتَأَمَّلُ الْقَاضِي فِي حَالِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ التَّعَنُّتُ قَضَى بِقَوْلِهِ وَإِلَّا بِقَوْلِهِمَا. وَفِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ زَوَّجَهُ بِنْتَه الصَّغِيرَةَ فَأَنْكَرَ يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الْكَبِيرَةِ لَا اعْتِبَارَ بِالْإِقْرَارِ فِيهِمَا. وَاسْتَشْكَلَ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْيَمِينِ عِنْدَهُ لِامْتِنَاعِ الْبَذْلِ لَا لِامْتِنَاعِ الْإِقْرَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً لَوْ أَقَرَّتْ لِرَجُلٍ بِنِكَاحٍ نَفَذَ إقْرَارُهَا وَمَعَ هَذَا لَا تَحْلِفُ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهَا فَأَنْكَرَتْ فَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَهُمَا
(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} فَأَثْبَتَ الْعِدَّةَ لِلصَّغِيرَةِ وَهُوَ فَرْعُ تَصَوُّرِ نِكَاحِهَا شَرْعًا فَبَطَلَ بِهِ مَنْعُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَصَمِّ مِنْهُ، وَتَزْوِيجُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ رضي الله عنهما وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ نَصٌّ قَرِيبٌ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ، وَتَزَوُّجُ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ بِنْتَ الزُّبَيْرِ يَوْمَ وُلِدَتْ مَعَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم نَصٌّ فِي فَهْمِ الصَّحَابَةِ عَدَمَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي نِكَاحِ عَائِشَةَ.
(قَوْلُهُ وَالْوَلِيُّ هُوَ الْعَصَبَةُ، وَمَالِكٌ يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالشَّافِعِيُّ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَفِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ) فَعِنْدَهُ لَا يَلِي عَلَيْهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُزَوَّجَ بِإِذْنِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا.
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى
قُلْنَا: لَا بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ وَلَا تَتَوَفَّرُ إلَّا بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ عَادَةً وَلَا يَتَّفِقُ الْكُفْءُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَأَثْبَتْنَا الْوِلَايَةَ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إحْرَازًا لِلْكُفْءِ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّظَرَ لَا يَتِمُّ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ وَبُعْدِ قَرَابَتِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتْبَةً، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِي النَّفْسِ وَإِنَّهُ أَعْلَى وَأَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ الْقَرَابَةَ دَاعِيَةٌ إلَى النَّظَرِ كَمَا فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْقُصُورِ أَظْهَرْنَاهُ
الْحُرَّةِ إنَّمَا تَثْبُتُ لِحَاجَتِهَا وَلَا حَاجَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْحُرِّيَّةِ دَفَعَ سَلْطَنَةَ الْغَيْرِ وَهُوَ تَزْوِيجُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ رضي الله عنهما وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ، وَالْجَدُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَبِ لِيَلْحَقَ بِهِ دَلَالَةً لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَلِذَا يُقَدَّمُ وَصِيُّ الْأَبِ عَلَيْهِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. قُلْنَا: بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِمَقَاصِدِهِ وَلَا تَتَوَفَّرُ إلَّا بَيْنَ الْمُتَكَافِئِينَ عَادَةً، وَلَا يَتَّفِقُ الْكُفْءُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَإِثْبَاتُ وِلَايَةِ الْأَبِ بِالنَّصِّ بِعِلَّةِ إحْرَازِ الْكُفْءِ إذَا ظَفِرَ بِهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، إذْ قَدْ لَا يَظْفَرُ بِمِثْلِهِ إذَا فَاتَ بَعْدَ حُصُولِهِ فَيَتَعَدَّى إلَى الْجَدِّ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِمَا مُخِلٌّ بِهَا لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ لِبُعْدِ قَرَابَتِهِ وَدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْقُصُورِ سَالِبًا لِلْوِلَايَةِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وِلَايَتِهِ فِي الْمَالِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ وَهُوَ أَدْنَى مِنْ النَّفْسِ فَسَلْبُهَا فِي النَّفْسِ أَوْلَى. وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَالْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ» وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، فَرَدَّهَا صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: إنَّهَا يَتِيمَةٌ، وَإِنَّهَا لَا تُنْكَحُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَتَأْثِيرُ هَذَا الْوَصْفِ أَنَّ مُزَوِّجَهَا قَاصِرُ الشَّفَقَةِ حَتَّى لَمْ تَثْبُتْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي الْمَالِ فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الْآيَةَ مَنَعَ مِنْ نِكَاحِهِنَّ عِنْدَ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ فِيهِنَّ، وَهَذَا فَرْعُ جَوَازِ نِكَاحِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ. وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ نِكَاحِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَاتِ مُطْلَقًا، فَمُنِعَ مِنْ هَذِهِ عِنْدَ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ فِيهِنَّ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَثْبُتُ الْجَوَازُ بِالْأَصْلِ الْمُمَهَّدِ لَا مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ، وَيُصَرِّحُ بِجَوَازِ نِكَاحِهَا قَوْلُ عَائِشَةَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَتِيمَةٍ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا يَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَلَا يُقْسِطُ فِي صَدَاقِهَا فَنَهَوْا عَنْ نِكَاحِهِنَّ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِنَّ سُنَّتَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَقَالَتْ فِي قَوْله تَعَالَى
فِي سَلْبِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ، بِخِلَافِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ فَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُ الْخَلَلِ فَلَا تُفِيدُ الْوِلَايَةُ إلَّا مُلْزِمَةً وَمَعَ الْقُصُورِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ. وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الثِّيَابَةَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الرَّأْيِ لِوُجُودِ الْمُمَارَسَةِ فَأَدَرْنَا الْحُكْمَ عَلَيْهَا تَيْسِيرًا. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَوُفُورِ الشَّفَقَةِ، وَلَا مُمَارَسَةَ تُحْدِثُ الرَّأْيَ بِدُونِ
{فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي يَتِيمَةٍ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا وَلَا يُرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا لِدَمَامَتِهَا وَلَا يُزَوِّجُهَا مِنْ غَيْرِهِ كَيْ لَا يُشَارِكَهُ فِي مَالِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَمْرٌ بِتَزْوِيجِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ أَوْ تَزَوُّجِهِنَّ مَعَ الْإِقْسَاطِ.
«وَزَوَّجَ صلى الله عليه وسلم بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ رضي الله عنه مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ» ، وَإِنَّمَا زَوَّجَهَا بِالْعُصُوبَةِ لَا بِوِلَايَةٍ ثَبَتَتْ بِالنُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُزَوِّجْ بِهَا قَطُّ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَتَزَوَّجْ أَحَدٌ إلَّا عَنْهُ، لَكِنْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ وَحُضُورِهِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ عَنْ تَزَوُّجِهِ فَذَكَرَ أَنَّهَا ثَيِّبٌ، فَقَالَ: هَلَّا بِكْرًا» الْحَدِيثَ. «وَرَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الصُّفْرَةَ فَقَالَ مَهْيَمْ؟ قَالَ تَزَوَّجْتُ، وَسَأَلَهُ كَمْ سَاقَ لَهَا» .
وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ وَجَوَازِهِ شَهِيرَةٌ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكُفْءِ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ إنَّمَا تَتِمُّ مَعَهُ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ بِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَالْوِلَايَةُ لِعِلَّةِ الْحَاجَةِ فَيَجِبُ إثْبَاتُهَا إحْرَازًا لِهَذِهِ
الْمَصْلَحَةِ
مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْقَرَابَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الشَّفَقَةِ، غَيْرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ قُصُورًا أَظْهَرْنَاهُ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا إذَا بَلَغَتْ، وَإِذَا قَامَ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَجَبَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْيَتِيمَةِ فِي الْحَدِيثِ الْيَتِيمَةَ الْبَالِغَةَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَيَّا الْمَنْعَ بِالِاسْتِئْمَارِ «وَإِنَّمَا تُسْتَأْمَرُ الْبَالِغَةُ» وَحَدِيثُ قُدَامَةَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ خَيَّرَهَا صلى الله عليه وسلم فَاخْتَارَتْ الْفَسْخَ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ اُنْتُزِعَتْ مِنِّي بَعْدَ أَنْ مَلَكْتهَا. وَأَمَّا الْمَالُ فَإِنَّهُ يُعَارِضُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الشَّفَقَةِ كَوْنُهُ مَحْبُوبَ الطَّبْعِ حُبًّا يُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فِي قَرَابَةِ الْعَصَبَاتِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِالْمُحَابَاةِ وَيَخْفَى لِتَعَذُّرِ إحْضَارِهِ بِتَدَاوُلِ الْأَيْدِي عَلَيْهِ أَوْ لِحُمُولَتِهِ أَوْ نِسْيَانِهِ أَوْ الْتَوَى فِي الْعِوَضِ فِي الْمُقَايَضَةِ فَلَا تُفِيدُ الْوِلَايَةُ غَيْرُ الْمُلْزِمَةِ فَائِدَةَ عَدَمِ اللُّزُومِ وَهُوَ التَّدَارُكُ فَانْتَفَتْ وَالْمُلْزِمَةُ مُنْتَفِيَةٌ لِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ مَعَ قُصُورِ الشَّفَقَةِ مُقْتَضَاهَا وِلَايَةٌ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ
الشَّهْوَةِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الصِّغَرِ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَيِّدُ كَلَامَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَالتَّرْتِيبُ فِي الْعَصَبَاتِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْإِرْثِ وَالْأَبْعَدُ مَحْجُوبٌ بِالْأَقْرَبِ.
قَالَ (فَإِنْ)(زَوَّجَهُمَا الْأَبُ وَالْجَدُّ) يَعْنِي الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ (فَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ بُلُوغِهِمَا) لِأَنَّهُمَا كَامِلَا الرَّأْي وَافِرَا الشَّفَقَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِمُبَاشَرَتِهَا كَمَا إذَا بَاشَرَاهُ بِرِضَاهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ (وَإِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مُقْتَضَاهَا فِي الْمَالِ فَانْتَفَتْ فِيهِ وَأَمْكَنَ فِي النَّفْسِ فَثَبَتَتْ فِيهَا، وَهَذَا لِمَا أَثْبَتْنَا فِيهِ مِنْ الْخِيَارِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرَّدِّ مِنْ الْقَاضِي عِنْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ مِنْ تَنْقِيصِ مَهْرٍ أَوْ عَدَمِ كَفَاءَةٍ.
وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَنَّهَا لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ لِحُدُوثِ الرَّأْيِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ لِمُمَارَسَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» أَفَادَ مَنْعَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْمُشَاوَرَةِ وَلَا مُشَاوَرَةَ حَالَةَ الصِّغَرِ فَلَا نِكَاحَ حَالَةَ الصِّغَرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى إحْرَازِ الْكُفْءِ، وَالْوِلَايَةُ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ لَيْسَ إلَّا لِتَحْصِيلِهِ، وَلَا رَأْيَ حَالَةَ الصِّغَرِ بِاعْتِرَافِهِ حَيْثُ مَنَعَ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ حَتَّى أَخَّرَ جَوَازَ نِكَاحِهَا إلَى الْبُلُوغِ، فَكَانَ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَام تَنَاقُضًا، فَإِنَّ سَلْبَ الْوِلَايَةِ بِعِلَّةِ حُدُوثِ الرَّأْيِ تَصْرِيحٌ بِحُدُوثِ الرَّأْيِ، وَتَأْخِيرُ نِكَاحِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ يُنَاقِضُهُ، فَلَزِمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِالثَّيِّبِ فِي الْحَدِيثِ الْبَالِغَةَ حَيْثُ عَلَّقَ بِالثُّيُوبَةِ مَا لَا يُعْتَبَرُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ الرَّأْيُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ قَبْلَهُ ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَمَدَارُ الْوِلَايَةِ الصِّغَرُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ الَّذِي يُؤَيِّدُ كَلَامَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ) يَعْنِي مِنْ جَوَازِ نِكَاحِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ الْعَصَبَةُ مُطْلَقًا بَعْدَ مَا كُفِينَا مَئُونَةَ إثْبَاتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ.
(قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ») بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعَصَبَاتِ فِي صُورَةِ الصِّغَرِ أَوَّلًا. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَذَكَرَهُ سَبْطُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَتَقَدَّمَ «تَزْوِيجُهُ صلى الله عليه وسلم أُمَامَةَ بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقَالَ لَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ» . هَذَا (وَالتَّرْتِيبُ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْإِرْثِ وَالْأَبْعَدُ مَحْجُوبٌ بِالْأَقْرَبِ) فَتُقَدَّمُ عَصَبَةُ النَّسَبِ. وَأَوْلَاهُمْ الِابْنُ وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْمَعْتُوهَةِ وَهَذَا قَوْلُهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْأَبَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِابْنِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ، وَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْأُمِّ الْمَعْتُوهَةِ إذَا أَفَاقَتْ وَقَدْ زَوَّجَهَا الِابْنُ؟ فِي الْخُلَاصَةِ: وَلَوْ زَوَّجَهَا الِابْنُ فَهُوَ كَالْأَبِ بَلْ أَوْلَى، ثُمَّ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُوهُ ثُمَّ الْأَخُ الشَّقِيقُ ثُمَّ لِأَبٍ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْأَخَ وَالْجَدَّ يَشْتَرِكَانِ فِي الْوِلَايَةِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقَدَّمُ الْجَدُّ كَمَا هُوَ الْخِلَافُ فِي الْمِيرَاثِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى بِالتَّزْوِيجِ اتِّفَاقًا، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقِ ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ ثُمَّ الْعَمُّ الشَّقِيقُ ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ، كَذَلِكَ الشَّقِيقُ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لِأَبٍ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ وَإِنْ سَفَلُوا، كُلُّ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ لَهُمْ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الْبِنْتِ وَالذَّكَرِ فِي حَالِ صِغَرِهِمَا وَحَالِ كِبَرِهِمَا إذَا جُنَّا. مَثَلًا غُلَامٌ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَزَوَّجَهُ أَبُوهُ وَهُوَ رَجُلٌ جَازَ إذَا كَانَ جُنُونُهُ مُطْبِقًا، وَلَمْ يُقَدِّرْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ قَدْرًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَإِنْ
الْخِيَارُ إذَا بَلَغَ، إنْ شَاءَ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا خِيَارَ لَهُمَا اعْتِبَارًا بِالْأَبِ وَالْجَدِّ. وَلَهُمَا أَنَّ قَرَابَةَ الْأَخِ نَاقِصَةٌ وَالنُّقْصَانُ يُشْعِرُ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ إلَى الْمَقَاصِدِ عَسَى وَالتَّدَارُكُ مُمْكِنٌ بِخِيَارِ الْإِدْرَاكِ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ يَتَنَاوَلُ الْأُمَّ، وَالْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ لِقُصُورِ الرَّأْيِ فِي أَحَدِهِمَا وَنُقْصَانِ الشَّفَقَةِ فِي الْآخَرِ فَيَتَخَيَّرُ. قَالَ (وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَضَاءُ) بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لِأَنَّ
أَفَاقَ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِذَا زَوَّجَهُ أَخُوهُ فَأَفَاقَ فَلَهُ الْخِيَارُ. ثُمَّ الْمُعْتَقُ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً ثُمَّ بَنُوهُ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ عَصَبَتُهُ مِنْ النَّسَبِ عَلَى تَرْتِيبِ عَصَبَاتِ النَّسَبِ، وَإِذَا عُدِمَ الْعَصَبَاتُ هَلْ يَثْبُتُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ؟ يَأْتِي
(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) يَعْنِي آخِرًا، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ لَا خِيَارَ وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَمْ تُشْرَعْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّظَرِ، وَإِذَا حَكَمَ بِالنَّظَرِ قَامَ عَقْدُ الْوَلِيِّ مَقَامَ عَقْدِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقَوْلُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأَخِ نَاقِصَةٌ فَتُشْعِرُ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ فِي الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ أَظْهَرَ الشَّرْعُ أَثَرَ هَذَا النُّقْصَانِ حَيْثُ مَنَعَ وِلَايَتَهُ فِي الْمَالِ فَيَجِبُ إظْهَارُهُ فِي النَّفْسِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ نَاظِرٌ إلَى إظْهَارِ أَثَرِهِ فَيَجِبُ التَّدَارُكُ بِإِثْبَاتِ خِيَارِ الْإِدْرَاكِ وَلِمَا قَدَّمْنَا مِنْ «تَزْوِيجِهِ صلى الله عليه وسلم بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقَالَ لَهَا الْخِيَارُ» .
(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ صَبِيحٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إذَا كَانَ الْمُزَوِّجُ الْقَاضِيَ لِلْيَتِيمَةِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ أَتَمُّ مِنْ وِلَايَةِ الْعَمِّ؛ لِأَنَّهَا فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا، وَعَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ فِيمَا إذَا زَوَّجَتْ الْأُمُّ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهَا فَوْقَ شَفَقَةِ الْأَبِ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا.
(قَوْلُهُ وَيُشْتَرَطُ فِيهِ) أَيْ فِي الْفَسْخِ. وَيُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ فِي الْفُرْقَةِ فِي مَوَاضِعَ: هَذِهِ وَالْفُرْقَةُ بِعَدَمِ
الْفَسْخَ هَاهُنَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ وَلِهَذَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فَجُعِلَ إلْزَامًا فِي حَقِّ الْآخَرِ فَيُفْتَقَرُ إلَى الْقَضَاءِ. وَخِيَارُ الْعِتْقِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ جَلِيٍّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا
الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانُ الْمَهْرِ وَكُلُّهَا فَسْخٌ، وَالْفُرْقَةُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَاللِّعَانِ وَكُلُّهَا طَلَاقٌ، وَبِإِبَاءِ زَوْجِ الذِّمِّيَّةِ الَّتِي أَسْلَمَتْ وَهِيَ طَلَاقٌ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِرَاقَ الطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ وَمَا يَحْتَاجُ مِنْهَا إلَى الْقَضَاءِ فِي قَوْلِهِ:
فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْإِعْتَاقِ
…
فُرْقَةٌ حُكْمُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ
فَقْدُ كُفْءٍ كَذَا وَنُقْصَانُ مَهْرٍ
…
وَنِكَاحٌ فَسَادُهُ بِاتِّفَاقِ
مِلْكُ إحْدَى الزَّوْجَيْنِ أَوْ بَعْضِ زَوْجٍ
…
وَارْتِدَادٍ كَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ
ثُمَّ جَبٌّ وَعُنَّةٌ وَلِعَانٌ
…
وَإِبَا الزَّوْجِ فُرْقَةٌ بِطَلَاقِ
وَقَضَاءٌ لِلْقَاضِي فِي الْكُلِّ شَرْطٌ
…
غَيْرَ مِلْكٍ وَرِدَّةٍ وَعَتَاقِ
وَقَوْلُهُ بِاتِّفَاقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْحَامِلِ مِنْ زِنًا فَإِنَّ نِكَاحَهَا جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَالْفُرْقَةُ مِنْهُ طَلَاقٌ عِنْدَ هُمَا وَفَسْخٌ عِنْدَهُ.
وَقَوْلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرِّدَّةِ مِنْ الزَّوْجِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ فَهِيَ فَسْخٌ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ بِطَلَاقٍ إذَا أَوْقَعَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ طَلْقَةً وَقَعَتْ إلَّا فِي اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كُلُّ فُرْقَةٍ تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَهَا.
وَوَجْهُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ. وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ تَحَقُّقُ الضَّرَرِ وَخَفَاؤُهُ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ بَلْ نُظِرَ إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ قُصُورُ الْقَرَابَةِ الْمُشْعِرِ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ، وَقَدْ يَظْهَرُ خِلَافُهُ مِمَّا هُوَ أَثَرُ النَّظَرِ مِنْ
(وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأُنْثَى فَاعْتُبِرَ دَفْعًا وَالدَّفْعُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ) ثُمَّ عِنْدَهُمَا إذَا بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ وَقَدْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ
كَوْنِ الزَّوْجِ كُفْئًا وَالْمَهْرُ تَامًّا وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَغَيْرِهَا، فَقَدْ يُنْكِرُ الزَّوْجُ عَدَمَ النَّظَرِ فَيَرَى أَنَّ فَسْخَهَا لَا يُصَادِفُ مَحَلًّا فَاحْتِيجَ إلَى الْقَضَاءِ لِإِلْزَامِهِ بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِ حُكْمِ الْخِيَارِ بِمَظِنَّةِ تَرْكِ النَّظَرِ لَا بِحَقِيقَتِهِ، وَلَا بِدْعَ فِي خُلُوِّ الْمَظِنَّةِ الْمُعَلَّلِ بِهَا عَنْ الْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا فِي سَفَرِ الْمَلِكِ الْمُرَفَّهِ فِي عَمَلِهِ بِبِلَادٍ مُتَقَارِبَةٍ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ فَرْسَخٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ الْهَيِّنَةِ تَنَزُّهًا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ، وَلِأَنَّ فِي سَبَبِهِ ضَعْفًا وَخِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ جَلِيٍّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا بِاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأُنْثَى لِاقْتِصَارِ السَّبَبِ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا أُعْتِقَ فَاعْتُبِرَ خِيَارُهَا دَفْعًا لِضَرَرِ زِيَادَةِ مَمْلُوكِيَّتِهَا وَلَا خِلَافَ فِيهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْقَضَاءِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ دَفْعَهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ التَّابِعَةُ لِأَصْلِ النِّكَاحِ بِرَفْعِهِ، وَفِيهِ جُعِلَ التَّابِعُ مَتْبُوعًا وَهُوَ نَقْضُ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّهُ عَكْسُ الْمَعْقُولِ. لَا يُقَالُ: الشَّيْءُ إذَا كَانَ تَابِعًا لِشَيْءٍ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ يَكُونُ مَتْبُوعًا فِي النَّفْيِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ لَازِمٍ نَفْيُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْمَلْزُومِ مَعَ أَنَّ وُجُودَهُ لَازَمَ وُجُودَهُ، فَاسْتِتْبَاعُ الزِّيَادَةِ أَصْلَ النِّكَاحِ فِي النَّفْيِ لَا يَكُونُ عَكْسَ الْمَعْقُولِ بَلْ وَفْقَهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْفَى التَّابِعُ إذَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الْمَتْبُوعِ اللَّازِمِ الثَّابِتِ لِتَضَمُّنِهِ رَفْعَ
فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضًا، (وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ فَلَهَا الْخِيَارُ حَتَّى تَعْلَمَ فَتَسْكُتَ) شَرَطَ الْعِلْمَ بِأَصْلِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِهِ، وَالْوَلِيُّ يَنْفَرِدُ بِهِ فَعُذِرَتْ بِالْجَهْلِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْعِلْمُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالدَّارُ دَارُ الْعِلْمِ فَلَمْ تُعْذَرْ بِالْجَهْلِ، بِخِلَافِ الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَتِهَا فَتُعْذَرُ بِالْجَهْلِ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ
(ثُمَّ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَقُلْ رَضِيت أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ)
الْأَقْوَى لِغَرَضِ رَفْعِ الْأَدْنَى. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَجَبَ وَيَكُونُ حِينَئِذٍ رَفْعُ الْمَتْبُوعِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ بِوَاسِطَةِ اقْتِضَائِهِ مَلْزُومَهُ وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا وَهُوَ النَّصُّ، فَالْوَجْهُ فِي السُّؤَالِ طَلَبُ حِكْمَتِهِ مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ضَرَرَ الزَّوْجِ فَلِمَ رُجِّحَ دَفْعُ ضَرَرِهَا عَلَى دَفْعِ ضَرَرِهِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَفْعَ ضَرَرِهَا يُبْطِلُ حَقًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَهُوَ بِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ لَهُ وَلَهَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَيْهَا فَدَفْعُهَا أَوْلَى وَلِأَنَّهُ رَضِيَ بِهَذَا الضَّرَرِ حَيْثُ تَزَوَّجَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ خِيَارِ الْعِتْقِ شَرْعًا.
(قَوْلُهُ فَتُعْذَرُ) أَيْ الْأَمَةُ الْمُعْتَقَةُ (بِالْجَهْلِ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ) لَهَا إذْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِالْخِدْمَةِ الْوَاجِبَةِ الشَّاغِلَةِ لَهَا عَنْ التَّعَلُّمِ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ لَا تُعْذَرُ بِهِ لِانْتِفَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّهَا
(قَوْلُهُ ثُمَّ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ) إنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ مَا قَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضًا لِبَيَانِ أَنَّ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا فِيمَا تَقَدَّمَ هُوَ إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَإِنَّ الْعِبَارَةَ هُنَاكَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلْيُمَهِّدْ الْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْغُلَامِ وَالثَّيِّبِ حَيْثُ قَالَ (وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَقُلْ رَضِيتُ أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا) كَالْوَطْءِ وَدَفْعِ الْمَهْرِ وَالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ دَفْعِ الْمَهْرِ رِضًا إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، أَمَّا إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ بُلُوغِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ دَفْعُ الْمَهْرَ بَعْدَ بُلُوغِهِ رِضًا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، أَقَامَ أَوْ فَسَخَ (وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ) يَعْنِي لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالسُّكُوتِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَا لَمْ تَقُلْ رَضِيت، أَوْ يَجِيءُ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا كَالتَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ وَطَلَبِ الْمَهْرِ وَالْوَاجِبِ (اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ) أَيْ حَالَةِ ثُبُوتِ الِاخْتِيَارِ (بِحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ) فَكَمَا لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا لَوْ زُوِّجَتْ ثَيِّبًا بَالِغَةً لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا حَالَةَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهِيَ ثَيِّبٌ بَالِغَةٌ، وَلَوْ زُوِّجَتْ بِكْرًا بَالِغَةً اُكْتُفِيَ بِسُكُوتِهَا فَكَذَا إذَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ الْعِلْمُ بِالنِّكَاحِ وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ خِيَارَ الثَّيِّبِ لَا يَبْطُلُ بِهِ وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِمَا يَبْطُلُ بِهِ خِيَارُ الثَّيِّبِ صَرَّحَ بِمَفْهُومِهِ لِيُفِيدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إلَخْ
اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَخِيَارُ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الزَّوْجِ
(قَوْلُهُ وَخِيَارُ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ) بَلْ يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ سُكُوتِهَا وَالْمُرَادُ بِالْمَجْلِسِ مَجْلِسُ بُلُوغِهَا بِأَنْ حَاضَتْ فِي مَجْلِسٍ وَقَدْ كَانَ بَلَغَهَا النِّكَاحُ، أَوْ مَجْلِسِ بُلُوغِ خَبَرِ النِّكَاحِ إذَا كَانَتْ بِكْرًا بَالِغَةً، وَجَعَلَ الْخَصَّافُ خِيَارَ الْبِكْرِ مُمْتَدًّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَالَ هُوَ إلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فَإِنَّ فِيهِ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهَا فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا بَالِغَةً إذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ تَطْلُبَ مَعَ رُؤْيَةِ الدَّمِ فَإِنْ رَأَتْهُ لَيْلًا تَطْلُبُ بِلِسَانِهَا فَتَقُولُ فَسَخْت نِكَاحِي وَتُشْهِدُ إذَا أَصْبَحَتْ وَتَقُولُ رَأَيْت الدَّمَ الْآنَ. وَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ كَيْفَ وَهُوَ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَتْ قَبْلَ هَذَا؟ فَقَالَ لَا تُصَدَّقُ فِي الْإِسْنَادِ فَجَازَ لَهَا أَنْ تَكْذِبَ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهَا، ثُمَّ إذَا اخْتَارَتْ وَأَشْهَدَتْ وَلَمْ تَتَقَدَّمْ إلَى الْقَاضِي الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا كَخِيَارِ الْعَيْبِ. وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَنَّهَا لَوْ بَعَثَتْ خَادِمَهَا حِينَ حَاضَتْ لِلشُّهُودِ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِمْ وَهِيَ فِي مَكَان مُنْقَطِعٍ لَزِمَهَا وَلَمْ تُعْذَرْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَفْسَخْ بِلِسَانِهَا حَتَّى فَعَلَتْ. وَمَا قِيلَ لَوْ سَأَلَتْ عَنْ اسْمِ الزَّوْجِ أَوْ عَنْ الْمَهْرِ أَوْ سَلَّمَتْ عَلَى الشُّهُودِ بَطَلَ خِيَارُهَا تَعَسُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَغَايَةُ الْأَمْرِ كَوْنُ هَذِهِ الْحَالَةِ كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَلَوْ سَأَلَتْ الْبِكْرُ عَنْ اسْمِ الزَّوْجِ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا، وَكَذَا عَنْ الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ ذِكْرِهِ لَا يُبْطِلُ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا عَلَى الْخِلَافِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَسْأَلْ عَنْهُ لِظُهُورِ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِكُلِّ مَهْرٍ، وَالسُّؤَالُ يُفِيدُ نَفْيَ ظُهُورِهِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهَا يَتَوَقَّفُ رِضَاهَا عَلَى مَعْرِفَةِ كَمَيِّتِهِ، وَكَذَا السَّلَامُ عَلَى الْقَادِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، كَيْفَ وَإِنَّمَا أَرْسَلَتْ لِغَرَضِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْفَسْخِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ خِيَارُ الْبُلُوغِ وَالشُّفْعَةِ تَقُولُ أَطْلُبُ الْحَقَّيْنِ ثُمَّ تَبْدَأُ فِي التَّفْسِيرِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ، وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ الصَّغِيرَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا ثُمَّ بَلَغَتْ لَا يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ لِكَمَالِ وِلَايَةِ الْمَوْلَى كَالْأَبِ وَلِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ يُغْنِي عَنْهُ، وَالْعَبْدُ الصَّغِيرُ إذَا بَلَغَ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ خِيَارُ الْعِتْقِ فَيُطَلِّقُ إنْ شَاءَ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ) وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا إذَا بَلَغَتْ ثَيِّبًا فَوَقَفَ خِيَارُهَا الْعُمْرَ؛ لِأَنَّ
بَلْ لِتَوَهُّمِ الْخَلَلِ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالرِّضَا غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى وَهُوَ
سَبَبَهُ عَدَمُ الرِّضَا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالنِّكَاحِ، وَكَذَا الْغُلَامُ، وَعَلَى هَذَا تَظَافَرَتْ كَلِمَاتُهُمْ. وَمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مِمَّا نُقِلَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ خِيَارُ الْمُدْرِكَةِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ إذَا كَانَتْ بِكْرًا وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلزَّوْجِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى إبْطَالِ الْخِيَارِ كَمَا إذَا اشْتَغَلَتْ بِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ أَعْرَضَتْ عَنْ الِاخْتِيَارِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مُشْكِلٍ، إذْ يَقْتَضِي أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعَمَلٍ آخَرَ يُبْطِلُهُ وَهُوَ تَقْيِيدٌ بِالْمَجْلِسِ ضَرُورَةَ أَنْ تُبَدِّلَهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا يَسْتَلْزِمُهُ ظَاهِرًا. وَفِي الْجَوَامِعِ: وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حِينَ بَلَغَهَا أَوْ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَبْطُلْ بِالسُّكُوتِ وَإِنْ أَقَامَتْ مَعَهُ أَيَّامًا، إلَّا أَنْ تَرْضَى بِلِسَانِهَا أَوْ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْوَطْءِ أَوْ التَّمْكِينِ مِنْهُ طَوْعًا أَوْ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ أَوْ النَّفَقَةِ وَفِيهَا لَوْ قَالَتْ كُنْت مُكْرَهَةً فِي التَّمْكِينِ صُدِّقَتْ وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا، وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ أَكَلَتْ مِنْ طَعَامِهِ أَوْ خِدْمَتِهِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا. لَا يُقَالُ: كَوْنُ الْقَوْلِ لَهَا فِي دَعْوَى الْإِكْرَاهِ فِي التَّمْكِينِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُصَدِّقُهَا.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ: أَيْ فَيَمْتَدُّ خِيَارُ الْعِتْقِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ الْعِتْقِ الثَّابِتِ بِإِثْبَاتِهِ فَاقْتَضَى جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَالتَّمْلِيكِ فِي الْمُخَيَّرَةِ. وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْفَرْقِ بَيْنَ خِيَارَيْ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: احْتِيَاجُهُ إلَى الْقَضَاءِ وَلَوْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي حَتَّى مَاتَ وَرَثَةُ الْآخَرِ. وَكَذَا الْوَطْءُ بَعْدَ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِمُجَرَّدِ فَسْخِهَا، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْعِتْقِ بِالسُّكُوتِ إلَى آخِرِهِ، وَيَبْطُلُ خِيَارُ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ بِكْرٌ، بِخِلَافِ الْغُلَامِ وَالثَّيِّبِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَمْ يُجْعَلْ فِي حَقِّهِمَا رِضًا. وَيَثْبُتُ خِيَارُ الْبُلُوغِ لِكُلٍّ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ لِدَفْعِ ضَرَرِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الذَّكَرِ، وَخِيَارُ الْبُلُوغِ لِمَا يَنْشَأُ عَنْ قُصُورِ الشَّفَقَةِ وَهُوَ يَعُمُّهُمَا لَا يُقَالُ: الْغُلَامُ يَتَمَكَّنُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ التَّخَلُّصِ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ لَلذُّكْرَانِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ، وَمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ إلَّا لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَتَخَلَّصُ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ يَلْزَمُهُ. وَهُنَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيَلْزَمُهُ كُلُّهُ، لَكِنْ لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَلَكَ عَلَيْهَا الثَّلَاثَ. وَفِي الْجَوَامِعِ: إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ فَقَالَ فَسَخْت يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ بَائِنٌ، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ وَهَذَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْفَسْخِ يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ. وَالرَّابِعُ أَنَّ الْجَهْلَ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ شَرْعًا مُعْتَبَرٌ فِي خِيَارِ الْعِتْقِ دُونَ الْبُلُوغِ. وَالْخَامِسُ أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْبُلُوغِ فِي الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَيَيْنِ عَلَى اخْتِيَارِ أَمَتِهِمَا الَّتِي زَوَّجَاهَا نَفْسَهَا إذَا أَعْتَقَاهَا، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاصِبِينَ الْمُزَوِّجِينَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرَّدِّ قَدْ انْقَطَعَ فِي الْأُولَى بِالْعِتْقِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ فِي الثَّانِيَةِ إذْ هُوَ النَّسَبُ وَهُوَ بَاقٍ
الْإِعْتَاقُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَجْلِسُ كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ، ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأُنْثَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهَا، وَكَذَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي مَلَكَهَا وَهُوَ مَالِكٌ لِلطَّلَاقِ (فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَرِثَهُ الْآخَرُ) وَكَذَا إذَا مَاتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ صَحِيحٌ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ بِهِ وَقَدْ انْتَهَى بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ مُبَاشَرَةِ الْفُضُولِيِّ إذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَمَّةَ مَوْقُوفٌ فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَهَاهُنَا نَافِذٌ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ.
قَالَ (وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا مَجْنُونٍ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
قَوْلُهُ ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ) بَلْ فَسْخٌ لَا يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ فَلَوْ جَدَّدَا بَعْدَهُ مَلَكَ الثَّلَاثَ (وَكَذَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأُنْثَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهَا، وَمِنْ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهِ، وَكَذَا الْفُرْقَةُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ الْمَهْرِ فَسْخٌ (بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ) لِمَا ذَكَرَهُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَّكَهَا مَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ: أَيْ الصَّرِيحُ أَوْ لَا؟ لِكُلِّ وَجْهٍ، وَالْأَوْجَهُ الْوُقُوعُ
(قَوْلُهُ وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ) لِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِإِنْفَاذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ إذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً، وَالْقَاصِرَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي هَؤُلَاءِ فَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: صِحَّةُ إقْرَارِ الْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى وِلَايَتِهِ الْقَاصِرَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهَا فِي الْمَعْنَى مُعَلَّقَةٌ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. وَأَمَّا هُمَا فَمُسْتَثْنَيَانِ عِنْدَنَا. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى نَفْيِ وِلَايَتِهِ فِي النِّكَاحِ لِعَجْزِهِ، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ وِلَايَةٌ حَيْثُ كَانَ إلْزَامًا، وَكَذَا أَمَانُهُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ وَشَهَادَتُهُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ. وَإِنْ أُجِيبَ عَنْ هَذِهِ فَالْمُشَاحَحَةُ مُمْكِنَةٌ فِي الْأَجْوِبَةِ. وَالْأَسْلَمُ جَعْلُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ: أَيْ فِي النِّكَاحِ لَا نَفْيِ الْوِلَايَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الْقَاصِرَةِ عَلَى عَدَمِ الْمُتَعَدِّيَةِ، فَلَوْ أُرِيدَ الْأَعَمُّ كَانَ مُسْتَدِلًّا بِبَعْضِ الدَّعْوَى وَلَا الْمُتَعَدِّيَةُ مُطْلَقًا، إذْ قَدْ يُشَاحِحُ بِأَنَّ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْمُتَعَدِّيَةِ لِوِلَايَتِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ فِي أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ كَالْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ
فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَرَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى هَؤُلَاءِ (وَلَا) وِلَايَةَ (لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَارَثَانِ، أَمَّا الْكَافِرُ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ عَلَى وَلَدِهِ الْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَيُجْزِئُ بَيْنَهُمَا التَّوَارُثُ
(وَلِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) مَعْنَاهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَثْبُتُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَالتَّمْكِينِ وَطَلَبِ الزِّينَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ يَصْدُقُ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْغَيْرِ مُلْزِمَةٌ. وَالْمُرَادُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ سَنَةٌ، وَقِيلَ أَكْثَرُ السَّنَةِ، وَقِيلَ شَهْرٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَفِي التَّجْنِيسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يُوَقِّتُ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ شَيْئًا كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي التَّقْدِيرَاتِ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَغَيْرُ الْمُطْبِقِ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي حَالَةِ إفَاقَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ يُقَالُ: لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَوَّجُ حَالَ جُنُونِهِ مُطْبِقًا أَوْ غَيْرَ مُطْبِقٍ وَيُزَوَّجُ حَالَ إفَاقَتِهِ عَنْ جُنُونٍ مُطْبِقٍ أَوْ غَيْرِ مُطْبِقٍ، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُطْبِقًا تُسْلَبُ وِلَايَتُهُ فَتُزَوَّجُ وَلَا تَنْتَظِرُ إفَاقَتَهُ، وَغَيْرُ الْمُطْبِقِ الْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ فَلَا تُزَوَّجُ وَتَنْتَظِرُ إفَاقَتَهُ كَالنَّائِمِ. وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّ الْكُفْءَ الْخَاطِبَ إذَا فَاتَ بِانْتِظَارِ إفَاقَتِهِ تُزَوَّجُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطْبِقًا وَإِلَّا اُنْتُظِرَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي غَيْبَةِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
(قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ لِهَذَا الدَّلِيلِ (لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ (وَلَا يَتَوَارَثَانِ)؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِيمَا يَلِيهِ مِلْكًا وَيَدًا وَتَصَرُّفًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوِرَاثَةَ لَيْسَتْ وِلَايَةً عَلَى الْمَيِّتِ بَلْ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ تَحْدُثُ شَرْعًا بَعْدَ انْقِضَاءِ وِلَايَةٍ أُخْرَى فَنَفْيُ الْمُتَعَدِّيَةِ لَيْسَ نَفْيَ الْوِرَاثَةِ فَلَيْسَ نَفْيُهَا بِهَذَا الدَّلِيلِ. وَكَمَا لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ فَكَذَا لَا تَثْبُتُ لِمُسْلِمٍ عَلَى كَافِرٍ: أَعْنِي وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ بِالْقَرَابَةِ وَوِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ. قِيلَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ سَيِّدَ أَمَةٍ كَافِرَةٍ أَوْ سُلْطَانًا، وَقَائِلُهُ صَاحِبُ الدِّرَايَةِ وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ قَالَ: وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَرَأَيْتُ فِي مَوْضِعٍ مَعْزُوٍّ إلَى الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْوِلَايَةَ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ تَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ كَوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ وَالشَّهَادَةِ وَلَا تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ. فَأَمَّا الْفِسْقُ فَهُوَ يَسْلُبُ الْأَهْلِيَّةَ كَالْكُفْرِ، الْمَشْهُورُ أَنَّ عِنْدَنَا لَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَنْظُومَةِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ اخْتِلَافٌ فِيهِ. أَمَّا الْمَسْتُورُ فَلَهُ الْوِلَايَةُ بِلَا خِلَافٍ فَمَا فِي الْجَوَامِعِ أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ فَاسِقًا فَلِلْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. نَعَمْ إذَا كَانَ مُتَهَتِّكًا لَا يَنْفُذُ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا بِنَقْصٍ وَمِنْ غَيْرِ كُفْءٍ وَسَتَأْتِي هَذِهِ.
(قَوْلُهُ وَلِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعْنَاهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ) النَّسَبِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ أَوَّلًا لِعَصَبَةِ النَّسَبِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ثُمَّ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ ثُمَّ لِعَصَبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَثْبُتُ لِلْأُمِّ ثُمَّ لِلْبِنْتِ إذَا كَانَتْ أُمُّهَا مَجْنُونَةً ثُمَّ بِنْتِ الِابْنِ ثُمَّ بِنْتِ الْبِنْتِ ثُمَّ بِنْتِ ابْنِ الِابْنِ ثُمَّ بِنْتِ بِنْتِ
وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبٌ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ. لَهُمَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا وَإِلَى الْعَصَبَاتِ الصِّيَانَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ وَالنَّظَرُ يَتَحَقَّقُ بِالتَّفْوِيضِ إلَى مَنْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقَرَابَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الشَّفَقَةِ (وَمَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا) يَعْنِي الْعَصَبَةَ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ (إذَا زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا الَّذِي أَعْتَقَهَا) (
الْبِنْتِ ثُمَّ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتِ لِأَبٍ ثُمَّ لِوَلَدِ الْأُمِّ يَسْتَوِي ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ مُعَلِّمًا بِعَلَامَةِ فَتَاوَى الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ عُمَرَ النَّسَفِيِّ: غَابَ الْأَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَهُ بِنْتٌ صَغِيرَةٌ فَزَوَّجَتْهَا أُخْتُهَا وَالْأُمُّ حَاضِرَةٌ يَجُوزُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ، وَلَيْسَتْ الْأُمُّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَالنِّسَاءُ اللَّوَاتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لَهُنَّ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَهِيَ الْأُخْتُ وَالْعَمَّةُ وَبِنْتُ الْأَخِ وَبِنْتُ الْعَمِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: هَكَذَا ذُكِرَ هُنَا، وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَنَّ الْأُمَّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ اهـ. قِيلَ هَذَا يَسْتَقِيمُ فِي الْأُخْتِ لَا الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْأَخِ؛ لِأَنَّهُنَّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَوِلَايَتُهُنَّ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَمِثْلُ مَا عَنْ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ مَنْقُولٌ فِي الْمُصَفَّى عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خواهر زاده، وَمُقْتَضَاهُ تَقَدُّمُ الْأُخْتِ عَلَى الْجَدِّ الْفَاسِدِ وَبَعْدَ أَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ الْعَمَّاتُ ثُمَّ الْأَخْوَالُ ثُمَّ الْخَالَاتُ ثُمَّ بَنَاتُ الْأَعْمَامِ ثُمَّ بَنَاتُ الْعَمَّاتِ، وَالْجَدُّ الْفَاسِدُ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْوِلَايَةُ لَهُمَا كَمَا فِي الْمِيرَاثِ، كَذَا فِي الْمُسْتَصْفَى. وَقِيَاسُ مَا صُحِّحَ فِي الْجَدِّ وَالْأَخِ مِنْ تَقَدُّمِ الْجَدِّ تَقَدُّمِ الْجَدِّ الْفَاسِدِ عَلَى الْأُخْتِ ثُمَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَبِي الصَّغِيرَةِ وَوَالَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ، ثُمَّ السُّلْطَانُ ثُمَّ الْقَاضِي إذَا شَرَطَ فِي عَهْدِهِ تَزْوِيجَ الصَّغَائِرِ وَالصِّغَارِ، ثُمَّ مَنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وِلَايَةَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا لِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مُضْطَرِبٌ فِيهِ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ) عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ. وَقَالَ فِي الْكَافِي: الْجُمْهُورُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ (لَهُمَا مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» أَثْبَتَ لَهُمْ الْجِنْسَ، وَلَيْسَ مِنْ وَرَاءِ الْجِنْسِ شَيْءٌ فَيَثْبُتُ لِغَيْرِهِمْ فَلَا إنْكَاحَ لِغَيْرِهِمْ.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا) أَيْ إلَى الْقَرَابَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَقَارِبِ أَوْ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ (وَإِلَى الْعَصَبَاتِ الصِّيَانَةُ) عَنْ ذَلِكَ لَا إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى قَبِيلَةٍ أُخْرَى فَلَا يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِذَلِكَ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ وَالنَّظَرُ يَتَحَقَّقُ بِالتَّفْوِيضِ إلَى مَنْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقَرَابَةِ) إذْ مُطْلَقُهَا بَاعِثٌ عَلَى الشَّفَقَةِ الْمُوجِبَةِ لِاخْتِيَارِ الْكُفْءِ وَذَوُو الْأَرْحَامِ بِهَذِهِ
جَازَ) لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ، وَإِذَا عُدِمَ الْأَوْلِيَاءُ فَالْوِلَايَةُ إلَى الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ»
الْمَثَابَةِ فَإِنَّا نَرَى شَفَقَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهِ كَشَفَقَتِهِ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهِ، بَلْ قَدْ تَتَرَجَّحُ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شَفَقَةَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَيْسَتْ كَشَفَقَةِ السُّلْطَانِ وَلَا مَنْ وَلَّاهُ فَكَانُوا أَوْلَى مِنْهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّمَا ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا فَالْحَصْرُ مَمْنُوعٌ، بَلْ ثُبُوتُهَا بِالذَّاتِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الصَّغِيرَةِ بِتَحْصِيلِ الْكُفْءِ؛ لِأَنَّهَا بِالذَّاتِ لِحَاجَتِهَا لَا لِحَاجَتِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِيهِ دَاعِيَةُ تَحْصِيلِ حَاجَتِهَا فَثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعَصَبَاتِ بِكُلٍّ مِنْ حَاجَتِهَا بِالذَّاتِ إلَى ذَلِكَ وَحَاجَتِهِ وَسَتَزْدَادُ وُضُوحًا فِي مَسْأَلَةِ الْغَيْبَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إجَازَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَزْوِيجَ امْرَأَتِهِ بِنْتَهَا وَكَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَمَّا إثْبَاتُ جِنْسِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ إلَى الْعَصَبَاتِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّمَا هُوَ حَالَ وُجُودِهِمْ، وَلَا تُعْرَضُ لَهُ حَالَ عَدَمِهِمْ بِنَفْيِ الْوِلَايَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَا إثْبَاتِهَا فَأَثْبَتْنَاهَا بِالْمَعْنَى وَقِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَيْضًا لَا شَكَّ أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ السُّلْطَانُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعَصَبَاتِ لِقَوْلِهِ «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى.
وَهَذَا الْوَجْهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَعَرُّضِ الْحَدِيثِ لِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ بِالنَّفْيِ وَحُجِّيَّتِهِ، وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ قِيَاسٌ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ مَعَ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ لِمُحَمَّدٍ، وَبِالْمَعْنَى الصِّرْفِ لِأَبِي حَنِيفَةَ يُنَاقَشُ فِيهِ: بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالْأَثَرِ لَا الْقِيَاسِ فَإِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ عَلَى بَابِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قِيَاسٌ يُقَابِلُهُ الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا ظَنَّهُ خِلَافَهُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنْ لَا مُتَمَسِّكَ لَهُ بِهِ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُجِيبَ بِهِ الْمُصَنِّفُ. وَحَاصِلُ بَحْثِهِ مُعَارَضَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَهِيَ لَا تُفِيدُ ثُبُوتَ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ التَّرْجِيحِ وَقَالُوا: الْعَصَبَاتُ تَتَنَاوَلُ الْأُمَّ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ فِي وَلَدِ الزِّنَا وَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَتَثْبُتُ لِأَهْلِهَا، إلَّا أَنَّ أَقَارِبَ الْأَبِ مُقَدَّمُونَ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا عُدِمَ الْأَوْلِيَاءُ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ (فَالْوِلَايَةُ إلَى الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ) أَيْ الْقَاضِي بِشَرْطِ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ فِي مَنْشُورِهِ، فَلَوْ زَوَّجَ الصَّغِيرَةَ مَعَ عَدَمِ كَتْبِ ذَلِكَ فِي مَنْشُورِهِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَأَجَازَهُ قِيلَ لَا يَجُوزُ وَقِيلَ يَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ اسْتِحْسَانًا.
[فُرُوعٌ] الْأَوَّلُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا وَإِنْ أَوْصَى إلَيْهِ الْأَبُ بِالنِّكَاحِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُوصِي عَيَّنَ
(وَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً جَازَ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ
رَجُلًا فِي حَيَاتِهِ لِلتَّزْوِيجِ فَيُزَوِّجُهَا الْوَصِيُّ بِهِ كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي حَيَاتِهِ بِتَزْوِيجِهَا، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ انْتَظَرَ بُلُوغَهَا لِتَأْذَنَ كَذَا قِيلَ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ يُزَوِّجُهَا إلَّا إذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَرِيبًا فَيُزَوِّجُهَا بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ لَا الْوِصَايَةِ وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى لَهُ التَّزْوِيجُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَبِ. قُلْنَا: إنَّمَا قَامَ مَقَامَهُ فِي الْمَالِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَوْصَى إلَيْهِ فِي التَّزْوِيجِ جَازَ وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
الثَّانِي لَوْ زَوَّجَ الْقَاضِي الصَّغِيرَةَ الَّتِي هُوَ وَلِيُّهَا وَهِيَ الْيَتِيمَةُ مِنْ ابْنِهِ لَا يَجُوزُ. كَالْوَكِيلِ مُطْلَقًا إذَا زَوَّجَ مُوَكِّلَتَهُ مِنْ ابْنِهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْقَاضِي حُكْمٌ مِنْهُ وَحُكْمُهُ لِابْنِهِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْوَلِيِّ، ذَكَرَهُ فِي التَّجْنِيسِ مُعَلِّمَا لَهُ بِعَلَامَةِ غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِلسَّيِّدِ الْإِمَامِ أَبِي شُجَاعٍ، وَالْإِلْحَاقُ بِالْوَكِيلِ يَكْفِي لِلْحُكْمِ مُسْتَغْنًى عَنْ جَعْلِ فِعْلِهِ حُكْمًا مَعَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ مَالَ يَتِيمِهِ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَوْجَهُ مَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَصَّبَ وَصِيًّا عَلَى الْيَتِيمِ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَيِّتِ لَا الْقَاضِي.
الثَّالِثُ إقْرَارُ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِالتَّزْوِيجِ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ يُدْرِكُ الصَّغِيرَ فَيُصَدِّقُهُ، مَعْنَاهُ إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي وَصَدَّقَهُ الْأَبُ، وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِإِقْرَارِهِ. قَالَ فِي الْمُصَفَّى عَنْ أُسْتَاذِهِ يَعْنِي الشَّيْخَ حُمَيْدٍ الدِّينِ: إنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا أَقَرَّ الْوَلِيُّ فِي صِغَرِهِمَا فَإِنَّ إقْرَارَهُ مَوْقُوفٌ إلَى بُلُوغِهِمَا، فَإِذَا بَلَغَا وَصَدَّقَاهُ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ وَإِلَّا يَبْطُلُ، وَعِنْدَهُمَا يَنْفُذُ فِي الْحَالِ وَقَالَ: إنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ، قَالَ: هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ وَأَنْكَرَ النِّكَاحَ فَأَقَرَّ الْوَلِيُّ، أَمَّا لَوْ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ فِي صِغَرِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ، كَذَا فِي الْمُغْنِي. وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: إذَا أَقَرَّ الْأَبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ عَلَى قَوْلِهِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الزَّوْجُ فِي ذَلِكَ أَوْ الْمَرْأَةُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَنْ تُقَامُ الْبَيِّنَةُ وَلَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى مُنْكِرٍ يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ وَالْمُنْكِرُ هُوَ الصَّبِيُّ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِهِ وَالْأَبُ وَالزَّوْجُ أَوْ الْمَرْأَةُ مُقِرَّانِ؟ قُلْنَا: يُنَصِّبُ الْقَاضِي خَصْمًا عَنْ الصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ حَتَّى يُنْكِرَ فَيُقِيمَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ اهـ كُلُّهُ مِنْ الْمُصَفَّى.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا بَلَغَا فَأَنْكَرَ النِّكَاحَ، أَمَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِمَا فِي صِغَرِهِمَا يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ أَوْجَهُ.
وَإِقْرَارُ وَكِيلِ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِتَزْوِيجِهِمَا وَإِقْرَارُ مَوْلَى الْعَبْدِ بِتَزْوِيجِهِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِنِكَاحِ أَمَتِهِ فَنَافِذٌ اتِّفَاقًا.
الرَّابِعُ فِي النَّوَازِلِ: امْرَأَةٌ جَاءَتْ إلَى قَاضٍ فَقَالَتْ أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ وَلَا وَلِيَّ لِي، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي النِّكَاحِ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ لَهَا وَلِيًّا. وَبِمِثْلِهِ أَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ السُّغْدِيُّ، وَمَا نَقَلَ فِيهِ مِنْ إقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ فَخِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَمَا نَقَلَ مِنْ قَوْلِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ لَهَا الْقَاضِي إنْ لَمْ تَكُونِي قُرَشِيَّةً وَلَا عَرَبِيَّةً وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ فَقَدْ أَذِنْت لَك، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مَحْمُولَانِ عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَمَعْلُومٌ.
الِاشْتِرَاطِ الْخَامِسُ لَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ وَلَا الْأَبُ تَزْوِيجَ عَبْدِ الصَّغِيرِ، وَكَذَا تَزْوِيجُ عَبْدِهِ مِنْ أَمَتِهِ، كَذَا فِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَيَمْلِكَانِ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ
(قَوْلُهُ وَقَالَ زُفَرُ: إذْ غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبْلُغَ) بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي دَلِيلِ مُحَمَّدٍ وَقَدَّمْنَا جَوَابَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُزَوِّجُهَا
قَائِمَةٌ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ فَلَا تَبْطُلُ بِغَيْبَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ جَازَ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وِلَايَتِهِ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ التَّفْوِيضُ إلَى مَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ فَفَوَّضْنَاهُ إلَى الْأَبْعَدِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ كَمَا إذَا مَاتَ الْأَقْرَبُ، وَلَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ فِيهِ مُنِعَ
السُّلْطَانُ لَا الْأَبْعَدُ. وَعِنْدَنَا يُزَوِّجُهَا الْأَبْعَدُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ تَثْبُتُ نَظَرًا لِلْيَتِيمَةِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا، وَلَا نَظَرَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى مَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إلَى الْأَقْرَبِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ بَلْ لِأَنَّ فِي الْأَقْرَبِيَّةَ زِيَادَةُ مَظِنَّةٍ لِلْحِكْمَةِ وَهِيَ الشَّفَقَةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى زِيَادَةِ إتْقَانِ الرَّأْيِ لِلْمُوَلِّيَةِ، فَحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ أَصْلًا سُلِبَتْ إلَى الْأَبْعَدِ، إذْ لَوْ أَبْقَيْنَا وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ أَبْطَلْنَا حَقَّهَا وَفَاتَتْ مَصْلَحَتُهَا. أَمَّا الْوَلِيُّ فَحَقُّهُ فِي الصِّيَانَةِ عَنْ غَيْرِ الْكُفْءِ يَكُونُ مُقْتَضِيًا لِإِثْبَاتِ وِلَايَةِ الْفَسْخِ إذَا وَقَعَ بِفِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إثْبَاتِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ لَهُ، فَحَيْثُ ثَبَتَتْ فَإِنَّمَا هِيَ لِحَاجَتِهَا حَقًّا لَهَا. وَلَوْ سَلَّمَ فَفَوَاتُ حَقِّهِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ غَيْبَتُهُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ لَهُ لَا يَفُوتُ إذْ يَخْلُفُهُ فِيهِ الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ؛ لِأَنَّهُ تِلْوُهُ فِي نَفْيِ غَيْرِ الْكُفْءِ وَالِاحْتِرَاسِ عَنْ التَّلَطُّخِ بِنِسْبَتِهِ فَتَضَافَرَا عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا وَظَهَرَ وَجْهُ تَقْدِيمِهِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سُلِبَتْ وِلَايَتُهُ بِمَوْتِهِ كَانَ الْأَبْعَدُ أَوْلَى مِنْ السُّلْطَانِ، فَكَذَا إذَا سُلِبَتْ بِعَارِضٍ آخَرَ. فَالْحَاصِلُ فِي عِلَّةِ تَقْدِيمِهِ عَلَى السُّلْطَانِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ بِالرَّسُولِ وَبِالْكِتَابِ وَكِتَابِ الْخَاطِبِ إلَيْهِ حَيْثُ هُوَ فَخِلَافُ الْمُعْتَادِ فِي الْغَائِبِ وَالْخَاطِبِ فَلَا يُفَرَّعُ الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ وَقَدْ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ، وَنَظِيرُهُ الْحَضَانَةُ وَالتَّرْبِيَةُ يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْقُرْبَى وَثَبَتَ مَظِنَّةُ شُغْلِهَا بِالزَّوْجِ صَارَتْ لِلْبُعْدَى، وَكَذَا النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْأَقْرَبِ فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ لِبُعْدِ مَالِهِ وَجَبَتْ فِي مَالِ الْأَبْعَدِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ فِيهِ مُنِعَ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ زُفَرَ عَلَى قِيَاسِ وِلَايَتِهِ حَالَ غَيْبَتِهِ بِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ صَحَّ اتِّفَاقًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْلُبْ الْوِلَايَةَ، شَرْعًا بِغَيْبَتِهِ. أَجَابَ بِمَنْعِ صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: لَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَا يَجُوزُ، وَلَوْ سَلَّمَ فَلِأَنَّهَا انْتَفَعَتْ بِرَأْيِهِ وَهَذَا تَنَزُّلٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لِلْأَبْعَدِ قُرْبَ التَّدْبِيرِ وَلِلْأَقْرَبِ قُرْبَ الْقَرَابَةِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ وَلِيَّيْنِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَيُّهُمَا عَقَدَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَمَسُّ بِالْمَعْنَى الْمُعَلَّقِ بِهِ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ وَسَلْبُهَا. وَمَعْنَاهُ أَنَّ سَلْبَ الْوِلَايَةِ إنَّمَا كَانَ لِسَلْبِ الِانْتِفَاعِ بِرَأْيِهِ، فَلَمَّا زَوَّجَهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا عَلَّقَ بِهِ سَلْبَ الْوِلَايَةِ ثَابِتًا بَلْ الْقَائِمُ مَنَاطُ ثُبُوتِهَا. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: لَا رِوَايَةَ فِيهِ، فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَقْدُهُ حَيْثُ هُوَ لَأَدَّى إلَى مَفْسَدَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَوْ زَوَّجَهَا بَعْدَ تَزْوِيجِ الْغَائِبِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ لَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ وَهِيَ فِي عِصْمَةِ غَيْرِهِ، وَمَا قَالُوهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْغَائِبَ لَوْ كَتَبَ لِيُقَدِّمَ رَجُلًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَلِلْأَبْعَدِ مَنْعُهُ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ بَاقِيَةٌ لَمَا كَانَ لَهُ مَنْعُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا وَقَدَّمَ غَيْرَهُ. وَقَدْ اُسْتُفِيدَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلِيَّيْنِ إذَا اسْتَوَيَا كَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ أَيُّهُمَا زَوَّجَ نَفَذَ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْعَقْدِ وَالْعَمَلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ زَوَّجَهَا كُلٌّ مِنْهُمَا فَالصِّحَّةُ
وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ لِلْأَبْعَدِ بُعْدُ الْقَرَابَةِ وَقُرْبُ التَّدْبِيرِ وَلِلْأَقْرَبِ عَكْسُهُ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ وَلِيَّيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَأَيُّهُمَا عَقَدَ نَفَذَ وَلَا يُرَدُّ (وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لَا تَصِلُ إلَيْهَا الْقَوَافِلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً) وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ. وَقِيلَ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِأَقْصَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقِيلَ: إذَا كَانَ بِحَالٍ يَفُوتُ الْكُفْءُ الْخَاطِبُ بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي إبْقَاءِ وِلَايَتِهِ حِينَئِذٍ
(وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَجْنُونَةِ أَبُوهَا وَابْنُهَا فَالْوَلِيُّ فِي نِكَاحِهَا ابْنُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَبُوهَا)
لِلسَّابِقِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ السَّابِقُ أَوْ وَقَعَا مَعًا بَطَلَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِالتَّصْحِيحِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ بِأَمْرِهَا وَزَوَّجَتْ هِيَ نَفْسَهَا مِنْ آخَرَ فَأَيُّهُمَا قَالَتْ هُوَ الْأَوَّلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَهُوَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِمِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَإِقْرَارُهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَالَتْ لَا أَدْرِي الْأَوَّلَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْ غَيْرِهَا فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا، وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ بِأَمْرِهَا.
(قَوْلُهُ وَلَا يُرَدُّ إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ الْأَقْرَبُ بَعْدَ عَقْدِ الْأَبْعَدِ لَا يُرَدُّ عَقْدُهُ وَإِنْ عَادَتْ وِلَايَتُهُ بِعَوْدِهِ.
(قَوْلُهُ وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْقَوَافِلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ جَابْلَقَا إلَى جَابْلَسَا: وَهُمَا قَرْيَتَانِ إحْدَاهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ، وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى قَوْلِ زُفَرَ، وَإِنَّمَا ضَرَبَ هَذَا مَثَلًا، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ بَغْدَادَ إلَى الرَّيِّ، وَهَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الرَّيِّ. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: حَدُّ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَوِّلًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِ، أَوْ يَكُونُ مَفْقُودًا لَا يُعْرَفُ خَبَرُهُ. وَقِيلَ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَقَعُ الْكِرَاءُ إلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَيْسَتْ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً أَوْ بِدَفَعَاتٍ فَمُنْقَطِعَةٌ، وَقِيلَ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِأَقْصَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَبُو عِصْمَةَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ وَأَبُو عَلِيٍّ السُّغْدِيُّ وَأَبُو الْيُسْرِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَقَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَوْ انْتَظَرَ حُضُورَهُ وَاسْتِطْلَاعَ رَأْيِهِ يَفُوتُ الْكُفْءُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ كَانَ مُخْتَفِيًا فِي الْمَدِينَةِ بِحَيْثُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ تَكُونُ غَيْبَتُهُ مُنْقَطِعَةً، وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ النَّظَرُ. وَفِي النِّهَايَةِ: عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ مِنْهَا الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَكْثَرِ الْمَشَايِخِ وَالْأَشْبَهُ بِالْفِقْهِ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ
(قَوْلُهُ وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَجْنُونَةِ) جُنُونًا أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَتْ مَجْنُونَةً أَوْ عَارِضِيًّا بِأَنْ طَرَأَ الْجُنُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ (أَبُوهَا) أَوْ جَدُّهَا (مَعَ ابْنِهَا فَالْوَلِيُّ فِي تَزْوِيجِهَا ابْنُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَبُوهَا) وَقَالَ زُفَرُ فِي الْعَارِضِيِّ: لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ زَالَتْ عِنْدَ بُلُوغِهَا عَاقِلَةً فَلَا تَرْجِعُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا تَرْجِعُ عِنْدَ وُجُودِ مَنَاطِ الْحَجْرِ بَلْ هِيَ أَحْوَجُ إلَى الْوِلَايَةِ بِالْجُنُونِ
لِأَنَّهُ أَوْفَرُ شَفَقَةً مِنْ الِابْنِ. وَلَهُمَا أَنَّ الِابْنَ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ كَأَبِي الْأُمِّ مَعَ بَعْضِ الْعَصَبَاتِ.
فَصْلٌ فِي الْكَفَاءَةِ
(الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ مُعْتَبَرَةٌ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ»
مِنْهَا إلَيْهَا بِالصِّغَرِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهَا فِي الصِّغَرِ لِتَحْصِيلِ الْكُفْءِ وَفِي الْجُنُونِ لِذَلِكَ وَدَفْعِ الشَّهْوَةِ وَالْمُمَارَسَةِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ يَجْتَمِعُ فِيهِ أَبُوهُ وَابْنُهُ أَوْ جَدُّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَيُّهُمَا مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ زَوَّجَ جَازَ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُعَلَّى جَعَلَهُمَا فِي مَرْتَبَةٍ، وَلَا يَبْعُدُ إذْ فِي الِابْنِ قُوَّةُ الْعُصُوبَةِ وَفِي الْأَبِ زِيَادَةُ الشَّفَقَةِ فَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا جِهَةٌ.
(قَوْلُهُ) فِي وَجْهِ قَوْلِهِمَا (وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُصُوبَةِ) بِالنَّصِّ السَّابِقِ، وَالِابْنُ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ شَرْعًا لِانْفِرَادِهِ بِالْأَخْذِ بِالْعُصُوبَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَهُ. ثُمَّ إذَا زَوَّجَ الْمَجْنُونَةَ أَوْ الْمَجْنُونَ الْكَبِيرَيْنِ أَبُوهُمَا أَوْ جَدُّهُمَا لَا خِيَارَ لَهُمَا إذَا أَفَاقَا لِتَمَامِ شَفَقَتِهِمَا، وَلَوْ زَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَجْنُونُ أَوْ الْمَرْأَةُ ابْنَهُمَا فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ وَلَا خِيَارَ لَهُمَا فِي تَزْوِيجِهِمَا فَالِابْنُ أَوْلَى.
(فَصْلٌ فِي الْكَفَاءَةِ)
الْكُفْءُ الْمُقَاوَمُ وَيُقَالُ لَا كِفَاءَ لَهُ بِالْكَسْرِ. وَلَمَّا كَانَتْ الْكَفَاءَةُ شَرْطَ اللُّزُومِ عَلَى الْوَلِيِّ إذَا عَقَدَتْ بِنَفْسِهَا حَتَّى كَانَ لَهُ الْفَسْخُ عِنْدَ عَدَمِهَا كَانَتْ فَرْعَ وُجُودِ الْوَلِيِّ وَهُوَ بِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ، فَقَدَّمَ بَيَانَ الْأَوْلِيَاءِ وَمَنْ تَثْبُتُ لَهُ ثُمَّ أَعْقَبَهُ فَصْلَ الْكَفَاءَةِ (قَوْلُهُ مُعْتَبَرَةٌ) قَالُوا: مَعْنَاهُ مُعْتَبَرَةٌ فِي اللُّزُومِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى إنَّ عِنْدَ عَدَمِهَا جَازَ لِلْوَلِيِّ الْفَسْخُ ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ» فَهَاهُنَا نَظَرَانِ فِي إثْبَاتِ حُجِّيَّتِهِ، ثُمَّ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الدَّعْوَى عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنْ مَعْنَاهَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مُبَشِّرَ بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَجَّاجِ بْن أَرْطَاةَ وَالْحَجَّاجُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَمُبَشِّرٌ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ نَسَبَهُ أَحْمَدُ إلَى الْوَضْعِ وَسَيَأْتِي تَخْرِيجُهُ لَكِنَّهُ حُجَّةٌ بِالتَّضَافُرِ وَالشَّوَاهِدِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوَاتِ الْأَحْسَابِ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لَهُ: «يَا عَلِيُّ ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاةُ إذَا أَتَتْ، وَالْجِنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا» ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ لَا أَرَى إسْنَادَهُ مُتَّصِلًا مُنْتَفٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ. وَقَالَ فِي سَنَدِهِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ مَكَانَ قَوْلِ الْحَاكِمِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ.
وَمَا عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «تَخَيَّرُوا لَنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ» رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ وَعُمَرَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ فَوَجَبَ ارْتِفَاعُهُ إلَى الْحُجِّيَّةِ بِالْحَسَنِ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِصِحَّةِ الْمَعْنَى وَثُبُوتِهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ، ثُمَّ وَجَدْنَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ الْحَلَبِيِّ ذَكَرَ أَنَّ الْبَغَوِيّ قَالَ: إنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ فِيهِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيِّ بِسَنَدِهِ ثُمَّ أَوْجَدَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا صُورَةَ السَّنَدِ عَنْ الْحَافِظِ قَاضِي الْقُضَاةِ الْعَسْقَلَانِيِّ الشَّهِيرِ بِابْنِ حَجَرٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْت جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ» مِنْ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ. قَالَ الْحَافِظُ: إنَّهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَسَنٌ وَلَا أَقَلَّ مِنْهُ.
وَأَغْنَى عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ: إذَا كَانَتْ الْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةً فِي الْحَرْبِ وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ فَفِي النِّكَاحِ وَهُوَ لِلْعُمْرِ أَوْلَى. وَذَكَرَ «مَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَنَّهُ لَمَّا بَرَزَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، وَخَرَجَ إلَيْهِمْ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ قَالُوا لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: أَبْنَاءُ قَوْمٍ كِرَامٍ، وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَكْفَاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: صَدَقُوا، ثُمَّ أَمَرَ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ» إلَخْ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم صَدَقُوا فَلَمْ أَرَهُ، وَاَلَّذِي فِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، وَلَكِنَّا نُرِيدُ بَنِي عَمِّنَا. وَفِي رِوَايَةٍ:«مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ لَنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: قُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيُّ» إلَخْ.
وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ لَوْ بَرَزَ لِلْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ إطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَنْسَابِهِمْ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ عَبْدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ كَانَ مَشْكُورًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ النَّسَبُ إلَّا بُعْدًا. نَعَمْ الْكَفَاءَةُ الْمَطْلُوبَةُ هُنَا كَفَاءَةُ الشِّدَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ كُفْؤُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نُصْرَةُ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا، وَكَلَامُهُ إنَّمَا يُفِيدُ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّمَا أَجَابَهُمْ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ إمَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنْ الَّذِينَ خَرَجُوا إلَيْهِمْ أَوَّلًا أَوْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِالْمَطْلُوبِينَ عَجْزٌ أَوْ جُبْنٌ، أَوْ دَفْعًا لِمَا قَدْ يَظُنُّ أَهْلُ النِّفَاقِ مِنْ أَنَّهُ يَضِنُّ بِقَرَابَتِهِ دُونَ الْأَنْصَارِ.
النَّظَرُ الثَّانِي لَا يُخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ «لَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ» أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ نَهْيًا لَهُمْ أَنْ يُزَوِّجُوهُنَّ إلَّا
وَلِأَنَّ انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ عَادَةً، لِأَنَّ الشَّرِيفَةَ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ مُسْتَفْرَشَةً لِلْخَسِيسِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا، بِخِلَافِ جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُسْتَفْرِشٌ فَلَا تَغِيظُهُ دَنَاءَةُ الْفِرَاشِ
مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْفَسْخِ. فَإِنْ قُلْت: يُمْكِنُ كَوْنُ فَاعِلِ يُزَوَّجْنَ الْمَحْذُوفُ أَعَمَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يُزَوِّجَهُنَّ مُزَوِّجٌ هِيَ لِنَفْسِهَا أَوْ الْأَوْلِيَاءُ لَهَا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ تَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ فَإِذَا بَاشَرَتْهُ لَزِمَتْهَا الْمَعْصِيَةُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ لِلْوَلِيِّ فَسْخَهُ إلَّا الْمَعْنَى الصِّرْفَ وَهُوَ أَنَّهَا أَدْخَلَتْ عَلَيْهِ ضَرَرًا فَلَهُ دَفْعُهُ، وَهَذَا لَيْسَ مَدْلُولَ النَّصِّ، وَلَوْ عَلَّلَ نَهْيَهَا التَّضَمُّنِيَّ لِلنَّصِّ بِإِدْخَالِهَا الضَّرَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فَسْخُهُ مَدْلُولَ النَّصِّ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا التَّضَمُّنِيَّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِهَا وَبِالْأَوْلِيَاءِ، فَبِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ إنَّمَا يُعَلَّلُ بِتَرْكِ النَّظَرِ لَهَا، وَبِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْوَلِيِّ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَيْسَ مَدْلُولَ اللَّفْظِ. وَلَا يُشْكِلُ عَلَى سَامِعٍ أَنَّ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْوَلِيِّ فَسْخُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُزَوِّجُهُنَّ أَحَدٌ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ» نَبْوَةٌ لِلدَّلِيلِ عَنْ الْمُدَّعِي. فَالْحَقُّ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مُجَرَّدِ الِاعْتِبَارِ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ فِي الْكِتَابِ.
فَإِنْ قُلْت: كَوْنُ الشَّيْءِ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ: أَعْنِي مُعْتَبَرًا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ. قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّهُ لَمْ تُقْصَدْ الْخُصُوصِيَّةُ فَإِنْ قُلْت: فَمَا هُوَ؟ قُلْنَا: مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا الْوُجُوبُ: أَعْنِي وُجُوبَ نِكَاحِ الْأَكْفَاءِ وَتَعْلِيلُهَا بِانْتِظَامِ الْمَصَالِحِ يُؤَيِّدُهُ لَا يَنْفِيهِ.
ثُمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهُ أَوَّلَ كُفْءٍ خَاطِبٍ إلَّا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ» وَلَوْلَا أَنَّ شَرْطَ الْمَشْرُوعِ الْقَطْعِيِّ لَا يَثْبُتُ بِظَنِّيٍّ لَقُلْنَا بِاشْتِرَاطِ الْكَفَاءَةِ لِلصِّحَّةِ.
ثُمَّ هَذَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَوْلِيَاءِ حَقًّا لَهَا وَبِهَا حَقًّا لَهُمْ عَلَى مَا تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، لَكِنْ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمَعْصِيَةُ فِي حَقِّهِمْ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا تَزْوِيجُهُمْ إلَّا بِرِضَاهَا: فَهِيَ تَارِكَةٌ لِحَقِّهَا، كَمَا إذَا رَضِيَ الْوَلِيُّ بِتَرْكِ حَقِّهِ حَيْثُ يَنْفُذُ. هَذَا كُلُّهُ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِهَا، وَعَلَى اعْتِبَارِهَا يُشْكِلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْأَبَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ.
فَإِنْ قُلْت: خَطَبَ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ عَلَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَلَيْسَ قُرَشِيًّا، وَزُوِّجَتْ أُخْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ بِلَالٍ وَهُوَ حَبَشِيٌّ، وَزَوَّجَ أَبُو حُذَيْفَةَ بِنْتَ أَخِيهِ مِنْ مَوْلَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمِ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُهُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَالْجَوَابُ أَنَّ وُقُوعَ هَذِهِ لَيْسَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ تِلْكَ النِّسَاءِ صَغَائِرَ بَلْ الْعِلْمُ مُحِيطٌ بِأَنَّهُنَّ كَبَائِرُ خُصُوصًا بِنْتَ قَيْسٍ كَانَتْ ثَيِّبًا كَبِيرَةً حِينَ تَزَوَّجَهَا أُسَامَةُ، وَإِنَّمَا جَازَ لِإِسْقَاطِهِنَّ حَقَّ الْكَفَاءَةِ هُنَّ وَأَوْلِيَاؤُهُنَّ.
هَذَا وَفِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ خِلَافُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِنَا لِمَا رَوَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إنَّمَا الْفَضْلُ بِالتَّقْوَى» قُلْنَا مَا رَوَيْنَاهُ يُوجِبُ حَمْلَ مَا رَوَوْهُ عَلَى حَالِ الْآخِرَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ انْتِظَامَ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّةِ النِّكَاحِ انْتِظَامُ مَصَالِحِ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ فِي مُدَّةِ الْعُمْرِ؛ لِأَنَّهُ
(وَإِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا) دَفْعًا لِضَرَرِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ
. (ثُمَّ الْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ فِي النَّسَبِ)؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّفَاخُرُ
وُضِعَ لِتَأْسِيسِ الْقَرَابَاتِ الصِّهْرِيَّةِ لِيَصِيرَ الْبَعِيدُ قَرِيبًا عَضُدًا وَسَاعِدًا يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّكَ وَيَسُوءُهُ مَا يَسُوءُكَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُوَافَقَةِ وَالتَّقَارُبِ، وَلَا مُقَارَبَةَ لِلنُّفُوسِ عِنْدَ مُبَاعَدَةِ الْأَنْسَابِ وَالِاتِّصَافِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ رَأَيْنَا الشَّرْعَ فَسَخَ عَقْدَ النِّكَاحِ إذَا وَرَدَ مِلْكُ الْيَمِينِ لَهَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّلًا أَيْضًا بِعِلَّةٍ أُخْرَى عَامَّةٍ لِلطَّرَفَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَعَقْدُهُ مَعَ غَيْرِ الْمُكَافِئِ قَرِيبُ الشَّبَهِ مِنْ عَقْدٍ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقَاصِدُهُ، وَإِذَا كَانَ إيَّاهُ فَسَدَ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقَهُ كُرِهَ وَلَمْ يَلْزَمْ لِمُولِيهِ إذَا انْفَرَدَ بِهِ الْوَلِيُّ لِظُهُورِ الْإِضْرَارِ بِهَا
. (قَوْلُهُ وَإِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ) وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَحَارِمَ كَابْنِ الْعَمِّ (أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ) مَا لَمْ يَجِئْ مِنْ الْوَلِيِّ دَلَالَةُ الرِّضَا كَقَبْضِهِ الْمَهْرَ أَوْ النَّفَقَةَ أَوْ الْمُخَاصَمَةِ فِي أَحَدِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ وَكَالتَّجْهِيزِ وَنَحْوِهِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا عَلَى السَّكْتِ فَظَهَرَ عَدَمُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ الْعَاقِدُ الْكَفَاءَةَ أَوْ أَخْبَرَهُ الزَّوْجُ بِمَا حَيْثُ كَانَ لَهُ التَّفْرِيقُ، أَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَمْ يُخْبِرْهُ فَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فِيمَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ فِي النِّكَاحِ لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ بَلْ لِلْأَوْلِيَاءِ، أَوْ زَوَّجَهَا الْأَوْلِيَاءُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُونَ وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِحُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ فِي النِّكَاحِ لَيْسَ لَهُمْ الْفَسْخُ.
وَلَوْ أَخْبَرَ بِحُرِّيَّتِهِ أَوْ شَرَطُوا ذَلِكَ فَظَهَرَ بِخِلَافِهِ كَانَ لِلْعَاقِدِ الْفَسْخُ، وَلَا يَكُونُ سُكُوتُ الْوَلِيِّ رِضًا إلَّا إنْ سَكَتَ إلَى أَنْ وَلَدَتْ فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ التَّفْرِيقُ. وَعَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ لَهُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَيْضًا، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ فَسْخٌ لَا يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ وَلَا يَجِبُ عِنْدَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ إنْ وَقَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبَعْدَهُ لَهَا الْمُسَمَّى، وَكَذَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً. وَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ وَكُلٌّ مِنْ الْخَصْمَيْنِ يَتَشَبَّثُ بِدَلِيلٍ فَلَا يَنْقَطِعُ النِّزَاعُ إلَّا بِفَصْلِ الْقَاضِي، وَالنِّكَاحُ قَبْلَهُ صَحِيحٌ يَتَوَارَثَانِ بِهِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ، هَذَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، أَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ أَصْلًا إذَا كَانَتْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ. وَهَلْ لِلْمَرْأَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ أَنْ يَطَأَهَا؟ مُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ نَعَمْ.
قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: هَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُجَّةِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُولَ: إنَّمَا تَزَوَّجْتُكَ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يُجِيزَ الْوَلِيُّ وَعَسَى لَا يَرْضَى فَيُفَرِّقُ فَيَصِيرُ هَذَا وَطْئًا بِشُبْهَةٍ. وَرِضَا بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ فِي دَرَجَةٍ كَرِضَا كُلِّهِمْ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْكُلِّ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِرِضَا الْكُلِّ، كَالدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، قُلْنَا: هُوَ حَقٌّ لَهُمْ لَكِنْ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَوِلَايَةِ الْأَمَانِ، فَإِذَا أَبْطَلَهُ أَحَدُهُمْ لَا يَبْقَى كَحَقِّ الْقِصَاصِ، أَمَّا لَوْ رَضِيَ الْأَبْعَدُ كَانَ لِلْأَقْرَبِ الِاعْتِرَاضُ. وَلَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِإِذْنِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ ثَانِيًا كَانَ لِذَلِكَ الْوَلِيِّ التَّفْرِيقُ، وَلَا يَكُونُ الرِّضَا بِالْأَوَّلِ رِضًا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبْعُدُ رُجُوعُهُ عَنْ خُلَّةٍ دَنِيَّةٍ، وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهَا هُوَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ غَيْرَ كُفْءٍ وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ ثَانِيًا فِي الْعِدَّةِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا لَزِمَهُ مَهْرٌ ثَانٍ وَاسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الثَّانِي، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
(قَوْلُهُ ثُمَّ الْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ فِي النَّسَبِ) جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَفَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ
(فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام
مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَسَيُورِدُهُ، إلَّا الْكَفَاءَةَ فِي الْعَقْلِ ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا رِوَايَةَ فِي اعْتِبَارِ الْعَقْلِ فِي الْكَفَاءَةِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِعَدَمِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ، وَقِيلَ لَا؛ لِأَنَّهُ مَرَضٌ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ عِنْدَنَا فِي السَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا الْبَيْعُ كَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ وَالْبَرَصِ وَالْبَخَرِ وَالدَّفَرِ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ: أَعْنِي الْجُنُونَ وَالْجُذَامَ وَالْبَرَصَ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَا تُطِيقُ الْمُقَامَ مَعَهُ فَالْحَقُّ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي الْعَقْلِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، إلَّا أَنَّ الَّذِي لَهُ التَّفْرِيقُ وَالْفَسْخُ الزَّوْجَةَ لَا الْوَلِيَّ وَكَذَا فِي أَخَوَيْهِ عِنْدَهُ. [فَرْعٌ]
انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ نَسَبِهِ لِامْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَتْهُ ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُكَافِئْهَا بِهِ كَقُرَشِيَّةٍ انْتَسَبَ لَهَا إلَى قُرَيْشٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ غَيْرُ قُرَشِيٍّ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَلَوْ رَضِيَتْ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ التَّفْرِيقُ وَإِنْ كَافَأَهَا بِهِ كَعَرَبِيَّةٍ لَيْسَتْ قُرَشِيَّةً انْتَسَبَ لَهَا إلَى قُرَيْشٍ فَظَهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ غَيْرُ قُرَشِيٍّ فَلَا حَقَّ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ عِنْدَنَا إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ خِلَافًا لِزُفَرَ. وَلَنَا أَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْنُهَا صَالِحًا لِلْخِلَافَةِ، فَإِذَا لَمْ تَنَلْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ، كَشِرَاءِ الْعَبْدِ عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ فَظَهَرَ خِلَافُهُ. وَأَيْضًا الِاسْتِفْرَاشُ ذُلٌّ فِي جَانِبِهَا فَقَدْ تَرْضَى بِهِ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا لَا مِنْ مِثْلِهَا، فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ فَقَدْ غَرَّهَا وَتَبَيَّنَ عَدَمُ رِضَاهَا بِالْعَقْدِ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الِانْتِسَابُ مِنْ جَانِبِهَا وَالْغُرُورُ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ غُرُورِهَا وَلِتَخَلُّصِهِ مِنْهَا بِطَرِيقٍ يُمْكِنُهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ وَيَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا إلَى فَضْلِ تَقْرِيرٍ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إثْبَاتِ خِيَارِ الْبُلُوغِ لِلْغُلَامِ وَهُوَ سَهْلٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ) رَوَى الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ، فَإِنَّ شُجَاعَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا بَعْضُ إخْوَانِنَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ وَرَجُلٌ بِرَجُلٍ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ وَرَجُلٌ بِرَجُلٍ إلَّا حَائِكًا أَوْ حَجَّامًا» وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ عِمْرَانُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْأَيْلِيُّ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَأَنَّ عِمْرَانَ هَذَا يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الْأَثْبَاتِ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «النَّاسُ أَكْفَاءٌ قَبِيلَةٌ لِقَبِيلَةٍ وَعَرَبِيٌّ لِعَرَبِيٍّ وَمَوْلًى لِمَوْلًى إلَّا حَائِكًا أَوْ حَجَّامًا» وَضُعِّفَ بِبَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ وَهُوَ مُخَيَّلٌ إنْ عَنْعَنَ الْحَدِيثَ لَيْسَ غَيْرُ، وَبِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ مَطْعُونٌ فِيهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعُمَرَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ هُوَ الطَّرَائِفِيُّ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ يَرْوِي الْمَجَاهِيلَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ اهـ كَلَامُهُ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَرْفَعُهُ «الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ» اهـ.
وَابْنُ مَعْدَانَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ، وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَمْ أَجِدْ لَهُ ذِكْرًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَلِلْحَدِيثِ أَصْلٌ، فَإِذًا
«قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بَطْنٌ بِبَطْنٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ،
ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فَيُمْكِنُ ثُبُوتُ تَفْصِيلِهَا أَيْضًا بِالنَّظَرِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ فِيمَا يَحْقِرُونَهُ وَيُعَيِّرُونَ بِهِ فَيُسْتَأْنَسُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي ذَلِكَ، خُصُوصًا وَبَعْضُ طُرُقِهِ كَحَدِيثِ بَقِيَّةَ لَيْسَ مِنْ الضَّعْفِ بِذَاكَ، فَقَدْ كَانَ شُعْبَةُ مُعَظِّمًا لِبَقِيَّةِ وَنَاهِيكَ بِاحْتِيَاطِ شُعْبَةَ، وَأَيْضًا تَعَدُّدُ طُرُقِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ يَرْفَعُهُ إلَى الْحَسَنِ، ثُمَّ الْقُرَشِيَّانِ مَنْ جَمَعَهُمَا أَبٌ هُوَ النَّضْرُ بْنُ كَنَانَةَ فَمَنْ دُونَهُ، وَمَنْ لَمْ يُنْسَبْ إلَّا إلَى أَبٍ فَوْقَهُ فَهُوَ عَرَبِيٌّ غَيْرُ قُرَشِيٍّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَوْلَادُ النَّضْرِ قُرَيْشًا تَشْبِيهًا لَهُمْ بِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ تُدْعَى قِرْشًا تَأْكُلُ دَوَابَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ دَوَابِّ الْبَرِّ عِزَّةً وَفَخْرًا وَنَسَبًا، وَعَلَى هَذَا قَالَ اللِّهْبِيُّ:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ
…
الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا
وَقِيلَ؛ لِأَنَّ النَّضْرَ كَانَ يُسَمَّى قُرَيْشًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّعْبِيِّ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرِشُ عَنْ خِلَّةِ النَّاسِ لِيَسُدَّ حَاجَاتِهِمْ بِمَالِهِ وَالتَّقْرِيشُ التَّفْتِيشُ، قَالَ الْحَارِثُ:
أَيّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا
…
عِنْدَ عَمْرٍو فَهَلْ لَنَا إبْقَاءُ
وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا عَلَى نَادِي قَوْمِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اُنْظُرْ إلَى النَّضْرِ كَأَنَّهُ جَمَلٌ قُرَيْشٌ، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِقُرَيْشِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَخْلَدٍ كَانَ صَاحِبَ عِيرِهِمْ فَكَانُوا يَقُولُونَ قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ وَخَرَجَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ وَلِهَذَا الرَّجُلِ ابْنٌ يُسَمَّى بَدْرًا وَهُوَ الَّذِي حَفَرَ بِئْرَ بَدْرٍ وَسُمِّيَتْ بِهِ، وَقِيلَ لِتِجَارَتِهِمْ وَالْقِرْشُ الْكَسْبُ.
وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِهِ؛ لِأَنَّ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ: قِيلَ إنَّ اسْمَهُ قُرَيْشٌ، وَإِنَّمَا فِهْرٌ لَقَبُهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُعَاوِيَةَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ قُرَشِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ فِهْرٍ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ الْجَمْعِ، وَالتَّقْرِيشُ التَّجْمِيعُ؛ لِأَنَّ قُصَيًّا جَمَّعَ بَنِي النَّضْرِ فِي الْحَرَمِ مِنْ بَعْدِ تَفَرُّقِهِمْ، وَقِيلَ لَمَّا نَزَلَ قُصَيٌّ الْحَرَمَ فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً فَقِيلَ لَهُ الْقِرْشُ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي كَوْنُ الْقُرَشِيِّينَ مَنْ جَمَعَهُمَا أَبٌ هُوَ قُصَيٌّ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيَكُونُ مِنْ التَّجَمُّعِ لَا التَّجْمِيعِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ قُصَيٍّ وَالتَّجَمُّعُ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ النَّضْرِ وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ قَالَ: أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا بِهِ جَمَّعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرٍ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ غَيْرَ أَنَّ الْقَافِيَّةَ اتَّفَقَتْ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَبَعْدَ نَقْلِ أَنَّ قُصَيًّا سُمِّيَ مُجَمِّعًا لِجَمْعِهِ أَوْلَادَ النَّضْرِ عُرِفَ أَنَّ الْقُرَشِيِّينَ مَنْ جَمَعَهُمَا النَّضْرُ.
هَذَا وَقُرَيْشٌ عِمَارَةٌ تَحْتَهَا بُطُونٌ لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ وَقُصَيٌّ وَعَدِيٌّ وَمِنْهُمْ الْفَارُوقُ رضي الله عنه.
وَمُرَّةُ وَمِنْ مُرَّةَ تَيْمٌ وَمِنْهُمْ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه. وَمَخْزُومٌ وَمِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ رضي الله عنه وَهُمَا فَخْذَانِ.
وَهَاشِمٌ فَخْذٌ وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ، وَأَعَمُّ الطَّبَقَاتِ الشُّعَبُ مِثْلُ حِمْيَرَ وَرَبِيعَةَ وَمُضَرَ ثُمَّ الْقَبِيلَةُ مِثْلُ كِنَانَةَ وَلِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فِي قُرَيْشٍ بَطْنٌ بِبَطْنٍ، وَفِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ» وَنَظَمَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ تَرْتِيبَ الطَّبَقَاتِ فَقَالَ:
قَبِيلَةٌ فَوْقَهَا شَعْبٌ وَبَعْدَهُمَا
…
عِمَارَةٌ ثُمَّ بَطْنٌ تَلُوهُ فَخِذُ
وَلَيْسَ يُؤْوِي الْفَتَى إلَّا فَصِيلَتُهُ
…
وَلَا سَدَادَ لِسَهْمٍ مَا لَهُ قُذَذُ
وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ» وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ لِمَا رَوَيْنَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَسَبًا مَشْهُورًا كَأَهْلِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ تَعْظِيمًا لِلْخِلَافَةِ وَتَسْكِينًا لِلْفِتْنَةِ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْعَشِيرَةَ بَعْدَ الْفَصِيلَةِ فَقَالَ:
اقْصِدْ الشَّعْبَ فَهْوَ أَكْثَرُ حَيٍّ
…
عَدَدًا فِي الْجِوَاءِ ثُمَّ الْقَبِيلَهْ
ثُمَّ يَتْلُوهُمَا الْعِمَارَةُ ثُمَّ
…
الْبَطْنُ وَالْفَخِذُ بَعْدَهَا وَالْفَصِيلَهْ
ثُمَّ مِنْ بَعْدِهَا الْعَشِيرَةُ لَكِنْ
…
هِيَ فِي جَنْبِ مَا ذَكَرْنَا قَلِيلَهْ
(قَوْلُهُ وَالْمَوَالِي) هُمْ الْعُتَقَاءُ، وَالْمُرَادُ هُنَا غَيْرُ الْعَرَبِ وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهُمْ رِقٌّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ضَلُّوا أَنْسَابَهُمْ كَانَ التَّفَاخُرُ بَيْنَهُمْ بِالدِّينِ وَمَا نَذْكُرُهُ فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْهَاشِمِيَّ وَالْمُطَّلِبِيَّ أَكْفَاءٌ دُونَ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ.
قَالُوا: وَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنْتَيْهِ مِنْ عُثْمَانَ وَهُوَ أُمَوِيٌّ، وَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ عَدَوِيٌّ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إذْ قَدْ يَقُولُ يَجُوزُ كَوْنُهُ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْكَفَاءَةِ نَظَرًا إلَى مَصْلَحَةٍ أُخْرَى لَكِنَّهُ يَرَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي النَّسَبِ فَيَلْزَمُهُ مَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي النَّسَبِ فِي الْعَجَمِ، وَعَلَى مُحَمَّدٍ فِي اعْتِبَارِهِ الزِّيَادَةَ بِالْخِلَافَةِ حَتَّى لَا يُكَافِئَ أَهْلُ بَيْتِ الْخِلَافَةِ غَيْرَهُمْ مِنْ الْقُرَشِيِّينَ، هَذَا إنْ قَصَدَ بِذَلِكَ عَدَمَ الْمُكَافَأَةِ لَا إنْ قَصَدَ بِهِ تَسْكِينَ الْفِتْنَةِ.
وَفِي الْجَامِعِ لِقَاضِي خَانْ: قَالُوا الْحَسِيبُ يَكُونُ كُفْئًا لِلنَّسِيبِ، فَالْعَالِمُ الْعَجَمِيُّ كُفْءٌ لِلْجَاهِلِ الْعَرَبِيِّ وَالْعَلَوِيَّةِ، لِأَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ فَوْقَ شَرَفِ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَفِي الْمُحِيطِ عَنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ: الْحَسِيبُ هُوَ الَّذِي لَهُ جَاهٌ وَحِشْمَةٌ وَمَنْصِبٌ. وَفِي الْيَنَابِيعِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ كُفْئًا لِلْعَلَوِيَّةِ.
وَأَصْلُ مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ أُعْتِقَ إذَا أَحْرَزَ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا يُقَابِلُ بِهِ نَسَبَ الْآخَرِ كَانَ كُفْئًا لَهُ وَلَا يُعْتَبَرُ بِالْبِلَادِ. فِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى أَنَّ الْقَرَوِيَّ
وَبَنُو بَاهِلَةَ لَيْسُوا بِأَكْفَاءَ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْخَسَاسَةِ.
(وَأَمَّا الْمَوَالِي فَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنْ الْأَكْفَاءِ) يَعْنِي لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ فِيهِ. وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ النَّسَبِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَأَبُو يُوسُفَ أَلْحَقَ الْوَاحِدَ بِالْمُثَنَّى كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّعْرِيفِ. وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ فِيمَا بَيْنَ الْمَوَالِي بِالْإِسْلَامِ.
وَالْكَفَاءَةُ فِي الْحُرِّيَّةِ نَظِيرُهَا فِي الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَفِيهِ مَعْنَى الذُّلِّ فَيُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ
كُفْءٌ لِلْمَدَنِيِّ (قَوْلُهُ وَبَنُو بَاهِلَةَ إلَخْ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، وَبَاهِلَةُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ امْرَأَةٍ مِنْ هَمْدَانَ كَانَتْ تَحْتَ مَعْنِ بْنِ أَعَصْرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ فَنُسِبَ وَلَدُهُ إلَيْهَا وَهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْخَسَاسَةِ. قِيلَ كَانُوا يَأْكُلُونَ بَقِيَّةَ الطَّعَامِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ عِظَامَ الْمَيْتَةِ يَطْبُخُونَهَا وَيَأْخُذُونَ دُسُومَتَهَا فَلِذَا قِيلَ:
وَلَا يَنْفَعُ الْأَصْلُ مِنْ هَاشِمٍ
…
إذَا كَانَتْ النَّفْسُ مِنْ بَاهِلِهِ
وَقِيلَ:
إذَا قِيلَ لِلْكَلْبِ يَا بَاهِلِيُّ
…
عَوَى الْكَلْبُ مِنْ لُؤْمِ هَذَا النَّسَبِ
وَلَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، فَإِنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَعْلَمَ بِقَبَائِل الْعَرَبِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَقَدْ أَطْلَقَ، وَلَيْسَ كُلُّ بَاهِلِيٍّ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِمْ الْأَجْوَادُ، وَكَوْنُ فَصِيلَةٍ مِنْهُمْ أَوْ بَطْنٍ صَعَالِيكَ فَعُلُوُّ ذَلِكَ لَا يَسْرِي فِي حَقِّ الْكُلِّ.
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْمَوَالِي فَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنْ الْأَكْفَاءِ: يَعْنِي لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ فِيهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِيهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ النَّسَبِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَأَلْحَقَ أَبُو يُوسُفَ الْوَاحِدَ بِالْمُثَنَّى كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّعْرِيفِ) أَيْ فِي الشَّهَادَاتِ وَالدَّعَاوَى، قِيلَ كَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ
قَالَ (وَتُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي الدِّينِ) أَيْ الدِّيَانَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَى الْمَفَاخِرِ، وَالْمَرْأَةُ تُعَيَّرُ بِفِسْقِ الزَّوْجِ فَوْقَ مَا تُعَيَّرُ بِضَعَةِ نَسَبِهِ.
لَا يُعَدُّ كُفْرُ الْجَدِّ عَيْبًا بَعْدَ أَنْ كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا، وَهُمَا قَالَاهُ فِي مَوْضِعٍ يُعَدُّ عَيْبًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا جَمِيعًا إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَيْبًا فِي حَقِّ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ وَهَذَا حَسَنٌ وَبِهِ يَنْتَفِي الْخِلَافُ،.
وَلَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ وَلِيُّهَا لَيْسَ هَذَا كُفْئًا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا بَلْ هُمْ أَكْفَاءٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. قَالَ فِي الْأَصْلِ: إلَّا أَنْ يَكُونَ نَسَبًا مَشْهُورًا كَبِنْتِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ خَدَعَهَا حَائِكٌ أَوْ سَائِسٌ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لَا لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ بَلْ لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِتَسْكِينِهَا بَيْنَهُمْ كَمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
(قَوْلُهُ وَالْكَفَاءَةُ فِي الْحُرِّيَّةِ نَظِيرُهَا فِي الْإِسْلَامِ) يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ حُرَّانِ كَافَأَ مَنْ كَانَ لَهُ آبَاءٌ أَحْرَارٌ، وَمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ حُرٌّ لَا يُكَافِئُ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ حُرَّانِ، وَمَنْ عَتَقَ بِنَفْسِهِ لَا يُكَافِئُ مَنْ لَهُ أَبٌ حُرٌّ.
وَفِي التَّجْنِيسِ: لَوْ كَانَ أَبُوهَا مُعْتَقًا وَأُمُّهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ لَا يُكَافِئُهَا الْمُعْتَقُ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَثَرَ الرِّقِّ وَهُوَ الْوَلَاءُ، وَالْمَرْأَةُ لَمَّا كَانَتْ أُمُّهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا حُرَّةَ الْأَصْلِ.
وَفِي الْمُجْتَبَى: مُعْتَقَةُ الشَّرِيفِ لَا يُكَافِئُهَا مُعْتَقُ الْوَضِيعِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ كَوْنُ مَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ كُفْئًا لِمَنْ عَتَقَ بِنَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ وَتُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي الدِّينِ: أَيْ الدِّيَانَةُ) فَسَّرَ بِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّقْوَى لَا اتِّفَاقَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ تَفَاصِيلَهُ تُعْرَفُ فِي نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَلَا كَوْنُهُ مُكَافِئًا بِإِسْلَامِ نَفْسِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَرَّ قَبْلَهُمَا (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) أَيْ أَنَّ الصَّحِيحَ اقْتِرَانُ قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَرَجَّحَهُ السَّرَخْسِيُّ وَقَالَ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَاءَةَ مِنْ حَيْثُ الصَّلَاحُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِر الْكَفَاءَةَ فِي الدِّينِ وَقَالَ: إذَا كَانَ الْفَاسِقُ ذَا مُرُوءَةٍ كَأَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَالْمُبَاشِرِينَ الْمَكَسَةِ، وَكَذَا عَنْهُ إنْ كَانَ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ سِرًّا وَلَا يَخْرُجُ وَهُوَ سَكْرَانُ يَكُونُ كُفْئًا وَإِلَّا لَا، وَحِينَئِذٍ الْأَوْلَى كَوْنُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَمَّا رُوِيَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ الصَّالِحِينَ فَاسِقًا كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ فَسْخُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُبَاشِرِي السُّلْطَانِ
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَا تُبْتَنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا إلَّا إذَا كَانَ يُصْفَعُ وَيُسْخَرُ مِنْهُ أَوْ يَخْرُجُ إلَى الْأَسْوَاقِ سَكْرَانَ وَيَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَخَفٌّ بِهِ.
قَالَ (وَ) تُعْتَبَرُ (فِي الْمَالِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ) وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، حَتَّى إنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُهُمَا أَوْ لَا يَمْلِكُ أَحَدَهُمَا لَا يَكُونُ كُفْئًا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ الْبُضْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إيفَائِهِ وَبِالنَّفَقَةِ قِوَامُ الِازْدِوَاجِ وَدَوَامُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ قَدْرُ مَا تَعَارَفُوا تَعْجِيلَهُ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهُ مُؤَجَّلٌ عُرْفًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ عَلَى النَّفَقَةِ دُونَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ تَجْرِي الْمُسَاهَلَةُ فِي الْمَهْرِ وَيُعَدُّ الْمَرْءُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَسَارِ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُعْتَبَرُ إلَّا إذَا كَانَ يَسْخَرُ مِنْهُ وَيَخْرُجُ سَكْرَانَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَلَا تُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا) وَفِي كَوْنِ هَذَا قَاعِدَةً مُمَهَّدَةً نَظَرٌ إذْ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ الْمُلَازَمَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ قَدْ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِيهِ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَعَدَمِهِ، عَلَى أَنَّا لَمْ نَبْنِ إلَّا عَلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُعَيَّرُ بِفِسْقِ الزَّوْجِ فَوْقَ مَا تُعَيَّرُ بِضَعْفِ نَسَبِهِ: يَعْنِي يُعَيِّرُهَا أَشْكَالُهَا إنْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الصَّالِحِينَ. وَفِي الْمُحِيطِ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِاخْتِيَارِ السَّرَخْسِيِّ الرِّوَايَةَ الْمُوَافِقَةَ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ كُفْءٌ فِي الدِّيَانَةِ ثُمَّ صَارَ دَاعِرًا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ وَقْتَ النِّكَاحِ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ) أَيْ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي الْمَالِ هُوَ (أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ) وَتَقْيِيدُهُ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي الْكَفَاءَةِ فِي الْغِنَى بِمَا نَسَبَهُ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَهْرِ مِلْكُ مَا تَعَارَفُوا تَعْجِيلَهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ حَالًّا. وَفِي الْمُجْتَبَى: قُلْت فِي عُرْفِ أَهْلِ خُوَارِزْمَ كُلُّهُ مُؤَجَّلٌ فَلَا تُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُرَادَ بِمِلْكِ النَّفَقَةِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ: قِيلَ الْمُعْتَبَرُ مِلْكُ نَفَقَةِ شَهْرٍ، وَقِيلَ نَفَقَةُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَفِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ سَنَةٍ، وَفِي الْمُجْتَبَى: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ عَنْ طَرِيقِ الْكَسْبِ كَانَ كُفْئًا، وَمَعْنَاهُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إيفَاءِ مَا يُعَجِّلُ لَهَا بِالْيَدِ وَيَكْتَسِبُ مَا يُنْفِقُ لَهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ كَانَ كُفْئًا لَهَا. وَفِي غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِلسَّيِّدِ أَبِي شُجَاعٍ جَعَلَ الْأَصَحَّ مِلْكَ نَفَقَةِ شَهْرٍ. وَفِي الذَّخِيرَةِ: إنْ كَانَ يَجِدُ نَفَقَتَهَا وَلَا يَجِدُ نَفَقَةَ نَفْسِهِ فَهُوَ كُفْءٌ وَإِلَّا لَا يَكُونُ كُفْئًا وَإِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ، ثُمَّ هَذَا إذَا كَانَتْ تُطِيقُ النِّكَاحَ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تُطِيقُهُ فَهُوَ كُفْءٌ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا (قَوْلُهُ وَيُعَدُّ الْمَرْءُ قَادِرًا بِيَسَارِ أَبِيهِ) وَأُمِّهِ وَجَدِّهِ
فَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فِي الْغِنَى فَمُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى إنَّ الْفَائِقَةَ فِي الْيَسَارِ لَا يُكَافِئُهَا الْقَادِرُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِالْغِنَى وَيَتَعَيَّرُونَ بِالْفَقْرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ
(وَ) تُعْتَبَرُ (فِي الصَّنَائِعِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ إلَّا أَنْ تَفْحُشَ كَالْحَجَّامِ وَالْحَائِكِ وَالدَّبَّاغِ.
وَجْهُ الِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِشَرَفِ الْحِرَفِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَتِهَا. وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْحِرْفَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ، وَيُمْكِنُ التَّحَوُّلُ عَنْ الْخَسِيسَةِ إلَى
وَجَدَّتِهِ وَلَا تُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَى النَّفَقَةِ بِيَسَارِ الْأَبِ
(قَوْلُهُ فَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فِي الْغِنَى) يَعْنِي بَعْدَ مِلْكِهِ لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ هَلْ تُعْتَبَرُ مُكَافَأَتُهُ إيَّاهَا فِي غِنَاهَا، قَالَ: مُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لَكِنْ صَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ بِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ مَذْمُومَةٌ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: لَا مُعْتَبَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْغِنَى هُوَ الصَّحِيحُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ مَنْ مَلَكَهُمَا لَا يَكُونُ كُفْئًا لِلْفَائِقَةِ فِي الْغِنَى وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَنَصَّ عَلَى أَنَّ مَا فِي الْهِدَايَةِ غَيْرُ رِوَايَةِ الْأُصُولِ، وَكَذَا فِي الدِّرَايَةِ قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ.
وَفِي كِتَابِ النِّكَاحِ: لَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ إلَّا عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ الْأَوَائِلِ، قَالَ: وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتَبَرُوا الْكَفَاءَةَ فِي الْمَالِ بَعْدَمَا صَرَّحَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِنَفْيِهِ
(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ) أَظْهَرُهُمَا لَا تُعْتَبَرُ فِي الصَّنَائِعِ حَتَّى يَكُونَ الْبَيْطَارُ كُفْئًا لِلْعَطَّارِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَعَنْهُ فِي أُخْرَى: الْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ إلَّا الْحَائِكُ وَالْحَجَّامُ، وَكَذَا الدَّبَّاغُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ فَصَارَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِوَايَتَانِ: الظَّاهِرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ الِاعْتِبَارِ، وَالظَّاهِرُ عَنْ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ تُفْحِشَ وَهُوَ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ إلَّا حَائِكًا أَوْ حَجَّامًا، مَا يُفِيدُ اعْتِبَارَهَا فِي الصَّنَائِعِ، لَكِنْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَهُوَ أَنَّ الصِّنَاعَاتِ الْمُتَقَارِبَةَ أَكْفَاءٌ كَالْبَزَّازِ وَالْعَطَّارِ، بِخِلَافِ الْمُتَبَاعِدَةِ، وَعَدَّ الْخَيَّاطَ مَعَ الدَّبَّاغِ وَالْحَجَّامِ وَالْكَنَّاسِ قَالَ: فَهَؤُلَاءِ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ وَلَا يُكَافِئُونَ سَائِرَ الْحِرَفِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فَكَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ قَالَ: وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ اعْتِبَارَهَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُعْتَبَرُ وَنَحْوُهُ فِي النَّافِعِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا لَكِنْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْكَفَاءَةِ فِي الصَّنَائِعِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِكَوْنِهِمَا مِنْ صِنَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ: وَهَاهُنَا خَسَاسَةٌ هِيَ أَخَسُّ مِنْ الْكُلِّ وَهُوَ الَّذِي يَخْدُمُ الظَّلَمَةَ يُدْعَى شَاكِرْبَاهْ تَابِعًا وَإِنْ كَانَ ذَا مُرُوءَةٍ وَمَالٍ. قِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُعَدُّ الدَّنَاءَةُ فِي الْحِرْفَةِ مَنْقَصَةً
النَّفِيسَةِ مِنْهَا.
قَالَ (وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُتِمَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ يُفَارِقَهَا) وَقَالَا: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَهَذَا الْوَضْعُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْوَلِيِّ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَادِقَةٌ عَلَيْهِ. لَهُمَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ حَقُّهَا وَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ كَمَا بَعْدَ التَّسْمِيَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَفْتَخِرُونَ بِغَلَاءِ الْمَهْرِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِنُقْصَانِهِ فَأَشْبَهَ الْكَفَاءَةَ،
فَلَا تُعْتَبَرُ، وَفِي زَمَنِهِمَا تُعَدُّ فَتُعْتَبَرُ. وَالْحَقُّ اعْتِبَارُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمَبْنِيُّ أَوَّلًا، فَإِنَّ الْمُوجِبَ هُوَ اسْتِنْقَاصُ أَهْلِ الْعُرْفِ فَيَدُورُ مَعَهُ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَائِكُ كُفْئًا لِلْعَطَّارِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِمَا هُنَاكَ مِنْ حُسْنِ اعْتِبَارِهَا وَعَدَمِ عَدِّهَا نَقْصًا أَلْبَتَّةَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ خَسَاسَةٌ غَيْرُهَا
. (قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَتِمَّ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَوْ يُفَارِقَهَا) فَالثَّابِتُ إلْزَامُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ فَرْعُ قِيَامِ مُكْنَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ فَعَنْ هَذَا مَا فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: لَوْ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِتَكْمِيلِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُمْ لَيْسَ إلَّا أَنْ يَفْسَخَ أَوْ يُكْمِلَ، فَإِذَا امْتَنَعَ هُنَا عَنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ لَا يُمْكِنُ الْفَسْخُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى التَّسْمِيَةِ حَتَّى لَوْ سَمَّتْ مَهْرَ مِثْلِهَا وَلَمْ تَأْخُذْهُ بَلْ أَبْرَأَتْ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا الْوَضْعُ) أَيْ قَوْلُنَا إذَا تَزَوَّجَتْ وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ يَجِبُ تَنْقِيَةُ الْعَقْدِ فَرْعَ صِحَّةِ عَقْدِ الْمَرْأَةِ بِنَفْسِهَا فَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَى اعْتِبَارِ رُجُوعِهِ إلَى ذَلِكَ؛ لِمَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُبَاشَرَتُهَا بِنَفْسِهَا بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ، قَالَ: وَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى رُجُوعِهِ.
بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَيَّرُ بِهِ.
(وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ بِنْتَه الصَّغِيرَةَ وَنَقَصَ مِنْ مَهْرِهَا أَوْ ابْنَهُ الصَّغِيرَ وَزَادَ فِي مَهْرِ امْرَأَتِهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ) وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَطَّ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَيْسَ مِنْ النَّظَرِ فِي شَيْءٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ،
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ تَعَيَّنَ هَذَا الْوَضْعُ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ وَلَمْ يُسَمِّ مَهْرًا فَعَقَدَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَكَذَا لَوْ أَكْرَهَ السُّلْطَانُ امْرَأَةً وَوَلِيَّهَا عَلَى تَزْوِيجِهَا بِمَهْرٍ قَلِيلٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ وَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ وَلَمْ يَرْضَ الْوَلِيُّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَضْعُ دَلَالَةً عَلَى رُجُوعِ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِمَا اهـ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا إذَا تَزَوَّجَتْ وَنَقَصَتْ لَا يَنْقُصُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَامٌّ فِي الصُّوَرِ عَلَى مَا هُوَ حَالُ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ، فَبِاعْتِبَارِ عُمُومِهِ يَكُونُ شَهَادَةً صَادِقَةً وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ، وَبِاعْتِبَارِ حَمْلِهِ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ أَعَمُّ مِنْهَا لَا يَكُونُ شَهَادَةً وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُعْتَرِضُ، وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ إلَّا أَنْ يُوجِبَ الْحَمْلُ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ مُوجِبٌ وَتَمَامُ الِاعْتِرَاضِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ. فَتَوْجِيهُ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يُقَالَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كَذَا لِلصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ شَهَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا الْحَمْلُ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَرُجُوعُهُ مَرْوِيٌّ أَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَصْنِيفَهُ لِلْجَامِعِ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْحَقُّ أَنَّهُ رَجَعَ وَلَا شَهَادَةَ فِي هَذِهِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَنَقَصَ مِنْ مَهْرِهَا أَوْ ابْنَهُ الصَّغِيرَ وَزَادَ فِي مَهْرِ امْرَأَتِهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا) وَلَزِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ قَلِيلٍ وَثَبَتَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي ذِمَّةِ الصَّغِيرَةِ فِي الثَّانِيَةِ لَا فِي ذِمَّةِ الْأَبِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَيَقْضِيهِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ (وَقَالَا: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَزْوِيجُ الْأَبِ ابْنَتَهُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا عَدَمُ الْكَفَاءَةِ فِي غَيْرِ الدِّيَانَةِ. أَمَّا فِيهَا فَلَا، لِمَا قَالُوا: لَوْ كَانَ الْأَبُ مَعْرُوفًا بِسُوءِ الِاخْتِيَارِ مَجَانَةً وَفِسْقًا كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمَنْ زَوَّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ الْقَابِلَةَ لِلتَّخَلُّقِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ ظَهَرَ سُوءُ اخْتِيَارِهِ، وَلِأَنَّ تَرْكَ النَّظَرِ هُنَا مَقْطُوعٌ بِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ ظُهُورُ إرَادَةِ مَصْلَحَةٍ تَفُوقُ ذَلِكَ نَظَرًا إلَى شَفَقَةِ الْأُبُوَّةِ.
وَمَا فِي النَّوَازِلِ زَوَّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ مِمَّنْ يُنْكِرُ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ فَإِذَا هُوَ مُدْمِنٌ لَهُ وَقَالَتْ: لَا أَرْضَى بِالنِّكَاحِ: يَعْنِي بَعْدَمَا كَبِرَتْ إنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ الْأَبُ بِشُرْبِهِ وَكَانَ غَلَبَةُ أَهْلِ بَيْتِهِ صَالِحِينَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا زَوَّجَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ كُفْءٌ يُفِيدُ خِلَافَهُ إذْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ عَرَفَهُ الْأَبُ أَنَّهُ يَشْرَبُهُ فَالنِّكَاحُ نَافِذٌ، وَهُوَ يُنَافِي مَا قُرِّرَ مِنْ أَنَّ الْأَبَ إذَا عُرِفَ بِسُوءِ الِاخْتِيَارِ لَا يَنْفُذُ تَزْوِيجُهُ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ. وَالْجَوَابُ
وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُمَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ النَّظَرِ وَهُوَ قُرْبُ الْقَرَابَةِ، وَفِي النِّكَاحِ مَقَاصِدُ تَرْبُو عَلَى الْمَهْرِ. أَمَّا الْمَالِيَّةُ فَهِيَ الْمَقْصُودُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ وَالدَّلِيلُ عَدِمْنَاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا.
(وَمَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ عَبْدًا أَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ أَمَةً فَهُوَ جَائِزٌ) قَالَ رضي الله عنه (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا)؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْكَفَاءَةِ لِمَصْلَحَةِ تَفَوُّقِهَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَا يَجُوزُ.
أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ ثُبُوتِ سُوءِ الِاخْتِيَارِ وَتَيَقُّنِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَعْرُوفًا بِهِ فَلَا يَلْزَمُ بُطْلَانُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ سُوءِ الِاخْتِيَارِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِلنَّاسِ كَوْنُ الْأَبِ الْعَاقِدِ مَعْرُوفًا بِمِثْلِهِ (قَوْلُهُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمَا) أَيْ قَوْلُهُمَا لَا يَجُوزُ هَلْ مَعْنَاهُ نَفْيُ صِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ نَفْيُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فَيُزَادُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، قِيلَ بِالْأَوَّلِ وَقِيلَ بِالثَّانِي، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ فَعِنْدَ فَوَاتِهِ ظَاهِرًا بِإِيجَابِ الْمَالِ عِوَضُ نَفْسِهَا نَاقِصًا أَوْ إبْطَالُهُ بِدُونِ عِوَضٍ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ كَالْمَأْمُورِ بِالْعَقْدِ بِشَرْطٍ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى شَرْطِهِ؛ وَلِذَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي مَالِهِمَا، فَإِيجَابُ الْمَالِ عِوَضُ نَفْسِهَا نَاقِصًا أَوْلَى بِعَدَمِ النَّفَاذِ، وَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَا يَجُوزُ فَتَزْوِيجُهَا كَذَلِكَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْجَوَازِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّظَرَ وَعَدَمَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَيْسَا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ بَاطِنٍ، فَالضَّرَرُ كُلُّ الضَّرَرِ بِسُوءِ الْعِشْرَةِ وَإِدْخَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا الْمَكْرُوهَ عَلَى الْآخَرِ، وَالنَّظَرُ كُلُّ النَّظَرِ فِي ضِدِّهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَأَمْرُ الْمَالِ سَهْلٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِيهِ بَلْ الْمَقْصُودُ فِيهِ مَا قُلْنَا، فَإِذَا كَانَ بَاطِنًا يُعْتَبَرُ دَلِيلُهُ فَيُعَلَّقُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ.
وَدَلِيلُ النَّظَرِ قَائِمٌ هُنَا وَهُوَ قُرْبُ الْقَرَابَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى وُفُورِ الشَّفَقَةِ مَعَ كَمَالِ الرَّأْيِ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْعَصَبَاتِ وَالْأُمِّ لِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فِي الْعَصَبَاتِ وَنُقْصَانِ الرَّأْيِ فِي الْأُمِّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَالدَّلِيلُ عَدِمْنَاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلَا يَصِحُّ عَقْدُهُمْ لِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا انْبَنَى الْفَرْعُ الْمَعْرُوفُ: لَوْ زَوَّجَ الْعَمُّ الصَّغِيرَةَ حُرَّةَ الْجَدِّ مِنْ مُعْتَقِ الْجَدِّ فَكَبِرَتْ وَأَجَازَتْ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَقْدًا مَوْقُوفًا
فَصْلٌ فِي الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا
(وَيَجُوزُ لِابْنِ الْعَمِّ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ (وَإِنْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ فَعَقَدَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ جَازَ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ.
إذْ لَا مُجِيزَ لَهُ فَإِنَّ الْعَمَّ وَنَحْوَهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ التَّزْوِيجُ بِغَيْرِ الْكُفْءِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَبُ مَعْرُوفًا بِسُوءِ الِاخْتِيَارِ أَوْ الْمَجَانَةِ وَالْفِسْقِ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ.
أَمَّا الْمَالُ فَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ لَا فِي أَمْرٍ آخَرَ بَاطِنٍ لِيُحَالَ النَّظَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِ التَّقْصِيرِ فِي الْمَالِ، فَلِذَا لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ أَمَتَهُمَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ؛ لِأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مِلْكُهُمَا وَلَا مَقْصُودَ آخَرَ بَاطِنٍ يُصْرَفُ النَّظَرُ إلَيْهِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَزْوِيجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ مِنْ عَلِيٍّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ دُونَ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ النِّسَاءِ فَيَلْزَمُ أَنَّ الْأَمْهَرَ أَكْثَرُ مِنْهُ بَلْ إلَّا وَهُوَ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ أَنَّهَا دُونَ مَهْرِ مِثْلِهَا وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ فَلَزِمَ الثَّانِي، وَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ أَنَّ تَزْوِيجَهُ صلى الله عليه وسلم إيَّاهَا كَانَ قَبْلَ بُلُوغِهَا وَإِلَّا لَا يُفِيدُ.
وَقَدْ يُقَالُ: إذَا كَانَ الْمَدَارُ عِنْدَهُ دَلِيلَ النَّظَرِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْخَاصَّةُ: أَعْنِي قَرَابَةَ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مَعْرُوفًا بِسُوءِ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ حِكْمَتِهَا وَهَذَا كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَظِنَّةَ مَا يَغْلِبُ مَعَهَا الْحِكْمَةُ إنْ لَمْ تَلْزَمْ فَالْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ لَيْسَ مَظِنَّةً.
وَالْحَاصِلُ إمَّا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ أَوْ الْقَوْمِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ مَجْمُوعُ قَرَابَةِ الْأَبِ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ بِسُوءِ الِاخْتِبَارِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَعَدَمِهِ.
وَمَسْأَلَةُ تَزْوِيجِ الْأَبِ بِنْتَهُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ عَبْدًا أَوْ غَيْرَهُ قَدَّمْنَاهَا، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاحِدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ فِي الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا)
مِنْ أَحْكَامِ الْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ وَيَبْقَى الرَّسُولُ نَذْكُرُهُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَتْ الْوَكَالَةُ نَوْعًا مِنْ الْوِلَايَةِ إذْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ غَيْرَ أَنَّهَا تُسْتَفَادُ مِنْ الْوَلِيِّ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَانَتْ ثَانِيَةً لِلْوِلَايَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَأَوْرَدَهَا ثَانِيَةً فِي التَّعْلِيمِ لِبَابِ الْأَوْلِيَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ غَيْرَهَا مِنْ الْفُضُولِيِّ لِتَأَخُّرِهِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ النَّفَاذَ بِالْإِجَازَةِ إنَّمَا يُنْسَبُ إلَى الْوَلِيِّ الْمُجِيزِ فَنَزَلَ عَقْدُ الْفُضُولِيِّ كَالشَّرْطِ لَهُ حَيْثُ لَمْ يَسْتَعْقِبْ بِنَفْسِهِ حُكْمَهُ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّبَبِ، غَيْرَ أَنَّ ابْتِدَاءَهُ بِالْوَلِيِّ إنْ نَظَرَ فِيهِ إلَى أَنَّهُ أَقْوَى نَاسَبَ الِابْتِدَاءَ بِهِ، وَإِنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ عَقْدَ الْفَصْلِ لِلْوَكِيلِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ كَانَ الْمُنَاسِبُ الِابْتِدَاءَ بِمَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ (قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِابْنِ الْعَمِّ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ) الصَّغِيرَةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَالْبَالِغَةِ بِإِذْنِهَا، فَيَقُولُ اشْهَدُوا أَنِّي تَزَوَّجْت بِنْتَ عَمِّي فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ أَوْ زَوَّجْتُهَا مِنْ نَفْسِي (وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ، وَإِذَا أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ لِرَجُلٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ فَعَقَدَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ جَازَ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ)
لَهُمَا أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا كَمَا فِي الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي الْوَلِيِّ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَلَّاهُ سِوَاهُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ.
وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ اشْهَدُوا أَنَّ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَكَّلَتْنِي أَنْ أُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِي وَقَدْ فَعَلْت ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَنْسُبْهَا إلَى الْجَدِّ وَلَمْ يَعْرِفْهَا الشُّهُودُ فَفِي التَّفَارِيقِ وَسِعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَطَأَهَا. وَفِي النَّوَازِلِ قَالَ: لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالتَّسْمِيَةِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ تَزَوَّجْت امْرَأَةً وَكَّلَتْنِي لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ وَكِيلٍ لِامْرَأَةٍ بِتَزْوِيجِ نَفْسِهَا.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ: رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً فَأَجَابَتْهُ وَكَرِهَتْ أَنْ يَعْلَمَ أَوْلِيَاؤُهَا فَجَعَلْت أَمْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا إلَى الْخَاطِبِ وَاتَّفَقَا عَلَى الْمَهْرِ فَكَرِهَ الزَّوْجُ تَسْمِيَتَهَا عِنْدَ الشُّهُودِ قَالَ: يَقُولُ إنِّي خَطَبْت امْرَأَةً بِصَدَاقِ كَذَا وَرَضِيَتْ بِهِ وَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَيَّ بِأَنْ أَتَزَوَّجَهَا فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي تَزَوَّجْت الْمَرْأَةَ الَّتِي أَمْرُهَا إلَيَّ عَلَى صَدَاقِ كَذَا فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: الْخَصَّافُ كَبِيرٌ فِي الْعِلْمِ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ. وَقَالَ فِي التَّجْنِيسِ: وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْرِيفِ يَكْفِي، وَمِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً مُتَنَقِّبَةً وَلَا يَعْرِفُهَا الشُّهُودُ، فَعَنْ الْحَسَنِ وَبِشْرٍ يَجُوزُ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ تَرْفَعْ نِقَابَهَا وَيَرَاهَا الشُّهُودُ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ فِيمَا يَظْهَرُ بَعْدَ سَمَاعِ الشَّطْرَيْنِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ شَهَادَةً تُعْتَبَرُ لِلْأَدَاءِ لِيُشْتَرَطَ الْعِلْمُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِذَاتِ الْمَرْأَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ رَأَيْت فِي التَّجْنِيسِ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يَعْرِفُ بِالْإِشَارَةِ، وَالِاحْتِيَاطُ كَشْفُ نِقَابِهَا وَتَسْمِيَتُهَا وَنِسْبَتُهَا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا الشُّهُودُ، أَمَّا إذَا كَانُوا يَعْرِفُونَهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فَذَكَرَ الزَّوْجُ اسْمَهَا لَا غَيْرَ جَازَ النِّكَاحُ إذَا عَرَفَ الشُّهُودُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَرْأَةَ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّسْمِيَةِ التَّعْرِيفُ وَقَدْ حَصَلَ اهـ.
وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالظَّاهِرِيَّةُ. وَقَوْلُهُ مِنْ نَفْسِهِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ وَكَّلَتْهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مُطْلَقًا فَإِنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَتْ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَكَّلَ امْرَأَةً بِأَنْ تُزَوِّجَهُ فَزَوَّجَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا (لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَتَصَوَّرُ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ (أَنْ يَكُونَ مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا كَمَا فِي الْبَيْعِ) لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِتَضَادِّ حُكْمَيْ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ، وَيُوَافِقُهُ الْأَثَرُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ: خَاطِبٌ، وَوَلِيٌّ، وَشَاهِدَا عَدْلٍ» (إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ) عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ (فِي الْوَلِيِّ ضَرُورَةٌ إذْ لَا يَتَوَلَّاهُ غَيْرُهُ) فَلَوْ مَنَعَ مَنْ تَوَلَّى شَطْرَيْهِ امْتَنَعَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِتَزْوِيجِهَا مِنْهُ كَانَ قَائِمًا مَقَامَهُ وَانْتَقَلَتْ عِبَارَتُهُ إلَيْهِ كَتَكَلُّمِهِ هُوَ بِنَفْسِهِ فَلَا فَرْقَ فِي التَّحْقِيقِ.
وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ جَاءَ عَلَى اعْتِقَادِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِالْجَوَازِ كَقَوْلِنَا؛ وَلِذَا اقْتَصَرَ فِي نَقْلِ الْخِلَافِ فِيهَا عَلَى خِلَافِ زُفَرَ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ ثُبُوتُ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ إجْبَارٍ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُجِيزَ تَزْوِيجَ ابْنِ الْعَمِّ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَاَلَّذِي يُجِيزُهُ الشَّافِعِيُّ
وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ، وَالتَّمَانُعُ فِي الْحُقُوقِ دُونَ التَّعْبِيرِ وَلَا تَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ حَتَّى رَجَعَتْ الْحُقُوقُ إلَيْهِ، وَإِذَا تَوَلَّى طَرَفَيْهِ فَقَوْلُهُ زَوَّجْت يَتَضَمَّنُ الشَّطْرَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ. .
قَالَ (وَتَزْوِيجُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا مَوْقُوفٌ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى جَازَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا أَوْ رَجُلًا بِغَيْرِ رِضَاهُ) وَهَذَا عِنْدَنَا فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَدَرَ مِنْ الْفُضُولِيِّ وَلَهُ مُجِيزٌ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ
مِنْ تَوَلِّي الْوَلِيِّ الطَّرَفَيْنِ هُوَ تَزْوِيجُ الْجَدِّ بِنْتَ ابْنِهِ مِنْ ابْنِ ابْنِهِ وَلَيْسَ هُوَ فِي هَذَا مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا فَلَا يَصْلُحُ مُسْتَثْنًى، وَلَوْ جُعِلَ مُنْقَطِعًا لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُهُ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمُبَاشِرُ مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا شَرْعًا إلَّا فِي الْوَلِيِّ صَحَّ ذَلِكَ ضَرُورَةً لَكِنَّهُ مُنْتَفٍ (وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ) حَتَّى لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلَا تَرْجِعُ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ حَتَّى لَا يُطَالِبَ بِالْمَهْرِ وَتَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ فِيهِ وَكِيلًا مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ فِيهِ مُبَاشِرٌ تَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ وَيَسْتَغْنِي عَنْ الْإِضَافَةِ.
وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ اثْنَيْنِ وَالتَّمَانُعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْحُقُوقِ لَا فِي نَفْسِ التَّلَفُّظِ، فَاَلَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ لَا امْتِنَاعَ فِيهِ، وَاَلَّذِي فِيهِ الِامْتِنَاعُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ، وَلِلِانْتِقَالِ لِكَوْنِهِ مُعَبِّرًا بِعِبَارَةِ الْغَيْرِ يَكُونُ ذَلِكَ الْعَقْدُ قَامَ بِأَرْبَعَةٍ الِاثْنَيْنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا وَالشَّاهِدَيْنِ عَلَى مَا هُوَ فِي الْأَثَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ الْأَبُ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَ ابْنِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ اشْتَرَاهُ وَلَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ صَحَّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا عَلَى التَّشْبِيهِ وَإِلَّا فَبَيْعُ الْأَبِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ بَلْ الْوِلَايَةِ وَالْأَصَالَةِ. ثُمَّ إذَا تَوَلَّى طَرَفَيْهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ فَقَوْلُهُ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ نَفْسِي يَتَضَمَّنُ الشَّطْرَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ بَعْدَهُ، وَكَذَا وَلِيُّ الصَّغِيرَيْنِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ، وَالْوَكِيلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَقُولُ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ: هَذَا إذَا ذَكَرَ لَفْظًا هُوَ أَصِيلٌ فِيهِ، أَمَّا إذَا ذَكَرَ لَفْظًا هُوَ نَائِبٌ فِيهِ فَلَا يَكْفِي، فَإِنْ قَالَ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ كَفَى، وَإِنْ قَالَ زَوَّجْتهَا مِنْ نَفْسِي لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِيهِ. وَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا صَرِيحَةٌ فِي نَفْيِ هَذَا الِاشْتِرَاطِ، وَصَرَّحَ بِنَفْيِهِ فِي التَّجْنِيسِ أَيْضًا فِي عَلَامَةِ غَرِيبِ الرِّوَايَةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَالَ: رَجُلٌ زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ فَقَالَ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ يَكْفِي وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُولَ قَبِلْت، وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ إذَا أَتَى بِأَحَدِ شَطْرَيْ الْإِيجَابِ يَكْفِيهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الشَّطْرِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَقَعُ دَلِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
(قَوْلُهُ فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ) كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا (صَدَرَ مِنْ الْفُضُولِيِّ وَلَهُ مُجِيزٌ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ) فَإِذَا أَجَازَ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ ثَبَتَ حُكْمُهُ مُسْتَنِدًا إلَى الْعَقْدِ. فَسَّرَ الْمُجِيزَ فِي النِّهَايَةِ بِقَابِلٍ
لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِحُكْمِهِ، وَالْفُضُولِيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فَيَلْغُو. وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي انْعِقَادِهِ
يَقْبَلُ الْإِيجَابَ سَوَاءٌ كَانَ فُضُولِيًّا أَوْ وَكِيلًا أَوْ أَصِيلًا. وَقَالَ فِي فَصْلِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ مِنْ النِّهَايَةِ: الْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعُقُودَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ إذَا كَانَ لَهَا مُجِيزٌ حَالَةَ الْعَقْدِ جَازَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَبْطُلُ. وَالشِّرَاءُ إذَا وُجِدَ نَفَاذًا نَفَذَ عَلَى الْعَاقِدِ وَإِلَّا تَوَقَّفَ. بَيَانُهُ: الصَّبِيُّ إذَا بَاعَ مَالَهُ أَوْ اشْتَرَى أَوْ تَزَوَّجَ أَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ أَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ أَوْ نَحْوَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ، فَلَوْ بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ فَأَجَازَ بِنَفْسِهِ نَفَذَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَوَقِّفَةً وَلَا يَنْفُذُ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِ، وَلَوْ طَلَّقَ الصَّبِيُّ امْرَأَتَهُ أَوْ خَلَعَهَا أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ دُونَهُ أَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ أَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ أَوْ بَاعَ مَالَهُ مُحَابَاةً فَاحِشَةً أَوْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ مَالًا يَتَغَابَنُ فِيهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ وَلِيُّهُ لَا يَنْفُذُ كَانَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ بَاطِلَةً غَيْرَ مُتَوَقِّفَةٍ، وَلَوْ أَجَازَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ لِعَدَمِ الْمُجِيزِ وَقْتَ الْعَقْدِ إلَّا إذَا كَانَ لَفْظُ الْإِجَازَةِ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ كَأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ أَوْقَعْت ذَلِكَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ اهـ.
وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُجِيزُ هُنَا بِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى إمْضَاءِ الْعَقْدِ لَا بِالْقَابِلِ مُطْلَقًا وَلَا بِالْوَلِيِّ. إذْ لَا تَوَقُّفَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَإِنْ قَبِلَ فُضُولِيٌّ آخَرُ أَوْ وَلِيٌّ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْوَلِيِّ عَلَى إمْضَائِهَا، وَلَوْ أَرَادَ هُنَا بِالْمُجِيزِ الْمُخَاطَبَ مُطْلَقًا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَلَهُ مُجِيزٌ وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى إنْفَاذِهِ لِيَصِحَّ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فُضُولِيٌّ، وَلَوْ قَبِلَ عَقْدَهُ آخَرُ لَا يَتَوَقَّفُ لِعَدَمِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إنْفَاذِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْعَقْدُ شَامِلًا لِلْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى مُخَاطَبٍ بَلْ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةُ إمْضَائِهِ فَقَطْ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ أَجْنَبِيٌّ لِامْرَأَةِ رَجُلٍ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ مَثَلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ، فَإِنْ أَجَازَ تَعَلَّقَ فَتَطْلُقُ بِالدُّخُولِ، وَلَوْ دَخَلَتْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا تَطْلُقُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، فَإِنْ عَادَتْ وَدَخَلَتْ بَعْدَهَا طَلُقَتْ، كَذَا فِي الْجَامِعِ.
وَفِي الْمُنْتَقَى، إذَا دَخَلَتْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَقَالَ الزَّوْجُ أَجَزْت الطَّلَاقَ عَلَيَّ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَوْ قَالَ أَجَزْت هَذِهِ الْيَمِينَ عَلَيَّ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى تَدْخُلَ بَعْدَ الْإِجَازَةِ. وَعُرِفَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا تَزَوَّجَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ غَيْرَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى رَأْيِ الْوَلِيِّ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُجِيزُ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةُ الْإِمْضَاءِ وَيَنْدَرِجُ الْمُخَاطَبُ فِي ذِكْرِ الْعَقْدِ مِنْ قَوْلِهِ كُلُّ عَقْدٍ يَعْقِدُهُ الْفُضُولِيُّ فَإِنَّ اسْمَ الْعَقْدِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالشَّطْرَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ وَمَا لَا مُجِيزَ لَهُ، أَيْ مَا لَيْسَ لَهُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِجَازَةِ يَبْطُلُ كَمَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَزَوَّجَهُ الْفُضُولِيُّ أَمَةً أَوْ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ خَامِسَةً أَوْ زَوْجَةً مُعْتَدَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً يَتِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ سُلْطَانٌ وَلَا قَاضٍ لَا يَتَوَقَّفُ لِعَدَمِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِمْضَاءِ حَالَةَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ لَهُ وِلَايَةُ حُكْمٍ لِيُمْكِنَ تَزْوِيجُهُ الْيَتِيمَةَ فَكَانَ
فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا. حَتَّى إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ يُنَفِّذُهُ، وَقَدْ يَتَرَاخَى حُكْمُ الْعَقْدِ عَنْ الْعَقْدِ (وَمَنْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ قَالَ آخَرُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهَا مِنْهُ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَأَجَازَتْ جَازَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَالَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ)
كَالْمَكَانِ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ لَهُ حَاكِمٌ وَلَا سُلْطَانٌ فَإِنَّهُ أَيْضًا يَتَعَذَّرُ تَزْوِيجُ الصَّغَائِرِ فِيهِ اللَّاتِي لَا عَوَاصِبَ لَهُنَّ فَوَقَعَ بَاطِلًا، حَتَّى لَوْ زَالَ الْمَانِعُ بِمَوْتِ امْرَأَتِهِ السَّابِقَةِ وَانْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمُعْتَدَّةِ فَأَجَازَ لَا يَنْفُذُ، أَمَّا إذَا كَانَ فَيَجِبُ أَنْ يَتَوَقَّفَ لِوُجُودِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِمْضَاءِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْمُكَاتَبُ إذَا تَكَفَّلَ بِمَالٍ ثُمَّ أُعْتِقَ حَيْثُ تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ حَتَّى يُؤْخَذَ فِيهَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهَا، وَكَذَا إذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ أَجَازَ هَذِهِ الْوَكَالَةَ بَعْدَ الْعِتْقِ نَفَذَتْ الْوَكَالَةُ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ عَتَقَ فَأَجَازَ الْوَصِيَّةَ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ كَفَالَتَهُ الْتِزَامُ الْمَالِ فِي الذِّمَّةِ وَذِمَّتُهُ قَابِلَةٌ لِلِالْتِزَامِ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ بِالْإِعْتَاقِ ظَهَرَ مُوجِبُهُ.
أَمَّا التَّوْكِيلُ وَالْوَصِيَّةُ فَالْإِجَازَةُ فِيهِمَا إنْشَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا يُعْقَدَانِ بِلَفْظِ الْإِجَازَةِ، وَالْإِنْشَاءُ لَا يُسْتَدْعَى عَقْدًا سَابِقًا. وَلِذَا لَوْ قَالَ لِآخَرَ أَجَزْت أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتِي أَوْ أَنْ تُعْتِقَ عَبْدِي أَوْ أَنْ تَكُونَ وَكِيلِي أَوْ أَنْ يَكُونَ مَالِي وَصِيَّةً كَانَ تَوْكِيلًا وَوَصِيَّةً، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ لَوْ قَالَ أَجَزْت عِتْقَ عَبْدِي أَوْ أَنْ تَكُونَ فُلَانَةُ زَوْجَتِي أَوْ أَنْ يَكُونَ مَالِي لِفُلَانٍ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ.
ثُمَّ شَرَعَ يَسْتَدِلُّ عَلَى تَوَقُّفِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ فَقَالَ إنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي انْعِقَادِهِ عَلَى التَّوَقُّفِ، إنَّمَا الضَّرَرُ فِي إبْرَامِهِ بِدُونِ اخْتِيَارِ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ حَتَّى إذَا رَأَى مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ يُنْفِذُهُ وَإِلَّا يَتْرُكْهُ، فَمَا فِيهِ الضَّرَرُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الْعَقْدِ، وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَهُوَ تَوَقُّفُهُ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ ظُهُورِ وَجْهِ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ لَهُ هُوَ الثَّابِتُ، فَكَانَ تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى تَحْصِيلِ غَرَضِ الْمُسْلِمِ مِنْ تَحْصِيلِ الْكُفْءِ وَالْمَهْرِ وَجَبْرِ السِّلْعَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ (وَقَدْ يَتَرَاخَى حُكْمُ الْعَقْدِ عَنْ الْعَقْدِ) كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ يَتَرَاخَى مِلْكُ الْمُشْتَرِي إلَى اخْتِيَارِ الْبَائِعِ الْبَيْعَ فَعَدَمُ تَرَتُّبِهِ فِي الْحَالِ عَلَى عَقْدِ الْفُضُولِيِّ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ عَقْدٌ يُرْجَى نَفْعُهُ وَاسْتِعْقَابُهُ حُكْمَهُ وَلَا ضَرَرَ فِي انْعِقَادِهِ مَوْقُوفًا فَوَجَبَ انْعِقَادُهُ كَذَلِكَ حَتَّى إذَا رَأَى إلَخْ، فَقَوْلُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إثْبَاتِ حُكْمِهِ فَيَلْغُو مَمْنُوعَ الْمُلَازَمَةِ بَلْ إذَا أَيِسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مِمَّا يُمْنَعُ، وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ إنْ أُرِيدَ أَهْلُ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُ، وَإِنْ أُرِيدَ هَذَا الْعَقْدُ الَّذِي هُوَ فِيهِ فُضُولِيٌّ فَمَمْنُوعٌ بَلْ أَهْلُهُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إثْبَاتِ حُكْمِهِ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ) يَعْنِي الْغَائِبَةَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ سَابِقٍ مِنْهَا لَهُ (فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ قَالَ آخَرُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهَا مِنْهُ فَقَبِلَ آخَرُ فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ جَازَ) وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ لَمْ يَجُزْ (وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَالَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ) يَعْنِي يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا إذَا قَالَتْ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْت فُلَانًا: يَعْنِي الْغَائِبَ مِنْ
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا غَائِبًا فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ جَازَ.
وَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ فُضُولِيًّا مِنْ جَانِبٍ وَأَصِيلًا مِنْ جَانِبٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ.
غَيْرِ إذْنٍ سَابِقٍ لَهَا مِنْهُ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ، وَإِنْ قَالَ آخَرُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهُ مِنْهَا فَقَبِلَ آخَرُ عَنْ الْغَائِبِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ عَنْ الْغَائِبِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ أَجَازَ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) يَعْنِي هَذَا التَّفْصِيلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِمَا يَجُوزُ إذَا أَجَازَ الْغَائِبُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ.
وَبَقِيَتْ صُورَةٌ ثَالِثَةٌ هِيَ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ فَيَكُونُ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ إنْ قَبِلَ مِنْهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ تَوَقَّفَ اتِّفَاقًا وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ فَتَحْصُلُ سِتُّ صُوَرٍ: ثَلَاثٌ اتِّفَاقِيَّةٌ وَهِيَ قَوْلُ الرَّجُلِ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ أَوْ الْمَرْأَةِ تَزَوَّجْت فُلَانًا أَوْ الْفُضُولِيِّ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَقَبِلَ آخَرُ فِيهَا، وَثَلَاثٌ خِلَافِيَّةٌ هِيَ هَذِهِ إذَا لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُ الْخِلَافِ إلَخْ: يَعْنِي أَصْلَ هَذَا الْخِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ فُضُولِيًّا مِنْ جَانِبٍ أَصِيلًا مِنْ جَانِبٍ أَوْ وَكِيلًا أَوْ وَلِيًّا.
وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ. أَمَّا إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ بِالِاتِّفَاقِ، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَالْحَوَاشِي، وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْقَيْدِ فِي كَلَامِ أَصْحَابِ الْمَذْهَبِ، بَلْ كَلَامُ مُحَمَّدٍ عَلَى مَا فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ الَّذِي جَمَعَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ مُطْلَقٌ عَنْهُ، وَأَصْلُ الْمَبْسُوطِ خَالٍ عَنْهُ.
قَالَ: وَيَجُوزُ لِلْوَاحِدِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ الشُّهُودِ عَلَى اثْنَيْنِ إذَا كَانَ وَلِيًّا لَهُمَا أَوْ وَكِيلًا عَنْهُمَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا وَلَا وَكِيلًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْشَأَ مَا نُقِلَ مِنْ الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ أَصْلَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ شَطْرَ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَقَالَ آخِرًا: لَا يَتَوَقَّفُ، فَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ الْفُضُولِيَّ لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ بِأَنْ قَالَ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَقَبِلْت عَنْهُ تَوَقَّفَ بِالِاتِّفَاقِ: يَعْنِي؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عَقْدٌ لَا شَطْرٌ، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَقَيَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْهِدَايَةِ وَالْحَقُّ الْإِطْلَاقُ، وَبِتَكَلُّمِهِ بِكَلَامَيْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَقَوْلُهُ فِي الْهِدَايَةِ فِي وَجْهِ قَوْلِهِمَا وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ عَدَمَ تَوَقُّفِ الشَّطْرِ اتِّفَاقِيٌّ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ لَا يَقَعُ إلَّا بِمُتَّفَقٍ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ فَيُخَالِفُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْبَيْعِ أَوْ النِّكَاحِ فَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ بَطَلَ وَهَذَا مَعْنَى الِاتِّفَاقِ،
وَلَوْ جَرَى الْعَقْدُ بَيْنَ الْفُضُولِيَّيْنِ أَوْ بَيْنَ الْفُضُولِيِّ وَالْأَصِيلِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ. هُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَنْفُذُ، فَإِذَا كَانَ فُضُولِيًّا يَتَوَقَّفُ وَصَارَ كَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ شَطْرُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ شَطْرٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ فَكَذَا عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ كَلَامُهُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَمَا جَرَى بَيْنَ الْفُضُولِيَّيْنِ عَقْدٌ تَامٌّ، وَكَذَا الْخُلْعُ وَأُخْتَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ مِنْ جَانِبِهِ حَتَّى يَلْزَمَ فَيَتِمَّ بِهِ
عَلَى أَنَّ شَطْرَ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ وَإِلَّا لَجَازَ أَنْ يَقْبَلَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَيُتِمَّ النِّكَاحَ وَالْبَيْعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْحَقُّ أَنَّ مَبْنَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْفُضُولِيِّ عَقْدٌ تَامٌّ أَوْ شَطْرُهُ؛ فَعِنْدَهُمَا شَطْرٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ وَعِنْدَهُ تَمَامٌ فَيَتَوَقَّفُ وَعَلَى هَذَا تَقَرَّرَ الدَّلِيلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
(قَوْلُهُ هُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ نَفَذَ اتِّفَاقًا) وَهُوَ فَرْعُ اعْتِبَارِ الصَّادِرِ مِنْهُ عَقْدًا تَامًّا وَهُوَ فَرْعُ قِيَامِ كَلَامِهِ مَقَامَ كَلَامَيْنِ، فَإِذَا كَانَ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَتَوَقَّفُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَارِقَ إلَّا وُجُودُ الْإِذْنِ وَعَدَمُهُ، وَأَثَرُهُ لَيْسَ إلَّا فِي النَّفَاذِ فَيَبْقَى مَا سِوَى النَّفَاذِ مِنْ كَوْنِهِ عَقْدًا تَامًّا فَيَتَوَقَّفُ.
وَحَاصِلُهُ قِيَاسُ صُورَةِ عَدَمِ الْإِذْنِ عَلَى صُورَةِ الْإِذْنِ فِي كَوْنِهِ عَقْدًا تَامًّا وَيَثْبُتُ بِثُبُوتِهِ لَازِمُهُ وَهُوَ التَّوَقُّفُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ. وَقَوْلُهُ (وَصَارَ كَالْخُلْعِ) يَعْنِي مِنْ جَانِبِهِ (وَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ) قِيَاسٌ عَلَى صُوَرٍ أُخَرَ هِيَ مَا إذَا قَالَ خَلَعْت امْرَأَتِي أَوْ طَلَّقْتهَا عَلَى أَلْفٍ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَأَجَازَتْ جَازَ، وَكَذَا أَعْتَقْت عَبْدِي عَلَى أَلْفٍ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ جَازَ كَالْأُولَى.
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَائِمَ بِهِ شَطْرُ الْعَقْدِ وَشَطْرُهُ لَا يَتَوَقَّفُ، أَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهُ شَطْرٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ: أَيْ خِطَابُ الْحَاضِرِ وَقَبُولُهُ، فَكَذَا حَالَةُ الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بِحَالٍ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ حَالَةَ الْغَيْبَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ صَيْرُورَتَهُ عَقْدًا تَامًّا؛ لِأَنَّ كَوْنَ كَلَامَيْ الْوَاحِدِ عَقْدًا تَامًّا هُوَ أَثَرُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ طَرَفٍ وَلَهُ وِلَايَةُ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اثْنَيْنِ يَتَبَادَلَانِ بَدَلَيْنِ، وَكَلَامُ الْوَاحِدِ
(وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ اثْنَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَمْ تَلْزَمْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا)؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى تَنْفِيذِهِمَا لِلْمُخَالَفَةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ فِي إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ لِلْجَهَالَةِ وَلَا إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ
لَيْسَ كَلَامَ اثْنَيْنِ إلَّا حُكْمًا لِإِذْنِهِمَا لَهُ أَوْ وِلَايَةً لَهُ، وَلَا إذْنَ لِلْفُضُولِيِّ فَلَا عَقْدَ تَامَّ يَقُومُ بِهِ، فَتَضَمَّنَ هَذَا التَّقْرِيرُ مَنْعَ كَوْنِ الْإِذْنِ لَيْسَ أَثَرُهُ إلَّا فِي النَّفَاذِ بَلْ تَأْثِيرُهُ فِي النَّفَاذِ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرَهُ فِي كَوْنِهِ عَقْدًا تَامًّا، وَفِي كَوْنِ كَلَامِهِ كَكَلَامَيْنِ لِتَوَقُّفِ النَّفَاذِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ سَلِمَ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِيهِمَا لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ كَلَامِ الْفُضُولِيِّ عَقْدًا تَامًّا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ عَقْدًا تَامًّا لَازِمٌ شَرْعِيٌّ مُسَاوٍ لِلنَّفَاذِ وَلَا إذْنَ لِلْفُضُولِيِّ فَانْتَفَى حُكْمُهُ بِلَازِمِهِ الْمُسَاوِي، بِخِلَافِ الْخُلْعِ وَأُخْتَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ بِقَبُولِهِمَا الْمَالَ فَيَتِمُّ بِهِ إذْ لَيْسَ عَقْدًا حَقِيقِيًّا، وَلِذَا لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُخَالِعَةُ بِأَنْ قَالَتْ خَالَعْت زَوْجِي عَلَى أَلْفٍ لَمْ يَتَوَقَّفْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِهَا مُبَادَلَةٌ.
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعْلِيقًا لَمَا بَطَلَ لَوْ قَالَ طَلَّقْتُك بِكَذَا فَقَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ لَكِنَّهُ يَبْطُلُ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَقْبَلَ بَعْدَهُ.
أُجِيبَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ تَعْلِيقًا أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْقِيَامِ بَلْ مِنْ التَّعْلِيقَاتِ مَا يَبْطُلُ بِهِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت يُقْتَصَرُ عَلَى وُجُودِ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَهَذَا مِثْلُهُ.
[فُرُوعٌ]
لِلْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ أَنْ يَفْسَخَهُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، حَتَّى لَوْ أَجَازَ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ قَاسَهُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَيُفَرَّقُ بِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ تَرْجِعُ إلَى الْفُضُولِيِّ بَعْدَ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْوَكِيلِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ. هَذَا وَتَثْبُتُ الْإِجَازَةُ بِأَجَزْتُ وَنَحْوِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا بِقَوْلِهِ نِعْمَ مَا صَنَعْت وَبَارَكَ اللَّهُ لَنَا وَأَحْسَنْت وَأَصَبْت عَلَى الْمُخْتَارِ، وَاحْتِمَالُهُ الِاسْتِهْزَاءَ لَا يَنْفِي ظُهُورَهُ فِي الْإِجَازَةِ، وَكَذَا هَذَا فِي طَلَاقِ الْفُضُولِيِّ وَبَيْعِهِ، وَكَذَا إذَا هَنَّأَهُ فَقَبِلَ التَّهْنِئَةَ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا، وَكَذَا إذَا قَالَ طَلِّقْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقْهَا لِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّ تَمَرُّدَهُ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْمُتَارَكَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ.
وَلَوْ زَوَّجَهُ الْفُضُولِيُّ أَرْبَعًا فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ فَرِيقٍ كَانَ إجَازَةً لِنِكَاحِ ذَلِكَ الْفَرِيقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الصَّحِيحَ فَرْعُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلِّقْنِي يَكُونُ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا لَمْ يُظَنَّ كَوْنُهَا كَذِبًا وَتَمَرُّدًا لِيَكُونَ ظَاهِرًا فِي الْمُتَارَكَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاشَرَهُ الْعَبْدُ بِلَا إذْنِ سَيِّدِهِ.
وَقَوْلُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ " مَال أُنِيسَتْ " إجَازَةٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو اللَّيْثِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِجَازَةِ ظَاهِرًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ، وَقَبُولُ الْمَهْرِ إجَازَةٌ، وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ لَيْسَ بِإِجَازَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ سَلَامَتُهُ عَلَى النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ ثِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَمْ تَلْزَمْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا) هَذَا شُرُوعٌ فِي مَسَائِلِ الْوَكِيلِ، وَلَا تُشْتَرَطُ
فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ
(وَمَنْ أَمَرَهُ أَمِيرٌ بِأَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ التُّهْمَةِ (وَقَالَا: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُزَوِّجَهُ كُفْئًا)؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَتَصَرَّفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ
الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ بَلْ عَلَى عَقْدِ الْوَكِيلِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْوَكَالَةِ إذَا خِيفَ جَحْدُ الْمُوَكِّلِ إيَّاهَا.
وَقَوْلُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا: يَعْنِي إذَا لَمْ يُعَيِّنْهَا لِلْوَكِيلِ، وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بِالتَّنْكِيرِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا إذَا عَايَنَهَا فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا مَعَ أُخْرَى فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ نَفَذَ فِي الْمُعَيَّنَةِ، وَلَوْ زَوَّجَهُ إيَّاهُمَا فِي عُقْدَتَيْنِ لَزِمَتْهُ الْأُولَى وَتَتَوَقَّفُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهُ فُضُولِيٌّ فِيهِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِثِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ فَزَوَّجَهُ وَاحِدَةً جَازَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبَيْنِ فِي صَفْقَةٍ لَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ فِي الْبَيْعِ مَظِنَّةُ الرُّخْصِ فَاعْتُبِرَ تَقْيِيدُهُ، وَلَيْسَ فِي النِّكَاحِ كَذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ إلَّا إنْ قَالَ: لَا تُزَوِّجْنِي إلَّا امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ أَفَادَ وَجْهَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَلَا وَجْهَ إلَى تَنْفِيذِهِمَا لِلْمُخَالَفَةِ وَلَا إلَى تَنْفِيذِ إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ لِلْجَهَالَةِ وَلَا إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلدَّعْوَى؛ لِأَنَّهَا عَدَمُ لُزُومِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا لُزُومِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يُسَاوِيهَا إذْ لَهُ أَنْ يُجِيزَ نِكَاحَهَا أَوْ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا، وَلَا هُوَ لَازِمٌ مِمَّا ذَكَرَهُ، بَلْ اللَّازِمُ عَدَمُ إمْكَانِ تَنْفِيذِهِمَا إحْدَاهُمَا مُبْهَمَةٌ وَمُعَيَّنَةٌ فَانْتَفَى اللُّزُومُ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَصِحُّ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا وَالْبَيَانُ إلَى الزَّوْجِ، ثُمَّ رَجَعَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ.
إذَا وَقَعَ التَّعْلِيلُ بِالْمُخَالَفَةِ لِعَدَمِ النَّفَاذِ فَلْنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ فُرُوعِهِ، فَالْوَكِيلُ إذَا خَالَفَ إلَى خَيْرٍ لَوْ كَانَ خِلَافُهُ كَلَا خِلَافٍ نَفَذَ عَقْدُهُ، وَلَيْسَ مِنْهُ مَا إذَا أَمَرَهُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَزَوَّجَهُ صَحِيحًا، بَلْ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ نِكَاحًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ حُكْمَهُ وَهُوَ الْمِلْكُ.
وَأَمَّا الْعِدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ بَلْ لِلْفِعْلِ إذَا لَمْ يَتَمَحَّضْ زِنًا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ بَيْعٌ يُفِيدُ حُكْمَهُ مِنْ الْمِلْكِ فَكَانَ الْخِلَافُ فِيهِ إلَى الْبَيْعِ الصَّحِيحِ خِلَافًا إلَى خَيْرٍ فَيَلْزَمُ، وَلَيْسَ مِنْهُ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ فَلَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ حَتَّى زَادَهَا الْوَكِيلُ ثَوْبًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ، وَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى ضَرَرٍ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَوْ اُسْتُحِقَّ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ لَا الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُتَبَرِّعٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، وَلَا يَكُونُ الدُّخُولُ بِهَا رِضًا بِمَا صَنَعَ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَإِنْ فَارَقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالدُّخُولُ فِيهِ يُوجِبُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَهُ بِعَمْيَاءَ فَزَوَّجَهُ بَصِيرَةً جَازَ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِبَيْضَاءَ فَزَوَّجَهُ سَوْدَاءَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ أَوْ مِنْ قَبِيلَةٍ فَزَوَّجَهُ مِنْ أُخْرَى أَوْ بِأَمَةٍ فَزَوَّجَهُ حُرَّةً لَا يَجُوزُ، وَلَوْ زَوَّجَهُ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ جَازَ
. (قَوْلُهُ وَمَنْ أَمَرَهُ أَمِيرٌ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ أَمَةَ غَيْرِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُزَوِّجَهُ كُفْئًا)
وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِالْأَكْفَاءِ. قُلْنَا الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ أَوْ هُوَ عُرْفٌ عَمَلِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا. وَذَكَرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي هَذَا اسْتِحْسَانٌ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ التَّزَوُّجِ بِمُطْلَقِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ الِاسْتِعَانَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِالْكُفْءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالتَّقْيِيدُ بِالْأَمِيرِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِيُعْلَمَ ذَلِكَ فِيمَنْ دُونَهُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى. فَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَمَرَهُ غَيْرُهُ بِتَزْوِيجِهِ فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً لَا تُكَافِئُهُ وَلَا تُهْمَةَ، وَلَوْ زَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ أَوْ عَمْيَاءَ أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ مَفْلُوجَةً أَوْ مَجْنُونَةً جَازَ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ زَوَّجَهُ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا جَازَ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُ خِلَافًا لَهُمَا. وَلَوْ زَوَّجَ وَكِيلُ الْمَرْأَةِ غَيْرَ كُفْءٍ، قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمَرْأَةَ تُعَيَّرُ بِغَيْرِ الْكُفْءِ فَيَتَقَيَّدُ إطْلَاقُهَا بِهِ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لَا يُعَيِّرُهُ أَحَدٌ بِعَدَمِ كَفَاءَتِهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَفْرِشٌ وَاطِئٌ لَا يَغِيظُهُ دَنَاءَةُ الْفِرَاشِ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ أَمَةً لِلْوَكِيلِ فَلَا يَجُوزُ لِلتُّهْمَةِ، وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَ امْرَأَةً فَزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا أَوْ وَكَّلَتْ رَجُلًا فَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا إذَا زَوَّجَ وَكِيلُ الرَّجُلِ بِنْتَهُ وَلَدَهُ أَوْ بِنْتَ أَخِيهِ وَهُوَ وَلِيُّهَا لَا يَجُوزُ لِلتُّهْمَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَهُوَ التَّزْوِيجُ بِالْأَكْفَاءِ (قُلْنَا الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ) أَيْ الْوَاقِعُ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ تَزْوِيجُهُمْ بِالْمُكَافِئَاتِ وَغَيْرِ الْمُكَافِئَاتِ فَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِتَزْوِيجِ الْمُكَافِئَاتِ لِيَنْصَرِفَ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ (أَوْ هُوَ عُرْفٌ عَمَلِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ مُقَيِّدًا) لِلَّفْظِ إذْ اللَّفْظُ الْمُقَيَّدُ عِبَارَةٌ عَنْ لَفْظٍ ضُمَّ إلَيْهِ لَفْظٌ يُقَيِّدُهُ، وَلَا يُخْفَى مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ. وَقَوْلُهُمْ فِي الْأُصُولِ الْحَقِيقَةُ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ يَنْفِيهِ، إذْ لَيْسَتْ الْعَادَةُ إلَّا عُرْفًا عَمَلِيًّا، فَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ. قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: قَوْلُهُمَا أَحْسَنُ لِلْفَتْوَى وَاخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي سُكُوتِ الشَّيْخِ عَقِيبَ قَوْلِهِ (وَذَكَرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي هَذَا اسْتِحْسَانٌ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ التَّزَوُّجِ بِمُطْلَقِ الزَّوْجَةِ فَكَانَتْ الِاسْتِعَانَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِالْمُكَافِئَةِ)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إشَارَةً إلَى اخْتِيَارِهِ قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا فِي الْمَسَائِلِ الْمَعْلُومَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ الْمَنْصُوصِ فَكَانَ النَّظَرُ فِي أَيِّ الِاسْتِحْسَانَيْنِ أَوْلَى. وَفِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ الْمَذْكُورِ دَفْعٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَهُمَا فِي النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ؛ إذَا ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُمَا لَيْسَ بِنَاءً عَلَيْهِ بَلْ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ لَا تُقْصَدُ إلَّا لِتَحْصِيلِ الْمُنَاسِبِ لَا فِيمَا صَدَقَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الِاسْمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. هَذَا وَالْوَكِيلُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا يَمْلِكُهُ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ إجْمَاعًا، وَالْفَاحِشِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا. وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشِّرَاءِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْوَكِيلِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ اتِّفَاقًا أَنَّ التُّهْمَةَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ مُنْتَفِيَةٌ بِسَبَبِ عَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى مُوَكِّلِهِ فَيَجُوزُ مِنْهُ بِالْغَبْنِ الْكَثِيرِ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْهُ فَتَمَكَّنَتْ تُهْمَةٌ أَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَوَجَدَهُ خَاسِرًا فَجَعَلَهُ لِمُوَكِّلِهِ، وَمَعْنَى لَا يَجُوزُ هُنَا لَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ، وَكَذَا إنْ سَمَّى لِلْوَكِيلِ أَلْفًا مَثَلًا فَزَوَّجَهُ بِأَكْثَرَ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ قَبْلَهُ ثُمَّ عَلِمَ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الدُّخُولَ لَيْسَ رِضًا؛ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يُخَالِفْ إذْ لَمْ يَعْلَمْ بِخِلَافِهِ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمَ فَدَخَلَ بِهَا. فَإِنْ فَارَقَهَا فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ أَوْ الرَّسُولُ ضَمِنَ الْمَهْرَ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ رَدَّ الزَّوْجُ النِّكَاحَ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ لَزِمَ الْوَكِيلَ أَوْ الرَّسُولَ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ النِّكَاحَ وَيَغْرَمَ هُوَ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَثِلْ صَارَ فُضُولِيًّا، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُوَكِّلَةَ وَسَمَّتْ أَلْفًا مَثَلًا فَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ ثُمَّ قَالَ الزَّوْجُ وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ تَزَوَّجْتُك بِدِينَارٍ وَصَدَّقَهُ الْوَكِيلُ إنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُوَكِّلْهُ بِدِينَارٍ فَهِيَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَتْ أَجَازَتْ النِّكَاحَ بِدِينَارٍ وَإِنْ شَاءَتْ رَدَّتْهُ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا رَدَّتْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ فَيُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَذَّبَهَا الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا.
فَإِنْ رَدَّتْ فَبَاقِي الْجَوَابِ بِحَالِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي التَّجْنِيسِ: يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا وَقَدْ حَصَلَ لَهَا مِنْهُ أَوْلَادٌ ثُمَّ تُنْكِرُ الْمَرْأَةُ قَدْرَ مَا زَوَّجَهَا بِهِ الْوَكِيلُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فَتَرُدُّ النِّكَاحَ، وَكَذَا هَذَا فِي سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بَالِغَةً، وَهَذَا مَا ذُكِرَ فِي الرَّسُولِ مِنْ مَسَائِلِ أَصْلِ الْمَبْسُوطِ قَالَ: إذَا أَرْسَلَ إلَى الْمَرْأَةِ رَسُولًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَهُوَ سَوَاءٌ إذَا بَلَغَ الرِّسَالَةَ فَقَالَ إنَّ فُلَانًا يَسْأَلُك أَنْ تُزَوِّجِيهِ نَفْسَك فَأَشْهَدَتْ أَنَّهَا زَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا وَسَمِعَ الشُّهُودُ كَلَامَهَا وَكَلَامَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرِّسَالَةِ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَانَ الْآخَرُ فُضُولِيًّا وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِصُنْعِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي الْوَكِيلِ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرَّسُولِ فُرُوعًا كُلُّهَا تَجْرِي فِي الْوَكِيلِ لَا بَأْسَ بِذِكْرِهَا لِفَوَائِدِهَا. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ زَوَّجَهَا وَضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ وَقَالَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَلِكَ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ لِلزَّوْجِ إنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، وَالضَّمَانُ لَازِمٌ لِلرَّسُولِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ، فَإِنْ جَحَدَ وَلَا بَيِّنَةَ بِالْأَمْرِ فَلَا نِكَاحَ وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّسُولِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ لَزِمَهُ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ قَالَ: وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: عَلَى الْوَكِيلِ الْمَهْرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ جُحُودَ الزَّوْجِ لَيْسَ بِفُرْقَةٍ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنْ لَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْوَكِيلِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَقِيلَ إنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلَ، وَهُنَاكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُ، فَنَفَذَ بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ
بَابُ الْمَهْرِ
(وَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ فِيهِ مَهْرًا)؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ انْضِمَامٍ وَازْدِوَاجٍ لُغَةً فَيَتِمُّ بِالزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ الْمَهْرُ وَاجِبٌ شَرْعًا إبَانَةً لِشَرَفِ الْمَحَلِّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ،
وَسَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله: لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا فَيَبْقَى جَمِيعُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ فَيَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ، وَقِيلَ بَلْ فِيهِ رِوَايَتَانِ: وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ مُنْكِرٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ، وَإِنْكَارُهُ لِلنِّكَاحِ لَيْسَ طَلَاقًا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ بِزَعْمِ الْكَفِيلِ وَوَجْهُ.
هَذِهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ نِصْفِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يَكْسِبُهُ فَيُجْعَلُ مُسْقِطًا فِيمَا يُمْكِنُهُ.
قَالَ: فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَالَ لَمْ يَأْمُرْنِي وَلَكِنِّي أُزَوِّجُهُ وَأَضْمَنُ عَنْهُ الْمَهْرَ فَفَعَلَ ثُمَّ أَجَازَ الزَّوْجُ ذَلِكَ جَازَ وَلَزِمَ الزَّوْجَ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّسُولِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ قَدْ انْتَفَى بِرَدِّهِ، وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْمَهْرِ)
الْمَهْرُ حُكْمُ الْعَقْدِ فَيَتَعَقَّبُهُ فِي الْوُجُودِ فَعَقَّبَهُ إيَّاهُ فِي الْبَيَانِ لِيُحَاذِيَ بِتَحْقِيقِهِ الْوُجُودِيِّ تَحْقِيقَهُ التَّعْلِيمِيَّ (قَوْلُهُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ فِيهِ مَهْرًا) لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ (لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ انْضِمَامٍ) يَعْنِي لَيْسَ مَأْخُوذًا فِي مَفْهُومِهِ الْمَالُ جُزْءًا فَيَتِمُّ بِدُونِهِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ عَقْدٌ لَا يَسْتَلْزِمُهُ إلَّا إذَا لَمْ يُثْبِتْ فِي مَفْهُومِهِ زِيَادَةَ شُرُوطٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ إذْ قَدْ ثَبَتَ زِيَادَةُ عَدَمِ الْمَحْرَمِيَّةِ وَنَحْوِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ شَرْعًا عَلَى الدَّعْوَى، وَيُرَدُّ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمَهْرَ أَيْضًا وَاجِبٌ شَرْعًا فِيهِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ وَجَبَ شَرْعًا حُكْمًا لَهُ حَيْثُ أَفَادَهُ بِقَوْلِهِ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ) إذَا لَمْ يُسَمِّ إبَانَةً لِشَرَفِ الْمَحَلِّ.
أَمَّا أَنَّهُ وَجَبَ شَرْعًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فَقَيَّدَ الْإِحْلَالَ بِهِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ حُكْمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} فَإِنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْفَرْضِ فَرْعُ صِحَّةِ النِّكَاحِ قَبْلَهُ فَكَانَ وَاجِبًا لَيْسَ مُتَقَدِّمًا وَهُوَ الْحُكْمُ، وَأَمَّا أَنَّهُ إبَانَةٌ لِشَرَفِهِ فَلِعَقْلِيَّةِ ذَلِكَ إذْ لَمْ يَشْرَعْ
وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ
(وَأَقَلُّ الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهَا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَيْهَا وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ»
بَدَلًا كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَإِلَّا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ تَسْمِيَتِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبَدَلَ النَّفَقَةُ وَهَذَا لِإِظْهَارِ خَطَرِهِ فَلَا يُسْتَهَانُ بِهِ، وَإِذَنْ فَقَدْ تَأَكَّدَ شَرْعًا بِإِظْهَارِ شَرَفِهِ مَرَّةً بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ وَمَرَّةً بِإِلْزَامِ الْمَهْرِ فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْمَهْرَ حُكْمُ الْعَقْدِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ التَّنْصِيصُ عَلَى حُكْمِهِ، كَالْمِلْكِ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ ذِكْرُهُ ثُمَّ يَثْبُتُ هُوَ كَذَلِكَ فَيَثْبُتُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ لَهَا (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا) أَيْ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ (وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ) وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَالْمَهْرِ كَالثَّمَنِ وَالْبَيْعِ بِشَرْطٍ أَنْ لَا ثَمَنَ لَا يَصِحُّ. فَكَذَا النِّكَاحُ بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَفْسُدَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ السَّابِقِ ثُمَّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوِّضَةِ وَسَنَذْكُرُهُ.
قُلْنَا: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ اُعْتُبِرَ حُكْمًا شَرْعًا، وَإِلَّا لَمَا تَمَّ بِدُونِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ إذْ لَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ بِلَا رُكْنِهِ وَشَرْطِهِ، فَحَيْثُ كَانَ وَاجِبًا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ الْوُجُودُ كَانَ حُكْمًا، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حُكْمًا كَانَ شَرْطُ عَدَمِهِ شَرْطًا فَاسِدًا، وَبِهِ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ رُكْنُهُ فَلَا يَتِمُّ دُونَ رُكْنِهِ، وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ بِعْت بِكَذَا لَا مُجَرَّدَ قَوْلِهِ بِعْت.
هَذَا وَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُسَمَّى فِي كَوْنِهِ دَيْنًا، فَإِنْ هَلَكَ وَبِهِ وَفَاءٌ كَانَتْ مُسْتَوْفِيَةً، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَهَا أَنْ تَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْمُتْعَةِ. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ قَائِمًا وَقْتَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَهُ بِالْمُتْعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَهَا حَبْسُهُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا خَلْفُهُ، وَالرَّهْنُ بِالشَّيْءِ يُحْبَسُ بِخَلْفِهِ كَالرَّهْنِ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ تَكُونُ مَحْبُوسَةً بِالْقِيمَةِ.
وَجْهُ الْآخَرِ أَنَّهَا دَيْنٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهَا ثِيَابٌ وَهِيَ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَفِيلَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ كَفِيلًا بِالْمُتْعَةِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَا إذَا هَلَكَ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ الرَّهْنَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَمَنَعَتْهُ حَتَّى هَلَكَ هَلْ تَضْمَنُ تَمَامَ قِيمَتِهِ؟ فَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا حَبَسَتْهُ بِحَقٍّ، وَفِي الْآخَرِ تَضْمَنُ تَمَامَهُ؛ لِأَنَّهَا غَاصِبَةٌ، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ مَنْعِهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ تَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً لِلْمُتْعَةِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِهَا.
(قَوْلُهُ وَأَقَلُّ الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ) فِضَّةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَسْكُوكَةً بَلْ تِبْرًا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْمَسْكُوكَةُ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ لِلْقَطْعِ تَقْلِيلًا لِوُجُودِ الْحَدِّ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ رُبْعُ دِينَارٍ، وَعِنْدَ النَّخَعِيِّ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: مَا يَجُوزُ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُ حَقُّهَا إذْ جُعِلَ بَدَلُ بُضْعِهَا وَلِذَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ إبْرَاءً وَاسْتِيفَاءً (فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَيْهَا) وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْعَشَرَةِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: «كَمْ سُقْتَ إلَيْهَا؟ قَالَ: وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَالنَّوَاةُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ ثَلَاثٌ وَثُلُثٌ، وَقِيلَ النَّوَاةُ فِيهِ نَوَاةُ التَّمْرِ.
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ مِلْءَ كَفَّيْهِ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا فَقَدْ اسْتَحَلَّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} يُوجِبُ وُجُودَ الْمَالِ مُطْلَقًا، فَالتَّعْيِينُ الْخَاصُّ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَهُ. وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْكَفَاءَةِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ فَيُحْمَلُ كُلُّ مَا أَفَادَ ظَاهِرُهُ كَوْنَهُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ الْمُعَجَّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ عِنْدَهُمْ كَانَتْ تَعْجِيلَ بَعْضِ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِهَا حَتَّى يُقَدِّمَ شَيْئًا لَهَا.
نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ تَمَسُّكًا بِمَنْعِهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا تَزَوَّجَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَمَنَعَهُ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ، فَقَالَ: أَعْطِهَا دِرْعَكَ، فَأَعْطَاهَا دِرْعَهُ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا» لَفْظُ أَبِي دَاوُد، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَاقَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ فِضَّةٌ، لَكِنَّ الْمُخْتَارَ الْجَوَازُ قَبْلَهُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُدْخِلَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَيُحْمَلُ الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ عَلَى النَّدْبِ: أَيْ نَدْبُ تَقْدِيمِ شَيْءٍ إدْخَالًا لِلْمَسَرَّةِ عَلَيْهَا
وَلِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ وُجُوبًا إظْهَارًا لِشَرَفِ الْمَحَلِّ
تَأَلُّفًا لِقَلْبِهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْهُودًا وَجَبَ حَمْلُ مَا يُخَالِفُ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَكَذَا يُحْمَلُ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم بِالْتِمَاسِ خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ عَلَى أَنَّهُ تَقْدِيمُ شَيْءٍ تَأَلُّفًا، وَلَمَّا عَجَزَ قَالَ قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ مَحْمَلُ رِوَايَةِ الصَّحِيحِ «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» فَإِنَّهُ لَا يُنَافِيهِ وَبِهِ تَجْتَمِعُ الرِّوَايَاتُ.
قِيلَ لَا تَعَارُضَ لِيَحْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ، فَإِنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِيهِ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، قُلْنَا: لَهُ شَاهِدٌ يُعَضِّدُهُ وَهُوَ مَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ وَعَامِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إلَى جَابِرٍ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ، فَلَا يُدْرَكُ إلَّا سَمَاعًا لَكِنْ فِيهِ رَوَاهُ الْأَوْدِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، وَدَاوُد هَذَا ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَالْحَقُّ أَنَّ وُجُودَ مَا يَنْفِي بِحَسَبِ الظَّاهِرِ تَقْدِيرَ الْمَهْرِ بِعَشْرَةٍ فِي السُّنَّةِ كَثِيرٌ مِنْهَا حَدِيثُ «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» وَحَدِيثُ جَابِرٍ «مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ مِلْءَ كَفَّيْهِ سَوِيقًا» الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ عَلَى نَعْلَيْنِ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَدُّوا الْعَلَائِقَ، قِيلَ وَمَا الْعَلَائِقُ؟ قَالَ: مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» وَحَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يَضُرُّ أَحَدَكُمْ بِقَلِيلِ مَالِهِ تَزَوَّجَ أَمْ بِكَثِيرِهِ بَعْدَ أَنْ يُشْهِدَ» إلَّا أَنَّهَا كُلَّهَا مُضَعَّفَةٌ مَا سِوَى حَدِيثِ " الْتَمِسْ " فَحَدِيثُ " مَنْ أَعْطَى " فِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ جِبْرِيلَ قَالَ فِي الْمِيزَانِ: لَا يُعْرَفُ وَضَعَّفَهُ الْأَوْدِيُّ وَمُسْلِمُ بْنُ رُومَانَ مَجْهُولٌ أَيْضًا. وَحَدِيثُ النَّعْلَيْنِ وَإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فَاحِشُ الْخَطَأِ فَتُرِكَ، وَحَدِيثُ الْعَلَائِقِ مَعْلُولٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ وَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِيهِ ضَعْفٌ. وَحَدِيثُ الْخُدْرِيِّ فِيهِ أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ كَذَّابًا. وَقَالَ السُّغْدِيُّ مِثْلَهُ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِ تَيْنِكَ النَّعْلَيْنِ تُسَاوِيَانِ
فَيَتَقَدَّرُ بِمَا لَهُ خَطَرٌ وَهُوَ الْعَشَرَةُ اسْتِدْلَالًا بِنِصَابِ السَّرِقَةِ (وَلَوْ سَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ فَلَهَا الْعَشَرَةُ) عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ
عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَكَوْنُ الْعَلَائِقِ يُرَادُ بِهَا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَنَحْوُهَا إلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَاحْتِمَالُ الْتَمِسْ خَاتَمًا فِي الْمُعَجَّلِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لَكِنْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ بَعْدَهُ «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» فَإِنْ حُمِلَ عَلَى تَعْلِيمِهِ إيَّاهَا مَا مَعَهُ أَوْ نَفْيِ الْمَهْرِ بِالْكُلِّيَّةِ عَارَضَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ عَدِّ الْمُحَرَّمَاتِ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} فَقَيَّدَ الْإِحْلَالَ بِالِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ، فَوَجَبَ كَوْنُ الْخَبَرِ غَيْرَ مُخَالِفٍ لَهُ وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ مَا لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ التَّوَاتُرِ وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ فِي دَلَالَتِهَا؛ لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْقَطْعِيِّ فَيَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا، فَكَيْفَ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ غَيْرَ تَمَامِ الْمَهْرِ ثَابِتٌ بِنَاءً عَلَى مَا عُهِدَ مِنْ أَنَّ لُزُومَ تَقْدِيمِ شَيْءٍ أَوْ نَدْبِهِ كَانَ وَاقِعًا فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ يَبْقَى كَوْنُ الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ إعْمَالًا لِخَبَرٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَيَسْتَلْزِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْإِحْلَالِ بِمُطْلَقِ الْمَالِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِمَالٍ مُقَدَّرٍ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اقْتَرَنَ النَّصُّ نَفْسُهُ بِمَا يُفِيدُ تَقْدِيرَهُ بِمُعَيَّنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى عَقِيبُهُ {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ثُمَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مَحْمَلٌ فَيَلْتَحِقُ بَيَانًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قُلْنَا: إنَّمَا أَفَادَ النَّصُّ مَعْلُومِيَّةَ الْمَفْرُوضِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ فِي الزَّوْجَاتِ وَالْمَمْلُوكِينَ مَا يَكْفِي كُلًّا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى فَهُوَ مُرَادٌ مِنْ الْآيَةِ قَطْعًا. وَكَوْنُ الْمَهْرِ أَيْضًا مُرَادًا بِالسِّيَاقِ؛ لِأَنَّهُ عَقِيبَ قَوْلِهِ {خَالِصَةً لَكَ} يَعْنِي نَفْيَ الْمَهْرِ خَالِصَةً لَكَ وَغَيْرِكَ {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} مِنْ ذَلِكَ فَخَالَفَ حُكْمُهُمْ حُكْمَكَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَهُ بِمُعَيَّنٍ وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ فِي تَقْدِيرِ الْمَهْرِ قِيَاسٌ حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَهْرَ حَقُّ الشَّرْعِ بِالْآيَةِ، وَسَبَبُهُ إظْهَارُ الْخَطَرِ لِلْبُضْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمُطْلَقُ الْمَالِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْخَطَرَ كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ وَكَسْرَةٍ، وَقَدْ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ تَقْدِيرُ مَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْعُضْوُ بِمَا لَهُ خَطَرٌ وَذَلِكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ فَيُقَدَّرُ بِهِ فِي اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ، وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إلَى الْمُخْتَلِفِ فِيهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُمْ لَا يُقَدِّرُونَ نِصَابَ السَّرِقَةِ بِعَشْرَةٍ، وَأَيْضًا الْمُقَدَّرُ فِي الْأَصْلِ عَشْرَةٌ مَسْكُوكَةٌ أَوْ مَا يُسَاوِيهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَهْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ سَمَّى عَشْرَةَ تِبْرٍ تُسَاوِي تِسْعَةً مَسْكُوكَةً جَازَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ اسْتِدْلَالًا عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي نَفْيِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ سَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ فَلَهَا الْعَشَرَةُ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ) قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ التَّسْمِيَةِ هَكَذَا تَسْمِيَةُ الْأَقَلِّ تَسْمِيَةٌ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَتَسْمِيَةُ مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا كَعَدَمِهَا، فَتَسْمِيَةُ الْأَقَلِّ كَعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وَعَدَمُ التَّسْمِيَةِ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَتَسْمِيَةُ الْأَقَلِّ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَقَوْلُنَا اسْتِحْسَانٌ، وَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي كَوْنِهَا صَدَاقًا لَا تَتَجَزَّأُ شَرْعًا، وَتَسْمِيَةُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَكُلِّهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ نِصْفَهَا أَوْ طَلَّقَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ حَيْثُ يَنْعَقِدُ وَيَقَعُ طَلْقَةً، فَكَذَا تَسْمِيَةُ بَعْضِ الْعَشَرَةِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ حَاصِلُهُ أَنَّ فِي الْمَهْرِ حَقَّيْنِ:
مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا كَانْعِدَامِهِ وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ صَارَ مُقْتَضِيًا بِالْعَشَرَةِ، فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّهَا فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْعَشَرَةِ لِرِضَاهَا بِمَا دُونَهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَرْضَى بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ تَكَرُّمًا، وَلَا تَرْضَى فِيهِ بِالْعِوَضِ الْيَسِيرِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا تَجِبُ خَمْسَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رحمهم الله، وَعِنْدَهُ تَجِبُ الْمُتْعَةُ كَمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا (وَمَنْ سَمَّى مَهْرًا عَشْرَةً فَمَا زَادَ
حَقُّهَا وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَحَقُّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ، وَلِلْإِنْسَانِ التَّصَرُّفُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِسْقَاطِ دُونَ حَقِّ غَيْرِهِ. فَإِذَا رَضِيَتْ بِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَقَدْ أَسْقَطَتْ مِنْ الْحَقَّيْنِ فَيُعْمَلُ فِيمَا لَهَا الْإِسْقَاطُ مِنْهُ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ دُونَ مَا لَيْسَ لَهَا وَهُوَ حَقُّ الشَّرْعِ فَيَجِبُ تَكْمِيلُ الْعَشَرَةِ قَضَاءً لِحَقِّهِ، فَإِيجَابُ الزَّائِدِ بِلَا مُوجِبٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ مُوجِبٌ لَهُ وَلَمْ يَبْطُلْ بَعْدُ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ. قُلْنَا: إبْطَالُهُ أَنَّ التَّشْبِيهَ الْمَذْكُورَ إمَّا فِي الْحُكْمِ ابْتِدَاءً بِأَنْ يَدَّعِيَ انْدِرَاجَ تَسْمِيَةِ مَا لَا يَصْلُحُ فِي عَدَمِهَا، فَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ أَعْنِي وُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ حِينَئِذٍ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ دُونَ الْقِيَاسِ وَحِينَئِذٍ يُمْنَعُ الِانْدِرَاجُ، وَإِمَّا فِي الْجَامِعِ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْجَامِعِ فِي مَحَلِّ ثُبُوتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ لِيَعْلَمَ ثُبُوتَهُ فِي الْفَرْعِ إذْ قِيَاسُ الشَّبَهِ الطَّرْدِيِّ بَاطِلٌ، وَلَا يُعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ شَيْءٍ إذْ لَا قُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَدَمِ بِوَجْهٍ وَحِينَئِذٍ تُمْنَعُ كُلِّيَّةُ الْكُبْرَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ يَخُصُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَجْهُولِ فَاحِشًا، وَإِنْ عَيَّنَهُ فَوَاتُ الْخَطَرِ الَّذِي وَجَبَ لِأَجْلِهِ الْمَهْرُ عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ.
قُلْنَا: فَيَجِبُ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَهْرُ الْمِثْلِ لِتَحَقُّقِهِ بِالْعَشَرَةِ فَالزَّائِدُ بِلَا مُوجِبٍ، وَأَمَّا إفْسَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ إلَخْ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ مَهْرًا يَكُونُ كَعَدَمِ التَّسْمِيَةِ فِي إيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ عَدَمَهَا قُصَارَاهُ أَنْ يَكُونَ لِرِضَاهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِطَلَبِهَا مَهْرَ الْمِثْلِ لِمَعْرِفَةِ أَنَّهُ حُكْمُهُ وَرِضَاهَا بِلَا مَهْرٍ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهَا بِالْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَرْضَى بِعَدَمِهِ تَكَرُّمًا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا تَرْضَى بِالْعِوَضِ الْيَسِيرِ تَرَفُّعًا فَبَعِيدٌ عَنْ الْمَبْنَى.
وَلَوْ قِيلَ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ ظَاهِرٌ فِي الْقَصْدِ إلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِ مِنْ وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَيْسَ الثَّابِتُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ظُهُورُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَتَرَكُوا التَّسْمِيَةَ رَأْسًا؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ التَّسْمِيَةِ تَكَلُّفُ أَمْرٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ قَصْدُ مَهْرِ الْمِثْلِ مَعَ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِ حُكْمِ تَسْمِيَةِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْعَشَرَةِ لَمَّا صَرَّحَتْ بِالرِّضَا بِمَا دُونَهَا فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْأَصْلِ فِيهِ لَكَانَ أَقْرَبَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَمَسَّ الْمَبْنَى. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى الْخِلَافِ فَقَالَ (وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ) أَيْ فِي صُورَةِ تَسْمِيَةِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ (فَلَهَا خَمْسَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ)؛ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَشْرَةٌ (وَعِنْدَهُ الْمُتْعَةُ) وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ يُسَاوِي
فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا)؛ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ وَبِهِ يَتَأَكَّدُ الْبَدَلُ، وَبِالْمَوْتِ يَنْتَهِي النِّكَاحُ نِهَايَتَهُ، وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ وَيَتَأَكَّدُ فَيَتَقَرَّرُ بِجَمِيعِ مَوَاجِبِهِ (وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَالْخَلْوَةِ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الْآيَة
خَمْسَةً فَلَهَا الثَّوْبُ وَخَمْسَةٌ خِلَافًا لَهُ.
وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الثَّوْبِ وَدِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَعِنْدَهُ الْمُتْعَةُ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الثَّوْبِ يَوْمَ التَّزَوُّجِ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ سَمَّى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمَهْرِ وَاعْتِبَارَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فِي الثَّوْبِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَفِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالثَّوْبُ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ فَلِذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَبْضِ اهـ.
وَعُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَوْبٌ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَمَّا لَوْ كَانَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَمَا سَتَعْلَمُ (قَوْلُهُ فَلَهَا الْمُسَمَّى إنْ دَخَلَ بِهَا إلَخْ) هَذَا إذَا لَمْ تَكْسُدْ الدَّرَاهِمُ الْمُسَمَّاةُ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ نَقْدُ الْبَلَدِ فَكَسَدَتْ وَصَارَ النَّقْدُ غَيْرَهَا فَإِنَّمَا عَلَى الزَّوْجِ قِيمَتُهَا يَوْمَ كَسَدَتْ عَلَى الْمُخْتَارِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ حَيْثُ يَبْطُلُ بِكَسَادِ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُ (قَوْلُهُ وَبِهِ يَتَأَكَّدُ الْبَدَلُ) أَيْ يَتَأَكَّدُ لُزُومُهُ فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلُ لَازِمًا، لَكِنْ كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِارْتِدَادِهَا وَتَقْبِيلِهَا ابْنَ الزَّوْجِ بِشَهْوَةٍ (قَوْلُهُ وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ)؛ لِأَنَّ انْتِهَاءَهُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِهِ بِتَمَامِهِ فَيَسْتَعْقِبُ مَوَاجِبَهُ الْمُمْكِنَ إلْزَامُهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالْإِرْثِ وَالنَّسَبِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ مَوْتَهَا أَيْضًا كَذَلِكَ، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَوْتِهِ اتِّفَاقٌ، وَلَا خِلَافَ لِلْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً (قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ) أَيْ بَعْدَمَا سَمَّى (فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ) ثُمَّ إنْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْمَهْرَ فَحُكْمُ هَذَا التَّنْصِيفِ يَثْبُتُ عِنْدَ زُفَرَ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ وَيَعُودُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ.
وَعِنْدَنَا لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَرْأَةِ فِي النِّصْفِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْجَبَ فَسَادَ سَبَبِ مِلْكِهَا فِي النِّصْفِ، وَفَسَادُ السَّبَبِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ مِلْكِهَا بِالْقَبْضِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهُ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الزَّوْجُ الْجَارِيَةَ: أَيْ الْمَمْهُورَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهِيَ مَقْبُوضَةٌ لِلْمَرْأَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي نِصْفِهَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا لَا يَنْفُذُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بَعْدَ عِتْقِهَا بِنِصْفِهَا لَهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ سَبَقَ مِلْكَهُ كَالْمَقْبُوضِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ إذَا أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الرَّدِّ، وَلَوْ أَعْتَقَتْهَا الْمَرْأَةَ قَبْلَ الطَّلَاقِ نَفَذَ فِي الْكُلِّ، وَكَذَا إنْ بَاعَتْ
وَالْأَقْيِسَةُ مُتَعَارِضَةٌ، فَفِيهِ تَفْوِيتُ الزَّوْجِ الْمِلْكَ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَفِيهِ عَوْدُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَيْهِ سَالِمًا فَكَانَ الْمَرْجِعُ
أَوْ وَهَبَتْ لِبَقَاءِ مِلْكِهَا فِي الْكُلِّ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَالتَّرَاضِي عِنْدَنَا، وَإِذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهَا فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا رَدُّ النِّصْفِ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَتَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِلزَّوْجِ يَوْمَ قَبَضَتْ.
وَلَوْ وُطِئَتْ الْجَارِيَةُ بِشُبْهَةٍ فَحُكْمُ الْعُقْرِ كَحُكْمِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْأَصْلِ كَالْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا فَإِنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَإِزَالَةُ الْبَكَارَةِ بِلَا دُخُولٍ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِبِكْرٍ فَدَفَعَهَا فَزَالَتْ بَكَارَتُهَا لَيْسَ كَالدُّخُولِ بِهَا فَلَا يُوجِبُ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ كَمَالُهُ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَقِيلَ هُوَ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.
(قَوْلُهُ وَالْأَقْيِسَةُ مُتَعَارِضَةٌ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} عَامٌّ فِي الْمَفْرُوضِ أَعْطَى حُكْمَ التَّنْصِيفِ، وَقَدْ خَصَّ مِنْهُ مَا إذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ نَحْوَ الْخَمْرِ وَمَا إذَا سَمَّى بَعْدَ الْعَقْدِ الْخَالِي عَنْ التَّسْمِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَهُ الْقِيَاسُ إنْ وُجِدَ وَقَدْ وُجِدَ، وَهُوَ أَنَّ فِي طَلَاقِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ تَفْوِيتَ الْمِلْكِ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ أَوْ إتْلَافِ الْمَبِيعِ وَمُقْتَضَاهُ وُجُوبُ تَمَامِ الْمُسَمَّى.
أَوْ يُقَالُ هُوَ رُجُوعُ الْمُبْدَلِ إلَيْهَا سَالِمًا فَكَانَ كَمَا إذَا تَقَايَلَا قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ يَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ؛ فَقَالَ: الْأَقْيِسَةُ مُتَعَارِضَةٌ فَإِنَّ مُقْتَضَى الْأَوَّلِ وُجُوبُ الْمُسَمَّى بِتَمَامِهِ كَمَا ذَكَرْنَا؛ وَمُقْتَضَى الثَّانِي لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ أَصْلًا فَتَسَاقَطَا فَبَقِيَ النِّصْفُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَكَانَ الْمَرْجِعُ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى الْعِبَارَةِ أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى النَّصِّ بَعْدَ تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ لَكِنَّ الْحُكْمَ عَلَى عَكْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي نَصٍّ لَا يُعَارِضُهُ الْقِيَاسُ، وَمِنْ أَنَّ الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا لَا يُتْرَكَانِ بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عُمُومُ نَصٍّ
فِيهِ النَّصَّ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ؛ لِأَنَّهَا كَالدُّخُولِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. .
قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا
يُرْجَعُ إلَيْهِ، لَكِنْ تَقْرِيرُ السُّؤَالِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا يُتَوَجَّهُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْآيَةِ هُوَ انْتِصَافُ الْمُسَمَّى بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَتَوْجِيهُ السُّؤَالِ بِأَنَّ النَّصَّ قَدْ خُصَّ، وَقِيَاسُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى إتْلَافِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ نَسْخٌ لِتَمَامِ مُوجِبِ النَّصِّ لَا تَخْصِيصٌ إذَا لَمْ يَبْقَ تَحْتَ النَّصِّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْرِيرِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ يُنْسَخُ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ بِالْقِيَاسِ بَلْ يُخَصُّ بِهِ فَلَا يُتَوَجَّهُ لِيُعَارَضَ بِآخَرَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِخْرَاجِ، وَتَقْرِيرُهُ لَا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْرِيرِ فَلَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ سِوَى التَّعَرُّضِ لِلنَّصِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ ذِكْرَ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (قَوْلُهُ وَشَرَطَ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ فِي لُزُومِ نِصْفِ الْمُسَمَّى بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ (أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ؛ لِأَنَّهَا كَالدُّخُولِ عِنْدَنَا) فِي تَأَكُّدِ تَمَامِ الْمَهْرِ بِهَا
(قَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّ وُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ حُكْمُ كُلِّ نِكَاحٍ لَا مَهْرَ فِيهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ سَكَتَ عَنْ الْمَهْرِ أَوْ شَرَطَ نَفْيَهُ أَوْ سَمَّى فِي الْعَقْدِ وَشَرَطَ رَدَّهَا مِثْلَهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَصُورَةُ هَذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ إلَيْهِ أَلْفًا صَحَّ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهَا فَبَقِيَ النِّكَاحُ بِلَا تَسْمِيَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ جَازَ، وَتَنْقَسِمُ الْأَلْفُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَمَهْرِ مِثْلِهَا، فَمَا أَصَابَ الدَّنَانِيرَ يَكُونُ صَرْفًا مَشْرُوطًا فِيهِ التَّقَابُضُ، وَمَا يَخُصُّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَكُونُ مَهْرًا، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَدَّتْ نِصْفَ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ إنْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ هُنَا بِخِلَافِ الْجِنْسِ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَكُونُ الْمُقَابَلَةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَ حِصَّةُ الدَّنَانِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ.
وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ إنْ كَانَتْ حِصَّةُ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ الْأَلْفِ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ يُكْمِلُ لَهَا عَشْرَةً. وَمِنْ صُوَرِ وُجُوبِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى حُكْمِهَا أَوْ حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجَهَالَةِ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، إلَّا أَنَّ فِي الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ إنْ حَكَمَ لَهَا بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ صَحَّ، أَوْ دُونَهُ فَلَا إلَّا إنْ تَرْضَى، وَإِلَيْهَا إنْ حَكَمَتْ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ جَازَ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا إلَّا أَنْ يَرْضَى، وَإِلَى الْأَجْنَبِيِّ إنْ حَكَمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ لَا بِالْأَقَلِّ إلَّا أَنْ تَرْضَى، وَلَا بِالْأَكْثَرِ إلَّا أَنْ يَرْضَى، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ أَغْنَامِهِ لَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ خُلْعِهَا عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا وَنَحْوِهِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ بِعُرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مَالًا بِالِانْفِصَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا فِي الْحَالِ، وَالْعِوَضُ
أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا فَلَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي الْمَوْتِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الدُّخُولِ. لَهُ أَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّهَا فَتَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ ابْتِدَاءً كَمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ انْتِهَاءً وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ وُجُوبًا حَقُّ الشَّرْعِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حَقَّهَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَتَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ دُونَ النَّفْيِ
(وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} الْآيَة
فِي الْخُلْعِ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَالْخُلْعِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُهَا فَلَا يَحْتَمِلُهَا بَدَلُهُ، وَمِثْلُهُ مَا يُخْرِجُهُ نَخْلُهُ وَمَا يَكْسِبُهُ غُلَامُهُ (قَوْلُهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا) وَكَذَا إذَا مَاتَتْ هِيَ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَيْضًا مَهْرُ الْمِثْلِ لِوَرَثَتِهَا (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) يَعْنِي فِي قَوْلٍ عَنْهُ (لَا يَجِبُ فِي الْمَوْتِ شَيْءٌ) لِلْمُفَوِّضَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي صُورَةِ نَفْيِ الْمَهْرِ وَقَوْلُهُ الْآخَرُ كَقَوْلِنَا (قَوْلُهُ وَأَكْثَرُهُمْ) أَيْ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ (قَوْلُهُ لَهُ أَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّهَا فَتَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ ابْتِدَاءً كَمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ انْتِهَاءً) أَيْ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِهِ مُطْلَقًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْأَكْثَرِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَابْنَهُ وَعَلِيًّا وَزَيْدًا - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَالُوا فِي الْمُفَوِّضَةِ نَفْسَهَا: حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ.
وَلَنَا أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْهَا فِي صُورَةِ مَوْتِ الرَّجُلِ فَقَالَ: بَعْدَ شَهْرٍ أَقُولُ فِيهِ بِنَفْسِي، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ نَفْسِي، وَفِي رِوَايَةٍ: فَمِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ بَرِيئَانِ.
أَرَى لَهَا مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ وَأَبُو الْجَرَّاحِ حَامِلٌ رَايَةَ الْأَشْجَعِيِّينَ فَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا بِرْوَعَ بِنْتَ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ بِمِثْلِ قَضَائِكَ هَذَا، فَسُرَّ ابْنُ مَسْعُودٍ سُرُورًا لَمْ يُسَرَّ مِثْلَهُ قَطُّ بَعْدَ إسْلَامِهِ.
وَبِرْوَعُ بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فِي الْمَشْهُورِ وَيُرْوَى بِفَتْحِهَا هَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُنَا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظٍ أَخْصَرَ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَمَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا الصَّدَاقَ: لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ: سَمِعْتُ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِهِ» . هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد، وَلَهُ رِوَايَاتٌ أُخَرُ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: جَمِيعُ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَسَانِيدُهَا صِحَاحٌ. وَاَلَّذِي رُوِيَ مِنْ رَدِّ عَلِيٍّ رضي الله عنه لَهُ فَلِمَذْهَبٍ تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ تَحْلِيفُ الرَّاوِي إلَّا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، وَلَمْ يَرَ هَذَا الرَّجُلَ لِيُحَلِّفَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ذَلِكَ، وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ثُبُوتَهَا عَنْهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ حَقًّا لِلشَّرْعِ) أَيْ وُجُوبُهُ ابْتِدَاءَ حَقِّ الشَّرْعِ لِمَا قَدَّمْنَا آنِفًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حَقَّهَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ: أَيْ بَعْدَ وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجِ ابْتِدَاءً بِالشَّرْعِ يَثْبُتُ لَهَا شَرْعًا حَقُّ أَخْذِهِ فَتَتَمَكَّنُ حِينَئِذٍ مِنْ الْإِبْرَاءِ لِمُصَادَفَتِهِ حَقَّهَا دُونَ
ثُمَّ هَذِهِ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ رُجُوعًا إلَى الْأَمْرِ، وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ (وَالْمُتْعَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا) وَهِيَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وَقَوْلُهُ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا
نَفْيِهِ ابْتِدَاءً عَنْ أَنْ يَجِبَ
(قَوْلُهُ ثُمَّ هَذِهِ الْمُتْعَةُ) أَيْ مُتْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ فِي الْعَقْدِ (وَاجِبَةٌ) عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَخَصَّهَا احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ فَإِنَّ الْمُتْعَةَ لِغَيْرِهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَّا لِمَنْ سَنَذْكُرُ. وَقَوْلُهُ (رُجُوعًا إلَى الْأَمْرِ) هُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ} عَقِيبَ قَوْلِهِ {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} أَيْ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فَانْصَرَفَ إلَى الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ، بِخِلَافِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّ الْمُتْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لَهَا فَرَضَ لَهَا أَوْ لَا (قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ) فَمَذْهَبُهُ اسْتِحْبَابُ الْمُتْعَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصُّوَرِ إلَّا الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الْفَرْضِ إلَّا أَنْ تَجِيءَ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ تَعْلِيقُهُ بِالْمُحْسِنِ: أَعْنِي الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ عَقِيبَهُ {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وَهُمْ الْمُتَطَوِّعُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَرِينَةَ صَرْفِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ إلَى النَّدْبِ. وَالْجَوَابُ مَنْعُ قَصْرِ الْمُحْسِنِ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ الْقَائِمِ بِالْوَاجِبَاتِ أَيْضًا فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ فَلَا يَكُونُ صَارِفًا لِلْأَمْرِ عَنْ الْوُجُوبِ مَعَ مَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ لَفْظِ حَقًّا وَعَلَى (قَوْلِهِ وَالْمُتْعَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا وَهِيَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ) قُدِّرَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا اللُّبْسُ الْوَسَطُ؛ لِأَنَّهَا تُصَلِّي وَتَخْرُجُ غَالِبًا فِيهَا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: أَدْنَى الْمُتْعَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ (وَهَذَا التَّقْدِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ) وَمَنْ بَعْدَهُمْ
إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُهَا وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ فِي الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُهُ عَمَلًا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ثُمَّ هِيَ لَا تُزَادُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَلَا تَنْقُصُ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَحَيْثُ قَدَّرُوهَا بِهِ مَعَ فَهْمِ اللُّغَةِ يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ لَفْظَ مُتْعَةٍ لَا يُقَالُ فِي إعْطَاءِ الدَّرَاهِمِ بَلْ فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ أَيْضًا فَلَا تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ لَمْ يُمْتَنَعْ أَنْ يَقَعَ عَلَى الدَّرَاهِمِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي الْمُتَبَادَرِ مِنْ اللَّفْظِ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيرُهَا بِثَلَاثِينَ، وَلَا بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ وَإِنَّمَا يَجْتَهِدُ لِيَعْرِفَ حَالَ مَنْ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أَوْ حَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَثْوَابَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِهِمَا عَلَى مَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالْفِقْهِ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ حَالِهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الشَّرِيفَةِ وَالْخَسِيسَةِ وَهُوَ مُنْكَرٌ بَيْنَ النَّاسِ.
وَقِيلَ يُعْتَبَرُ حَالُهَا وَهُوَ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِقِيَامِ هَذِهِ الْمُتْعَةِ مَقَامَ مَهْرِ الْمِثْلِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ سُقُوطِهِ وَفِيهِ يُعْتَبَرُ حَالُهَا فَكَذَا فِي خَلْقِهِ، وَهَكَذَا فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ السُّفْلِ فَمِنْ الْكِرْبَاسِ، وَإِنْ كَانَتْ وَسَطًا فَمِنْ الْقَزِّ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَفِعَةَ الْحَالِ فَمِنْ الْإِبْرَيْسَمِ.
وَإِطْلَاقُ الذَّخِيرَةِ كَوْنُهَا وَسَطًا لَا بِغَايَةِ الْجَوْدَةِ وَلَا بِغَايَةِ الرَّدَاءَةِ لَا يُوَافِقُ رَأْيًا مِنْ الثَّلَاثَةِ الِاعْتِبَارِ بِحَالِهِ أَوْ حَالِهَا أَوْ حَالِهِمَا. وَقِيلَ يُعْتَبَرُ حَالُهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ، وَصَحَّحَهُ عَمَلًا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ إنَّ الْمُتْعَةَ لَا تُزَادُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهَا خَلَفُهُ، فَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَالْوَاجِبُ الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّهَا الْفَرِيضَةُ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَإِنْ كَانَ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِنْ الْمُتْعَةِ فَالْوَاجِبُ الْأَقَلُّ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ خَمْسَةٍ فَيُكْمِلُ لَهَا الْخَمْسَةَ، وَهَذَا كُلُّهُ نَصُّ الْأَصْلِ وَالْمَبْسُوطِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ حَالِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ هُوَ الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْصِيفُهُ لِجَهَالَتِهِ فَيُصَارُ إلَى الْمُتْعَةِ خَلَفًا عَنْهُ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى نِصْفِ الْمَهْرِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْخَمْسَةِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ عَشْرَةٌ.
وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ اعْتِبَارَ الْمُتْعَةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي فِيهِ التَّسْمِيَةُ بِالْمَالِ أَقْوَى مِنْ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ. وَفِي الْأَقْوَى لَا يَجِبُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ مَا كَانَ وَاجِبًا قَبْلَهُ، فَكَذَا فِي النِّكَاحِ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ قَبْلَ الدُّخُولِ مَهْرَ الْمِثْلِ فَلَا يُزَادُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى نِصْفِهِ، ثُمَّ لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَالْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَرِدَّتِهِ وَإِبَائِهِ وَتَقْبِيلِهِ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا بِشَهْوَةٍ، وَإِنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا فَلَا تَجِبُ كَرِدَّتِهَا وَإِبَائِهَا الْإِسْلَامَ وَتَقْبِيلِهَا ابْنَهُ بِشَهْوَةٍ وَالرَّضَاعِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَكَمَا لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ بِسَبَبِ مَجِيءِ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِهَا
عَنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ
(وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى تَسْمِيَةٍ فَهِيَ لَهَا إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ) وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ نِصْفُ هَذَا الْمَفْرُوضِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ فَيَتَنَصَّفُ بِالنَّصِّ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْفَرْضَ تَعْيِينٌ لِلْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَذَلِكَ لَا يَتَنَصَّفُ
لَا تُسْتَحَبُّ لَهَا أَيْضًا لِجِنَايَتِهَا، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا تُسْتَحَبَّ فِي خِيَارِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لِجِنَايَتِهَا أَوْ رِضَاهَا بِهِ وَاسْتِحْبَابِ الْمُتْعَةِ لِإِيحَاشِهَا بِالطَّلَاقِ، وَكَذَا لَوْ فَسَخَهُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ أَوْ اشْتَرَى هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ مَنْكُوحَةً أَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ الزَّوْجُ تَجِبُ الْمُتْعَةُ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَجِبُ فِيهِ الْمُتْعَةُ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ لَا يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى عِنْدَ وُجُودِهَا، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَجِبُ فِيهِ يَجِبُ، وَالْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إنْ لَمْ يُسَمِّ، ثُمَّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَسْقُطُ نِصْفُهُ، وَقِيلَ كُلُّهُ، ثُمَّ يَجِبُ النِّصْفُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ
. (قَوْلُهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ الْآخَرَ كَقَوْلِهِمَا (قَوْلُهُ فَيَتَنَصَّفُ بِالنَّصِّ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا فُرِضَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِفَرْضِ الْقَاضِي فَإِنَّ لَهَا أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى الْقَاضِي لِيَفْرِضَ لَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا فِي الْعَقْدِ (قَوْلُهُ إنَّ هَذَا الْفَرْضَ تَعْيِينٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ) وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ حِينَ انْعَقَدَ كَانَ مُوجِبًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فِيهِ مَهْرٌ، وَثُبُوتُ الْمَلْزُومِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ ثُبُوتُ اللَّازِمِ، فَإِذَا كَانَ الثَّابِتُ بِهِ لُزُومَ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ إجْمَاعًا فَلَا يَتَنَصَّفُ مَا فُرِضَ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَالْفَرْضُ الْمُنَصَّفُ فِي النَّصِّ: أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يَجِبُ حِينَئِذٍ حَمْلُهُ عَلَى الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ بِالضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَفْرُوضَ بَعْدَ عَقْدٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ هُوَ نَفْسُ خُصُوصِ مَهْرِ مِثْلِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ انْتِصَافِهِ لَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُتَنَصَّفَ بِالنَّصِّ مَا فُرِضَ فِي الْعَقْدِ، عَلَى أَنَّ
فَكَذَا مَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِمَا تَلَا الْفَرْضَ فِي الْعَقْدِ إذْ هُوَ الْفَرْضُ الْمُتَعَارَفُ. .
قَالَ (وَإِنْ زَادَ لَهَا فِي الْمَهْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ) خِلَافًا لِزُفَرَ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَ) إذَا صُحِّحَتْ الزِّيَادَةُ (تَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ) وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا تَنْتَصِفُ مَعَ الْأَصْلِ
الْمُتَعَارَفَ هُوَ الْفَرْضُ فِي الْعَقْدِ حَتَّى كَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِنَا فُرِضَ لَهَا الصَّدَاقُ أَنَّهُ أَوْجَبَهُ فِي الْعَقْدِ فَيُقَيَّدُ لِذَلِكَ نَصُّ مَا فَرَضْتُمْ بِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ بِفَرَضْتُمْ هُوَ الْفَرْضُ الْوَاقِعُ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ تَقْيِيدٌ بِالْعُرْفِ الْعَمَلِيِّ بَعْدَمَا مَنَعَ مِنْهُ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ حَيْثُ قَالَ: أَوْ هُوَ عُرْفٌ عَمَلِيٌّ، وَلَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا لِلَّفْظِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْحَقَّ التَّقْيِيدُ بِهِ. وَفِي الْغَايَةِ وَالدِّرَايَةِ: لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ: أَيْ غَيْرُ الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ إذْ الْمُطْلَقُ لَا عُمُومَ لَهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمُتَعَرِّضُ لِمُجَرَّدِ الذَّاتِ فَيَتَنَاوَلُ الْمَفْرُوضَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِفَرْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ لَوْ رَافَعَتْهُ لِيَفْرِضَ لَهَا. فَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمَفْرُوضَ بَعْدَ الْعَقْدِ نَفْسُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَنَّ الْفَرْضَ لِتَعْيِينِ كَمَيِّتِهِ لِيُمْكِنَ دَفْعُهُ، وَهُوَ لَا يَتَنَصَّفُ إجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ فِي النَّصِّ الْمُتَعَارَفِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ لُغَةً لِمَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ مُتَبَادَرٍ لِنُدْرَةِ وُجُودِهِ.
[فَرْعٌ]
لَوْ عَقَدَ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ ثُمَّ فَرَضَ لَهَا دَارًا بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا لِلشَّفِيعِ؛ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْمَفْرُوضَ بَعْدَهُ تَقْرِيرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ بَدَلُ الْبُضْعِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الدَّارَ وَتَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِالْمُتْعَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ ثُمَّ بَاعَهَا بِهِ الدَّارَ فَإِنَّ فِيهَا الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ الدَّارَ شِرَاءً بِالْمَهْرِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَالدَّارُ لَهَا وَتَرُدُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِلصَّدَاقِ بِالشِّرَاءِ وَالشِّرَاءُ لَا يَبْطُلُ بِالطَّلَاقِ
. (قَوْلُهُ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ) وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ بَعْدَ الْعَقْدِ لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ بَدَلَ مِلْكِهِ. قُلْنَا: اللُّزُومُ مُنْتَفٍ عَلَى تَقْدِيرِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَيُنْتَقَضُ بِالْعِوَضِ عَنْ الْهِبَةِ بَعْدَ عَقْدِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى الصِّحَّةِ قَوْله تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا تَرَاضَيَا عَلَى إلْحَاقِهِ وَإِسْقَاطِهِ. وَمِنْ فُرُوعِ الزِّيَادَةِ مَا لَوْ رَاجَعَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ عَلَى أَلْفٍ فَإِنْ قَبِلْت لَزِمَتْ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ وَقَبُولُهَا شَرْطٌ فِي اللُّزُومِ. وَيُنَاسِبُ هَذِهِ مَسْأَلَةُ التَّوَاضُعِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعَدُّدِ التَّسْمِيَةِ لَوْ تَوَاضَعَا فِي السِّرِّ عَلَى مَهْرٍ وَعَقَدَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ إنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْعَلَانِيَةَ هَزْلٌ فَالْمَهْرُ مَهْرُ السِّرِّ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الزَّوْجُ الْمُوَاضَعَةَ وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ لَهَا، هَذَا إنْ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، فَإِنْ اخْتَلَفَ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَلَوْ عَقَدَا فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ وَأَظْهَرَا أَلْفَيْنِ فَكَذَلِكَ إنْ اتَّفَقَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ فَالْمَهْرُ مَا فِي السِّرِّ، أَوْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ لِلْمَرْأَةِ فِي دَعْوَى الْجِدِّ فَيَلْزَمُهُ مَهْرُ
لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عِنْدَهُمَا يَخْتَصُّ بِالْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ، وَعِنْدَهُ الْمَفْرُوضُ بَعْدَهُ كَالْمَفْرُوضِ فِيهِ
الْعَلَانِيَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى وَلِيِّهَا الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ أَنَّ مَهْرَهَا السِّرُّ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ فَيَثْبُتُ مَا ادَّعَاهُ وَلَوْ عَقَدَا فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ ثُمَّ عَقَدَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ وَأَشْهَدَا أَنَّ الْعَلَانِيَةَ سُمْعَةٌ فَالسِّرُّ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدَا قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَهْرُ مَهْرُ السِّرِّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مَكَانَ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلَ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَلْفٍ ثُمَّ جَدَّدَ النِّكَاحَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ ذَكَرَ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا تَلْزَمُ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَلْزَمُهُ الْأَلْفُ الثَّانِيَةُ، وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ ثُمَّ أَلْفَيْنِ لَا يَثْبُتُ الثَّانِي خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَّلَ عَدَمَ الثُّبُوتِ بِأَنَّهُمَا قَصَدَا إثْبَاتَ الزِّيَادَةِ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْعَقْدُ فَكَذَا الزِّيَادَةُ، فَاتَّفَقَتْ هَذِهِ النُّقُولُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ الثَّانِي، وَعَلَى عَكْسِ هَذَا حَكَى الْخِلَافَ فِي الْكَافِي لِلشَّيْخِ حَافِظِ الدِّينِ قَالَ: تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ فِي السِّرِّ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَلْفٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ فَمَهْرُهَا أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَيَكُونُ هَذَا زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمَهْرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَنْصُوصِ فِي الْأَصْلِ، وَعَلَيْهِ مَشَى شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمَهْرُ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: إذَا تَوَافَقَا فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ وَأَشْهَدَا أَنَّهُمَا يُجَدِّدَانِ الْعَقْدَ بِأَلْفَيْنِ سُمْعَةً فَالْمَهْرُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ لَغْوٌ، وَبِالْإِشْهَادِ عَلِمْنَا أَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِمَا سَمَّيَاهُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدَا عَلَى ذَلِكَ فَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْمَهْرُ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ زِيَادَةً لَهَا فِي الْمَهْرِ، قَالُوا: هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمَهْرُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ لَغْوٌ، فَمَا ذُكِرَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ الزِّيَادَةِ يَلْغُو.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعَقْدُ الثَّانِي إنْ كَانَ لَغْوًا فَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا هَذَا ابْنِي لَمَّا لَغَا صَرِيحُ كَلَامِهِ عِنْدَهُمَا لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ، وَعِنْدَهُ وَإِنْ لَغَا صَرِيحُ كَلَامِهِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ يَبْقَى مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ اهـ كَلَامُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ.
وَبِآخِرِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ مِنْ تَعْلِيلِ عَدَمِ اعْتِبَارِ الثَّانِي. قَوْلُهُ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنَّ الْمَهْرَ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِطْلَاقِ اعْتِبَارِ الْعَلَانِيَةِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ عِبَارَتَهُ فِيهِ: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ فِي السِّرِّ وَسَمِعَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ فَالتَّسْمِيعُ فِي الْعَلَانِيَةِ يَشْمَلُ مَا إذَا أَشْهَدَا عَلَى أَنَّ الْعَلَانِيَةَ هَزْلٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَإِذَا لَمْ يُشْهِدَا عَلَى ذَلِكَ وَمَا إذَا كَانَ التَّسْمِيعُ لَيْسَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ بَلْ مُجَرَّدِ إظْهَارِهِ عَلَى مَا هُوَ عَكْسُ أَوَّلِ صُوَرِ الْمُوَاضَعَةِ، وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ أَوْ فِي ضِمْنِهِ فَمَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ خَرَجَ وَيَبْقَى الْبَاقِي، وَلَا اخْتِلَافَ فِي اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ إذَا أَشْهَدَا عَلَى هَزْلِيَّةِ الثَّانِي أَوْ اعْتِرَافًا بِهِ مُطْلَقًا فَيَبْقَى مَا لَمْ يُشْهِدَا فِيهِ وَلَمْ يَعْتَرِفَا بِهِ مِمَّا هُوَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ ثَانٍ مُرَادًا قَطْعًا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ذَكَرَ عِصَامٌ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا، وَإِنْ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ، فَإِذَا حَكَى الْمَشَايِخُ الْخِلَافَ يَجِبُ كَوْنُ الْمَذْكُورِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ
عَلَى مَا مَرَّ.
(وَإِنْ حَطَّتْ عَنْهُ مِنْ مَهْرِهَا صَحَّ الْحَطُّ)؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَقَاءُ حَقِّهَا وَالْحَطُّ يُلَاقِيهِ حَالَةَ الْبَقَاءِ
(وَإِذَا خَلَا الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ الْوَطْءِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى بِالْوَطْءِ فَلَا يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ دُونَهُ
وَضْعُ الْأَصْلِ لِإِفَادَةِ قَوْلِهِ وَكَأَنَّ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ قَاضِي خَانْ إنَّمَا أَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي شَيْءٌ إلَّا إذَا عَنَى بِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَهْرِ لِمَا عُلِمَ أَنَّ عِلَّةَ اعْتِبَارِ الْعَلَانِيَةِ فِيمَا إذَا جَدَّدَا وَلَمْ يُشْهِدَا كَوْنَهُ زِيَادَةً، لَكِنَّ الْأَوْجَهَ الْإِطْلَاقُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَسْأَلَ الزَّوْجَانِ عَنْ مُرَادِهِمَا قَبْلَ الْحُكْمِ، وَقَدْ يُنْكِرُ الزَّوْجُ الْقَصْدَ وَيَنْفَتِحُ بَابُ الْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الثَّابِتُ شَرْعًا جَوَازَ الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ وَالْكَلَامُ الثَّانِي يُعْطِيهِ صَادِرًا مِنْ مُمَيِّزٍ عَاقِلٍ وَجَبَ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ، بَلْ يَجِبُ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْهَزْلَ بِهِ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى اتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ.
نَعَمْ وَيَخَالُ أَيْضًا أَنَّهُ يَجِبُ الْأَلْفَانِ مَعَ الْأَلْفِ السِّرِّ فَتَجْتَمِعُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُهُ ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ، وَالْمَفْرُوضُ لَهُ كَوْنُ الثَّانِي زِيَادَةً فَيَجِبُ بِكَمَالِهِ مَعَ الْأَوَّلِ. وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَ فِي الدِّرَايَةِ عَنْ شَرْحِ الْإِسْبِيجَابِيِّ: جَدَّدَ عَلَى أَلْفٍ آخَرَ تَثْبُتُ التَّسْمِيَتَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَثْبُتُ الثَّانِيَةُ، وَكَذَا لَوْ رَاجَعَ الْمُطَلَّقَةَ بِأَلْفٍ. وَفِي النَّوَازِلِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ: إذَا جَدَّدَ يَجِبُ كِلَا الْمَهْرَيْنِ. وَوَجْهُ مَنْ نَقَلَ لُزُومَ الثَّانِي فَقَطْ اعْتِبَارُ إرَادَةِ الْأَوَّلِ فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ الْمَقْصُودِ تَغْيِيرَ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلَامِ الْقَاضِي وَالْإِطْلَاقِ الْمُتَضَافِرِ عَلَيْهِ كَوْنُ الْمُرَادِ بِكَلَامِ الْجُمْهُورِ لُزُومُهُ إذَا لَمْ يُشْهِدَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ، وَمُرَادُ الْقَاضِي لُزُومُهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا شَكَّ إنَّمَا يَلْزَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا قَصَدَا الزِّيَادَةَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدَا حَتَّى كَانَا هَازِلَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا يَلْزَمُ عِنْدَ اللَّهِ شَيْءٌ حَتَّى لَا يُطَالَبَ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ يُؤَاخِذُهُ بِظَاهِرِ لَفْظِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَا عَلَى خِلَافِهِ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ الثَّانِي إلَّا إذَا كَانَتْ قَالَتْ لَا أَرْضَى بِالْمَهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ أَبْرَأْتُهُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أُقِيمُ مَعَكَ بِدُونِ مَهْرٍ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْبِسَاطُ فَلَا يَجِبُ، الثَّانِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي وَحَاصِلُهُ اعْتِبَارُ قَرِينَةِ إرَادَةِ الزِّيَادَةِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا إذَا كَانَ التَّجْدِيدُ بَعْدَ هِبَتِهَا الْمَهْرَ الْأَوَّلَ أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ وُجُوبُ الثَّانِي عَلَى الْخِلَافِ أَوْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ غَيْرُ بَعِيدٍ، إذْ قَدْ يَخَالُ كَوْنَ الزِّيَادَةِ تَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَبِالْهِبَةِ انْتَقَى قِيَامُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُ الثَّانِي زِيَادَةً وَهُوَ الْمُحَقِّقُ لِوُجُوبِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّمَا يَسْتَدْعِي دُخُولَهُ فِي الْوُجُودِ لَا بَقَاءَهُ إلَى وَقْتِ الزِّيَادَةِ فَصَلَحَ مَنْشَأً لِلْخِلَافِ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى الْخِلَافِ أَوْ عَدَمِ ثُبُوتِهِ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي الْفَتَاوَى: امْرَأَةٌ وَهَبَتْ مَهْرَهَا مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ إنَّ زَوْجَهَا أَشْهَدَ أَنَّ لَهَا عَلَيْهِ كَذَا مِنْ مَهْرِهَا تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّ إقْرَارَهُ جَائِزٌ إذَا قَبِلْت. وَوَجَّهَهُ فِي التَّجْنِيسِ بِوُجُوبِ تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ مَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ زَادَهَا فِي الْمَهْرِ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْقَبُولَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَهْرِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ اهـ. وَالْخِلَافُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَالْمُخْتَارُ فَرْعُ الْخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ هِبَتِهَا الْمَهْرَ. وَالْقَيْدُ وَهُوَ قَبُولُ الْمَرْأَةِ صَحِيحٌ لَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ هُوَ مَا إذَا جَدَّدَا وَعَقَدَا ثَانِيًا بِأَكْثَرَ مِمَّا يُفِيدُ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْأَمْرِ الثَّانِي، وَذَلِكَ يُفِيدُ قَبُولَهَا الثَّانِي بِلَا شُبْهَةٍ، بِخِلَافِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا أَنَّ الزَّوْجَ أَقَرَّ أَوْ أَشْهَدَ وَنَحْوَهُ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ) وَهُوَ مَنَافِعُ بُضْعِهَا (إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى بِالْوَطْءِ) وَلَا يَجِبُ كَمَالُ الْبَدَلِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا
وَلَنَا أَنَّهَا سَلَّمَتْ الْمُبْدَلَ حَيْثُ رَفَعَتْ الْمَوَانِعَ وَذَلِكَ وُسْعُهَا فَيَتَأَكَّدُ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا أَوْ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمًا بِحَجٍّ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ أَوْ كَانَتْ حَائِضًا فَلَيْسَتْ الْخَلْوَةُ صَحِيحَةً)
يَجِبُ كَمَالُ الْمَهْرِ قَبْلَهُ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهَا سَلَّمَتْ الْمُبْدَلَ إلَخْ) يَتَضَمَّنُ مَنْعَ تَوَقُّفِ وُجُوبِ الْكَمَالِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بَلْ عَلَى التَّسْلِيمِ (قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ) وَالْإِجَارَةِ، وَيَعْنِي أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْبَدَلِ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ لَا حَقِيقَةُ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الْمُوجِبُ فِيهِمَا التَّسْلِيمُ وَهُوَ رَفْعُ الْمَوَانِعِ وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرُ مَنْفَعَةً أَصْلًا، فَكَذَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ يَكُونُ تَسْلِيمُ الْبُضْعِ بِذَلِكَ بَلْ أَوْلَى.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} فَالْمَجَازُ فِيهِ مُتَحَتِّمٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ الْمَسُّ عَلَى الْوَطْءِ كَمَا يَقُولُ فَهُوَ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ. وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى أَخَصَّ بِخُصُوصِهِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْخَلْوَةِ كَمَا نَقُولُ فَمِنْ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ إذْ الْمَسُّ مُسَبَّبٌ عَنْ الْخَلْوَةِ عَادَةً وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ. وَيُرَجَّحُ الثَّانِي بِمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ وَالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي أَحْكَامِهِ وَقَدْ يُقَالُ: يَجِبُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ هُنَا خِلَافَ الْأَوَّلِ مَجَازٌ إلَّا مَجَازًا يَعُمُّ الْحَقِيقَةَ، وَالْخَلْوَةُ لَا تَصْدُقُ عَلَى الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ الْمَسُّ مَجَازًا فِيهَا، وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَقَدْ وَطِئَهَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْخَلْوَةِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهَا الْمُرَادُ بِالْمَسِّ فِي النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْخَلْوَةِ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْكَمَالِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ مَعَ ادِّعَاءِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ كَمَالِهِ بِالْخَلْوَةِ، كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي أَحْكَامِهِ حَيْثُ قَالَ: هُوَ اتِّفَاقُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ فِيهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -. وَيُوَافِقُهُ قَوْله تَعَالَى {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} أَوْجَبَ جَمِيعَ الْمَهْرِ بِالْإِفْضَاءِ وَهُوَ الْخَلْوَةُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ وُجُوبُ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْخَلْوَةِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى النَّصِّ مَخْصُوصًا أَخْرَجَ مِنْهُ الصُّورَةَ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الْمُخَصِّصِ الْإِجْمَاعُ الْمَذْكُورُ.
وَمِنْ فُرُوعِ لُزُومِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا وَهُوَ عَلَى بَطْنِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرَانِ: مَهْرٌ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ الْحَدُّ بِالتَّزَوُّجِ قَبْلَ تَمَامِ الزِّنَا، وَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَزِيدُ عَلَى الْخَلْوَةِ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَوَانِعِ صِحَّةِ الْخَلْوَةِ، وَعِبَارَةُ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فِيهِ جَامِعَةٌ، قَالَ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي مَكَان يَأْمَنَانِ فِيهِ مِنْ اطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِمَا كَدَارٍ وَبَيْتٍ دُونَ الصَّحْرَاءِ وَالطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَالسَّطْحِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى جَوَانِبِهِ سُتْرَةٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ السِّتْرُ رَقِيقًا أَوْ قَصِيرًا بِحَيْثُ لَوْ قَامَ إنْسَانٌ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمَا يَرَاهُمَا، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَانِعٌ مِنْ الْوَطْءِ حِسًّا وَلَا طَبْعًا وَلَا شَرْعًا اهـ.
وَمِنْ فَصْلِ الْمَوَانِعِ ذَكَرَ مِنْهَا الرَّتَقَ وَالْقَرَنَ وَالْعَفَلَ وَأَنْ تَكُونَ شَعْرَاءَ أَوْ صَغِيرَةً لَا تُطِيقُ الْجِمَاعَ أَوْ هُوَ صَغِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ يَشْتَهِي وَتَتَحَرَّكُ آلَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ اسْتَوَى مَنْعُهُ لِصِحَّةِ الْخَلْوَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا أَوْ
حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَانِعُ، أَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أَوْ يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَقِيلَ مَرَضُهُ لَا يُعْرَى عَنْ تَكَسُّرٍ وَفُتُورٍ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي مَرَضِهَا وَصَوْمِ رَمَضَانَ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَالْإِحْرَامِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدَّمِ وَفَسَادِ النُّسُكِ وَالْقَضَاءِ، وَالْحَيْضُ مَانِعٌ طَبْعًا وَشَرْعًا (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَائِمًا تَطَوُّعًا فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ)؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فِي رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى،
أَعْمَى يَقْظَانَ أَوْ نَائِمًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى يَحُسُّ وَالنَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ وَيَتَنَاوَمُ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ لَا يُمْنَعُ. وَقِيلَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يُمْنَعَانِ، وَزَوْجَتُهُ الْأُخْرَى مَانِعَةٌ إلَيْهِ رَجَعَ مُحَمَّدٌ، وَالْجَوَارِي لَا تُمْنَعُ. وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: جَارِيَتُهَا تُمْنَعُ بِخِلَافِ جَارِيَتِهِ.
وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ: فِي أَمَتِهِ رِوَايَتَانِ. وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ مَانِعٌ، وَغَيْرُ الْعَقُورِ إنْ كَانَ لَهَا مَنَعَ أَوْ لَهُ لَا يَمْنَعُ، وَعِنْدِي أَنَّ كَلْبَهُ لَا يَمْنَعُ وَإِنْ كَانَ عَقُورًا؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ قَطُّ لَا يَتَعَدَّى عَلَى سَيِّدِهِ وَلَا عَلَى مَنْ يَمْنَعُهُ سَيِّدُهُ عَنْهُ.
وَلَوْ سَافَرَ بِهَا فَعَدَلَ عَنْ الْجَادَّةِ بِهَا إلَى مَكَان خَالٍ فَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَلَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْحَمَّامِ. وَقَالَ شَدَّادٌ: إنْ كَانَتْ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ صَحَّتْ؛ لِأَنَّهَا كَالسَّاتِرِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ تَصِحُّ عَلَى سَطْحٍ لَا سَاتِرَ لَهُ إذَا كَانَتْ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ. وَالْأَوْجَهُ أَنْ لَا تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ الْإِحْسَاسُ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْبَصَرِ، أَلَا تَرَى إلَى الِامْتِنَاعِ لِوُجُودِ الْأَعْمَى وَلَا إبْصَارَ لِلْإِحْسَاسِ، وَلَا تَصِحُّ فِي بُسْتَانٍ لَيْسَ لَهُ بَابٌ، وَتَصِحُّ فِي مَحْمَلٍ عَلَيْهِ قُبَّةٌ مَضْرُوبَةٌ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا وَإِنْ كَانَ نَهَارًا وَالْحَجْلَةُ وَالْقُبَّةُ كَذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَا فِي مَخْزَنٍ مِنْ خَانٍ يَسْكُنُهُ النَّاسُ فَرَدَّ الْبَابَ وَلَمْ يُغْلِقْهُ وَالنَّاسُ قُعُودٌ فِي وَسَطِهِ غَيْرَ مُتَرَصِّدِينَ لِنَظَرِهِمَا صَحَّتْ، وَإِنْ كَانُوا مُتَرَصِّدِينَ لَا تَصِحُّ، وَهَذِهِ الْمَوَانِعُ مِنْ قَبِيلِ الْحِسِّيِّ. وَلَوْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْهَا ثُمَّ خَرَجَتْ أَوْ دَخَلَ هُوَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَعْرِفْهَا لَا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي اللَّيْثِ، وَتَصِحُّ عِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ نَائِمَةً، وَلَوْ عَرَفَهَا هُوَ وَلَمْ تَعْرِفْهُ هِيَ تَصِحُّ.
[فَرْعَانِ]
الْأَوَّلُ: لَوْ قَالَ إنْ خَلَوْت بِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَلَا بِهَا طَلُقَتْ وَيَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ. الثَّانِي: لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْخُلَ بِزَوْجَتِهِ إذَا كَانَتْ تُطِيقُ الْجِمَاعَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَقَدْ قُدِّرَ بِالْبُلُوغِ وَبِالتِّسْعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا أَقَامُوا الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ تَأَكُّدِ الْمَهْرِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَمُرَاعَاةِ وَقْتِ طَلَاقِهَا وَلَمْ يُقِيمُوهَا مَقَامَهُ فِي الْإِحْصَانِ، وَحِلِّهَا لِلْأَوَّلِ وَالرَّجْعَةِ وَالْمِيرَاثِ، وَحُرْمَةِ الْبَنَاتِ. يَعْنِي إذَا خَلَا بِالْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ لَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا، وَإِذَا خَلَا بِامْرَأَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا لَا تَحْرُمُ بَنَاتُهَا وَلَا يَرِثُ مِنْهَا لَوْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ لِلِاحْتِيَاطِ الْوَاجِبِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ. وَفِي شَرْحِ الشَّافِي ذَكَرَ تَزَوُّجَ الْبِنْتِ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَفِيهِ خِلَافٌ وَأَمَّا فِي حَقِّ وُقُوعِ طَلَاقٍ آخَرَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَشْبَهُ وُقُوعُهُ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَبَ أَنْ يَقَعَ احْتِيَاطًا (قَوْلُهُ وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي مَرَضِهَا) قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ
وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَصَوْمُ الْقَضَاءِ وَالْمَنْذُورِ كَالتَّطَوُّعِ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ فَرْضُهَا كَفَرْضِهِ وَنَفْلُهَا كَنَفْلِهِ.
(وَإِذَا خَلَا الْمَجْبُوبُ بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ)؛ لِأَنَّهُ أَعْجَزُ مِنْ الْمَرِيضِ، بِخِلَافِ الْعِنِّينِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ أُدِيرَ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ السَّحْقِ وَقَدْ أَتَتْ بِهِ.
قَالَ (وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ) احْتِيَاطًا اسْتِحْسَانًا لِتَوَهُّمِ الشُّغْلِ، وَالْعِدَّةُ حَقُّ الشَّرْعِ وَالْوَلَدِ
قَوْلُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ) أَيْ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى فِي حَقِّ كَمَالِ الْمَهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، أَمَّا فِي حَقِّ جَوَازِ الْإِفْطَارِ فَالصَّحِيحُ غَيْرُهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إلَّا بِعُذْرٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ بَحْثًا أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى فِي جَوَازِ الْإِفْطَارِ بِلَا عُذْرٍ ثُمَّ وُجُوبُ الْقَضَاءِ أَقْعَدَ بِالدَّلِيلِ مِنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ الْجِمَاعَ وَيَجْعَلُهُ آثِمًا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ
. (قَوْلُهُ أُدِيرَ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَةِ) يُعْطِي أَنَّ خَلْوَةَ الْخَصِيِّ صَحِيحَةٌ وَهُوَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ.
(قَوْلُهُ وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ) أَيْ عِنْدَ صِحَّةِ الْخَلْوَةِ وَفَسَادِهَا بِالْمَوَانِعِ الْمَذْكُورَةِ احْتِيَاطًا لِتَوَهُّمِ الشُّغْلِ نَظَرًا إلَى التَّمَكُّنِ الْحَقِيقِيِّ، وَكَذَا فِي الْمَجْبُوبِ لِقِيَامِ احْتِمَالِ الشُّغْلِ بِالسَّحْقِ، وَإِذًا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُنْزِلُ يَثْبُتُ وَإِنْ عُلِمَ بِخِلَافِهِ فَلَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَعَلِمَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ يُنْزِلُ أَوْ لَا رُبَّمَا يَتَعَذَّرُ، أَوْ يَتَعَسَّرُ. قَالَ الْعَتَّابِيُّ: تَكَلَّمَ مَشَايِخُنَا فِي الْعِدَّةِ الْوَاجِبَةِ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ظَاهِرًا أَوْ حَقِيقَةً؛ فَقِيلَ لَوْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ مُتَيَقِّنَةٌ بِعَدَمِ الدُّخُولِ حَلَّ لَهَا دِيَانَةً لَا قَضَاءً وَقَوْلُهُ (وَالْعِدَّةُ حَقُّ الشَّرْعِ) وَلِذَا لَا تَسْقُطُ لَوْ أَسْقَطَاهَا وَلَا يَحِلُّ لَهَا الْخُرُوجُ وَلَوْ أَذِنَ لَهَا الزَّوْجُ، وَتَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ وَلَا يَتَدَاخَلُ حَقُّ الْعَبْدِ (وَالْوَلَدِ) أَيْ وَحَقُّ الْوَلَدِ وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ
فَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهِ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الْمَانِعَ إنْ كَانَ شَرْعِيًّا كَالصَّوْمِ وَالْحَيْضِ تَجِبُ الْعِدَّةُ لِثُبُوتِ التَّمَكُّنِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ حَقِيقِيًّا كَالْمَرَضِ وَالصِّغَرِ لَا تَجِبُ لِانْعِدَامِ التَّمَكُّنِ حَقِيقَةً.
قَالَ (وَتُسْتَحَبُّ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إلَّا لِهَذِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ صِلَةً مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا
يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» فَلَا يَصْدُقَانِ فِي إبْطَالِهَا بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى عَدَمِ الْوَطْءِ (بِخِلَافِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ فَلَا يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهِ) غَيْرَ أَنَّ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا حَقُّ الْوَلَدِ تَأَمُّلًا (قَوْلُهُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ) لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ (أَنَّ الْمَانِعَ إنْ كَانَ شَرْعِيًّا تَجِبُ الْعِدَّةُ لِثُبُوتِ التَّمَكُّنِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ حَقِيقِيًّا كَالْمَرَضِ وَالصِّغَرِ لَا تَجِبُ لِانْعِدَامِ التَّمَكُّنِ حَقِيقَةً) فَكَانَ كَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ حَيْثُ قِيَامُ الْيَقِينِ لِعَدَمِ الشُّغْلِ، وَمَا قَالَهُ قَالَ بِهِ التُّمُرْتَاشِيُّ وَقَاضِي خَانْ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَ الْعَتَّابِيُّ إلَّا أَنَّ الْأَوْجَهَ عَلَى هَذَا أَنْ يَخُصَّ الصِّغَرَ بِغَيْرِ الْقَادِرِ وَالْمَرَضَ بِالْمُدْنِفِ لِثُبُوتِ التَّمَكُّنِ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ بِالْخَلْوَةِ إنَّمَا هُوَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، أَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالْخَلْوَةِ فِيهِ بَلْ بِحَقِيقَةِ الدُّخُولِ.
(قَوْلُهُ وَتُسْتَحَبُّ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا) وَفِي كُلٍّ مِنْ الصَّدْرِ وَالِاسْتِثْنَاءِ إشْكَالٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ الَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِهِ وَالْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ لَهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ الْمَفْرُوضُ لَهَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَالْمُخْتَلَفِ وَالْحَصْرِ أَنَّ الْمُتْعَةَ تُسْتَحَبُّ لَهَا. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ مُسْتَعْمَلٌ فِي أَعَمَّ مِنْ الْوُجُوبِ: يَعْنِي أَنَّهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَقَرِينَةُ التَّخْصِيصِ هُوَ تَقَدُّمُ ذِكْرِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَتُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ غَيْرَ تِلْكَ. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ تَبِعَهُ فِيهِ.
وَفِي بَعْضِ مُشْكِلَاتِ الْقُدُورِيِّ الْمُتْعَةُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: وَاجِبَةٌ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ، وَمُسْتَحَبَّةٌ وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، وَسُنَّةٌ وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا الْمَهْرَ، وَالرَّابِعَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا مُسْتَحَبَّةٍ وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ ثَابِتٌ لَهَا فَيَقُومُ مَقَامَ الْمُتْعَةِ.
وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ هُنَا تَغْيِيرًا وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ، فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، وَنَقَلَ فِي الدِّرَايَةِ ضَبْطَهُ كَذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَجِبُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إلَّا لِهَذِهِ) وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ كَقَوْلِهِ وَرِوَايَةٌ كَقَوْلِنَا وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَالِكٍ.
بِالْفِرَاقِ، إلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ نِصْفَ الْمَهْرِ طَرِيقَةُ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فَسْخٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمُتْعَةَ لَا تَتَكَرَّرُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالتَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ اتِّفَاقًا بِالنَّصِّ. وَأَمَّا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا فَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ فِي صُورَةِ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ لِلْإِيحَاشِ بِالطَّلَاقِ، وَمَا سَلَّمَ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ بَلْ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ فَتَجِبُ دَفْعًا لِلْإِيحَاشِ.
وَأَمَّا الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَقَدْ سَمَّى لَهَا فَوُجُوبُ نِصْفِ الْمَهْرِ الثَّابِتِ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ: أَيْ بِطَرِيقِ إيجَابِ الْمُتْعَةِ فِي غَيْرِهَا وَهُوَ جَبْرُ صَدْعِ الْإِيحَاشِ لَا الْمَهْرِ لِعَدَمِ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ بُضْعِهَا فَلَا تَجِبُ مُتْعَةٌ أُخْرَى وَإِلَّا تَكَرَّرَتْ.
وَقَوْلُهُ فَسْخٌ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ طَلَاقًا حَتَّى انْتَقَصَ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ، لَكِنَّهُ كَالْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَالْحَالَةِ السَّابِقَةِ عَلَى النِّكَاحِ بِسَبَبِ عَوْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سَالِمًا إلَيْهَا فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ مَا ذُكِرَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ يَسْقُطُ كُلُّ الْمَهْرِ بِهَذَا الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ، ثُمَّ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ إنَّهُ يَبْقَى نِصْفُ الْمَهْرِ وَيَسْقُطُ نِصْفُهُ بِالنَّصِّ.
وَلَهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} خَصَّ مِنْهَا تِلْكَ الْمُطَلَّقَةَ بِنَصِّ {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} جَعَلَهُ تَمَامَ حُكْمِهَا، وَبِهِ يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلَى قَوْلِهِ فَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى غَيْرِ الْمَفْرُوضِ لَهَا لِعَقْلِيَّةِ أَنَّ نِصْفَ مَهْرِهَا
(وَلَنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْمُفَوِّضَةِ)؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَوَجَبَتْ الْمُتْعَةُ، وَالْعَقْدُ يُوجِبُ الْعِوَضَ فَكَانَ خَلَفًا وَالْخَلَفُ لَا يُجَامِعُ الْأَصْلَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ
بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْمُفَوِّضَةِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَعَ بِهِ السَّمَاعُ؛ لِأَنَّهَا مُفَوِّضَةٌ أَمْرَ نَفْسِهَا لِوَلِيِّهَا وَلِلزَّوْجِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا: أَيْ فَوَّضَهَا وَلِيُّهَا لِلزَّوْجِ وَهِيَ الَّتِي زُوِّجَتْ بِلَا مَهْرٍ مُسَمًّى.
وَحَاصِلُهُ مَنْعُ كَوْنِ عِلَّةِ الْوُجُوبِ فِي الْأَصْلِ وَهِيَ الْمُفَوِّضَةُ الْإِيحَاشُ، وَأَبْطَلَ مُنَاسَبَتَهُ لِلْعَلِيَّةِ آخِرًا بِقَوْلِهِ وَهُوَ غَيْرُ جَانٍ فِي الْإِيحَاشِ؛ لِأَنَّهُ بِإِذْنِ الشَّرْعِ بَلْ الْوُجُوبُ فِيهَا تَعْوِيضٌ عَمَّا كَانَ وَاجِبًا لَهَا مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى فَهْمِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْقَطَ مَا كَانَ وَاجِبًا لَهَا ثُمَّ أَوْجَبَ لَهَا شَيْئًا آخَرَ مَكَانَهُ، وَعَلِمَ أَنْ لَا جِنَايَةَ فِي الطَّلَاقِ بَلْ قَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا فِي الَّتِي لَا تُصَلِّي وَالْفَاجِرَةِ، وَلَا سُقُوطَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا مُطْلَقًا فَلَا تَجِبُ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُسَاوِيَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا سُلِّمَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ بَلْ بِقَبُولِهَا الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهَا الْمُلْصَقِ بِهِ الْمَالُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} وَلِهَذَا كَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ، غَيْرَ أَنَّ بِالدُّخُولِ يَتَقَرَّرُ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وقَوْله تَعَالَى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} إمَّا أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهُنَّ مَهْرٌ؛ لِأَنَّهُنَّ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ثُمَّ قَالَ {وَمَتِّعُوهُنَّ} أَوْ يُرَادُ بِمَتِّعُوهُنَّ إيجَابُ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَكِسْوَتِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا الْمُسَمَّى لَهَا فَمَحَلُّ الِاتِّفَاقِ،
فَلَا تَجِبُ مَعَ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَانٍ فِي الْإِيحَاشِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْغَرَامَةُ بِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ.
(وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ بِنْتَه عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ بِنْتَهُ أَوْ أُخْتَهُ لِيَكُونَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ عِوَضًا عَنْ الْآخَرِ فَالْعَقْدَانِ جَائِزَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَطَلَ الْعَقْدَانِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَ الْبُضْعِ صَدَاقًا وَالنِّصْفَ مَنْكُوحَةً، وَلَا اشْتِرَاكَ فِي هَذَا الْبَابِ فَبَطَلَ الْإِيجَابُ. وَلَنَا أَنَّهُ سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ صَدَاقًا فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا إذَا سَمَّى الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَلَا شَرِكَةَ بِدُونِ الِاسْتِحْقَاقِ
وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا الِاسْتِحْبَابَ فِي الْمَدْخُولَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} وَهُنَّ مَدْخُولَاتٌ
(قَوْلُهُ وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ لِيَكُونَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ عِوَضًا عَنْ الْآخَرِ) أَيْ صَدَاقًا فِيهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُلٍّ صَدَاقًا لِلْأُخْرَى أَوْ مَعْنَاهُ بَلْ قَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَقَبِلَ جَازَ النِّكَاحُ اتِّفَاقًا وَلَا يَكُونُ شِغَارًا. وَلَوْ زَادَ قَوْلَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ بِنْتِي صَدَاقًا لِبِنْتِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ بَلْ زَوَّجَهُ بِنْتَهُ وَلَمْ يَجْعَلْهَا صَدَاقًا كَانَ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا اتِّفَاقًا وَالْأَوَّلُ عَلَى الْخِلَافِ، ثُمَّ حُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ عِنْدَنَا صِحَّتُهُ وَفَسَادُ التَّسْمِيَةِ فَيَجِبُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: بَطَلَ الْعَقْدُ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ» وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّجُلِ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْفَاسِدُ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ اتِّفَاقًا. وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَالنَّفْيُ رُفِعَ لِوُجُودِهِ فِي الشَّرْعِ وَعُرِفَ مِنْهُ التَّعَدِّي إلَى كُلِّ وَلِيٍّ يُزَوِّجُ مُولِيَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ مُولِيَتَهُ، كَسَيِّدِ
(وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ إيَّاهَا سَنَةً أَوْ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا قِيمَةُ خِدْمَتِهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ امْرَأَةً بِإِذْنِ مَوْلَاهُ عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً جَازَ وَلَهَا خِدْمَتُهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْخِدْمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا يَصِحُّ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالشَّرْطِ يَصْلُحُ مَهْرًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ تَتَحَقَّقُ الْمُعَاوَضَةُ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ أَوْ عَلَى رَعْيِ الزَّوْجِ غَنَمَهَا وَلَنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ وَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ بِمَالٍ وَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا
الْأَمَةِ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ مُولِيَتَهُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّ كُلَّ بُضْعٍ صَدَاقٌ حِينَئِذٍ وَمَنْكُوحٌ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الزَّوْجِ وَمُسْتَحِقَّ الْمَهْرِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْإِطْنَابُ فِي تَقْرِيرِهِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مُتَعَلِّقَ النَّهْيِ وَالنَّفْيِ مُسَمَّى الشِّغَارِ وَمَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِهِ خُلُوُّهُ عَنْ الصَّدَاقِ وَكَوْنُ الْبُضْعِ صَدَاقًا، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِنَفْيِ هَذِهِ الْمَاهِيَةِ وَمَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا شَرْعًا فَلَا نُثْبِتُ النِّكَاحَ كَذَلِكَ، بَلْ نُبْطِلُهُ فَيَبْقَى نِكَاحًا سُمِّيَ فِيهِ مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَيَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ الْمُسَمَّى فِيهِ خَمْرٌ أَوْ خِنْزِيرٌ، فَمَا هُوَ مُتَعَلِّقُ النَّهْيِ لَمْ نُثْبِتْهُ وَمَا أَثْبَتْنَاهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بَلْ اقْتَضَتْ الْعُمُومَاتُ صِحَّتَهُ: أَعْنِي مَا يُفِيدُ الِانْعِقَادَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَتَسْمِيَةِ مَا لَا يَصِحُّ مَهْرًا، فَظَهَرَ أَنَّا قَائِلُونَ بِمُوجِبِ الْمَنْقُولِ حَيْثُ نَفَيْنَاهُ وَلَمْ نُوجِبْ الْبُضْعَ مَهْرًا. وَعَنْ الثَّانِي بِتَسْلِيمِ بُطْلَانِ الشَّرِكَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَنَحْنُ لَمْ نُثْبِتْهُ إذْ لَا شَرِكَةَ بِدُونِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا كَوْنَهُ صَدَاقًا فَبَطَلَ اسْتِحْقَاقُ مُسْتَحِقِّ الْمَهْرِ نِصْفَهُ فَبَقِيَ كُلُّهُ مَنْكُوحًا فِي عَقْدٍ شُرِطَ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ النِّكَاحُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلَيْنِ فَإِنَّ بُطْلَانَ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا اسْتَلْزَمَهُ عَدَمُ مُوجِبِ التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ
. (قَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ: لَهَا قِيمَةُ خِدْمَتِهِ سَنَةً) وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ خِلَافًا. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ فَقَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَإِلَّا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى خِلَافِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْخِدْمَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ وَجْهَيْ حُرِّيَّةِ الزَّوْجِ وَعَبْدِيَّتِهِ (قَوْلُهُ وَكَذَا الْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا) قَصْرُ النَّظَرِ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَمُلَاحَظَةُ قَوْلِهِ وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ ابْتِغَاءً بِالْمَالِ لِتَضَمُّنِهِ تَسْلِيمَ رَقَبَتِهِ وَهِيَ مَالٌ
وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ ابْتِغَاءً بِالْمَالِ لِتَضَمُّنِهِ تَسْلِيمَ رَقَبَتِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْحُرُّ، وَلِأَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ الْحُرِّ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ، بِخِلَافِ خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاقَضَةَ،
يَقْتَضِي جَوَازَ جَمِيعِ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ مَا خَلَا خِدْمَةَ الْحُرِّ، وَيُوَافِقُهُ عُمُومُ مَفْهُومِ قَوْلِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْحُرُّ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ وَشَرْحِ الشَّافِي لِنَجْمِ الدِّينِ عُمَرَ النَّسَفِيِّ.
وَمَا قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى سَائِرِ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ سُكْنَى دَارِهِ وَخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَرُكُوبِ دَابَّتِهِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا وَزِرَاعَةِ أَرْضِهِ: يَعْنِي أَنْ تَزْرَعَ هِيَ أَرْضَهُ وَنَحْوَهَا مِنْ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ أَوْ أُلْحِقَتْ بِالْأَمْوَالِ شَرْعًا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَالْحَاجَةُ فِي النِّكَاحِ مُتَحَقِّقَةٌ وَإِمْكَانُ الدَّفْعِ ثَابِتٌ بِتَسْلِيمِ مَحَالِّهَا إذْ لَيْسَ فِيهِ اسْتِخْدَامُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا يُفِيدُ جَوَازَ تَسْمِيَةِ خِدْمَةِ الْحُرِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمُحِيطِ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ فَالصَّحِيحُ صِحَّتُهُ وَتَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ خِدْمَتِهِ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَخْدُمُهَا، فَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ فَلَا يُؤْمَنُ الِانْكِشَافَ عَلَيْهِ مَعَ مُخَالَطَتِهِ لِلْخِدْمَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ ذَلِكَ الْحُرِّ وَلَمْ يُجْزِهِ.
وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْت تَعْلِيلَ مُحَمَّدٍ رحمه الله وُجُوبَ قِيمَةِ الْخِدْمَةِ بِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْمُنَاقَضَةِ وَتَعْلِيلُهُمَا نَفْيَ مَالِيَّتِهِ بِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ بِحَالِ الْمُقَيَّدِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ تَسْلِيمَهُ أُلْحِقَ بِالْأَمْوَالِ لَكِنْ انْتَفَى ذَلِكَ لِلُزُومِ الْمُنَاقَضَةِ لَا تَكَادُ تَتَوَقَّفُ فِي صِحَّةِ تَسْمِيَةِ خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُجِزْهُ وَجَبَ قِيمَتُهَا، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ خِدْمَةً مُعَيَّنَةً تَسْتَدْعِي مُخَالَطَةً لَا يُؤْمَنُ مَعَهَا الِانْكِشَافُ وَالْفِتْنَةُ وَجَبَ أَنْ تُمْنَعَ وَتُعْطِيَ هِيَ قِيمَتَهَا أَوْ لَا تَسْتَدْعِي ذَلِكَ وَجَبَ تَسْلِيمُهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ بَلْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَنَافِعِ ذَلِكَ الْحُرِّ حَتَّى تَصِيرَ أَحَقَّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ صَرَفَتْهُ فِي الْأَوَّلِ فَكَالْأَوَّلِ، أَوْ فِي الثَّانِي فَكَالثَّانِي، وَقَدْ أَزَالَ الْمُصَنِّفُ آخِرًا بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا مُنَاقَضَةَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا هُوَ مَالٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا شَرْعًا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ عَلَيْهَا، وَمَا لَا يَجُوزُ كَخِدْمَةِ الزَّوْجِ الْحُرِّ لِلْمُنَاقَضَةِ أَوْ حُرٍّ آخَرَ فِي خِدْمَةٍ تَسْتَدْعِي خَلْوَةً لِلْفِتْنَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ كَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَالْحَجِّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى هَذِهِ فَصَحَّ تَسْمِيَتُهَا. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي رَعْيِ غَنَمِهَا وَزِرَاعَةِ أَرْضِهَا لِلتَّرَدُّدِ فِي تَمَحُّضِهَا خِدْمَةً وَعَدَمُهُ، وَكَوْنُ الْأَوْجَهِ الصِّحَّةُ لِقَصِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ شُعَيْبٍ وَمُوسَى عليهما السلام مِنْ غَيْرِ بَيَانِ نَفْيِهِ فِي شَرْعِنَا إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَتْ الْغَنَمُ مِلْكَ الْبِنْتِ دُونَ شُعَيْبٍ وَهُوَ
وَبِخِلَافِ خِدْمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَخْدُمُ مَوْلَاهُ مَعْنًى حَيْثُ يَخْدُمُهَا بِإِذْنِهِ وَبِأَمْرِهِ، وَبِخِلَافِ رَعْيِ الْأَغْنَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَامِ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ فَلَا مُنَاقَضَةَ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي رِوَايَةٍ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَجِبُ قِيمَةُ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ لِمَكَانِ الْمُنَاقَضَةِ فَصَارَ كَالتَّزَوُّجِ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ إذْ لَا تُسْتَحَقُّ فِيهِ بِحَالٍ فَصَارَ كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ،
مُنْتَفٍ (قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ رَعْيِ الْأَغْنَامِ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ خِدْمَةً لَهَا إذْ الْعَادَةُ اشْتَرَاكَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْقِيَامِ عَلَى مَصَالِحِ مَالِهِمَا: أَيْ بِأَنْ يَقُومَ كُلٌّ بِمَصَالِح مَالِ الْآخَرِ (عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي رِوَايَةٍ) فِي الدِّرَايَةِ، بِخِلَافِ رَعْيِ الْغَنَمِ وَالزِّرَاعَةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ وَهُوَ الْأَصَحُّ: يَعْنِي عَلَى أَنْ يَزْرَعَ لَهَا أَرْضَهَا، وَيَجُوزُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْخِدْمَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، أَلَا يَرَى أَنَّ الِابْنَ إذَا اسْتَأْجَرَ أَبَاهُ لِلْخِدْمَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِلرَّعْيِ وَالزِّرَاعَةِ يَصِحُّ اهـ.
[فُرُوعٌ]
وَإِذَا أَعْتَقَ أَمَةً وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا كَأَنْ يَقُولَ أَعْتَقْتُكِ عَلَى أَنْ تُزَوِّجِينِي نَفْسَكِ بِعِوَضِ الْعِتْقِ فَقَبِلَتْ صَحَّ الْعِتْقُ وَهِيَ بِالْخِيَارِ فِي تَزَوُّجِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْهُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. لَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ
وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَهُ بِالْعَقْدِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَظْهَرْ تَقَوُّمُهُ فَيَبْقَى الْحُكْمُ لِلْأَصْلِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ.
(فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ فَقَبَضَتْهَا وَوَهَبَتْهَا لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِخَمْسِمِائَةٍ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ
«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا» . قُلْنَا: نَصُّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُعَيِّنُ الْمَالَ فَإِنَّهُ بَعْدَ عَدِّ الْمُحَرَّمَاتِ أَحَلَّ مَا وَرَاءَهُنَّ مُقَيَّدًا بِالِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} الْآيَةَ، وَقَوْلُ الرَّاوِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمَهْرِ: يَعْنِي أَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَ الْعِتْقِ وَالتَّزَوُّجِ بِلَا مَهْرٍ جَائِزًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ غَيْرِهِ. وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَ الرَّاوِي فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ، وَإِنْ أَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ أَلْزَمْنَاهَا بِقِيمَتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ فَأَعْتَقَهَا عَلَى ذَلِكَ فَأَبَتْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّ رِقَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَهُ.
وَلَوْ قَالَتْ لِعَبْدِهَا أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجنِي بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا فَقَبِلَ عَتَقَ فَإِنْ أَبَى تَزَوُّجَهَا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ قَسَمَ الْأَلْفَ عَلَى قِيمَةِ نَفْسِهِ وَعَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، فَمَا أَصَابَ الرَّقَبَةَ فَهُوَ قِيمَتُهُ، وَمَا أَصَابَ الْمَهْرَ فَمَهْرُهَا، وَيَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ
(قَوْلُهُ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ) حَاصِلُ وُجُوهِهَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مُسَمًّى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
بِالْهِبَةِ عَيْنُ مَا يَسْتَوْجِبُهُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ فِي الذِّمَّةِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا (فَإِنْ لَمْ تَقْبِضْ الْأَلْفَ حَتَّى وَهَبَتْهَا لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ. وَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ)؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْمَهْرَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا تَبْرَأُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ عَيْنُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ (وَلَوْ قَبَضَتْ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ وَهَبَتْ الْأَلْفَ كُلَّهَا الْمَقْبُوضَ وَغَيْرَهُ أَوْ وَهَبَتْ الْبَاقِيَ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا قَبَضَتْ) اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَلِأَنَّ هِبَةَ الْبَعْضِ حَطٌّ فَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَقْصُودَ الزَّوْجِ قَدْ حَصَلَ وَهُوَ سَلَامَةُ نِصْفِ الصَّدَاقِ بِلَا عِوَضٍ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عِنْدَ الطَّلَاقِ.
مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ أَوْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ كَالْعَرَضِ، وَإِمَّا مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ الْحَيَوَانِ مُعَيَّنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ؛ فَفِي الْأَوَّلِ إنْ وَهَبَتْ الْكُلَّ أَوْ نِصْفَهُ بَعْدَ قَبْضِ الْكُلِّ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ اتِّفَاقًا، أَوْ قَبْلَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ خِلَافًا لِزُفَرَ، أَوْ بَعْدَ قَبْضِ نِصْفِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ خِلَافًا لَهُمَا، وَقَالَ: لَا يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ النِّسْبَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ وَهَبَتْهُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ وَقَبَضَتْ الْبَاقِيَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ، وَعِنْدَهُ يَرْجِعُ إلَى تَمَامِ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَفِي الثَّانِي لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا قَبَضَتْ أَوْ لَمْ تَقْبِضْ وَأَوْجَبَ زُفَرُ رُجُوعَهُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَرْضِ. وَجْهُ الِاتِّفَاقِيَّةِ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ لَيْسَ نَفْسَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ
وَالْحَطُّ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ،
فِي الذِّمَّةِ بَلْ مِثْلٌ تَقَعُ بِهِ الْمُقَاصَّةُ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَاصِلَ إلَيْهِ غَيْرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ: أَعْنِي نِصْفَ الْمَهْرِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُمْسِكَ مَا أَخَذَتْهُ مِنْهُ وَتُعْطِيَهُ غَيْرَهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ نَاظِرٌ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِالطَّلَاقِ دَرَاهِمُ مُطْلَقَةٌ وَهَذِهِ لَيْسَتْ إلَّا مُعَيَّنَةً، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَيْنَ الْوَاجِبِ كَوْنُهَا لَهَا أَنْ تُمْسِكَهَا وَتَدْفَعَ غَيْرَهَا عِنْدَ الطَّلَاقِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ فِي ثَانِي شِقَّيْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْوَاصِلَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ نَفْسَ الدَّيْنِ لَكِنْ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ غَيْرِ الطَّلَاقِ وَهُوَ الْإِبْرَاءُ وَهُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ الْإِبْرَاءِ وَغَيْرُ مُسَبَّبٍ عَنْ الطَّلَاقِ؛ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمُسَبَّبَاتِ شَرْعًا. أَصْلُهُ حَدِيثُ: لَحْمٌ تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَبِوَاسِطَةِ لُزُومِ الِاخْتِلَافِ شَرْعًا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ عَيْنُ مَا يَسْتَحِقُّ فَصَارَتْ كَالْأُولَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ سُقُوطُ نِصْفِ الدَّيْنِ عَنْهُ تَحَقَّقَ بِالْإِبْرَاءِ، فَحِينَ حَصَلَ الطَّلَاقُ لَمْ يُؤَثِّرْ شَيْئًا لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ شَغْلَ الذِّمَّةِ بِالْمَهْرِ وَهُوَ مَحَلُّ أَثَرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي شُغْلِ الذِّمَّةِ بِالْإِسْقَاطِ، فَلَوْ أَوْجَبَ شَيْئًا آخَرَ كَمَا قَالَ إنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخَمْسِمِائَةِ عَيْنٍ لَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُوجِبِهِ فِي مَحَلِّهِ وَصَارَ كَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إذَا عَجَّلَهُ ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ وَإِذَا تَأَمَّلْت هَذَا التَّقْرِيرَ سَقَطَ عِنْدَكَ مَا تَكَلَّفَ فِي دَفْعِ لُزُومِ اخْتِلَافِ الْمُسَبَّبِ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ مِنْ تَخْصِيصِ الدَّعْوَى بِالْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ بِتَغْيِيرِ صِفَاتِهَا، بِخِلَافِ الْأَوْصَافِ كَالدَّيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حَيْثُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الصِّفَةِ بِالصِّفَةِ، وَهُوَ دَفْعٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ التَّغَيُّرِ شَرْعًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ، وَقِيَامُ الصِّفَةِ بِالصِّفَةِ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ النَّاعِتِ لَيْسَ مُحَالًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي التَّحْقِيقَاتِ الْكَلَامِيَّةِ. ثُمَّ يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ عَيْنُ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ إلَخْ عَلَيْهِ: أَيْ عَيْنُ مَا يَسْتَحِقُّهُ ذَاتًا لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ بِسَبَبِ الْإِبْرَاءِ، وَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ سَابِقًا فَإِنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ شَيْئًا حِينَئِذٍ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي قَبْضِ النِّصْفِ إلْحَاقُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَصَحِّ: يَعْنِي لَوْ قَبَضَتْ الْكُلَّ ثُمَّ وَهَبَتْهُ لَهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُلَازَمَةَ تَحْكُمُ، فَإِنَّ رُجُوعَهُ فِي صُورَةِ قَبْضِ الْكُلِّ لَيْسَ لِكَوْنِهِ قَبَضَ الْكُلَّ وَلَا الْبَعْضَ بَلْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ عَيْنُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا الْمُنَاطُ مُنْتَفٍ فِي صُورَةِ قَبْضِ النِّصْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَعَادَ نِصْفَ الصَّدَاقِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الزَّوْجِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الصَّدَاقَ الدَّيْنَ بِذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا: يَعْنِي يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَحَالُ الْهِبَةِ كَانَ كُلُّهُ مِلْكَهَا ظَاهِرًا، فَإِذَا قَبَضَتْ النِّصْفَ انْصَرَفَ إلَى حَقِّهَا كَمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَقَبَضَ صَاحِبُهُ نِصْفَهُ كَانَ الْمَقْبُوضُ حَقَّهُ، فَإِذَا أَبْرَأَتْهُ بَعْدَ مَا قَبَضَتْ النِّصْفَ مِنْ الْبَاقِي أَوْ الْكُلَّ كَانَ الْوَاصِلُ إلَيْهِ عَيْنَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي هِبَةِ الْكُلِّ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ إلْحَاقَهُمَا الْبَعْضَ بِالْكُلِّ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ، وَتَقْرِيرُ الْوَجْهِ الثَّانِي ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ (وَالْحَطُّ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ) يُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا لَوْ حَطَّتْ
أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ لَا تَلْتَحِقُ حَتَّى لَا تَتَنَصَّفُ، وَلَوْ كَانَتْ وَهَبَتْ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ وَقَبَضَتْ الْبَاقِيَ، فَعِنْدَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا إلَى تَمَامِ النِّصْفِ. وَعِنْدَهُمَا بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ
(وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَرَضٍ فَقَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْ فَوَهَبَتْ لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ) وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رَدُّ نِصْفِ عَيْنِ الْمَهْرِ عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ حَقَّهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ سَلَامَةُ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ مِنْ جِهَتِهَا وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا دَفْعُ شَيْءٍ آخَرَ مَكَانَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا،
حَتَّى بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ عَشْرَةٍ صَحَّ وَلَا تَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، وَتَسْمِيَةُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ لَا تَصِحُّ، وَقَيَّدَ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُلْتَحَقُ فِي الْبَيْعِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُغَابَنَةٍ وَمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ وَمُرَابَحَةٍ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ فِيهِ فَاعْتُبِرَ الْحَطُّ لِقَصْدِ دَفْعِهِ فَالْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَا كَذَلِكَ عَقْدُ النِّكَاحِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَطُّ فِيهِ وَقَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ لَا تَلْتَحِقُ) بِأَصْلِ الْعَقْدِ (حَتَّى لَا تَتَنَصَّفَ) اسْتِيضَاحٌ لِعَدَمِ الِالْتِحَاقِ وَهُوَ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ عَدَمَ الْتِحَاقِ الزِّيَادَةِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ هُوَ الدَّافِعُ لِقَوْلِ الْمَانِعِينَ لَهَا لَوْ صَحَّتْ كَانَ مِلْكُهُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، فَإِذَا لَمْ تَلْتَحِقْ بَقِيَ إبْطَالُهُمْ ذَلِكَ بِلَا جَوَابٍ، فَالْحَقُّ أَنَّهَا تَلْتَحِقُ كَمَا يُعْطِيهِ كَلَامُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَايِخِ، وَإِنَّمَا لَا تَتَنَصَّفُ؛ لِأَنَّ الِانْتِصَافَ خَاصٌّ بِالْمَفْرُوضِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ حَقِيقَةً بِالنَّصِّ الْمُقَيَّدِ بِالْعَادَةِ الْمُنْصَرِفِ إلَيْهَا عَلَى مَا مَرَّ، وَهَذِهِ لَمْ تُوجَدْ حَقِيقَةً حَالَةَ الْعَقْدِ بَلْ لَحِقَتْ بِهِ، وَلِأَنَّ وَجْهَ إلْحَاقِهَا بِالْبَيْعِ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ خَاسِرًا أَوْ زَائِدًا مُضِرًّا بِالْمُشْتَرِي فَيُرَدُّ إلَى الْعَدْلِ يَجْرِي فِي النِّكَاحِ، وَخُسْرَانُهُ أَنَّهُ يَنْقُصُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيُرَدُّ بِالزِّيَادَةِ إلَيْهِ فَإِنَّ تَزْوِيجَهَا مَعَ نَقْصِهَا عَنْ مَهْرِ مِثْلِ أَخَوَاتِهَا مَثَلًا يُعْقِبُ النَّدَمَ لَهَا وَزِيَادَتُهُ تُعْقِبُ النَّدَمَ لَهُ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ فِي الْعَرَضِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رَدُّ نِصْفِ عَيْنِ الْمَهْرِ عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ مِنْ أَنَّ السَّالِمَ بِالْهِبَةِ غَيْرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ فَتَرَتَّبَ عَلَى الطَّلَاقِ مُقْتَضَاهُ، وَيَجِبُ قِيمَةُ نِصْفِهِ لِتَعَذُّرِ عَيْنِهِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ فَأَبَى سَيِّدُهُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالطَّلَاقِ سَلَامَةُ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ وَقَدْ وَصَلَ عَيْنُ ذَلِكَ إلَيْهِ فَلَمْ يُصَادِفْ الطَّلَاقُ مَا كَانَ شَاغِلًا ذِمَّتَهَا لِيُؤَثِّرَ وُجُوبُ تَفْرِيغِهَا مِنْهُ عَلَيْهَا عَلَى نَحْوِ مَا سَلَكْت فِي التَّقْرِيرِ السَّابِقِ، وَحَمْلُ كَلَامِ الْكِتَابِ هُنَا عَلَيْهِ سَهْلٌ مِمَّا تَقَدَّمَ
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ دَيْنًا) أَيْ دَرَاهِمَ وَإِخْوَتَهَا فَإِنَّ
وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَتْ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ بِبَذْلٍ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى حَيَوَانٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مُتَعَيَّنٌ فِي الرَّدِّ
الْوَاصِلَ إلَيْهِ حِينَئِذٍ لَيْسَ عَيْنَ مَا تَسْتَحِقُّهُ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْعَرَضَ الْمَذْكُورَ فَإِنَّهُ وَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ عَيْنُ مَا يَسْتَحِقُّهُ لَكِنَّهُ بِبَدَلٍ وَالسَّالِمُ بِبَدَلٍ بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ الْبَدَلِ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْعَرَضُ أَوْ الْحَيَوَانُ فِي الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ: أَيْ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ قَبَضَتْ أَوْ لَمْ تَقْبِضْ، أَمَّا إذَا لَمْ تَقْبِضْ فَتَقْرِيرُهُ تَقْرِيرُهُ دَيْنًا، وَأَمَّا إنْ قَبَضَتْهُ ثُمَّ وَهَبَتْهُ فَلِأَنَّ الْمَقْبُوضَ فِيهِ مُتَعَيَّنُ الرَّدِّ بِالطَّلَاقِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُمْسِكَهُ وَتَدْفَعَ غَيْرَهُ، بِخِلَافِ الْمَقْبُوضِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُفَارَقَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْعَرَضُ فِي الذِّمَّةِ لِلْجَهَالَةِ وَلِذَا لَا يَثْبُتُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ كَالشِّرَاءِ لَكِنَّهَا تَحَمَّلَتْ فِي النِّكَاحِ لِجَرْيِ التَّسَاهُلِ فِي الْعِوَضِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، فَإِذَا عَيَّنَ بِالتَّسْلِيمِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ الْمَقْبُوضِ فَيَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ إذَا اُسْتُحِقَّ كَمَا لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي الِابْتِدَاءِ فَيُعْطَى حُكْمَهُ، وَيَتَأَتَّى خِلَافُ زُفَرَ فِي هَذِهِ أَيْضًا لِمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ وُصُولِهِ إلَيْهِ مِنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ.
وَمَا ذُكِرَ فِي الْغَايَةِ قَالَ زُفَرُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي تَعَيُّنِهَا اُسْتُبْعِدْت صِحَّتُهُ عَنْهُ لِمَا عُلِمَ مِنْ اشْتِرَاطِهِ اتِّحَادَ الْجِهَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ رِوَايَتَانِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ.
وَإِذًا قَدْ انْجَرَّ الْكَلَامُ إلَى شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِإِمْهَارِ الْعَرَضِ الْمُعَيَّنِ فَهَذِهِ فَوَائِدُهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ كُلُّهَا مِنْ الْمَبْسُوطِ فَتَقُولُ: لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَرَهُ فَأَتَاهَا بِهِ لَيْسَ لَهَا رَدُّهُ وَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ فَلَهَا رَدُّهُ إذَا كَانَ الْعَيْبُ فَاحِشًا وَهُوَ مَا يَنْقُصُ عَنْ الْقِيمَةِ قَدْرًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ بِخِلَافِ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ. أَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَلِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي إثْبَاتِهِ إذْ الْفَائِدَةُ فِي إثْبَاتِهِ التَّمَكُّنُ مِنْ إعَادَةِ الْعِوَضِ الَّذِي قُوبِلَ بِالْمُسَمَّى كَالْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْمُسَمَّى بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَلَا تَرُدُّ الْمَرْأَةُ بَلْ غَايَةُ مَا يَجِبُ بِهِ رَدُّ الْمُسَمَّى فِيهِ قِيمَتُهُ وَالْقِيمَةُ أَيْضًا غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ.
وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلِثُبُوتِ فَائِدَةٍ وَهِيَ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّسْمِيَةِ هُوَ الْعَقْدُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ التَّسْمِيَةِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ صَحِيحًا، وَلَكِنْ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَتَعَذَّرُ تَسَلُّمُ الْمُعَيَّنِ كَمَا الْتَزَمَ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ، كَالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَبَقَ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا هَلَكَ الصَّدَاقُ الْمُعَيَّنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ بَلْ يَجِبُ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ وَكَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ. هَذَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ قَائِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ. فَإِنْ تَعَيَّبَ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَسِيرًا فَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ، وَعَنْ زُفَرَ لَهَا الْخِيَارُ، أَوْ فَاحِشًا فَأَمَّا بِفِعْلِ الزَّوْجِ فَلَهَا الْخِيَارُ أَنْ تُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ تَزَوَّجَهَا أَوْ تَأْخُذَهُ وَتُضَمِّنَ الزَّوْجَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الصَّدَاقِ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ، فَإِذَا أَتْلَفَ بَعْضَهُ لَزِمَهُ قَدْرُهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا اخْتَارَتْ أَخْذَهُ لَا تُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ. وَأَمَّا بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلَهَا هَذَا الْخِيَارُ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إذَا اخْتَارَتْ أَخْذَهُ. وَأَمَّا بِفِعْلِ الصَّدَاقِ نَفْسِهِ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ كَالْعَيْبِ السَّمَاوِيِّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَتَعْيِيبِ الزَّوْجِ. وَأَمَّا بِفِعْلِهَا فَتَصِيرُ قَابِضَةً لَهُ كُلَّهُ.
وَأَمَّا بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَيَجِبُ ضَمَانُهُ النُّقْصَانَ وَيَكُونُ ضَمَانُهُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ لِلتَّغْيِيرِ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَهُ وَتُضَمِّنَ الْجَانِيَ نُقْصَانَهُ أَوْ تُضَمِّنَ الزَّوْجَ قِيمَتَهُ وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَى الْجَانِي، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْعَيْنَ وَتُضَمِّنَ الزَّوْجَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ بِذَلِكَ، هَذَا كُلُّهُ إذَا دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ فِي حَقِّ النِّصْفِ كَمَا فِي الْكُلِّ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهَا بَعْدَ قَبْضِهَا ثُمَّ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ فَفِي السَّمَاوِيِّ إنْ شَاءَتْ ضَمَّنَهَا الزَّوْجُ نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ لِتَعَذُّرِ رَدِّهَا إيَّاهُ كَمَا قَبَضَتْهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النِّصْفَ وَلَيْسَ عَلَيْهَا ضَمَانُ نُقْصَانٍ، وَالتَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الصَّدَاقِ كَالسَّمَاوِيِّ، وَكَذَا بِفِعْلِهَا؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكًا لَهَا صَحِيحًا فَلَا يُوجِبُ ضَمَانَ نُقْصَانٍ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَهُوَ ضَامِنٌ وَهُوَ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَيُمْنَعُ تَنْصِيفُ الْأَصْلِ بِالطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ قَبَضَهُ.
وَكَذَا إذَا تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ تَنْصِيفَ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ، فَلَوْ كَانَ إنَّمَا تَعَيَّبَ فِي يَدِهَا بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْأَصْلِ مَعَ نِصْفِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فَسَدَ فِي النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ وَصَارَ مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ عَلَى الزَّوْجِ فَكَانَ فِي يَدِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمَقْبُوضِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهَا ضَمَانُ النُّقْصَانِ سَوَاءٌ تَعَيَّبَ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِهِ أَوْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْأَرْشُ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا. وَوَقَعَ فِي مُخْتَصَرِ الْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ أَنَّ التَّعَيُّبَ فِي يَدِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهُوَ غَلَطٌ، بَلْ الصَّحِيحُ فِي كُلِّ فَصْلٍ مَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ جَارِيَةً فَلَمْ تَقْبِضْهَا حَتَّى وَطِئَهَا الزَّوْجُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ كَالْبَيْعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ، وَهَذَا الْعُقْرُ مَعَ الْوَلَدِ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَالْعُقْرُ بَدَلُهُ، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تَنَصَّفَ الْكُلُّ فَيَكُونُ الْعُقْرُ وَالْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا وَلَا تَكُونُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلزَّوْجِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْهُ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ نِصْفُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ وَلَدِهِ مِنْ الزِّنَا فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ لِلْجُزْئِيَّةِ، وَيَسْعَى لِلْمَرْأَةِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ مَا صَنَعَ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا إنَّمَا صَنَعَ الطَّلَاقَ وَذَلِكَ لَيْسَ مُبَاشَرَةً لِإِعْتَاقِ الْوَلَدِ بَلْ مِنْ حُكْمِ الطَّلَاقِ عَوْدُ النِّصْفِ إلَى الزَّوْجِ ثُمَّ يُعْتَقُ عَلَيْهِ حُكْمًا لِمِلْكِهِ.
وَإِنْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْمَرْأَةِ أَوْ قُتِلَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبَضَتْ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ الصَّدَاقِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلزَّوْجِ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يُلَاقِ مِلْكَهُ بَلْ مِلْكَ الْمَرْأَةِ فَلَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا. وَإِذًا قَدْ انْجَرَّ الْكَلَامُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ فَلْنَسْتَوْفِهِ.
وَحَاصِلُهُ مِنْ الْمَبْسُوطِ أَنَّ الزِّيَادَةَ قَبْلَ قَبْضِهِ مُتَّصِلَةٌ كَالسِّمَنِ وَانْجِلَاءِ بَيَاضِ الْعَيْنِ وَمُنْفَصِلَةٌ
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَحَمَّلَتْ فِي النِّكَاحِ فَإِذَا عَيَّنَ فِيهِ يَصِيرُ كَأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ
مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ كَالْوَلَدِ وَالثِّمَارِ وَالْعُقْرِ وَغَيْرِ مُتَوَلِّدَةٍ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يُسَلَّمُ لَهَا إذَا دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَمِلْكُ الْأَصْلِ كَانَ سَالِمًا لَهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ وَالدُّخُولِ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ، فَأَمَّا إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَالزِّيَادَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مُنْفَصِلَةٌ أَوْ مُتَّصِلَةٌ تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ مَعَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَالْحَادِثُ مِنْ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ الْمَبِيعَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ هُنَاكَ كَالْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ حَتَّى يَصِيرَ بِمُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ فَلَا تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ الْكُلُّ لَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا تَتَنَصَّفُ مَعَ الْأَصْلِ، وَكَذَا لَوْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى بَطَلَ مِلْكُهَا عَنْ جَمِيعِ الصَّدَاقِ يُسَلَّمُ لَهَا الْكَسْبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَدُورُ الْكَسْبُ مَعَ الْأَصْلِ، وَكَذَا الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُسَلَّمُ الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي، وَعِنْدَهُمَا هُوَ لِلْبَائِعِ.
لَهُمَا أَنَّ الْكَسْبَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ كَالْوَلَدِ فَكَمَا لَا يُسَلَّمُ لَهَا إذَا بَطَلَ مِلْكُهَا عَنْ الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ مِلْكِهَا عَنْ الْأَصْلِ لِانْفِسَاخِ السَّبَبِ فِيهِ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ مُتَوَلِّدَةً كَانَتْ أَوْ لَا، فَإِذَا انْفَسَخَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ لَا يَبْقَى سَبَبًا لَمِلْكِ الزِّيَادَةِ. وَحَقِيقَةُ الْوَجْهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ مِلْكِ الزِّيَادَةِ غَيْرُ سَبَبِ مِلْكِ الْأَصْلِ بَلْ مِلْكُ الْأَصْلِ يَصِيرُ شَرْطًا، فَسَبَبُ مِلْكِ الْأَصْلِ مَثَلًا قَبُولُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَفِي الزِّيَادَةِ الِاكْتِسَابُ لِلْمُكْتَسِبِ وَهُوَ إمَّا احْتِطَابُ الْعَبْدِ أَوْ إجَارَتُهُ نَفْسَهُ أَوْ قَبُولُهُ الْهِبَةَ، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ لَا تَنْفَسِخُ بِالطَّلَاقِ غَيْرَ أَنَّ الْمُكْتَسِبَ إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ خَلَفَهُ فِيهِ مَوْلَاهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ لِوَصْلَةِ الْمِلْكِ بَيْنَهُمَا وَقْتَ الِاكْتِسَابِ، وَبِبُطْلَانِ مِلْكِهِ فِي الْأَصْلِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُفْهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَلَيْسَ الْكَسْبُ كَالزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ يَسْرِي إلَيْهِ مِلْكُ الْأَصْلِ لَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ يَكُونُ مُكَاتَبًا وَكَسْبُهَا لَا يَكُونُ مُكَاتَبًا، وَوَلَدُ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَكُونُ مَبِيعًا يُقَابِلُهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ الْقَبْضِ وَكَسْبُهُ لَيْسَ مَبِيعًا وَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ قَبَضَ مَعَ الْأَصْلِ، وَلَوْ قَبَضَتْ الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا تَنَصَّفَ الْأَصْلُ وَالزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّنَصُّفِ بِالطَّلَاقِ ثَبَتَ فِي الْكُلِّ حِينَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِقَبْضِهَا؛ وَلَوْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَصْلَ قَبْلَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ فَحَدَثَتْ فِي يَدِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ أَوْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعَيْنِ وَهِيَ إمَّا مُنْفَصِلَةٌ أَوْ مُتَّصِلَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ فَهُوَ سَالِمٌ لَهَا وَرَدَّتْ نِصْفَ الْأَصْلِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْكَسْبِ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهَا وَيَدِهَا فَيَكُونُ سَالِمًا لَهَا، وَإِنْ لَزِمَهَا رَدُّ الْأَصْلِ أَوْ بَعْضِهِ كَالْمَبِيعِ إذَا اكْتَسَبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَدَّ الْأَصْلَ بِعَيْبٍ يَبْقَى الْكَسْبُ سَالِمًا لَهُ، وَهَذَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَقَدْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي ضَمَانِهَا فَتُسَلِّمُ مَنْفَعَتَهُ وَالْكَسْبُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعَيْنِ.
فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالثِّمَارِ امْتَنَعَ تَنَصُّفُ الْأَصْلِ بِالطَّلَاقِ وَعَوْدُ الْكُلِّ إلَيْهِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا، وَإِنَّمَا لِلزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ نِصْفُ قِيمَةِ الْأَصْلِ، وَفِي رِدَّتِهَا جَمِيعَ قِيمَتِهِ يَوْمَ دُفِعَ إلَيْهَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ بِالطَّلَاقِ وَيَعُودُ الْكُلُّ إلَى الزَّوْجِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا؛ لِأَنَّ بِقَبْضِهَا لَا يَتَأَكَّدُ مِلْكُهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، بَلْ تَوَهُّمُ عَوْدِ النِّصْفِ إلَى الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْكُلِّ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مِنْ قِبَلِهَا ثَابِتٌ فَيَسْرِي ذَلِكَ الْحَقُّ إلَى الزِّيَادَةِ كَالْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا إذَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي وَازْدَادَتْ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً فَإِنَّ الْبَائِعَ يَسْتَرِدُّهَا بِزِيَادَتِهَا.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ تَفْصِيلًا قَالَ فِي الطَّلَاقِ: يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأَصْلِ، وَعِنْدَ رِدَّتِهَا يَسْتَرِدُّ مِنْهَا الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَفْسَخُ السَّبَبَ مِنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ الرَّدُّ بِحُكْمِ انْفِسَاخِ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِفَسَادِ الْبَيْعِ، وَفِيهِ يَثْبُتُ الرَّدُّ فِي الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ، أَمَّا الطَّلَاقُ فَحَلُّ الْعَقْدِ وَلَيْسَ بِفَسْخٍ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ، فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الزَّوْجِ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ وَلَا فِي يَدِهِ، وَيَتَعَذَّرُ نِصْفُ الزِّيَادَةِ بِتَعَذُّرِ نِصْفِ الْأَصْلِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا مَلَكَتْ الصَّدَاقَ بِالْعَقْدِ وَتَمَّ مِلْكُهَا فِيهِ بِالْقَبْضِ فَحَدَثَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مِلْكٍ تَامٍّ لَهَا، وَالتَّنْصِيفُ عِنْدَ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ، وَلَيْسَتْ الزِّيَادَةُ مُسَمَّاةً فِيهِ وَلَا حُكْمًا إذْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا الْقَبْضَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ فَتَعَذَّرَ تَنَصُّفُهَا وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ فَيَتَعَذَّرُ تَنَصُّفُهَا تَعَذُّرَ تَنَصُّفِ الْعَيْنِ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْمَبِيعِ تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ إذَا كَانَتْ حَادِثَةً بَعْدَ الْقَبْضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْمَوْهُوبِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَإِذَا رَجَعَ فِي الْأَصْلِ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ سَالِمًا لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَجُوزُ أَنْ تُسَلَّمَ الزِّيَادَةُ أَيْضًا بِغَيْرِ عِوَضٍ. فَأَمَّا الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ فَمُعَاوَضَةٌ، فَبَعْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الزِّيَادَةِ لَوْ أَثْبَتْنَا الرَّدَّ فِي الْأَصْلِ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ سَالِمَةً بِلَا عِوَضٍ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ الْمِلْكُ بِلَا عِوَضٍ بَعْدَ رَفْعِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ تَنَصُّفُ الْأَصْلِ وَجَبَ عَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ لِلزَّوْجِ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِ وُجُوبِهِ.
وَلَمَّا كَانَ الصَّدَاقُ إنَّمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِهَا بِالْقَبْضِ كَانَ الْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةَ وَقْتَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبَى يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
هَذَا وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ سَوَاءٌ إنَّمَا لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ قَبَضَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ بِزِيَادَتِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا عِبْرَةَ بِهَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِعَبْدٍ وَقَبَضَهَا فَازْدَادَتْ مُتَّصِلَةً ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ الْجَارِيَةَ بِزِيَادَتِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَةَ كَزِيَادَةِ السِّعْرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ بِاعْتِبَارِهَا لِزِيَادَةِ السِّعْرِ فَكَذَا فِي الصَّدَاقِ، بِخِلَافِ الْمَوْهُوبَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ فِيهَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَيْسَتْ بِعَقْدِ ضَمَانٍ، فَالْقَبْضُ بِحُكْمِهِ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ ضَمَانَ الْعَيْنِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَبْقَ لِلْوَاهِبِ حَقٌّ فِي الْعَيْنِ حَتَّى يَسْرِيَ إلَى الزِّيَادَةِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ فِي الزِّيَادَةِ تَعَذَّرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهَا، بِخِلَافِ قَبْضِهَا الصَّدَاقَ فَإِنَّهُ قَبْضُ ضَمَانٍ لِحَقِّ الزَّوْجِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ بَقَاءُ حَقِّ الزَّوْجِ فِي الْأَصْلِ فَيَسْرِي إلَى الزِّيَادَةِ كَالْبَيْعِ.
وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ حَدَثَتْ فِي مَالِكٍ صَحِيحٍ لَهَا فَتَكُونُ سَالِمَةً لَهَا بِكُلِّ حَالٍ كَالْمُنْفَصِلَةِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ تَنَصُّفُ الزِّيَادَةِ تَعَذَّرَ تَنَصُّفُ الْأَصْلِ لِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّدَاقَ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ لَا عِوَضًا عَنْ مَالٍ، وَالْمُتَّصِلَةُ فِي الصِّلَاتِ تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ كَالْمَوْهُوبِ، وَتَأْثِيرُ الْمُتَّصِلَةِ
(وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ الْبَلْدَةِ أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْرَى، فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ فَلَهَا الْمُسَمَّى)؛ لِأَنَّهُ صَلُحَ مَهْرًا وَقَدْ تَمَّ رِضَاهَا بِهِ (وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْرَى أَوْ أَخْرَجَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا)؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَا لَهَا فِيهِ نَفْعٌ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْعَدِمُ رِضَاهَا بِالْأَلْفِ فَيُكْمِلُ مَهْرَ مِثْلِهَا كَمَا فِي تَسْمِيَةِ الْكَرَامَةِ وَالْهِدَايَةِ مَعَ الْأَلْفِ (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ أَقَامَ بِهَا وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ أَقَامَ بِهَا فَلَهَا الْأَلْفُ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ لَا يُزَادُ عَلَى الْأَلْفَيْنِ وَلَا يُنْقَصُ عَنْ الْأَلْفِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: الشَّرْطَانِ جَمِيعًا جَائِزَانِ) حَتَّى كَانَ لَهَا الْأَلْفُ
فِي الصِّلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُنْفَصِلَةِ حَتَّى إنَّ الْمُنْفَصِلَةَ فِي الْهِبَةِ لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَالْمُتَّصِلَةُ تَمْنَعُ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ هُنَا تَمْنَعُ تَنَصُّفَ الْأَصْلِ فَالْمُتَّصِلَةُ أَوْلَى أَنْ تَمْنَعَ.
فَأَمَّا الْبَيْعُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُتَّصِلَةَ تَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ كَالْمُنْفَصِلَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ فَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ نَصَّ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِالتَّحَالُفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَالْمُنْفَصِلَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ فِي يَدِهَا بَعْدَمَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ بِالطَّلَاقِ صَارَ رَدُّ الْأَصْلِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا فَيَسْرِي ذَلِكَ إلَى الزِّيَادَةِ كَالْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا تُرَدُّ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا إلَخْ) لِلْمَسْأَلَةِ صُورَتَانِ: الْأُولَى أَنْ يُسَمِّيَ لَهَا مَهْرًا وَيَشْتَرِطَ لَهَا مَعَهُ مَا لَهَا فِيهِ نَفْعٌ كَأَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ الْبَلَدِ أَوْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يَتَسَرَّى أَوْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا. وَالثَّانِيَةُ أَنْ يُسَمِّيَ لَهَا مَهْرًا عَلَى تَقْدِيرٍ وَآخَرَ عَلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ، أَمَّا الْأُولَى فَحُكْمُهَا ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ وَفَّى لَهَا فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْمُسَمَّى وَإِلَّا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا قَدْرَ الْمُسَمَّى أَوْ أَقَلَّ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا آخَرَ.
وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ مَا ضُمَّ إلَى الْمُسَمَّى مَالًا كَالْهَدِيَّةِ وَنَحْوِهَا يَكْمُلُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَ فَوَاتِهِ وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْأَلْفُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ، فَكَذَا بِمَنْعِ التَّسْلِيمِ إذَا شُرِطَ لَهَا فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ طَلَاقِ الضَّرَّةِ وَنَحْوِهِ لَا يَتَقَوَّمُ فَلَا يَلْزَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إذَا فَاتَ ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَزَوَّجْهُ إلَّا عَلَى مِلْكِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ وَهُوَ بِخِلَافِهِ، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» .
وَجَوَابُ زُفَرَ أَنَّ إيجَابَ التَّسْلِيمِ لَيْسَ لِلتَّقَوُّمِ فِي الْمَضْمُومِ بَلْ لِعَدَمِ رِضَاهَا بِالْأَلْفِ إلَّا بِهِ فَبِانْتِفَائِهِ ظَهَرَ عَدَمُ رِضَاهَا بِالْمُسَمَّى فَكَانَ كَعَدَمِ التَّسْمِيَةِ وَفِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ فِي الشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا
إنْ أَقَامَ بِهَا وَالْأَلْفَانِ إنْ أَخْرَجَهَا.
وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ جَمِيعًا فَاسِدَانِ، وَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ مِنْ أَلْفٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِجَارَاتِ فِي قَوْلِهِ: إنْ خِطْتِهِ الْيَوْمَ فَلَكِ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتِهِ غَدًا فَلَكِ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَسَنُبَيِّنُهَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا». وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَمْنَعُ التَّزَوُّجَ وَالتَّسَرِّي لَوْ وَجَبَ الْجَرْيُ عَلَى مُوجِبِهَا فَكَانَتْ بَاطِلَةً فَلَا يُؤَثِّرُ عَدَمُهَا فِي خِيَارِ الْفَسْخِ، بَلْ إنْ وَفَّى تَمَّتْ التَّسْمِيَةُ لِرِضَاهَا بِهَا وَإِلَّا لَا تَتِمُّ لِعَدَمِ الرِّضَا، وَفَسَادُ الْعَقْدِ لَيْسَ لَازِمًا لِعَدَمِ تَمَامِ التَّسْمِيَةِ وَلَا لِعَدَمِهَا رَأْسًا إذْ لَيْسَ ذِكْرُهَا مِنْ الْأَرْكَانِ وَلَا الشُّرُوطِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ لَا يَمَسُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ مَا دَامَتْ تَحْتَهُ مُخْتَارًا لِعَدَمِ دُخُولِ خِيَارِ الْفَسْخِ فِي يَدَيْهَا وَأَيْنَ عَدَمُ التَّزَوُّجِ مُخْتَارًا لِأَمْرٍ مِنْ تَحْرِيمِهِ شَرْعًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُحَرِّمَ لِلْحَلَالِ بَعْدَمَا حَكَمَ بِكَوْنِهِ بَاطِلًا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا عَلَى إرَادَةِ كَوْنِهِ شَرْطَ تَرْكِ الْحَلَالِ أَوْ فِعْلِ الْحَرَامِ، إذْ لَوْ أَحَلَّ حَقِيقَةً بِأَنْ ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْحِلِّ شَرْعًا لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا، وَإِذَا عَارَضَهُ وَجَبَ حَمْلُ الْأَحَقِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا رُوِيَ عَلَى مَا مَنْ أَلْحَقَ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهِ ضِدُّ الْبَاطِلِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْوُجُوبِ صَادِقٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْجَائِزِ وَالْمَنْدُوبِ لَا مَا يَخُصُّ الْوَاجِبَ عَيْنًا.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إذَا ظَهَرَ عَدَمُ رِضَاهَا بِالْأَلْفِ لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُهُ نِكَاحًا بِلَا تَسْمِيَةٍ وَلَا نَظِيرَهُ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُفَوِّضَةً، بَلْ إنَّمَا رَضِيَتْ بِتَسْمِيَةٍ صَحِيحَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَقَدْ قَالُوا: إذَا سَمَّى لِلْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا مَهْرًا فَسَكَتَتْ لَا يَكُونُ رِضًا حَتَّى يَكُونَ الْمَهْرُ وَافِرًا وَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا بِهِ فَكَيْفَ وَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِنَفْيِهِ، وَكَوْنُ مَهْرِ مِثْلِهَا أَصْلًا لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ النِّكَاحِ بِهِ مَا لَمْ تَكُنْ مُفَوِّضَةً أَوْ تُصَرِّحُ بِالرِّضَا بِهِ. وَإِلَّا فَقَدْ لَا تَرْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ تَسْمِيَةً فَلَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ عَلَيْهَا بِهِ فَيَجِبُ أَنْ تَخْتَارَ، كَمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ ثُمَّ يَثْبُتُ لِلْوَلِيِّ خِيَارُ الْفَسْخِ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ حَمْلِ لَفْظِ أَحَقَّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذُكِرَ فَبِلَا مُوجِبٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُوجِبَ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ هُوَ امْتَنَعَ مِنْهُ بِالْتِزَامِهِ مُخْتَارًا لِأَحَبِّ الْأَمْرَيْنِ إلَيْهِ وَهُوَ صُحْبَةُ الزَّوْجَةِ، وَلِهَذَا لَوْ تَسَرَّى لَا نَقُولُ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَهُوَ أَدْنَى مِنْ امْتِنَاعِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ بِحَلِفِهِ لَا يَفْعَلُهُ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَكَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ بِأَنْ أَقَامَ بِهَا أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَتَسَرَّى أَوْ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا أَوْ إنْ كَانَتْ مَوْلَاةً أَوْ إنْ كَانَتْ أَعْجَمِيَّةً أَوْ ثَيِّبًا عَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَ أَضْدَادُهَا فَإِنْ وَفَّى بِالْأَوَّلِ أَوْ كَانَتْ أَعْجَمِيَّةً وَنَحْوَهُ فَلَهَا الْأَلْفُ وَإِلَّا فَمَهْرُ الْمِثْلِ لَا يُزَادُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْ أَلْفٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا إنْ قَدَّمَ شَرْطَ الْأَلْفَيْنِ يَصِحُّ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَجِبُ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى أَوَّلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا خَطَرَ فِيهَا وَكَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا الشَّرْطِ، وَقَالَا: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ فَلَهَا الْأَلْفُ إنْ أَقَامَ بِهَا وَالْأَلْفَانِ إنْ أَخْرَجَهَا. وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يَنْقُصُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَنْ الْأَلْفِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْأَلْفَيْنِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خَطَرَ فِي التَّسْمِيَةِ الْأُولَى بَلْ هِيَ مُنْجَزَةٌ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ فَهِيَ مُعَلَّقَةٌ، فَإِذَا وُجِدَ شَرْطُهَا بِأَنْ أَخْرَجَهَا مَثَلًا ثَبَتَ لَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى الْأَوَّلُ ثَابِتًا؛ لِأَنَّ الْمُنَجَّزَ لَا يُعْدِمُ وُجُودَ الْمُعَلَّقِ فَحِينَ وُجِدَ الْمُعَلَّقُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ اجْتَمَعَ تَسْمِيَتَانِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْجَهَالَةِ وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ فَلَا يُوجَدُ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ سِوَى مُسَمًّى وَاحِدٍ.
وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ لَا تَعْلِيقَ أَصْلًا بَلْ هُمَا مُنَجَّزَانِ؛ لِأَنَّ مَا يُضَمُّ مَعَ الْمَالِ إنَّمَا يُذْكَرُ لِلتَّرْغِيبِ لَا لِلشَّرْطِ فَاجْتَمَعَا فَفَسَدَا لِلْجَهَالَةِ، وَأَصْلُهَا فِي الْإِجَارَاتِ وَسَتَزْدَادُ هُنَاكَ وُضُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ الدَّبُوسِيِّ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ كَانَتْ قَبِيحَةً وَأَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ جَمِيلَةً يَصِحَّانِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا خَطَرَ فِي التَّسْمِيَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَزْمًا، غَيْرَ أَنَّ الزَّوْجَ يَجْهَلُهُ وَجَهَالَتُهُ لَا تُوجِبُ خَطَرًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ صِحَّتِهِمَا اتِّفَاقًا فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ إنْ كَانَتْ مَوْلَاةً أَوْ لَيْسَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَبِأَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ حُرَّةَ الْأَصْلِ أَوْ لَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى لَكِنَّ الْخِلَافَ مَنْقُولٌ فِيهِمَا، وَالْأَوْلَى أَنْ تُجْعَلَ مَسْأَلَةُ الْقَبِيحَةِ وَالْجَمِيلَةِ عَلَى الْخِلَافِ، فَقَدْ نَصَّ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِمَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَلَى طَلَاقِ فُلَانَةَ تَطْلُقُ بِمُجَرَّدِ تَمَامِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَذَا وَأَنْ يُطَلِّقَ فُلَانَةَ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُطَلِّقْهَا لَمْ تَطْلُقْ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ فُلَانَةَ وَعَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدًا فَقَدْ بَذَلَتْ الْبُضْعَ وَالْعَبْدَ، وَالزَّوْجُ بَذَلَ الْأَلْفَ وَشَرْطَ الطَّلَاقِ فَيَقْسِمُ الْأَلْفَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَعَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَا سَوَاءً كَانَ نِصْفُ الْأَلْفِ ثَمَنًا لِلْعَبْدِ وَنِصْفُهَا صَدَاقًا لَهَا، وَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ ذَلِكَ؛ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا نُظِرَ، إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ فَطَلَّقَ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْخَمْسُمِائَةِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُطَلِّقَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ الطَّلَاقِ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالشَّرْطِ شَيْءٌ وَلَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَطَلَاقِ فُلَانَةَ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدًا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالزَّوْجُ بَذَلَ شَيْئَيْنِ الْأَلْفَ وَالطَّلَاقَ وَالْمَرْأَةُ الْبُضْعَ وَالْعَبْدَ، وَالشَّيْئَانِ مَتَى قُوبِلَا بِشَيْئَيْنِ يَنْقَسِمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ سَوَاءً كَانَ نِصْفُ الْأَلْفِ وَنِصْفُ الطَّلَاقِ صَدَاقًا لَهَا، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ عَلَى الضَّرَّةِ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ بِمُقَابَلَتِهِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْبُضْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا نِصْفَ الْعَبْدِ وَنِصْفَ الْبُضْعِ بِمُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ إذَا ضُمَّ إلَى الْمَعْلُومِ فَالِانْقِسَامُ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ دُونَ الْقِيمَةِ.
وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ رَجَعَ بِخَمْسِمِائَةٍ حِصَّةِ الْعَبْدِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الطَّلَاقِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْعَبْدِ أَوْ هَلَاكُهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُوجِبُ قِيمَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَ مُلْتَزِمًا تَسْلِيمَهُ فَلِهَذَا رَجَعَ بِقِيمَةِ ذَلِكَ النِّصْفِ. وَهَاهُنَا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَجَاذَبَهَا بَابَا الشُّفْعَةِ وَالنِّكَاحِ وَهِيَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ أَلْفًا تُقْسَمُ الدَّارُ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَعَلَى الْأَلْفِ، حَتَّى لَوْ اسْتَوَيَا فَالنِّصْفُ مَهْرٌ وَالنِّصْفُ مَبِيعٌ، وَإِنْ تَفَاوَتَا تَفَاوُتًا وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ هَلْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِجَارِ هَذِهِ الدَّارِ فِيهَا مَثَلًا؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا، وَعِنْدَهُمَا نَعَمْ اعْتِبَارًا لِبَعْضِ الْمَبِيعِ بِالْكُلِّ، وَهُوَ يَقُولُ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الْمُتَضَمِّنِ لَا حُكْمُ نَفْسِهِ، وَالْبَيْعُ هَاهُنَا فِي ضِمْنِ
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا أَوْكَسُ وَالْآخَرُ أَرْفَعُ؛ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ أَوْكَسِهِمَا فَلَهَا الْأَوْكَسُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْفَعِهِمَا فَلَهَا الْأَرْفَعُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَهَا الْأَوْكَسُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْأَوْكَسِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِجْمَاعِ)
النِّكَاحِ إذْ الْعَقْدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا فَكَذَا فِي هَذِهِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْبَيْعُ أَصْلًا فَسَدَ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ فِي ضِمْنِ بَيْعٍ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَقَبُولُ النِّكَاحِ صَارَ شَرْطًا فِيهِ. وَفِي فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ مِنْ عَلَامَةِ النُّونِ: رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا عَلَى أَنْ تَدْفَعَ إلَيْهِ هَذَا الْعَبْدَ فَإِنَّهُ يَقْسِمُ مَهْرَ مِثْلِهَا عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا بَذَلَتْ الْبُضْعَ وَالْعَبْدَ بِإِزَاءِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْبَدَلُ يَنْقَسِمُ عَلَى قِيمَةِ الْمُبْدَلِ فَمَا أَصَابَ قِيمَةَ الْعَبْدِ فَالْبَيْعُ فِيهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا بَاعَتْهُ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ وَيَصِيرُ الْبَاقِي مَهْرًا لَهَا. وَذَكَرَ فِي عَلَامَةِ الْوَاوِ قَالَ لِامْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُكِ عَلَى أَنْ تُعْطِينِي عَبْدَكِ هَذَا فَأَجَابَتْهُ بِالنِّكَاحِ جَازَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْعَبْدِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَلِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَأَمَّا جَوَازُ النِّكَاحِ فَلِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ اهـ. وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ لَهَا إذْ مُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ تَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ
(قَوْلُهُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ) أَوْ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ (فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ أَوْكَسِهِمَا) أَوْ مِثْلِهِ (فَلَهَا الْأَوْكَسُ) إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ بِدَفْعِ الْأَرْفَعِ فَهُوَ لَهَا إلَّا أَنْ تَرْضَى بِالْأَوْكَسِ (وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْفَعِهِمَا) أَوْ مِثْلَهُ (فَلَهَا الْأَرْفَعُ) إلَّا أَنْ تَرْضَى بِالْأَوْكَسِ (وَإِنْ كَانَ) مَهْرُ مِثْلِهَا (بَيْنَهُمَا) أَيْ فَوْقَ الْأَوْكَسِ وَدُونَ الْأَرْفَعِ (فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَهَا الْأَوْكَسُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْأَوْكَسِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِجْمَاعِ) فَلَوْ كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءً صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ اتِّفَاقًا، وَكَثِيرٌ عَلَى أَنَّ مَنْشَأَ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِي الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي النِّكَاحِ، فَعِنْدَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ إذْ هُوَ قِيمَةُ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ بِحَالَةِ الدُّخُولِ، بِخِلَافِ الْمُسَمَّى فَإِنَّهُ قَدْ يَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهِ وَقَدْ يَنْقُصُ فَلَا يَعْدِلُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ لِلْجَهَالَةِ بِإِدْخَالِ كَلِمَةِ أَوْ.
وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ الْمُسَمَّى فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ إلَّا إذَا فَسَدَتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ مُنْتَفٍ إذْ يُمْكِنُ إيجَابُ الْأَوْكَسِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ هَذَا أَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ هَذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَوْكَسُ فِيهِمَا اتِّفَاقًا، وَهَذَا إنْ كَانَ مَنْقُولًا عَنْهُمْ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ تَخْرِيجًا فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ مَهْرُ الْمِثْلِ، ثُمَّ يَخْتَلِفُوا فِي فَسَادِ التَّسْمِيَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَعِنْدَهُ
لَهُمَا أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْمُسَمَّى، وَقَدْ أَمْكَنَ إيجَابُ الْأَوْكَسِ إذْ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ فَصَارَ كَالْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ مَهْرُ الْمِثْلِ إذْ هُوَ الْأَعْدَلُ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ بِخِلَافِ الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْبَدَلِ، إلَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْفَعِ فَالْمَرْأَةُ رَضِيَتْ بِالْحَطِّ، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْأَوْكَسِ فَالزَّوْجُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ، وَالْوَاجِبُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مِثْلِهِ الْمُتْعَةُ وَنِصْفُ الْأَوْكَسِ يَزِيدُ عَلَيْهَا فِي الْعَادَةِ فَوَجَبَ لِاعْتِرَافِهِ بِالزِّيَادَةِ.
(وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَلَهَا الْوَسَطُ مِنْهُ، وَالزَّوْجُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَعْطَاهَا ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا قِيمَتَهُ)
فَسَدَتْ لِإِدْخَالٍ أَوْ فَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَعِنْدَهُمَا لَمْ تَفْسُدْ؛ لِأَنَّ الْمُتَرَدِّدَ بَيْنَهُمَا لَمَّا تَفَاوَتَا وَرَضِيَتْ هِيَ بِأَيِّهِمَا كَانَ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْأَوْكَسِ فَتَعَيَّنَ دُونَ الْأَرْفَعِ إذْ لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُهُ عَلَيْهِ مَعَ رِضَاهَا بِالْأَوْكَسِ.
وَإِذَا تَعَيَّنَ مَالَهَا لَمْ يَصِرْ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِ حُكْمُ عَقْدٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ صَحِيحَةً، وَصَارَ كَالْخُلْعِ عَلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ وَالْإِعْتَاقُ بِأَنْ قَالَ أَعْتَقْتُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ هَذَا وَقَبِلَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَوْكَسُ فِيهِمَا. وَهُوَ يُفَرَّقُ بِأَنْ تَعَيَّنَ الْأَوْكَسُ فِي هَاتَيْنِ ضَرُورَةُ أَنْ لَا مُوجِبَ فِيهِمَا فِي حَقِّ الْبَدَلِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِمَا بِالتَّسْمِيَةِ وَأَنْ لَا يَلْغُوَ كَلَامُهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا؛ لِأَنَّ لِلنِّكَاحِ مُوجِبًا أَصْلِيًّا، فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُ مَا رُدِّدَ فِيهِ لَا يَلْزَمُ الْإِلْغَاءُ إذْ يُصَانُ بِتَصْحِيحِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ خَيَّرَهَا بِأَنْ قَالَ عَلَى أَنَّهَا بِالْخِيَارِ تَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَتْ أَوْ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أُعْطِيكَ أَيَّهُمَا شِئْت فَإِنَّهُ يَصِحُّ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا لِانْتِفَاءِ الْمُنَازَعَةِ أَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ أَخْذَ الْأَرْفَعِ فَامْتَنَعَ تَحَقَّقَتْ الْمُنَازَعَةُ إذْ لَيْسَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ إذْ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْتَبِدُّ بِالتَّعْيِينِ وَصَارَ كَبَيْعِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ سَمَّى لِكُلٍّ ثَمَنًا وَجَعَلَ خِيَارَ التَّعْيِينِ لِأَحَدِهِمَا جَازَ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ حَيْثُ يَتَعَيَّنُ لَهُ الْأَلْفُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْ ذَلِكَ فِي إنْشَاءِ مُعَاوَضَةٍ، بَلْ ذَكَرَ أَنَّ ذِمَّتَهُ مَشْغُولَةٌ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَهُوَ فِي شَكٍّ فِي اشْتِغَالِهَا بِالْأَلْفَيْنِ لَمْ يَجْزِمْ بِهِمَا فَلَا يَلْزَمَانِهِ، بِخِلَافِ الْأَلْفِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشُكَّ فِيهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ حَالَّةٍ أَوْ مُؤَجَّلَةٍ إلَى سَنَةٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ فَلَهَا الْحَالَّةُ وَإِلَّا فَالْمُؤَجَّلَةُ وَعِنْدَهُمَا لَهَا الْمُؤَجَّلَةُ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ وَلَوْ عَلَى أَلْفٍ حَالَّةٍ أَوْ أَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا كَالْأَكْثَرِ فَالْخِيَارُ لَهَا، وَإِنْ كَانَ كَالْأَقَلِّ فَلَهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَعِنْدَهُمَا الْخِيَارُ لَهُ لِوُجُوبِ الْأَقَلِّ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَالْوَاجِبُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَخْ) وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ الْمُتْعَةُ زَائِدَةً عَلَى نِصْفِ الْأَوْكَسِ تَحْكُمُ صَرَّحَ بِهِ فِي الدِّرَايَةِ فَالْمُحْكَمُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ إلَّا مُتْعَةُ مِثْلِهَا
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ إلَخْ) الْمَهْرُ كَمَا يَكُونُ مِنْ النُّقُودِ يَكُونُ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِذَا
قَالَ رحمه الله: مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُسَمِّيَ جِنْسَ الْحَيَوَانِ دُونَ الْوَصْفِ، بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى فَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ. أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّ الْجِنْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى دَابَّةٍ لَا تَجُوزُ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
كَانَ عَرْضًا أَوْ حَيَوَانًا فَإِمَّا مُعَيَّنٌ كَهَذَا الْعَبْدِ أَوْ الْفَرَسِ أَوْ الدَّارِ فَيَثْبُتُ الْمَلِكُ بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ فِيهِ لَهَا إنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُشَارًا إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَعَبْدِي وَإِلَّا فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِشِرَائِهِ لَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ شِرَائِهِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ. وَلَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ خُيِّرَتْ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي فِي يَدِهَا، إنْ شَاءَتْ رَدَّتْهُ بِالْعَيْبِ الْفَاحِشِ وَهُوَ التَّشْقِيصُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمِعَةِ وَرَجَعَتْ بِقِيمَةِ الدَّارِ، وَإِنْ شَاءَتْ أَمْسَكَتْهُ وَرَجَعَتْ بِقِيمَةِ نِصْفِهَا، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا النِّصْفُ الَّذِي فِي يَدِهَا خَاصَّةً، وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَمَةُ عِنْدَهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ ضَمَانُهُ وَلَا يَكُونُ حَالُهُ أَعْلَى مِنْ حَالِ وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ وَلَكِنْ لَهَا الْأَمَةُ إنْ دَخَلَ بِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا إنْ كَانَ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ يَسِيرًا، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا فَلَهَا إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْجَارِيَةَ وَلَا يَضْمَنُ الزَّوْجُ شَيْئًا، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ قِيمَتَهَا يَوْمَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ كَالْعَيْبِ السَّمَاوِيِّ وَقَدْ كَانَ الْوَلَدُ جَابِرًا لِذَلِكَ النُّقْصَانِ، فَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ ظَهَرَ النُّقْصَانُ لِانْعِدَامِ مَا يَجْبُرُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهَا فِي الْعَيْبِ السَّمَاوِيِّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَتَلَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ لَمْ يَضْمَنْ نُقْصَانَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَجَابَ فِي كَافِي الْحَاكِمِ بِأَنَّ عَلَيْهِ تَمَامَ ذَلِكَ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَهُوَ غَلَطٌ، فَقَدْ بَيَّنَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَكَذَا لَا يَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ مِنْ قَدْرِ النُّقْصَانِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ يَسِيرًا فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا فَلَهَا الْخِيَارُ كَمَا قُلْنَا، وَلَا إشْكَالَ فِي الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ فِي ثُبُوتِ الصِّحَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا زَادَ فَقَالَ هَذَا الثَّوْبُ الْهَرَوِيُّ وَلَمْ يَكُنْ هَرَوِيًّا فَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَهَا قِيمَةُ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَسَطٍ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَهُ أَوْ تَطْلُبَ قِيمَةَ الْهَرَوِيِّ الْوَسَطِ؛ لِأَنَّهَا وَجَدَتْهُ عَلَى خِلَافِ شَرْطِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَسَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِمَّا غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ غَيْرَهُمَا، فَفِي غَيْرِهِمَا إنْ لَمْ يُعَيِّنْ الْجِنْسَ بِأَنْ قَالَ حَيَوَانٌ ثَوْبٌ دَارٌ لَمْ يَصِحَّ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ بِجَهَالَةِ الْجِنْسِ لَا يُعْرَفُ الْوَسَطُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَفْرَادِ الْمُمَاثِلَةِ وَذَلِكَ بِاتِّحَادِ النَّوْعِ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ الَّذِي تَحْتَهُ الْفَرَسُ وَالْحِمَارُ وَغَيْرُهُمَا وَالثَّوْبِ الَّذِي تَحْتَهُ الْقُطْنُ وَالْكَتَّانُ وَالْحَرِيرُ، وَاخْتِلَافِ الصَّنْعَةِ أَيْضًا وَالدَّارِ الَّتِي تَحْتَهَا مَا يَخْتَلِفُ اخْتِلَاقًا فَاحِشًا بِالْبُلْدَانِ وَالْمَحَالِّ وَالضِّيقِ وَالسَّعَةِ وَكَثْرَةِ الْمَرَافِقِ وَقِلَّتِهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الْجَهَالَةُ أَفْحَشَ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَهْرُ الْمِثْلِ أَوْلَى. وَإِنْ عَيَّنَهُ بِأَنْ قَالَ عَبْدٌ أَمَةٌ فَرَسٌ حِمَارٌ بَيْتٌ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ، وَيَنْصَرِفُ إلَى بَيْتٍ وَسَطٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا بَاقِيهَا وَهَذَا فِي عُرْفِهِمْ، أَمَّا الْبَيْتُ فِي عُرْفِنَا فَلَيْسَ خَاصًّا بِمَا يُبَاتُ فِيهِ بَلْ يُقَالُ لِمَجْمُوعِ الْمَنْزِلِ وَالدَّارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ بِتَسْمِيَتِهِ مَهْرَ الْمِثْلِ كَالدَّارِ، وَتُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ قِيمَتِهِ لَوْ أَتَاهَا بِهَا، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. لَهُ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ مُعَاوَضَةٌ فَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ.
وَلَنَا أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَالْحَيَوَانُ يَثْبُتُ فِي ذَلِكَ بِالذِّمَّةِ أَصْلُهُ إيجَابُ الشَّرْعِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فِي الدِّيَةِ وَفِي الْجَنِينِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَاوَضَةٌ. وَلَنَا أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ فَجَعَلْنَاهُ الْتِزَامَ الْمَالِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يَفْسُدُ بِأَصْلِ الْجَهَالَةِ كَالدِّيَةِ وَالْأَقَارِيرِ، وَشَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا وَسَطُهُ مَعْلُومٌ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إعْلَامِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَالْوَسَطُ ذُو حَظٍّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ جَهَالَةِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَسَطَ لَهُ لِاخْتِلَافِ مَعَانِي الْأَجْنَاسِ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ،
فِي الذِّمَّةِ وَلَيْسَ فِيهَا مَعْلُومٌ إلَّا الْوَسَطُ مِنْ الْأَسْنَانِ الْخَاصَّةِ. وَسِرُّ هَذَا الشَّرْعِ عَدَمُ جَرَيَانِ الْمُشَاحَّةِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يُقَابِلْهَا مَالٌ فَلَا يُفْضِي جَهَالَةُ الْوَصْفِ فِيهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ مَعَ جَهَالَةِ وَصْفِهِ وَقَدْرِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَقَارِبِهَا مَنْ تَزَوَّجَ وَعُلِمَ لَهَا مَهْرٌ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْوِيمٍ وَتَخْمِينٍ، بَلْ جَهَالَةُ مَهْرِ الْمِثْلِ فَوْقَ جَهَالَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ فِي الصِّفَةِ وَجَهَالَةَ الْمِثْلِ جَهَالَةُ جِنْسٍ فَتَصْحِيحُ التَّسْمِيَةِ أَوْلَى (قَوْلُهُ وَشَرْطُنَا أَنْ يَكُونَ إلَخْ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ لَمَّا شَابَهَ النِّكَاحُ حِينَئِذٍ الْإِقْرَارَ فِي كَوْنِهِ الْتِزَامَ مَالٍ ابْتِدَاءً يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ تَسْمِيَةُ حَيَوَانٍ كَمَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِشَيْءٍ وَيَلْزَمُهُ الْبَيَانُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى كَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مَالًا لَهُ وَسَطٌ وَطَرَفَانِ فَقَالَ: شَرَطْنَا ذَلِكَ رِعَايَةً لِجَانِبَيْ الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ، إذْ جِهَةُ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً تُوجِبُ اشْتِرَاطَ نَفْيِ الْجَهَالَةِ أَصْلًا، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ تَحَمَّلَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ مَعَ أَنَّهُ الْمَوْرِدُ الشَّرْعِيُّ: أَعْنِي إيجَابَ الشَّرْعِ لِلْوَسَطِ فِي حَيَوَانِ الزَّكَاةِ رِعَايَةً لَجَانِبَيْ الْفُقَرَاءِ وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَكَذَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدِّيَةِ وَالْغُرَّةِ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَّا حُكْمَ الْأَصْلِ، وَلَوْ أَسْقَطَ قَوْلَهُ فَجَعَلْنَاهُ الْتِزَامَ الْمَالِ ابْتِدَاءً وَاكْتَفَى بِالْإِلْحَاقِ بِالدِّيَةِ وَالْغُرَّةِ وَمَهْرِ
أَمَّا النِّكَاحُ فَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْقِيمَةِ فَصَارَتْ أَصْلًا فِي حَقِّ الْإِيفَاءِ، وَالْعَبْدُ أَصْلُ تَسْمِيَةٍ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا.
(وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَمَعْنَاهُ: ذَكَرَ الثَّوْبَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ) وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةُ الْجِنْسِ إذْ الثِّيَابُ أَجْنَاسٌ، وَلَوْ سَمَّى جِنْسًا بِأَنْ قَالَ هَرَوِيٌّ يَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيُخَيَّرُ الزَّوْجُ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا إذَا بَالَغَ فِي وَصْفِ الثَّوْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَكَذَا إذَا سَمَّى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَسَمَّى جِنْسَهُ دُونَ صِفَتِهِ، وَإِنْ سَمَّى جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ لَا يُخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ مِنْهُمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا
الْمِثْلِ اسْتَغْنَى عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَجَوَابِهِ.
(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ الزَّوْجُ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوَسَطِ، وَالْحُكْمُ عِنْدَكُمْ وُجُوبُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ وَمِنْ قِيمَتِهِ حَتَّى تُجْبَرَ عَلَى قَبُولِهَا. أَجَابَ لَمَّا كَانَ الْوَسَطُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِتَقْوِيمِهِ صَارَتْ الْقِيمَةُ أَصْلًا مُزَاحِمًا لِلْمُسَمَّى كَأَنَّهَا هُوَ فَهِيَ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ فَتُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ أَيٍّ أَتَاهَا بِهِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مَا قَدْ يُقَالُ: إذَا كَانَ الْحُكْمُ ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ قِيمَتِهِ، وَفِيهِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ إنَّمَا أَفَادَ أَنَّ الْأَصْلَ الْعَبْدُ عَيْنًا وَالْقِيمَةُ مُخَلِّصٌ، أَلَا يُرَى إلَى التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِنَا كَأَنَّهَا هُوَ. وَفِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ قَالَ لِكَوْنِ الْمَهْرِ عَرَضًا رَاعَيْنَا صِفَةَ الْوَسَطِيَّةِ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِكَوْنِهِ مَالًا يُلْتَزَمُ ابْتِدَاءً لَا يَمْنَعُ جَهَالَةَ الصِّفَةِ صِحَّةُ الِالْتِزَامِ. قَالَ: وَلِهَذَا لَوْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَالْقِيمَةُ فِيهِ كَالْعَيْنِ. هَذَا وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ بِقَدْرِ الْغَلَاءِ وَبِالرُّخْصِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَإِنَّمَا قَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَبِيدِ السُّودِ بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا وَفِي الْعَبِيدِ الْبِيضِ بِخَمْسِينَ لَمَّا كَانَ فِي زَمَانِهِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ إلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا بَالَغَ فِي وَصْفِ الثَّوْبِ) بِأَنْ ذَكَرَ بَعْدَ نَوْعِهِ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَرِقَّتَهُ وَعَلَى مِنْوَالِ كَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ مِنْ أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ كَمَا عَلَى أَخْذِ الثَّوْبِ، وَجَعْلُهُ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ احْتِرَازًا عَمَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى عَيْنِ الْوَسَطِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَعَمَّا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ مَعَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ مَوْصُوفَهُ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا فِي السَّلَمِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَجَّلْ تَخَيَّرَ الزَّوْجُ. وَعِبَارَتُهُ فِي الْمَبْسُوطِ، فَإِنْ عَيَّنَ صِفَةَ الثَّوْبِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا تُجْبَرُ عَلَى الْقِيمَةِ إذَا أَتَاهَا بِهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: وَزُفَرُ يَقُولُ الثَّوْبُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفًا ثُبُوتًا صَحِيحًا
(وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا)؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْخَمْرِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَكِنْ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ لِمَا أَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لَهَا
لِأَنَّهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي ذِكْرِ صِفَتِهِ يَلْتَحِقُ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَلِهَذَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ هُنَاكَ مِنْ حُكْمِ السَّلَمِ لَا مِنْ حُكْمِ ثُبُوتِ الثِّيَابِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَاسْتَوَى ذِكْرُ الْأَجَلِ وَعَدَمُهُ. وَأَجَابَ بِأَنْ قَالَ: لَكِنَّا نَقُولُ لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ سَلَمًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ دَيْنًا ثُبُوتًا صَحِيحًا لَا مُؤَجَّلًا اهـ.
وَظَاهِرُهُ تَرَجُّحُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ حَاصِلُ الصُّورَةِ سَلَمٌ وَالْعَبْدُ رَأْسُ مَالِهِ وَالثِّيَابُ الْمُؤَجَّلَةُ السَّلَمُ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى تَرَجُّحُ قَوْلِ زُفَرَ إذْ لَمْ يَنْدَفِعْ قَوْلُهُ إنَّ اشْتِرَاطَ الْأَجَلِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ فَإِنْ سَمَّى جِنْسَهُ كَعَلَيَّ أَرَدْبُ قَمْحٍ أَوْ شَعِيرٍ دُونَ صِفَتِهِ فَكَغَيْرِهِ مِنْ ثُبُوتِهِ وَإِجْبَارِهَا عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ وَإِنْ وَصَفَهُ كَجَيِّدَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ الشَّعِيرِ صَعِيدِيَّةٍ أَوْ بَحْرِيَّةٍ لَا يُخَيَّرُ الزَّوْجُ، بَلْ يَتَعَيَّنُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ مِنْهُمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ صَحِيحًا حَالًّا كَالْقَرْضِ وَمُؤَجَّلًا كَمَا فِي السَّلَمِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تُجْبَرُ عَلَى الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ الصِّفَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ إنَّمَا تُوجِبُ الْوَسَطَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْفَرَسِ وَالْعَبْدِ لَا تَعَيُّنَ الْوَسَطِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا) وَبِهِ قَالَ الثَّلَاثَةُ، وَقَالُوا فِي رِوَايَةٍ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ: يَفْسُدُ النِّكَاحُ لِامْتِنَاعِ الْعِوَضِ إذْ الْمُسَمَّى يَمْنَعُ عِوَضًا آخَرَ وَهُوَ مُمْتَنِعُ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْمُسَلِّمِ. قُلْنَا: امْتِنَاعُ التَّسْلِيمِ لَا يَزِيدُ عَلَى فَسَادِ التَّسْمِيَةِ، وَفَسَادُهَا لَا يَزِيدُ عَلَى اعْتِبَارِهَا عَدَمًا مَعَ اشْتِرَاطِ قَبُولِهِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَفْسُدُ بِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ وَلَا بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ يَفْسُدُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنُهُ وَبِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يَصِيرُ رِبًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ زِيَادَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ الْعِوَضِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَلَا رِبًا فِي النِّكَاحِ
(قَوْلُهُ فَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ) أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فِيهِمَا: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ:
مِثْلُ وَزْنِهِ خَلًّا، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ الْقِيمَةُ) لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَطْمَعَهَا مَالًا وَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: اجْتَمَعَتْ الْإِشَارَةُ وَالتَّسْمِيَةُ فَتُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ لِكَوْنِهَا أَبْلَغَ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّعْرِيفُ، فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ حُرٍّ.
لَهَا مِثْلُ وَزْنِ الْخَمْرِ خَلًّا، وَقِيمَةُ الْحُرِّ الْمُشَارِ إلَيْهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحُرِّ وَبِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْخَمْرِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلَ فِي الْحُرِّ كَقَوْلِهِمَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْهِدَايَةِ فِي
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ ذَاتًا، وَالْوَصْفُ يَتْبَعُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ
التَّعْلِيلَاتِ مُقْتَضَى افْتِرَاقِهِمْ فِي مَبَانِي الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ أَبَا يُوسُفَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ سَمَّى لَهَا مَالًا وَتَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ فِي الْقِيَمِيِّ وَالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيِّ، وَالْعَبْدُ قِيَمِيٌّ وَالْخَمْرُ مِثْلِيٌّ. ثُمَّ قَالَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَمَّا اجْتَمَعَتْ إلَخْ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. فَفِي الْإِيضَاحِ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمُشَارَ إلَيْهِ إنْ كَانَ الْمُسَمَّى مِنْ جِنْسِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَالْمُسَمَّى.
وَفِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ قَالَ: هَذَا الْخِلَافُ يَنْشَأُ مِنْ أَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ إلَى آخِرِ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا وَمَا نَذْكُرُ، وَلِأَنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ. وَتَفْصِيلُهُ مِنْ الْكَافِي قَالَ: هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْإِشَارَةَ وَالتَّسْمِيَةَ إذَا اجْتَمَعَتَا وَالْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهَا تُعَرِّفُ الْمَاهِيَةَ وَالْإِشَارَةُ تُعَرِّفُ الصُّورَةَ فَكَانَ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ أَحَقُّ بِالِاعْتِبَارِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى إلَّا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا وَصْفًا فَالْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ ذَاتًا، وَالْوَصْفُ يَتْبَعُهُ: أَيْ يَتْبَعُ الذَّاتَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ لَا يَنْعَقِدُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ أَخْضَرُ يَنْعَقِدُ لِاتِّحَادِهِ، وَالشَّأْنُ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْحُرُّ مَعَ الْعَبْدِ وَالْخَلُّ مَعَ الْخَمْرِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي حَقِّ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَصْلُحُ صَدَاقًا وَالْآخَرُ لَا، فَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ بِالْمُسَمَّى وَكَأَنَّ الْإِشَارَةَ تُبَيِّنُ وَصْفَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: عَبْدٌ كَهَذَا الْحُرِّ وَخَلٌّ كَهَذَا الْخَمْرِ. وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْعَبْدُ مَعَ الْحُرِّ جِنْسٌ وَاحِدٌ، إذْ مَعْنَى الذَّاتِ لَا يَفْتَرِقُ فِيهِمَا، فَإِنَّ مَنْفَعَتَهُمَا تَحْصُلُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا لَمْ يَتَبَدَّلْ مَعْنَى الذَّاتِ اُعْتُبِرَ جِنْسًا وَاحِدًا، فَالْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَمَّا الْخَلُّ مَعَ الْخَمْرِ فَجِنْسَانِ، إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْخَمْرِ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْخَلِّ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا تَأْخُذُ الذَّاتَانِ حُكْمَ الْجِنْسَيْنِ إلَّا بِتَبَدُّلِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ الْحَوَادِثِ
خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِثْلُ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ، وَالتَّسْمِيَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُعَرِّفُ الْمَاهِيَّةَ، وَالْإِشَارَةُ تُعَرِّفُ الذَّاتَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ أَخْضَرُ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْعَبْدُ مَعَ الْحُرِّ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَنَافِعِ، وَالْخَمْرُ مَعَ الْخَلِّ جِنْسَانِ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ.
(فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْبَاقِي إذَا سَاوَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)
مَوْجُودٌ بِهَا، وَصُورَةُ الْخَلِّ وَالْخَمْرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَاحِدَةٌ فَاتَّحَدَ الْجِنْسُ، فَالْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ فِيهِمَا وَالْمُشَارُ إلَيْهِ غَيْرُ صَالِحٍ فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ اهـ.
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْخَمْرَ خَلًّا وَالْحُرَّ عَبْدًا تَجَوُّزًا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِالْمُرَادِ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ الْكَلْبَةُ طَالِقٌ وَلِعَبْدِهِ هَذَا الْحِمَارُ حُرٌّ تَطْلُقُ وَيَعْتِقُ، فَظَهَرَ أَنْ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَصْلِ بَلْ فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاتِّحَادِهِ، فَلَزِمَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْفِقْهِ مِنْ أَنَّ الْجِنْسَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْأَحْكَامِ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَلِفِينَ بِالْمَقَاصِدِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الْمَقُولُ عَلَى مُتَّحِدِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى.
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ اللَّائِقَ كَوْنُ الْجَوَابِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ أَوْ عَبْدٍ وَسَطٍ؛ لِأَنَّ إلْغَاءَ الْإِشَارَةِ وَاعْتِبَارَ الْمُسَمَّى يُوجِبُ كَوْنَ الْحَاصِلِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ وَحُكْمُهُ مَا قُلْنَا، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَكْسِ مَا ذَكَرْنَا: أَيْ عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَمْرِ فَإِذَا هُوَ خَلٌّ، أَوْ عَلَى هَذَا الْحُرِّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ، أَوْ عَلَى هَذِهِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا هِيَ ذَكِيَّةٌ، فَلَهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ رُوِيَ عَنْهُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ. وَبِالْأَصَحِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَأَوْجَبَ الذَّكِيَّةَ وَمَا مَعَهَا، وَأَوْجَبَ مُحَمَّدٌ الْمُذَكَّاةَ وَمَهْرَ الْمِثْلِ فِي الْخَمْرِ فَمَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَأَبُو يُوسُفَ خَالَفَ أَصْلَهُ وَاعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَصَحَّتْ إحْدَاهُمَا وَبَطَلَتْ الْأُخْرَى، فَاعْتُبِرَتْ الصِّحَّةُ وَصَارَتْ الْأُخْرَى كَأَنْ لَمْ تَكُنْ. وَكَذَا خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ لَهُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ بِوُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ يَقُولُ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْإِشَارَةَ هُنَاكَ لِتَجِبَ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا هُنَا لَا يَجِبُ فَلَا تُعْتَبَرُ لِيَجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا الْبَاقِي إذَا سَاوَى عَشْرَةً) فَإِنْ لَمْ يُسَاوِ عَشْرَةً كَمُلَتْ الْعَشَرَةُ
لِأَنَّهُ مُسَمًّى، وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى وَإِنْ قَلَّ يَمْنَعُ وُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا الْعَبْدُ وَقِيمَةُ الْحُرِّ عَبْدًا)؛ لِأَنَّهُ أَطْمَعَهَا سَلَامَةَ الْعَبْدَيْنِ وَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (لَهَا الْعَبْدُ الْبَاقِي وَتَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ)؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ يَجِبُ تَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَهُ
لِأَنَّهُ مُسَمًّى، وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى) الْمُسْتَحَقِّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ (وَإِنْ قَلَّ يَمْنَعُ وُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا الْعَبْدُ وَقِيمَةُ الْحُرِّ) لَوْ كَانَ (عَبْدًا)؛ لِأَنَّهَا مَا رَضِيَتْ إلَّا بِهِمَا وَتَعَذَّرَ تَسْلِيمُ أَحَدِهِمَا فَتَجِبُ الْقِيمَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا الْبَاقِي وَتَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا إنْ لَمْ يَبْلُغْ الْبَاقِي مَهْرَ الْمِثْلِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ بَلَغَ الْبَاقِي مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ فَيَتَّحِدُ بِقَوْلِ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَلَمْ يَبْلُغْ الْبَاقِي مَهْرَ الْمِثْلِ تُمِّمَ مَهْرُ الْمِثْلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا. فَهُنَا مَقَامَانِ لَهُمَا: مَقَامٌ اخْتَلَفَا فِيهِ وَهُوَ تَعْيِينُ الْوَاجِبِ مَعَ الْبَاقِي وَمَقَامٌ اتَّفَقَا فِيهِ وَهُوَ عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَاقِي وَلَهُمَا فِيهِ الْإِلْحَاقُ بِالْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ: أَعْنِي مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَأَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ الْبَلَدِ وَلَمْ يَفِ حَيْثُ يُكْمِلُ مَهْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَقَطْ، وَقَدْ امْتَنَعَ الْبَاقِي فَلَمْ يَجِبْ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْفَائِتَ فِي السَّابِقَةِ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ مَدْفُوعٌ بِأَنْ لَا أَثَرَ لِاسْتِحْقَاقِ مُسْتَحِقٍّ خَاصٍّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي دَفْعِ اسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ، وَلُزُومِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيهَا لَيْسَ إلَّا لِعَدَمِ رِضَاهَا بِذَلِكَ الْقَدْرِ تَسْمِيَةً إذْ لَمْ تَرْضَ إلَّا بِالْكُلِّ، غَيْرَ أَنَّ الْفَائِتَ هُنَاكَ لَمَّا لَمْ يَتَقَوَّمْ صُيِّرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُنَا يَتَقَوَّمُ بِمَعْنَى يُقَوَّمُ هَذَا الْحُرُّ عَبْدًا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ، وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الْوَجْهُ.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ جَبْرَ الْفَائِتِ هُنَاكَ لِعَدَمِ رِضَاهَا وَعَدَمِ تَقْصِيرِهَا فِي تَعْيِينِ مَا تَرْضَى بِهِ، أَمَّا هُنَا فَهِيَ الْمُقَصِّرَةُ فِي الْفَحْصِ عَنْ حَالِ الْمُسَمَّيَيْنِ فَإِنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْفَحْصِ بِخِلَافِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِخْرَاجِ وَطَلَاقَ الضَّرَّةِ إنَّمَا يُعْلَمُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَتْ هُنَا مُلْتَزِمَةً لِلضَّرَرِ مَعْنًى. هَذَا وَقَدْ خَرَجَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَا يَلِيهَا مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَسْمِيَةُ الْعَبْدِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إلَى الْحُرِّ لَغْوٌ، وَإِذَا لَغَا تَسْمِيَةُ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ صَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَسْمِيَةُ الْعَبْدِ مُعْتَبَرَةٌ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَى الْحُرِّ، فَاعْتُبِرَ تَسْمِيَةُ الْعَبْدَيْنِ لَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ. وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ تَسْمِيَةَ الْعَبْدِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إلَى الْحُرِّ لَغْوٌ، لَكِنَّهَا لَمْ تَرْضَ فِي تَمْلِيكِ بُضْعِهَا بِعَبْدٍ وَاحِدٍ فَيَجِبُ النَّظَرُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِدَفْعِ
فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا يَجِبُ الْعَبْدُ وَتَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
(وَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ قَبْلَ الدُّخُولِ
الضَّرَرِ، وَلَا جَوَابَ إلَّا بِمَا قُلْنَا مِنْ الْتِزَامِهَا لِذَلِكَ حَيْثُ قَصَّرَتْ إنْ تَمَّ، وَإِلَّا فَالْأَوْجَهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَكَوْنُهَا مُقَصِّرَةً بِذَلِكَ مَمْنُوعٌ إذْ الْعَادَةُ مَانِعَةٌ مِنْ التَّرَدُّدِ فِي أَنَّ الْمُسَمَّى حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذِهِ الثِّيَابِ الْعَشَرَةِ فَإِذَا هِيَ تِسْعَةٌ لَيْسَ لَهَا غَيْرُ التِّسْعَةِ، وَحَكَمَ مُحَمَّدٌ بِهَا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ سَاوَتْ مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ زَادَتْ وَإِلَّا كَمَّلَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، وَفِي فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ: مِنْ عَلَامَةِ الْعَيْنِ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذِهِ الْأَثْوَابِ الْعَشَرَةِ فَإِذَا هِيَ أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَحَدَ عَشَرَ وَزِيَادَةً فَلَهَا أَحَدَ عَشَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ يُفْتَى؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ إحْدَى الْعَشْرَتَيْنِ أَجْوَدَهُمَا أَوْ أَرْدَأَهُمَا فَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، أَمَّا إذَا وُجِدَتْ تِسْعَةٌ فَلَهَا التِّسْعَةُ لَا غَيْرَ عِنْدَهُ وَبِهِ يُفْتَى، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذِهِ الْأَثْوَابِ الْعَشَرَةِ الْهَرَوِيَّةِ فَإِذَا هِيَ تِسْعَةٌ حَيْثُ كَانَ لَهَا التِّسْعَةُ وَثَوْبٌ آخَرُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ فِي الْأُولَى الْمَنْطُوقَ بِهِ الثَّوْبُ الْمُطْلَقُ، وَالثَّوْبُ الْمُطْلَقُ لَا يَجِبُ مَهْرًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ مُطْلَقٍ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْمَنْطُوقُ بِهِ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ وَهَذَا يَجِبُ مَهْرًا.
وَشَرْحُ الْعِبَارَةِ الْأُولَى أَنَّ التَّزَوُّجَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى عَشْرَةٍ، وَحِينَ وَجَدَتْ أَحَدَ عَشَرَ فَلَا بُدَّ أَنْ تَشْتَمِلَ غَالِبًا عَلَى عَشْرَةٍ هِيَ أَجْوَدُ الْأَحَدَ عَشَرَ وَعَشْرَةٍ هِيَ أَرْدَأُ الْأَحَدَ عَشَرَ فَصَارَتْ التَّسْمِيَةُ عَشْرَةً مِنْ أَحَدَ عَشَرَ إمَّا أَرْدَؤُهَا أَوْ أَجْوَدُهَا، وَبِهِ تَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدَ عَشَرَ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا الْأَحَدَ عَشَرَ لِرِضَاهَا بِالنُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ الْأَرْدَأُ وَالْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ الْأَجْوَدُ تَعَيَّنَ، أَعْنِي مَهْرَ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ أَوْكَسِ الْعَبْدَيْنِ وَأَجْوَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْدَإِ الْعَشْرَتَيْنِ أَوْ مِثْلِهَا تَعَيَّنَ الْعَشَرَةُ الرَّدِيئَةُ كَمَا لَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَوْكَسِ الْعَبْدَيْنِ أَوْ مِثْلِهِ، هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُ قَوْلِهِمَا فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَتَعَيَّنَ أَرْدَؤُهُمَا مُطْلَقًا كَمَا عَيَّنَا أَوْكَسَ الْعَبْدَيْنِ كَذَلِكَ. وَشَرْحُ عِبَارَةِ التِّسْعَةِ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الْعَشَرَةُ تِسْعَةً وَلَمْ يَصِفْهَا بِالْهَرَوِيَّةِ فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذِهِ التِّسْعَةِ وَثَوْبٌ آخَرُ وَهُوَ مُطْلَقٌ فَيَلْغُو وَتَجِبُ التِّسْعَةُ فَقَطْ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَصَفَهَا بِالْهَرَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذِهِ التِّسْعَةِ وَثَوْبٍ هَرَوِيٍّ فَلَا تَبْطُلُ تَسْمِيَتُهُ، غَيْرَ أَنَّ مُقْتَضَى الْأَصْلِ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِيهِ بَيْنَ عَيْنِهِ وَقِيمَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ) وَهُوَ كَتَزَوُّجِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ أَوْ الْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ أَوْ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا خَلَا بِهَا أَوْ لَمْ يَخْلُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إلَّا بِالدُّخُولِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَقُمْ الْخَلْوَةُ فِيهِ مَقَامَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْهَا فِيهِ مُنْتَفٍ شَرْعًا، بِخِلَافِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ بِالْعَقْدِ وَيَكْمُلُ بِالْخَلْوَةِ لَوْ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ فِيهِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الدُّخُولِ لِثُبُوتِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوَطْءِ شَرْعًا وَحِسًّا. فَإِنْ دَخَلَ بِهَا بِجِمَاعٍ فِي الْقُبُلِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله اعْتَبَرَهُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ حَيْثُ تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ إذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْمُسْتَوْفَى وَلَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالتَّسْمِيَةِ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسَمَّى لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ لُزُومَ التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّكَ أَسْقَطْت اعْتِبَارَ التَّسْمِيَةِ إذَا زَادَتْ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، ثُمَّ اعْتَبَرْتهَا إذَا نَقَصَتْ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً يَجِبُ شُمُولُ الْعَدَمِ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَشُمُولُ الْوُجُودِ. وَأَجَابَ الْمُورِدُ بِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَاسِدَةٌ مِنْ وَجْهٍ، صَحِيحَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ فَاسِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا وُجِدَتْ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ فَاعْتَبَرْنَا
فَلَا مَهْرَ لَهَا)؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ فِيهِ لَا يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ لِفَسَادِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ (وَكَذَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ)؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ فِيهِ لَا يَثْبُتُ بِهَا التَّمَكُّنُ فَلَا تُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ (فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَوْفَى لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ لَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسَمَّى
فَسَادَهَا إذَا زَادَتْ وَصِحَّتَهَا إذَا نَقَصَتْ لِانْضِمَامِ رِضَاهَا. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ إلَّا فَاسِدَةً، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِبُطْلَانِهَا، إذْ لَيْسَ مَعْنَى فَسَادِ التَّسْمِيَةِ إلَّا كَوْنُ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ أَوْ وُقُوعُهُ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ كُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَقِلُّ بِفَسَادِهَا وَبِفَسَادِهَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ الْقِيمَةُ لِلْبُضْعِ شَرْعًا.
وَتَقْرِيرُ الْكِتَابِ لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ: أَيْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُسَمِّهَا فَكَانَتْ رَاضِيَةً بِالْحَطِّ مُسْقِطَةً حَقَّهَا فِي الزِّيَادَةِ إلَى تَمَامِهِ حَيْثُ لَمْ تُسَمِّ تَمَامَهُ. وَإِذَا عَلِمْت فَسَادَ التَّسْمِيَةِ عَلِمْت أَنَّ الْمَصِيرَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ اتِّفَاقًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ رحمه الله، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجِبُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَنَحْنُ لَا نُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى لِمَا ذَكَرْنَا. فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ لَكِنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهَا، وَنَتْرُكُ بَاقِيَ الْمُقَدِّمَاتِ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا بَلْ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالتَّسْمِيَةِ، إنْ أَرَادَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَالْحَصْرُ مَمْنُوعٌ بَلْ تَارَةً بِهَا وَتَارَةً بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَرَادَ فِي الْفَاسِدِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ فِيهِ حَتَّى صَارَ خَالِيًا عَنْ التَّسْمِيَةِ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، غَيْرَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ حَطُّهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ اُعْتُبِرَ رِضَاهَا بِالْحَطِّ وَلَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهَا بِالزِّيَادَةِ فَلَمْ يُوجِبُوا الْمُسَمَّى إذَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَاهُ
لِانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي نَفْسِهِ فَيَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِقِيمَتِهِ
فَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ مُسَمًّى وَقَدْ بَطَلَ وَإِمَّا لِرِضَاهَا، وَمُجَرَّدُ الرِّضَا بِالتَّمْلِيكِ لَا يَثْبُتُ لُزُومُ الْقَضَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّ بِهِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ بِالْقَبْضِ، بِخِلَافِ الرِّضَا بِالْحَطِّ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَيَتِمُّ بِالْوَاحِدِ، وَعَلَى هَذَا لَا تَتِمُّ الْمُعَارَضَةُ لِزُفَرَ رحمه الله بِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» الْحَدِيثُ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَكَانَ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ أَصْلًا فِي كُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، هَذَا بَعْدَمَا فِيهِ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ.
[فُرُوعٌ]
لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا بِهَذَا الدُّخُولِ إلَّا عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ.
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ إلَّا بِالدُّخُولِ، ثُمَّ لَوْ تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ لَمْ يَلْزَمْهُ سِوَى مَهْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا تَكَرَّرَ وَطْءُ الِابْنِ لِجَارِيَةِ الْأَبِ وَادَّعَى الشُّبْهَةَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بِكُلِّ وَطْءٍ مَهْرٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ إنْ كَانَ بِشُبْهَةِ اشْتِبَاهٍ تَعَدَّدَ الْمَهْرُ بِتَكَرُّرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِشُبْهَةِ مِلْكٍ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ، فَفِي جَارِيَةِ الْأَبِ وَجَارِيَةِ الزَّوْجَةِ إذَا وَطِئَهَا بِخُرُوجِ الثَّابِتِ فِي حَقِّهِمَا شُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ.
وَفِي جَارِيَةِ الِابْنِ إذَا وَطِئَهَا الْأَبُ وَالْمُكَاتَبَةُ إذَا وَطِئَهَا السَّيِّدُ وَالزَّوْجَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوْ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ إذَا ظَهَرَ بَعْدَ تَعَدُّدِ الْوَطْءِ أَنَّهُ كَانَ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا الثَّابِتِ فِي حَقِّهِمْ شُبْهَةُ الْمِلْكِ، وَتَقَرُّرُ الْوَطْءِ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَعَدَّدُ بِهِ الْمَهْرُ فَكَذَا فِي شُبْهَتِهِ. وَأَمَّا إذَا وَطِئَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ مِرَارًا قَالَ الشَّيْخُ حُسَامُ الدِّينِ: لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ، وَكَانَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ وَالِدِي يَقُولُ: يَتَعَدَّدُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لَيْسَ لَهُ شُبْهَةُ مِلْكٍ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ جَارِيَةِ الْأَبِ فِي حَقِّ الِابْنِ، وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُحَدُّ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ.
وَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُخَالِطُهَا ثُمَّ أَتَمَّ الْجِمَاعَ لَزِمَهُ مَهْرَانِ: مَهْرُ الْمِثْلِ بِالزِّنَا لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ حِينَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ تَمَامِهِ وَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالنِّكَاحِ وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ الْخَلْوَةِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ فِي الْجِنْسِ الْخَامِسِ مِنْ فَصْلِ الْمَهْرِ: لَوْ وَطِئَ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ طَلَاقِ ثَلَاثٍ وَادَّعَى الشُّبْهَةَ هَلْ يَلْزَمُهُ مَهْرٌ وَاحِدٌ أَمْ بِكُلِّ وَطْءٍ مَهْرٌ؟ قِيلَ: إنْ كَانَتْ الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَظَنَّ أَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فَهُوَ ظَنٌّ فِي مَوْضِعِهِ فَيَلْزَمُهُ مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهَا تَقَعُ لَكِنْ ظَنَّ أَنَّ وَطْئَهَا حَلَالٌ فَهَذَا ظَنٌّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيَلْزَمُهُ بِكُلِّ وَطْءٍ مَهْرٌ. وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا مِرَارًا ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَعَلَيْهِ مَهْرٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَهَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ
(وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ) إلْحَاقًا لِلشُّبْهَةِ بِالْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَتَحَرُّزًا عَنْ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ.
وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ لَا مِنْ آخِرِ الْوَطَآتِ، هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ النِّكَاحِ وَرَفْعُهَا بِالتَّفْرِيقِ
الْمَهْرِ. وَفِي آخِرِ حُدُودِ خُوَاهَرْ زَادَهْ: الصَّبِيُّ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ بِبَالِغَةٍ مُكْرَهَةٍ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَإِنْ دَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ دَعَتْ صَبِيَّةٌ صَبِيًّا عَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَكَذَا لَوْ دَعَتْ أَمَةٌ صَبِيًّا، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَهْرِ الْعُقْرُ (قَوْلُهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ) يَعْنِي إذَا فَارَقَهَا وَقَدْ دَخَلَ بِهَا لَا بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ.
فِي الْأَصْلِ فِيمَا إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ عَلَى غَيْرِ امْرَأَتِهِ فَدَخَلَ بِهَا قَالَ عَلَيْهِ مَهْرٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً تُسْقِطُ الْحَدَّ وَيَجِبُ الْمَهْرُ. قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ، وَلَا تَتَّقِي فِي عِدَّتِهَا مَا تَتَّقِي الْمُعْتَدَّةُ بِنَحْوِهِ قَضَى رضي الله عنه وَلِأَنَّ الْإِحْدَادَ لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَلَا نَفَقَةً فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ الْمَلِكِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ مُتَّصِفٌ هُنَا؛ وَلِأَنَّهَا النَّفَقَةُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً بِأَصْلِ النِّكَاحِ تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ هَاهُنَا لِتَبْقَى، وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى الَّذِي أَدْخَلَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَوْفِي لِلْبَدَلِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ أُخْتَ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ إلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا (قَوْلُهُ وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ لَا مِنْ آخِر الْوَطَآتِ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ زُفَرَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ النِّكَاحِ، وَرَفْعُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِالتَّفْرِيقِ أَوْ بِالِافْتِرَاقِ بِالْمُتَارَكَةِ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِمَا قُلْنَا، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ بِأَنْ يَقُولَ تَارَكْتُكَ أَوْ خَلَّيْت سَبِيلَك أَوْ خَلَّيْتهَا أَوْ تَرَكْتهَا، أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ سُنُونَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ: هَذَا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا
(وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ إحْيَاءً لِلْوَلَدِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى الثَّابِتِ مِنْ وَجْهٍ. وَتُعْتَبَرُ مُدَّةُ النَّسَبِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِدَاعٍ إلَيْهِ، وَالْإِقَامَةُ بِاعْتِبَارِهِ.
قَالَ (وَمَهْرُ مِثْلِهَا يُعْتَبَرُ بِأَخَوَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا وَبَنَاتِ أَعْمَامِهَا)" لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَهَا مَهْرُ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ " وَهُنَّ أَقَارِبُ الْأَبِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أَبِيهِ، وَقِيمَةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِي قِيمَةِ جِنْسِهِ
أَمَّا فِي غَيْرِهَا فَبِتَفَرُّقِ الْأَبَدَانِ بِأَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهَا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُ الْفَاسِدِ بِغَيْرِ حُضُورِ الْآخَرِ. وَقِيلَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِحُضُورِ الْآخَرِ. وَعِلْمُ غَيْرِ الْمُتَارِكِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْمُتَارَكَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْكَارُ النِّكَاحِ إنْ كَانَ بِحَضْرَتِهَا فَهُوَ مُتَارَكَةٌ وَإِلَّا فَلَا.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَاخْتَارَ الصَّفَّارُ قَوْلَ زُفَرَ، حَتَّى لَوْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ مِنْ آخِرِ الْوَطَآتِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ، وَعِنْدَنَا مَا لَمْ تَحُضَّهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ أَوْ الْمُتَارَكَةِ لَمْ تَنْقَضِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ فِي الْقَضَاءِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ بَعْدَ آخِرِ وَطْءٍ ثَلَاثًا يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ لَهَا التَّزَوُّجُ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قِيَاسِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَقْلِ الْعَتَّابِيِّ. وَفِي الْفَتَاوَى: لَا تَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ.
(قَوْلُهُ وَتُعْتَبَرُ مُدَّةُ النَّسَبِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِدَاعٍ إلَى الْوَطْءِ وَالْإِقَامَةِ) أَيْ إقَامَةِ الْعَقْدِ فَقَامَ الْوَطْءُ (بِاعْتِبَارِهِ) وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ: تَزَوَّجَتْ الْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَدَخَلَ بِهَا وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى وَالزَّوْجُ فَهُوَ ابْنُ الزَّوْجِ فَاعْتَبَرَهُ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: تَأْوِيلُ هَذَا أَنَّ الدُّخُولَ كَانَ عَقِيبَ النِّكَاحِ بِلَا مُهْلَةٍ. قَالَ فِي الْغَايَةِ: قَدْ اعْتَبَرُوا الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ فَكَانَ الْأَحْوَطُ فِي النَّسَبِ مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ أَيْضًا لَا مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لِلنَّسَبِ.
قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ: هَذَا وَهْمٌ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا اعْتَبَرُوهَا مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ لِيَثْبُتَ نَسَبُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إقَامَةً لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ مَقَامَ الْوَطْءِ، حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَلِأَقَلَّ مِنْهَا مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ ثَبَتَ نَسَبُهُ كَمَا فِي الصَّحِيحِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اعْتِبَارُهَا مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُفَارِقْهَا وَهِيَ مَعَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِبَارُ لِوَقْتِ التَّفْرِيقِ لَا غَيْرُ لَمَا ثَبَتَ، وَكَذَا لَوْ فَارَقَهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ لَا يُمْكِنُ الِاعْتِبَارُ لِوَقْتِ التَّفْرِيقِ لَا غَيْرُ، وَلَوْ خَلَا بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْهُ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ وَلَا الْعِدَّةُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُ بِهَا لَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ اهـ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ إذَا وَقَعَتْ فُرْقَةٌ وَمَا لَمْ تَقَعْ فَمِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ أَوْ الدُّخُولِ عَلَى الْخِلَافِ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَهَا مَهْرٌ مِثْلُ نِسَائِهَا) قَالَهُ فِي الْمُفَوِّضَةِ، وَقَدَّمْنَا تَخْرِيجَهُ، وَقَوْلُهُ (وَهُنَّ أَقَارِبُ الْأَبِ) لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ بَلْ تَفْسِيرُ نِسَائِهَا مِنْ الْمُصَنِّفِ بِنَاءً
(وَلَا يُعْتَبَرُ بِأُمِّهَا وَخَالَتِهَا إذَا لَمْ تَكُونَا مِنْ قَبِيلَتِهَا) لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا بِأَنْ كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ فَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ بِمَهْرِهَا لِمَا أَنَّهَا مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا.
(وَيُعْتَبَرُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ أَنْ تَتَسَاوَى الْمَرْأَتَانِ فِي السِّنِّ وَالْجَمَالِ وَالْمَالِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالْبَلَدِ وَالْعَصْرِ)؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَكَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ وَالْعَصْرِ قَالُوا: وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي أَيْضًا فِي الْبَكَارَةِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ
(وَإِذَا ضَمِنَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ صَحَّ ضَمَانُهُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ وَقَدْ أَضَافَهُ إلَى مَا يَقْبَلُهُ فَيَصِحُّ
عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إضَافَةِ النِّسَاءِ إلَيْهَا بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ جِنْسِ أَبِيهِ وَلِذَا صَحَّتْ خِلَافَةُ ابْنِ الْأَمَةِ إذَا كَانَ أَبُوهُ قُرَشِيًّا، وَعَلَى هَذَا كَانَ الْأَوْلَى إسْقَاطَ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أَبِيهِ لِيَكُونَ وَجْهُ كَوْنِ الْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ تَعَيُّنَ كَوْنِهِنَّ أَقَارِبَ الْأَبِ ظَاهِرًا، وَهَذَا لِأَنَّ جَعْلَهُ وَجْهًا مُسْتَقِلًّا يَصِحُّ إلَّا أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ إضَافَةِ النِّسَاءِ إلَيْهَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ النِّسَاءِ الْمُضَافَةِ أَقَارِبَ الْأَبِ، بَلْ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِعَمَّاتِهَا وَأَخَوَاتِهَا نِسَاؤُهَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِخَالَاتِهَا أَيْضًا وَأَخَوَاتِهَا لِأُمِّهَا فَإِنَّمَا يُرَجَّحُ جِهَةُ إرَادَةِ الْأَبِ الْمُقَدَّمَةِ الْمَذْكُورَةِ
(قَوْلُهُ وَيُعْتَبَرُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ أَنْ تَتَسَاوَيَا فِي الْجَمَالِ) يَعْنِي بِمُجَرَّدِ تَحَقُّقِ الْقَرَابَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَثْبُتُ صِحَّةُ الِاعْتِبَارِ بِالْمَهْرِ حَتَّى تَتَسَاوَيَا سِنًّا وَجَمَالًا وَمَالًا وَبَلَدًا وَعَصْرًا وَعَقْلًا وَدِينًا وَبَكَارَةً وَأَدَبًا وَكَمَالَ خُلُقٍ وَعَدَمَ وَلَدٍ وَفِي الْعِلْمِ أَيْضًا، فَلَوْ كَانَتْ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا لَكِنْ اخْتَلَفَ مَكَانُهُمَا أَوْ زَمَانُهُمَا لَا يُعْتَبَرُ بِمَهْرِهَا؛ لِأَنَّ الْبَلَدَيْنِ تَخْتَلِفُ عَادَةُ أَهْلِهِمَا فِي الْمَهْرِ فِي غَلَائِهِ وَرُخْصِهِ، فَلَوْ زُوِّجَتْ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي زُوِّجَ فِيهِ أَقَارِبُهَا لَا يُعْتَبَرُ بِمُهُورِهِنَّ، وَقِيلَ لَا يُعْتَبَرُ الْجَمَالُ فِي بَيْتِ الْحَسَبِ وَالشَّرَفِ بَلْ فِي أَوْسَاطِ النَّاسِ وَهَذَا جَيِّدٌ.
وَقَالُوا: يُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ أَيْضًا أَيْ بِأَنْ يَكُونَ زَوْجُ هَذِهِ كَأَزْوَاجِ أَمْثَالِهَا مِنْ نِسَائِهَا فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ وَعَدَمِهِمَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْ قَوْمِ الْأَبِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَأَجْنَبِيَّةٌ مَوْصُوفَةٌ بِذَلِكَ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: يُنْظَرُ فِي قَبِيلَةٍ أُخْرَى مِثْلِهَا، أَيْ مِثْلِ قَبِيلَةِ أَبِيهَا.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُعْتَبَرُ بِالْأَجْنَبِيَّاتِ وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَهَا أَقَارِبُ وَإِلَّا امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَفِي الْمُنْتَقَى: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ وَيُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَلَى ذَلِكَ شُهُودٌ عُدُولٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: مَهْرُ مِثْلِ الْأَمَةِ عَلَى قَدْرِ الرَّغْبَةِ
(قَوْلُهُ وَإِذَا ضَمِنَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ صَحَّ ضَمَانُهُ) بِقَيْدِ كَوْنِ الضَّمَانِ فِي الصِّحَّةِ أَمَّا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لِوَارِثِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ
(ثُمَّ الْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ فِي مُطَالَبَتِهَا زَوْجَهَا أَوْ وَلِيَّهَا) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْكَفَالَاتِ، وَيَرْجِعُ الْوَلِيُّ إذَا أَدَّى عَلَى الزَّوْجِ إنْ كَانَ بِأَمْرٍ كَمَا هُوَ الرَّسْمُ فِي الْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ هَذَا الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَتْ الْمُزَوَّجَةُ صَغِيرَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْأَبُ مَالَ الصَّغِيرَةِ وَضَمِنَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ فِي النِّكَاحِ، وَفِي الْبَيْعِ عَاقِدٌ وَمُبَاشِرٌ حَتَّى تَرْجِعَ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَالْحُقُوقُ إلَيْهِ، وَيَصِحُّ إبْرَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،
وَيَشْمَلُ وَلِيَّ الصَّغِيرِ إذَا زَوَّجَهُ وَضَمِنَ عَنْهُ وَوَلِيَّ الصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهَا وَضَمِنَ لَهَا. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ فِي مُطَالَبَتِهَا زَوْجَهَا أَوْ وَلِيَّهَا) هُوَ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ (وَيَرْجِعُ الْوَلِيُّ إذَا أَدَّى عَلَى الزَّوْجِ إنْ كَانَ بِإِذْنِهِ) يُفِيدُ أَنَّ الزَّوْجَ أَجْنَبِيٌّ أَوْ فِي حُكْمِهِ كَوَلَدِهِ الْكَبِيرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إذَا أَدَّى عَنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فِيمَا إذَا زَوَّجَهُ وَضَمِنَ عَنْهُ لِلْعُرْفِ بِتَحَمُّلِ مُهُورِ الصِّغَارِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ دَفَعَ لِيَرْجِعَ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ فِي مُطَالَبَتِهَا) يَعْنِي إذَا بَلَغَتْ (زَوْجَهَا) يَعْنِي إذَا كَانَ بَالِغًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا فَإِنَّمَا لَهَا مُطَالَبَةُ أَبِيهِ ضَمِنَ أَوْ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالتَّتِمَّةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ مَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَى اشْتِرَاطِ الرُّجُوعِ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ. هَذَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَنْظُومَةِ فِي بَابِ جَوَابِ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْأَبُ مَهْرَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِلَا ضَمَانٍ وَنَحْنُ نُخَالِفُهُ بِخِلَافِ إطْلَاقِ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَذَكَرَ فِي الْمُصَفَّى جَوَابَهُ فَقَالَ: قُلْنَا النِّكَاحُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ لُزُومِ الْمَالِ إنَّمَا يَنْفَكُّ عَنْ إيفَاءِ الْمَهْرِ فِي الْحَالِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى تَزْوِيجِهِ ضَمَانُ الْمَهْرِ عَنْهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْوَصِيُّ يَرْجِعُ مُطْلَقًا، فَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْأَبُ فِي صُورَةِ الضَّمَانِ حَتَّى مَاتَ فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ وَبَيْنَ مُطَالَبَةِ زَوْجِهَا، فَإِنْ اخْتَارَتْ التَّرِكَةَ فَأَخَذَتْ أَجَزْنَا لِبَاقِي الْوَرَثَةِ الرُّجُوعَ فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُمْ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ عَلَى الصَّغِيرِ لِوُقُوعِهَا بِلَا أَمْرٍ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، إذْ لَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ وَلَوْ أَذِنَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِهِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ. قُلْنَا: بَلْ صَدَرَتْ بِأَمْرٍ مُعْتَبَرٍ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَبِ عَلَيْهِ، فَإِذْنُ الْأَبِ إذْنٌ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْكَفَالَةِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَ الْآبَاءِ بِالْمُهُورِ مُعْتَادٌ، وَقَدْ انْقَضَتْ الْحَيَاةُ قَبْلَ ثُبُوتِ هَذَا التَّبَرُّعِ فَيَرْجِعُونَ، وَكَذَا يَرْجِعُونَ إذَا أَدَّى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَالْمَجْنُونُ كَالصَّبِيِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا أَوْ طَارِئًا، وَإِنَّمَا صَحَّ ضَمَانُ وَلِيِّهَا إذَا كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا مَعَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِقَبْضِ صَدَاقِهَا وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ وَإِنْ بَاشَرَ سَفِيرٌ كَالْوَكِيلِ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ مَالَ الصَّغِيرِ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ حَتَّى يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ وَيُخَاصِمَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَيَتَسَلَّمَ الْمَبِيعَ وَيَصِحَّ تَأْجِيلُهُ وَإِبْرَاؤُهُ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَضْمَنُ مِثْلَهُ فِي مَالِهِ، فَلَوْ صَحَّ ضَمَانُهُ كَانَ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ مُقْتَضِيًا مُقْتَضًى.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ رُجُوعِهَا إلَيْهِ فِي النِّكَاحِ أَلَا يُرَى أَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِمَهْرِهَا. أَجَابَ
وَيَمْلِكُ قَبْضَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَلَوْ صَحَّ الضَّمَانُ يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْمَهْرِ لِلْأَبِ بِحُكْمِ الْأُبُوَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَاقِدٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ بَعْدَ بُلُوغِهَا فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ.
قَالَ (وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمَهْرَ وَتَمْنَعَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا) أَيْ يُسَافِرَ بِهَا لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي الْمُبْدَلِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ وَزِيَارَةِ أَهْلِهَا حَتَّى يُوَفِّيَهَا الْمَهْرَ كُلَّهُ: أَيْ الْمُعَجَّلُ مِنْهُ
الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْمَهْرِ لِلْأَبِ بِحُكْمِ الْأُبُوَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَاقِدٌ)؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ وَلِذَا لَا يَمْلِكُ قَبْضَهُ بَعْدَ بُلُوغِهَا إذَا نَهَتْهُ صَرِيحًا، أَمَّا إذَا لَمْ تَنْهَهُ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ لَهُ الْقَبْضَ بَعْدَ بُلُوغِهِ دُونَ الصَّبِيِّ. ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ إحْضَارُ الزَّوْجَةِ لِقَبْضِ الْأَبِ مَهْرَهَا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْأَخِيرِ. وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ لَا يُشْتَرَطُ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا. وَقَدَّمْنَا فِي قَبْضِ مَهْرِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ فُرُوعًا اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ فَارْجِعْ إلَيْهَا، وَمِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ هُنَاكَ لَوْ قَبَضَ الْأَبُ الْمَهْرَ ثُمَّ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الزَّوْجِ، إنْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْقَبْضِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا صُدِّقَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ، فَإِذَا قَبَضَ بِأَمْرِ الزَّوْجِ كَانَتْ أَمَانَةً عِنْدَهُ مِنْ الزَّوْجِ فَتُقْبَلُ دَعْوَاهُ الرَّدَّ كَالْمُودِعِ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ
(قَوْلُهُ وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ الدُّخُولِ بِهَا وَمِنْ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَّى يُوَفِّيَهَا مُعَجَّلَ مَهْرِهَا لِيَتَعَيَّن حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِي الْمُبْدَلِ) يَعْنِي وَلَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهَا إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الصَّدَاقِ الدَّيْنِ، أَمَّا الْعَيْنُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَلَا؛ لِأَنَّهَا بِالْعَقْدِ مَلَكَتْهُ وَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِيهِ حَتَّى مَلَكَتْ عِتْقَهُ. وَقَوْلُهُ (أَيْ الْمُعَجَّلُ مِنْهُ) يَتَنَاوَلُ الْمُعَجَّلَ عُرْفًا وَشَرْطًا، فَإِنْ كَانَ قَدْ شَرَطَ تَعْجِيلَ كُلِّهِ فَلَهَا الِامْتِنَاعُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فَبَعْضَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ تَعْجِيلَ شَيْءٍ بَلْ سَكَتُوا عَنْ تَعْجِيلِهِ وَتَأْجِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ عُرْفٌ فِي تَعْجِيلِ بَعْضِهِ وَتَأْخِيرِ بَاقِيهِ إلَى الْمَوْتِ أَوْ الْمَيْسَرَةِ أَوْ الطَّلَاقِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحْتَبِسَ إلَّا إلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ الْقَدْرِ. قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنُوا قَدْرَ الْمُعَجَّلِ يُنْظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ وَإِلَى الْمَهْرِ أَنَّهُ كَمْ يَكُونُ الْمُعَجَّلُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْمَهْرِ فَيُعَجَّلُ ذَلِكَ وَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبْعِ وَالْخُمُسِ بَلْ يُعْتَبَرُ الْمُتَعَارَفُ فَإِنَّ الثَّابِتَ عُرْفًا كَالثَّابِتِ شَرْطًا، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ تَعْجِيلَ الْكُلِّ إذْ لَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ إذَا جَاءَ الصَّرِيحُ بِخِلَافِهِ، وَمِثْلُ هَذَا فِي غَيْرِ نُسْخَةٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، فَمَا وَقَعَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مِنْ إطْلَاقِ قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ يَعْنِي الْمَهْرَ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ أَوْ مَسْكُوتًا عَنْهُ يَجِبُ حَالًّا، وَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا الْمَهْرَ لَيْسَ بِوَاقِعٍ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي الْمَسْكُوتِ الْعُرْفُ. هَذَا وَلِلْأَبِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْبِكْرِ قَبْلَ إيفَائِهِ. فِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ زَوَّجَ بِنْتَهُ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ بِعِيَالِهِ فَلَهُ
لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ قَبْلَ الْإِيفَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلًا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا لِإِسْقَاطِهَا حَقَّهَا بِالتَّأْجِيلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
أَنْ يَحْمِلَهَا مَعَهُ وَإِنْ كَرِهَ الزَّوْجُ، فَإِنْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا.
(قَوْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ) كُلٌّ مِنْ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ وَعَلَيْهِ إيفَاءٌ، فَكَمَا أَنَّ لَهُ اسْتِيفَاءَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَعَلَيْهِ إيفَاءُ الْمَهْرِ كَذَلِكَ لَهَا اسْتِيفَاءُ الْمَهْرِ وَعَلَيْهَا إيفَاءُ مَنَافِعِ بُضْعِهَا، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يُقْلَبُ هَذَا الدَّلِيلُ فَيُقَالُ: لَيْسَ لَهَا حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ قَبْلَ إيفَاءِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا وَقَعَ فِي تَعْلِيلِ حَبْسِهِ إيَّاهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لَهُ لِلِاسْتِيفَاءِ فَعَلَى هَذَا كُلٌّ مِنْهُمَا لَوْ طُولِبَ بِإِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ الِامْتِنَاعُ إلَى اسْتِيفَاءِ مَالِهِ وَيَسْتَلْزِمُ تَمَانُعَ الْحُقُوقِ وَفَوَاتَ الْمَقْصُودِ، مَثَلًا لَوْ طَالَبَهَا بِإِيفَاءِ الدُّخُولِ فَقَالَتْ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ الْمَهْرَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَا أُوَفِّيهِ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ مَنَافِعَ الْبُضْعِ وَهِيَ تَقُولُ مِثْلَهُ لَزِمَ مَا ذَكَرْنَا. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ بَعْدَ الْإِلْحَاقِ بِالْبَيْعِ وَأَنَّ الْبُضْعَ كَالْمَبِيعِ وَالْمَهْرَ كَالثَّمَنِ لَكِنَّكَ عَلِمْت أَنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الِامْتِنَاعُ فَيُقَالُ لَهُمَا: سَلِّمَا مَعًا، وَمِثْلُهُ لَا يَتَأَتَّى فِي النِّكَاحِ إذَا كَانَ الْمَهْرُ عَبْدًا مُعَيَّنًا مَثَلًا وَلَا فِي مَعِيَّةِ الْخَلْوَةِ لِإِطْلَاقِ الْجَوَابِ بِأَنَّ لَهَا الِامْتِنَاعَ إلَى أَنْ تَقْبِضَ. هَذَا وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ صَغِيرَةً فَلِلْوَلِيِّ مَنْعُهَا عَنْ الزَّوْجِ إلَى أَنْ يُعْطِيَ الْمَهْرَ، وَلَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَالْعَمِّ وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الزَّوْجِ قَبْلَ قَبْضِ الصَّدَاقِ وَيَقْبِضُهُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَبْضِ، فَإِنْ سَلَّمَهَا فَالتَّسْلِيمُ فَاسِدٌ وَتُرَدُّ إلَى بَيْتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَمِّ وِلَايَةُ إبْطَالِ حَقِّهَا، كَذَا فِي التَّجْنِيسِ فِي رَمْزِ وَاقِعَاتِ النَّاطِفِي. وَلَوْ ذَهَبَتْ الصَّغِيرَةُ إلَى بَيْتِهِ بِنَفْسِهَا كَانَ لِمَنْ كَانَ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ أَنْ يَمْنَعَهَا حَتَّى يُعْطِيَهُ وَيَقْبِضَهُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ ثَابِتٌ لِلصَّغِيرَةِ وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ أَهْلِ الرِّضَا.
[فَرْعٌ]
إذَا كَانَ يَسْكُنُ فِي بَيْتِ الْغَصْبِ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ الذَّهَابِ إلَيْهِ فِيهِ وَلَا تَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلًا) مُدَّةً مَعْلُومَةً أَوْ قَلِيلَةَ الْجَهَالَةِ كَالْحَصَادِ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَبِخِلَافِ الْمُتَفَاحِشَةِ كَإِلَى مَيْسَرَةٍ وَهُبُوبِ الرِّيحِ حَيْثُ يَكُونُ الْمَهْرُ حَالًّا (لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا) قَبْلَ الْحُلُولِ وَلَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مَا أَوْجَبَ لَهَا حَقَّ الْحَبْسِ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَكَذَا لَوْ أَجَّلَتْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ مُدَّةً مَعْلُومَةً (لِإِسْقَاطِهَا حَقَّهَا بِالتَّأْجِيلِ)
فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا. وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ الدُّخُولُ بِرِضَاهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْحَبْسِ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْخَلْوَةُ بِهَا بِرِضَاهَا. وَيَبْتَنِي عَلَى هَذَا اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ. لَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كُلَّهُ قَدْ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَبِالْخَلْوَةِ، وَلِهَذَا يَتَأَكَّدُ بِهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا حَقُّ الْحَبْسِ، كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ. وَلَهُ أَنَّهَا مَنَعَتْ مِنْهُ مَا قَابَلَ الْبَدَلَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَطْأَةٍ تُصْرَفُ فِي الْبُضْعِ الْمُحْتَرَمِ فَلَا يُخْلَى عَنْ الْعِوَضِ إبَانَةً لِخَطَرِهِ، وَالتَّأْكِيدُ بِالْوَاحِدَةِ لِجَهَالَةِ مَا وَرَاءَهَا فَلَا يَصْلُحُ مُزَاحِمًا لِلْمَعْلُومِ. ثُمَّ إذَا وُجِدَ آخَرُ وَصَارَ مَعْلُومًا تَحَقَّقَتْ الْمُزَاحَمَةُ وَصَارَ الْمَهْرُ مُقَابَلًا بِالْكُلِّ، كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى جِنَايَةً يَدْفَعُ كُلَّهُ بِهَا، ثُمَّ إذَا جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى وَأُخْرَى يَدْفَعُ بِجَمِيعِهَا، وَإِذَا أَوْفَاهَا مَهْرَهَا
كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا أُجِّلَ الثَّمَنُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَبِيعِ إلَى غَايَةِ الْقَبْضِ (وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ) فِيمَا رَوَاهُ الْمُعَلَّى عَنْهُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ النِّكَاحِ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ أَوَّلًا، فَلَمَّا رَضِيَ بِتَأْجِيلِهِ كَانَ رَاضِيًا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ لِعِلْمِهِ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ. بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أَوَّلًا لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ كَمَا فِي الْمُقَايَضَةِ.
وَاخْتَارَ الْوَلْوَالِجِيُّ الْفَتْوَى بِهِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الدُّخُولَ فِي الْعَقْدِ قَبْلَ الْحُلُولِ، فَإِنْ شَرَطَهُ فَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ بِالِاتِّفَاقِ (قَوْلُهُ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا) قَبْلَ الْإِيفَاءِ رَاضِيَةً وَهِيَ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا (فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) أَيْ لَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الْمَهْرَ خِلَافًا لَهُمَا. وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ بِهَا كَارِهَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً فَبَلَغَتْ وَصَحَّتْ وَزَالَ الْإِكْرَاهُ يَكُونُ لَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا بَعْدَهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْخَلْوَةُ بِهَا بِرِضَاهَا) لَا تُسْقِطُ حَقَّهَا فِي حَبْسِ نَفْسِهَا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا (قَوْلُهُ وَإِذَا أَوْفَاهَا مَهْرَهَا) أَوْ كَانَ
نَقَلَهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ، وَقِيلَ لَا يُخْرِجُهَا إلَى بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الْغَرِيبَ يُؤْذَى وَفِي قُرَى الْمِصْرِ الْقَرِيبَةِ لَا تَتَحَقَّقُ الْغُرْبَةُ. .
قَالَ (وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَهْرِ) فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِيمَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ، وَمَعْنَاهُ مَا لَا يُتَعَارَفُ مَهْرًا لَهَا
مُؤَجَّلًا (نَقَلَهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ) مِنْ بِلَادِ اللَّهِ، وَكَذَا إذَا وَطِئَهَا بِرِضَاهَا عِنْدَهُمَا (وَقِيلَ لَا يُخْرِجُهَا إلَى بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهَا؛ لِأَنَّ الْغَرِيبَ يُؤْذَى) وَاخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ: الْأَخْذُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْفَقِيهِ: يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} وَأَفْتَى كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ بِقَوْلِ الْفَقِيهِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الْمُضَارَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} بَعْدَ {أَسْكِنُوهُنَّ} وَالنَّقْلُ إلَى غَيْرِ بَلَدِهَا مُضَارَّةٌ فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} مِمَّا لَا مُضَارَّةَ فِيهِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ جَوَانِبِ مِصْرِهَا وَأَطْرَافِهِ، وَالْقُرَى الْقَرِيبَةِ الَّتِي لَا تَبْلُغُ مُدَّةَ سَفَرٍ فَيَجُوزُ نَقْلُهَا مِنْ الْمِصْرِ إلَى الْقَرْيَةِ وَمِنْ الْقَرْيَةِ إلَى الْمِصْرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إذَا أَوْفَاهَا الْمُعَجَّلَ وَالْمُؤَجَّلَ وَكَانَ رَجُلًا مَأْمُونًا فَلَهُ نَقْلُهَا
(قَوْلُهُ وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ اخْتَلَفَا) الِاخْتِلَافُ فِي الْمَهْرِ إمَّا فِي أَصْلِهِ أَوْ فِي قَدْرِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، كُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ فِي قَدْرِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ حُكِّمَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ أَحَدٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَ الدَّعْوَيَيْنِ تَحَالُفٌ وَيُعْطِي مَهْرَ الْمِثْلِ، هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى تَخْرِيجِ الرَّازِيّ، وَعَلَى تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ يَتَحَالَفَانِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا وَيُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْكُلِّ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ وَجَمَاعَةٌ بِأَنْ يَذْكُرَ مَا لَا يُتَعَارَفُ مَهْرًا لَهَا.
هُوَ الصَّحِيحُ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ ضَرُورِيٌّ، فَمَتَى أَمْكَنَ إيجَابُ شَيْءٍ مِنْ الْمُسَمَّى لَا يُصَارُ إلَيْهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَوْلَ فِي الدَّعَاوَى قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَصَارَ كَالصَّبَّاغِ مَعَ رَبِّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأَجْرِ يَحْكُمُ فِيهِ الْقِيمَةَ الصَّبْغُ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ أَنْ يَذْكُرَ مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا شَرْعًا: أَعْنِي أَنْ يَذْكُرَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْبَيْعِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْهَلَاكِ فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ وَلَيْسَ فِي الثَّمَنِ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ. وَقَدْ يُقَالُ: ذَلِكَ لِتَعَيُّنِ كَوْنِ الِاسْتِنْكَارِ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْمُسْتَنْكَرِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، أَمَّا هُنَا فَكَمَا يُتَصَوَّرُ الْمُسْتَنْكَرُ عُرْفًا يُتَصَوَّرُ شَرْعًا. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُسْتَنْكَرَ شَرْعًا دَاخِلٌ فِي الْمُسْتَنْكَرِ عُرْفًا، فَإِنَّ مَا يُسْتَنْكَرُ شَرْعًا يُسْتَنْكَرُ عُرْفًا وَلَا عَكْسَ، فَحَيْثُ اعْتَبَرْنَاهُ عُرْفًا فَقَدْ اعْتَبَرْنَاهُ شَرْعًا وَزِيَادَةً، فَصَارَ الْحَاصِلُ مِنْ قَوْلِنَا إنَّ مَا يُسْتَنْكَرُ مُطْلَقًا لَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعًا لَمْ يَتَحَقَّقْ؛ لِأَنَّهُ إذَا ادَّعَى خَمْسَةً كَمُلَتْ عَشْرَةٌ وَلَغَا كَلَامُهُ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ فِي كَوْنِهِ مَهْرًا شَرْعًا لَا يَتَجَزَّأُ وَتَسْمِيَةُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا كَتَسْمِيَةِ كُلِّهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمُسْتَنْكَرِ. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَصْحِيحِ الْخَمْسَةِ مَثَلًا وَجَعْلَ الْقَوْلِ قَوْلَهُ وَتَكْمِيلَهَا عَشْرَةً هُوَ لِإِتْيَانِهِ بِمَا يُسْتَنْكَرُ فَقَدْ تُصُوِّرَ. وَرَجَّحَ الْوَبَرِيُّ تَفْسِيرَ هَؤُلَاءِ الْبَعْضِ بِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى مِائَةٍ وَهِيَ تَدَّعِي أَلْفًا وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا الشَّهَادَةُ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَمْ تُجْعَلْ الْمِائَةُ مُسْتَنْكَرًا فِي حَقِّهَا: يَعْنِي مَعَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْعَشَرَةِ مُسْتَنْكَرَةٌ فِيمَنْ قِيمَتُهَا عَشْرَةُ أَمْثَالِهَا.
وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حُكِّمَ مُتْعَةُ مِثْلِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَوَجَبَ نِصْفُ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلُ بَعْدَ يَمِينِهِ عَلَيْهِ عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ لِلزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَكَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ فَنَفْيُ كَوْنِ الْقَوْلِ لِانْتِفَاءِ الظَّاهِرِ مَعَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا، الِاشْتِبَاهُ الظَّاهِرُ هَاهُنَا أَنَّهُ مَعَ مَنْ؟ فَقَالَا مَعَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمُسَمَّى فِي الْأَنْكِحَةِ أَنْ لَا يَكُونَ أَقَلَّ مِنْهُ، وَهَذَا أَوْجَهُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ يُفِيدُ الظُّهُورَ لِمَنْ هُوَ مِنْ جِهَتِهِ لَيْسَ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ بَلْ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مَعَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الْأَصْلُ بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الشَّاهِدُ هُنَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ الْقِيمَةُ الضَّرُورِيَّةُ لِلْبُضْعِ إذْ كَانَ لَيْسَ مَالًا، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ إظْهَارًا لِشَرَفِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِثُبُوتِ مُسَمًّى، وَهُنَا
ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ، وَهَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَحْكُمُ مُتْعَةُ مِثْلِهَا وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ مُوجَبَةٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَهُ فَتَحْكُمُ كَهُوَ. وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَصْلِ فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ، وَالْمُتْعَةُ لَا تَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي الْعَادَةِ فَلَا يُفِيدُ تَحْكِيمُهَا، وَوَضْعُهَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِي الْعَشَرَةِ وَالْمِائَةِ وَمُتْعَةُ مِثْلِهَا عِشْرُونَ فَيُفِيدُ تَحْكِيمَهَا، وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ سَاكِتٌ عَنْ ذِكْرِ الْمِقْدَارِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ. وَشَرْحُ قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا ادَّعَى الْأَلْفَ وَالْمَرْأَةَ الْأَلْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا،
تَيَقَّنَّاهُ وَهُوَ مَا أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ، وَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ دَعْوَاهَا، وَصَارَ كَالِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الْمُسَمَّى فِي الْإِجَارَةِ كَالْقَصَّارِ وَرَبِّ الثَّوْبِ لَا يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَنَافِعِ ضَرُورِيٌّ فَلَمْ يَصِرْ إلَيْهِ حَيْثُ أَمْكَنَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُسَمَّى فَكَانَ الْقَوْلُ لِمَنْ يَدَّعِي الْأَقَلَّ فَكَذَا هَذَا، وَهُمَا يَقُولَانِ تَقَوُّمُهُ شَرْعًا إظْهَارًا لِلْخَطَرِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إلَيْهِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ فِي الْمُسَمَّى لَا يَنْفِيهِ، بَلْ هُوَ أَحَقُّ مِنْ التَّقَوُّمِ الَّذِي يَثْبُتُ بِسَبَبِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْبَلُ الْإِبْطَالَ بِخِلَافِ هَذَا، وَأَمَّا الْقَصَّارُ وَرَبُّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْأُجْرَةِ فَلَيْسَ لِعَمَلِهِ مُوجِبٌ فِي الْأَجْرِ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ لِيُصَارَ إلَى اعْتِبَارِهِ وَلِلنِّكَاحِ مُوجِبٌ فَهُوَ أَشْبَهُ بِاخْتِلَافِ الصَّبَّاغِ وَرَبِّ الثَّوْبِ فِي الْمِقْدَارِ مِمَّا ذُكِرَ وَفِيهِ تُحَكَّمُ قِيمَةُ الصَّبْغِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَيَقَّنَّا التَّسْمِيَةَ وَهِيَ مَا أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ فَلَيْسَ بِذَاكَ بَلْ الْمُتَيَقَّنُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَهُوَ لَا يَنْفِي الرُّجُوعَ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَعَدَمِ التَّسْمِيَةِ حَيْثُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا (قَوْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ هُنَا) أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْقَوْلَ لِلزَّوْجِ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَكَذَا فِي الْأَصْلِ. وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ تُحَكَّمُ الْمُتْعَةُ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ ظَاهِرٌ مِنْ الْهِدَايَةِ. وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى وُجُوبِ تَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْهَا فَيُؤْخَذُ بِاعْتِرَافِهِ وَيُعْطِي نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُتْعَةَ مُوجِبَةٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَتُحَكَّمُ كَمَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَدْ يُمْنَعُ بِأَنَّ الْمُتْعَةَ مُوجِبَةٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ وَهُنَا اتَّفَقَا عَلَى التَّسْمِيَةِ فَقُلْنَا بِبَقَاءِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَهُوَ نِصْفُ مَا أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ، وَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ دَعْوَاهَا الزَّائِدِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ بَلْ يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ. وَلِهَذَا قِيلَ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، لَكِنْ مَا ذُكِرَ فِي جَوَابِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ آنِفًا يَدْفَعُهُ (قَوْلُهُ وَشَرَحَ قَوْلَهُمَا) إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَهِيَ أَلْفَيْنِ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفٌ أَوْ أَقَلُّ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا تَزَوَّجْتُهَا عَلَى أَلْفَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ
وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي الْوَجْهَيْنِ تُقْبَلُ. وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَطَّ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ تَحَالَفَا، وَإِذَا حَلَفَا يَجِبُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ.
تَسْمِيَةً: أَيْ لَا يَتَخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهَا دَرَاهِمَ أَوْ قِيمَتَهَا ذَهَبًا، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ أَلْفَانِ مُسَمًّى؛ لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ أَوْ بَذْلٌ عَلَى الْخِلَافِ وَكِلَاهُمَا يَقْتَضِيهِ تَسْمِيَةً، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَالْقَوْلُ لَهَا مَعَ يَمِينِهَا بِاَللَّهِ مَا تَزَوَّجَتْهُ عَلَى أَلْفٍ، إنْ نَكَلْت فَلَهَا مَا أَقَرَّ بِهِ تَسْمِيَةً لِإِقْرَارِهَا بِهِ، وَإِنْ حَلَفَتْ فَلَهَا مَا ادَّعَتْ قَدْرَ مَا أَقَرَّ بِهِ تَسْمِيَةً لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، وَالزَّائِدُ بِحُكْمِ مَهْرِ الْمِثْلِ يَتَخَيَّرُ فِيهِ الزَّوْجُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالذَّهَبِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهَا لِدَفْعِ الْحَطِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ هُوَ، ثُمَّ وُجُوبُ الزَّائِدِ بِحُكْمِ أَنَّهُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ فِي الْوَجْهَيْنِ فِيمَا يَدَّعِيهِ هُوَ تَسْمِيَةٌ، فَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَتُهَا أَوْلَى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ، وَبَيِّنَتُهُ فِي الثَّانِي لِإِثْبَاتِهَا الْحَطَّ.
وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي هَذَا أَنَّ بَيِّنَتَهَا أَوْلَى لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ كَالْفَصْلِ الْأَوَّلِ، كَذَا فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الزِّيَادَةَ ثَابِتَةٌ بِحُكْمِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَتْ بَيِّنَتُهَا تَعَيُّنَهَا دَرَاهِمَ وَذَلِكَ وَصْفٌ فِي الثَّابِتِ وَبَيِّنَتُهُ مُثْبِتَةٌ، بِخِلَافِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْحَطُّ فَهِيَ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَكَانَتْ أَكْثَرَ إثْبَاتًا مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلْوَصْفِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا بَيْنَ الدَّعْوَيَيْنِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا وَأَيُّهُمَا نَكَلَا لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ. وَمَا وَقَعَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا نَكَلَ يَلْزَمُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ كَأَنَّهُ غَلَطٌ مِنْ النَّاسِخِ. وَإِنْ حَلَفَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَدْرَ مَا أَقَرَّ بِهِ تَسْمِيَةً وَالزَّائِدُ يُخَيَّرُ فِيهِ، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ يَثْبُتُ مَا يَدَّعِيهِ مُسَمًّى، وَإِنْ أَقَامَاهَا تَهَاتَرَتَا فِي الصَّحِيحِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِثْبَاتِ وَالدَّعْوَى، ثُمَّ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَيُخَيَّرُ فِيهِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا تَنْفِي تَسْمِيَةَ الْآخَرِ فَخَلَا الْعَقْدُ عَنْ التَّسْمِيَةِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، بِخِلَافِ التَّحَالُفِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ قَدْرِ مَا يُقِرُّ بِهِ الزَّوْجُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ.
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ كَفَصْلِ التَّحَالُفِ، هَذَا كُلُّهُ تَخْرِيجُ الرَّازِيّ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ يَتَحَالَفَانِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا ثُمَّ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ يُعْطِي مَهْرَ الْمِثْلِ. وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وَبِالتَّحَالُفِ يَنْتَفِي يَمِينُ كُلِّ دَعْوَى صَاحِبِهِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ بِلَا تَسْمِيَةٍ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَقَالَ قَاضِي خَانْ: مَا قَالَهُ الرَّازِيّ أَوْلَى؛ لِأَنَّا لَا نَحْتَاجُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِلْإِيجَابِ، بَلْ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يُشْهِدُ الظَّاهِرَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مَعَ يَمِينِهِ
هَذَا تَخْرِيجُ الرَّازِيّ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يَتَحَالَفَانِ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ الْمُسَمَّى يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءِ بِالْمُسَمَّى فَيُصَارُ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي حَيَاتِهِمَا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَسْقُطُ
فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَالُفِ، وَيُقْرَعُ فِي التَّحَالُفِ لِلِابْتِدَاءِ اسْتِحْبَابًا، وَلَوْ بَدَأَ بِأَيِّهِمَا كَانَ جَازَ. وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِ كِتَابِ الِاسْتِحْلَافِ: يُبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُشْتَرِي وَالْمَهْرُ كَالثَّمَنِ، وَفِي الْمُتَبَايِعَيْنِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِسْبِيجَابِيُّ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ الْمُسَمَّى) فِي حَالِ الْحَيَاةِ بِأَنْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ (يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِجْمَاعِ) وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ تَجِبُ الْمُتْعَةُ بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ لِمُنْكِرِ التَّسْمِيَةِ مَعَ يَمِينِهِ فَيُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَاسْتُشْكِلَ كَوْنُ مَهْرِ الْمِثْلِ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بَلْ هُوَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ الْأَصْلُ عَلَى مَا صَرَّحَ هُوَ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَأَحَدُهُمَا أَوْكَسُ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ إيجَابِهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ بِنَاءً عَلَيْهِ فَقَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّهُ لِيَعْرِفَ مَنْ مَعَهُ الظَّاهِرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ كَوْنُ الْمُسَمَّى لَا يَنْقُصُ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إلَّا نَادِرًا، لَكِنَّا مَنَعْنَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَهُمْ فِي أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ بَلْ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْتَفِي بِذَلِكَ الْخِلَافُ، فَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْأَصْلِ مَهْرَ الْمِثْلِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هُنَا كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ الْأَوْلَى أَنْ يُعَلَّلَ لِلْكُلِّ بِهِ وَالْمَسْأَلَةُ اتِّفَاقِيَّةٌ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي حَيَاتِهِمَا) أَيْ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ فِي الْأَصْلِ وَالْمِقْدَارِ، وَمَنْ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ لَوْ كَانَ حَيًّا يَكُونُ الْقَوْلُ لِوَرَثَتِهِ.
وَفِي الْأَصْلِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَقَبْلَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ
بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فِي الْمِقْدَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُسْتَثْنَى الْقَلِيلُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْمُسَمَّى فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. .
قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَلِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهُ مَهْرًا فَلَا شَيْءَ لِوَرَثَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لِوَرَثَتِهَا الْمَهْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ) مَعْنَاهُ الْمُسَمَّى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْمُسَمَّى دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ تَأَكَّدَ بِالْمَوْتِ فَيُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهَا مَاتَتْ أَوَّلًا فَيَسْقُطُ
أَحَدِهِمَا، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي الْمُفَوِّضَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بِالِاتِّفَاقِ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فِي الْمِقْدَارِ فَالْقَوْلُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) كَأَبِي يُوسُفَ حَالَ الْحَيَاةِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَسْتَثْنِ الْقَلِيلَ، وَهَذَا لِسُقُوطِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْجَوَابُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا كَالْجَوَابِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْمُسَمَّى، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ لِمَنْ أَنْكَرَهُ) وَلَا يَقْضِي بِشَيْءٍ وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ بَعْدَ التَّحَالُفِ: وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لَا يَجِبُ التَّحَالُفُ (قَوْلُهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ) يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهِيَ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِتَصَادُقِ الْوَرَثَةِ فَلِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ، هَذَا إذَا عُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ مَاتَ أَوَّلًا أَوْ عُلِمَ أَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا أَوْ لَمْ تُعْلَمْ الْأَوَّلِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ كَانَ مَعْلُومَ الثُّبُوتِ، فَلَمَّا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْهُ بِمَوْتِ الْمَرْأَةِ أَوَّلًا لَا يَسْقُطُ، وَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهَا مَاتَتْ أَوَّلًا فَيَسْقُطُ مِنْهُ نَصِيبُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَ دَيْنًا عَلَى نَفْسِهِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ إلَّا إذَا عُلِمَ إلَخْ هُوَ هَذِهِ الصُّوَرُ الثَّلَاثُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ جَمِيعُ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَلِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إلَّا فِي صُورَةِ الْعِلْمِ بِمَوْتِهَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الْعَامُّ، وَلَوْ كَانَ الصُّوَرُ الثَّلَاثُ مُسْتَثْنًى مِنْهَا كَانَ أَخْذُ الْوَرَثَةِ إنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الثَّلَاثِ لَا كُلِّهَا
. (قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا فَلَا شَيْءَ لِوَرَثَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا لَهُمْ مَهْرُ الْمِثْلِ) وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى وَرَثَةُ عَلِيٍّ عَلَى وَرَثَةِ عُمَرَ مَهْرَ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عَلِيٍّ أَكُنْت أَقْضِي فِيهِ بِشَيْءٍ؟ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَقْضِي بِهِ عِنْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي
نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَالْمُسَمَّى فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَمَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَوْتَهُمَا يَدُلُّ عَلَى انْقِرَاضِ أَقْرَانِهِمَا فَبِمَهْرِ مَنْ يُقَدِّرُ الْقَاضِي مَهْرُ الْمِثْلِ
(وَمَنْ بَعَثَ إلَى امْرَأَتِهِ شَيْئًا فَقَالَتْ هُوَ هَدِيَّةٌ وَقَالَ الزَّوْجُ هُوَ مِنْ الْمَهْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَكَانَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ، كَيْفَ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَسْعَى فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ. قَالَ (إلَّا فِي الطَّعَامِ الَّذِي يُؤْكَلُ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا)
الْوُقُوفُ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَأَيْضًا يُؤَدِّي إلَى تَكَرُّرِ الْقَضَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْقَدِيمَ قَدْ يَكُونُ مَشْهُورًا وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَيَدَّعِي وَرَثَةُ وَرَثَةِ الْوَرَثَةِ عَلَى وَرَثَةِ وَرَثَةِ الْوَرَثَةِ بِهِ، فَلَوْ قُضِيَ بِهِ ثُمَّ تَأَخَّرَ الْعَصْرُ فَادَّعَى الْوَرَثَةُ الَّذِينَ وُجِدُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ بِهِ أَيْضًا يُقْضَى بِهِ أَيْضًا ثُمَّ وَثُمَّ فَيُفْضِي إلَى مَا قُلْنَا، أَمَّا إذَا لَمْ يَتَقَادَمْ فَيُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَطَرِيقٌ آخَرُ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ الْبُضْعِ فَيُشْبِهُ الْمُسَمَّى وَيَجِبُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَيُشْبِهُ النَّفَقَةَ فَلِلشَّبَهِ الْأَوَّلِ لَا يَسْقُطُ أَصْلًا، وَلِلشَّبَهِ الثَّانِي يَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فَقُلْنَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا إعْمَالًا لِشَبَهِ النَّفَقَةِ، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا إعْمَالًا لِشَبَهِ الْمُسَمَّى تَوْفِيرًا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْضَى بِهِ وَإِنْ كَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا وَمَا قَبْلَهُ أَوْجَهُ.
وَقَالَ مَشَايِخُنَا: هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ تُسَلِّمْ نَفْسَهَا، فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ يُقَالُ لَهَا: لَا بُدَّ أَنْ تُقِرِّي بِمَا تَعَجَّلْت وَإِلَّا حَكَمْنَا عَلَيْكِ بِالْمُتَعَارَفِ فِي الْمُعَجَّلِ ثُمَّ يُعْمَلُ فِي الْبَاقِي كَمَا ذَكَرْنَا
. (قَوْلُهُ وَمَنْ بَعَثَ إلَى امْرَأَتِهِ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ مِنْ حَقِّك وَقَالَتْ هَدِيَّةٌ فَالْقَوْلُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُمَلِّكُ فَكَانَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ) إلَّا فِيمَا يَكُونُ مُهَيَّأً لِلْأَكْلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ فِيهِ، وَالْقَوْلُ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَالظَّاهِرُ
وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مُهَيَّأً لِلْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَارَفُ هَدِيَّةً، فَأَمَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَقِيلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِمَارِ وَالدِّرْعِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَهُ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فِي الْمُتَعَارَفِ مِثْلُهُ أَنْ يَبْعَثَهُ هَدِيَّةً، وَالْمُرَادُ مِنْهُ نَحْوُ الطَّعَامِ الْمَطْبُوخِ وَالْمَشْوِيِّ وَالْفَوَاكِهِ الَّتِي لَا تَبْقَى وَالْحَلْوَاءِ وَالْخُبْزِ وَالدَّجَاجِ الْمَطْبُوخِ، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالْعَسَلُ وَالسَّمْنُ وَالْجَوْزُ وَاللَّوْزُ وَالدَّقِيقُ وَالسُّكَّرُ وَالشَّاةُ الْحَيَّةُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ. وَإِذَا حَلَفَ وَالْمُرْسَلُ قَائِمٌ، إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهَا وَلَمْ يَرْضَيَا بِبَيْعِهِ بِالصَّدَاقِ يَأْخُذُهُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا لَا تَرْجِعُ بِالْمَهْرِ بَلْ بِمَا بَقِيَ إنْ كَانَ يَبْقَى بَعْدَ قِيمَتِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ بَعَثَ هُوَ وَبَعَثَ أَبُوهَا لَهُ أَيْضًا ثُمَّ قَامَ هُوَ مِنْ الْمَهْرِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إنْ كَانَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَكَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا لَا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْبِنْتِ بِإِذْنِهَا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ هِبَةٌ مِنْهَا وَهِيَ لَا تَرْجِعُ فِيمَا وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا. وَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ: بَعَثَ إلَيْهَا هَدَايَا وَعَوَّضَتْهُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ زُفَّتْ إلَيْهِ ثُمَّ فَارَقَهَا وَقَالَ بَعَثْتُهَا إلَيْكِ عَارِيَّةً وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَأَرَادَتْ هِيَ أَنْ تَسْتَرِدَّ الْعِوَضَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ التَّمْلِيكَ.
وَإِذَا اسْتَرَدَّهُ تَسْتَرِدُّ هِيَ مَا عَوَّضَتْهُ. هَذَا وَاَلَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي دِيَارِنَا أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحِنْطَةِ وَاللَّوْزِ وَالدَّقِيقِ وَالسُّكَّرِ وَالشَّاةِ الْحَيَّةِ وَبَاقِيهَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يُرْسِلَهُ هَدِيَّةً وَالظَّاهِرُ مَعَ الْمَرْأَةِ لَا مَعَهُ وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ إلَّا فِي نَحْوِ الثِّيَابِ وَالْجَارِيَةِ، وَفِيمَا إذَا بَعَثَ الْأَبُ بَعْدَ بَعْثِ الزَّوْجِ تَعْوِيضًا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، وَكَذَا الْبِنْتُ فِيمَا إذَا أَذِنَتْ فِي بَعْثِهِ تَعْوِيضًا، هَذَا إذَا كَانَ بَعْثُهَا عَقِيبَ بَعْثِ الزَّوْجِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هَدِيَّةٌ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ فِيهِ لِلزَّوْجِ إلَّا إنْ كَانَ قَائِمًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ (قَوْلُهُ وَقِيلَ مَا يَجِبُ إلَخْ) بِخِلَافِ الْخُفِّ وَالْمُلَاءَةِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَمْكِينُهَا مِنْ الْخُرُوجِ بَلْ يَجِبُ مَنْعُهَا إلَّا فِيمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُفُّ وَالْمُلَاءَةُ لِأَمَتِهَا، ثُمَّ كَوْنُ الظَّاهِرِ بِكَذِبِهِ فِي نَحْوِ الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ إنَّمَا يَنْفِي احْتِسَابَهُ مِنْ الْمَهْرِ لَا مِنْ حَقٍّ آخَرَ كَالْكِسْوَةِ.
[فُرُوعٌ]
زَوَّجَ بِنْتَهُ وَجَهَّزَهَا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ مَا دَفَعَهُ لَهَا عَارِيَّةً وَقَالَتْ تَمْلِيكًا أَوْ قَالَ الزَّوْجُ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا لِيَرِثَ مِنْهُ وَقَالَ الْأَبُ عَارِيَّةٌ، قِيلَ الْقَوْلُ لِلزَّوْجِ وَلَهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ بِهِ إذْ الْعَادَةُ دَفْعُ ذَلِكَ إلَيْهَا هِبَةً وَاخْتَارَهُ السُّغْدِيُّ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ كَوْنَ الْقَوْلِ لِلْأَبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ الْعُرْفُ ظَاهِرًا بِذَلِكَ كَمَا فِي دِيَارِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَاقِعَاتِ وَفَتَاوَى الْخَاصِّيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ مُشْتَرَكًا فَالْقَوْلُ لِلْأَبِ، وَقِيلَ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ مِثْلُهُ يُجَهِّزُ الْبَنَاتِ تَمْلِيكًا فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ وَإِلَّا فَلَهُ. وَلَوْ أَبْرَأَتْ الزَّوْجَ مِنْ الْمَهْرِ أَوْ وَهَبَتْهُ ثُمَّ مَاتَتْ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ هُوَ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ لَهُ. وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي سُقُوطَ مَا كَانَ ثَابِتًا وَهُمْ يُنْكِرُونَ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْوَرَثَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ وَإِنَّمَا كَانَ لَهَا وَهُمْ يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ لَهُ. وَفِي الْبَدَائِعِ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ: أَعْطَاهَا مَالًا وَقَالَ مِنْ الْمَهْرِ وَقَالَتْ مِنْ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ لَا أَنْ تُقِيمَ هِيَ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: أَنْفَقَ عَلَى مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ عَلَى طَمَعِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ أَبَتْ، إنْ شَرَطَ فِي الْإِنْفَاقِ التَّزَوُّجَ: يَعْنِي كَأَنْ يَقُولَ أُنْفِقُ عَلَيْكِ بِشَرْطِ أَنْ تَتَزَوَّجِينِي يَرْجِعُ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكِنْ أَنْفَقَ عَلَى هَذَا الطَّمَعِ اخْتَلَفُوا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إذَا زَوَّجَتْ، قَالَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُحِيطِ، وَهَذَا إذَا دَفَعَ الدَّرَاهِمَ إلَيْهَا لِتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا، أَمَّا إذَا أَكَلَ مَعَهَا فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ اهـ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا أَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فِي فَصْلِ عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ صَرِيحًا إلَّا مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ اقْتِصَارِهِ عَلَى قَوْلِ الشَّهِيدِ، وَمِنْ بَعْدِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إذَا لَمْ تَتَزَوَّجْهُ.
وَحُكِيَ فِي فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ فِيمَا إذَا أَنْفَقَ بِلَا شَرْطٍ بَلْ لِلْعِلْمِ عُرْفًا أَنَّهُ يُنْفِقُ لِلتَّزَوُّجِ ثُمَّ لَمْ تَتَزَوَّجْ بِهِ خِلَافًا، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا. قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَنْفَقَ عَلَى قَصْدِهِ لَا شَرْطِهِ. وَفِيهَا: ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ أَنَّ لَهَا عَلَيْهِ أَلْفًا مِنْ مَهْرِهَا تُصَدَّقُ فِي الدَّعْوَى إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَمَنْ شَهِدَ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَفِي النَّوَازِلِ: اتَّخَذَتْ لِأَبَوَيْهَا مَأْتَمًا فَبَعَثَ الزَّوْجُ إلَيْهَا بَقَرَةً فَذَبَحَتْهَا وَأَطْعَمَتْهَا أَيَّامَ الْمَأْتَمِ فَطَلَبَ قِيمَتَهَا فَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّهُ بَعَثَ بِهَا إلَيْهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَذْبَحَ وَتُطْعِمَ وَلَمْ يَذْكُرْ قِيمَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ بِإِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذِكْرِهِ الرُّجُوعَ بِالْقِيمَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذِكْرِ الْقِيمَةِ فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى شَرْطِ الضَّمَانِ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ.
[تَتِمَّةٌ فِيهَا مَسَائِلُ]
الْأُولَى: مَسْأَلَةٌ تُعُورِفَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ الْمَهْرِ مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ فِيهَا إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِيرَاثِ فَأَحْبَبْنَا الِاتِّبَاعَ وَنَذْكُرُ الْمَهْرَ زِيَادَةً فِيهَا. تَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَوَاحِدَةً فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَقَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُتَقَدِّمَةَ نِكَاحًا مِنْ غَيْرِهَا، فَمِيرَاثُ الزَّوْجَاتِ وَهُوَ الرُّبُعُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ، وَالثُّمُنُ مَعَ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الِابْنِ بَيْنَهُنَّ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ: سَبْعَةٍ لِلَّتِي تَزَوَّجَهَا وَحْدَهَا اتِّفَاقًا، وَالْبَاقِي نِصْفُهُ لِلثِّنْتَيْنِ، وَنِصْفُهُ لِلثَّلَاثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ مِنْ الْبَاقِي لِلثِّنْتَيْنِ، وَتِسْعَةٌ لِلثَّلَاثِ عَلَى اخْتِلَافِ تَخْرِيجِهِمَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْوَاحِدَةِ صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ فَظَاهِرٌ.
وَكَذَا إنْ تَوَسَّطَ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ ثَالِثَةً إنْ وَقَعَ بَعْدَ الثِّنْتَيْنِ وَرَابِعَةً بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَكَذَا إذَا تَأَخَّرَ لِبُطْلَانِ نِكَاحِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَتَقَعُ هِيَ ثَالِثَةً أَوْ رَابِعَةً، وَنِكَاحُ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ صَحِيحٌ فِي حَالٍ بَاطِلٌ فِي حَالٍ، ثُمَّ تَقُولُ: إنْ صَحَّ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا ثُلُثُ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ صَحَّ مَعَ الثَّلَاثِ فَلَهَا رُبُعُهُ فَنَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ وَأَقَلُّهُ اثْنَا عَشْرَ، أَوْ نَقُولُ: مَخْرَجُ الثُّلُثِ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَالرُّبُعِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَبَيْنَهُمَا مُبَايَنَةٌ فَضَرَبْنَا أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ فَصَارَ اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ لَهَا الثُّلُثُ فِي حَالِ أَرْبَعَةٍ وَالرُّبُعُ فِي حَالِ ثَلَاثَةٍ؛ فَثَلَاثَةٌ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ، وَالرَّابِعُ يَجِبُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيُنَصِّفُ لِلشَّكِّ فِيهِ فَيَنْكَسِرُ فَيُضَعَّفُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، أَوْ يَضْرِبُ مَخْرَجَ النِّصْفِ وَهُوَ اثْنَانِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَصَارَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَقُولُ: لِلَّتِي تَزَوَّجَهَا وَحْدَهَا سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ لَهَا الثُّلُثَ فِي حَالِ ثَمَانِيَةٍ، وَالرُّبُعَ فِي حَالِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سِتَّةٍ فَسِتَّةٌ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ، وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْقُطَانِ فِي حَالٍ وَيَثْبُتَانِ فِي حَالٍ، فَيَثْبُتُ أَحَدُهُمَا وَيُضَمُّ إلَى سِتَّةٍ صَارَ لَهَا سَبْعَةٌ وَمِمَّا بَقِيَ تِسْعَةٌ لِلثَّلَاثِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانِيَةٌ لِلثِّنْتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةٌ عِنْدَ هُمَا عَلَى اخْتِلَافِ تَخْرِيجِهِمَا.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَعْتَبِرُ الْمُنَازَعَةَ فَيَقُولُ: لَا مُنَازَعَةَ لِلثِّنْتَيْنِ فِي السَّهْمِ السَّابِعَ عَشْرَ؛ لِأَنَّهُمَا لَا تَدَّعِيَانِ إلَّا ثُلُثَيْ الْمِيرَاثِ سِتَّةَ عَشْرَ، فَالسَّهْمُ السَّابِعَ عَشْرَ يُسَلَّمُ لِلثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُنَّ يَدَّعِينَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَبَقِيَ سِتَّةٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِيهَا فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَحَصَلَ لِلثَّلَاثِ تِسْعَةٌ مِنْهَا وَلِلثِّنْتَيْنِ ثَمَانِيَةٌ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَعْتَبِرُ الْأَحْوَالَ فَيَقُولُ إنْ صَحَّ نِكَاحُ الثُّلُثَيْنِ فَلَهُمَا ثُلُثَا الْمِيرَاثِ سِتَّةَ عَشَرَ وَهُوَ حَالُ التَّقَدُّمِ عَلَى الثَّلَاثِ فَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ مَعَهُمَا فَيَكُونُ لَهُمَا ثُلُثَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا فَلَهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ. وَالثَّلَاثُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تَرِثُ مَعَهُنَّ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ تِسْعَةٌ، فَاتَّفَقَ الْجَوَابُ وَاخْتَلَفَ التَّخْرِيجُ وَالضَّابِطُ عَنْ الْغَلَطِ قَوْلُنَا الْحَاءُ مَعَ الْحَاءِ وَالْعَيْنُ مَعَ الْعَيْنِ: أَيْ لِمُحَمَّدٍ الْأَحْوَالُ وَيَعْقُوبَ الْمُنَازَعَةُ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نِصْفُ مَا بَقِيَ لِلثِّنْتَيْنِ وَنِصْفُ الْآخَرِ لِلثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ فِي عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَسْتَحِقُّ فِي حَالٍ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ سَابِقًا عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ دُونَ حَالِ التَّأْخِيرِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ وَاحِدَةٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ وَاحِدَةٌ كَانَ جَمِيعُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ، كَذَا هُنَا، فَلِلتَّنَصُّفِ وَقَعَ الْكَسْرُ فَضَعَّفْنَا الْمَجْمُوعَ صَارَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أَوْ نَضْرِبُ مَخْرَجَ النِّصْفِ وَهُوَ اثْنَانِ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ لِلْوَاحِدَةِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشْرَ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ سَبْعَةَ عَشَرَ فَنَطْلُبُ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ الِاسْتِقَامَةَ أَوْ الْمُوَافَقَةَ أَوْ الْمُبَايَنَةَ فَتَسْتَقِيمُ أَرْبَعَةَ عَشْرَ عَلَى الْوَاحِدَةِ وَلَا تَسْتَقِيمُ سَبْعَةَ عَشْرَ عَلَى الثِّنْتَيْنِ وَلَا عَلَى الثَّلَاثِ وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ ذَلِكَ أَيْضًا فَحَصَلَ مَعَنَا اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ فَنَطْلُبُ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسُ الْأَحْوَالُ الْأَرْبَعَةُ: التَّدَاخُلُ، وَالتَّمَاثُلُ، وَالتَّوَافُقُ، وَالتَّبَايُنُ، فَوَجَدْنَاهَا مُتَبَايِنَةً فَنَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي اثْنَيْنِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ فَيَحْصُلُ سِتَّةٌ فَنَضْرِبُهَا فِي ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَتَصِيرُ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ، وَطَرِيقٌ مَعْرِفَةِ مَا لِكُلٍّ أَنْ تَضْرِبَ مَا كَانَ لَهُ فِي هَذِهِ السِّتَّةِ كَانَ لِلْوَاحِدَةِ أَرْبَعَةَ عَشْرَ فَتَضْرِبُهَا فِي سِتَّةٍ يَحْصُلُ لَهَا أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ وَكَانَ لِكُلِّ فَرِيقٍ سَبْعَةَ عَشْرَ ضَرَبْنَاهَا فِي السِّتَّةِ يَحْصُلُ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِائَةٌ وَسَهْمَانِ لِكُلٍّ مِنْ الثِّنْتَيْنِ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ وَلِكُلٍّ مِنْ الثَّلَاثِ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُعْطِي الثِّنْتَيْنِ مَا لَا تَدَّعِيَانِهِ أُجِيبَ بِأَنَّهُمَا إنَّمَا لَا تَدَّعِيَانِهِ إذَا اسْتَحَقَّتْ الْوَاحِدَةُ ذَلِكَ السَّهْمَ فَأَمَّا بِدُونِ اسْتِحْقَاقِهَا فَلَا، وَقَدْ خَرَجَ ذَلِكَ السَّهْمُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْوَاحِدَةِ فَكَانَ دَعْوَاهُمَا وَدَعْوَى الثَّلَاثِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا فَرَغَ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْوَاحِدَةِ سَوَاءٌ. هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْإِرْثِ، أَمَّا الْمُهُورُ فَالزَّوْجُ إنْ كَانَ حَيًّا يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ جَبْرًا وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ أَيُّهُنَّ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْعُقُودَ، فَإِنْ قَالَ لَا أَدْرِي الْأَوَّلَ حَجَبَ عَنْهُنَّ إلَّا الْوَاحِدَةَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالِاشْتِبَاهِ فِيمَا لَا مَسَاغَ فِيهِ لِلتَّحَرِّي.
وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ وَالزَّوْجُ حَيٌّ فَقَالَ هُنَّ الْأَوَّلُ وَرِثَهُنَّ وَأَعْطَى مُهُورَهُنَّ وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ ثُمَّ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَوْ عِنْدَ مَوْتِهِ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ذَلِكَ فَهُوَ الْأَوَّلُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَالْمُسَمَّى كَمَا هُوَ الرَّسْمُ فِي الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالدُّخُولِ بِهِنَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيَانِ إذَا لَمْ تُعْلَمْ السَّابِقَةُ فِي الْوَطْءِ.
وَأَمَّا الْمَهْرُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلِلْوَاحِدَةِ مَا سُمِّيَ لَهَا بِكَمَالِهِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِيَقِينٍ، وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ وَلِلثِّنْتَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ بِالِاتِّفَاقِ فَهُمَا يَمُرَّانِ عَلَى أَصْلِهِمَا فِي اعْتِبَارِ الْمُنَازَعَةِ وَالْحَالِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ فَاعْتَبَرَ الْمُنَازَعَةَ فِي الْمَهْرِ دُونَ الْمِيرَاثِ فَقَالَ: مَا فَضَلَ مِنْ الْوَاحِدَةِ هُنَاكَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ اسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا هُنَا فَالثِّنْتَانِ لَا تَدَّعِيَانِ النِّصْفَ الزَّائِدَ عَلَى الْمَهْرَيْنِ وَالثَّلَاثُ يَدَّعِينَهُ فَسَلِمَ لَهُنَّ، وَفِي الْمَهْرَيْنِ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا.
أَوْ نَقُولُ: أَكْثَرُ مَا لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ بِأَنْ يَكُونَ السَّابِقُ نِكَاحَ الثَّلَاثِ وَأَقَلُّ مَا لَهُنَّ مَهْرَانِ بِأَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الثِّنْتَيْنِ سَابِقًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي مَهْرٍ وَاحِدٍ فَيَتَنَصَّفُ فَكَانَ لَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ، ثُمَّ لَا مُنَازَعَةَ لِلثِّنْتَيْنِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرَيْنِ فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ مَعَ الثَّلَاثِ وَهُوَ نِصْفُ مَهْرٍ يَبْقَى مَهْرَانِ اسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا فَحَصَلَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ وَلِلثُّلُثَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ. وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: إنْ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَلَهُمَا مَهْرَانِ إنْ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا فَلَهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ مَهْرٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا حُكْمُ الْعِدَّةِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْوَفَاةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ ظَاهِرٌ، وَعَلَى الْفَرِيقَيْنِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحِهِنَّ حَيْثُ أَوْجَبَ لَهُنَّ مَهْرًا وَمِيرَاثًا وَالْعِدَّةُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ دَخَلَ بِهِنَّ وَلَمْ يَعْرِفْ الْأَوَّلَ مِنْ الْآخِرِ فَعَلَى غَيْرِ الْوَاحِدَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا، أَعْنِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا يَسْتَكْمِلُ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَابْنَتَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ عُقُودٍ وَلَا تُدْرَى الْأُولَى مِنْهُنَّ وَمَاتَ قَبْلَ الْوَطْءِ وَالْبَيَانِ فَلَهُنَّ مَهْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ نِكَاحُ إحْدَاهُنَّ لَيْسَ غَيْرُ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَزَوَّجَ الْأُمَّ أَوَّلًا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ بِنْتِهَا أَوْ الْبِنْتُ فَكَذَلِكَ، وَلَهُنَّ كَمَالُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْأُمِّ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: يُقْسَمُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَ الْأُمَّ فِي عُقْدَةٍ وَالْبِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ كَانَ الْكُلُّ لِلْأُمِّ بِالِاتِّفَاقِ الْمُتَيَقَّنِ بِبُطْلَانِ نِكَاحِهِمَا تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْ الْأُمِّ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ؛ وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأُمَّهَا وَابْنَتَهَا أَوْ امْرَأَةً وَأُمَّهَا وَأُخْتَ أُمِّهَا كَانَ الْمَهْرُ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا اتِّفَاقًا.
وَقِيلَ عَلَى الْخِلَافِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي سَبِبِ الِاسْتِحْقَاقِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَنِكَاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ يَصِحُّ فِي حَالٍ وَلَا يَصِحُّ فِي حَالَيْنِ فَاسْتَوَيْنَ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ يُسَاعِدُهُمَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ يَقُولُ: الْأُمُّ لَا يُزَاحِمُهَا إلَّا إحْدَى الْبِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِبُطْلَانِ نِكَاحِ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ وَالِابْنَتَانِ فِي النِّصْفِ اسْتَوَيَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِتَعْيِينِ جِهَةِ الْبُطْلَانِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا فِي يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَدَخَلَ بِهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَعَلَيْهِ مَهْرَانِ وَنِصْفُ مَهْرٍ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ تَطْلِيقَتَانِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَوَّلًا وَقَعَ تَطْلِيقَةٌ وَوَجَبَ نِصْفُ مَهْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهَا وَجَبَ مَهْرٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ عَنْ شُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ، إذْ الطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ لَا يَصِحُّ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَقَعَتْ أُخْرَى وَهُوَ طَلَاقٌ بَعْدَ الدُّخُولِ مَعْنًى، فَإِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّتَهُ الْبَائِنَ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ هَذَا الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ مَعْنًى فَيَجِبُ مَهْرٌ كَامِلٌ وَعِدَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي إيجَابِهِ نِصْفَ الْمَهْرِ وَبَقِيَّةِ عِدَّتِهَا
فَصْلٌ تَزَوَّجَ النَّصْرَانِيُّ نَصْرَانِيَّةً عَلَى مَيْتَةٍ
(وَإِذَا تَزَوَّجَ النَّصْرَانِيُّ نَصْرَانِيَّةً عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ
الَّتِي كَانَتْ فِيهَا فَصَارَ عَلَى قَوْلِهِمَا الْوَاجِبُ مَهْرَانِ وَنِصْفُ مَهْرٍ، فَإِذَا دَخَلَ بِهَا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ صَارَ مُرَاجِعًا فَلَا يَجِبُ بِالْوَطْءِ شَيْءٌ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا ثَالِثًا لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ وَنِكَاحُ الْمَنْكُوحَةِ لَا يَصِحُّ. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالتَّزَوُّجِ الْأَوَّلِ وَالطَّلَاقِ عَقِيبَهُ يَجِبُ نِصْفٌ وَبِالدُّخُولِ بَعْدَ مَهْرٌ كَامِلٌ وَبِالتَّزَوُّجِ، وَالدُّخُولُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ عَقِيبَهُ أَيْضًا مَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَكَذَا بِالتَّزَوُّجِ الثَّالِثِ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِهِ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُرَاجِعًا بِالْوَطْءِ عَقِيبَ النِّكَاحِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ لَمْ يَقَعْ عَلَى مَدْخُولٍ بِهَا. وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ الدُّخُولُ فِي الْأَوَّلِ دُخُولًا فِي الثَّانِي كَانَ الطَّلَاقُ عَقِيبَ الثَّانِي عَقِيبَ الدُّخُولِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ الدُّخُولَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحٍ بَلْ لَيْسَ إلَّا وَطْئًا بِشُبْهَةٍ فَاقْتَضَى قَوْلَهُمَا عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجْعَةَ تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي عِدَّةٍ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْعِدَّةُ عَنْ غَيْرِ طَلَاقٍ بَلْ عَنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ إذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِطَلَاقٍ. وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا بَانَتْ بِثَلَاثٍ وَعَلَيْهِ خَمْسَةُ مُهُورٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِمَا وَأَرْبَعَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٍ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَتَخْرِيجُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ لِكُلٍّ، فَقَوْلُ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٍ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ لَهُ آنِفًا ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا وَجْهُ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَالدُّخُولِ بَعْدَهُ يَجِبُ مَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَبِالنِّكَاحِ الثَّانِي طَلُقَتْ بَائِنًا وَلَهَا مَهْرٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ بَعْدَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَمَهْرٌ آخَرُ بِالدُّخُولِ بَعْدَهُ لِلشُّبْهَةِ وَلَمْ يَصِرْ بِهِ مُرَاجِعًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَائِنٌ، وَبِالنِّكَاحِ الثَّالِثِ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَلَهَا مَهْرٌ، وَبِالدُّخُولِ بَعْدَ مَهْرٍ آخَرَ فَصَارَتْ خَمْسَةَ مُهُورٍ وَنِصْفًا، ثَلَاثَةٌ بِالدُّخُولِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَنِصْفُ مَهْرٍ بِالتَّزَوُّجِ الْأَوَّلِ، وَمَهْرَانِ بِالتَّزَوُّجَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ بَعْدَهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْلِهِمَا.
(فَصْلٌ)
لَمَّا ذَكَرَ مُهُورَ الْمُسْلِمِينَ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مُهُورِ الْكُفَّارِ (قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ نَصْرَانِيٌّ) الْمُرَادُ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ كِتَابِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ وَدَخَلَ بِهَا أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ، وَلَوْ أَسْلَمَا أَوْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا إلَيْنَا أَوْ تَرَافَعَا وَهَذَا إذَا لَمْ يُدِينُوا مَهْرَ الْمِثْلِ بِالنَّفْيِ وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَمٍ؛ لِأَنَّهُمْ
جَائِزٌ فَدَخَلَ بِهَا أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيَّانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا فِي الْحَرْبِيَّيْنِ. وَأَمَّا فِي الذِّمِّيَّةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ دَخَلَ بِهَا وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا. وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ أَيْضًا. لَهُ أَنَّ الشَّرْعَ مَا شَرَعَ ابْتِغَاءَ النِّكَاحِ إلَّا بِالْمَالِ، وَهَذَا الشَّرْعُ وَقَعَ عَامًّا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عَلَى الْعُمُومِ. وَلَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ لِتَبَايُنِ الدَّارِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ كَالرِّبَا وَالزِّنَا، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ مُتَحَقِّقَةٌ لِاتِّحَادِ الدَّارِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَنَا فِي الدِّيَانَاتِ وَفِيمَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ وَبِالْمُحَاجَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ،
اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ الْمَهْرِ وَهُمْ يُدِينُونَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَوَّلُونَ الْمَيْتَةَ حَتْفَ أَنْفِهَا بِخِلَافِ الْمَوْقُوذَةِ، وَكَذَا فِي الْحَرْبِيَّيْنِ (هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ قَالَا فِي الْحَرْبِيَّيْنِ) أَيْ لَوْ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا (أَمَّا فِي الذِّمِّيَّةِ فَلَهَا عِنْدَ هُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ) لِوُقُوعِهِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَبِهَذَا قَالَ زُفَرُ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَشْرَعْ ابْتِغَاءَ النِّكَاحِ إلَّا بِالْمَالِ، وَهَذَا الشَّرْعُ وَقَعَ عَامًّا فَيَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ وَالنِّكَاحُ مِنْهَا، غَيْر أَنَّهُ يَصِيرُ عِبَادَةً بِالنِّيَّةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَتَمَحَّضَ مُعَامَلَةً فِي حَقِّهِ (وَلَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ الْأَحْكَامَ) وَلَيْسَ لَنَا عَلَيْهِمْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ لِلتَّبَايُنِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمِّيَّةِ فَإِنَّهُمْ الْتَزَمُوهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ ثَابِتَةٌ فَنُعَزِّرُهُ إذَا زَنَى وَنَنْهَاهُ عَنْ الرِّبَا وَنَحْكُمُ بِفَسَادِهِ وَالنِّكَاحُ مِنْهَا، وَلِذَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُ مِنْ لُزُومِ النَّفَقَةِ وَالْعِدَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وَالتَّوَارُثِ بِهِ وَثُبُوتِ خِيَارِ الْبُلُوغِ وَحُرْمَةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ.
وَقَدْ يُقَالُ مِنْ طَرَفِ زُفَرَ عَدَمُ الْتِزَامِهِمْ وَقُصُورُ الْوِلَايَةِ مِنَّا عَنْهُمْ لَا يَنْفِي تَحَقُّقَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ لِعُمُومِ الْخِطَابِ، حَتَّى إذَا تَرَافَعَا إلَيْنَا نَقْضِي عَلَيْهِمَا بِمَا لَزِمَهُمَا حَالَ كَوْنِهِمَا حَرْبًا وَإِنَّا إنَّمَا أَخَّرْنَا الْوُجُوبَ لِيَظْهَرَ عِنْدَ إمْكَانِ إلْزَامِهِمْ أَثَرُهُ.
(قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) حَاصِلُهُ مَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ بَلْ لَيْسُوا مُلْتَزِمِينَ
بِخِلَافِ الزِّنَا لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَالرِّبَا مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ» وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ أَوْ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْمَهْرِ وَيَحْتَمِلُ السُّكُوتَ. وَقَدْ قِيلَ: فِي الْمَيْتَةِ وَالسُّكُوتِ رِوَايَتَانِ،
بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَهُ مِنْهَا إلَّا مَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ وَلِذَا لَا نَمْنَعُهُمْ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، كَذَا فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَفِي بَعْضِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَحَارِمِ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنَافِيَ، فَمَحْمَلُ أَحَدِهِمَا مَنْ تَدَيَّنَ بِحُرْمَتِهِنَّ وَمَحْمَلُ الْآخَرِ مَنْ لَا يَتَدَيَّنُ بِحُرْمَتِهِنَّ كَالْمَجُوسِ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا وَلَمْ نُؤْمَرْ بِإِلْزَامِهِمْ بَلْ نَتْرُكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَصَارَ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِيهِمْ الْمَنَعَةُ الْحِسِّيَّةُ وَأُمِرْنَا بِهَدْمِهَا، وَالْمَانِعُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَنَعَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَأُمِرْنَا بِتَقْرِيرِهَا. بِخِلَافِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُقُودِهِمْ. قَالَ صلى الله عليه وسلم «إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ» رَوَى مَعْنَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ بِسَنَدِهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ فَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا وَسَاقَهُ، وَفِيهِ: وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ مِنْهُمْ الرِّبَا فَذِمَّتِي مِنْهُمْ بَرِيئَةٌ» وَفِي مُصَنِّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ إلَى الشَّعْبِيِّ «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى نَجْرَانَ وَهُمْ نَصَارَى أَنَّ مَنْ بَايَعَ مِنْكُمْ بِالرِّبَا فَلَا ذِمَّةَ لَهُ» وَهُوَ مُرْسَلٌ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا. وَإِذَا مُنِعْنَا مِنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا يَدِينُونَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ إلَّا الْمُسْتَثْنَى فَبَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ حَالَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ لَيْسَ شَرْطًا لِبَقَائِهِ.
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ إنْ تَمَّ الْمَطْلُوبُ لِزُفَرَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ لِذِمَّتِهِمْ لَا يَقْتَضِي سِوَى أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لَهُمْ مَا لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِنَا أَوْ يُسَلِّمُوا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ قِيَامِ لُزُومِ الْمَهْرِ شَرْعًا فِي ذِمَّتِهِمْ. وَحَالَةُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ الْبَقَاءِ وَالْمَهْرُ لَيْسَ شَرْطًا فِيهَا وَلَا حُكْمًا لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالتَّقَرُّرِ فِي الذِّمَّةِ أَوَّلَ الْوُجُودِ لَمَّا ارْتَفَعَ مَنْعُ الشَّرْعِ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ.
(قَوْلُهُ وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَيْتَةِ وَالسُّكُوتِ) عَنْ الْمَهْرِ (رِوَايَتَانِ) بِخِلَافِ نَفْيِهِ صَرِيحًا، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ السُّكُوتِ وَالنَّفْيِ. وَوَجْهُهُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ تَمَلُّكَ الْبُضْعِ فِي حَقِّهِمْ كَتَمَلُّكِ الْمَالِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجِبُ الْعِوَضُ فِيهِ إلَّا بِالشَّرْطِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ النِّكَاحَ مُعَاوَضَةٌ، فَمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى نَفْيِ الْعِوَضِ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لَهَا وَالْمَيْتَةُ كَالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا عِنْدَهُمْ فَذِكْرُهَا
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ.
(فَإِنْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَهَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَا بِأَعْيَانِهِمَا وَالْإِسْلَامُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فَلَهَا فِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ وَفِي الْخِنْزِيرِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا الْقِيمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَبْضَ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَيَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ كَالْعَقْدِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَا
لَغْوٌ، وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ
. (قَوْلُهُ فَإِنْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ بِأَعْيَانِهِمَا ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا) قَبْلَ قَبْضِ الصَّدَاقِ الْمَذْكُورِ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْخَمْرُ أَوْ الْخِنْزِيرُ (وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا) وَأَسْلَمَا قَبْلَهُ (فَلَهَا فِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ وَفِي الْخِنْزِيرِ مَهْرُ الْمِثْلِ) وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا الْقِيمَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَلَمَّا اشْتَرَكَ قَوْلُهُمَا فِي عَدَمِ إيجَابِ عَيْنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا كَانَا بِأَعْيَانِهِمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي دَلِيلِهِ فَقَالَ (وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَبْضَ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ) الْمُعَيَّنِ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ تَعَيَّبَ عَيْبًا فَاحِشًا يَهْلِكُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ حَتَّى يَلْزَمَهُ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ يَهْلِكُ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ وَيَتَّنَصَّفُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَتَنَصَّفُ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ تَرَاضٍ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ فِي عِتْقِ الْجَارِيَةِ الْمَهْرَ، وَكَذَا الزَّوَائِدُ تَتَنَصَّفُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (فَيَكُونُ لَهُ شَبَهًا بِالْعَقْدِ) لِثُبُوتِ أَثَرِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْمِلْكِ فَيَمْتَنِعُ الْقَبْضُ بِالْإِسْلَامِ كَمَا يَمْتَنِعُ ابْتِدَاءُ التَّمْلِيكِ بِالْعَقْدِ إلْحَاقًا لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِحَقِيقَتِهِ
بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا. وَإِذَا الْتَحَقَتْ حَالَةُ الْقَبْضِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ، فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا عِنْدَهُمْ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ التَّسْلِيمُ لِلْإِسْلَامِ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ، كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَبِالْقَبْضِ يَنْتَقِلُ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ إلَى ضَمَانِهَا وَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ كَاسْتِرْدَادِ الْخَمْرِ الْمَغْصُوبَةِ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ الْقَبْضُ يُوجِبُ مِلْكَ الْعَيْنِ فَيَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ مِلْكَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إنَّمَا
فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَلَيْسَ يُرِيدُ كَمَا يَمْتَنِعُ الْعَقْدُ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا لَا يَمْتَنِعُ بَلْ يَصِحُّ وَيَبْطُلُ الْعِوَضُ (وَإِذَا الْتَحَقَتْ حَالَةُ الْقَبْضِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ) فَامْتَنَعَ فَقَدْ افْتَرَقَا (فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ) فَعَقَدَا عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ) فَكَذَا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَقْتَ الْقَبْضِ (وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا عِنْدَهُمْ ثُمَّ امْتَنَعَ التَّسْلِيمُ بِالْإِسْلَامِ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى قَبْلَ الْقَبْضِ) تَجِبُ الْقِيمَةُ لِامْتِنَاعِ إعْطَاءِ مِثْلِ الْخَمْرِ.
(قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ) قَبْلَ الْقَبْضِ بِبَدَلٍ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ؛ فَقَبْضُهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِمِلْكِهِ وَلَا لَمِلْكِ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَلَيْسَ مُؤَكِّدًا بَلْ نَاقِلًا لِمُجَرَّدِ الضَّمَانِ مِنْ الزَّوْجِ إلَى الْمَرْأَةِ فِي الْهَلَاكِ (وَذَلِكَ) أَيْ انْتِقَالُ الضَّمَانِ (لَا يَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ)؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ صُورَةُ الْيَدِ وَصُورَتُهَا لَا تَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ كَالْمُسْلِمِ إذَا تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ وَالذِّمِّيُّ إذَا غُصِبَ مِنْهُ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ ثُمَّ أَسْلَمَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ الْغَاصِبِ، فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقْبِضُ الْخَمْرَ فَيُخَلِّلُهُ أَوْ يُرِيقُهُ وَالْخِنْزِيرَ فَيُسَيِّبُهُ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُكُمْ مِنْ كَوْنِ الْقَبْضِ مُؤَكِّدًا غَيْرَ هَذَا مَنَعْنَا كَوْنَهُ مُؤَكِّدًا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا سَلَّمْنَا كَوْنَهُ مُؤَكِّدًا وَمَنَعْنَا مُنَافَاةَ الْإِسْلَامِ إيَّاهُ.
وَفِي الْأَسْرَارِ: وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَبْضَ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا بِخَمْرٍ وَقَبَضَ الْخَمْرَ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ وَاهٍ لِجَوَازِ أَنْ يُمْلَكَ الْعَبْدُ عِنْدَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَبِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ يَتَقَرَّرُ الْمِلْكُ، وَهَذَا التَّسْلِيمُ لَا يَمْتَنِعُ بِالْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَأَكُّدُ الْمِلْكِ فِي الْخَمْرِ، وَلَوْ اشْتَرَى خَمْرًا وَقَبَضَهَا وَبِهَا عَيْبٌ ثُمَّ أَسْلَمَ سَقَطَ خِيَارُ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ فِي سُقُوطِ تَأَكُّدِ مِلْكِ الْخَمْرِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَمْنَعُ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ: أَيْ أَنَّ الْمِلْكَ
يُسْتَفَادُ بِالْقَبْضِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَا تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَكُونُ أَخْذُ قِيمَتِهِ كَأَخْذِ عَيْنِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْخَمْرُ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْقِيمَةِ، قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْخِنْزِيرِ دُونَ الْخَمْرِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَمَنْ أَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ أَوْجَبَ نِصْفَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فِي الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا نَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَبِخِلَافِ الْمُشْتَرِي لَا يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَالْقَبْضُ فِيهِ هُوَ الْمُفِيدُ لِمِلْكِ التَّصَرُّفِ وَالْإِسْلَامُ مَانِعٌ مِنْهُ، فَلِذَا لَوْ بَاعَ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ أَوْ اشْتَرَاهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ لِامْتِنَاعِ إفَادَةِ مِلْكٍ فِيهِمَا مَعَ الْإِسْلَامِ، وَخَصَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ بِالْإِجْمَاعِ.
وَظَنَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ فِي النِّهَايَةِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ضَمَانُ مِلْكٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهِ فَقَبْضُ الْمُشْتَرِي نَاقِلٌ لِضَمَانِ الْمِلْكِ وَضَمَانُ الْمَهْرِ فِي يَدِ الزَّوْجِ لَيْسَ ضَمَانَ مِلْكٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهَا يُنَافِي قَوْلَ الْهِدَايَةِ وَبِالْقَبْضِ يَنْتَقِلُ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ إلَى ضَمَانِهَا وَهُوَ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْبَائِعِ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ لِأَحَدٍ شَيْئًا بَلْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ يَهْلِكُ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ. وَأَمَّا هَلَاكُ الْمَهْرِ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَلَيْسَ هَلَاكُ مِلْكِهِ بَلْ هَلَاكُ مِلْكِهَا فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهُ بِالْقِيمَةِ كَهَلَاكِ الْمَغْصُوبِ، وَلِهَذَا صَرَّحَ فِي النِّهَايَةِ بِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهَا بِأَنْ قَالَ: وَلِهَذَا وَجَبَ لَهَا الْقِيمَةُ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا) فَفِي الْمُعَيَّنِ لَهَا نِصْفُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي الْخَمْرِ لَهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَفِي الْخِنْزِيرِ الْمُتْعَةُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ فَتَتَنَصَّفُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِمَهْرِ الْمِثْلِ لَهَا الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ نِكَاحِ الرَّقِيقِ
(لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُمَا) وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ فَيَمْلِكُ النِّكَاحَ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ» وَلِأَنَّ فِي تَنْفِيذِ نِكَاحِهِمَا تَعْيِيبَهُمَا إذْ النِّكَاحُ عَيْبٌ فِيهِمَا
(بَابُ نِكَاحِ الرَّقِيقِ)
الرَّقِيقُ: الْعَبْدُ، وَيُقَالُ لِلْعَبِيدِ. لَمَّا فَرَغَ مِنْ نِكَاحِ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ شَرَعَ فِي بَيَانِ نِكَاحِ الْأَرِقَّاءِ وَالْإِسْلَامُ فِيهِمْ غَالِبٌ، فَلِذَا قَدَّمَ بَابَ نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَوْلَاهُ نِكَاحَ الْأَرِقَّاءِ ثُمَّ أَوْلَاهُ نِكَاحَ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ فَصْلِ النَّصْرَانِيِّ فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَهْرِ مِنْ تَوَابِعِ مُهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَهْرُ مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ فَأَرْدَفَهُ تَتِمَّةً لَهُ.
(قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ) أَيْ لَا يَنْفُذُ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ فِي الْكِتَابِ وَلَيْسَ مَذْهَبُهُ.
وَحَاصِلُ تَقْرِيرِ وَجْهِهِ الْمَذْكُورِ مُلَازَمَةٌ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ شَرْعًا فَقَدْ تَبَيَّنَ بِأَنَّ مَنْ مَلَكَ رَفْعَ شَيْءٍ مَلَكَ وَضْعَهُ وَتُمْنَعُ بِمِلْكِ رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ النَّفْسِ وَلَا يَمْلِكُ إثْبَاتَهُ شَرْعًا عَلَى نَفْسِهِ وَلِذَا مَلَكَ التَّطَبُّبَ وَلَمْ يَمْلِكْ أَكْلَ السُّمِّ وَإِدْخَالَ الْمُؤْذِي عَلَى الْبَدَنِ. وَالْأَوْجَهُ بَيَانُهَا بِأَنْ مِلْكَهُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ. وَيُجَابُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَالْعَاهِرُ الزَّانِي.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا فِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا نَكَحَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ» (وَلِأَنَّ فِي تَنْفِيذِ نِكَاحِهِمَا تَعْيِيبَهُمَا) أَمَّا فِي الْعَبْدِ فَتَشْتَغِلُ مَالِيَّتُهُ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَأَمَّا فِي الْأَمَةِ فَلِحُرْمَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ بِالْإِفْسَادِ فَلَا يَنْفُذُ إلَّا بِرِضَاهُ. وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ الْمَنْسُوبِ إلَى مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ فَيَمْلِكُ النِّكَاحَ، فَالطَّلَاقُ إزَالَةُ عَيْبٍ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ. لَا يُقَالُ: يَصِحُّ الْإِقْرَارُ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ مَعَ
فَلَا يَمْلِكَانِهِ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا
(وَكَذَا الْمُكَاتَبُ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَوْجَبَتْ فَكَّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْكَسْبِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ النِّكَاحِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ. وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ وَيَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لَا تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى وَتَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا (وَ) كَذَا (الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ) لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا قَائِمٌ.
أَنَّ فِيهِ إهْلَاكَهُ فَضْلًا عَنْ تَعْيِيبِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مِلْكِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ أَمْرًا وَنَهْيًا كَالصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ وَالصَّوْمِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهَا إلَّا فِيمَا عُلِمَ إسْقَاطُ الشَّارِعِ إيَّاهُ عَنْهُ كَالْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَحْكَامُ تَجِبُ جَزَاءً عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ شَرْعًا فَقَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ الشَّارِعُ زَجْرًا عَنْ الْفَسَادِ وَأَعَاظِمِ الْعُيُوبِ
(وَكَذَا الْمُكَاتَبُ) لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى (لِأَنَّ الْكِتَابَةَ) إنَّمَا (أَوْجَبَتْ فَكَّ الْحَجْرِ) فِي التَّصَرُّفِ الِاكْتِسَابِيِّ فَيَبْقَى فِيمَا سِوَاهُ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ (وَلَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ وَيَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ) بِتَحْصِيلِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِلْمَوْلَى وَالْوَلَدِ الْعَبْدِ وَلِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ مِلْكَ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْقَاضِي وَالْوَصِيِّ. وَلِلشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ لَا الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ تَنْقِيصٌ لِلْمَالِيَّةِ، وَأَمَّا شَرِيكُ الْعِنَانِ وَالْمُضَارِبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فَلَيْسَ لَهُمْ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَمْلِكُونَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا لِمَا نَذْكُرُهُ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لَا تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَتَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ بَقَاءِ ذَاتِ الْمُكَاتَبِ عَلَى الرَّدِّ وَالِاكْتِسَابِ الَّذِي أَوْجَبَتْ الْكِتَابَةُ إطْلَاقَهُ لَهُ مَا لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي ذَاتِهِ الْمَمْلُوكَةِ، وَالِاكْتِسَابُ بِالنِّكَاحِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَمَلُّكِ جُزْءٍ مِنْهَا لِغَيْرِ السَّيِّدِ، إذْ بَدَلُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ فِي حُكْمِ بَدَلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ كَالْأَرْشِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ لَا يَزُولُ مِلْكُهَا بَعْدَ صِحَّتِهِ إلَّا بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ اسْتِمْرَارِ فَكِّ الْحَجْرِ فِيهَا وَإِفْضَائِهَا إلَى زَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِجَوَازِ التَّعْجِيزِ وَالرَّدِّ إلَى الرِّقِّ فَتَرُدُّ مَمْلُوكَةُ الْبُضْعِ لِلْغَيْرِ مُمْتَنِعٌ عَلَى السَّيِّدِ وَلَمْ يُشْرَعْ عَقْدُ الْكِتَابَةِ عَلَى وَجْهٍ يَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى السَّيِّدِ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ) وَالْمُدَبَّرَةُ لَا يَنْفُذُ نِكَاحُهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَكَذَا ابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ: يَعْنِي لَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ أُمِّهِ فَالرِّقُّ فِيهِ قَائِمٌ فَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ.
[فَرْعٌ مُهِمٌّ لِلتُّجَّارِ] رُبَّمَا يَدْفَعُ لِعَبْدِهِ جَارِيَةً يَتَسَرَّى بِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى أَصْلًا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِلْكُ يَمِينٍ فَانْحَصَرَ حِلُّ وَطْئِهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَالْمَهْرُ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ) لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَدْ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِصُدُورِ الْإِذْنِ مِنْ جِهَتِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ دَفْعًا لِلْمَضَرَّةِ عَنْ أَصْحَابِ الدُّيُونِ كَمَا فِي دَيْنِ التِّجَارَةِ.
(وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ يَسْعَيَانِ فِي الْمَهْرِ وَلَا يُبَاعَانِ فِيهِ) لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَيُؤَدَّى مِنْ كَسْبِهِمَا لَا مِنْ نَفْسِهِمَا.
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَقَالَ الْمَوْلَى طَلِّقْهَا أَوْ فَارْقِهَا فَلَيْسَ هَذَا بِإِجَازَةٍ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِأَنَّ رَدَّ هَذَا الْعَقْدِ وَمُتَارَكَتَهُ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً
قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَالْمَهْرُ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ) بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَدَخَلَ بِهَا. ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ يُبَاعُ فِيهِ: إنْ لَمْ يَفْدِهِ الْمَوْلَى. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ فِي رَقَبَتِهِ وَكُلُّ دَيْنٍ كَذَلِكَ يُبَاعُ فِيهِ. أَمَّا وُجُوبُهُ فَلِلْمُقْتَضِي وَهُوَ وُجُودُ السَّبَبِ مِنْ أَهْلِهِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى لِلْإِذْنِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي رَقَبَتِهِ فَلِإِذْنِ السَّيِّدِ وَلِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ أَرْبَابِ الدُّيُونِ: يَعْنِي النِّسَاءَ فَيُبَاعُ فِيهِ كَمَا يُبَاعُ فِي دُيُونِ التِّجَارَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَثُبُوتُهُ فِيهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاشَرَ إتْلَافًا وَنَحْوَهُ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ فَحِينَ أَذِنَ ظَهَرَ الدَّيْنُ فِي حَقِّهِ ثُمَّ الْعَبْدُ نَفْسُهُ مَالٌ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْتَضُوا مِنْ نَفْسِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِذْنُ دَفَعَ الْمَانِعَ مِنْ الِاقْتِضَاءِ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ فَدَاهُ الْمَوْلَى حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَالْمُقْتَضِي لِذَلِكَ دَفْعُ الْمَضَرَّةِ عَنْ أَرْبَابِ الدُّيُونِ.
وَإِذَا بِيعَ فَلَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالْمَهْرِ لَا يُبَاعُ ثَانِيًا وَيُطَالَبُ بِالْبَاقِي بَعْدَ الْعِتْقِ، وَفِي دَيْنِ النَّفَقَةِ يُبَاعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ سَقَطَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ، ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ. وَإِذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرٌ لَهَا وَلَا السَّيِّدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجِبُ ثُمَّ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِحَقِّ الشَّرْعِ. وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: لَا فَائِدَةَ لِهَذَا الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ فِي مَالِيَّتِهِ وَهِيَ لِلْمَوْلَى
. (قَوْلُهُ وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ يَسْعَيَانِ) إذَا أَذِنَ لَهُمَا الْمَوْلَى فَتَزَوَّجَا ثُمَّ امْتَنَعَ عَنْ الْأَدَاءِ عَنْهُمَا يَسْعَيَانِ (لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ) وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ وَابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ فَيُؤَدِّي مِنْ كَسْبِهِمَا لَا مِنْ نَفْسِهِمَا إلَّا إنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ
. (قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَقَالَ لَهُ طَلِّقْهَا أَوْ فَارْقِهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِجَازَةٍ) تَزْوِيجُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بِلَا إذْنٍ عَقْدُ فُضُولِيٍّ فِي الْجُمْلَةِ فَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى، وَإِذْنُهُ يَثْبُتُ تَارَةً صَرِيحًا
وَهُوَ أَلْيَقُ بِحَالِ الْعَبْدِ الْمُتَمَرِّدِ أَوْ هُوَ أَدْنَى فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى (وَإِنْ قَالَ: طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكْ الرَّجْعَةَ فَهُوَ إجَازَةٌ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَتَتَعَيَّنُ الْإِجَازَةُ.
وَطَوْرًا دَلَالَةً، فَالصَّرِيحُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ رَضِيت أَوْ أَجَزْت أَوْ أَذِنْت، وَالدَّلَالَةُ أَنْ يَسُوقَ إلَيْهَا الْمَهْرَ أَوْ بَعْضَهُ، وَسُكُوتُهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً وَثَمَّ أَلْفَاظٌ اُخْتُلِفَ فِيهَا وَأَلْفَاظٌ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِهَا؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ هَذَا حَسَنٌ أَوْ صَوَابٌ أَوْ نِعْمَ مَا صَنَعْت أَوْ بَارَكَ اللَّهُ لَك فِيهَا أَوْ أَحْسَنْت أَوْ أَصَبْت أَوْ لَا بَأْسَ بِهَا اُخْتُلِفَ فِيهَا. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو الْقَاسِمِ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا إجَازَةً. وَاخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ إجَازَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ طَلِّقْهَا لَا شَكَّ أَنَّ مُقْتَضَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فِيهَا الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الصَّحِيحَ فَرْعُ وُجُودِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، لَكِنْ قَدْ صُرِفَ عَنْ مُقْتَضَاهُ بِالنَّظَرِ إلَى حَالِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ افْتِيَاتَ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ تَمَرُّدٌ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ تَعْيِيبِهِ عَلَيْهِ يَسْتَوْجِبُ بِهِ زَجْرَهُ وَبِهِ فَارَقَ الْفُضُولِيَّ الْمَحْضَ فَإِنَّهُ مُعِينٌ وَالْإِعَانَةُ تَنْتَهِضُ سَبَبًا لِإِمْضَاءِ تَصَرُّفِهِ وَعَدَمِ إلْغَائِهِ، وَلِذَا لَوْ قَالَ لِلْفُضُولِيِّ طَلِّقْهَا كَانَ إجَازَةً عَلَى مَا هُوَ الْأَوْجَهُ، وَإِنْ قُلْنَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ فُضُولِيٌّ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِذَا كَانَ حَالُ الْعَبْدِ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ لَفْظُ السَّيِّدِ لَهُ عِنْدَ عِلْمِهِ بِمَا صَنَعَ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالْإِجَازَةَ لِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا كَانَ بِمُلَاحَظَةِ حَالِ الْعَبْدِ ظَاهِرًا فِي قَصْدِ الرَّدِّ مَا لَمْ يَعْلَمْ قَصْدَ الْإِجَارَةِ لِظَاهِرٍ يَقْتَرِنُ بِهِ أَوْ نَصٍّ آخَرَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةَ أَوْ أَوْقِعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ وَالطَّلَاقَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بَعْدَهُ لَا يُقَالَانِ لِلْمُتَارَكَةِ وَلَا فِي قَصْدِ الِاسْتِهْزَاءِ فَيُفِيدُ قَصْدَ حَقِيقَتِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقْهَا فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِمُتَارَكَةِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ طَلَاقٌ مَجَازًا فَصَلُحَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُتَمَسَّكًا لِأَبِي الْقَاسِمِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمُتَارَكَةِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَحْوِ أَحْسَنْت إلَخْ فَإِنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ لِلْأَمْرَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ بَلْ الظَّاهِرُ مِنْهُ الْإِجَازَةُ وَحَمْلُهُ عَلَى الرَّدِّ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِوَاسِطَةِ جَعْلِهِ اسْتِهْزَاءً، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ إلَى حَالِ الْعَبْدِ لَا يُنَافِيهِ لَكِنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ يَنْفِيهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ فِعْلُ الْجَاهِلِينَ، وَلِذَا قَالَ مُوسَى عليه السلام فِي جَوَابِ قَوْلِهِمْ {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}
…
…
{أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .
فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ وَبَقِيَ نَفْسُ اللَّفْظِ بِمَفْهُومِهِ يُفِيدُ الْإِجَازَةَ بِلَا مُعَارِضٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ يُقَالُ لِلرَّدِّ كَمَا يُقَالُ لِحَقِيقَةِ الطَّلَاقِ الْمُسْتَعْقِبِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْ الْمُقَيَّدَ أَعْنِي قَوْلَهُ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ عَلَيْهَا أَوْ أَوْقِعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ فِي الْمُتَارَكَةِ جُعِلَ إجَازَةً فَوَجَبَ تَرْجِيحُ قَوْلِ الْفَقِيهِ وَمَنْ مَعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ قَصْدَ الِاسْتِهْزَاءِ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا لَمْ يُوجِبْهُ إلَّا بِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَفَادَ أَنَّهُ يَثْبُتُ اقْتِضَاءً فَوَرَدَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك بِالْمَالِ أَوْ تَزَوَّجْ
(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا عَتَقَ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ يَنْتَظِمُ الْفَاسِدَ وَالْجَائِزَ عِنْدَهُ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَهْرُ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى
أَرْبَعًا لَا يَعْتِقُ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ إثْبَاتَ الشَّرَائِطِ الَّتِي هِيَ أُصُولٌ لَا تَكُونُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْأَهْلِيَّةِ لِلْمُتَحَقِّقِ بِالرِّقِّ وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ لِلْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِثُبُوتِهِ تَبَعًا لِلْآدَمِيَّةِ وَالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ لِاسْتِلْزَامِهِ تَغَيُّبَ مَالِ الْغَيْرِ، فَقَوْلُهُ طَلِّقْهَا رَجْعِيًّا يَتَضَمَّنُ رَفْعَ الْمَانِعِ اقْتِضَاءً لَا إثْبَاتَ مِلْكِ النِّكَاحِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَالْمَمْلُوكِيَّةُ شَرْطُ الْعِتْقِ.
وَقَوْلُهُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِيَ بِأَلْفٍ يَثْبُتُ بِهِ تَحْوِيلُ الْمَمْلُوكِيَّةِ إلَيْهِ لَا أَصْلُهَا فِي الْعَبْدِ، وَمَمْلُوكِيَّتُهُ فِي الْعَبْدِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَمْلُوكِيَّتِهِ. وَعَلَى تَقْرِيرِنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ هَذَا السُّؤَالِ وَجَوَابِهِ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ لَا يَكُونُ إجَازَةً، فَإِنْ أَجَازَ الْعَبْدُ مَا صَنَعَ جَازَ اسْتِحْسَانًا كَالْفُضُولِيِّ إذَا وَكَّلَ فَأَجَازَ مَا صَنَعَهُ قَبْلَ الْوَكَالَةِ وَكَالْعَبْدِ إذَا زَوَّجَهُ فُضُولِيٌّ فَأَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التَّزَوُّجِ فَأَجَازَ مَا صَنَعَهُ الْفُضُولِيُّ. وَلَوْ بَاعَ السَّيِّدُ الْعَبْدَ بَعْدَ أَنْ بَاشَرَ بِلَا إذْنٍ فَلِلْمُشْتَرِي الْإِجَازَةُ. وَقَالَ زُفَرُ: يَبْطُلُ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ السَّيِّدُ فَوَرِثَ الْعَبْدُ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ أَمَةً فَتَزَوَّجَتْ بِلَا إذْنٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَوَرِثَهَا مَنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَطَلَ لِطَرَيَانِ الْحِلِّ النَّافِذِ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَإِنْ وَرِثَهَا مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا كَأَنْ وَرِثَهَا جَمَاعَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ ابْنُ الْمَوْلَى وَقَدْ كَانَ الْأَبُ وَطِئَهَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ. وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي أَمَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَبَاعَهَا الْمَوْلَى لِلْمُشْتَرِي الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ يُحَرِّمُهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُعْتَدَّةً، فَإِذَا حَاضَتْ بَطَلَ الْعَقْدُ لِحِلِّهَا لِلْمُشْتَرِي، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَطَأْهَا بَطَلَ الْعَقْدُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لِطَرَيَانِ الْحِلِّ الْبَاتِّ عَلَى الْمَوْقُوفِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَبِالْبَيْعِ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى إجَازَةِ إنْسَانٍ يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَعِنْدَهُ لَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يُفِيدُ مِنْ الثَّانِي. قُلْنَا: إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ لَهُ لَا لِأَنَّهُ هُوَ وَالثَّانِي مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ دَائِرٌ مَعَ الْمِلْكِ فَيَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ
(قَوْلُهُ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْأَمَةَ) التَّقْيِيدُ بِالْأَمَةِ وَالْإِشَارَةِ اتِّفَاقِيٌّ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ جَارٍ فِي الْحُرَّةِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ.
(قَوْلُهُ وَأَصْلُهُ) أَيْ أَصْلُ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْإِذْنَ لِلْعَبْدِ بِالنِّكَاحِ يَنْتَظِمُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَخُصُّ الصَّحِيحَ. وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ بِالْبَيْعِ يَعُمُّ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ، وَعَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالنِّكَاحِ يَخْتَصُّ بِالصَّحِيحِ فَأَلْحَقَاهُ بِالتَّوْكِيلِ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ تَحْصِيلُ الْمَقَاصِدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْإِعْفَافِ وَغَيْرِهِ وَذَلِكَ بِالصَّحِيحِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ فَلَا يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْحَلِفُ عَلَى الْإِعْفَافِ وَذَلِكَ بِالصَّحِيحِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ مَا تَزَوَّجْت حَيْثُ يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْمَاضِي الْعَقْدُ، وَأَلْحَقَهُ بِالْبَيْعِ بِجَامِعِ أَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ حَاصِلٌ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِتَصْحِيحِ التَّعْمِيمِ وَإِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ فِي الْفَاسِدِ إذَا دَخَلَ
وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ لَا غَيْرُ فَلَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ، لَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْإِعْفَافُ وَالتَّحْصِينُ وَذَلِكَ بِالْجَائِزِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَائِزِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ حَاصِلٌ وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَهُ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَبَعْضُ الْمَقَاصِدِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَاصِلٌ كَالنَّسَبِ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِ الْوَطْءِ، وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ مَمْنُوعَةٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
(وَمَنْ زَوَّجَ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ مَدْيُونًا امْرَأَةً جَازَ، وَالْمَرْأَةُ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِي مَهْرِهَا) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ الْمَوْلَى مِلْكُهُ الرَّقَبَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَالنِّكَاحُ لَا يُلَاقِي حَقَّ الْغُرَمَاءِ
بِهَا فِيهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ أُخْرَى بِعَقْدٍ صَحِيحٍ عِنْدَهُ لِانْتِهَاءِ الْإِذْنِ بِالْفَاسِدِ وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَنْتَهِ بِهِ.
(قَوْلُهُ وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ) أَيْ طَرِيقَةِ إجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومٍ (مَمْنُوعَةٌ) وَالطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي النِّكَاحِ مَبْقِيّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ، وَالْحَاجَةُ إلَى إذْنِ السَّيِّدِ لِيَثْبُتَ الْمَهْرُ فِي رَقَبَتِهِ لَيْسَ غَيْرُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ إذْ قَالَ تَزَوَّجْ اشْغَلْ رَقَبَتَك بِمَهْرٍ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِمَهْرِ مِثْلٍ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَبِغَيْرِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ صَحِيحَةً لِمَا سَيُذْكَرُ مِنْ مِلْكِ السَّيِّدِ إنْكَاحَهُ وَعَدَمِ مِلْكِهِ طَلَاقَهُ وَاسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ بِمِلْكِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ لِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ طَرِيقَةُ الْإِطْلَاقِ. وَيُجَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ فِيهِ الْحَلِفُ عَلَى التَّزْوِيجِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْإِعْفَافِ وَالتَّحْصِينِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَا الْإِعْفَافُ بِالْفِعْلِ فَبَطَلَ مَا يُقَالُ الْإِعْفَافُ بَاطِنِيٌّ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُ الصَّحِيحُ لِيَظْهَرَ كَوْنُ الْحَلِفِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فُرُوعٌ]
الْأَوَّلُ: تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِلَا إذْنٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فَجَدَّدَ عَلَيْهَا جَازَ بِلَا كَرَاهِيَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَمَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
الثَّانِي: زَوَّجَ بِنْتَه مِنْ مُكَاتَبِهِ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ عِنْدَنَا إلَّا إنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ لِلْحَالِ لَمِلْكِ زَوْجَتِهِ شَيْئًا مِنْهُ وَلِذَا يَصِحُّ إعْتَاقُهَا إيَّاهُ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَهَا. وَقُلْنَا: لَمْ تَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ مَا لَمْ يَعْجِزْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ قُلْنَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا مَلَكْت مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فِيهِ يَبْرَأُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يَعْتِقُ.
الثَّالِثُ: إذَا غُرَّ عَبْدٌ بِحُرِّيَّةٍ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ فَالْوَلَدُ عَبْدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْرُورِ الْحُرِّ
. (قَوْلُهُ وَمَنْ زَوَّجَ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ مَدْيُونًا امْرَأَةً جَازَ وَالْمَرْأَةُ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ) إذَا كَانَ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ
بِالْإِبْطَالِ مَقْصُودًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا صَحَّ النِّكَاحُ وَجَبَ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ لَا مَرَدّ لَهُ فَشَابَهَ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَصَارَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَيُمْهِرُ مِثْلَهَا أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ.
(وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا بَيْتَ الزَّوْجِ لَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى، وَيُقَالُ لِلزَّوْجِ مَتَى ظَفِرْت بِهَا وَطِئَتْهَا) لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الِاسْتِخْدَامِ بَاقٍ وَالتَّبْوِئَةُ إبْطَالٌ لَهُ (فَإِنْ بَوَّأَهَا
أَوْ أَقَلَّ، فَلَوْ زَوَّجَهُ مِنْهَا بِأَكْثَرَ طُولِبَ بِالزِّيَادَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْغُرَمَاءِ كَدَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ، وَهَذَا الْوُجُودُ الْمُقْتَضِي وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ، وَمَا يُخَالُ مِنْ أَنَّهُ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ لَيْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُلَاقِي حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالْإِبْطَالِ مَقْصُودًا، بَلْ وَضْعُهُ لِقَصْدِ حِلِّ الْبُضْعِ بِالْمِلْكِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَهْرُ حُكْمًا لَهُ بِسَبَبٍ لَا مَرَدَّ لَهُ وَهُوَ صِحَّةُ النِّكَاحِ لِصُدُورِهِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ يَلْزَمُهُ بُطْلَانُ حَقِّهِمْ فِي مِقْدَارِهِ إذَا كَانَ مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ لِخُصُوصِ أَمْرٍ وَاقِعٍ فَهُوَ لَازِمُ اللَّازِمِ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَانَ ضِمْنِيًّا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي إثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ إلَّا حَالُ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ لَا حَالُهُ، وَصَارَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً صَحَّ وَكَانَتْ أُسْوَةَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا
(قَوْلُهُ وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا) وَكَذَا إذَا زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرَتَهُ وَإِنْ شَرَطَ الزَّوْجُ التَّبْوِئَةَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ عَلَى الْأَمَةِ غَيْرَ أَنَّ النِّكَاحَ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ. وَمَعْنَى التَّبْوِئَةِ أَنْ يَدْفَعَهَا لِلزَّوْجِ وَلَا يَسْتَخْدِمَهَا، فَلَوْ كَانَتْ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَخْدُمُ الْمَوْلَى لَا يَكُونُ تَبْوِئَةً. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَسْتَخْدِمُهَا نَهَارًا وَيُسَلِّمُهَا لِلزَّوْجِ لَيْلًا. وَعِنْدَ مَالِكٍ يُسَلِّمُهَا لِلزَّوْجِ لَيْلَةً بَعْدَ ثَلَاثٍ. قُلْنَا: مِلْكُ السَّيِّدِ ثَابِتٌ فِي الرَّقَبَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَفِيمَا بَعْدَ الثَّلَاثِ وَالتَّبْوِئَةُ إبْطَالٌ لَهُ فَيَكُونُ إبْطَالُ الْحَقِّ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَإِقْدَامُ السَّيِّدِ عَلَى الْعَقْدِ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِالتَّبْوِئَةِ بَلْ بِمُجَرَّدِ إطْلَاقِ وَطْئِهِ إيَّاهَا مَتَى ظَفِرَ بِهَا يَتَوَفَّرُ مُقْتَضَاهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ ثَابِتٌ، فَإِثْبَاتُ الْقَسَمِ كَذَلِكَ إثْبَاتٌ بِلَا دَلِيلٍ.
لَا يُقَالُ: لَمَّا مَلَكَ مَنَافِعَ بُضْعِهَا لَزِمَهَا تَسْلِيمُهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: التَّسْلِيمُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّبْوِئَةِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَيْهَا وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْمَوْلَى مَا لَمْ يُبَوِّئْهَا، وَإِذَا بَوَّأَهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى خِدْمَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَكُلَّمَا بَوَّأَهَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَكُلَّمَا أَعَادَهَا سَقَطَتْ. فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ التَّبْوِئَةَ فَيُزَوِّجُهُ السَّيِّدُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى التَّبْوِئَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْحُرُّ الْمُتَزَوِّجُ بِأَمَةِ رَجُلٍ حُرِّيَّةَ أَوْلَادِهِ حَيْثُ يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَتَثْبُتُ حُرِّيَّةُ مَا يَأْتِي مِنْ الْأَوْلَادِ، وَهَذَا أَيْضًا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قَبُولَ الْمَوْلَى الشَّرْطَ وَالتَّزْوِيجَ عَلَى اعْتِبَارِهِ هُوَ مَعْنَى تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالْوِلَادَةِ
مَعَهُ بَيْتًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى وَإِلَّا فَلَا) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُقَابِلُ الِاحْتِبَاسَ، وَلَوْ بَوَّأَهَا بَيْتًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ بَاقٍ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّبْوِئَةِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالنِّكَاحِ.
قَالَ (ذَكَرَ تَزْوِيجَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ رِضَاهُمَا) وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ لِلْمَوْلَى إجْبَارَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا إجْبَارَ فِي الْعَبْدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ وَالْعَبْدُ دَاخِلٌ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ
وَتَعْلِيقُ ذَلِكَ صَحِيحٌ، وَعِنْدَ وُجُودِ التَّعْلِيقِ فِيمَا يَصِحُّ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ عَنْ مُقْتَضَاهُ فَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ جَبْرًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ التَّبْوِئَةِ فَإِنَّ بِتَعْلِيقِهَا لَا تَقَعُ هِيَ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ بَلْ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهَا عَلَى فِعْلٍ حِسِّيٍّ اخْتِيَارِيٍّ مِنْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَإِذَا امْتَنَعَ لَمْ تُوجَدْ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ هُنَا وَعْدٌ يَجِبُ الْإِيفَاءُ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَفِ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ مُتَعَلِّقُهُ: أَعْنِي نَفْسَ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا بَائِنًا وَهِيَ مُبَوَّأَةٌ تَجِبُ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُبَوَّأَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ رُجُوعِ السَّيِّدِ إلَى اسْتِخْدَامِهَا لَا تَجِبُ، وَالْمُكَاتَبَةُ كَالْحُرَّةِ لِزَوَالِ يَدِ الْمَوْلَى وَهِيَ فِي يَدِ نَفْسِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ إذَا لَمْ تَحْبِسْ نَفْسَهَا ظُلْمًا، وَلَوْ جَاءَتْ الْأَمَةُ بِوَلَدٍ فَنَفَقَتُهُ عَلَى مَوْلَى الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ لَا عَلَى الْأَبِ
(قَوْلُهُ قَالَ) أَيْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ (ذَكَرَ) أَيْ مُحَمَّدٌ (تَزْوِيجَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ رِضَاهُمَا) أَيْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ (وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَذْهَبِنَا)؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ (أَنَّ لِلْمَوْلَى إجْبَارَهُمَا) أَيْ أَنْ يَعْقِدَ لَهُمَا فَيَنْفُذَ عَلَيْهِمَا عَلِمَا وَرَضِيَا أَوْ لَا كَإِجْبَارِ الْوَلِيِّ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَا سَلَف (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا إجْبَارَ فِي الْعَبْدِ) بَلْ فِي الْأَمَةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ) ذَكَرَهَا (عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) صَاحِبُ الْإِيضَاحِ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَجَعَلَهَا الْوَبَرِيُّ رِوَايَةً شَاذَّةً لِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ النِّكَاحُ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى فَعُقْدَةُ تَصَرُّفٍ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَانْتَفَى كَالْأَجْنَبِيِّ وَكَتَزْوِيجِهِ مُكَاتَبَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ، بِخِلَافِ أَمَتِهِ يَمْلِكُ مَا يَتَنَاوَلُهُ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إذْ لِلْعَبْدِ التَّطْلِيقُ فِي الْحَالِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَنَحْنُ نَقُولُ مَنَاطُ نَفَاذِ إنْكَاحِهِ عَلَيْهِ مِلْكُهُ لَهُ الْمُقْتَضِي لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إصْلَاحِهِ وَدَفْعِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالنُّقْصَانِ عَنْهُ وَهُوَ تَزْوِيجُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ تَحْصِينِهِ عَنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ بِهِ أَوْ فِي مَالِيَّتِهِ لِتَعَيُّبِهِ.
وَأَمَّا جَعْلُ مَنَاطِهِ مِلْكَ مَا يَتَنَاوَلُهُ النِّكَاحُ وَأَنَّهَا عِلَّةٌ مُسَاوِيَةٌ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا الْحُكْمُ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا مُنْتَقِضَةٌ طَرْدًا فِي الزَّوْجِ يَمْلِكُ مَا يَتَنَاوَلُهُ النِّكَاحُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ وَعَكْسًا بِالْوَلِيِّ لَا يَمْلِكُهُ مِنْ مُولِيَتِهِ وَيَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا. وَأَمَّا نَفْيُ الْفَائِدَةِ فَظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ، بَلْ الظَّاهِرُ عَدَمُ مُبَادَرَتِهِ لِلطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ مِمَّا تَرْغَبُ فِيهِ النَّفْسُ غَالِبًا وَتَدْعُو إلَيْهِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ طَلَبِ قَطْعِهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ حِشْمَةَ السَّيِّدِ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ مَانِعَةٌ مِنْ اجْتِرَائِهِ عَلَيْهِ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى نَقْضِ مَا فَعَلَهُ، فَكَانَ الظَّاهِرُ وُجُودَ الْفَائِدَةِ لَا نَفْيَهَا.
وَأَمَّا إلْحَاقُهُ بِالْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ فَمَعَ الْفَارِقِ؛ لِأَنَّهُمَا الْتَحَقَا بِالْأَحْرَارِ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِمَا إلَّا بِرِضَاهُمَا وَعَنْ هَذَا اسْتَطْرَقْت مَسْأَلَةً نُقِلَتْ مِنْ الْمُحِيطِ هِيَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ
إنْكَاحَهُ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ مَنَافِعَ بُضْعِهَا فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا. وَلَنَا لِأَنَّ الْإِنْكَاحَ إصْلَاحُ مِلْكِهِ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِينَهُ عَنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ أَوْ النُّقْصَانِ فَيَمْلِكُهُ اعْتِبَارًا بِالْأَمَةِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُمَا الْتَحَقَا بِالْأَحْرَارِ تَصَرُّفًا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا.
قَالَ (وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ قَتَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا:
مُكَاتَبَتَهُ الصَّغِيرَةَ تَوَقَّفَ النِّكَاحُ عَلَى إجَازَتِهَا؛ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْبَالِغَةِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الْكِتَابَةِ، ثُمَّ إنَّهَا لَوْ لَمْ تُرِدْ حَتَّى أَدَّتْ فَعَتَقَتْ بَقِيَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى لَا عَلَى إجَازَتِهَا؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ تَبْقَ مُكَاتَبَةً وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَالصَّغِيرَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ، فَاعْتُبِرَ التَّوَقُّفُ عَلَى إجَازَتِهَا فِي حَالِ رِقِّهَا وَلَمْ يُعْتَبَرْ بَعْدَ الْعِتْقِ، هَكَذَا تَوَارَدَهَا الشَّارِحُونَ.
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ عَدَمُ التَّوَقُّفِ عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ بَلْ بِمُجَرَّدِ عِتْقِهَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ فَإِمَّا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى وَهُوَ مُمْتَنَعٌ لِانْتِفَاءِ وِلَايَتِهِ، وَإِمَّا عَلَى الْعَبْدِ فَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُصْدَرٌ مِنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ كَانَ نَافِذًا مِنْ جِهَتِهِ وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى السَّيِّدِ، فَكَذَا السَّيِّدُ هُنَا فَإِنَّهُ وَلِيٌّ مُجْبَرٌ، وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ عَلَى إذْنِهَا لِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ زَالَ فَبَقِيَ النَّفَاذُ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ، وَكَثِيرًا مَا يُقَلِّدُ السَّاهُونَ السَّاهِينَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ إذَا زَوَّجَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَلَوْ بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ لَا يَنْفُذُ حَتَّى يُجِيزَهُ الصَّبِيُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ حِينَ صَدَرَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ نَافِذًا مِنْ جِهَتِهِ إذْ لَا نَفَاذَ فِي حَالَةِ الصِّبَا أَوْ عَدَمِ أَهْلِيَّةِ الرَّأْيِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَمَوْلَى الْمُكَاتَبَةِ الصَّغِيرَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ، بِخِلَافِ الْبَالِغِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةٌ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} وَقُدْرَةُ إبْطَالِ مَا أَمْضَاهُ سَيِّدُهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ مُنْتَفِيًا فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ لِسِيَاقِهِ فِي مُقَابَلَةِ {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا}
…
…
{فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ} وَلِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَهُوَ شَيْءٌ لَيْسَ بِمَالٍ
(قَوْلُهُ وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ قَتَلَهَا إلَخْ) السَّيِّدُ فِي تَزْوِيجِهِ مُكَاتَبَتَهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بَلْ
عَلَيْهِ الْمَهْرُ لِمَوْلَاهَا) اعْتِبَارًا بِمَوْتِهَا حَتْفَ أَنْفِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ: وَلَهُ أَنَّهُ مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ كَمَا إذَا ارْتَدَّتْ الْحُرَّةُ، وَالْقَتْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا جُعِلَ إتْلَافًا حَتَّى وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ فَكَذَا فِي حَقِّ الْمَهْرِ.
(وَإِنْ قَتَلَتْ حُرَّةٌ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا فَلَهَا الْمَهْرُ) خِلَافًا لِزُفَرَ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالرِّدَّةِ وَبِقَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَالْجَامِعُ
الْمُكَاتَبَةُ وَفِي تَزْوِيجِ أَمَتِهِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ، فَلَوْ قَتَلَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الزَّوْجِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَوْلَى قَبَضَهُ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ. وَقَالَا: لَا يَسْقُطُ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهِ بِقَتْلِهِ إيَّاهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَبِقَتْلِ أَجْنَبِيٍّ وَقَتْلِ الْمَوْلَى زَوْجَهَا وَمَوْتِهَا حَتْفَ أَنْفِهَا. لَهُمَا أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ، وَلَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا لَمْ يَسْقُطْ بَلْ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ إذْ بِهِ يَنْتَهِي الْعَقْدُ وَبِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ يَتَقَرَّرُ الْبَدَلُ فَلَا يَسْقُطُ بِقَتْلِهِ إيَّاهَا بَعْدَ لُزُومِهِ كَقَتْلِ الْأَجْنَبِيِّ إيَّاهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنَعَ الْمُبْدَلَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَيُجَازَى بِمَنْعِ الْبَدَلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُجَازَاةِ كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ الْحُرَّةُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ قَبَّلَتْ ابْنَ الزَّوْجِ.
وَالْقَتْلُ وَإِنْ كَانَ مَوْتًا لَكِنَّهُ جُعِلَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إتْلَافًا حَتَّى وَجَبَ بِهِ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ وَالضَّمَانُ فِيمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَلَّهَا لَهُ وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحْكَامُهُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى حَتَّى لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الدِّيَةُ وَالْقَوَدُ لِلِاسْتِحَالَةِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ رَهْنًا عِنْدَ إنْسَانٍ فَقَتَلَهَا سَيِّدُهَا الرَّاهِنُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا لَهُ؛ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُجَازَاةِ بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا زَوَّجَ أَمَتَهُ وَصِيَّهُ مَثَلًا قَالُوا يَجِبُ أَنْ لَا يَسْقُطَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ الصَّغِيرَةِ إذَا ارْتَدَّتْ يَسْقُطُ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ الْعَاقِلَةَ مِنْ أَهْلِ الْمُجَازَاةِ عَلَى الرِّدَّةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُحْظَرْ عَلَيْهَا وَالرِّدَّةُ مَحْظُورَةٌ عَلَيْهَا. أَمَّا الْأَمَةُ فَلَا رِوَايَةَ فِي رِدَّتِهَا. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قِيلَ لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ وَهُوَ الْمُسْقِطُ لَمْ يَجِئْ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الْمَوْلَى، وَقِيلَ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ أَوَّلًا لَهَا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْلَى بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ حَاجَتِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ يُصْرَفُ إلَيْهِ. وَحَاصِلُ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُودِ سَبَبِ السُّقُوطِ فَعِنْدَهُ وُجِدَ وَعِنْدَهُمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَبَقِيَ وُجُوبُهُ السَّابِقُ عَلَى حَالِهِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَتَلَتْ حُرَّةٌ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا) يَسْتَحِقُّهُ وَرَثَتُهَا (خِلَافًا لِزُفَرَ) وَلَمْ يُحْكَ خِلَافُ زُفَرَ فِي الْمَبْسُوطِ بَلْ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلٌ لَهُ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ بِالسُّقُوطِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ فِي قَتْلِ الْأَمَةِ نَفْسَهَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَسْقُطُ كَالْحُرَّةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لِمَوْلَاهَا لَا لَهَا وَهُوَ لَمْ يُبَاشِرْ مَنْعَ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَقَوْلُ مَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَمْلُوكِ يُضَافُ إلَى مَالِكِهِ فِي مُوجَبِهِ، وَلِذَا لَوْ قَتَلَتْ غَيْرَهَا كَانَ الْمُخَاطَبُ بِدَفْعِهَا أَوْ فِدَائِهَا الْمَوْلَى فَكَانَ فِي الْحُكْمِ كَقَتْلِ الْمَوْلَى لَهَا، وَالْأَوْجَهُ مَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي رِدَّتِهَا بِالسُّقُوطِ وَهُوَ أَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ أَوَّلًا لَهَا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْلَى. وَفَائِدَةُ الْأَوَّلِيَّةِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ قُضِيَ وَلَمْ يُعْطَ الْمَوْلَى إلَّا مَا فَضَلَ. لِزُفَرَ الْقِيَاسُ عَلَى رِدَّتِهَا الِاتِّفَاقِيَّةِ وَقَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَالْجَامِعُ)
مَا بَيَّنَّاهُ. وَلَنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَشَابَهَ مَوْتَهَا حَتْفَ أَنْفِهَا، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ. .
قَالَ (وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْعَزْلِ إلَيْهَا لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّهَا حَتَّى تَثْبُتَ لَهَا وِلَايَةُ
بَيْنَ الْمَقِيسِ وَهُوَ قَتْلُهَا نَفْسَهَا وَالْمَقِيسُ عَلَيْهِ وَهُوَ رِدَّتُهَا (مَا بَيَّنَّا) مِنْ مَنْعِ الْمُبْدَلِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.
وَلَنَا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِي قَاتِلِ نَفْسِهِ، إنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرَاهُ بَاغِيًا عَلَى نَفْسِهِ، بِخِلَافِ رِدَّتِهَا فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى حُبِسَتْ بِهَا وَعُزِّرَتْ وَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا فَيَسْقُطُ بِهَا الْمَهْرُ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَلَوْ سُلِّمَ فَقَتْلُهَا نَفْسَهَا تَفْوِيتٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ صَارَ الْمَهْرُ لِلْوَرَثَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلِهَا حَقُّ غَيْرِهَا، أَمَّا الْأَمَةُ فَمَهْرُهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَكَأَنَّهُ فَعَلَهُ إبْطَالًا لِحَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اُقْتُلْ عَبْدِي فَقَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَلَوْ قَالَ الْحُرُّ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ مُبْطِلٌ لِحَقِّ نَفْسِهِ، وَفِي الثَّانِي مُبْطِلٌ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ. وَاسْتَشْكَلَ بِالْحُرَّةِ يَقْتُلُهَا وَارِثُهَا لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ صَارَ مَحْرُومًا بِالْقَتْلِ فَلَمْ يَكُنْ بِالْقَتْلِ مُبْطِلًا حَقَّ نَفْسِهِ فِي الْمَهْرِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) الْعَزْلُ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَكَرِهَهُ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ جُدَامَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ قَالَتْ «حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ فَسَأَلُوهُ عَنْ الْعَزْلِ؛ قَالَ: ذَاكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ» وَكَذَا ذَكَرَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زُرْعَةَ وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّهُ قَالَ هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى " وَصَحَّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: مَا كُنْت أَرَى مُسْلِمًا يَفْعَلُهُ، وَقَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: ضَرَبَ عُمَرُ عَلَى الْعَزْلِ بَعْضَ بَنِيهِ.
وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا: كَانَا يَنْهَيَانِ عَنْ الْعَزْلِ. وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ " كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ " وَفِي مُسْلِمٍ عَنْهُ: «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْهَنَا» وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، قَالَ: كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ عِنْدِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: فَجَاءَ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي كُنْتُ ذَكَرْتُهَا لَكَ قَدْ حَمَلَتْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
الْمُطَالَبَةِ، وَفِي الْعَزْلِ تَنْقِيصُ حَقِّهَا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا كَمَا فِي الْحُرَّةِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ لَهَا فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَزْلَ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْوَلَدِ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُ وَبِهَذَا فَارَقَتْ الْحُرَّةَ.
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ ظَاهِرَةٌ فِي جَوَازِ الْعَزْلِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: عَلِيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي أَيُّوبَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَحَدِيثُ السُّنَنِ يَدْفَعُ حَدِيثَ جُدَامَةَ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَنِ فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فَقِيلَ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ جَابِرٍ، وَقِيلَ فِيهِ عَنْ أَبِي مُطِيعِ بْنِ رِفَاعَةَ، وَقِيلَ عَنْ رِفَاعَةَ، وَقِيلَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ.
وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ يَحْيَى مِنْ حَدِيثِ الْكُلِّ بِهَذِهِ الطُّرُقِ، لَكِنْ بَقِيَ أَنَّهُمَا إذَا تَعَارَضَا يَجِبُ تَرْجِيحُ حَدِيثِ جُدَامَةَ؛ لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ عَنْ الْأَصْلِ: أَعْنِي الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ، إلَّا أَنَّ كَثْرَةَ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى اشْتِهَارِ خِلَافِهِ، وَقَدْ اتَّفَقَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهما أَنَّهَا لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّارَاتُ السَّبْعُ. أَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسَ إلَيَّ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتُذَاكَرُوا الْعَزْلَ فَقَالُوا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّارَاتُ السَّبْعُ: حَتَّى تَكُونَ سُلَالَةً مِنْ طِينٍ، ثُمَّ تَكُونَ نُطْفَةً، ثُمَّ تَكُونَ عَلَقَةً، ثُمَّ تَكُونَ مُضْغَةً، ثُمَّ تَكُونَ عِظَامًا، ثُمَّ تَكُونَ لَحْمًا، ثُمَّ تَكُونَ خَلْقًا آخَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْت، أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك.
وَفِيهِ خِلَافٌ مَا عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ مِنْ الْمَنْعِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ فِي بَعْضِ أَجْوِبَةِ الْمَشَايِخِ الْكَرَاهَةُ وَفِي بَعْضِهَا عَدَمُهَا، ثُمَّ عَلَى الْجَوَازِ فِي أَمَتِهِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهَا، وَفِي زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ يَفْتَقِرُ إلَى رِضَاهَا، وَفِي مَنْكُوحَتِهِ الْأَمَةِ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِذْنِ وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ لِلسَّيِّدِ أَوْ لَهَا وَهِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَفِي الْفَتَاوَى: إنْ خَافَ مِنْ الْوَلَدِ السُّوءَ فِي الْحُرَّةِ يَسَعُهُ الْعَزْلُ بِغَيْرِ رِضَاهَا لِفَسَادِ الزَّمَانِ فَلْيُعْتَبَرْ مِثْلُهُ مِنْ الْأَعْذَارِ مُسْقِطًا لِإِذْنِهَا. ثُمَّ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْعَتَّابِيُّ وَفِي بَعْضِهَا: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ النُّسْخَةُ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ ذَكَرَ الْجَوَابَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لِمَوْلَاهَا مِنْ غَيْرِ حِكَايَةِ خِلَافٍ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَوَجْهُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا أَنَّ الْوَطْءَ حَقُّهَا حَتَّى إنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِهِ، وَفِي الْعَزْلِ تَنْقِيصُهُ فَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا بِهِ كَالْحُرَّةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَقَّهَا فِي نَفْسِ الْوَطْءِ قَدْ تَأَدَّى بِالْجِمَاعِ، فَإِنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِهِ؛ وَأَمَّا سَفْحُ الْمَاءِ فَإِنَّمَا فَائِدَتُهُ الْوَلَدُ وَالْحَقُّ فِيهِ لِمَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَمُسْتَفَادُهُ فَيُشْتَرَطُ إذْنُهُ. ثُمَّ إذَا عَزَلَ بِإِذْنٍ أَوْ بِغَيْرِ إذْنٍ ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ هَلْ يَحِلُّ نَفْيُهُ أَمْ لَا؟ قَالُوا: إنْ لَمْ يَعُدْ إلَيْهَا أَوْ عَادَ وَلَكِنْ بَالَ قَبْلَ الْعَوْدِ حَلَّ نَفْيُهُ وَإِنْ لَمْ يَبُلْ لَمْ يَحِلَّ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْمَنِيِّ فِي ذَكَرِهِ يَسْقُطُ فِيهَا، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ قَبْلَ الْبَوْلِ ثُمَّ بَالَ فَخَرَجَ الْمَنِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْغُسْلِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: رَجُلٌ لَهُ جَارِيَةٌ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ تَخْرُجُ وَتَدْخُلُ وَيَعْزِلُ عَنْهَا الْمَوْلَى فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَأَكْبَرُ ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ نَفْيِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً لَا يَسَعُهُ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْزِلُ فَيَقَعُ الْمَاءُ فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ ثُمَّ يَدْخُلُ فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَزْلِ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا قَالُوا الْخُصُومَةُ لِلْمَوْلَى أَوْ لَهَا عَلَى الْخِلَافِ، وَهَلْ يُبَاحُ الْإِسْقَاطُ بَعْدَ الْحَبَلِ؟ يُبَاحُ مَا لَمْ يَتَخَلَّقْ شَيْءٌ مِنْهُ ثُمَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، قَالُوا: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالتَّخْلِيقِ نَفْخَ الرُّوحِ وَإِلَّا فَهُوَ غَلَطٌ L
(وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِبَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ «مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي» فَالتَّعْلِيلُ بِمِلْكِ الْبُضْعِ صَدَرَ مُطْلَقًا فَيَنْتَظِمُ الْفَصْلَيْنِ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيمَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ،
لِأَنَّ التَّخْلِيقَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا) أَوْ زَوَّجَهَا هُوَ بِرِضَاهَا أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا (ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا) أَمَّا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَنْفُذُ النِّكَاحُ بِالْإِعْتَاقِ وَلَا خِيَارَ لَهَا (وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيمَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا) فَلَا خِيَارَ لَهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي تَرْجِيحِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ أَكَانَ حِينَ أُعْتِقَتْ حُرًّا أَوْ عَبْدًا؟ وَفِي تَرْجِيحِ الْمَعْنَى الْمُعَلَّلِ بِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَهَا وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا» رَوَاهَا الْقَاسِمُ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ الرِّوَايَاتُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَالتَّرْجِيحُ يَقْتَضِي فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ تَرْجِيحَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا، وَذَلِكَ أَنَّ رُوَاةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ ثَلَاثَةٌ الْأَسْوَدُ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ؛ فَأَمَّا الْأَسْوَدُ فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا، وَأَمَّا عُرْوَةُ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَالْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ فَعَنْهُ أَيْضًا رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَالْأُخْرَى الشَّكُّ. وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ التَّرْجِيحِ مُطْلَقًا لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرْوِيِّ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ «خَيَّرَهَا صلى الله عليه وسلم وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا» يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْوَاوِ فِيهِ لِلْعَطْفِ لَا لِلْحَالِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْأَمْرَيْنِ، وَكَوْنُهُ اتَّصَفَ بِالرِّقِّ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ كَانَ حَالَ عِتْقِهَا هَذَا بَعْدَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالْعَبْدِ الْعَتِيقُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ وَهُوَ شَائِعٌ فِي الْعُرْفِ. وَاَلَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ التَّرْجِيحِ أَنَّ رِوَايَةَ كَانَ حُرًّا أَنَصُّ مِنْ كَانَ عَبْدًا لِمَا قُلْنَا، وَتَثْبُتُ زِيَادَةٌ فَهِيَ أَوْلَى وَأَيْضًا فَهِيَ مُثْبِتَةٌ وَتِلْكَ نَافِيَةٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ حَالَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ الرِّقَّ وَالنَّافِي هُوَ الْمُبْقِيهَا وَالْمُثْبِتُ هُوَ الْمُخْرِجُ عَنْهَا. وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُعَلَّلُ بِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَيَّنُوهُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنْ ثُبُوتَهَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ
وَلِأَنَّهُ يَزْدَادُ الْمِلْكُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعِتْقِ فَيَمْلِكُ الزَّوْجُ بَعْدَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَتَمْلِكُ رَفْعَ أَصْلِ الْعَقْدِ دَفْعًا لِلزِّيَادَةِ
لَا فِي الْبَقَاءِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ فِي الْبَقَاءِ أَوْ انْتَفَى نَسَبُهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ. وَأَصْحَابُنَا تَارَةً يُعَلِّلُونَهُ بِزِيَادَةِ الْمَلِكِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِحَيْثُ تَخْلُصُ بِثِنْتَيْنِ فَازْدَادَ الْمَلِكُ عَلَيْهَا، وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالرِّجَالِ لَا بِالنِّسَاءِ، وَكَأَنَّهُ اعْتِمَادٌ عَلَى إثْبَاتِ الْأَصْلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ.
وَأَوْرَدَ أَنَّهُ دَفْعُ ضَرَرٍ بِإِثْبَاتِ ضَرَرٍ وَهُوَ رَفْعُ أَصْلِ الْعَقْدِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ إلَّا بِهِ مَعَ أَنَّهُ رَضِيَ بِهِ حَيْثُ تَزَوَّجَ أَمَةً مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا قَدْ تَعْتِقُ، ثُمَّ إنَّهُ اسْتَضْعَفَ بِأَنَّ عَدَمَ مِلْكِهِ الثَّالِثَةَ لَا يَسْتَلْزِمُ نُقْصَانَ مَمْلُوكِيَّتِهَا وَلَا مِلْكِهِ الثَّالِثَةَ يَسْتَلْزِمُ طُولَهَا، فَقَدْ تَطُولُ مَمْلُوكِيَّتُهَا مَعَ مِلْكِهِ ثِنْتَيْنِ بِأَنْ لَا يُطَلِّقَهَا أَصْلًا إلَى الْمَوْتِ فَلَا ضَابِطَ لِذَلِكَ؛ وَتَارَةً بِعِلَّةٍ مَنْصُوصَةٍ وَهِيَ مِلْكُهَا بُضْعَهَا. رَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ بِسَنَدِهِ إلَى «رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لَهَا حِينَ أُعْتِقَتْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي» وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبَرِيرَةَ لَمَّا أُعْتِقَتْ قَدْ عَتَقَ بُضْعُكِ مَعَكِ فَاخْتَارِي» وَهَذَا مُرْسَلٌ وَهُوَ حُجَّةٌ.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبَرِيرَةَ لَمَّا عَتَقَتْ اذْهَبِي، فَقَدْ عَتَقَ بُضْعُكِ مَعَكِ» وَلَيْسَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ فَائِدَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ إلَّا التَّنْبِيهُ عَلَى ثُبُوتِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا «مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي» فَقَدْ تَظَافَرَتْ هَذِهِ الطُّرُقُ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَإِذَنْ فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، وَيَكُونُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّعْلِيلِ بِزِيَادَةِ الْمَلِكِ إظْهَارُ حِكْمَةِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ، وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهَا فِيمَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَفِيمَا إذَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً عَتَقَتْ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ بَعْدَمَا زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا بِرِضَاهَا أَوْ غَيْرِهِ وَخَالَفَ زُفَرُ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ فِي الْكِتَابِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعَقْدَ نَفَذَ بِرِضَاهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَلَوْ صَحَّ لَزِمَ أَنَّ سَيِّدَ الْأَمَةِ لَوْ زَوَّجَهَا بِرِضَاهَا وَمُشَاوَرَتِهَا فِي ذَلِكَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَالْأَوْجَهُ فِي اسْتِدْلَالِهِ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي» إذْ الْمُكَاتَبَةُ كَانَتْ مَالِكَةً لِبُضْعِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ. وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ تَابِعٌ لَمِلْكِ نَفْسِهَا وَلَمْ تَكُنْ مَالِكَةً نَفْسَهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ مَالِكَةً لِأَكْسَابِهَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَلَكْتِ بُضْعَكِ» لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا مَنَافِعُ بُضْعَكِ إذْ لَا يُمْكِنُ مِلْكُهَا لِعَيْنِهِ وَمِلْكُهَا لِأَكْسَابِهَا تَبَعٌ لِمِلْكِهَا لِمَنَافِعِ نَفْسِهَا وَأَعْضَائِهَا فَيَلْزَمُ كَوْنُهَا مَالِكَةً لِبُضْعِهَا بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ قَبْلَ الْعِتْقِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّصُّ، وَتَرَجَّحَ قَوْلُ زُفَرَ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ كَانَتْ حُرَّةً فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ثُمَّ صَارَتْ أَمَةً بِأَنْ
(وَكَذَلِكَ)(الْمُكَاتَبَةُ) يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ عَتَقَتْ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ نَفَذَ عَلَيْهَا بِرِضَاهَا وَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا. وَلَنَا أَنَّ الْعِلَّةَ ازْدِيَادُ الْمَلِكِ وَقَدْ وَجَدْنَاهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّ عِدَّتَهَا قُرْءَانِ وَطَلَاقَهَا ثِنْتَانِ.
(وَإِنْ تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَحَّ النِّكَاحُ) لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَامْتِنَاعُ النُّفُوذِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ (وَلَا خِيَارَ لَهَا) لِأَنَّ النُّفُوذَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةُ
ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ مَعَ زَوْجِهَا وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ مَعًا ثُمَّ سُبِيَا مَعًا ثُمَّ عَتَقَتْ فَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهَا بِالْعِتْقِ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وَازْدَادَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ثَبَتَ عَلَيْهَا مِلْكٌ كَامِلٌ بِرِضَاهَا، ثُمَّ انْتَقَصَ الْمِلْكُ بِعَارِضِ الرِّقِّ فَإِذَا عَتَقَتْ عَادَ الْمِلْكُ إلَى أَصْلِهِ كَمَا كَانَ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَحَّ النِّكَاحُ) أَيْ نَفَذَ بِمُجَرَّدِ الْعِتْقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا فَرَضَهَا فِي الْأَمَةِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهَا الْمَسْأَلَةَ الَّتِي تَلِيهَا تَفْرِيعًا. وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ كَانَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى فَلَا يَنْفُذُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَارَتِهِ بَعْدَ بُطْلَانِ وِلَايَتِهِ، وَإِذَا بَطَلَ تَنْفِيذُهُ وَتَوَقُّفُهُ لَزِمَ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ إذْ لَا وَاسِطَةَ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَتْ ثُمَّ عَتَقَتْ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ وَلَا يَتَوَقَّفُ لِمَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ إمْكَانِ الْقِسْمَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ الْأَمَةَ وَالْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ وَلِذَا صَحَّ إقْرَارُهُمَا بِالدُّيُونِ وَيُطَالِبَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَأَهْلِيَّةُ الْعِبَارَةِ مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ وَهِيَ مُبْقَاةٌ فِيهِمَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ (وَامْتِنَاعُ النُّفُوذِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ) بِالْعِتْقِ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ نَافِذٌ مِنْ جِهَتِهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَنْفُذَ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى مَا دَامَ حَقَّهُ، فَإِذَا زَالَ بَقِيَ النَّفَاذُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ تَوَقُّفٍ. وَأَمَّا الْبُطْلَانُ فَمَا ذُكِرَ فَلَيْسَ لِمَا قَالَ بَلْ لِلُّزُومِ تَحَوُّلِ حُكْمِ الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ انْعَقَدَ مُوجِبًا لَمِلْكِ الْمَوْلَى وَلَوْ نَفَذَ بَعْدَ عِتْقِهَا كَانَ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لَهَا.
وَأُورِدَ عَلَى التَّعْلِيلِ النَّقْضُ بِصُوَرٍ، وَهِيَ مَا لَوْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ أَذِنَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ النِّكَاحُ حَتَّى يُجِيزَ مَا صَنَعَ، وَمَا إذَا زَوَّجَ فُضُولِيٌّ شَخْصًا ثُمَّ وَكَّلَهُ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْفُضُولِيِّ بَعْدَ الْوَكَالَةِ، وَمَا إذَا زَوَّجَ وَلِيٌّ أَبْعَدُ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ ثُمَّ غَابَ الْأَقْرَبُ أَوْ مَاتَ فَتَحَوَّلَتْ الْوِلَايَةُ إلَى الْمُزَوِّجِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ مِنْهُ، وَكَذَا سَيِّدُ الْمُكَاتَبَةِ الصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهَا بِلَا إذْنِهَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهَا، فَإِذَا أَدَّتْ وَعَتَقَتْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ النِّكَاحُ إلَّا بِإِجَازَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مِنْ السَّيِّدِ مَعَ أَنَّهُ الْمُزَوِّجُ.
أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِأَنَّ الْإِذْنَ وَالتَّوْكِيلَ فَكُّ الْحَجْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ وَقْتِهِمَا فَلَا يَعْمَلَانِ فِيمَا قَبْلَهُمَا، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ بِالْإِجَازَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَاهُ. وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْأَبْعَدَ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا حِينَ زَوَّجَ، وَمَنْ لَيْسَ وَلِيًّا فِي شَيْءٍ لَا يَتَأَنَّى فِي عَوَاقِبِهِ وَيُحَكِّمُ الرَّأْيَ فِيهِ بَلْ يَتَوَانَى اتِّكَالًا عَلَى رَأْيِ الْأَقْرَبِ فَلَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ ظَاهِرًا فَيَجِبُ تَوْقِيفُهُ عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ وَلِيًّا لِيَثْبُتَ كَوْنُهُ أَصْلَحَ. قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: وَبِهَذَا الْحَرْفِ يَقَعُ الِانْفِصَالُ عَنْ النَّقْضِ الرَّابِعِ: يَعْنِي سَيِّدَ الْمُكَاتَبَةِ الصَّغِيرَةِ. وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ الْأَبْعَدَ إنَّمَا يَظْهَرُ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ بَعْدَ تَسْلِيمِ ظُهُورِهِ فِيهِ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى رَأْيِ الْأَقْرَبِ، أَمَّا هُنَا فَلَا يُتَّجَهُ اعْتِمَادُ الْمَوْلَى عَلَى رَأْيِ الصَّغِيرَةِ فَيَتْرُكُ النَّظَرَ فَكَانَ الظَّاهِرُ النَّظَرَ مِنْهُ لِظُهُورِهِ مِنْ مُجَرَّدِ الدِّينِ وَالنِّسْبَةِ الْخَاصَّةِ مِنْ غَيْرِ مَا يُوجِبُ بُطْلَانَ ظُهُورِهِ فِيهِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِالنَّفَاذِ بِالْعِتْقِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَوَعَدْنَاهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَيَجِبُ لَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ.
(قَوْلُهُ وَلَا خِيَارَ لَهَا)؛ لِأَنَّ النُّفُوذَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَخِيَارُ الْعِتْقِ إنَّمَا شُرِعَ فِي نِكَاحٍ نَافِذٍ
الْمِلْكِ، كَمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ.
(فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةٌ فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى (وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى أَعْتَقَهَا فَالْمَهْرُ لَهَا) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةً لَهَا. وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ الْأَلْفُ الْمُسَمَّى لِأَنَّ نَفَاذَ الْعَقْدِ بِالْعِتْقِ اسْتَنَدَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْعَقْدِ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى،
قَبْلَ الْعِتْقِ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ فَلَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةُ الْمِلْكِ لِذَلِكَ. وَأُورِدَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِنَادِ يَظْهَرُ أَنَّ النَّفَاذَ قَبْلَ الْعِتْقِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّيْءَ يَثْبُتُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ، وَحَالُ ثُبُوتِهِ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَانْتَفَى الْخِيَارُ بَعْدَهُ
. (قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةٌ) نَصَّ عَلَى زِيَادَةِ الْمُسَمَّى عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ. إنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ فَالْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ لَهَا. وَكَانَ يَتَبَادَرُ أَنَّ فِي الْوَطْءِ قَبْلَ الْعِتْقِ مَهْرَ الْمِثْلِ لِلسَّيِّدِ لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ حِينَئِذٍ فَكَانَ دُخُولًا فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ وَهُوَ كَالْفَاسِدِ حَيْثُ لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ فِيهِ فَوَجَبَتْ قِيمَةُ الْبُضْعِ الْمُسْتَوْفَى مَنَافِعُهُ الْمَمْلُوكَةُ لِلسَّيِّدِ فَلَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ لَهَا عَلَى هَذَا خِلَافًا لِمَا قِيلَ وَالزِّيَادَةُ لَهَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ.
وَهَذَا التَّوْجِيهُ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِهَا، وَالثَّابِتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَيْسَ إلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ كُلُّهُ لِلسَّيِّدِ، ثُمَّ إذَا أُعْتِقَتْ وَوَطِئَهَا يَجِبُ الْمُسَمَّى لَهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ
وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ آخَرُ
فَيَجِبُ مَهْرَانِ الْمُسَمَّى وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَكِنْ انْهَدَمَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِسَبَبِ اسْتِنَادِ النَّفَاذِ؛ لِأَنَّ النَّافِذَ لَيْسَ إلَّا ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَحِينَ صَحَّ الْعَقْدُ لَزِمَ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ وَيَلْزَمُهُ بُطْلَانُ لُزُومِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَهُ. لَا يُقَالُ: فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِنَادِ صَارَتْ مَالِكَةً لِمَنَافِعِ بُضْعِهَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الِاسْتِنَادُ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْفَائِتِ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ فَائِتَةٌ. وَحِينَ فَاتَتْ فَاتَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ بَدَلُهَا لَهُ. وَقَدْ يُورَدُ فَيُقَالُ: لَوْ اسْتَنَدَ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ يَجِبُ كَوْنُ الْمَهْرِ لِلْمَوْلَى كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى أَعْتَقَهَا وَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهَا النَّفَاذُ بِالْعِتْقِ وَبِهِ تَمْلِكُ مَنَافِعَهَا، بِخِلَافِ النَّفَاذِ بِالْإِذْنِ وَالرِّقُّ قَائِمٌ.
هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ كَبِيرَةً، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَأَعْتَقَهَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ عِنْدَ زُفَرَ، وَعِنْدَنَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ سِوَاهُ، فَإِذَا أَجَازَ جَازَ، فَإِذَا بَلَغَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُجِيزُ أَبَاهَا أَوْ جَدَّهَا، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِخِيَارِ الْإِدْرَاكِ عَنْ خِيَارِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ الْمُنَجَّزُ.
(قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ الِاتِّحَادِ بِالِاسْتِنَادِ (لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ آخَرُ)
بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ اتَّحَدَ بِاسْتِنَادِ النَّفَاذِ فَلَا يُوجِبُ إلَّا مَهْرًا وَاحِدًا.
(وَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ الْأَبُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْبَقَاءِ فَلَهُ تَمَلُّكُ جَارِيَتِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ الْمَاءِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ دُونَهَا إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ بِالْقِيمَةِ وَالطَّعَامَ بِغَيْرِ قِيمَةٍ، ثُمَّ هَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ قُبَيْلَ الِاسْتِيلَاءِ شَرْطًا لَهُ إذْ الْمُصَحَّحُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ أَوْ حَقُّهُ،
أَيْ مَهْرُ الْمِثْلِ (بِالدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ الْأَبُ) وَلَيْسَ عَبْدًا وَلَا مُكَاتَبًا وَلَا كَافِرًا وَلَا مَجْنُونًا، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَةُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَصِحُّ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، وَلَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّ مِلَّتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ جَازَتْ الدَّعْوَةُ مِنْ الْأَبِ. وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا كَوْنُ الْأَمَةِ فِي مِلْكِ الِابْنِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى الدَّعْوَةِ، فَلَوْ حَبِلْت فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ فِيهِ وَأَخْرَجَهَا الِابْنُ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ وَقْتِ التَّمَلُّكِ مِنْ حِينِ الْعُلُوقِ إلَى التَّمَلُّكِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا تَصْدِيقُ الِابْنِ وَدَعْوَةُ الْجَدِّ لِأَبٍ كَالْأَبِ، وَلَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِأُمٍّ اتِّفَاقًا. وَشَرْطُ دَعْوَةِ الْجَدِّ لِأَبٍ أَنْ تَكُونَ حَالَ عَدَمِ وِلَايَةِ الْأَبِ لِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ، وَأَنْ تَثْبُتَ وِلَايَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ حَتَّى لَوْ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ انْتِقَالِ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ دَعَوْته لِمَا قُلْنَا فِي الْأَبِ.
(قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ) أَيْ وَجْهُ هَذَا الْمَجْمُوعِ (أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ) لِمَا سَنَذْكُرُ فَكَذَا إلَى صَوْنِ نَسْلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَنَفْسِهِ إذْ هُوَ جُزْؤُهُ لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ النَّفْسِ أَشَدُّ مِنْهَا إلَى حِفْظِ النَّسْلِ (فَلِذَا يَتَمَلَّكُ الطَّعَامَ بِغَيْرِ قِيمَةٍ وَالْجَارِيَةُ الْقِيمَةُ) وَيَحِلُّ لَهُ الطَّعَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ جَارِيَةِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، كَذَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَيُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ دُونَ دَفْعِ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ لِلتَّسَرِّي، فَلِلْحَاجَةِ جَازَ لَهُ التَّمَلُّكُ، وَلِقُصُورِهَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقِيمَةَ مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ وَتَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودَيْنِ مَقْصُودِ الْأَبِ وَالِابْنِ إذْ الْبَدَلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي الْجَمَالِ: أَيْ مَا يَرْغَبُ بِهِ فِي مِثْلِهَا جَمَالًا فَقَطْ. وَأَمَّا مَا قِيلَ مَا يَسْتَأْجِرُ بِهِ مِثْلَهَا لِلزِّنَا لَوْ جَازَ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ
وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْأَبِ فِيهَا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ يُلَاقِي مِلْكَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْمَهْرُ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ. .
قَالَ (وَلَوْ كَانَ الِابْنُ زَوَّجَهَا إيَّاهُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَوَلَدُهَا حُرٌّ) لِأَنَّهُ صَحَّ التَّزَوُّجُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِخُلُوِّهَا عَنْ مِلْكِ الْأَبِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الِابْنَ مَلَكَهَا مِنْ
بَلْ لِلْعَادَةِ أَنَّ مَا يُعْطَى لِذَلِكَ أَقَلُّ مِمَّا يُعْطَى مَهْرًا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لِلْبَقَاءِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْعَادَةُ زِيَادَتُهُ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمَا يُوجِبَانِ الْعُقْرَ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِيهَا قُبَيْلَ الْوَطْءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ قُبَيْلَ الْعُلُوقِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ الْوَلَدِ وَهِيَ مُنْدَفِعَةٌ بِإِثْبَاتِهِ كَذَلِكَ دُونَ إثْبَاتِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ. قُلْنَا: لَازِمُ كَوْنِ الْفِعْلِ زِنًا ضَيَاعُ الْمَاءِ شَرْعًا، فَلَوْ لَمْ يَقْدُمْ عَلَيْهِ ثَبَتَ لَازِمُهُ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْمَلْزُومِ دُونَ لَازِمِهِ الشَّرْعِيِّ وَإِلَّا فَلَا لُزُومَ، فَظَهَرَ أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِإِثْبَاتِهِ قَبْلَ الْإِيلَاجِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ تَحْبَلْ حَيْثُ يَجِبُ الْعُقْرُ وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ أَوْ غَيْرِهِ تَجِبُ حِصَّةُ الشَّرِيكِ الِابْنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُقْرِ، وَقِيمَةُ بَاقِيهَا إذَا حَبِلَتْ لِعَدَمِ تَقْدِيمِ الْمِلْكِ فِي كُلِّهَا لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ النَّسْلِ إذْ مَا فِيهَا مِنْ الْمِلْكِ لَهُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ، وَإِذَا صَحَّ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي بَاقِيهَا حُكْمًا لَا شَرْطًا، ثُمَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنْ لَا تَجِبَ قِيمَةُ الْوَلَدِ بِلَا تَرَدُّدٍ كَقَوْلِنَا لَكِنْ فِي قَوْلٍ تَجِبُ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ قَبْلَ الْإِيلَاجِ أَوْ بَعْدَهُ تُسْقِطُ إحْصَانَهُ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الِابْنُ زَوَّجَهَا) أَيْ زَوَّجَ أَمَتَهُ (إيَّاهُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ لِلِابْنِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لَهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ) وَهَذَا لِأَنَّهُ صَحَّ النِّكَاحُ لَهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِيهِ أَنَّ الثَّابِتَ لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ حَقُّ مِلْكٍ عِنْدَهُ فَيَمْتَنِعُ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا كَأَمَةِ مُكَاتَبِهِ وَالْأَمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ وَحَقُّ التَّمَلُّكِ عِنْدَنَا مِنْ وَجْهٍ.
وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ
كُلِّ وَجْهٍ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْلِكَهَا الْأَبُ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِلْكُ الْأَبِ لَوْ كَانَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، فَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ صَارَ مَاؤُهُ مَصُونًا بِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْيَمِينِ فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ،
أَيْ الِابْنُ يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِيهَا مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِلْكُ الْأَبِ، وَلَوْ قَالَ مَا لَا يُجَامِعُهُ مِلْكُ الْأَبِ كَانَ أَوْلَى فَلَا يَكُونُ لِلْأَبِ فِيهَا مِلْكٌ مِنْ وَجْهٍ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ هِيَ وَطْؤُهُ إيَّاهَا وَانْفِرَادُهُ بِتَزْوِيجِهَا وَإِعْتَاقُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْأَبِ شَيْئًا، فَهَذِهِ لَوَازِمُ الْمُرَكَّبِ مِنْ مِلْكِهِ وَعَدَمِ مِلْكِ الْأَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ إجْمَاعًا لَزِمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «أَنْتَ وَمَالِكُ لِأَبِيكَ» إثْبَاتُ حَقِّ التَّمَلُّكِ لَا حَقِّ الْمِلْكِ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْوَاهِبَ يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ بِالْمَوْهُوبَةِ وَلَهُ حَقُّ تَمَلُّكِهَا بِالِاسْتِرْدَادِ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَوَالِدًا وَإِنَّ وَالِدِي يَحْتَاجُ إلَى مَالِي، قَالَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَرُوِيَ «لِوَالِدِكَ، إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ» وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ، فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» فَتَعَلُّقُهُ بِمُجَرَّدِ الْأَكْلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ وَمَا مَعَهُ دَلِيلُ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ مَعَ عَدَمِهِ بِدَلِيلِ عَدَمِ إجْزَائِهِمَا عَنْ الْكَفَّارَةِ.
قُلْنَا: بَلْ هُمَا مَمْلُوكَتَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَعَدَمُ الْإِجْزَاءِ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِمَا فَكَانَ نُقْصَانًا فِي رَقِّهِمَا لَا فِي مِلْكِ السَّيِّدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَجَازَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي التَّرْكِيبِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَالَ لِلِابْنِ بِقَوْلِهِ وَمَالُكَ وَهُوَ يُفِيدُ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْإِضَافَةِ فِي مِثْلِهِ، ثُمَّ أَضَافَهُ مَعَ الِابْنِ لِلْأَبِ بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ لِلْمِلْكِ فِي مِثْلِهِ وَالْعَطْفُ عَطْفٌ مُفْرَدٌ، وَلَا يُمْكِنُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِي الِابْنِ فَلَزِمَ فِي الْمَالِ أَيْضًا نَفْيُ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَإِلَّا كَانَتْ اللَّامُ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ.
بَقِيَ تَعْيِينُ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ أَهُوَ حَقُّ الْمِلْكِ أَوْ حَقُّ التَّمَلُّكِ؟ فَقَدْ يُقَالُ: حَقُّ الْمَلِكِ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازُ الْأَقْرَبُ إلَيْهَا أَوْلَى، وَلَكِنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَمْنَعُ حَقَّ الْمَلِكِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مِنْ وَجْهٍ وَهِيَ تَمْنَعُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ جَازَ النِّكَاحُ بِهِ يَصِيرُ مَاؤُهُ مَصُونًا فَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ
وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُمَا، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِالْتِزَامِهِ بِالنِّكَاحِ وَوَلَدُهَا حُرٌّ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَخُوهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ. .
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَقَالَتْ لِمَوْلَاهُ أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ فَفَعَلَ فَسَدَ النِّكَاحُ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَفْسُدُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْآمِرِ عِنْدَنَا حَتَّى يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا، وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ لِأَنَّهُ طَلَبَ أَنْ يُعْتِقَ الْمَأْمُورُ عَبْدَهُ عَنْهُ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ فَلَمْ يَصِحَّ الطَّلَبُ فَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَأْمُورِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ إذْ الْمِلْكُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعِتْقِ عَنْهُ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ أَعْتِقْ طَلَبُ التَّمْلِيكِ مِنْهُ بِالْأَلْفِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِ الْآمِرِ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ أَعْتَقْت تَمْلِيكٌ مِنْهُ ثُمَّ الْإِعْتَاقُ
لِلْأَبِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُمَا، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِالْتِزَامِهِ بِالنِّكَاحِ وَوَلَدُهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَخُوهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَمَا عَنْ زُفَرَ أَنَّهَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِالْفُجُورِ فَأَوْلَى بِالْحِلِّ بَعِيدٌ صُدُورُهُ عَنْهُ فَإِنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ فَرْعٌ لِمِلْكِ الْأَمَةِ وَمِلْكُهَا يُنَافِي النِّكَاحَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ تَفْرِيعًا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ النِّكَاحِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَقَالَتْ لِمَوْلَاهُ أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ فَفَعَلَ فَسَدَ النِّكَاحُ) وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ تَحْتَ حُرٍّ فَقَالَ لِسَيِّدِهَا ذَلِكَ فَسَدَ نِكَاحُهُ (وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَفْسُدُ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ عِنْدَنَا حَتَّى يَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ. وَلَوْ نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ عَنْهُ. وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ أَنْ يَعْتِقَ الْمَأْمُورُ عَبْدَهُ عَنْهُ، وَهَذَا مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ) وَالْمُقْتَضَى هُوَ تَصْحِيحُ كَلَامِهَا صَوْنًا لَهُ عَنْ اللَّغْوِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِك لَا يُعْتَقُ الْمُخَاطَبُ تَصْحِيحًا لِكَلَامِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ أَصْلٌ لِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَأَصْلُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِفَرْعِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ اقْتِضَاءً لَصَارَ تَبَعًا لَهُ فَامْتَنَعَ لِذَلِكَ.
لَا يُقَالُ: مِلْكُ الْآمِرِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَمِثْلُهُ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ النِّكَاحِ كَالْوَكِيلِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لِمُوَكِّلِهِ لَا يَفْسُدُ نِكَاحُهُ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ أَوَّلًا لَهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمِلْكُ مَلْزُومٌ لِلِانْفِسَاخِ، فَإِذَا ثَبَتَ ثَبَتَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْأَمَةِ إذَا اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَاشْتَرَاهَا عَتَقَتْ وَفَسَدَ النِّكَاحُ مَعَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ، وَعَدَمُ الِانْفِسَاخِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ أَوَّلًا لَهُ بَلْ ابْتِدَاءً يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ فِي الصَّحِيحِ كَالْعَبْدِ يُتَّهَبُ يَقَعُ الْمِلْكُ لِمَوْلَاهُ ابْتِدَاءً وَإِنْ وَقَعَ الْوَكِيلُ لَكِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُوَكِّلِ حَالَةَ ثُبُوتِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ إذْ لَمْ يَخْلُصْ ثُبُوتُهُ لِيَخْلُصَ ثُبُوتُ الْمَلْزُومِ فَيَصِيرَ قَوْلُهُ أَعْتِقْ طَلَبَ التَّمْلِيكِ مِنْهُ بِالْأَلْفِ وَأَمْرَهُ بِإِعْتَاقِهِ عَنْهُ (وَقَوْلُهُ أَعْتَقْت تَمْلِيكٌ مِنْهُ) ضِمْنِيٌّ لِلْإِعْتَاقِ الصَّرِيحِ الْوَاقِعِ جَوَابًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْبَيْعِ فَقَالَ بِعْتُك وَأَعْتَقْته لَا يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ بَلْ عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَثْبُتُ الْبَيْعُ ضِمْنًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا يَثْبُتُ صَرِيحًا كَبَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي الْأَرْحَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ مُقْتَضًى يُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُتَضَمِّنِ لَا شُرُوطُ نَفْسِهِ وَشُرُوطُ الْعِتْقِ الْأَهْلِيَّةُ بِالْمِلْكِ وَالْعَقْلِ وَعَدَمِ
عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْآمِرِ فَسَدَ النِّكَاحُ لِلتَّنَافِي بَيْن الْمِلْكَيْنِ.
(وَلَوْ قَالَتْ أَعْتِقْهُ عَنِّي وَلَمْ تُسَمِّ مَالًا لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبْضِ كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ بِالنَّصِّ فَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ
الْحَجْرِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَأْمُورِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ يَثْبُتُ بِشَرْطِ نَفْسِهِ وَالْبَيْعُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَيَعْتِقُ عَنْ نَفْسِهِ
. (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَتْ) مَا تَقَدَّمَ كَانَ إذَا ذَكَرَ مَالًا مَعَ الْأَمْرِ. فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ أَعْتِقْهُ عَنِيَ فَفَعَلَ الْمَأْمُورُ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَيَتَضَمَّنُ الْهِبَةَ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبْضِ كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ فَفَعَلَ يَسْقُطُ عَنْ الْآمِرِ مَعَ أَنَّهُ لَا قَبْضَ هُنَا مِنْهُ، وَعِنْدَهُمَا عَنْ الْمَأْمُورِ، وَحَاصِلُ وَجْهِهِمَا أَنَّ فِيهِ شَرْطًا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً وَهُوَ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ غَيْرُ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلُ الْحِسِّيُّ لَا يُوجَدُ فِي ضِمْنِ الْقَوْلِ، فَفِعْلُ الْيَدِ الَّذِي هُوَ الْأَخْذُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ فِعْلُ اللِّسَانِ وَيَكُونُ مَوْجُودًا بِوُجُودِهِ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ فَإِنَّهُ يُتَضَمَّنُ ضِمْنَ قَوْلٍ آخَرَ وَيُعْتَبَرُ مُرَادُهُ مَعَهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَقَوْلُ أَبِي الْيُسْرِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَظْهَرُ لَا يَظْهَرُ، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الْآمِرِ فَيَكُونُ قَابِضًا لَهُ، ثُمَّ بِالِاسْتِيفَاءِ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَقَعُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِالْعِتْقِ لِيُمْكِنَ اعْتِبَارُهُ قَابِضَهُ نِيَابَةً أَوَّلًا بَلْ بِالْعِتْقِ تَتْلَفُ مَالِيَّتُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
شَرْعِيٌّ، وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْفَقِيرُ يَنُوبُ عَنْ الْآمِرِ فِي الْقَبْضِ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَقَعُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لِيَنُوبَ عَنْهُ.
(بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ بِمَرْتَبَتَيْهِ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْأَرِقَّاءِ شَرَعَ فِي بَيَانِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا كِتَابِيِّينَ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إمَّا تَغْلِيبًا وَإِمَّا ذَهَابًا إلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَاخِلُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَإِمَّا إطْلَاقًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ رَبُّ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَعْقَبَ بَابَ الْمَهْرِ بِفَصْلِ مُهُورِ الْكُفَّارِ تَتْمِيمًا لَبَابِ الْمَهْرِ تَبَعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا تَحَقَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ لِتَظَافُرِ الِاعْتِقَادَيْنِ عَلَى صِحَّتِهِ وَلِعُمُومِ الرِّسَالَةِ، فَحَيْثُ وَقَعَ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ الْعَامِّ وَجَبَ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَصِحُّ أَنْكِحَتُهُمْ بِنَاءً عَلَى تَنَاوُلِ الْخِطَابِ الْعَامِّ إيَّاهُمْ مَعَ مَلْزُومِيَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ لِعَدَمِ بَعْضِ الشُّرُوطِ كَالْوِلَايَةِ وَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ، وَلِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ. قَالَ: وَلَوْ قُلْنَا إنَّهَا شَرْطٌ فَإِذَا عَقَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ لَكِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَدَمَ الصِّحَّةِ.
قَالَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مَا صَادَفَ شُرُوطَ الصِّحَّةِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَمَا لَا فَفَاسِدٌ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» وَأَسْلَمَ فَيْرُوزُ عَلَى أُخْتَيْنِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «اخْتَرْ إحْدَاهُمَا» وَأَسْلَمَ ابْنُ غَيْلَانَ عَلَى عَشْرٍ فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم «أَمْسِكْ أَرْبَعًا» الْحَدِيثَ. وَمِنْ حِينِ ظَهَرَتْ دَعْوَتُهُ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يَتَوَارَدُونَ الْإِسْلَامَ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا قِيلَ عَنْ سَبْعِينَ أَلْفِ مُسْلِمٍ غَيْرِ النِّسَاءِ، وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ جَدَّدُوا أَنْكِحَتَهُمْ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ وَلَا
بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِلَا شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ ثُمَّ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ زُفَرٌ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ إلَى الْحُكَّامِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي كَمَا قَالَ زُفَرٌ. لَهُ إنَّ الْخِطَابَاتِ عَامَّةٌ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَتَلْزَمُهُمْ، وَإِنَّمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ لِذِمَّتِهِمْ إعْرَاضًا لَا تَقْرِيرًا، فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ وَجَبَ التَّفْرِيقُ. وَلَهُمَا أَنَّ حُرْمَةَ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا فَكَانُوا مُلْتَزِمِينَ لَهَا، وَحُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَنَا بِجَمِيعِ الِاخْتِلَافَاتِ.
ضَعِيفٍ، وَلَوْ كَانَ لَقَضَتْ الْعَادَةُ بِنَقْلِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ (وَقَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ ثُمَّ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ زُفَرٌ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَفِي عِدَّةِ كَافِرٍ (إلَّا أَنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُرَافَعَةِ إلَى الْحُكَّامِ) فَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ النِّكَاحُ بِلَا شُهُودٍ (كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي) وَهُوَ مَا فِي عِدَّةِ كَافِرٍ (كَمَا قَالَ زُفَرٌ. لِزُفَرٍ أَنَّ الْخِطَابَاتِ عَامَّةٌ عَلَى مَا مَرَّ) فِي الْفَصْلِ الَّذِي بِذَيْلِ بَابِ الْمَهْرِ مِنْ وُجُوبِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ عَلَى الْعُمُومِ لِعُمُومِ الْخِطَابَاتِ وَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ وَالنِّكَاحُ مِنْهَا (وَإِنَّمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ لِذِمَّتِهِمْ إعْرَاضًا لَا تَقْرِيرًا، فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ وَجَبَ التَّفْرِيقُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَلَهُمَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَقًّا لِلشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِهِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ فَحَالَةُ الْمُرَافَعَةِ وَالْإِسْلَامِ حَالَةُ الْبَقَاءِ وَالشَّهَادَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا، وَكَذَا الْعِدَّةُ لَا تُنَافِيهَا كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ
وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُعْتَدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَى بُطْلَانِهِ عِنْدَنَا فَكَانُوا مُلْتَزِمِينَ لَهَا عَلَى مَا مَرَّ هُنَاكَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ مَذْهَبَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَهَذَا تَقْيِيدٌ لَهُ حَيْثُ أَفَادَ أَنَّهُمْ الْتَزَمُوا الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ فِي مِلَّتِنَا لَا مُطْلَقًا (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُرْمَةَ) أَيْ حُرْمَةَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَنِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ (لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَقًّا لِلشَّرْعِ) أَيْ الشَّارِعِ (لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِهِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ) الْكِتَابِيَّةُ (تَحْتَ مُسْلِمٍ) طَلَّقَهَا فَإِنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ حَقًّا لَهُ (لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ) فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ هَذِهِ الْكِتَابِيَّةِ فِيهَا.
(وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ) حَالَ صُدُورِهِ (فَحَالُ الْمُرَافَعَةِ وَالْإِسْلَامِ حَالَةُ الْبَقَاءِ وَالشَّهَادَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا) بَلْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِصِحَّتِهِ (وَكَذَا الْعِدَّةُ لَا تُنَافِيهَا) أَيْ لَا تُنَافِي حَالَةَ بَقَاءِ الْعَقْدِ (كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ) حَيْثُ يَثْبُتُ وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ مَعَ زَوْجِهَا وَحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُفِيدُ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ أَصْلًا عِنْدَهُ حَتَّى لَا يَثْبُتَ لِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ بِمُجَرَّدِ طَلَاقِهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُهَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ. وَقِيلَ تَجِبُ عِدَّةٌ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِضَعْفِهَا كَالِاسْتِبْرَاءِ يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ فِي حَالِ قِيَامِ وُجُوبِهِ عَلَى السَّيِّدِ. وَقِيلَ الْأَلْيَقُ الْأَوَّلُ لِمَا عُرِفَ مِنْ وُجُوبِ تَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ
فَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ ثُمَّ أَسْلَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعِدَّةِ وَوَجَبَ التَّعَرُّضُ بِالْإِسْلَامِ فَيُفَرَّقُ.
وَعِنْدَهُ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ
لِأَنَّ تَرْكَهُمْ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ مَا تَرَكُوا وَإِيَّاهُ كَالْكُفْرِ تَرَكُوا وَإِيَّاهُ وَهُوَ الْبَاطِلُ الْأَعْظَمُ، وَلَوْ سُلِّمَ لَمْ يَسْتَلْزِمْ عَدَمَ ثُبُوتِ النَّسَبِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ لَا تَجِبُ، وَإِذَا عُلِمَ مَنْ لَهُ الْوَلَدُ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَجَبَ إلْحَاقُهُ بِهِ بَعْدَ كَوْنِهِ عَنْ فِرَاشٍ صَحِيحٍ، وَمَجِيئُهَا بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الطَّلَاقِ مِمَّا يُفِيدُ ذَلِكَ فَيَلْتَحِقُ بِهِ وَهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثُبُوتَهُ وَلَا عَدَمَهُ، بَلْ اخْتَلَفُوا أَنَّ قَوْلَهُ بِالصِّحَّةِ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوَّلًا فَلَا، فَلَنَا أَنْ نَقُولَ بِعَدَمِهَا وَيَثْبُتُ النَّسَبُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمُرَافَعَةُ أَوْ الْإِسْلَامُ وَالْعِدَّةُ قَائِمَةٌ، أَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَلَا يُفَرَّقُ بِالْإِجْمَاعِ. ثُمَّ هُنَا نَظَرَانِ: الْأَوَّلُ مُقْتَضَى تَوْجِيهِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مَحْفُوظَةً عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطَهَا مَشَايِخُ بُخَارَى مِنْ بَعْضِ تَفْرِيعَاتِهِمْ، كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَلْزَمُهُ النَّذْرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْعِرَاقِيُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْكُلِّ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَكَوْنُهُ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُعَامَلَةً فَيَلْزَمُ اتِّفَاقُ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ، غَيْرَ أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِبُلُوغِهِ إلَيْهِ، وَالشُّهْرَةُ تَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمُقْتَضَى النَّظَرِ التَّفْصِيلُ. الثَّانِي أَنَّ نَفْيَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِدَّةَ هُنَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ عَدَمَهَا، وَمُقْتَضَاهُ إذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَهَا أَنْ لَا يَصِحَّ، وَيَجِبُ التَّجْدِيدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَقَعَ كَانَ بَاطِلًا فَيَلْزَمُ فِي الْمُهَاجِرَةِ لُزُومُ الْعِدَّةِ إذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى تَبَايُنِ الدَّارِ الْفُرْقَةُ لَا نَفْيُ الْعِدَّةِ.
وَتَعْلِيلُ النَّفْيِ هُنَاكَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ إظْهَارًا لِخَطَرِ النِّكَاحِ السَّابِقِ، وَلَا خَطَرَ لِمِلْكِ الْحَرْبِيِّ بِالْآيَةِ. قَدْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ بَقَاءُ مِلْكِهِ لِلنِّكَاحِ إذَا سَبَى الزَّوْجَانِ مَعًا، وَسَنَذْكُرُ لَهُ تَتِمَّةً
(قَوْلُهُ فَإِذَا تَزَوَّجَ مَجُوسِيٌّ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَهُ) أَوْ مُطَلَّقَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ جَمَعَ بَيْنَ خَمْسٍ أَوْ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ (ثُمَّ أَسْلَمَا) أَوْ أَحَدُهُمَا (فُرِّقَ بَيْنَهُمَا) إجْمَاعًا (لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ) وَمَا مَعَهُ (لَهُ حُكْمُ الْبُطْلَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ
فِي الصَّحِيحِ إلَّا أَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ فَيُفَرَّقُ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَافِيهِ، ثُمَّ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَبِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا لَا يُفَرَّقُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِهِمَا لَا يَبْطُلُ بِمُرَافَعَةِ صَاحِبِهِ إذْ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ اعْتِقَادُهُ، وَأَمَّا اعْتِقَادُ الْمُصِرِّ لَا يُعَارِضُ إسْلَامَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَلَوْ تَرَافَعَا يُفَرَّقُ بِالْإِجْمَاعِ
أَهْلَ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَهَذِهِ الْأَنْكِحَةُ مُجْمَعٌ عَلَى بُطْلَانِهَا فَيَلْزَمُ حُكْمُهَا، وَعَلَى مَا حَقَّقْنَا مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ إمَّا مُخَاطَبُونَ بِالْكُلِّ كَقَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ أَوْ بِالْمُعَامَلَاتِ كَقَوْلِ الْبُخَارِيِّينَ يَجِبُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الْبُطْلَانِ بِاعْتِبَارِ شُيُوعِ خِطَابَاتِ الْأَحْكَامِ فِي دَارِنَا فَتُجْعَلُ نَازِلَةً فِي حَقِّهِمْ، إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُبَلِّغِ سِوَى إشَاعَتِهِ دُونَ أَنْ يُوصِلَهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ، غَيْرَ أَنَّا تَرَكْنَاهُمْ وَمَا يَدِينُونَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ، فَإِذَا أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَجَبَ التَّفْرِيقُ.
وَأَمَّا عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَأَتْبَاعُهُ وَجَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ الصَّحِيحَ مِنْ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ حَتَّى تَجِبَ النَّفَقَةُ إذَا طُلِبَتْ وَلَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ إنْسَانٌ يُحَدُّ خِلَافًا لِمَشَايِخِ الْعِرَاقِ الْقُدُورِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ النَّفَقَةَ وَالْإِحْصَانَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ مَعَ عَدَمِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ، فَلِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تُنَافِي الْبَقَاءَ كَمَا تُنَافِي الِابْتِدَاءَ لِكَوْنِهَا عَدَمَ الْمَحَلِّ؛ وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خِلَافُ مُقْتَضَى النَّظَرِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَجْهُ الْمُخْتَارُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِيَّيْنِ لِعَدَمِ شُيُوعِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُمْ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِمْ فَيَجِبُ التَّعْلِيلُ بِمُنَافَاةِ الْمَحْرَمِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا إذَا تَرَافَعَا فَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَالْقَاضِي كَالْمُحَكِّمِ. وَأَمَّا بِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا فَقَالَا كَذَلِكَ يُفَرَّقُ كَإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا وَرَفْعِهِ؛ لِأَنَّ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا ظَهَرَتْ حُرْمَةُ الْآخَرِ عَلَيْهِ لِتَغَيُّرِ اعْتِقَادِهِ (وَاعْتِقَادُ الْمُصِرِّ لَا يُعَارِضُ إسْلَامَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) بِخِلَافِ مُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا وَرِضَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ اعْتِقَادُ الْآخَرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ بِعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُ بِلَا مُعَارِضٍ.
وَالْأَوْجَهُ تَخْرِيجُ الْخِلَافِ فِي مُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ حِينَ صَدَرَ كَانَ بَاطِلًا عِنْدَهُمَا، لَكِنْ تُرِكَ التَّعَرُّضُ لِلْوَفَاءِ بِالذِّمَّةِ فَإِذَا انْقَادَ أَحَدُهُمَا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ كَانَ كَإِسْلَامِهِ وَعِنْدَهُ كَانَ صَحِيحًا، وَرَفْعُ أَحَدِهِمَا لَا يُرَجِّحُهُ عَلَى الْآخَرِ فِي إبْطَالِ اسْتِحْقَاقِهِ بَلْ يُعَارِضُهُ الْآخَرُ فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى الصِّحَّةِ، هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ الْمُرَافَعَةِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا فَلَا تَفْرِيقَ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ عَلَى مَا فِي الْمَبْسُوطِ فِي الذِّمِّيِّينَ أَنَّهُ يُفَرَّقَ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ. لِمَا رُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى
لِأَنَّ مُرَافَعَتَهُمَا كَتَحْكِيمِهِمَا.
(وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً وَلَا كَافِرَةً وَلَا مُرْتَدَّةً)؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ، وَالْإِمْهَالِ ضَرُورَةَ التَّأَمُّلِ، وَالنِّكَاحُ يَشْغَلُهُ عَنْهُ فَلَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ (وَكَذَا الْمُرْتَدَّةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ)؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِلتَّأَمُّلِ وَخِدْمَةُ الزَّوْجِ تَشْغَلُهَا عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ بَيْنَهُمَا الْمَصَالِحَ، وَالنِّكَاحُ مَا شُرِعَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَصَالِحِهِ (فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ صَارَ وَلَدُهُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ)
عُمَّالِهِ: أَنْ فَرِّقُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَمَحَارِمِهِمْ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ بَلْ الْمَعْرُوفُ مَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: مَا بَالُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ تَرَكُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَاقْتِنَاءِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيُتْرَكُوا وَمَا يَعْتَقِدُونَ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُتَّبِعٌ وَلَسْت بِمُبْتَدَعٍ وَالسَّلَامُ. وَلِأَنَّ الْوُلَاةَ وَالْقُضَاةَ مِنْ وَقْتِ الْفُتُوحَاتِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمُبَاشَرَتِهِمْ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ.
وَفِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمُحِيطِ: لَوْ طَلَبَتْ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا التَّفْرِيقَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا فِي الْخُلْعِ: يَعْنِي إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الذِّمِّيِّ ثُمَّ أَمْسَكَهَا فَرَفَعَتْهُ إلَى الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ إمْسَاكَهَا ظُلْمٌ وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْعَهْدَ عَلَى تَقْرِيرِهِمْ عَلَى الظُّلْمِ، وَكَذَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا خُصُوصَ عَدَدٍ. وَفِي النِّهَايَةِ لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ فَارَقَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ أَنَّ الْبَاقِيَةَ نِكَاحُهَا عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى أُقِرَّ عَلَيْهِ اهـ.
وَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّحْقِيقِ أَنْ يُفَرَّقَ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ فَاسِدًا وَوَجَبَ التَّعَرُّضُ بِالْإِسْلَامِ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً وَلَا كَافِرَةً) أَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ تَحْتَ كَافِرٍ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِأَنَّهُ مَقْتُولٌ مَعْنًى، وَكَذَا الْمُرْتَدَّةُ لَا تُزَوَّجُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِلتَّأَمُّلِ، وَمَنَاطُ الْمَنْعِ مُطْلَقًا عَدَمُ انْتِظَامِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَهُوَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لَهَا فَكَانَ أَحَقَّ بِالْمَنْعِ مِنْ مَنْعِ تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا وَبِالْعَكْسِ (قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ) يَتَحَقَّقُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ الْعَارِضِ بِأَنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَتْ أَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَى الْآخَرِ وَالتَّفْرِيقِ أَوْ بَعْدَهُ فِي مُدَّةٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي مِثْلِهَا أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ صَغِيرٌ قَبْلَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا صَارَ ذَلِكَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا، هَذَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا لَوْ تَبَايَنَتْ دَارُهُمَا بِأَنْ كَانَ الْأَبُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْوَلَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي السِّيَرِ فِي فَصْلٍ مِنْ بَابِ الْمُسْتَأْمَنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ الْأَصْلِيِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَنْ تَكُونَ الْأُمُّ كِتَابِيَّةً وَالْأَبُ مُسْلِمًا، فَمَا جَاءَتْ بِهِ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا إلَخْ، فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْأُولَى وَمِنْ أَفْرَادِهَا، وَهَذِهِ إجْمَاعِيَّةٌ فَقِسْنَا عَلَيْهَا مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، أُمًّا أَوْ أَبًا فَحَكَمْنَا
لِأَنَّ فِي جَعْلِهِ تَبَعًا لَهُ نَظَرًا لَهُ (وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ)؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ نَظَرٍ لَهُ إذْ الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِلتَّعَارُضِ وَنَحْنُ بَيَّنَّا التَّرْجِيحَ.
(وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ
بِأَنَّ الْوَلَدَ كِتَابِيٌّ بِجَامِعِ الْأَنْظَرِ لِلْوَلَدِ فِي الدُّنْيَا بِالِاقْتِرَابِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَحْكَامِ مِنْ حِلِّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ، وَفِي الْأُخْرَى بِنُقْصَانِ الْعِقَابِ إذْ الْكِتَابِيَّةُ أَخَفُّ شَرًّا مِنْ الْمَجُوسِيَّةِ فَيَثْبُتُ الْوَلَدُ كَذَلِكَ وَيَتْبَعُهُ فِي الْأَحْكَامِ (وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَيَقُولُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ كِتَابِيًّا وَالْأُمُّ مَجُوسِيَّةً إنَّهُ مَجُوسِيٌّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ.
وَقَوْلُهُ الْآخَرُ إنَّهُ كِتَابِيٌّ تَبَعًا لِأَبِيهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الِانْتِسَابَ إلَى الْأَبِ وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ كِتَابِيَّةً وَالْأَبُ مَجُوسِيًّا فَهُوَ تَبَعٌ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا فَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ فَقَدْ جَعَلَهُ مَجُوسِيًّا مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ لِلتَّعَارُضِ، أَيْ تَعَارُضِ الْإِلْحَاقَيْنِ: أَيْ الْإِلْحَاقِ بِأَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَبِالْآخَرِ يُوجِبُ الْحِلَّ فَيُغَلَّبُ مُوجِبُ الْحُرْمَةِ هُوَ بِالْإِلْحَاقِ بِالْمَجُوسِيِّ (وَنَحْنُ بَيَّنَّا التَّرْجِيحَ) بِالْقِيَاسِ بِجَامِعِهِ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ تَبَعًا، وَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ إثْبَاتُ دِيَانَتِهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَيْضًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ» الْحَدِيثَ، جَعَلَ اتِّفَاقَهُمَا نَاقِلًا لَهُ عَنْ الْفِطْرَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ أَوْ عَلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ كَذَا قِيلَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي تَرْجِيحِ تَرْجِيحِنَا عَلَى تَرْجِيحِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ تَرْجِيحَهُ يَرْفَعُ التَّعَارُضَ وَتَرْجِيحَنَا يَدْفَعُهُ فَلَا حَاصِلَ لَهُ إذَا تَأَمَّلْت.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعَارُضَ هُنَا تَجَوُّزٌ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ بِثُبُوتِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مُسْتَلْزِمَيْنِ لِحُكْمِهِمَا وَلَيْسَ هُنَا إلَّا ثُبُوتُ حُكْمٍ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارٍ، وَضِدُّهُ عَلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ، فَلَمَّا اشْتَرَكَ مَعَ الْمُعَارَضَةِ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِالْقَوْلِ بِهِ سُمِّيَ تَعَارُضًا، وَإِلَّا فَالتَّعَارُضُ تَقَابُلُ الْحُجَّتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ وَلَيْسَ هُنَا حُجَّةً فَضْلًا عَنْ ثِنْتَيْنِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ) سَوَاءً كَانَ كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، إذْ لَا يَصِحُّ تَزَوُّجُ الْكَافِرِ مُطْلَقًا مُسْلِمَةً، وَلَوْ وَقَعَ عُوقِبَ وَعُوقِبَتْ أَيْضًا إنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِحَالِهِ وَالسَّاعِي بَيْنَهُمَا أَيْضًا امْرَأَةً أَوْ رَجُلًا، وَلَا يَصِيرُ بِهِ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَلَا يُقْتَلُ خِلَافًا لِمَالِكٍ؛ قَاسَهُ عَلَى مَا إذَا جَعَلَ نَفْسَهُ طَلِيعَةً لِلْمُشْرِكِينَ بِجَامِعِ أَنَّهُ بَاشَرَ مَا ضَمِنَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ. قُلْنَا: كَإِلْزَامِ الْمُسْلِمِ بِالْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَحْظُورَهُ، وَبِفِعْلِهِ لَا يَصِيرُ شَرْعًا نَاقِضًا لِإِيمَانِهِ فَبِفِعْلِ الذِّمِّيِّ مَا الْتَزَمَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ، وَقَتْلُ الطَّلِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ مَعْنًى، وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ النِّكَاحِ لَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْحَقُهُ إجَازَةٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا.
وَقَالَ فِي إسْلَامِ الرَّجُلِ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ؛ لِأَنَّ كُفْرَ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا لَا يَمْنَعُ تَزَوُّجَ الْمُسْلِمِ بَلْ غَيْرَ الْكِتَابِيَّةِ فَلِهَذَا
فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَبَى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَبَتْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ؛ لَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا فِي الْوَجْهَيْنِ، وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمَذْهَبُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لَهُمْ وَقَدْ ضَمِنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ، إلَّا أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ فَيَنْقَطِعُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَهُ مُتَأَكِّدٌ فَيَتَأَجَّلُ إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ كَمَا فِي الطَّلَاقِ.
فَرَضَهَا فِي الْمَجُوسِيَّةِ.
وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَجُوسِيَّانِ أَوْ الزَّوْجَةُ مِنْهُمَا مَجُوسِيَّةٌ وَالزَّوْجُ كِتَابِيٌّ أَوْ الزَّوْجَةُ مِنْ الْكِتَابِيَّيْنِ أَوْ الزَّوْجَةُ كِتَابِيَّةٌ وَالزَّوْجُ مَجُوسِيٌّ عُرِضَ عَلَى الْمُصِرِّ الْإِسْلَامُ إذَا كَانَ بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ الْأَدْيَانَ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ مُعْتَبَرَةٌ فَكَذَا إبَاؤُهُ وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ، فَإِنْ أَبَى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مَجْنُونًا عُرِضَ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ أَيَّ أَلِأَبَوَيْنِ أَسْلَمَ بَقِيَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا لَكِنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْأَدْيَانَ بَعْدُ اُنْتُظِرَ عَقْلُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ غَايَةً مَعْلُومَةً، بِخِلَافِ الْجُنُونِ، هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي إبَاءِ الصَّبِيِّ، قِيلَ لَا يُعْتَبَرُ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ رِدَّتُهُ عِنْدَهُ، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّدَّةِ، وَحُكْمُ الصَّبِيَّةِ كَالصَّبِيِّ وَمَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي هِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ امْرَأَتُهُ الْكَافِرَةُ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ كَانَ قَائِمًا وَيَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُعْرَضُ عَلَى الْمُصِرِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، بَلْ إنْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَبْلَ الدُّخُولِ انْقَطَعَ النِّكَاحُ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَأَكُّدِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ تَأَجَّلَ إلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ثَلَاثُ حِيَضٍ لَا يَتَأَتَّى عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ تَزَوَّجَتْ. قُلْنَا: اعْتِبَارُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ وَإِضَافَةُ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ إلَى الْإِسْلَامِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا أَصْلَ يَلْحَقُ بِهِ قِيَاسًا بِجَامِعٍ صَحِيحٍ وَلَا سَمْعِيٍّ يُفِيدُهُ، بَلْ الثَّابِتُ شَرْعًا اعْتِبَارُ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ.
وَلَنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ تُضَافُ الْفُرْقَةُ إلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ عَاصِمٌ قَالَ صلى الله عليه وسلم «فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَاخْتِلَافُ الدِّينِ مُنْتَقَضٌ بِتَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ كِتَابِيَّةً، وَلِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى إسْلَامِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِهِ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ، وَكُفْرُ الْمُصِرِّ لَا يَمْنَعُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا إبَاءُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قَاطِعًا فَأَضَفْنَا انْقِطَاعَ النِّكَاحِ إلَيْهِ فَكَانَ هُوَ الْمُنَاسِبُ.
وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ ابْنَةَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهَرَبَ زَوْجُهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى أَسْلَمَ صَفْوَانُ» وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ النِّكَاحِ وَالتَّعَرُّضُ الْمُمْتَنِعُ الْجَبْرُ، أَمَّا نَفْسُ الْكَلَامِ مَعَهُ تَخْيِيرًا لَا يَمْتَنِعُ وَلِأَنَّهُ اسْتِعْلَامُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هَلْ نَزَلَ بِالْمَرْأَةِ أَوْ لَا، ثُمَّ تَأَيَّدَ بِمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمُعَارَضَةِ أَنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ نَصْرَانِيٍّ وَبَيْنَ نَصْرَانِيَّةٍ بِإِبَائِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ تَغْلِبَ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَرُفِعَتْ إلَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ وَإِلَّا فَرَّقْت بَيْنَكُمَا فَأَبَى، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَظَهَرَ حُكْمُهُ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُ أَحَدٍ لَهُ (قَوْلُهُ وَكَانَ ذَلِكَ) يَعْنِي تَفْرِيقَ الْقَاضِي عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ (طَلَاقًا) بَائِنًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ التَّفْرِيقِ فِي الصُّورَتَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ قَدْ فَاتَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ تُبْتَنَى عَلَيْهِ الْفُرْقَةُ، وَالْإِسْلَامُ طَاعَةٌ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا فَيُعْرَضُ الْإِسْلَامُ لِتَحْصُلَ الْمَقَاصِدُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ تَثْبُتَ الْفُرْقَةُ بِالْإِبَاءِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
فَيَجْعَلُهُ فَسْخًا لَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَجْعَلَانِ الْفُرْقَةَ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ طَلَاقًا وَبِإِبَاءِ الْمَرْأَةِ فَسْخًا. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ. يَعْنِي الْإِبَاءَ فَإِنَّهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ عَنْ الْكُفْرِ وَمِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ هُوَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فَإِنَّهُ يُوجَدُ مِنْهَا وَلَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَالْفَرْضُ وِحْدَةُ السَّبَبِ فَصَارَ كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ بِالرَّضَاعِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ سَبَبًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَانَ فَسْخًا. وَلَهُمَا أَنَّهُ فَاتَ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فَوَجَبَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، فَإِنْ طَلَّقَ وَإِلَّا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ طَلَاقًا إذَا كَانَ نَائِبًا عَمَّنْ إلَيْهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيمَا إلَيْهِ التَّفْرِيقُ بِهِ وَاَلَّذِي إلَيْهِ الطَّلَاقُ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَاَلَّذِي إلَيْهَا عِنْدَ قُدْرَتِهَا عَلَى الْفُرْقَةِ شَرْعًا الْفَسْخُ، فَإِذَا أَبَتْ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهَا فِيمَا إلَيْهَا التَّفْرِيقُ بِهِ فَلَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ إلَّا فَسْخًا فَالْقَاضِي نَائِبٌ مَنَابَهُمَا فِيهِمَا، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ الْمِلْكِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ فِيهِمَا لَا بِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ لِلتَّنَافِي. وَأَمَّا خِيَارُ الْبُلُوغِ فَإِنَّ مِلْكَ الْفُرْقَةِ فِيهِ لِتَطَرُّقِ الْخَلَلِ إلَى الْمَقَاصِدِ بِسَبَبِ قُصُورِ شَفَقَةِ الْعَاقِدِ لِقُصُورِ قَرَابَتِهِ. وَعَلَى اعْتِبَارِ تَحَقُّقِ هَذَا التَّطَرُّقِ لَا يَكُونُ لِلنِّكَاحِ انْعِقَادٌ مِنْ الْأَصْلِ، فَالْوَجْهُ فِي الْفُرْقَةِ الْكَائِنَةِ عَنْهُ كَوْنُهَا فَسْخًا. وَبِخِلَافِ رِدَّتِهِ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِيهَا لِلتَّنَافِي: أَيْ هِيَ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً، وَلِذَا لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ، وَالضَّرَرُ فِي هَذِهِ جَلِيٌّ وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْإِبَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِبَاءَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ.
[فَرْعٌ]
يَقَعُ طَلَاقُ زَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ وَزَوْجِ الْمُسْلِمَةِ الْآبِي بَعْدَ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِمَا مَا دَامَتَا فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا فِي الْإِبَاءِ فَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا فِي الرِّدَّةِ فَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرِّدَّةِ غَيْرُ مُتَأَبِّدَةٍ فَإِنَّهَا تَرْتَفِعُ بِالْإِسْلَامِ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ مُسْتَتْبِعًا فَائِدَتُهُ مِنْ حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ حُرْمَةً مُغَيَّاةً بِوَطْءِ زَوْجٍ آخَرَ. بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَإِنَّهَا مُتَأَبِّدَةٌ لَا غَايَةَ
أَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ. وَلَهُمَا أَنَّ بِالْإِبَاءِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَيْسَتْ بِأَهْلٍ لِلطَّلَاقِ فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهَا عِنْدَ إبَائِهَا (ثُمَّ إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِإِبَائِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا) لِتَأَكُّدِهِ بِالدُّخُولِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا وَالْمَهْرُ لَمْ يَتَأَكَّدْ فَأَشْبَهَ الرِّدَّةَ وَالْمُطَاوَعَةَ.
(وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ أَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ عَلَيْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ ثُمَّ تَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُتَعَذِّرٌ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفُرْقَةِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ فَأَقَمْنَا شَرْطَهَا وَهُوَ مُضِيُّ الْحَيْضِ مَقَامَ السَّبَبِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ،
لَهَا فَلَا يُفِيدُ لُحُوقَ الطَّلَاقِ فَائِدَةً
(قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ أَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَتَحْتَهُ مَجُوسِيَّةٌ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ) إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ وَإِلَّا فَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَالشَّافِعِيُّ يَفْصِلُ كَمَا مَرَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَسَيَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا)؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى. .
قَالَ (وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَقَعُ (وَلَوْ سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
انْقِضَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ،
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ) بِأَنْ كَانَ الَّذِي أَسْلَمَ هُوَ الزَّوْجُ (فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا) قَالَ (وَسَيَأْتِيكَ) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْمُهَاجِرَةِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفُرْقَةَ بِشَرْطِهَا وَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ أُخْرَى بَعْدَ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ فِي الثَّلَاثِ الْحِيَضِ الْأَوَاخِرِ، ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ.
وَأَمَّا الطَّحَاوِيُّ فَقَدْ أَطْلَقَ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا حَاضَتْهُمَا بَانَتْ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّلَ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ: وَهَذَا: أَيْ تَوَقُّفُ الْبَيْنُونَةِ عَلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ تُضَافُ إلَيْهِ الْفُرْقَةُ وَالْإِسْلَامُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لَهُ وَكَذَا الِاخْتِلَافُ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى إسْلَامِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا كُفْرُ الْمُصِرِّ فَلَيْسَ إلَّا الْإِبَاءُ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأُضِيفَ إلَى شَرْطِ الْبَيْنُونَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ الطَّلَاقُ بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلِلْإِضَافَةِ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا إلَى الْعِلَّةِ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ حَافِرُ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ يُضَافُ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِالسُّقُوطِ فِيهِ إلَى الْحَفْرِ، وَهُوَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ ثِقَلُ الْوَاقِعِ.
وَقَوْلُهُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِسْلَامِ الْوَجْهُ فِيهِ، وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، وَنَظِيرُهُ فِي اللُّغَةِ: عَرَضْت النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ، وَخَرَقَ الثَّوْبُ الْمِسْمَارَ بِنَصَبِ الْمِسْمَارِ (قَوْلُهُ وَإِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا) ظَاهِرٌ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَيْنَا مُسْلِمًا وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ) حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ
وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ سُبِيَا مَعًا لَمْ تَقَعْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَعَتْ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ التَّبَايُنُ دُونَ السَّبْيِ عِنْدَنَا وَهُوَ يَقُولُ بِعَكْسِهِ. لَهُ أَنَّ لِلتَّبَايُنِ أَثَرُهُ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ، أَمَّا السَّبْيُ فَيَقْتَضِي الصَّفَاءَ لِلسَّابِي وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا
لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خُرُوجِهِ مُسْلِمًا بَلْ وَذِمِّيًّا كَمَا سَنَذْكُرُ (قَوْلُهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ إلَخْ) اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هَلْ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا؟ فَقُلْنَا نَعَمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا، وَفِي أَنَّ السَّبْيَ هَلْ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ أَمْ لَا؟ فَقُلْنَا لَا، وَقَالَ نَعَمْ. وَقَوْلُهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَرْبَعُ صُوَرٍ وِفَاقِيَّتَانِ، وَهُمَا لَوْ خَرَجَ الزَّوْجَانِ إلَيْنَا مَعًا ذِمِّيَّيْنِ أَوْ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُسْتَأْمَنَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ صَارَا ذِمِّيَّيْنِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ اتِّفَاقًا، وَلَوْ سَبَى أَحَدُهُمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَهُ لِلسَّبْيِ وَعِنْدَنَا لِلتَّبَايُنِ.
وَخِلَافِيَّتَانِ إحْدَاهُمَا مَا إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا إلَيْنَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا عِنْدَنَا تَقَعُ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ حَلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأَرْبَعٍ فِي الْحَالِ وَبِأُخْتِ امْرَأَتِهِ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَّا فِي الْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا أَيْ بِقَصْدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى حَقِّهِ فَتَبِينُ عِنْدَهُ بِالْمُرَاغَمَةِ وَالْأُخْرَى مَا إذَا سُبِيَ الزَّوْجَانِ مَعًا؛ فَعِنْدَهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَلِلسَّابِي أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَعِنْدَنَا لَا تَقَعُ لِعَدَمِ تَبَايُنِ دَارَيْهِمَا. وَفِي الْمُحِيطِ: مُسْلِمٌ تَزَوَّجَ حَرْبِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَخَرَجَ رَجُلٌ بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِالتَّبَايُنِ، وَلَوْ خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا قَبْلَ زَوْجِهَا لَمْ تَبِنْ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِالْتِزَامِهَا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ، إذْ لَا تُمَكَّنُ مِنْ الْعَوْدِ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا تَبَايُنَ يُرِيدُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى إذَا أَخْرَجَهَا الرَّجُلُ قَهْرًا حَتَّى مَلَكَهَا لِتَحَقُّقِ التَّبَايُنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا حِينَئِذٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا حَقِيقَةٌ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا وَزَوْجَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ (أَثَرُهُ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ) أَيْ وِلَايَةِ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ خَارِجًا إلَيْنَا وَوِلَايَةِ مَنْ فِي دَارِنَا عَلَيْهِ إنْ كَانَ لَاحِقًا بِدَارِ الْحَرْبِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِ (وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ أَمَّا السَّبْيُ فَيَقْتَضِي الصَّفَاءَ لِلسَّابِي) وَالصَّفَاءُ هُنَا بِالْمَدِّ: أَيْ الْخُلُوصُ (وَلَا يَتَحَقَّقُ) صَفَاؤُهُ لَهُ (إلَّا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ وَلِهَذَا) أَيْ
يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَسْبِيِّ. وَلَنَا أَنَّ مَعَ التَّبَايُنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا تَنْتَظِمُ الْمَصَالِحُ فَشَابَهُ الْمَحْرَمِيَّةَ.
وَالسَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَهُوَ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ بَقَاءً
لِثُبُوتِ الصَّفَاءِ بِالسَّبْيِ (يَسْقُطُ، مَا عَلَى الْمَسْبِيِّ مِنْ دَيْنٍ) إنْ كَانَ لِكَافِرٍ عَلَيْهِ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِ، فَكَذَا يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجِ الْحَرْبِيِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّفَاءَ مُوجِبٌ لِمِلْكِ مَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ وَمِلْكُ النِّكَاحِ كَذَلِكَ فَخَلَصَ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ احْتِرَامِ الْحَقِّ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَصَارَ سُقُوطُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهَا كَسُقُوطِهِ عَنْ جَمِيعِ أَمْلَاكِهِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ.
وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ الْمَنْقُولِ «أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ فِي مُعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ حِينَ أَتَى بِهِ الْعَبَّاسُ وَزَوْجَتَهُ هِنْدَ بِمَكَّةَ وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ إذْ ذَاكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَجْدِيدِ نِكَاحِهِمَا» . وَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ هَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ حَتَّى أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَأَخَذَتْ الْأَمَانَ لِزَوْجِهَا وَذَهَبَتْ فَجَاءَتْ بِهِ وَلَمْ يُجَدَّدْ نِكَاحُهُمَا. وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بَيْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَوْجِ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهَا أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ فَإِنَّهَا هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ وَتَرَكَتْهُ بِمَكَّةَ عَلَى شِرْكِهِ، ثُمَّ جَاءَ وَأَسْلَمَ بَعْدَ سِنِينَ، قِيلَ ثَلَاثُ سِنِينَ، وَقِيلَ سِتٌّ، وَقِيلَ ثَمَانٍ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ لِمَا عَلَّلْنَا بِهِ. وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا عَلَى إثْبَاتِ عِلَّتِهِ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} نَزَلَتْ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ وَكُنَّ سُبِينَ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَقَدْ عُلِمَ «أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَادَى أَلَا لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَحِضْنَ» فَقَدْ اسْتَثْنَى الْمَسْبِيَّاتِ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، فَظَهَرَ أَنَّ السَّبْيَ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ. وَقَوْلُهُ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَصْلُ قِيَاسٍ وَفَرْعُهُ الْخَارِجُ إلَيْنَا مُسْلِمًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ ذِمِّيًّا، وَالْحُكْمُ عَدَمُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ بِجَامِعِ عَدَمِ سَبْيِهِمَا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْعَدَمِيِّ بِالْمَعْنَى الْعَدَمِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَالسَّوْقُ لِإِثْبَاتِ الْفَرْعِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ تَأْثِيرِ التَّبَايُنِ فَحَقُّ اللَّفْظِ هَكَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ لِتَخَلُّفِهِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ إلَخْ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ مَعَ التَّبَايُنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا تَنْتَظِمُ الْمَصَالِحُ) الَّتِي شُرِعَ النِّكَاحُ لَهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخَارِجَ إلَيْنَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَا يَعُودُ، وَالْكَائِنُ هُنَاكَ لَا يَخْرُجُ إلَيْنَا فَكَانَ التَّبَايُنُ مُنَافِيًا لَهُ، فَكَانَ اعْتِرَاضُهُ قَاطِعًا، كَاعْتِرَاضِ الْمَحْرَمِيَّةِ بِالرَّضَاعِ، وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ بِشَهْوَةٍ مَثَلًا لَمَّا نَافَتْهُ كَانَ اعْتِرَاضُهَا قَاطِعًا.
. ثُمَّ الشَّرْعُ يُفْسِدُ تَعْيِينَ السَّبْيِ عِلَّةً فَقَالَ (وَالسَّبْيُ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ) يَعْنِي يَمْنَعُ أَنْ
وَصَارَ كَالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَقْتَضِي الصَّفَاءَ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ وَهُوَ الْمَالُ لَا فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ. وَفِي الْمُسْتَأْمَنِ لَمْ تَتَبَايَنْ الدَّارُ حُكْمًا
يَكُونَ مُوجِبًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِذَنْ فَمَا اقْتَضَاهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَزِمَ السَّبْيَ تَبَعًا لِمِلْكِهَا، وَمَا لَا فَلَا، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا يَقْتَضِي مِلْكَ النِّكَاحِ إلَّا إذَا وَرَدَ عَلَى خَالٍ عَنْ مَمْلُوكِيَّتِهِ أَوْ مَالِكِيَّتِهِ، وَكَذَا ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ وَبَقَاؤُهُ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى فَهُوَ كَسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ وَزَوَالِ أَمْلَاكِ الْمَسْبِيِّ لِثُبُوتِ رِقِّهِ، وَالْعَبْدُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمَالِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ فَيَمْلِكُهُ إذَا ابْتَدَأَ وُجُودَهُ بِطَرِيقِ الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ سَيِّدُهُ التَّطْلِيقَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى إذْنِهِ لِمَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ تَنْقِيصِ مَالِيَّتِهِ. وَسُقُوطُ الدَّيْنِ الْكَائِنِ لِكَافِرٍ عَلَى الْمَسْبِيِّ الْحُرِّ لَيْسَ مُقْتَضَى السَّبْيِ بَلْ لِتَعَذُّرِ بَقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْقَى مَا كَانَ وَهُوَ حِينَ وَجَبَ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ لَا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ الرِّقِّ بِالسَّبْيِ إلَّا شَاغِلًا لَهَا فَيَصِيرُ الْبَاقِي غَيْرَهُ، وَلِذَا لَوْ كَانَ الْمَسْبِيُّ عَبْدًا مَدْيُونًا كَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّيْنُ بِالسَّبْيِ. نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْمَأْذُونِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ يَجُوزُ كَوْنُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِرَقَبَتِهِ، وَلِذَا يَثْبُتُ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِ بِهِ وَلَا يُبَاعُ فِيهِ. أُجِيبَ بِمَنْعِ تَعَلُّقِهِ فِي الْعَبْدِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا يُطَالَبُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَسْرِي فِي حَقِّ الْمَوْلَى، حَتَّى لَوْ ثَبَتَ بِالِاسْتِهْلَاكِ قَطْعًا مُعَايَنَةُ بَيْعٍ فِيهِ. وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ فَالْحَقُّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الْإِسْلَامِ يَوْمئِذٍ بَلْ وَلَا بَعْدَ الْفَتْحِ، وَهُوَ شَاهَدَ حُنَيْنًا عَلَى مَا تُفِيدُهُ السِّيَرُ الصَّحِيحَةُ مِنْ قَوْلِهِ حِينَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ: لَا تَرْجِعُ هَزِيمَتُهُمْ إلَى الْبَحْرِ. وَمَا نُقِلَ أَنَّ الْأَزْلَامَ حِينَئِذٍ كَانَتْ مَعَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَا مِمَّا نُقِلَ مِنْ كَلَامِهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ وَإِنَّمَا حَسُنَ إسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رضي الله عنه، وَاَلَّذِي كَانَ إسْلَامُهُ حَسَنًا حِينَ أَسْلَمَ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ وَحَكِيمٌ فَإِنَّمَا هَرَبَا إلَى السَّاحِلِ وَهُوَ مِنْ حُدُودِ مَكَّةَ فَلَمْ تَتَبَايَنْ دَارُهُمْ. وَأَمَّا أَبُو الْعَاصِ فَإِنَّمَا رَدَّهَا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، رَوَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْجَمْعُ إذَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ إهْدَارِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ بِحَمْلِ قَوْلِهِ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَى بِسَبَبٍ سَبَقَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَتِهِ كَمَا يُقَالُ ضَرَبْته عَلَى إسَاءَتِهِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ رَدَّهَا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا مَعْنَاهُ عَلَى مِثْلِهِ لَمْ يُحْدِثْ زِيَادَةً فِي الصَّدَاقِ وَالْحِبَاءِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ.
هَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مُثْبِتٌ وَعَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ نَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُبْقٍ عَلَى الْأَصْلِ. وَأَيْضًا يُقْطَعُ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ زَيْنَبَ وَبَيْنَ أَبِي الْعَاصِ بِمُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنَّهَا أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ حِينَ دَعَا صلى الله عليه وسلم زَوْجَتَهُ خَدِيجَةَ وَبَنَاتَهُ، وَلَقَدْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
انْقَضَتْ الْمُدَّةُ الَّتِي تَبِينُ بِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ مِرَارًا وَوَلَدَتْ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا فَأَسْقَطَتْ حِينَ خَرَجَتْ مُهَاجِرَةً إلَى الْمَدِينَةِ، وَرَوَّعَهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ بِالرُّمْحِ.
وَاسْتَمَرَّ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى شِرْكِهِ إلَى مَا قُبَيْلَ الْفَتْحِ فَخَرَجَ تَاجِرًا إلَى الشَّامِ، فَأَخَذَتْ سَرِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ مَالَهُ وَأَعْجَزَهُمْ هَرَبًا ثُمَّ دَخَلَ بِلَيْلٍ عَلَى زَيْنَبَ فَأَجَارَتْهُ، «ثُمَّ كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّرِيَّةَ فَرَدُّوا إلَيْهِ مَالَهُ» ، فَاحْتُمِلَ إلَى مَكَّةَ فَأَدَّى الْوَدَائِعَ وَمَا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ أَبْضَعُوا مَعَهُ، وَكَانَ رَجُلًا أَمِينًا كَرِيمًا، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ عُلْقَةٌ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ هَلْ بَقِيَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ عِنْدِي مَالٌ لَمْ يَأْخُذْهُ؟ قَالُوا: لَا، فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرًا فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وَفِيًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاَللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إلَّا تَخَوُّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إنَّمَا أَرَدْت أَنْ آكُلَ أَمْوَالَكُمْ، فَلَمَّا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْكُمْ وَفَرَغْت مِنْهَا أَسْلَمْت، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَذَلِكَ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثِ سِنِينَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ حِينِ فَارَقَتْهُ بِالْأَبْدَانِ وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَأَمَّا الْبَيْنُونَةُ فَقَبْلَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ؛ لِأَنَّهَا إنْ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ آمَنَتْ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً إلَى إسْلَامِهِ، وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ نَزَلَتْ {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فَأَكْثَرُ مِنْ عَشْرٍ. هَذَا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ حَابِسَهَا قَبْلَ ذَلِكَ إلَى أَنْ أُسِرَ فِيمَنْ أُسِرَ بِبَدْرٍ «وَهُوَ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَرْسَلَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ الْأَسَارَى أَرْسَلَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَائِهِ قِلَادَةً كَانَتْ خَدِيجَةُ أَعْطَتْهَا إيَّاهَا، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَقَّ لَهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهَا وَأَطْلَقَهُ لَهَا، فَلَمَّا وَصَلَ جَهَّزَهَا إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عِنْدَ إطْلَاقِهِ وَاتَّفَقَ فِي مَخْرَجِهَا إلَيْهِ مَا اتَّفَقَ مِنْ هَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ» . وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَكَادُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ اثْنَانِ وَبِهِ نَقْطَعُ بِأَنَّ الرَّدَّ كَانَ عَلَى نِكَاحٍ جَدِيدٍ كَمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَوَجَبَ تَأْوِيلُ رِوَايَةِ «عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ» كَمَا ذَكَرْنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَتَّصِفْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِكُفْرٍ لِيُقَالَ آمَنَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً، فَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ فَلَزِمَ أَنَّهُنَّ لَمْ تَكُنْ إحْدَاهُنَّ قَطُّ إلَّا مُسْلِمَةً، نَعَمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانَ الْإِسْلَامُ اتِّبَاعُ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَمِنْ حِينِ وَقَعَ الْبَعْثَةُ لَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ إلَّا بِإِنْكَارِ الْمُنْكِرِ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْ أَوَّلِ ذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَوْلَادِهِ لَمْ تَتَوَقَّفْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ. وَأَمَّا سَبَايَا أَوْطَاسٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ سُبِينَ وَحْدَهُنَّ، وَرِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ تُفِيدُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:«أَصَبْنَا سَبَايَا أَوْطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}» لَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: الْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ حِلُّ الْمَمْلُوكَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ سُبِيَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ زَوْجٍ، وَأَمَّا الْمُشْتَرَاةُ مُتَزَوِّجَةً فَخَارِجَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا سِوَاهَا دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَسْبِيَّةَ مَعَ زَوْجِهَا تُخَصُّ أَيْضًا بِدَلِيلِنَا وَبِمَا نَذْكُرُهُ تَبْقَى الْمَسْبِيَّةُ وَحْدَهَا ذَاتَ بَعْلٍ وَبِلَا بَعْلٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانُهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ. فَالْجَوَابُ مَنْعُ وُجُودِ التَّبَايُنِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عِلَّةً مِنْهُ هُوَ التَّبَايُنُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ يَصِيرُ الْكَائِنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُعْتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَيُقَسَّمَ مِيرَاثُهُ، وَالْكَائِنُ فِي دَارِنَا مَمْنُوعًا مِنْ الرُّجُوعِ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الْمُسْتَأْمَنِ. وَإِذَا كَافَأَ مَا ذَكَرَ بَقِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى اللَّازِمِ لِلتَّبَايُنِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ
لِقَصْدِهِ الرُّجُوعَ.
(وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ إلَيْنَا مُهَاجِرَةً جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَثَرُ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ وَجَبَتْ إظْهَارًا لِخَطَرِهِ، وَلَا خَطَرَ لَمِلْكِ الْحَرْبِيِّ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ
فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَدَلِيلُ السَّمْعِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إلَى قَوْلِهِ {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وَقَدْ أَفَادَ مِنْ ثَلَاثِ نُصُوصٍ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَمِنْ وَجْهٍ اقْتِضَائِيٍّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ}
. (قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ إلَيْنَا مُهَاجِرَةً) أَيْ تَارِكَةً الدَّارَ إلَى أُخْرَى عَلَى عَزْمِ عَدَمِ الْعَوْدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَخْرُجَ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُكْمٌ آخَرُ عَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ إذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُهَاجِرًا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، وَهَذِهِ إذَا كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ اتِّفَاقًا، هَلْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ؟ فِيهَا خِلَافٌ. عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا، فَتَتَزَوَّجُ لِلْحَالِ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَتَتَرَبَّصُ لَا عَلَى وَجْهِ الْعِدَّةِ بَلْ لِيَرْتَفِعَ الْمَانِعُ بِالْوَضْعِ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثُمَّ اخْتَلَفَا لَوْ خَرَجَ زَوْجُهَا بَعْدَهَا وَهِيَ بَعْدُ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا هَلْ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَقَعُ عَلَيْهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَقَعُ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا وَقَعَتْ بِالتَّنَافِي لَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِيرُ وَهُوَ أَوْجَهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَحْرَمِيَّةً لِعَدَمِ فَائِدَةِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَا يَحْتَاجُ زَوْجُهَا فِي تَزَوُّجِهَا إذَا أَسْلَمَ إلَى زَوْجٍ آخَرَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا حُرَّةٌ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَالدُّخُولِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلشَّرْعِ كَالْمُطَلَّقَةِ فِي دَارِنَا مِنْ الْمُسْلِمَاتِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ هَاجَرَتْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي دَارِهِمْ وَهُمْ لَا يُؤَاخَذُونَ بِأَحْكَامِنَا هُنَاكَ، وَهَذَا عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّ الْخِطَابَ يَلْزَمُ الْكُفَّارَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، غَيْرَ أَنَّ شَرْطَهُ الْبُلُوغُ وَأَهْلُ الْحَرْبِ لَا يَبْلُغُهُمْ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ حُكْمُهُ، بِخِلَافِ أَهْلِ دَارِنَا مِنْهُمْ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا وَجَبَتْ إظْهَارًا لِخَطَرِ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا خَطَرَ لَمِلْكِ الْحَرْبِيِّ، بَلْ أَسْقَطَهُ الشَّرْعُ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْمُهَاجِرَاتِ وَهِيَ {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} بَعْدَ قَوْلِهِ {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فَقَدْ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْ نِكَاحِ الْمُهَاجِرَةِ وَأَمَرَ أَنْ لَا يُتَمَسَّكَ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ جَمْعُ كَافِرَةٍ، فَلَوْ شَرَطَتْ الْعِدَّةَ لَزِمَ التَّمَسُّكُ بِعُقْدَةِ نِكَاحِهِنَّ الْمَوْجُودَةِ فِي حَالِ كُفْرِهِنَّ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُهُمَا وَجَبَتْ لِحَقِّ الشَّرْعِ كَيْ لَا تَخْتَلِطَ الْمِيَاهُ، وَاسْتَغْنَيْنَا بِهِ عَنْ إبْطَالِهِ بِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ النِّكَاحَ بِالتَّبَايُنِ لِمُنَافَاتِهِ لِلنِّكَاحِ فَقَدْ حُكِمَ بِمُنَافَاتِهِ لِلْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَثَرُهُ حَيْثُ حُكِمَ بِمُنَافَاتِهِ لِمَا لَهُ
وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا كَمَا فِي الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ فَإِذَا ظَهَرَ الْفِرَاشُ فِي حَقِّ النَّسَبِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ احْتِيَاطًا.
قَالَ (وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ
مِنْ الْأَثَرِ. فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ الْمُلَازَمَةَ، وَيَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُنَافَاةَ الشَّيْءِ تُنَافِي أَثَرَهُ إلَّا إذَا كَانَ جِهَةُ الْمُنَافَاةِ ثَابِتَةً فِي الْأَثَرِ أَيْضًا، وَهُوَ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّكَاحِ عَدَمُ انْتِظَامِ الْمَصَالِحِ وَالْعِدَّةُ لَا يَنْفِيهَا عَدَمُ انْتِظَامُ الْمَصَالِحِ بَلْ تُجَامِعُهُ مُدَّةَ بَقَائِهَا إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ فَيَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ لِمُوجِبِهَا بِلَا مَانِعٍ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ عِصَمُ الْكَوَافِرِ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْبِيَّةُ دُونَ زَوْجِهَا وَالْمَتْرُوكَاتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْأَزْوَاجِ الْمُهَاجِرِينَ فَلَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِأَرْبَعٍ وَبِأُخْتِ الْكَائِنَةِ هُنَاكَ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ عِصَمِ الْكَوَافِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْفُرْقَةِ وَالْمَسْبِيَّةُ مَعَ زَوْجِهَا وَهَذِهِ خُصَّتْ عِنْدَكُمْ فَإِنَّهَا يُتَمَسَّكُ بِعُقْدَتِهَا حَيْثُ قُلْتُمْ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَجَازَ أَنْ تَخُصَّ الْمُهَاجِرَةَ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ بِحَدِيثِ سَبَايَا أَوْطَاسٍ، فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِالتَّبَايُنِ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا قَبْلَ تَرَبُّصٍ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا تَرَبُّصٌ وَهِيَ حُرَّةٌ كَانَ عِدَّةً إجْمَاعًا لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، وَحِينَئِذٍ فَإِبْطَالُهُ الْوُجُوبَ لِلْخَطَرِ لَا يُفِيدُ إذْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ حَقُّ الشَّرْعِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّهُ أَفَادَ أَنْ لَا يُخَلِّيَ فَرْجَ الْمَدْخُولِ بِهَا عَنْ الِامْتِنَاعِ إلَى مُدَّةٍ غَيْرَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ مُدَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ أَكْثَرَ كَمَا هُوَ دَأْبُ الشَّرْعِ فِي إظْهَارِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي مِثْلِهِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ) يَعْنِي الْمُهَاجِرَةَ (حَامِلًا لَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى تَضَعَ) وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بِطَرِيقِ الْعِدَّةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا وَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا كَالْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَمْلَهَا ثَابِتُ النَّسَبِ فَظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَنْعِ احْتِيَاطًا، وَإِنَّمَا قَالَ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ ثَابِتَ النَّسَبِ إنَّمَا يَقْتَضِي ظَاهِرًا أَنْ لَا تُوطَأَ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ فَتَعَدِّيهِ الْمَنْعَ إلَى نَفْسِ التَّزَوُّجِ بِلَا وَطْءٍ لِلِاحْتِيَاطِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِمَنْزِلَةِ الْجَمْعِ بِوَطْءٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُ تَزَوُّجُ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ وَالْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الْأَرْبَعِ
(قَوْلُهُ وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ) فِي الْحَالِ (بِغَيْرِ طَلَاقٍ) قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أُخْرَى قَبْلَ الدُّخُولِ هُوَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيُتَوَقَّفُ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ جَمَعَهُمَا الْإِسْلَامُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا يَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ وَإِلَّا
مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الزَّوْجِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِبَاءِ وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى مَا أَصَّلْنَا لَهُ فِي الْإِبَاءِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ لِكَوْنِهَا مُنَافِيَةً لِلْعِصْمَةِ وَالطَّلَاقُ رَافِعٌ فَتَعَذَّرَ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا، بِخِلَافِ الْإِبَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَجِبُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ عَلَى مَا مَرَّ،
تَبَيَّنَ الْفِرَاقُ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ. قُلْنَا: هَذِهِ الْفُرْقَةُ لِلتَّنَافِي فَإِنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلْعِصْمَةِ مُوجِبَةٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَالْمُنَافِي لَا يَحْتَمِلُ التَّرَاخِي، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلْعِصْمَةِ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَبَعْضُ مَشَايِخِ بَلْخٍ وَسَمَرْقَنْدَ أَفْتَوْا فِي رِدَّتِهَا بِعَدَمِ الْفُرْقَةِ حَسْمًا لِاحْتِيَالِهَا عَلَى الْخَلَاصِ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِ بُخَارَى أَفْتَوْا بِالْفُرْقَةِ وَجَبْرِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى النِّكَاحِ مَعَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَسْمَ بِذَلِكَ يَحْصُلُ، وَلِكُلِّ قَاضٍ أَنْ يُجَدِّدَ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا بِمَهْرٍ يَسِيرٍ وَلَوْ بِدِينَارٍ رَضِيَتْ أَمْ لَا، وَتُعَزَّرُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، وَلَا تُسْتَرَقُّ الْمُعْتَدَّةُ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تُسْتَرَقُّ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْفُرْقَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا طَلَاقًا فَاتَّفَقَ الْإِمَامَانِ هُنَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فَسْخٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ هِيَ فِي رِدَّةِ الزَّوْجِ طَلَاقٌ وَفِي رِدَّتِهَا فَسْخٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْإِبَاءِ، وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالْإِبَاءِ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُهُ بِالْإِبَاءِ (وَالْجَامِعُ مَا بَيَّنَّاهُ) وَهُوَ أَنَّ بِالْإِبَاءِ امْتَنَعَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ، وَقِيلَ مَا بَيَّنَّاهُ مِمَّا حَاصِلُهُ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ فِعْلٌ مِنْ الزَّوْجِ إبَاءً أَوْ رِدَّةً (وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى مَا أَصَّلْنَا لَهُ فِي الْإِبَاءِ) وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ (وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ) بِأَنَّ الرِّدَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلْعِصْمَةِ لِبُطْلَانِ الْعِصْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَمْلَاكِهِ، وَمِنْهَا مِلْكُ النِّكَاحِ، كَذَا قُرِّرَ. وَالْحَقُّ أَنَّ مُنَافَاتِهَا لِعِصْمَةِ الْأَمْلَاكِ تَبَعٌ لِمُنَافَاتِهَا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، إذْ بِتِلْكَ الْمُنَافَاةِ صَارَ فِي حُكْمِ
وَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ بِالْإِبَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ (ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا وَنِصْفُ الْمَهْرِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةُ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا. .
قَالَ (وَإِذَا ارْتَدَّا مَعًا ثُمَّ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا) اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ زُفَرٌ: يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ رِدَّةَ أَحَدِهِمَا مُنَافِيَةٌ، وَفِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةُ أَحَدِهِمَا.
الْمَيِّتِ، وَالطَّلَاقُ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ لِثُبُوتِهِ مَعَهُ حَتَّى لَا تَقَعَ الْبَيْنُونَةُ بِمُجَرَّدِهِ بَلْ بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَزِمَ كَوْنَ الْوَاقِعِ بِالرِّدَّةِ غَيْرُ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ إلَّا الْفَسْخُ، بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِالْإِبَاءِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لِلْمُنَافَاةِ وَلِذَا بَقِيَ النِّكَاحُ مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بِسَبَبِ فَوَاتِ ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ رَفْعُهُ لِارْتِفَاعِ ثَمَرَاتِهِ اللَّاتِي مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، فَالْقَاضِي يَأْمُرُهُ بِالْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ عَنْهُ.
وَفِي الشُّرُوحِ مِنْ تَقْرِيرِ هَذَا الْفَرْقِ أُمُورٌ لَا تَمَسُّ الْمَطْلُوبَ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالطَّلَاقُ رَافِعٌ؛ لِأَنَّ الرَّافِعَ يُجَامِعُ الْمُنَافِيَ بِالضَّرُورَةِ، نَعَمْ هُوَ أَعَمُّ يَثْبُتُ مَعَ الْمُنَافِي وَمَعَ الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ بِهِ فَرْقٌ وَلَا دَخْلَ لَهُ فِيهِ (ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا) وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ أَيْضًا (وَنِصْفُهُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ إنْ دَخَلَ بِهَا) لَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مَهْرَ وَلَا نَفَقَةَ.
. (قَوْلُهُ وَإِذَا ارْتَدَّا مَعًا ثُمَّ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا اسْتِحْسَانًا)
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ ارْتَدُّوا ثُمَّ أَسْلَمُوا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ، وَالِارْتِدَادُ مِنْهُمْ وَاقِعٌ مَعًا لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ. وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الِارْتِدَادِ مَعًا فَسَدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لِإِصْرَارِ الْآخَرِ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ كَابْتِدَائِهَا. .
هَذَا إذَا لَمْ يَلْحَقْ أَحَدُهُمَا بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ ارْتِدَادِهِمَا، فَإِنْ لَحِقَ فَسَدَ لِلتَّبَايُنِ.
وَالْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ فِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةَ أَحَدِهِمَا وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ (وَلَنَا) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ (أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ ارْتَدُّوا ثُمَّ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ الصَّحَابَةُ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ) وَلَمَّا لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا رِدَّتَهُمْ وَقَعَتْ مَعًا، إذْ لَوْ حُمِلَتْ عَلَى التَّعَاقُبِ لَفَسَدَتْ أَنْكِحَتُهُمْ وَلَزِمَهُمْ التَّجْدِيدُ. وَعَلِمْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الرِّدَّةَ إذَا كَانَتْ مَعًا لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ تَعَاقُبِ كُلِّ زَوْجَيْنِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ أَمَّا جَمِيعُهُمْ فَلَا؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ جَازَ أَنْ يَتَعَاقَبُوا وَلَا تَفْسُدَ أَنْكِحَتُهُمْ إذَا كَانَ كُلُّ رَجُلٍ ارْتَدَّ مَعَ زَوْجَتِهِ، فَحَكَمَ الصَّحَابَةُ بِعَدَمِ التَّجْدِيدِ لِحُكْمِهِمْ بِذَلِكَ ظَاهِرًا لَا حَمْلًا عَلَيْهِ لِلْجَهْلِ بِالْحَالِ كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَيِّمَ الْبَيْتِ إذَا أَرَادَ أَمْرًا تَكُونُ قَرِينَتُهُ فِيهِ قَرِينَتَهُ.
هَذَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْحُكْمِ بِارْتِدَادِ بَنِي حَنِيفَةَ فِي الْمَبْسُوطِ مَنْعُهُمَا الزَّكَاةَ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ أَنَّ مَنْعَهُمْ كَانَ لِجَحْدِ افْتِرَاضِهَا وَلَمْ يُنْقَلْ وَلَا هُوَ لَازِمٌ. وَقِتَالُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه إيَّاهُمْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ لِجَوَازِ قِتَالِهِمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِهِمْ حَقًّا شَرْعِيًّا وَعَطَّلُوهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِلِاسْتِحْسَانِ بِالْمَعْنَى وَهُوَ عَدَمُ جِهَةِ الْمُنَافَاةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْمُنَافَاةِ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا عَدَمُ انْتِظَامِ الْمَصَالِحِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُوَافَقَةُ عَلَى الِارْتِدَادِ ظَاهِرٌ فِي انْتِظَامِهَا بَيْنَهُمَا إلَى أَنْ يَمُوتَا بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِدْلَال بِوُقُوعِ رِدَّةِ الْعَرَبِ وَقِتَالِهِمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ بَنِي حَنِيفَةَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ قَطْعِيٌّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمَرُوا بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا (قَوْلُهُ وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ ارْتِدَادِهِمَا مَعًا فُسِخَ النِّكَاحُ)؛ لِأَنَّ رِدَّةَ الْآخَرِ مُنَافِيَةٌ النِّكَاحَ فَصَارَ بَقَاؤُهَا كَإِنْشَائِهَا الْآنَ حَالَ إسْلَامِ الْآخَرِ حَتَّى إنْ كَانَ الَّذِي عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ هُوَ الزَّوْجُ فَلَا شَيْءَ لَهَا إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا كُلُّ الْمَهْرِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَقَرَّرُ بِالدُّخُولِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَالدُّيُونُ لَا تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ.
[فُرُوعٌ]
الْأَوَّلُ نَصْرَانِيَّةٌ تَحْتَ مُسْلِمٍ تَمَجَّسَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ ارْتَدَّ وَالْمَجُوسِيَّةُ لَا تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ فَإِحْدَاثُهَا مَا تَحْرُمُ بِهِ كَالرِّدَّةِ فَقَدْ ارْتَدَّا مَعًا فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَرْأَةُ تُقَرُّ فَصَارَ كَرِدَّةِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَهَذَا؛ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْكُفْرَ
بَابُ الْقَسْمِ
كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَالِانْتِقَالُ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ لَا يُجْعَلُ كَإِنْشَائِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَهَوَّدَا فَإِنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ. وَمُحَمَّدٌ يُفَرِّقُ بِأَنَّ إنْشَاءَ الْمَجُوسِيَّةِ لَا تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ فَإِحْدَاثُهَا كَالِارْتِدَادِ. بِخِلَافِ الْيَهُودِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ تَمَجَّسَتْ وَحْدَهَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَلَوْ تَهَوَّدَتْ لَا تَقَعُ فَافْتَرَقَا. الثَّانِي يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِ مِلَلِ الْكُفْرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَيَتَزَوَّجُ الْيَهُودِيُّ مَجُوسِيَّةً وَنَصْرَانِيَّةً؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ الْكُفْرُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ، ثُمَّ الْوَلَدُ عَلَى دِينِ الْكِتَابِيِّ مِنْهُمْ.
الثَّالِثُ إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ أَوْ أُخْتَانِ أَوْ أُمٌّ وَبِنْتُهَا وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ وَهُنَّ كِتَابِيَّاتٌ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ أَوْ فِي عُقَدٍ فَنِكَاحُ مَنْ يَحِلُّ سَبْقُهُ جَائِزٌ وَنِكَاحُ مَنْ تَأَخَّرَ فَوَقَعَ بِهِ الْجَمْعُ أَوْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ بَاطِلٌ.
(بَابُ الْقَسْمِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَأَقْسَامِهِ بِاعْتِبَارِ مَنْ قَامَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالْكُفَّارِ وَحُكْمِهِ اللَّازِمِ لَهُ مِنْ الْمَهْرِ شَرَعَ فِي حُكْمِهِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ وَهُوَ الْقَسْمُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى تَقْدِيرِ تَعَدُّدِ الْمَنْكُوحَاتِ وَنَفْسُ النِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ وَلَا هُوَ غَالِبٌ فِيهِ. وَالْقَسْمُ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَسَمَ، وَالْمُرَادُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَنْكُوحَاتِ وَيُسَمَّى الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ أَيْضًا، وَحَقِيقَتُهُ مُطْلَقًا مُمْتَنِعَةٌ كَمَا أَخْبَرَ سبحانه وتعالى حَيْثُ قَالَ {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} بَعْدَ إحْلَالِ الْأَرْبَعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} فَاسْتَفَدْنَا أَنَّ حِلَّ الْأَرْبَعِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ وَثُبُوتَ الْمَنْعِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ عِنْدَ خَوْفِهِ، فَعُلِمَ إيجَابُهُ عِنْدَ تَعَدُّدِهِنَّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» فَلَا يَخُصُّ حَالَةَ تَعَدُّدِهِنَّ؛ وَلِأَنَّهُنَّ رَعِيَّةُ الرَّجُلِ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَإِنَّهُ فِي أَمْرٍ مُبْهَمٍ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهُ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مُطْلَقًا لَا يُسْتَطَاعُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، وَكَذَا السُّنَّةُ جَاءَتْ مُجْمَلَةً فِيهِ.
رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ: يَعْنِي الْقَلْبَ» أَيْ زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ مِلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِيهِ، وَمِنْهُ عَدَدُ الْوَطَآتِ وَالْقُبُلَاتِ وَالتَّسْوِيَةُ فِيهِمَا غَيْرُ لَازِمَةٍ إجْمَاعًا، وَكَذَا مَا رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» أَيْ مَفْلُوجٌ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ «فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى» فَلَمْ يُبِنْ فِي مَاذَا، وَأَمَّا مَا فِي الْكِتَابِ
وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ بِكْرَيْنِ كَانَتَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا بِكْرًا وَالْأُخْرَى ثَيِّبًا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ وَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ: يَعْنِي زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ» وَلَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَا. وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا
مِنْ زِيَادَةِ قَوْلِهِ فِي الْقَسْمِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا لَكِنْ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَدْلَ الْوَاجِبَ فِي الْبَيْتُوتَةِ وَالتَّأْنِيسِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَضْبِطَ زَمَانَ النَّهَارِ فَيُقَدِّرُ مَا عَاشَرَ فِيهِ إحْدَاهُمَا فَيُعَاشِرُ الْأُخْرَى بِقَدْرِهِ بَلْ ذَلِكَ فِي الْبَيْتُوتَةِ، وَأَمَّا النَّهَارُ فَفِي الْجُمْلَةِ (قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا) التَّقْيِيدُ بِحُرَّتَيْنِ لِإِخْرَاجِ مَا إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَمَةً وَالْأُخْرَى حُرَّةً لَا لِإِخْرَاجِ الْأَمَتَيْنِ. ثُمَّ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّهُ يُعْطِي أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَكُونَا حُرَّتَيْنِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لَكِنَّ مَعْنَى الْعَدْلِ هُنَا التَّسْوِيَةُ لَا ضِدَّ الْجَوْرِ، فَإِذَا كَانَتَا حُرَّتَيْنِ أَوْ أَمَتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا حُرَّةً وَأَمَةً فَلَا يَعْدِلُ بَيْنَهُمَا: أَيْ لَا يُسَوِّي بَلْ يَعْدِلُ بِمَعْنَى لَا يَجُورُ، وَهُوَ أَنْ يَقْسِمَ لِلْحُرَّةِ ضِعْفَ الْأَمَةِ فَالْإِيهَامُ نَشَأَ مِنْ اشْتِرَاكِ اللَّفْظِ.
(قَوْلُهُ: وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا فَصْلَ فِيمَا ذَكَرْنَا فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِمَا ذَكَرْنَا: يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ وَلَا فَصْلَ إلَخْ: يَعْنِي أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ، وَكَذَلِكَ مَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَةِ فَنَحْتَجُّ بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقِيمُ عِنْدَ الْبِكْرِ الْجَدِيدَةِ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ بِهَا سَبْعًا يَخُصُّهَا بِهَا ثُمَّ يَدُورُ وَعِنْدَ الثَّيِّبِ الْجَدِيدَةِ ثَلَاثًا إلَّا إنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُبْطِلُ حَقَّهَا وَيَحْتَسِبُ عَلَيْهَا بِتِلْكَ الْمُدَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيِّبِ
وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْوِيَةُ دُونَ طَرِيقِهِ.
وَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى النَّشَاطِ. .
ثَلَاثٌ ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْبِكْرِ سَبْعًا وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثًا» وَعَنْهُ قَالَ: «مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمَّ قَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «لَمَّا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِكَ عَلَى أَهْلِك هَوَانٌ، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي» وَهَذَا دَلِيلُ اسْتِثْنَاءِ الشَّافِعِيِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّهَا وَيَحْتَسِبُ عَلَيْهَا بِالْمُدَّةِ إنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى الثَّلَاثِ وَلِأَنَّهَا لَمْ تَأْلَفْ صُحْبَتَهُ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ نَفْرَةٌ فَكَانَ فِي الزِّيَادَةِ إزَالَتُهَا. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمَا تَلَوْنَا وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ) فَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ فَمُعَارَضٌ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْقَدِيمَةِ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَحْشَةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ وَفِي الْجَدِيدَةِ مُتَوَهَّمَةٌ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ النَّفْرَةِ تُمْكِنُ بِأَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا السَّبْعَ ثُمَّ يُسَبِّعَ لِلْبَاقِيَاتِ وَلَمْ تَنْحَصِرْ تَخْصِيصُهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْوِيَّ إنْ لَمْ يَكُنْ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ فِي التَّخْصِيصِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْآيَةِ، وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ لِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّخْصِيصِ بِالزِّيَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَا وَتَلَوْنَا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُمَا الْعَدْلُ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّخْصِيصُ شَرْعًا كَانَ هُوَ الْعَدْلُ فَإِنَّا نَرَاهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي التَّسْوِيَةِ بَلْ يَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِهَا لِعَارِضٍ وَهُوَ رِقُّ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ حَتَّى كَانَ الْعَدْلُ أَنْ يَكُونَ لِإِحْدَاهُمَا يَوْمًا وَلِلْأُخْرَى يَوْمَيْنِ، فَلْيَكُنْ أَيْضًا بِتَخْصِيصِ الْجَدِيدَةِ الدَّهِشَةِ بِالْإِقَامَةِ سَبْعًا إنْ كَانَتْ بِكْرًا وَثَلَاثًا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لِتَأْلَفَ بِالْإِقَامَةِ وَتَطْمَئِنَّ.
هَذَا وَكَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ كَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَالْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّتَيْنِ وَالْمَجْنُونَةِ الَّتِي لَا يُخَافُ مِنْهَا وَالْمَرِيضَةِ وَالصَّحِيحَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وَطْؤُهَا وَالْمُحَرَّمَةِ وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَمُقَابِلَاتِهِنَّ، وَكَذَلِكَ يَسْتَوِي وُجُوبُهُ عَلَى الْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ وَالْمَرِيضِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ وَمُقَابِلَيْهِمْ. قَالَ مَالِكٌ: وَيَدُورُ وَلِيُّ الصَّبِيِّ بِهِ عَلَى نِسَائِهِ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ حَقُّ الْعِبَادِ وَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، وَصَحَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَرِضَ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ» (قَوْلُهُ وَالِاخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْوِيَةُ دُونَ طَرِيقِهِ) إنْ شَاءَ يَوْمًا يَوْمًا وَإِنْ شَاءَ يَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَرْبَعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ عَلَى صِرَافَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَدُورَ سَنَةً سَنَةً مَا يُظَنُّ إطْلَاقُ ذَلِكَ لَهُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُطْلَقَ لَهُ مِقْدَارُ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهُ لِلتَّأْنِيسِ وَدَفْعِ الْوَحْشَةِ وَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ الْمُدَّةُ الْقَرِيبَةُ، وَأَظُنُّ أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ مُضَارَّةً إلَّا أَنْ تَرْضَيَا بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَالتَّسْوِيَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى النَّشَاطِ)
وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً وَالْأُخْرَى أَمَةً فَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ) بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ، وَلِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ النُّقْصَانِ فِي الْحُقُوقِ. وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِنَّ قَائِمٌ. .
قَالَ (وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقُرْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ، لِمَا رُوِيَ
وَلَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنْ تَرَكَهُ لِعَدَمِ الدَّاعِيَةِ وَالِانْتِشَارِ فَهُوَ عُذْرٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ لَكِنَّ دَاعِيَتَهُ إلَى الضَّرَّةِ أَقْوَى فَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَإِنْ أَدَّى الْوَاجِبَ مِنْهُ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لَهَا حَقٌّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّسْوِيَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ جِمَاعِهَا مُطْلَقًا لَا يَحِلُّ لَهُ، صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ جِمَاعَهَا أَحْيَانًا وَاجِبٌ دِيَانَةً لَكِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ وَالْإِلْزَامِ إلَّا الْوَطْأَةُ الْأُولَى وَلَمْ يُقَدِّرُوا فِيهِ مُدَّةً، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ إلَّا بِرِضَاهَا وَطِيبِ نَفْسِهَا بِهِ. هَذَا وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِي جَمِيعِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ مِنْ الْوَطْءِ وَالْقُبْلَةِ، وَكَذَا بَيْنَ الْجَوَارِي وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لِيُحْصِنَهُنَّ عَنْ الِاشْتِهَاءِ لِلزِّنَا وَالْمَيْلِ إلَى الْفَاحِشَةِ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَأَفَادَ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ لَيْسَ وَاجِبًا.
هَذَا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِالْعِبَادَةِ أَوْ السَّرَارِي اخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ وَبَاقِيهَا لَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا فِي الثَّلَاثِ بِتَزَوُّجِ ثَلَاثِ حَرَائِرَ، فَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ مِقْدَارٌ؛ لِأَنَّ الْقَسْمَ مَعْنًى نِسْبِيٌّ وَإِيجَابُهُ طَلَبُ إيجَادِهِ وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْمُنْتَسِبِينَ فَلَا يُطْلَبُ قَبْلَ تَصَوُّرِهِ بَلْ يُؤْمَرُ أَنْ يَبِيتَ مَعَهَا وَيَصْحَبَهَا أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الْمُكْثِ أَيْضًا بَعْدَ الْبَيْتُوتَةِ، فَفِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُفَضِّلُ بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ فِي مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنَّا مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الَّتِي هُوَ فِي يَوْمِهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا» وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّوْبَةَ لَا تَمْنَعُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْأُخْرَى لِيَنْظُرَ فِي حَاجَتِهَا وَيُمَهِّدَ أُمُورَهَا.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُنَّ كُنَّ يَجْتَمِعْنَ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا» وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِرِضَا صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ إذْ قَدْ تَتَضَيَّقُ لِذَلِكَ وَتَنْحَصِرُ لَهُ. وَلَوْ تَرَكَ الْقَسْمَ بِأَنْ أَقَامَ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ شَهْرًا مَثَلًا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ الْعَدْلَ لَا بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ جَارَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً، كَذَا قَالُوا. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقَضَاءِ إذَا طُلِبَتْ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إيفَائِهِ
. (قَوْلُهُ وَإِنْ فَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ بِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ) قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهما، وَبِالْقَضَاءِ عَنْ عَلِيٍّ احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدَ، وَتَضْعِيفُ ابْنِ حَزْمٍ إيَّاهُ بِالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَبِابْنِ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمَا ثَبْتَانِ حَافِظَانِ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ مُدَبَّرَةَ رَجُلٍ أَوْ مُكَاتَبَتَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَهِيَ كَالْأَمَةِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِنَّ
(قَوْلُهُ وَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقُرْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ
«أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ» إلَّا أَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ مُسَافَرَةِ الزَّوْجِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَكَذَا لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ.
(وَإِنْ رَضِيَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ)؛ لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رضي الله عنها
لِمَا رَوَى) الْجَمَاعَةُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ» مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا بِحَدِيثِ الْإِفْكِ. قُلْنَا ذَلِكَ كَانَ اسْتِحْبَابًا لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَكَيْفَ وَهُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَعَالَى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} وَمِمَّنْ أَرْجَأَ سَوْدَةَ وَجُوَيْرِيَةَ وَأُمَّ حَبِيبَةَ وَصَفِيَّةَ وَمَيْمُونَةَ، ذَكَرَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيُّ، وَمِمَّنْ آوَى عَائِشَةَ وَالْبَاقِيَاتِ رضي الله عنهن؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِإِحْدَاهُمَا فِي السَّفَرِ وَبِالْأُخْرَى فِي الْحَضَرِ، وَالْقَرَارُ فِي الْمَنْزِلِ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، أَوْ يَمْنَعُ مِنْ سَفَرِ إحْدَاهُمَا كَثْرَةُ سِمَنِهَا فَتَعْيِينُ مَنْ يَخَافُ صُحْبَتَهَا فِي السَّفَرِ لِلسَّفَرِ بِخُرُوجِ قُرْعَتِهَا إلْزَامٌ لِلضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَكَذَا لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَظَاهِرٌ فِيهِ مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ وَاحِدَةً بِالسَّفَرِ بِهَا؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ السَّفَرِ بِالْكُلِّ تَسْوِيَةٌ، بِخِلَافِ تَخْصِيصِ إحْدَاهُنَّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّازِمَ التَّسْوِيَةُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لَيْلَةً يَبِيتُ عِنْدَ الْأُخْرَى كَذَلِكَ لَا عَلَى مَعْنَى وُجُوبِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَائِمًا، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْكُلِّ بَعْضَ اللَّيَالِي وَانْفَرَدَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. .
(قَوْلُهُ وَإِنْ رَضِيَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَرْكِ قَسْمِهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِرِشْوَةٍ مِنْ الزَّوْجِ بِأَنْ زَادَهَا فِي مَهْرِهَا لِتَفْعَلَ أَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى فَيُقِيمَ عِنْدَهَا يَوْمَيْنِ وَعِنْدَ الْمُخَاطَبَةِ يَوْمًا فَإِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهَا الْمَالُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَأَمَّا إذَا دَفَعَتْ إلَيْهِ أَوْ حَطَّتْ عَنْهُ مَالًا لِيَزِيدَهَا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَلَا يَحِلُّ لَهُمَا وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي مَالِهَا (قَوْلُهُ: لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ) بِفَتْحَتَيْنِ «سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا» إلَخْ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ طَلَّقَهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ اعْتَدِّي فَسَأَلَتْهُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ لَأَنْ تُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ» وَاَلَّذِي وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ، بَلْ إنَّهَا جَعَلَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رضي الله عنها
«سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَ نَوْبَتِهَا لِعَائِشَةَ رضي الله عنها» (وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقًّا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَلَا يَسْقُطُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .
وَاَلَّذِي فِي الْمُسْتَدْرِكِ يُفِيدُ عَدَمَهُ، وَهُوَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «قَالَتْ سَوْدَةُ حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا» قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَفِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ} الْآيَةَ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَيُوَافِقُ مَا فِي الْكِتَابِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَلَّقَ سَوْدَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ أَمْسَكَتْ بِثَوْبِهِ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَالِي إلَى الرِّجَالِ مِنْ حَاجَةٍ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْشَرَ فِي أَزْوَاجِكَ، قَالَ: فَرَاجَعَهَا وَجَعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ» اهـ وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً فَإِنَّ الْفُرْقَةَ فِيهَا لَا تَقَعُ بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ بَلْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَمَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: فَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خَافَتْ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْحَالُ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ فَيُفَارِقُهَا، وَلَا يُنَافِيهِ بَلَاغُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ فِي الْكِنَايَاتِ اعْتَدِّي، وَالْوَاقِعُ بِهَذِهِ الرَّجْعِيُّ لَا الْبَائِنُ. وَفَرَّعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ يَوْمَهَا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهِ، وَإِذَا جَعَلَتْهُ لِضَرَّتِهَا الْمُعَيَّنَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ حَقُّهَا فَإِذَا صَرَفَتْهُ لِوَاحِدَةٍ تَعَيَّنَ. وَفَرَّعُوا إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْوَاهِبَةِ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ قَسَمَ لَهَا لَيْلَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَلِيهَا فَهَلْ لَهُ نَقْلُهَا فَيُوَالِي لَهَا لَيْلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الَّتِي تَلِيهَا فِي النَّوْبَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ) قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ فَإِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُعَاوَضَةِ: يَعْنِي عَنْ الطَّلَاقِ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى صُلْحًا: يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} فَيَلْزَمُ كَمَا يَلْزَمُ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ، وَلَوْ مُكِّنَتْ مِنْ طَلَبِ حَقِّهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ تَأْخِيرُ الضَّرَرِ إلَى أَكْمَلِ حَالَتَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ صُلْحًا بَلْ مِنْ أَقْرَبِ أَسْبَابِ الْمُعَادَاةِ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ اهـ. وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ الْمُطَالَبَةِ بِمَا مَضَى فِيهِ وَبِهِ نَقُولُ، إذْ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِيَّةِ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْإِعْرَاضِ أَمَّا فِيمَا بَعْدَهُ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ فَكَيْفَ يَسْقُطُ؟ فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ ثُبُوتُ الضَّرَرِ وَالْمُعَادَاةِ، قُلْنَا: لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْخَلَاصِ وَقَدْ كَانَ يُرِيدُ طَلَاقَهَا لَوْلَا مَا صَالَحَتْهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَتْلَفَتْ مَا دَفَعَتْ بِهِ الْمَكْرُوهَ عَنْهَا فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ يُرِيدُ فِعْلَهُ وَيَحْصُلُ الْخَلَاصُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[فُرُوعٌ نَخْتِمُ بِهَا كِتَابَ النِّكَاحِ]
لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الضَّرَائِرِ إلَّا بِالرِّضَا، وَيُكْرَهُ وَطْءُ إحْدَاهُمَا بِحَضْرَةِ الْأُخْرَى فَلَهَا أَنْ لَا تُجِيبَهُ إذَا طَلَبَ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ، وَمِنْ الْغَزْلِ، وَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ التَّزَيُّنِ بِمَا يَتَأَذَّى بِرِيحِهِ كَأَنْ يَتَأَذَّى بِرَائِحَةِ الْحِنَّاءِ الْمُخَضَّرِ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ ضَرْبُهَا بِتَرْكِ الزِّينَةِ إذَا كَانَ يُرِيدُهَا وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ وَالصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ ذِمِّيَّةً فَلَيْسَ لَهُ جَبْرُهَا عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عِنْدَنَا، وَيَضْرِبُهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِلَا إذْنٍ إلَّا إنْ احْتَاجَتْ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ فِي حَادِثَةٍ وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ
كِتَابُ الرَّضَاعِ
قَالَ (قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ إذَا حَصَلَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَثْبُتُ
لَهَا وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ، وَمَا لَمْ تَقَعْ حَاجَةٌ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ الْخُرُوجِ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُوهَا زَمِنًا وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا فَإِنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْصِيَ الزَّوْجَ فِي الْمَنْعِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ شَابَّةٌ تَخْرُجُ إلَى الْوَلِيمَةِ وَالْمُصِيبَةِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا لَا يَمْنَعُهَا ابْنُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ خُرُوجَهَا لِلْفَسَادِ فَحِينَئِذٍ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْمَنْعِ مَنَعَهَا لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الرَّضَاعِ
لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ النِّكَاحِ الْوَلَدَ وَهُوَ لَا يَعِيشُ غَالِبًا فِي ابْتِدَاءِ نَشْأَتِهِ إلَّا بِالرَّضَاعِ وَكَانَ لَهُ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَهِيَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ بِمُدَّةٍ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ أَحْكَامِهِ. قِيلَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ لَكِنَّهُ أَفْرَدَهُ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَسَائِلَ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَخَلْطِ اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مَا تَتَعَلَّقُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِهِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ هُنَا التَّفَاصِيلَ الْكَثِيرَةَ. وَالرَّضَاعُ وَالرَّضَاعَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِيهِمَا وَفَتْحِهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ وَالرُّضَّعُ الْخَامِسَةُ، وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ الْكَسْرَ مَعَ الْهَاءِ، وَفَعَلَهُ فِي الْفَصِيحِ مِنْ حَدِّ عَلِمَ يَعْلَمُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ قَالُوا مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَعَلَيْهِ قَوْلُ السَّلُولِيِّ يَذُمُّ عُلَمَاءَ زَمَانِهِ: وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضِعُونَهَا ثُمَّ قِيلَ: كِتَابُ الرَّضَاعِ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رحمه الله إنَّمَا أَلَّفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ لِيُرَوِّجَهُ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَبُو الْفَضْلِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمُسَمَّى بِالْكَافِي مَعَ الْتِزَامِهِ إيرَادَ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ مَحْذُوفَةَ التَّعَالِيلِ. وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ مُصَنَّفَاتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ اكْتِفَاءً بِمَا أَوْرَدَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَصُّ اللَّبَنِ مِنْ الثَّدْيِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَئِيمٌ رَاضِعٌ: أَيْ يَرْضِعُ غَنَمَهُ وَلَا يَحْلُبُهَا مَخَافَةَ أَنْ يُسْمَعَ صَوْتُ حَلْبِهِ فَيُطْلَبُ مِنْهُ اللَّبَنُ. وَفِي الشَّرْعِ: مَصَّ الرَّضِيعِ اللَّبَنَ مِنْ ثَدْيِ الْآدَمِيَّةِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ
أَيْ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَقْدِيرِهَا (قَوْلُهُ قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ إذَا تَحَقَّقَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ أَمَّا لَوْ شَكَّ فِيهِ بِأَنْ
التَّحْرِيمُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» .
أَدْخَلَتْ الْحَلَمَةَ فِي فَمِ الصَّغِيرِ وَشَكَّتْ فِي الِارْتِضَاعِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالشَّكِّ، وَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ صَبِيَّةً أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَرْيَةٍ وَلَا يَدْرِي مَنْ هِيَ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَانِعُ مِنْ خُصُوصِيَّةِ امْرَأَةٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ لَا يُرْضِعْنَ كُلَّ صَبِيٍّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِذَا أَرْضَعْنَ فَلْيَحْفَظْنَ ذَلِكَ وَيُشْهِرْنَهُ وَيَكْتُبْنَهُ احْتِيَاطًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مُشْبِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَةٍ عُرْفًا. وَعَنْ أَحْمَدَ رحمه الله رِوَايَتَانِ كَقَوْلِنَا وَكَقَوْلِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» الْحَدِيثَ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثَيْنِ صَدَّرَهُ حَدِيثَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» وَآخِرُهُ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ «دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ فَتَزَوَّجْتُ عَلَيْهَا أُخْرَى، فَزَعَمَتْ امْرَأَتِي الْأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْ الْحُدْثَى رَضْعَةً أَوْ رَضْعَتَيْنِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ» فَقَوْلُ شَارِحٍ فِي قَوْلِهِ «وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ» إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَالْإِمْلَاجَةُ: الْإِرْضَاعَةُ، وَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ، وَالْإِمْلَاجُ: الْإِرْضَاعُ، وَأَمْلَجَتْهُ أَرْضَعَتْهُ، وَمَلَجَ هُوَ أُمَّهُ: رَضَعَهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ، وَقِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يُثْبِتَ بِهِ مَذْهَبَهُ بِطَرِيقٍ هُوَ أَنَّ الْمَصَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الْمَصَّتَيْنِ فَحَاصِلُهُ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ، فَنُفِيَ التَّحْرِيمُ عَنْ أَرْبَعٍ فَلَزِمَ أَنْ يَثْبُتَ بِخَمْسٍ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَيْسَ التَّحْرِيمُ بِخَمْسِ مَصَّاتٍ بَلْ بِخَمْسٍ مُشْبِعَاتٍ فِي أَوْقَاتٍ، وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ الْمَصَّةَ غَيْرُ الْإِمْلَاجَةِ، فَإِنَّ الْمَصَّةَ فِعْلُ الرَّضِيعِ، وَالْإِمْلَاجَةُ الْإِرْضَاعَةُ فِعْلُ الْمُرْضِعَةِ.
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَفَى كَوْنَ الْفِعْلَيْنِ مُحَرَّمَيْنِ مِنْهُ وَمِنْهَا، وَعَلَى هَذَا فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى حَدِيثًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْإِمْلَاجَ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْمُحَرَّمِ بَلْ لَازِمَهُ مِنْ الِارْتِضَاعِ، فَنَفْيُ تَحْرِيمِ الْإِمْلَاجِ نَفْيُ تَحْرِيمِ لَازِمِهِ، فَلَيْسَ الْحَاصِلُ مِنْ «لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَتَانِ» إلَّا لَا تُحَرِّمُ لَازِمَهُمَا: أَعْنِي الْمَصَّتَيْنِ فَلَوْ جُمِعَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ كَانَ الْحَاصِلُ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّتَانِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ أَنْ يُرَادَ إلَّا الْمَصَّتَانِ لَا الْأَرْبَعُ. فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ ذَكَرْت آنِفًا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه. قُلْت: يَجِبُ كَوْنُ الرَّاوِي وَهُوَ الزُّبَيْرُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي سَمِعَهَا مِنْهُ فِي وَقْتَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ» وَقَالَ أَيْضًا «لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» وَقُبِلَ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ نَافٍ لِمَذْهَبِنَا فَيَثْبُتُ بِهِ مَذْهَبُهُ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ بِالْفَصْلِ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، قَالُوا: الْمُحَرِّمُ ثَلَاثُ رَضَعَاتٍ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ قَوْلُهُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِقُوَّةِ وَجْهِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَ بِهِ مَذْهَبَهُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
«كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ» . قَالُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ النَّسْخِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا عَلَى إرَادَةِ نَسْخِ الْكُلِّ وَإِلَّا لَزِمَ ضَيَاعُ بَعْضِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ وَعَدَمُهُ كَمَا عَنْ الرَّوَافِضِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يُتْلَى خَمْسُ رَضَعَاتٍ إلَخْ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِنَسْخِ الْكُلِّ لِعَدَمِ التِّلَاوَةِ الْآنَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ عَلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ وَعَدَمُهُ فَيَثْبُتُ قَوْلُ الرَّوَافِضِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ تُثْبِتْهُ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَلِذَا بَطَلَ التَّمَسُّكُ بِهِ وَإِنْ كَانَ إسْنَادُهُ صَحِيحًا لِانْقِطَاعِهِ بَاطِنًا وَثَبَتَ نَفْيُ تَحْرِيمِ الْمَصَّةِ وَالْمَصَّتَانِ وَالرَّضَاعُ مُحَرِّمٌ وَجَبَ التَّحْرِيمُ بِالثَّلَاثِ.
وَمَا رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي فَلَمَّا مَاتَ صلى الله عليه وسلم تَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ فَدَخَلَتْ دَوَاجِنُ فَأَكَلَتْهَا لَا يَنْفِي ذَلِكَ النَّسْخَ: يَعْنِي كَانَ مَكْتُوبًا وَلَمْ يُغْسَلْ بَعْدُ لِلْقُرْبِ حَتَّى دَخَلَتْ الدَّوَاجِنُ. وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَلَا النَّقْصُ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَمَا قِيلَ لِيَكُنْ نَسْخُ الْكُلِّ وَيَكُونُ النَّسْخُ التِّلَاوَةَ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا جَوَابَ عَنْهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ادِّعَاءَ بَقَاءَ حُكْمِ الدَّالِّ بَعْدَ نَسْخِهِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّ نَسْخَ الدَّالِّ يَرْفَعُ حُكْمَهُ، وَأَمَّا مَا نَظَرَ بِهِ مِنْ " الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا " فَلَوْلَا مَا عُلِمَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ وَإِذَا احْتَاجَ إلَى ثُبُوتِ كَوْنِ الْمُحَرِّمِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَدِيثُ مُثْبِتًا لَهُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مُسْتَأْنَفٌ، وَمَا ذَكَرَ لَهُ أَوَّلًا قَدْ سَمِعْت مَا فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَمَسُّكُهُمْ فِي الثَّلَاثِ أَظْهَرُ مِنْ مُتَمَسِّكِهِ فِي الْخَمْسِ وَنَحْنُ إلَى جَوَابِهِ أَحْوَجُ فَكَيْفَ لَا يُعْتَبَرُ؟ نَعَمْ أَحْسَنُ الْأَدِلَّةِ لَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَالَتْ «جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسًا تَحْرُمِي بِهَا عَلَيْهِ» إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا، وَكَذَا السُّنَنُ الْمَشْهُورَةُ، بَلْ نُقِلَ فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله مُخَالِفًا لَهَا عَلَى مَا فِيهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُطْلَقًا مَنْسُوخٌ صَرِيحٌ بِنَسْخِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حِينَ قِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إنَّ الرَّضْعَةَ لَا تُحَرِّمُ، فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: آلَ أَمْرُ الرَّضَاعِ إلَى أَنَّ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْقَلِيلَ يُحَرِّمُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ وَالرَّضْعَتَيْنِ. فَقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِلرِّوَايَةِ لِنَسْخِهَا أَوْ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا أَوْ لِعَدَمِ إجَازَتِهِ تَقْيِيدَ إطْلَاقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِفِعْلِ الرَّضَاعَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهَذَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله، وَمَا رَوَاهُ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَحْرُمُ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِنُشُوءِ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ لَكِنَّهُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ، وَمَا رَوَاهُ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ لِمَا نُبَيِّنُ. .
(ثُمَّ مُدَّةُ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا سَنَتَانِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله.
بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ أَنْ يُشْبِعَ سَالِمًا خَمْسَ شَبْعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَاتٍ جَائِعًا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُشْبِعُهُ مِنْ اللَّبَنِ رِطْلٌ وَلَا رِطْلَانِ فَأَيْنَ تَجِدُ الْآدَمِيَّةُ فِي ثَدْيِهَا قَدْرَ مَا يُشْبِعُهُ؟ هَذَا مُحَالٌ عَادَةً، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْدُودَ خَمْسًا فِيهِ الْمَصَّاتُ، ثُمَّ كَيْفَ جَازَ أَنْ يُبَاشِرَ عَوْرَتَهَا بِشَفَتَيْهِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنْ تَحْلُبَ لَهُ شَيْئًا مِقْدَارُهُ خَمْسُ مَصَّاتٍ فَيَشْرَبُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ.
هَذَا وَهُوَ مَنْسُوخٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} تَقَدَّمَ فِي اسْتِدْلَالِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» فَحَدِيثٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَشْهُورٌ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ لِاخْتِلَاطِ الْبَعْضِيَّةِ بِسَبَبِ النُّشُوءِ الْكَائِنِ عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِأَدْنَى شَيْءٍ.
أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ حِكْمَةٌ؛ لِأَنَّهُ خَفِيٌّ وَالْأَحْكَامُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا لِخَفَائِهَا بَلْ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ وَهُوَ فِعْلُ الِارْتِضَاعِ، فَلَوْ قَالَ: الظَّاهِرُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَظِنَّةً لِلْحِكْمَةِ وَمُطْلَقُهُ لَيْسَ مَظِنَّةَ النُّشُوءِ فَلَا يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِهِ. قُلْنَا: وَلَا يَتَوَقَّفُ النُّشُوءُ عَلَى خَمْسٍ مُشْبِعَاتٍ بَلْ وَاحِدَةٌ تُفِيدُهُ، فَالتَّعَلُّقُ بِخَمْسٍ زِيَادَةٌ تَسْتَلْزِمُ تَأْخِيرَ الْحُرْمَةِ عَنْ وَقْتِ تَعَلُّقِهَا. وَالْحَقُّ أَنَّ الرَّضَاعَ وَإِنْ قَلَّ يَحْصُلُ بِهِ نُشُوءٌ بِقَدْرِهِ فَكَانَ الرَّضَاعُ مُطْلَقًا مَظِنَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّغِيرِ.
وَقَوْلُنَا قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَسْنَدَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا بِهِ النَّسَائِيّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ، هَذَا وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِلْبَعْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ إنَّمَا هِيَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، أَمَّا فِي الرَّضَاعِ فَحَقِيقَةُ الْجُزْئِيَّةِ بِاللَّبَنِ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّحْرِيمُ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ اللَّبَنِ فِي الْجَوْفِ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهِ كَانَ الْمُحَرَّمُ شُبْهَتَهَا: أَيْ مَا يَئُولُ إلَى الْجُزْئِيَّةِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ قَوْلُهُ (ثُمَّ مُدَّةُ الرَّضَاعِ) الَّتِي إذَا وَقَعَ الرَّضَاعُ فِيهَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ (ثَلَاثُونَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: سَنَتَانِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ زُفَرُ: ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَعَنْ مَالِكٍ رحمه الله سَنَتَانِ وَشَهْرٌ، وَفِي أُخْرَى شَهْرَانِ، وَفِي أُخْرَى مَا دَامَ مُحْتَاجًا إلَى اللَّبَنِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَدَّ لَهُ لِلْإِطْلَاقَاتِ فَيُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَلَوْ فِي حَالِ الْكِبَرِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ إلَى خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ
وَقَالَ زُفَرٌ: ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ فَيُقَدَّرُ بِهِ. وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ. وَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ» وَلَهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً فَكَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ قَامَ الْمُنْقِصُ فِي أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ فِي الثَّانِي عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغَيُّرِ الْغِذَاءِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ الصَّبِيُّ فِيهَا غَيْرَهُ فَقُدِّرَتْ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهَا مُغَيَّرَةٌ، فَإِنَّ غِذَاءَ الْجَنِينِ يُغَايِرُ غِذَاءَ الرَّضِيعِ كَمَا يُغَايِرُ غِذَاءَ الْفَطِيمِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ،
آخَرُونَ إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْحَوْلَ حَسَنٌ إلَخْ) هَذَا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رحمه الله. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا الصَّبِيُّ غَيْرَ اللَّبَنِ لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا الصَّبِيُّ تَغَيُّرَ الْغِذَاءَ وَالْحَوْلُ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فَقُدِّرَ بِالثَّلَاثَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِمَا نُبَيِّنُ: أَيْ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ هَكَذَا «لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ مِنْ حَوْلَيْنِ» وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْأَحْكَامِ وَقَالَ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ إلَّا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ اهـ.
وَكَذَا وَثَّقَهُ أَحْمَدُ رحمه الله وَالْعِجْلِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِلَا رَيْبٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَلَى عُمَرَ. وَأَظْهَرُ الْأَدِلَّةِ لَهُمَا قَوْله تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فَجَعَلَ التَّمَامَ بِهِمَا وَلَا مَزِيدَ عَلَى التَّمَامِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله هَذِهِ الْآيَةُ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً فَكَانَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ عَلَى شَخْصَيْنِ بِأَنْ قَالَ أَجَّلْت الدَّيْنَ الَّذِي لِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَلَى فُلَانٍ وَالدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَى فُلَانٍ سَنَةً يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ السَّنَةَ بِكَمَالِهَا لِكُلٍّ، أَوْ عَلَى شَخْصٍ فَيَقُولُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ أَقْفِزَةٍ إلَى سَنَةٍ فَصَدَّقَهُ الْمَقَرُّ لَهُ فِي الْأَجَلِ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ يُتِمُّ أَجَلَهُمَا جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الْمُنْقَصَ فِي أَحَدِهِمَا: يَعْنِي فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها:" الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِقَدْرِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " وَلَوْ بِقَدْرِ ظِلِّ مِغْزَلٍ ". وَمِثْلُهُ مِمَّا لَا يُقَالُ إلَّا سَمَاعًا؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إلَيْهَا وَسَنُخَرِّجُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ» فَتَبْقَى مُدَّةُ الْفِصَالِ عَلَى ظَاهِرِهَا، غَيْرَ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ لَفْظِ ثَلَاثِينَ مُسْتَعْمَلًا فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ فِي مَدْلُولِ ثَلَاثِينَ وَفِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَكَوْنُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْئَيْنِ لَا يَنْفِي كَوْنَهُ كَذَلِكَ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ، وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعْ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ جَمْعٍ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْئَيْنِ.
وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ لَا يُتَجَوَّزُ بِشَيْءٍ مِنْهَا فِي الْآخِرِ، نَصَّ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْلَامِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا حَتَّى مُنِعَتْ الصَّرْفَ مَعَ سَبَبٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا سِتَّةَ عَشْرَ ضِعْفُ ثَمَانِيَةٍ بِلَا تَنْوِينٍ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي فَصْلِ الْمَشِيئَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، إلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ نَحْوَ عَشَرَةٍ إلَّا اثْنَيْنِ لَمْ يُرِدْ بِهِ ثَمَانِيَةً بَلْ عَشَرَةً فَأَخْرَجَ ثُمَّ أَسْنَدَ إلَى ثَمَانِيَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ مُطْلَقًا وَمُخْتَارُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ عَدَدٍ مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوَالِدَاتِ الْمُطَلَّقَاتُ بِقَرِينَةِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} فَإِنَّ الْفَائِدَةَ فِي جَعْلِهِ نَفَقَتَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ظِئْرٌ أَوْجَهُ مِنْهَا فِي اعْتِبَارِهِ إيجَابَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَمِنْ قَوْله تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ} الْآيَةَ؛ وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَخْتَصُّ بِكَوْنِهَا وَالِدَةً مُرْضِعَةً بَلْ مُتَعَلِّقَةً بِالزَّوْجِيَّةِ، بِخِلَافِ اعْتِبَارِهَا نَفَقَةَ الظِّئْرِ وَيَكُونُ حِينَئِذٍ أُجْرَةً لَهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا بِاعْتِبَارِهَا ظِئْرًا غَيْرَ زَوْجَةٍ لَا تَكُونُ إلَّا أُجْرَةً لَهَا، وَاللَّامُ مِنْ لِمَنْ أَرَادَ مُتَعَلِّقٌ بِيُرْضِعْنَ: أَيْ يُرْضِعْنَ لِلْآبَاءِ الَّذِينَ أَرَادُوا إتْمَامَ
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّصُّ الْمُقَيَّدُ بِحَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ.
قَالَ (وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ) لِقَوْلِهِ
الرَّضَاعَةِ وَعَلَيْهِمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أُجْرَةً لَهُنَّ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَتْ الْوَاوُ مِنْ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ لِلْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يُتِمَّ كَانَ أَظْهَرَ فِي تَقْيِيدِ الْأُجْرَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَى الْآبَاءِ أُجْرَةً لِلْمُطَلَّقَةِ لِحَوْلَيْنِ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَعَلَيْهِ أَوْ وَعَلَيْهِمْ لَكِنْ تُرِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْآبَاءِ.
وَالْحَاصِلُ حِينَئِذٍ: يُرْضِعْنَ حَوْلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ الْآبَاءِ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ بِالْأُجْرَةِ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ مُطْلَقًا بِالْحَوْلَيْنِ، بَلْ مُدَّةُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ بِالْإِرْضَاعِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا فِي الْجُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا} عَطْفًا بِالْفَاءِ عَلَى يُرْضِعْنَ حَوْلَيْنِ فَعَلَّقَ الْفِصَالَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ عَلَى تَرَاضِيهِمَا. وَقَدْ يُقَالُ: كَوْنُ الدَّلِيلِ دَلَّ عَلَى بَقَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِهَائِهَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ أَرْضَعَ بَعْدَهَا لَا يَقَعُ التَّحْرِيمُ.
وَمَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ زِيَادَتِهَا لَا يُفِيدُ سِوَى أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ الْفِطَامُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِيُعَوَّدَ فِيهَا غَيْرَ اللَّبَنِ قَلِيلًا قَلِيلًا لِتَعَذُّرِ نَقْلِهِ دَفْعَةً. فَأَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَيَكُونُ مِنْ تَمَامِ مُدَّةِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا فَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُحَرِّمْ إطْعَامَهُ غَيْرَ اللَّبَنِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ لِيَلْزَمَ زِيَادَةُ مُدَّةِ التَّعَوُّدِ عَلَيْهِمَا، فَجَازَ أَنْ يُعَوَّدَ مَعَ اللَّبَنِ غَيْرَهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ بِحَيْثُ تَكُونُ الْعَادَةُ قَدْ اسْتَقَرَّتْ مَعَ انْقِضَائِهِمَا فَيُفْطَمُ عِنْدَهُ عَنْ اللَّبَنِ بِمَرَّةٍ فَلَيْسَتْ الزِّيَادَةُ بِلَازِمَةٍ فِي الْعَادَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ، فَكَانَ الْأَصَحُّ قَوْلُهُمَا وَهُوَ مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ، وَقَوْلُ زُفَرَ عَلَى هَذَا أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} الْمُرَادُ مِنْهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ التَّرَدُّدِ فِي أَنَّهُ يَضُرُّ بِالْوَلَدِ أَوْ لَا فَيَتَشَاوَرَانِ لِيَظْهَرَ وَجْهُ الصَّوَابِ فِيهِ.
وَأَمَّا ثُبُوتُ الضَّرَرِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَقَلَّ أَنْ يَقَعَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِطَامٌ بَلْ إنْ كَانَ فَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَتَمْنَعُهُ الْعُمُومَاتُ الْمَانِعَةُ مِنْ إدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ) فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ، حَتَّى لَوْ ارْتَضَعَ لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ أَبَدًا لِلْإِطْلَاقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَكَانَتْ إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَوْ بَعْضَ بَنَاتِ أُخْتِهَا أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسًا، وَلِحَدِيثِ سَهْلَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَانَ ثُمَّ نُسِخَ بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - تُفِيدُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ. فَمِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي اسْتِدْلَالِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا رَضَاعَ
عليه الصلاة والسلام «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ النُّشُوءِ وَذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ إذْ الْكَبِيرُ لَا يَتَرَبَّى بِهِ،
إلَّا مَا كَانَ مِنْ حَوْلَيْنِ» وَقَدَّمْنَا تَخْرِيجَهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ» وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ هَوِيَّتُهُ بَعْدَهُ، وَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ الْعَظْمَ» يُرْوَى بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ أَحْيَاهُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} وَبِالزَّايِ: أَيْ رَفَعَهُ وَبِزِيَادَةِ الْحَجْمِ يَرْتَفِعُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةَ مَنْ هَذَا؟ قُلْت: أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةَ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَتُكُنَّ فَإِنَّ الرَّضَاعَةَ مَنْ الْمَجَاعَةِ» يَعْنِي اعْرِفْنَ إخْوَتَكُنَّ لِخَشْيَةِ أَنْ يَكُونَ رَضَاعَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ. فَإِنْ قُلْت: عُرِفَ مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ عَمَلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى يُوجِبُ الْحُكْمَ بِنَسْخِ مَا رَوَى فَلَا يُعْتَبَرُ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ «إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها وَعَمَلُهَا بِخِلَافِهِ فَيَكُونُ مَحْكُومًا بِنَسْخِ كَوْنِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ مُحَرَّمًا. قُلْنَا: الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْ الْحَالِ سِوَى أَنَّهُ خَالَفَ مَرْوِيَّهُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُخْطِئُ فِي ظَنِّ غَيْرِ النَّاسِخِ نَاسِخًا لَا قَطْعًا.
فَلَوْ اتَّفَقَ فِي خُصُوصِ مَحَلٍّ بِأَنَّ عَمَلَهُ بِخِلَافِ مَرْوِيِّهِ كَانَ لِخُصُوصِ دَلِيلٍ عَلِمْنَاهُ وَظَهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ غَلَطُهُ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِمَّا يُحْكَمُ فِيهِ بِنَسْخِ مَرْوِيِّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ إلَّا لِإِحْسَانِ الظَّنِّ بِنَظَرِهِ، فَأَمَّا إذَا تَحَقَّقْنَا فِي خُصُوصِ مَادَّةٍ خِلَافِ ذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ مَرْوِيِّهِ بِالضَّرُورَةِ دُونَ رَأْيِهِ. وَفِي الْمُوَطَّإِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ: إنِّي مَصَصْت عَنْ امْرَأَتِي مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا فَذَهَبَ فِي بَطْنِي، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لَا أَرَاهَا إلَّا قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْك، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: اُنْظُرْ مَا تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «لَا رَضَاعَةَ إلَّا مَا كَانَ فِي حَوْلَيْنِ» فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. هَذِهِ رِوَايَةُ الْمُوَطَّإِ فَرُجُوعُهُ إلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّصُوصِ الْمُطْلِقَةِ وَعَمَّا أَفْتَاهُ بِالْحُرْمَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِذِكْرِهِ لِلنَّاسِخِ لَهُ أَوْ لِتَذَكُّرِهِ عِنْدَهُ، وَغَيْرُ عَائِشَةَ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَأْبَيْنَ ذَلِكَ وَيَقُلْنَ: لَا نَرَى هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا رُخْصَةً لِسَهْلَةَ خَاصَّةً، وَلَعَلَّ سَبَبَهُ مَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا يُخَالِفُ أُصُولَ الشَّرْعِ حَيْثُ يَسْتَلْزِمُ مَسَّ عَوْرَتِهَا بِشَفَتَيْهِ فَحَكَمْنَ بِأَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ. وَقِيلَ سَبَبُهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَجَعَتْ.
وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ فَكُنْت أُصِيبُهَا فَعَمَدَتْ امْرَأَتِي إلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: دُونَكَ قَدْ
وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ. وَوَجْهُهُ انْقِطَاعُ النُّشُوءِ بِتَغَيُّرِ الْغِذَاءِ وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ؟ فَقِيلَ لَا يُبَاحُ؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِكَوْنِهِ جُزْءُ الْآدَمِيِّ. .
قَالَ (وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ) لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا (إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَجُوزُ) أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ
وَاَللَّهِ أَرْضَعْتُهَا، قَالَ عُمَرُ: أَوْجِعْهَا وَائْتِ جَارِيَتَك فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصَّغِيرِ.
(قَوْلُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ) حَتَّى لَوْ فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ ثُمَّ أُرْضِعَ فِيهَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَصَارَ بِحَيْثُ يَكْتَفِي بِغَيْرِ اللَّبَنِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إذَا رَضَعَ فِيهَا، رَوَاهَا الْحَسَنُ عَنْهُ.
وَفِي وَاقِعَاتِ النَّاطِفِيِّ الْفَتْوَى عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، أَنَّهَا تَثْبُتُ مَا لَمْ تَمْضِ إقَامَةٌ لِلْمَظِنَّةِ مَقَامَ الْمَئِنَّةِ، فَإِنَّ مَا قَبْلَ الْمُدَّةِ مَظِنَّةُ عَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ (وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ؟ قِيلَ لَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا لِلضَّرُورَةِ) وَقَدْ انْدَفَعَتْ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلتَّدَاوِي، وَأَهْلُ الطِّبِّ يُثْبِتُونَ لِلَبَنِ الْبِنْتِ أَيْ الَّذِي نَزَلَ بِسَبَبِ بِنْتٍ مُرْضِعَةٍ نَفْعًا لِوَجَعِ الْعَيْنِ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قِيلَ لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ يَجُوزُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ الرَّمَدُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَقِيقَهُ الْعِلْمِ مُتَعَذِّرَةٌ فَالْمُرَادُ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَإِلَّا فَهُوَ مَعْنَى الْمَنْعِ.
(قَوْلُهُ وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ) وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ (قَوْلُهُ إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ) يَصِحُّ اتِّصَالُ قَوْلِهِ مِنْ الرَّضَاعِ بِكُلٍّ مِنْ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ وَبِهِمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. فَالْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ أُخْتٌ مِنْ النَّسَبِ لَهَا أُمٌّ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ تَكُنْ أَرْضَعَتْهُ تَحِلُّ لَهُ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَهَا أُمٌّ مِنْ النَّسَبِ تَحِلُّ لَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ هِيَ الْمُرْضَعَةُ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يُرْضِعَ الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ امْرَأَةٌ وَلِأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أُمٌّ أُخْرَى مِنْ الرَّضَاعِ يَحِلُّ لِلصَّبِيِّ تِلْكَ الْأُمُّ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمِّ حَالًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ مَعْرِفَةٌ فَيَجِيءُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْهُ لَا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَلَيْسَ صِفَةً؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ: أَعْنِي أُمَّ أُخْتِهِ، بِخِلَافِ أُخْتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٍ مِنْ مُسَوِّغَاتِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا يَجِيءُ فِي أُخْتِ ابْنِهِ، وَلَوْ قَالَ أُخْتُ وَلَدِهِ كَانَ أَشْمَلَ، فَالْأَوَّلُ لَهُ ابْنٌ مِنْ النَّسَبِ لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ بِأَنْ ارْتَضَعَ مَعَ أَجْنَبِيَّةٍ مَنْ لَمْ تَكُنْ امْرَأَةَ أَبِيهِ حَلَّتْ لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا رَبِيبَتُهُ، وَالثَّانِي لَهُ ابْنٌ مِنْ الرَّضَاعِ بِأَنْ ارْتَضَعَ زَوْجَةَ الرَّجُلِ حَلَّتْ لِلرَّجُلِ أُخْتُهُ مِنْ النَّسَبِ، وَالثَّالِثُ لَهُ ابْنٌ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَا ذَكَرْنَا لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ مِنْ غَيْرِ زَوْجَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَنْ ارْتَضَعَ ذَلِكَ الْوَلَدُ امْرَأَتَيْنِ حَلَّتْ أُخْتُهُ لِأَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ. وَعَلَّلَ اسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلِ بِعَدَمِ وُجُودِ الْمُحَرَّمِ مِنْ النَّسَبِ فِيهِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ الرَّضَاعِ بَعْدَ تَعْلِيلِهِ الْحُرْمَةَ فِي أُمِّ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ بِكَوْنِهَا أُمَّهُ أَوْ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ، وَكَذَا فِي تَعْلِيلِهِ إخْرَاجَ أُخْتِ
مِنْ النَّسَبِ)؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ أُمَّهُ أَوْ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ، بِخِلَافِ الرَّضَاعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَا
ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ بَعْدَ تَعْلِيلِهِ حُرْمَةَ أُخْتِ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَطِئَ أُمَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ لِوُضُوحِ الشِّقِّ الْآخَرِ فَأَفَادَ بِالتَّعْلِيلَيْنِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الرَّضَاعِ وُجُودُ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ فِي النَّسَبِ لِيُفِيدَ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى فِي شَيْءٍ مِنْ صُوَرِ الرَّضَاعِ انْتَفَتْ الْحُرْمَةُ فَيُسْتَفَادُ أَنَّهُ لَا حَصْرَ فِيمَا ذَكَرَ، وَقَدْ ثَبَتَ كَذَلِكَ الِانْتِفَاءُ فِي صُوَرٍ أُخْرَى: الْأُولَى أُمُّ النَّافِلَةِ مِنْ الرَّضَاعِ بِأَنْ أَرْضَعَتْ نَافِلَتُك أَجْنَبِيَّةً يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِهَا لِانْتِفَاءِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ فِي النَّسَبِ وَهِيَ كَوْنُهَا بِنْتًا أَوْ حَلِيلَةَ الِابْنِ.
الثَّانِيَةُ جَدَّةُ وَلَدِك مِنْ الرَّضَاعِ بِأَنْ أَرْضَعَتْ وَلَدَك أَجْنَبِيَّةٌ لَهَا أُمٌّ يَجُوزُ تَزَوُّجُك بِالْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّك، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أُمَّ الْعَمِّ مِنْ الرَّضَاعِ وَأُمَّ الْخَالِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَا عَمَّةَ وَلَدِك؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّسَبِ أُخْتُك وَلَيْسَتْ أُخْتًا مِنْ الرَّضَاعِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِابْنِ أُخْتِهَا مِنْ الرَّضَاعِ وَبِأَخِي وَلَدِهَا وَبِأَبِي حَفِيدِهَا مِنْهُ وَبِجَدِّ وَلَدِهَا مِنْهُ وَخَالِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي النَّسَبِ لِمَا قُلْنَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ:
يُفَارِقُ النَّسَبُ الرَّضَاعَ فِي صُوَرْ
…
كَأُمِّ نَافِلَةٍ وَجَدَّةِ الْوَلَدْ
وَأُمِّ عَمٍّ وَأُخْتِ ابْنٍ وَأُمِّ أَخٍ
…
وَأُمِّ خَالٍ وَعَمَّةِ ابْنٍ اُعْتُمِدْ
وَاسْتُشْكِلَ إلْحَاقُ أُمِّ الْعَمِّ وَأُمِّ الْخَالِ بِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَدَّتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ مَوْطُوءَةَ جَدِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَكِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ فِي النَّسَبِ، إلَّا إنْ أَرَادَ بِالْعَمِّ مِنْ الرَّضَاعِ مَنْ رَضَعَ مَعَ أَبِيهِ، وَبِالْخَالِ مِنْهُ مَنْ رَضَعَ مَعَ أُمِّهِ وَلَهُ أُمٌّ أُخْرَى مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ الْحَصْرَ لِجَوَازِ كَوْنِهِمَا لَمْ تُرْضِعْ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ فَلَا تَكُونُ جَدَّتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَا مَوْطُوءَةَ جَدِّهِ بَلْ أَجْنَبِيَّةً أَرْضَعَتْ عَمَّهُ مِنْ النَّسَبِ وَخَالَهُ، ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذَا الْإِخْرَاجُ تَخْصِيصٌ لِلْحَدِيثِ: أَعْنِي «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ تَخْصِيصًا؛ لِأَنَّهُ أَحَالَ مَا يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ عَلَى مَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ، وَمَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ تَحْرِيمِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ {وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} فَمَا كَانَ مِنْ مُسَمَّى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَحَقِّقًا فِي الرَّضَاعِ حُرِّمَ فِيهِ، وَالْمَذْكُورَاتُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مُسَمَّى تِلْكَ فَكَيْفَ تَكُونُ مُخَصَّصَةً وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاوِلَةٍ؟ وَلِذَا إذَا خَلَا تَنَاوُلُ الِاسْمِ فِي النَّسَبِ جَازَ النِّكَاحُ، كَمَا إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ اثْنَيْنِ وَلِكُلٍّ مِنْهَا بِنْتٌ جَازَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَتْ أُخْتَ وَلَدِهِ مِنْ النَّسَبِ.
وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْت مَنَاطَ الْإِخْرَاجِ أَمْكَنَك تَسْمِيَةَ صُوَرٍ أُخْرَى، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا: أَعْنِي قَوْلَهُ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» إلَّا أُمَّ أُخْتِهِ إلَخْ، وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَحْرِيمِ حَلِيلَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ النَّسَبِ بَلْ بِسَبَبِ الصِّهْرِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النَّسَبِ سَبْعٌ وَهُنَّ اللَّاتِي عَدَدْنَاهُنَّ آنِفًا كَمَا فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا بَعْدَهُنَّ فِيهَا فَمُحَرَّمَاتٌ بِالرَّضَاعِ وَالصِّهْرِيَّةِ؛ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ أُمًّا مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَوْ بِنْتَ أَخٍ إلَخْ تُحَرَّمُ، فَإِثْبَاتُ تَحْرِيمِ حَلِيلَةِ كُلٍّ مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ بَلْ الدَّلِيلُ يُفِيدُ حِلَّهَا وَهُوَ قَيْدُ الْأَصْلَابِ فِي الْآيَةِ وَكَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ حَلِيلَةِ الْمُتَبَنِّي لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِإِخْرَاجِ حَلِيلَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِذَلِكَ فَكَانَ لِإِخْرَاجِهِمَا أَيْضًا وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْحَدِيثِ غَيْرَ مَعْمُولٍ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَلْ يُوَفِّرُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْحَدِيثِ وَالنَّصِّ مُقْتَضَى لَفْظِهِ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ
يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَطِئَ أُمَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الرَّضَاعِ. .
(وَامْرَأَةُ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ فِي النَّصِّ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. .
(وَلَبَنُ الْفَحْلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ أَنْ تُرْضِعَ الْمَرْأَةُ صَبِيَّةً فَتَحْرُمُ هَذِهِ الصَّبِيَّةُ عَلَى زَوْجِهَا وَعَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَيَصِيرُ الزَّوْجُ الَّذِي نَزَلَ لَهَا مِنْهُ اللَّبَنُ أَبًا لِلْمُرْضَعَةِ) وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ: لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ
الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يُفِيدُ مَنْعَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْهُ فَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ.
فَإِنْ قُلْت: فَلْيَثْبُتْ بِالْقِيَاسِ عَلَى حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِجَامِعِ الْجُزْئِيَّةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجُزْئِيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي حُرْمَةِ الرَّضَاعِ هِيَ الْجُزْئِيَّةُ الْكَائِنَةُ عَنْ النُّشُوءِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ لَا مُطْلَقُ الْجُزْئِيَّةِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ الْجُزْئِيَّةُ الْكَائِنَةُ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ إذْ لَا إنْبَاتَ لِلَّحْمِ مِنْ الْمَنِيِّ الْمُنْصَبِّ فِي الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاصِلٍ مِنْ الْأَعْلَى فَهُوَ بِالْحُقْنَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْمَشْرُوبِ حَيْثُ يَخْرُجُ كُلُّهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ وَلَا يَسْتَحِيلُ إلَى جَوْهَرِ الْإِنْسَانِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَنِيُّ وَلَدًا فَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الْمَرْأَةِ شَيْءٌ اسْتَحَالَ إلَى جَوْهَرِهَا.
(قَوْلُهُ وَامْرَأَةُ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ) أَيْ كَمَا لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ مِنْ النَّسَبِ، كَذَا لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: ذِكْرُ الْأَصْلَابِ فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ يُخْرِجُهُمَا. أُجِيبَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِإِسْقَاطِ طَعْنِهِمْ بِسَبَبِ تَزَوُّجِهِ صلى الله عليه وسلم زَوْجَةَ الْمُتَبَنِّي فَالْقَيْدُ لِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ زَوْجَتِهِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ تَحْرِيمُهُمَا؟ وَيُجَابُ بِعُمُومِ حَدِيثِ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَقَدْ عَلِمْت مَا فِي الْجَوَابَيْنِ. وَمِنْ فُرُوعِهِمَا فَرْعٌ لَطِيفٌ: وَهُوَ رَجُلٌ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ مِنْ رَضِيعٍ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ جَاءَتْ إلَى الرَّضِيعِ الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا فَأَرْضَعَتْهُ حُرِّمَتْ عَلَى زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ صَارَ ابْنًا لَهُ، فَلَوْ بَقِيَ النِّكَاحُ صَارَ مُتَزَوِّجًا بِامْرَأَةِ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ (قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) أَيْ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ.
(قَوْلُهُ وَلَبَنُ الْفَحْلِ) هُوَ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ (يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ) يَعْنِي اللَّبَنَ الَّذِي نَزَلَ مِنْ الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ وِلَادَتِهَا مِنْ رَجُلٍ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يَتَعَلَّق بِهِ التَّحْرِيمُ بَيْنَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَنْ يَكُونَ أَبًا لِلرَّضِيعِ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ إنْ كَانَتْ صَبِيَّةً؛ لِأَنَّهُ أَبُوهَا وَلَا لِإِخْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُهَا وَلَا لِآبَائِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَادُهَا وَلَا لِأَعْمَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُ الْأَبِ وَلَا لِأَوْلَادِهِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهَا لِأَبِيهَا وَلَا لِأَبْنَاءِ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّةَ عَمَّتُهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مِنْ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ فَمِنْهَا أَوْلَى فَلَا تَتَزَوَّجُ أَبَاهَا؛ لِأَنَّهُ جَدُّهَا لِأُمِّهَا وَلَا أَخَاهَا؛ لِأَنَّهُ خَالُهَا وَلَا عَمَّهَا؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ بِنْتِ أَخِيهِ وَلَا خَالَهَا؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ بِنْتِ أُخْتِهِ وَلَا أَبْنَاءَهَا وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهَا لِأُمِّهَا. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ زَوْجَتَانِ أَرْضَعَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنْتًا لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ مِنْ الرَّضَاعِ لِأَبٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ لِآخَرَ قَبْلَهُ فَأَرْضَعَتْ صَبِيَّةً فَإِنَّهَا رَبِيبَةٌ لِلثَّانِي وَبِنْتٌ لِلْأَوَّلِ فَيَحِلُّ تَزَوُّجُهَا بِأَبْنَاءِ الثَّانِي، وَلَوْ كَانَ الْمُرْضِعُ صَبِيًّا حَلَّ لَهُ تَزَوُّجُهُ بِبَنَاتِهِ هَذَا مَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي، فَإِذَا وَلَدَتْ مِنْ الثَّانِي فَإِنْ أَرْضَعَتْ رَضِيعًا فَهُوَ وَلَدٌ لِلثَّانِي، وَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ مِنْ الْأَوَّلِ فَمَا لَمْ تَلِدْ، اللَّبَنُ مِنْ الْأَوَّلِ وَالرَّضِيعُ بِهِ وَلَدٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه
لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَاللَّبَنُ بَعْضُهَا لَا بَعْضُهُ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَا بِالرَّضَاعِ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِعَائِشَةَ رضي الله عنها:«لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ»
تَثْبُتُ مِنْهُ الْحُرْمَةُ خَاصَّةً، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَلَدٌ لَهُمَا فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ عُلِمَ أَنَّ اللَّبَنَ مِنْ الثَّانِي بِأَمَارَةٍ كَزِيَادَةٍ فَهُوَ وَلَدُ الثَّانِي، وَإِلَّا فَهُوَ وَلَدُ الْأَوَّلِ.
وَعَنْهُ: إنْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْ الْأَوَّلِ غَالِبًا فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الثَّانِي غَالِبًا فَهُوَ لِلثَّانِي، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَلَهُمَا، وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْجَدِيدِ، وَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ هَكَذَا: إنْ زَادَ اللَّبَنُ بِالْحَبَلِ فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَهُمَا وَابْنُ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَكَوْنُهُ ابْنَهُمَا بِزِيَادَةِ اللَّبَنِ مُطْلَقًا أَنْسَبُ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِيمَا إذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ كَمَا سَيُعْلَمُ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَلَدَتْ لِلزَّوْجِ فَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ ثُمَّ جَفَّ لَبَنُهَا ثُمَّ دَرَّ لَهَا فَأَرْضَعَتْ بِهِ صَبِيَّةً، فَإِنَّ لِوَلَدِ زَوْجِ الْمُرْضَعَةِ مِنْ غَيْرِهَا التَّزَوُّجَ بِهَذِهِ الصَّبِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ لَبَنَ الْفَحْلِ لِيَكُونَ هُوَ أَبَاهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَلِدْ مِنْ الزَّوْجِ أَصْلًا وَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِإِرْضَاعِهَا تَحْرِيمٌ بَيْنَ ابْنِ زَوْجِهَا وَمَنْ أَرْضَعَتْهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ مِنْهُ، فَإِذَا انْتَفَتْ انْتَفَتْ النِّسْبَةُ فَكَانَ كَلَبَنِ الْبِكْرِ، وَلَبَنِ الزِّنَا كَالْحَلَالِ فَإِذَا أَرْضَعَتْ بِهِ بِنْتًا حُرِّمَتْ عَلَى الزَّانِي وَآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَائِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا.
وَفِي التَّجْنِيسِ: مِنْ عَلَامَةِ أَجْنَاسِ النَّاطِفِيِّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ كَانَ يَقُولُ فِي الدَّرْسِ: لَا يَجُوزُ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالصَّبِيَّةِ الْمُرْضَعَةِ وَلَا لِأَبِيهِ وَلَا لِأَجْدَادِهِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ، وَلِعَمِّ الزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالصَّبِيَّةِ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ الزَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا مِنْ الزَّانِي حَتَّى يَظْهَرَ فِيهَا حُكْمُ الْقَرَابَةِ، وَالتَّحْرِيمُ عَلَى آبَاءِ الزَّانِي وَأَوْلَادِهِ لِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَلَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَمِّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي حَقِّ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الزِّنَا فَكَذَا فِي حَقِّ الْمُرْضِعَةِ بِلَبَنِ الزِّنَا. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَكَذَا لَوْ لَمْ تَحْبَلْ مِنْ الزِّنَا وَأَرْضَعَتْ لَا بِلَبَنِ الزَّانِي تَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي كَمَا تَحْرُمُ بِنْتُهَا عَلَيْهِ مِنْ النَّسَبِ. وَذَكَرَ الْوَبَرِيُّ أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ خَاصَّةً مَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ حِينَئِذٍ تَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ وَصَاحِبُ الْيَنَابِيعِ، وَهُوَ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مِنْ الزِّنَا لِلْبَعْضِيَّةِ وَذَلِكَ فِي الْوَلَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ دُونَ اللَّبَنِ، إذْ لَيْسَ اللَّبَنُ كَائِنًا عَنْ مَنِيِّهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ التَّغَذِّي بِخِلَافِ الْوَلَدِ، وَالتَّغَذِّي لَا يَقَعُ إلَّا بِمَا يَدْخُلُ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ لَا مِنْ أَسْفَلِ الْبَدَنِ كَالْحُقْنَةِ فَلَا إنْبَاتَ فَلَا حُرْمَةَ، بِخِلَافِ ثَابِتِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ مِنْهُ، وَبِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى إبْطَالِ قَوْلٍ ضَعِيفٍ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ الزَّوْجِ.
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ زَوْجَتُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَارْتَضَعَتْهُ صَغِيرَةٌ حَلَّتْ لَهُ فَكَيْفَ تَحْرُمُ بِلَبَنٍ هُوَ سَبَبٌ بَعِيدٌ فِيهِ.
وَلَنَا النَّظَرُ الْمَذْكُورُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ
وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ مِنْهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا (وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعِ)؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ إذَا كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ جَازَ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. .
(وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) هَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ أُمَّهُمَا وَاحِدَةٌ فَهُمَا أَخٌ وَأُخْتٌ (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الَّتِي أَرْضَعَتْ)؛ لِأَنَّهُ أَخُوهَا
عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ وَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَإِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَدَاكِ» وَفِي رِوَايَةٍ «تَرِبَتْ يَمِينُكِ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الشَّاهِدَةِ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِحَيْثُ يَتَضَاءَلُ مَعَهَا ذَلِكَ الْمَعْقُولُ.
عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّهُ لَا يَتَغَذَّى الْوَلَدُ بِهِ، وَأَمَّا لَبَنُ الرَّجُلِ فَسَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله، وَإِذَا تَرَجَّحَ عَدَمُ حُرْمَةِ الرَّضِيعَةِ بِلَبَنِ الزَّانِي عَلَى الزَّانِي كَمَا ذَكَرْنَا فَعَدَمُ حُرْمَتِهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ اللَّبَنُ مِنْهُ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَلِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْمَسْطُورَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ إذْ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ بِنْتِ الْمُرْضِعَةِ بِلَبَنِ غَيْرِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي دَلَالَةِ حَدِيثِ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» عَلَى حُرْمَةِ الرَّبِيبَةِ مِنْ الرَّضَاعِ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِنُزُولٍ اللَّبَنِ مِنْهَا فَتُضَافُ الْحُرْمَةُ إلَيْهِ احْتِيَاطًا) كَالْمُصَاهَرَةِ؛ وَأَنْتَ عَلِمْت الْفَرْقَ بَلْ حَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّ الْبَعْضِيَّةَ تَثْبُتُ بَيْنَ الْمُرْضِعَةِ وَالرَّضِيعِ فَأُثْبِتَتْ حُرْمَةُ الْأَبْنِيَةِ ثُمَّ انْتَشَرَتْ لَوَازِمُ تَحْرِيمِ الْوَلَدِ. .
(قَوْلُهُ وَكُلُّ صَبِيَّيْنِ) يُرِيدُ صَبِيًّا وَصَبِيَّةً فَغَلَّبَ الْمُذَكَّرَ فِي التَّثْنِيَةِ كَالْقَمَرَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ التَّغْلِيبِ كَالْخِفَّةِ فِي الْعُمَرَيْنِ فَإِنَّ عُمَرَ أَخَفُّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ ثَنَّى نَحْوَ أَبِي بَكْرٍ فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ يَكُونُ بِتَثْنِيَةِ الْمُضَافِ فَيُقَالُ أَبَوَا بَكْرٍ وَالْكُوفِيُّونَ يُثَنُّونَ الْجُزْأَيْنِ فَيَقُولُونَ أَبَوَا بَكْرَيْنِ، وَالشُّهْرَةُ كَالْأَقْرَعَيْنِ لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَأَخِيهِ (قَوْلُهُ وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُرْضَعَةَ)
وَلَا وَلَدُ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَخِيهَا. .
(وَلَا يَتَزَوَّجُ الصَّبِيُّ الْمُرْضَعُ أُخْتَ زَوْجِ الْمُرْضَعَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ مَوْجُودٌ فِيهِ حَقِيقَةً، وَنَحْنُ نَقُولُ
بِفَتْحِ الضَّادِ تُوُورِثَ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا فَاعِلًا فَيُنْصَبُ أَحَدٌ وَمَفْعُولًا فَيُرْفَعُ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ وَلَدِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ رَضَعَ مَعَ الرَّضْعَةِ أَوْ كَانَ سَابِقًا بِالسِّنِّ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ أَوْ مَسْبُوقًا بِارْتِضَاعِهَا بِأَنْ وُلِدَ بَعْدَهَا بِسِنِينَ، وَكَذَا لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهَا خَالَتُهُ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله) فَإِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ اللَّبَنُ قَدْرَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ حَرَّمَ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا الْخَلْطُ بِلَبَنِ الْبَهِيمَةِ وَالدَّوَاءِ عِنْدَهُ وَبِكُلِّ مَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ. وَاعْتَبَرَ مَالِكٌ رضي الله عنه فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ مُسْتَهْلَكًا (قَوْلُهُ هُوَ) أَيْ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه (يَقُولُ إنَّهُ) أَيْ اللَّبَنَ عَلَى ظَاهِرِ نَقْلِ الْمُصَنِّفِ عَنْهُ، وَعَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ الْقَدْرُ الْمُحَرِّمُ (مَوْجُودٌ فِيهِ حَقِيقَةً) فَيَسْتَلْزِمُ حُكْمَهُ مِنْ التَّحْرِيمِ (قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ) حَاصِلُهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَشْرَبَ لَبَنًا فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْحِنْثُ بِشُرْبِهِ مَغْلُوبًا بِالْمَاءِ؛ لِأَنَّ
الْمَغْلُوبُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حُكْمًا حَتَّى لَا يَظْهَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ كَمَا فِي الْيَمِينِ (وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: إذَا كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ قَالَ رضي الله عنه: قَوْلُهُمَا فِيمَا إذَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، حَتَّى لَوْ طَبَخَ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. لَهُمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ إذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الطَّعَامَ أَصْلٌ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ لَهُ فِي حَقِّ الْمَقْصُودِ فَصَارَ كَالْمَغْلُوبِ،
الظَّاهِرَ حُكْمُ الْغَالِبِ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ لِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْقِيَاسِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَغْلُوبِ شَرْعًا لَا عَدَمُ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ حُرْمَةُ شُرْبِ اللَّبَنِ بِلَا ضَرُورَةٍ لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الْفَرْعِ حَلَّ الشُّرْبُ وَالسَّقْيُ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ النِّكَاحِ، وَحِينَئِذٍ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنْ يَقُولَ: بَلْ هُنَاكَ فَارِقٌ وَهُوَ بِنَاءُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ لَا يَعْتَبِرُ الْمَغْلُوبَ، فَلَا يُقَالُ لِشَارِبِ مَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ مَغْلُوبٌ شَرِبَ لَبَنًا إلَّا أَنْ يُقَالَ مَخْلُوطًا فَيُقَيِّدُونَهُ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَالْحُرْمَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ وَالْوَضْعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ وَلَا مَدْفَعَ لِهَذَا، إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا بِالْمَاءِ فَيَكُونُ غَيْرَ مُنْبِتٍ لِذَهَابِ قُوَّتِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَظِنَّةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْخُلُوِّ عَنْ الْمَئِنَّةِ هَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ، أَمَّا لَوْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا عَقِيبَ هَذِهِ، وَقَوْلُهُمَا فِيهَا كَقَوْلِهِمْ فِي الِاخْتِلَاطِ بِالْمَاءِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ وَإِنْ غَلَبَ اللَّبَنُ هَذَا إذَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، أَمَّا إنْ طَبَخَ فَلَا تَحْرِيمَ مُطْلَقًا بِالِاتِّفَاقِ (لَهُمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ فَصَارَ كَالْمَاءِ إذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّ الطَّعَامَ أَصْلٌ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ) وَهُوَ التَّغَذِّي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ خَلْطَ اللَّبَنِ بِالطَّعَامِ لَا يَكُونُ لِلرَّضِيعِ إلَّا بَعْدَ تَعَوُّدِهِ بِالطَّعَامِ وَتَغَذِّيهِ بِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقِلُّ تَغَذِّيهِ بِاللَّبَنِ وَنُشُوئِهِ مِنْهُ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي جَوْفِهِ مَا يُنْبِتُ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ وَهُوَ الطَّعَامُ فَيَصِيرُ الْآخَرُ الرَّقِيقُ مُسْتَهْلَكًا فَلَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّبَنَ غَالِبٌ فِي الْقَصْعَةِ، أَمَّا عِنْدَ رَفْعِ اللُّقْمَةِ إلَى فِيهِ فَأَكْثَرُ الْوَاصِلِ إلَى جَوْفِهِ الطَّعَامُ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ الطَّعَامُ رَقِيقًا يُشْرَبُ اعْتَبَرْنَا غَلَبَةَ اللَّبَنِ إنْ غَلَبَ وَأَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقَاطُرِ اللَّبَنِ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ عَدَمَ إثْبَاتِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله الْحُرْمَةَ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ هُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَاطِرًا عِنْدَ رَفْعِ اللُّقْمَةِ، أَمَّا مَعَهُ فَيَحْرُمُ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقَطْرَةَ إذَا دَخَلَتْ الْجَوْفَ أَثْبَتَتْ التَّحْرِيمَ، وَالصَّحِيحُ
وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقَاطُرِ اللَّبَنِ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّي بِالطَّعَامِ إذْ هُوَ الْأَصْلُ. .
(وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالدَّوَاءِ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ)؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَبْقَى مَقْصُودًا فِيهِ، إذْ الدَّوَاءُ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْوُصُولِ، وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ الشَّاةِ وَهُوَ الْغَالِبُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ (وَإِنْ غَلَبَ لَبَنُ الشَّاةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ) اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ كَمَا فِي الْمَاءِ. .
(وَإِذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله)؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ شَيْئًا وَاحِدًا فَيُجْعَلُ الْأَقَلُّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَزُفَرٌ (يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِهِمَا)؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ
إطْلَاقُ عَدَمِ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّي حِينَئِذٍ بِالطَّعَامِ وَالتَّغَذِّي مَنَاطُ التَّحْرِيمِ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ اخْتَلَطَ) أَيْ اللَّبَنُ بِالدَّوَاءِ. حَاصِلُهُ أَنَّهُ كَالْمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إذَا كَانَ غَالِبًا مَعَ الدَّوَاءِ ظَهَرَ قَصْدَانُ الدَّوَاءِ لِتَنْفِيذِهِ وَعَلَى هَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالدُّهْنِ أَوْ النَّبِيذِ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ سَوَاءٌ أُوجِرَ بِذَلِكَ أَمْ اسْتَعَطَ (قَوْلُهُ وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِلَبَنِ شَاةٍ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِشُرْبِ الصَّغِيرِ إيَّاهُ) أَوْ لَبَنُ الشَّاةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الشَّاةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَانَ كَالْمَاءِ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ، وَلَوْ تَسَاوَيَا وَجَبَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلَكًا.
(قَوْلُهُ وَإِذَا اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِأَغْلَبِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَرِوَايَةٌ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ جَعْلُ الْأَقَلِّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ. وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ جِنْسَهُ فَلَا يُسْتَهْلَكُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا تَبَعًا لِلْآخِرِ فَيَثْبُتُ
مُسْتَهْلَكًا فِي جِنْسِهِ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ.
(وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ النُّشُوءِ فَتَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ. .
(وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ الصَّبِيَّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقُولُ: الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَتِهَا، وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا، وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ. وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ شُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَذَلِكَ فِي اللَّبَنِ لِمَعْنَى الْإِنْشَازِ وَالْإِنْبَاتِ وَهُوَ قَائِمٌ بِاللَّبَنِ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَيِّتَةِ دَفْنًا
التَّحْرِيمُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِقْلَالًا. قَالَ (وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَيْمَانِ) إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنَ هَذِهِ الْبَقَرَةِ فَخَلَطَ لَبَنَهَا بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى فَشَرِبَهُ وَلَبَنُ الْبَقَرَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا مَغْلُوبٌ فَفِي النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَقَالَ شَارِحٌ: عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَصْلًا لِلْخِلَافِ إذَا كَانَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَكَانَ مَيْلُ الْمُصَنِّفِ إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ أَخَّرَ دَلِيلَهُ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ كَلَامُهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ كَانَ الْقَاطِعُ لِلْآخَرِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ السُّكُوتَ ظَاهِرٌ فِي الِانْقِطَاعِ، وَرَجَّحَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرٌ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ النُّشُوءِ) وَعَلَيْهِ الْأَرْبَعَةُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَأَشْبَهَ لَبَنَ الرَّجُلِ. قُلْنَا نُدْرَةُ الْوُجُودِ لَا تَمْنَعُ عَمَلَ الدَّلِيلِ إذَا وُجِدَ، وَسَنَذْكُرُ لَهُ تَتِمَّةً.
(قَوْلُهُ وَإِذَا حَلَبَ لَبَنَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ بِهِ صَبِيٌّ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقُولُ الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى غَيْرِهَا بِوَاسِطَتِهَا وَبِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لَهَا، وَلِهَذَا) أَيْ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ (لَا يُوجِبُ وَطْؤُهَا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ. وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ الْجُزْئِيَّةُ) وَحَاصِلُهُ إلْغَاءُ الْفَارِقِ بَيْنَ الْإِجْمَاعِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً، وَالْخِلَافِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ مَيِّتَةً وَهُوَ مَوْتُهَا؛ لِأَنَّ حَيَاتَهَا لَيْسَ جُزْءَ السَّبَبِ لِتَنْتَفِيَ الْحُرْمَةُ بِانْتِفَائِهِ بَلْ حُصُولُ الْجُزْئِيَّةِ تَمَامُ الْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ» إلَخْ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِلَبَنِ الْمَيِّتَةِ وَالِارْتِضَاعُ تَمَامُ الْعِلَّةِ، وَمَوْتُهَا غَيْرُ مَانِعٍ؛ لِأَنَّ مَانِعِيَّتَهُ إنْ أُضِيفَتْ إلَى انْتِفَاءِ مَحَلِّيَّتِهَا مُطْلَقًا لِلْحُكْمِ
وَتَيَمُّمًا. أَمَّا الْحُرْمَةُ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ مُلَاقِيًا لِمَحَلِّ الْحَرْثِ وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ فَافْتَرَقَا. .
(وَإِذَا احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ كَمَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الصَّوْمِ إصْلَاحُ الْبَدَنِ وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي الدَّوَاءِ. فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فِي الرَّضَاعِ فَمَعْنَى النُّشُوءِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الِاحْتِقَانِ؛ لِأَنَّ الْمُغَذِّي
مَنَعْنَاهُ لِثُبُوتِ بَعْضِهَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِهَذِهِ الصَّبِيَّةِ فِي الْحَالِ حَلَّ لَهُ دَفْنُ الْمَيِّتَةِ وَيَمَّمَهَا؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ أُمُّ زَوْجَتِهِ، وَأَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهَا، حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّضِيعَةِ وَبِنْتِ الْمَيِّتَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُرْمَةِ نِكَاحِهَا فَقَطْ مَنَعْنَا تَأْثِيرَهُ فِي إفَادَةِ الْمَانِعِيَّةِ بَلْ يُفْسِدُهَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ مُطْلَقًا، فَإِنْ بَيَّنَ الْمَانِعِيَّةَ بِأَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ حُرْمَةَ النِّكَاحِ يَثْبُتُ أَوَّلًا فِيهَا ثُمَّ يَتَعَدَّى.
قُلْنَا إنْ أَرَدْت أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِيهَا مَنَعْنَاهُ، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَ اتِّفَاقِ مَحَلِّيَّتِهَا حِينَئِذٍ مَعَ أَنَّ الْحُرْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْكُلِّ مَعًا شَرْعًا، وَالتَّقَدُّمُ فِي الْأُمِّ ذَاتِيٌّ لَا زَمَانِيٌّ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَانِعُ فِي حَقِّهَا ثَبَتَ فِيمَنْ سِوَاهَا، وَلَوْ عَلَّلَ ابْتِدَاءً بِنَجَاسَةِ اللَّبَنِ أَوْ الْحُرْمَةِ كَرَامَةً إذْ فِيهِ تَكْثِيرُ الْأَعْوَانِ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالسَّكَنِ وَبِالْمَوْتِ تَنَجَّسَ، فَإِنْ أَرَادَ عَيْنًا مَنَعْنَاهُ، بَلْ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ الطَّاهِرَةِ طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا تَوْجِيهَهُ بِأَنَّ التَّنَجُّسَ بِالْمَوْتِ لَمَّا حَلَّتْهُ الْحَيَاةُ قَبْلَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي اللَّبَنِ وَقَدْ كَانَ طَاهِرًا فَيَبْقَى كَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُنَجِّسِ إذْ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ سِوَى الْخُرُوجُ مِنْ بَاطِنٍ إلَى ظَاهِرٍ، وَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ الشَّرْعِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ وَصْفِهِ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنَّمَا قَالَا: تَنَجُّسُهُ بِالْمُجَاوَرَةِ لِلْوِعَاءِ النَّجِسِ وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الْحُرْمَةِ، كَمَا لَوْ حَلَبَ فِي إنَاءٍ نَجِسٍ وَأَوْجَرَ بِهِ الصَّبِيَّ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ أَرَادَ التَّنَجُّسَ مَنَعْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالْوَجُورُ: الدَّوَاءُ يُصَبُّ فِي الْحَلْقِ قَسْرًا بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَالسَّعُوطُ صَبُّهُ فِي الْأَنْفِ. وَيُقَالُ أَوْجَرْته وَوَجْرَتهُ (قَوْلُهُ أَمَّا الْحُرْمَةُ فِي الْوَطْءِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى عَدَمِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْئِهَا بِالْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ الْحُرْمَةِ فِي الرَّضَاعِ الْإِنْبَاتُ وَالنُّشُوءُ بِوَاسِطَةِ التَّغَذِّي وَفِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْوَلَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ تُتَصَوَّرُ الْجُزْئِيَّةُ، بِخِلَافِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي ارْتِضَاعِ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا احْتَقَنَ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الصَّوَابُ حَقَنَ إذَا عُولِجَ بِالْحُقْنَةِ وَاحْتُقِنَ بِالضَّمِّ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لَكِنْ ذَكَرَ فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ الِاحْتِقَانُ حَقَنَهُ فَدَرَنَ فَجَعَلَهُ مُتَعَدِّيًا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ انْتَهَى. يُرِيدُ أَنَّ مَنْعَ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي وَإِذْ قَدْ نَصَّ صَاحِبُ تَاجِ الْمَصَادِرِ عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ لَمْ يَكُنْ بِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ خَطَأً، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مَا فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ مِنْ التَّفْسِيرِ لَا يُفِيدُ تَعْدِيَةَ الِافْتِعَالِ مِنْهُ لِلْمَفْعُولِ الصَّرِيحِ كَالصَّبِيِّ فِي عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا احْتَقَنَ الصَّبِيُّ بَلْ إلَى الْحُقْنَةِ وَهِيَ آلَةُ الِاحْتِقَانِ وَالْكَلَامُ فِي بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ الصَّبِيُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ قَاصِرٍ يَجُوزُ بِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْرُورِ وَالظَّرْفِ كَجَلَسَ فِي الدَّارِ وَمَرَّ بِزَيْدٍ.
وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ الْآلَةِ وَالظَّرْفِ جَوَازُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَفْعُولِ، بَلْ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَيْهِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ الِاحْتِقَانُ بِاللَّبَنِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ بِالْإِقْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ وَالْأُذُنِ وَالْجَائِفَةِ وَالْآمَّةِ كَذَا أَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ. وَنَصَّ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِالْحُقْنَةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَنَاطَ طَرِيقُ الْجُزْئِيَّةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْوَاصِلِ مِنْ السَّافِلِ بَلْ إلَى الْمَعِدَةِ
وُصُولُهُ مِنْ الْأَعْلَى. .
(وَإِذَا نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّشُوءُ وَالنُّمُوُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ. .
(وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحْرِيمُ)؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا.
وَذَلِكَ مِنْ الْأَعْلَى فَقَطْ، وَالْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ غَايَةُ مَا يَصِلُ إلَى الْمَثَانَةِ فَلَا يَتَغَذَّى بِهِ الصَّبِيُّ، وَكَذَا فِي الْأُذُنِ لِضِيقِ الثُّقْبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِتَصْرِيحِهِمْ بِالْفِطْرِ بِإِقْطَارِ الدُّهْنِ فِي الْأُذُنِ لِسَرَيَانِهِ فَيَصِلُ إلَى بَاطِنِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ ضِيقٌ.
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ لَيْسَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ وَيُنْبِتُ وَإِنْ حَصَلَ بِهِ رِفْقٌ مِنْ تَرْطِيبٍ وَنَحْوِهِ، وَالْمُفْسِدُ فِي الصَّوْمِ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَصَى وَالْحَدِيدِ، وَالْوَجُورُ وَالسَّعُوطُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ اتِّفَاقًا.
(قَوْلُهُ وَإِذَا نَزَلَ لِلرَّجُلِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيَّةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَحْرِيمٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى التَّحْقِيقِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّشُوءُ وَالنُّمُوُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ) وَقَدْ يُذْكَرُ فِي بَعْضِ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُ اتَّفَقَ لِرَجُلٍ إرْضَاعُ صَغِيرٍ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ لَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لِبِكْرٍ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْبُلُوغِ لَبَنٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَبَنًا، كَمَا لَوْ نَزَلَ لِلْبِكْرِ مَاءٌ أَصْفَرُ لَا يَثْبُتُ مِنْ إرْضَاعِهِ تَحْرِيمٌ. وَالْوَجْهُ الْفَرْقُ بِعَدَمِ التَّصَوُّرِ مُطْلَقًا، فَإِذَا تَحَقَّقَ لَبَنًا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ دَائِمًا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا شَرِبَ صَبِيَّانِ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ فَلَا رَضَاعَ مُحَرِّمٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهَا) اعْلَمْ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ لِلْجُزْئِيَّةِ فَإِنَّ الْوَطْءَ ابْتِذَالٌ وَامْتِهَانٌ وَإِرْقَاقٌ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ» وَلَا يَحْسُنُ صُدُورُهُ مِنْ مُسْتَفِيدِ جُزْءٍ بِنَفْسِهِ وَحَيَاتِهِ لِمُفِيدِهَا إذَا كَانَ الرَّضِيعُ صَبِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرْضِعَةِ تَكْرِمَةً لَهَا، وَجُعِلَتْ فِي الشَّرْعِ أُمًّا لَهُ بِسَبَبِ أَنَّ جُزْأَهَا صَارَ جُزْأَهُ كَمَا أَنَّ الْأُمَّ مِنْ النَّسَبِ كَذَلِكَ إذْ جُزْؤُهُ جُزْأَهَا وَجُزْؤُهُ الْآخَرُ جُزْءَ الْأَبِ، وَالْبَهَائِمُ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي اعْتِبَارِ خَالِقِهَا جَلَّ ذِكْرُهُ فَإِنَّمَا خَلَقَهَا لِابْتِذَالِ
وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حُرِّمَتَا عَلَى الزَّوْجِ)؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ رَضَاعًا وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا (ثُمَّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَا مَهْرَ لَهَا)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا
الْآدَمِيِّ لَهَا عَلَى إنْحَاءِ الِابْتِذَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ مَالِكِهَا سُبْحَانَهُ، قَالَ تَعَالَى {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَالْحَكِيمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعَلِيمُ بِالْقَوَابِلِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ التَّفْضِيلُ الدُّنْيَوِيُّ، فَلَمْ يُثْبِتْ سُبْحَانَهُ بِوَاسِطَةِ الِاغْتِذَاءِ بِلَبَنِهَا، بَلْ وَلَحْمِهَا وَحُصُولُ الْجُزْءِ مِنْهُ مَزِيَّةٌ لَهَا عَلَى الْآدَمِيِّ تُوجِبُ مِثْلَ مَا تُوجِبُ لِمُسَاوِيهِ فِي نَوْعِهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ، فَلَمْ تُعْتَبَرُ الشَّاةُ أُمَّ الصَّبِيِّ وَإِلَّا لَكَانَ الْكَبْشُ أَبَاهُ، وَالْأُخْتِيَّةُ فَرْعُ الْأُمِّيَّةِ، وَكَذَا سَائِرُ الْحُرُمِ بَعْدَهَا إنَّمَا تَثْبُتُ بِتَبَعِيَّةِ الْأُمِّيَّةِ حَتَّى الْأَبَوِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا جُزْءَ فِي الرَّضِيعِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْأَبِ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ جُزْأَهُ انْفَصَلَ فِي وَلَدِهِ الَّذِي نَزَلَ اللَّبَنُ بِسَبَبِهِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْهُ بِحَيْثُ يَكُونُ فِي لَبَنِهَا جُزْءٌ مِنْهُ فَكَيْفَ وَاللَّبَنُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْغِذَاءِ، وَالْكَائِنُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ إنَّمَا يَصِلُ مِنْ أَسْفَلَ وَالتَّغَذِّي لِبَقَاءِ الْحَيَاةِ وَالْجُزْءُ لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّا يَصِلُ مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْمَعِدَةِ وَلَكِنْ لَمَّا أَثْبَتَ الشَّرْعُ أُمِّيَّةَ زَوْجَتِهِ عَنْ إرْضَاعِ لَبَنٍ هُوَ سَبَبٌ فِيهِ أَثْبَتَ لَهُوِيَّةِ الرَّجُلِ الْأُبُوَّةَ وَحِينَ لَا أُمَّ وَلَا أَبَ فَلَا إخْوَةَ وَلَا تَحْرِيمَ. وَنُقِلَ أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ صَاحِبَ الصَّحِيحِ أَفْتَى فِي بُخَارَى بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ صَبِيَّيْنِ ارْتَضَعَا شَاةً فَاجْتَمَعَ عُلَمَاؤُهَا عَلَيْهِ وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ مِنْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَمَنْ لَمْ يَدِقَّ نَظَرُهُ فِي مُنَاطَاتِ الْأَحْكَامِ وَحِكَمِهَا كَثُرَ خَطَؤُهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ وَمَوْلِدُهُ مَوْلِدُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمَا مَعًا وُلِدَا فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ عَامُ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ صَغِيرَةً رَضِيعَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حُرِّمَتَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَسَبًا) ثُمَّ حُرْمَةُ الْكَبِيرَةِ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ امْرَأَتِهِ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ. وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ الَّذِي أَرْضَعَتْهَا بِهِ الْكَبِيرَةُ نَزَلَ لَهَا مِنْ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ لِلرَّجُلِ كَانَتْ حُرْمَتُهَا أَيْضًا مُؤَبَّدَةً كَالْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَبًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ نَزَلَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ قَبْلَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ هَذَا الرَّجُلَ وَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ مِنْ الْأَوَّلِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثَانِيًا لِانْتِفَاءِ أُبُوَّتِهِ لَهَا، إلَّا إنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ فَيَتَأَبَّدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ، وَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَلَا يَجِبُ لِلْكَبِيرَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِنِصْفِ الْمَهْرِ كَرِدَّتِهَا وَتَقْبِيلِهَا ابْنَ الزَّوْجِ، وَتَعْلِيلُ السُّقُوطِ بِإِضَافَةِ الْفُرْقَةِ إلَيْهَا يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَوْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ نَائِمَةً فَارْتَضَعَتْهَا الصَّغِيرَةُ أَوْ أَخَذَ شَخْصٌ لَبَنَهَا فَأَوْجَرَ بِهِ الصَّغِيرَةَ أَوْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ مَجْنُونَةً كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ لِانْتِفَاءِ إضَافَةِ الْفُرْقَةِ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ لَكِنْ لَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ لَهَا لِجِنَايَتِهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مَجْنُونَةً وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ بِالرَّضِيعَةِ فَعَلَيْهِ لَهَا نِصْفُ مَهْرِهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلَهَا وَبِهِ وَقَعَ الْفَسَادُ لَكِنَّ فِعْلَهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا
قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا (وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ)؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالِارْتِضَاعُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مِنْهَا لَكِنَّ فِعْلَهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا كَمَا إذَا قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا (وَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ بِهِ الْفَسَادَ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ عَلِمَتْ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ امْرَأَتُهُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَكِنَّهَا مُسَبَّبَةٌ فِيهِ إمَّا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ لَيْسَ بِإِفْسَادٍ لِلنِّكَاحِ وَضْعًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ،
لِعَدَمِ خِطَابِهَا بِالْأَحْكَامِ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلَتْ مُوَرِّثَهَا فَإِنَّهَا تَرِثُهُ وَلَا يَكُونُ قَتْلُهَا مُوجِبًا لِحِرْمَانِهَا شَرْعًا، وَلِأَنَّهَا مَجْبُورَةٌ بِحُكْمِ الطَّبْعِ عَلَى الِارْتِضَاعِ، وَالْكَبِيرَةُ فِي إلْقَامِهَا الثَّدْيَ مُخْتَارَةٌ فَصَارَ كَمَنْ أَلْقَى حَيَّةً عَلَى إنْسَانٍ فَلَسَعَتْهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ اللَّسْعَ لَهَا طَبْعٌ فَأُضِيفَ إلَيْهِ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ ارْتَدَّ أَبَوَا صَغِيرَةٍ مَنْكُوحَةٍ وَلَحِقَا بِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ وَلَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْهَا أَصْلًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ وُجِدَ وَلَمْ يُعْتَبَرْ. أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّدَّةَ مَحْظُورَةٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا عَلَى مَا مَرَّ، وَإِضَافَةُ الْحُرْمَةِ إلَى رِدَّتِهَا التَّابِعَةِ لِرِدَّةِ أَبَوَيْهَا، بِخِلَافِ الِارْتِضَاعِ لَا حَاظِرَ لَهُ فَتَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ. وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ؟ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا وَإِلَّا لَا يَرْجِعُ، وَتَعَمُّدُهُ بِأَنْ تَعْلَمَ قِيَامَ النِّكَاحِ وَأَنَّ الرَّضَاعَ مِنْهَا مُفْسِدٌ وَتَتَعَمَّدُهُ لَا لِدَفْعِ الْجُوعِ أَوْ الْهَلَاكِ عِنْدَ خَوْفِ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ النِّكَاحَ أَوْ عَلِمَتْهُ وَلَمْ تَعْلَمْهُ مُفْسِدًا أَوْ عَلِمَتْهُ مُفْسِدًا وَلَكِنْ خَافَتْ الْهَلَاكَ أَوْ قَصَدَتْ دَفْعَ الْجُوعِ لَا يَرْجِعُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَبِيرَةِ
أَوْ لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِسُقُوطِهِ، إلَّا أَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى
فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفَ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَا إذَا قَصَدَتْ الْفَسَادَ وَمَا إذَا لَمْ تَقْصِدْهُ. وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهَا: أَيْ الْكَبِيرَةَ وَإِنْ أَكَّدَتْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ بِأَنْ تَكْبَرَ الصَّغِيرَةُ فَتَفْعَلَ مَا يُسْقِطُهُ، وَذَلِكَ أَيْ تَأَكُّدُ مَا هُوَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا يَضْمَنُونَ نِصْفَ الْمَهْرِ لِذَلِكَ لَكِنَّهَا مُسَبِّبَةٌ فِيهِ لَا مُبَاشِرَةٌ؛ لِأَنَّ إلْقَامَ الثَّدْيِ شَرْطٌ لِلْفَسَادِ لَا عِلَّةٌ لَهُ، بَلْ الْعِلَّةُ فِعْلُ الصَّغِيرَةِ الِارْتِضَاعَ فَكَانَتْ الْكَبِيرَةُ مُبَاشِرَةً لِلشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، غَيْرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ بَيَّنَ كَوْنَهَا مُسَبِّبَةً بِأَنَّ فِعْلَ الْإِرْضَاعِ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِإِفْسَادِ النِّكَاحِ بَلْ لِتَغْذِيَةِ الصَّغِيرِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِاتِّفَاقِ صَيْرُورَتِهِمَا أُمًّا وَبِنْتًا تَحْتَ رَجُلٍ.
وَإِمَّا لِأَنَّ إفْسَادَ النِّكَاحِ الْكَائِنِ بِصُنْعِهَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ شَرْعًا بَلْ لِإِسْقَاطِهِ، ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ وُجُوبَهُ لَا بِقِيَاسٍ بَلْ بِالنَّصِّ ابْتِدَاءً جَبْرًا لِلْإِيحَاشِ وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ، لَكِنْ مِنْ شَرْطِهِ بُطْلَانُ النِّكَاحِ، وَقَدْ وُجِدَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّرْدِيدَ بِعَيْنِهِ يَجْرِي فِي مُبَاشَرَةِ الْعِلَّةِ بِأَنْ يُقَالَ: الِارْتِضَاعُ لَيْسَ بِإِفْسَادِ النِّكَاحِ وَضْعًا، وَالْإِفْسَادُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإِلْزَامِ الْمَهْرِ شَرْعًا بَلْ لِإِسْقَاطِهِ إلَخْ، وَلَيْسَ هُوَ مُسَبِّبًا فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا مَا بَيَّنَّاهُ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبِّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ: أَيْ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ التَّعَدِّي كَحَفْرِ الْبِئْرِ تَسْبِيبٌ لِلْهَلَاكِ، فَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ضَمِنَهُ لِلتَّعَدِّي فِيهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً بِمَجْمُوعِ الْعِلْمَيْنِ وَالْقَصْدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَوْجِيهَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى مُحَمَّدٍ إذَا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُسَبِّبَ كَالْمُبَاشِرِ وَلِهَذَا جَعَلَ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ وَحَلِّ قَيْدِ الْآبِقِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا أَنَّهُ مُسَبِّبٌ فَيُشْتَرَطُ التَّعَدِّي وَهُوَ لَا يَلْتَزِمُ اشْتِرَاطَ التَّعَدِّي فِيهِ وَإِنَّمَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّ الْمُسَبِّبَ لَا يَلْحَقُ بِالْمُبَاشِرِ. هَذَا وَاسْتُشْكِلَ التَّغْرِيمُ بِقَصْدِ الْفَسَادِ بِمَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ زَوْجَةَ
مَا عُرِفَ، لَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ إبْطَالَ النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَتْ مُسَبَّبَةً يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي كَحَفْرِ الْبِئْرِ ثُمَّ إنَّمَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَقَصَدَتْ بِالْإِرْضَاعِ الْفَسَادَ، أَمَّا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ أَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَكِنَّهَا قَصَدَتْ دَفْعَ الْجُوعِ وَالْهَلَاكِ عَنْ الصَّغِيرَةِ دُونَ الْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً أَيْضًا، وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ. .
آخَرَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَى الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ قَتْلَهُ مُسْتَعْقِبٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ بِقَتْلِ وَاحِدٍ، وَلِلزَّوْجِ نَصِيبٌ مِمَّا هُوَ الْوَاجِبُ فَلَا يُضَاعَفُ عَلَيْهِ، وَبِمَا إذَا أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّتَانِ لَهُمَا لَبَنٌ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ صَغِيرَتَيْنِ تَحْتَ رَجُلٍ حُرِّمَتَا عَلَى زَوْجِهِمَا وَلَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا وَإِنْ تَعَمَّدَتَا الْفَسَادَ.
وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ فِعْلَ الْكَبِيرَةِ هُنَا مُسْتَقِلٌّ بِالْإِفْسَادِ فَيُضَافُ الْإِفْسَادُ إلَيْهَا، وَفِعْلُ كُلٍّ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِهِ فَلَا يُضَافُ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَهُوَ يَقُومُ بِالْكَبِيرَةِ، وَقَدْ حُرِّفَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَوَقَعَ فِيهَا الْخَطَأُ وَذَلِكَ بِأَنْ قِيلَ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَتَانِ لَهُمَا مِنْهُ لَبَنٌ مَكَانَ قَوْلِنَا لَهُمَا لَبَنٌ مِنْ رَجُلٍ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الصَّوَابُ الضَّمَانُ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَفْسَدَتْ لِصَيْرُورَةِ كُلٍّ بِنْتًا لِلزَّوْجِ.
(قَوْلُهُ وَهَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ إلَخْ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِالْأَحْكَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَكُمْ لَيْسَ عُذْرًا، فَقَالَ هَذَا مِنَّا اعْتِبَارُ الْجَهْلِ لِدَفْعِ قَصْدِ الْفَسَادِ الَّذِي هُوَ الْمَحْظُورُ الدِّينِيُّ لَا لِدَفْعِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا انْدَفَعَ قَصْدُ الْفَسَادِ انْتَفَى الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِثُبُوتِ التَّعَدِّي كَمَا قُلْنَا وَالتَّعَدِّي بِهِ يَكُونُ وَلَا يُتَصَوَّرُ قَصْدُهُ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِلْجَهْلِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ تَضْمَنُ إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْإِرْضَاعَ مُفْسِدٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْذَرُ بِجَهْلِ الْحُكْمِ، وَمِنْ فُرُوع هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ فَأَرْضَعَتْهُمَا أَجْنَبِيَّةٌ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ حُرِّمَتَا، فَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ بِأَنْ أَلْقَمَتْ ثِنْتَيْنِ ثَدْيَيْهَا وَأَوْجَرَتْ الْأُخْرَى مَا حَلَبَتْهُ حُرِّمْنَ أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ بَانَتْ الْأُولَيَانِ وَالثَّالِثَةُ امْرَأَتُهُ
وَلَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ. وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ
لِأَنَّهُنَّ حِينَ ارْتَضَعَتَا حُرِّمَتَا فَحِينَ ارْتَضَعَتْ الثَّالِثَةُ لَمْ يَكُنْ فِي عِصْمَتِهِ سِوَاهَا، وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا أَوْ وَاحِدَةً ثُمَّ الثَّلَاثَ مَعًا حُرِّمْنَ، وَكَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُخْرَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهُمَا، وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا الْكَبِيرَةُ عَلَى التَّعَاقُبِ بَقِيَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْهَا لَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا، وَالسَّابِقُ عَقْدٌ مُجَرَّدٌ عَلَى الْأُمِّ فَلَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ، وَلَوْ كُنَّ كَبِيرَتَيْنِ وَصَغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْ كُلٌّ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ صَغِيرَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْأَرْبَعُ لِلُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمَّيْنِ وَبِنْتَيْهِمَا، وَلَوْ أَرْضَعَتْ إحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ الصَّغِيرَتَيْنِ ثُمَّ أَرْضَعَتْهُمَا الْكَبِيرَةُ الْأُخْرَى وَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْكَبِيرَتَيْنِ، فَالْكُبْرَى الْأُولَى مَعَ الصُّغْرَى الْأُولَى بَانَتَا مِنْهُ لِمَا قُلْنَا، وَالصُّغْرَى الثَّانِيَةُ لَمْ تَبِنْ بِإِرْضَاعِ الْكُبْرَى الْأُولَى، وَالْكُبْرَى الثَّانِيَةُ إنْ ابْتَدَأَتْ بِإِرْضَاعِ الصُّغْرَى الثَّانِيَةِ بَانَتَا مِنْهُ، أَوْ بِالصُّغْرَى الْأُولَى فَالصُّغْرَى الثَّانِيَةُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ أُمًّا لَهَا وَفَسَدَ نِكَاحُهَا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى الصُّغْرَى الْأُولَى فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا
(قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ) أَيْ عَنْ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَالَةِ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ. وَاَلَّذِي فِي كُتُبِهِمْ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى ثَدْيِ الْأَجْنَبِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لِلِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ فَهِيَ أَمْرٌ دِينِيٌّ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ فَإِنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ بِإِخْبَارِهِ، ثُمَّ يَثْبُتُ زَوَالُ الْمِلْكِ فِي ضِمْنِهِ، كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا بِطَرِيقٍ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا قَصْدًا، وَلِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا» وَعُقْبَةُ هَذَا يُكْنَى أَبَا سِرْوَعَةَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ تُقْبَلُ الْوَاحِدَةُ الْمُرْضِعَةُ وَاعْتِبَارُ ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا يُوجِبُ جَوَازَ قَبُولِ الْأَمَةِ.
وَرُوِيَ مُطَوَّلًا فِي التِّرْمِذِيِّ، وَفِيهِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَفِيهِ قَوْلُ عُقْبَةَ «فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ أَرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْتُ إنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: وَكَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْكِ» وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ
وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ تَنْفَكُّ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فَاعْتُبِرَ أَمْرًا دِينِيًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ بِالْحَيْضِ وَنَحْوِهِ وَالْأَمْلَاكُ لَا تُزَالُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ اللَّحْمِ حَيْثُ يَنْفَكُّ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ كَالْخَمْرِ مَمْلُوكِيَّتُهُ مُحَرَّمَةٌ وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَإِذَا كَانَتْ الْحُرْمَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الْمِلْكِ فَالشَّهَادَةُ قَائِمَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُرْمَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ، أَمَّا الْحَدِيثُ فَكَانَ لِلتَّوَرُّعِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَقِيلَ فِي الثَّانِيَةِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ لَأَجَابَهُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، إذَا الْإِعْرَاضُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْكُ السَّائِلِ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَفِيهِ تَقْرِيرٌ عَلَى الْمُحَرَّمِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِظُهُورِ اطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ بِخَبَرِهَا لَا مِنْ بَابِ الْحُكْمِ، وَكَوْنُهَا كَاذِبَةً حَمْقَاءَ عَلَى مَا قِيلَ لَا يَنْفِي اطْمِئْنَانَ النَّفْسِ بِخَبَرِهَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْبَلَاهَةِ يُقَارِنُهَا بِحَسَبِ الْغَالِبِ عَدَمُ الْخُبْثِ الَّذِي عَنْهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْقَدْرِ لَا فِي الْجُنُونِ.
وَقَدْ قُلْنَا: إنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ صِدْقُهَا يُسْتَحَبُّ التَّنَزُّهُ وَلَوْ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَكَذَا إذَا شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَقَوْلُهُمْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ الْمَحَارِمَ مِنْ الرِّجَالِ يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا الرَّضَاعَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إلْقَامِ الثَّدْيِ لِجَوَازِ حُصُولِهَا بِالْوَجُورِ وَالسَّعُوطِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مِثْلُ قَوْلِنَا. وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ شَهِدَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْعَقْدِ، قِيلَ يُعْتَبَرُ فِي رِوَايَةٍ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي رِوَايَةٍ.
[فُرُوعٌ]
قَالَ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ أُمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ أُخْتِي أَوْ بِنْتِي مِنْ الرَّضَاعِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ أَخْطَأْتُ أَوْ نَسِيَتْ، إنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنْ قَالَ بَعْدَهُ هُوَ حَقٌّ أَوْ كَمَا قُلْت فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَنْفَعُهُ جُحُودُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالنِّكَاحُ بَاقٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ إنَّمَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِشَرْطِ الثَّبَاتِ، وَتَفْسِيرُ الثَّبَاتِ مَا ذَكَرْنَا، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ مِمَّا يَخْفَى عَنْ الْإِنْسَانِ فَالتَّنَاقُضُ فِيهِ مُطْلَقًا لَا يَمْنَعُ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بَعْدَ التَّرَوِّي فَيُعْذَرُ قَبْلَهُ وَلَا يُعْذَرُ بَعْدَهُ، وَهَذَا فِي النَّسَبِ فِيمَنْ لَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ وَأَنْكَرَ هُوَ ثُمَّ قَالَتْ أَخْطَأْت فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحْلِفُ الزَّوْجُ عَلَى الْعِلْمِ فِي قَوْلٍ وَعَلَى الْبَتَاتِ فِي قَوْلٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تُكَذِّبَ نَفْسَهَا جَازَ وَلَا تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ عَلَى قَوْلِهَا. بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ الرَّجُلُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُهَا. قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَقَرَّتْ بِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ رَجُلٍ حَلَّ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ انْتَهَى. وَكَانَ وَجْهُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ الزَّوْجُ فِي غَيْبَتِهَا وَحُضُورِهَا فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخَفَاءُ فَصَحَّ رُجُوعُهَا عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ قَبْلَ التَّرَوِّي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الطَّلَاقِ
كِتَابُ الطَّلَاقِ
لَمَّا فَرَغَ مِنْ النِّكَاحِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهِ اللَّازِمَةِ عِنْدَ وُجُودِهِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ وَهِيَ أَحْكَامُ الرَّضَاعِ شَرَعَ يَذْكُرُ مَا بِهِ يَرْتَفِعُ لِأَنَّهُ فَرْعٌ تَقَدَّمَ وُجُودُهُ وَاسْتِعْقَابُ أَحْكَامِهِ، وَأَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّضَاعِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ إلَّا أَنَّ مَا بِالرَّضَاعِ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ، وَمَا بِالطَّلَاقِ مُغَيًّا بِغَايَةٍ مَعْلُومَةٍ فَقَدَّمَ بَيَانَ الْحُكْمِ الْأَشَدِّ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْأَخَفِّ، وَأَيْضًا التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ يُنَاسِبُهُ التَّرْتِيبُ الْوَضْعِيُّ، وَالنِّكَاحُ سَابِقٌ فِي الْوُجُودِ بِأَحْكَامِهِ وَيَتْلُوهُ الطَّلَاقُ فَأَوْجَدَهُ فِي التَّعْلِيمِ كَذَلِكَ. وَالطَّلَاقُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّطْلِيقُ كَالسَّلَامِ وَالسَّرَاحِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسْرِيحِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أَيْ التَّطْلِيقُ، أَوْ هُوَ مَصْدَرُ طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ أَوْ فَتْحِهَا طَلَاقًا كَالْفَسَادِ.
وَعَنْ الْأَخْفَشِ نَفْيُ الضَّمِّ. وَفِي دِيوَانِ الْأَدَبِ إنَّهُ لُغَةٌ، وَالطَّلَاقُ لُغَةً رَفْعُ الْوَثَاقِ مُطْلَقًا، وَاسْتُعْمِلَ فِعْلُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْأَفْعَالِ أَطْلَقْت بَعِيرِي وَأَسِيرِي، وَفِيهِ مِنْ التَّفْعِيلِ طَلَّقْت امْرَأَتِي، يُقَالُ ذَلِكَ إخْبَارًا عَنْ أَوَّلِ طَلْقَةٍ أَوْقَعَهَا، فَإِنْ قَالَهُ ثَانِيَةً فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّأْكِيدُ، أَمَّا إذَا قَالَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَلِلتَّكْثِيرِ كَغَلَّقْتِ الْأَبْوَابَ. وَفِي الشَّرْعِ رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَادَّةِ ط ل اق صَرِيحًا كَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ كِنَايَةً كَمُطْلَقَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَهِجَاءِ طَالِقٍ بِلَا تَرْكِيبٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي وَغَيْرِهِمَا كَقَوْلِ الْقَاضِي فَرَّقْت بَيْنَهُمَا عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ وَالْعُنَّةِ وَاللِّعَانِ وَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلرَّجْعَةِ وَالْبَيْنُونَةِ وَلَفْظِ الْخُلْعِ فَخَرَجَ تَفْرِيقُ الْقَاضِي فِي إبَائِهَا وَرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَخِيَارُ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ الْمَهْرِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ طَلَاقًا، فَقَوْلُ بَعْضِهِمْ رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِصِدْقِهِ عَلَى الْفُسُوخِ وَمُشْتَمِلٌ عَلَى مَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ مِنْ شَرْطِ وُجُودِهِ لَا دَخْلَ لَهُ فِي حَقِيقَتِهِ وَالتَّعْرِيفُ لِمُجَرَّدِهَا
وَرُكْنُهُ نَفْسُ اللَّفْظِ.
وَأَمَّا سَبَبُهُ فَالْحَاجَةُ إلَى الْخَلَاصِ عِنْدَ تَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَعُرُوضِ الْبَغْضَاءِ الْمُوجِبَةِ عَدَمَ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَرَعَهُ رَحْمَةً مِنْهُ سبحانه وتعالى. وَشَرْطُهُ فِي الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا مُسْتَيْقِظًا، وَفِي الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَتَهُ أَوْ فِي عِدَّتِهِ الَّتِي تَصْلُحُ مَعَهَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ. وَضَبْطُهَا فِي الْمُحِيطِ فَقَالَ: الْمُعْتَدَّةُ بِعِدَّةِ الطَّلَاقِ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ، وَالْمُعْتَدَّةُ بِعِدَّةِ الْوَطْءِ لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ غَيْرُ حَاصِرٍ إذْ تَتَحَقَّقُ الْعِدَّةُ دُونَهُمَا كَمَا لَوْ عَرَضَ فَسْخٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِخِيَارٍ بَعْدَ مُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَلْحَقَ الْخَلْوَةُ بِالْوَطْءِ، فَكَأَنَّهَا هُوَ وَفِيهِ تَسَاهُلٌ، ثُمَّ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ عِدَّةٍ عَنْ فَسْخٍ بِعُرُوضِ حُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ أَوْ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ لَا يَقَعُ فِيهَا طَلَاقٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ فِي الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ، كَمَا إذَا عَرَضَتْ الْحُرْمَةُ بِتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ حِينَئِذٍ فِي اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّتُ بِغَايَةٍ لِيُفِيدَ الطَّلَاقَ فَائِدَتُهُ. وَأَمَّا فِي الْفَسْخِ بِغَيْرِهَا فَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْعِدَّةِ مِنْ خِيَارِ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَكَذَا بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ الْمَهْرِ، وَعَلَى هَذَا إذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لَا يَقَعُ طَلَاقُ الزَّوْجِ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْبِيَّ إذَا كَانَ الزَّوْجُ فَلَا عِدَّةَ عَلَى زَوْجَتِهِ الْحَرْبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فَكَذَلِكَ لِحِلِّهَا لِلسَّابِي بِالِاسْتِبْرَاءِ.
وَمِثْلُهُ لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِمُهَاجَرَةِ أَحَدِهِمَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَا يَقَعُ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ فَلَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَهِيَ عِدَّةٌ لَا تُوجِبُ مِلْكَ يَدٍ إذْ لَا يَدَ لِلْحَرْبِيِّ، وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ مِلْكُ الْيَدِ فَكَانَتْ كَالْعِدَّةِ عَنْ الْفُرْقَةِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَكَذَا لَوْ خَرَجَ الزَّوْجَانِ مُسْتَأْمَنَيْنِ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَإِذَا حَاضَتْهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلَا طَلَاقٍ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْمُصِرَّ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الرُّجُوعِ، إلَّا أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الذِّمِّيَّيْنِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِإِبَاءِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْآبِيَةَ مَعَ أَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَاكَ فَسْخٌ، وَبِهِ يُنْتَقَضُ مَا قِيلَ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ، وَيُنْتَقَضُ أَيْضًا بِالْمُرْتَدِّ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ مَعَ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِرِدَّتِهِ فَسْخٌ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَهِيَ فَسْخٌ اتِّفَاقًا، وَيَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَحَلِّيَّتِهَا لِلطَّلَاقِ لَوْ هَاجَرَتْ فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ فَهَاجَرَ بَعْدَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى قَوْلِهِمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَطَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَقَعُ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ اشْتَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا: يَعْنِي فَأَعْتَقَتْهُ، فَحَكَى الْخِلَافَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى عَكْسِ مَا حَكَاهُ فِي الْمَنْظُومَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ اتِّفَاقًا.
فَلَوْ عَادَ وَهِيَ بَعْدُ فِي الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَهُمَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ فَمَا إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْحَرْبِيِّ وَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَيْثُ يَتَأَخَّرُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا إلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ أُخْرَى وَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ، وَلِهَذَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْفُرْقَةَ لَيْسَتْ لِلتَّبَايُنِ بَلْ لِلْإِبَاءِ إلَّا أَنَّ الْمُدَّةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ إبَائِهِ بَعْدَ الْعَرْضِ فَلِذَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ.
وَأَمَّا وَصْفُهُ فَهُوَ أَبْغَضُ الْمُبَاحَاتِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «إنَّ أَبْغَضَ الْمُبَاحَاتِ عِنْدَ اللَّهِ الطَّلَاقُ» فَنَصَّ عَلَى إبَاحَتِهِ وَكَوْنِهِ مَبْغُوضًا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرَتُّبَ لَازِمِ الْمَكْرُوهِ الشَّرْعِيِّ إلَّا لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالْبُغْضِ إلَّا لَوْ لَمْ يَصِفْهُ بِالْإِبَاحَةِ لَكِنَّهُ وَصَفَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَعْدَمَا أُضِيفَ إلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مَبْغُوضٌ إلَيْهِ سبحانه وتعالى وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَا رُتِّبَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَدَلِيلُ نَفْيِ الْكَرَاهَةِ قَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ
بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ)
النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} وَطَلَاقُهُ صلى الله عليه وسلم حَفْصَةَ ثُمَّ أَمَرَهُ سبحانه وتعالى أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ لَا يُبَاحُ إلَّا لِكِبَرٍ كَطَلَاقِ سَوْدَةَ أَوْ رِيبَةٍ فَإِنَّ طَلَاقَهُ حَفْصَةَ لَمْ يُقْرَنْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ «لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ» فَمَحْمَلُهُ الطَّلَاقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ نُشُوزٍ فَعَلَيْهَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَهُمْ فِيمَا سَيَأْتِي مِنْ التَّعَالِيلِ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَلِلْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ مَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ سَبَبِهِ فَبَيْنَ الْحُكْمَيْنِ مِنْهُمْ تَدَافُعٌ، وَالْأَصَحُّ حَظْرُهُ إلَّا لِحَاجَةٍ لِلْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُحْمَلُ لَفْظُ الْمُبَاحِ عَلَى مَا أُبِيحَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ: أَعْنِي أَوْقَاتِ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ الْمُبِيحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد «مَا أَحَلَّ اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضُ إلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ» وَإِنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ فِي الزَّمَانِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْكِبَرِ وَالرِّيبَةِ، فَمِنْ الْحَاجَةِ الْمُبِيحَةِ أَنْ يُلْقَى إلَيْهِ عَدَمُ اشْتِهَائِهَا بِحَيْثُ يَعْجِزُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِإِكْرَاهِهِ نَفْسَهُ عَلَى جِمَاعِهَا، فَهَذَا إذَا وَقَعَ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى طَوْلِ غَيْرِهَا مَعَ اسْتِبْقَائِهَا وَرَضِيَتْ بِإِقَامَتِهَا فِي عِصْمَتِهِ بِلَا وَطْءٍ أَوْ بِلَا قَسْمٍ فَيُكْرَهُ طَلَاقُهُ كَمَا كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَوْدَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى طَوْلِهَا أَوْ لَمْ تَرْضَ هِيَ بِتَرْكِ حَقِّهَا فَهُوَ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَكَانَ قِيلَ لَهُ فِي كَثْرَةِ تَزَوُّجِهِ وَطَلَاقِهِ فَقَالَ: أُحِبُّ الْغِنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} فَهُوَ رَأْيٌ مِنْهُ إنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكُلُّ مَا نُقِلَ عَنْ طَلَاقِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم كَطَلَاقِ عُمَرَ رضي الله عنه أُمَّ عَاصِمٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تُمَاضِرَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَقَالَ لَهُنَّ: أَنْتُنَّ حَسَنَاتُ الْأَخْلَاقِ نَاعِمَاتُ الْأَطْوَاقِ طَوِيلَاتُ الْأَعْنَاقِ اذْهَبْنَ فَأَنْتُنَّ طَلَاقٌ فَمَحْمَلُهُ وُجُودُ الْحَاجَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ فَمَحْضُ كُفْرَانِ نِعْمَةٍ وَسُوءِ أَدَبٍ فَيُكْرَهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. .
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَوُقُوعُ الْفُرْقَةِ مُؤَجَّلًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الرَّجْعِيِّ وَبِدُونِهِ فِي الْبَائِنِ. وَأَمَّا مَحَاسِنُهُ فَمِنْهَا ثُبُوتُ التَّخَلُّصِ بِهِ مِنْ الْمَكَارِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَمِنْهَا جَعْلُهُ بِيَدِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ لِاخْتِصَاصِهِنَّ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى، وَعَنْ ذَلِكَ سَاءَ اخْتِيَارُهُنَّ وَسَرُعَ اغْتِرَارُهُنَّ وَنُقْصَانِ الدِّينِ، وَعَنْهُ كَانَ أَكْثَرُ شُغْلِهِنَّ بِالدُّنْيَا وَتَرْتِيبِ الْمَكَايِدِ وَإِفْشَاءِ سِرِّ الْأَزْوَاجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا شَرْعُهُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ كَذُوبَةٌ رُبَّمَا يَظْهَرُ عَدَمُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا أَوْ الْحَاجَةِ إلَى تَرْكِهَا وَتُسَوِّلُهُ، فَإِذَا وَقَعَ حَصَلَ النَّدَمُ وَضَاقَ الصَّدْرُ بِهِ وَعِيلَ الصَّبْرُ، فَشَرَعَهُ سبحانه وتعالى ثَلَاثًا لِيُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ صِدْقَهَا اسْتَمَرَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَإِلَّا أَمْكَنَهُ التَّدَارُكُ بِالرَّجْعَةِ، ثُمَّ إذَا عَادَتْ النَّفْسُ إلَى مِثْلِ الْأَوَّلِ وَغَلَبَتْهُ حَتَّى عَادَ إلَى طَلَاقِهَا نُظِرَ أَيْضًا فِيمَا يَحْدُثُ لَهُ فَمَا يُوقِعُ الثَّالِثَةَ إلَّا وَقَدْ
قَالَ (الطَّلَاقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ، وَبِدْعِيٌّ. فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا)؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَإِنَّ هَذَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا الرَّجُلُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ النَّدَامَةِ وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ
جَرَّبَ وَفَقِهَ فِي حَالِ نَفْسِهِ، وَبِعَدَدِ الثَّلَاثِ تَبْلَى الْأَعْذَارُ. .
وَأَمَّا أَقْسَامُهُ فَمَا أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (الطَّلَاقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ، وَبِدْعِيٌّ) اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ سُنِّيٌّ وَبِدْعِيٌّ؛ وَالسُّنِّيُّ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَمِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ، وَالْبِدْعِيُّ كَذَلِكَ، فَالسُّنِّيُّ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ (فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ) وَلَا فِي الْحَيْضِ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَا طَلَاقَ فِيهِ، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي (وَيَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) لِمَا أَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ (أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَإِنَّ هَذَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً؛ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ النَّدَامَةِ) حَيْثُ أَبْقَى لِنَفْسِهِ مُكْنَةً لِلتَّدَارُكِ حَيْثُ يُمْكِنُهُ التَّزَوُّجُ بِهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا دُونَ تَخَلُّلِ زَوْجٍ آخَرَ (وَأَقَلُّ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ) حَيْثُ لَمْ تَبْطُلْ مَحَلِّيَّتُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَإِنَّ سَعَةَ حِلِّهَا نِعْمَةٌ عَلَيْهَا فَلَا يَتَكَامَلُ ضَرَرُ الْإِيحَاشِ (وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي الْكَرَاهَةِ) أَنَّهَا وَاقِعَةٌ أَوْ لَا، بَلْ الْإِجْمَاعُ عَلَى انْتِقَائِهَا، بِخِلَافِ الْحَسَنِ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافَ مَالِكٍ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قِلَّةِ ضَرَرِ هَذَا وَاسْتِحْبَابِهِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَحْسَنَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السُّنِّيَّ الْمَسْنُونَ وَهُوَ كَالْمَنْدُوبِ فِي اسْتِعْقَابِ الثَّوَابِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُبَاحُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ عِبَادَةً فِي نَفْسِهِ لِيَثْبُتَ لَهُ ثَوَابٌ فَمَعْنَى الْمَسْنُونِ مِنْهُ مَا ثَبَتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَوْجِبُ عِتَابًا. نَعَمْ لَوْ وَقَعَتْ لَهُ دَاعِيَةٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ جِمَاعِهَا أَوْ حَائِضًا أَوْ ثَلَاثًا فَمَنَعَ نَفْسِهِ مِنْ الطُّهْرِ إلَى الطُّهْرِ الْآخَرِ وَالْوَاحِدَةِ نَقُولُ إنَّهُ يُثَابُ لَكِنْ لَا عَلَى الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الْخَالِي بَلْ عَلَى كَفِّ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِيقَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ امْتِنَاعًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَذَلِكَ الْكَفُّ غَيْرُ فِعْلِ الْإِيقَاعِ، وَلَيْسَ الْمَسْنُونُ يَلْزَمُ تِلْكَ الْحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْقَعَ وَاحِدَةً فِي الطُّهْرِ الْخَالِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطُرَ لَهُ دَاعِيَةُ ذَلِكَ الْإِيقَاعِ سَمَّيْنَاهُ طَلَاقًا مَسْنُونًا مَعَ انْتِفَاءِ سَبَبِ الثَّوَابِ وَهُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ تَهَيُّؤِ أَسْبَابِهَا وَقِيَامِ دَاعِيَتِهَا، وَهَذَا كَمَنْ اسْتَمَرَّ عَلَى عَدَمِ الزِّنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطِرَ لَهُ دَاعِيَتُهُ وَتَهَيُّؤُهُ لَهُ مَعَ الْكَفِّ عَنْهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَوْ وَقَعَتْ لَهُ دَاعِيَتُهُ
(وَالْحَسَنُ هُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: إنَّهُ بِدْعَةٌ وَلَا يُبَاحُ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْوَاحِدَةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ
وَطَلَبُ النَّفْسِ لَهُ وَتَهَيُّؤُهُ لَهُ وَكَفَّ تَجَافِيًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ أُثِيبَ (قَوْلُهُ وَالْحَسَنُ طَلَاقُ السُّنَّةِ) وَأَنْتَ حَقَّقْت أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَلَاقُ السُّنَّةِ فَتَخْصِيصُ هَذَا بِاسْمِ طَلَاقِ السُّنَّةِ لَا وَجْهَ لَهُ وَالْمُنَاسِبُ تَمْيِيزُهُ بِالْمَفْضُولِ مِنْ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ.
قَالَ (وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ) سَوَاءٌ كَانَتْ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً أَوْ غَيْرَ مُسْلِمَةٍ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِإِيقَاعِهِ كَذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَى الْغَائِبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ أَنْ يَكْتُبَ إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا وَأَنْتِ طَاهِرَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ كُنْتِ حَائِضًا فَإِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا بِدْعَةٌ وَلَا يُبَاحُ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِحَاجَةِ الْخَلَاصِ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْوَاحِدَةِ (وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم) فِيمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ، حَدَّثَهُمْ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِطَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ عِنْدَ الْقَرِينِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ، قَدْ أَخْطَأْت السُّنَّةَ، السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ فَتُطَلِّقَ لِكُلِّ قُرْءٍ، فَأَمَرَنِي فَرَاجَعْتُهَا. فَقَالَ: إذَا هِيَ طَهُرَتْ فَطَلِّقْ عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ أَمْسِكْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ فَقَالَ لَا، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَكَانَتْ مَعْصِيَةً» أَعَلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: أَتَى بِزِيَادَاتٍ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُقْبَلُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ سَنَدًا وَمَتْنًا. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَسَنُ بِسَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ. وَقِيلَ لِأَبِي زُرْعَةَ الْحَسَنُ لَقِيَ ابْنَ عُمَرَ؟ قَالَ نَعَمْ.
وَأَمَّا إعْلَال عَبْدِ الْحَقِّ إيَّاهُ بِمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ فَلَيْسَ بِذَاكَ، وَلَمْ يُعِلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ إلَّا بِالْخُرَاسَانِيِّ، وَقَدْ ظَهَرَتْ مُتَابَعَتُهُ،؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ لِخَفَائِهَا؛ لِأَنَّهَا بَاطِنَةٌ، وَدَلِيلُهَا الْإِقْدَامُ عَلَى طَلَاقِهَا فِي زَمَنِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ، وَقَدْ تَكُونُ الْحَاجَةُ مَاسَةٌ إلَى تَرْكِهَا أَلْبَتَّةَ لِرُسُوخِ الْأَخْلَاقِ الْمُتَبَايِنَةِ وَمُوجِبَاتِ الْمُنَافَرَةِ فَلَا تُفِيدُ رَجْعَتَهَا فَيَحْتَاجُ إلَى فِطَامِ النَّفْسِ عَنْهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْقِبُ النَّدَمَ وَالنَّفْسُ تُلِحُّ لِحُسْنِ الظَّاهِرِ، وَطَرِيقُ إعْطَاءِ هَذِهِ الْحَاجَةِ مُقْتَضَاهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ
صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً» وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ، فَالْحَاجَةُ كَالْمُتَكَرِّرَةِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا، ثُمَّ قِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِيقَاعَ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا طَهُرَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا، وَمِنْ قَصْدِهِ التَّطْلِيقُ فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوَقَاعِ.
(وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ
أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً لِيُجَرِّبَ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ وَيُعَالِجَهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ تَدَارَكَ بِالرَّجْعَةِ، وَإِنْ قَدَرَ أَوْقَعَ أُخْرَى فِي الطُّهْرِ الْآخَرِ كَذَلِكَ، فَإِنْ قَدَرَ أَبَانَهَا بِالثَّالِثَةِ بَعْدَ تَمَرُّنِ النَّفْسِ عَلَى الْفِطَامِ، ثُمَّ إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارِ فَقَدْ مَضَتْ مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَتَانِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً، فَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَةً انْقَضَتْ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَبِالطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ بَانَتْ وَوَقَعَ عَلَيْهَا ثِنْتَانِ (قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ الْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الطَّلَاقَ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ احْتِرَازًا عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ) عَلَيْهَا.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْأَظْهَرُ أَيْ الْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ قَالَ: إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ، وَرَجَّحَهُ بِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا فِيهِ وَمِنْ قَصْدِهِ تَطْلِيقُهَا فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْوَقَاعِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَقَلُّ ضَرَرًا فَكَانَ أَوْلَى، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.
(قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ) مَا خَالَفَ قِسْمَيْ السُّنَّةِ، وَذَلِكَ بِإِنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مُفَرَّقَةً فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ كَذَلِكَ أَوْ وَاحِدَةً فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ أَوْ جَامَعَهَا فِي الْحَيْضِ الَّذِي يَلِيهِ هُوَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَانَ عَاصِيًا، وَفِي كُلٍّ مِنْ وُقُوعِهِ وَعَدَدِهِ وَكَوْنِهِ مَعْصِيَةً خِلَافٌ، فَعَنْ الْإِمَامِيَّةِ لَا يَقَعُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ وَلَا فِي حَالَةِ
وَكَانَ عَاصِيًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: كُلُّ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ
الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَفِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَ عُمَرَ أَنْ يُرَاجِعَهَا حِينَ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ فِي الْحَيْضِ، وَأَمَّا بُطْلَانُهُ فِي الثَّلَاثِ فَيَنْتَظِمُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ دَفْعِ كَلَامِ الْإِمَامِيَّةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَبِهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَنَقَلَ عَنْ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ خَالَفَ السُّنَّةَ فَيُرَدُّ إلَى السُّنَّةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ؟ قَالَ نَعَمْ». وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ طَلَّقْتَهَا؟ قَالَ: طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قَالَ: إنَّمَا تِلْكَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَارْتَجِعْهَا» . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا يَقَعُ ثَلَاثًا وَفِي غَيْرِهَا وَاحِدَةً، لِمَا فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ كَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً؟ الْحَدِيثَ. «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ» . هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا. وَمِنْ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ مَا فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا؟ قَالَ: إذًا قَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ رَادُّهَا إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْحُمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} عَصَيْت رَبَّك وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتُك. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي مِائَةَ تَطْلِيقَةٍ فَمَاذَا تَرَى عَلَيَّ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلُقَتْ مِنْك ثَلَاثًا وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا. وَفِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا: بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي ثَمَانِيَ تَطْلِيقَاتٍ، فَقَالَ: مَا قِيلَ لَك. فَقَالَ: قِيلَ لِي بَانَتْ مِنْك، قَالَ: صَدَقُوا، هُوَ مِثْلُ مَا يَقُولُونَ وَظَاهِرُهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إيَاسِ بْنِ الْبَكِيرِ قَالَ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَته ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فَجَاءَ يَسْتَفْتِي، فَذَهَبْت مَعَهُ فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَقَالَا: لَا نَرَى أَنْ تَنْكِحَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك، قَالَ: فَإِنَّمَا كَانَ طَلَاقِي إيَّاهَا وَاحِدَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّك أَرْسَلْتَ مِنْ يَدِك مَا كَانَ لَك مِنْ فَضْلٍ. وَهَذَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا إنَّمَا تَطْلُقُ بِالثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَجَمِيعُهَا يُعَارِضُ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَأَمَّا إمْضَاءُ عُمَرَ الثَّلَاثَ عَلَيْهِمْ فَلَا يُمْكِنُ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الصَّحَابَةِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا كَانَتْ وَاحِدَةً إلَّا وَقَدْ اطَّلَعُوا فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ. هَذَا إنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ لِعِلْمِهِمْ بِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ كَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِإِنَاطَتِهِ بِمَعَانٍ عَلِمُوا انْتِفَاءَهَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَأَخِّرِ فَإِنَّا نَرَى الصَّحَابَةَ تَتَابَعُوا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَعَ اشْتِهَارِ كَوْنِ حُكْمِ الشَّرْعِ الْمُتَقَرِّرِ كَذَلِكَ أَبَدًا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَوْجَدْنَاك عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي تِسْعًا وَتِسْعِينَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: ثَلَاثٌ تُبِينُهَا وَسَائِرُهُنَّ عُدْوَانٌ. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: إنِّي طَلَّقْت امْرَأَتِي أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: بَانَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ وَاقْسِمْ سَائِرَهُنَّ عَلَى نِسَائِك. وَرَوَى وَكِيعٌ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ: طَلَّقْت امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ بَانَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ.
وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ «عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ أَبَاهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ، فَانْطَلَقَ عُبَادَةُ فَسَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَانَتْ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» وَقَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مِائَةِ أَلْفِ عَيْنٍ رَأَتْهُ فَهَلْ صَحَّ لَكُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ أَوْ عَنْ عُشْرِ عُشْرِ عُشْرِهِمْ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ بَلْ لَوْ جَهَدْتُمْ لَمْ تُطِيقُوا نَقْلَهُ عَنْ عِشْرِينَ نَفْسًا بَاطِلٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَإِجْمَاعُهُمْ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَالَفَ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ أَمْضَى الثَّلَاثَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ الْإِجْمَاعِيِّ عَنْ مِائَةِ أَلْفٍ أَنْ يُسَمَّى كُلٌّ لِيَلْزَمَ فِي مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ حُكْمٌ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَإِنَّ الْعِبْرَةَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ مَا نُقِلَ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ لَا الْعَوَامّ وَالْمِائَةُ الْأَلْفِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَبْلُغُ عِدَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ كَالْخُلَفَاءِ وَالْعَبَادِلَةِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَقَلِيلٍ وَالْبَاقُونَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِمْ وَيَسْتَفْتُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا النَّقْلَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ صَرِيحًا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ. وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةٌ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَهُوَ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ أَنَسٍ بِأَنَّهَا ثَلَاثٌ أَسْنَدَهَا الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَصِيرَ كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أُجْمِعَ عَلَى نَفْيِهِ، وَكُنَّ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يُبَعْنَ، وَبَعْدَ ثُبُوتِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لَا حَاجَةَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْجَوَابِ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوَكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَاحِدَةً إذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ بِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ مَخْرَجًا عَنْ الْإِبْطَالِ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِذْنَ، وَالْمُكَلَّفُونَ وَإِنْ كَانُوا أَيْضًا إنَّمَا يَتَصَرَّفُونَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَكِنْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ بَعْضِ الظَّوَاهِرِ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ كَانَ مُقَدَّمًا بِأَمْرِ الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ الظَّاهِرِ، قُلْنَا: أَنْ لَا نَشْتَغِلَ مَعَهُ بِتَأْوِيلٍ، وَقَدْ يُجْمَعُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى النَّاسِخِ أَوْ الْعِلْمِ بِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ، هَذَا وَإِنْ حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ دَفْعًا لِمُعَارَضَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عَلَى مَا أَوْجَدْنَاكَ مِنْ النَّقْلِ
لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ حَتَّى يُسْتَفَادَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ. وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ
الْمَصَالِحُ
الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ
عَنْهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَعَدَمِ مُخَالِفٍ لِعُمَرَ فِي إمْضَائِهِ وَظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ كَانَ وَاحِدَةً فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ لِقَصْدِهِمْ التَّأْكِيدَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، ثُمَّ صَارُوا يَقْصِدُونَ التَّجْدِيدَ فَأَلْزَمَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِقَصْدِهِمْ.
وَمَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي يُوقِعُونَهَا الْآنَ إنَّمَا كَانَتْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةً تَنْبِيهٌ عَلَى تَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَيُشْكِلُ إذْ لَا يُتَّجَهُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ فَأَمْضَاهُ عُمَرُ رضي الله عنه.
وَأَمَّا حَدِيثُ رُكَانَةَ فَمُنْكَرٌ، وَالْأَصَحُّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ «أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أَلْبَتَّةَ، فَحَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَا أَرَادَ إلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إلَيْهِ فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رضي الله عنه» قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا أَصَحُّ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّالِثُ وَهُوَ كَوْنُ الثَّلَاثَةِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مَعْصِيَةً أَوْ لَا فَحُكِيَ فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله اسْتَدَلَّ بِالْإِطْلَاقَاتِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} وَمَا رُوِيَ «أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ لَمَّا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ وَقَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم» .
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ «حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» وَطَلَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ تُمَاضِرَ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ، وَطَلَّقَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنه امْرَأَتَهُ شَهْبَاءَ ثَلَاثًا لَمَّا هَنَّأَتْهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ لَا تُجَامِعُ الْحَظْرَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ نِسَاءَهُ الْأَرْبَعَ دَفْعَةً جَازَ، فَكَذَا الْوَاحِدَةُ ثَلَاثًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ لِلْمُضَارَّةِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لَا الطَّلَاقِ، وَبِخِلَافِهِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ يَحْرُمُ لِتَلْبِيسِ وَجْهِ الْعِدَّةِ أَهُوَ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ الْوَضْعِ لِاحْتِمَالِ الْحَبَلِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} إلَى أَنْ قَالَ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فَلَزِمَ أَنْ لَا طَلَاقَ شَرْعًا إلَّا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ
وَهِيَ فِي الْمُفَرَّقِ عَلَى الْأَطْهَارِ ثَانِيَةً نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا، وَالْحَاجَةُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ فَأَمْكَنَ تَصْوِيرُ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا، وَالْمَشْرُوعِيَّةُ فِي ذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إزَالَةُ الرِّقِّ لَا تُنَافِي الْحَظْرَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ،
الْجِنْسِ شَيْءٌ، وَهَذَا مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ فَلَا طَلَاقٌ مَشْرُوعٌ ثَلَاثًا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ يَتَبَادَرُ أَنْ لَا يَقَعَ شَيْءٌ كَمَا قَالَ الْإِمَامِيَّةُ، لَكِنْ لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ عَدَمَ مَشْرُوعِيَّتِهِ كَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ تَفْوِيتُ مَعْنَى شَرْعِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ لَهُ كَذَلِكَ وَإِمْكَانِ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ، وَقَدْ يَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ لَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ فِي ذَاتِهِ لَا تُنَافِي الْحَظْرَ إلَى آخِرِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ.
وَلَنَا أَيْضًا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لِلَّذِي طَلَّقَ ثَلَاثًا وَجَاءَ يَسْأَلُ: عَصَيْت رَبَّك. وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «بَانَتْ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» وَكَذَا مَا حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: إنَّ عَمَّك عَصَى اللَّهَ فَأَثِمَ، وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَمَا رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ «أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانَ فَقَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ» وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مِنْ نِسْبَةِ الطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ إلَى مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ حَمْلُ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنَّهُمْ قَالُوا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ، وَأَيْضًا لَنَا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ
الْمَصَالِحِ
الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي قَدْ تَعْرِضُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَعُودُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ بِخِلَافِ تَفْرِيقِهَا عَلَى الْأَطْهَارِ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَاجَةَ بَاطِنَةٌ، فَأُنِيطَ الْحُكْمُ بِالْحِلِّ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الرَّغْبَةِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً حُكِمَ بِالْحَاجَةِ إلَى الثَّلَاثِ كَذَلِكَ فَوَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ دَلِيلَ الْحَاجَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ تَصَوُّرِ الْحَاجَةِ وَهِيَ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ لِلْعِلْمِ بِارْتِفَاعِهَا بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ، فَأَجَابَ بِمَنْعِ انْتِفَائِهَا بِالْكُلِّيَّةِ لِمَا قَرَرْنَاهُ فِي جَوَابِ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَتَحَقَّقُ إلَى فِطَامِ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ ظَاهِرًا عُرُوضَ النَّدَمِ، وَطَرِيقُ دَفْعِهَا حِينَئِذٍ الثَّلَاثُ مُفَرَّقَةٌ عَلَى الْأَطْهَارِ لَا مَجْمُوعَةً لِمَا وَجَّهْنَا بِهِ.
(قَوْلُهُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ فِي ذَاتِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ مَشْرُوعٌ فَلَا يُنَافِي الْحَظْرَ:
وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِدْعَةٌ؛ لِمَا قُلْنَا. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ. قَالَ فِي الْأَصْلِ: إنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ صِفَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْخَلَاصِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ، وَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ نَاجِزًا.
(وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: سُنَّةٌ فِي الْوَقْتِ وَسُنَّةٌ فِي الْعَدَدِ فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ)(يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا) وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا (وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ تَثْبُتُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ)
يَعْنِي أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، فَإِنَّهُ فِي ذَاتِهِ إزَالَةُ الرِّقِّ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ نَوْعُ رِقٍّ فَلَا يُنَافِي الْحَظْرَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِيهِ قَطْعَ مُتَعَلِّقِ
الْمَصَالِحِ
الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَجَازَ إثْبَاتُ مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي ذَاتِهِ مَعَ حَظْرِهِ لِذَلِكَ فَيَصِحُّ إذَا وَقَعَ وَيَسْتَعْقِبُ أَحْكَامَهُ مَعَ اسْتِعْقَابِ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسَوِّغٌ لِلْحَظْرِ الْحَالِي كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِهِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَافِعٌ لِحَاجَةِ لُزُومِ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَا يُنَافِيهِ كَوْنُهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إضْرَارٌ وَكُفْرَانٌ بِلَا حَاجَةٍ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ إلَخْ إذَا تَأَمَّلْت؛ لِأَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَسَيُصَرِّحُ بِهِ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي طَلَاقِ الْحَامِلِ حَيْثُ قَالَ: وَلَهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ (قَوْلُهُ وَكَذَا إيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ فِي الطُّهْرِ الْوَاحِدِ بِدْعَةٌ لِمَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ (قَوْلُهُ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِئَةِ، قَالَ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي أَصْلَ الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْخَلَاصِ إلَى إثْبَاتِ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَسُدُّ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ التَّدَارُكِ عِنْدَ عَدَمِ اخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ الرَّجْعَةَ. وَفِي الزِّيَادَاتِ: لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ نَاجِزًا، وَالْمُرَادُ زِيَادَاتُ الزِّيَادَاتِ فَلَا يُشْكِلُ صِحَّةُ إطْلَاقِ الزِّيَادَاتِ عَلَيْهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ أَنَّ أَبَا رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَالْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ وَلَمْ يُنْكَرْ صلى الله عليه وسلم، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْخُلْعِ. الْجَوَابُ تَجْوِيزُ أَنْ يَكُونَ أَبُو رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ أَنَّهُ أَخَّرَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ لِحَالٍ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهُ إذْ ذَاكَ، وَالْخُلْعُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَبُلُوغِهَا النِّهَايَةَ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يُكْرَهُ حَالَةَ الْحَيْضِ.
(قَوْلُهُ وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: فِي الْوَقْتِ وَالْعَدَدِ، فَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا) وَهِيَ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً، فَإِذَا طَلَّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا كَانَ عَاصِيًا، فَفِي الَّتِي خَلَا بِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا تَعَذُّرٌ، فَإِنَّ السُّنَّةَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَثْبُتُ بِقِسْمَيْهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً لَيْسَ غَيْرُ وَأَنْ يُلْحِقَهَا بِأُخْرَيَيْنِ عِنْدَ الطُّهْرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذْ لَا عِدَّةَ لَهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ تَثْبُتُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً) وَكَأَنَّهُ عَمَّمَ الْمَدْخُولَ بِهَا فِي الَّتِي
لِأَنَّ الْمُرَاعَى دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ،
أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ فَزَمَانُ النَّفْرَةِ، وَبِالْجِمَاعِ مَرَّةً فِي الطُّهْرِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ (وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا يُطَلِّقُهَا فِي حَالَةِ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ) خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله، هُوَ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا. وَلَنَا أَنَّ الرَّغْبَةَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَادِقَةٌ لَا تَقِلُّ بِالْحَيْضِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْهَا، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَتَجَدَّدُ بِالطُّهْرِ. .
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا
خَلَا بِهَا فَإِنَّهَا أَيْضًا يَجِبُ مُرَاعَاةُ السُّنَّةِ فِي طَلَاقِهَا، وَذَلِكَ الْوَقْتُ هُوَ الطُّهْرُ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ وَلَا فِي الْحَيْضِ الَّذِي قَبْلَهُ فَلَزِمَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ الْبِدْعَةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا مُرَاعَاةُ السَّنَتَيْنِ، فَلَوْ أَخَلَّ بِإِحْدَاهُمَا لَزِمَتْ الْمَعْصِيَةُ، وَإِنَّمَا لَزِمَتَا؛ لِأَنَّ الْمُرَاعَى فِي تَحَقُّقِ إبَاحَةِ الطَّلَاقِ دَلِيلُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ، وَزَمَانُ تَجَدُّدِهَا هُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ لَا زَمَانُ الْحَيْضِ، وَلَا الطُّهْرُ الَّذِي جُومِعَتْ فِيهِ. أَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ فَلِأَنَّهُ زَمَانُ النُّفْرَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، وَأَمَّا الطُّهْرُ الَّذِي جُومِعَتْ فِيهِ؛ فَلِأَنَّ بِالْجِمَاعِ مَرَّةً تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَالرَّغْبَةُ فِيهَا مُتَوَفِّرَةٌ مَا لَمْ يَذُقْهَا، فَطَلَاقُهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ يَقُومُ دَلِيلًا عَلَى تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ فَجَازَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي حَالِ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا، خِلَافًا لِزُفَرَ.
هُوَ يَقِيسُهَا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا بِجَامِعِ أَنَّهُ وَقْتُ النُّفْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ فِيهِ دَلِيلَ الْحَاجَةِ فَلَا يُبَاحُ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا جَوَابَهُ بِالْفَرْقِ وَهُوَ قَوْلُهُ الرَّغْبَةُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَادِقَةٌ لَا تَقِلُّ بِالْحَيْضِ. فَإِنْ قُلْت: هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عُمَرَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ» فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِشَارَةَ مِنْ قَوْلِهِ هَكَذَا إلَى طَلَاقِهِ الْخَاصِّ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ فَجَازَ كَوْنُ تِلْكَ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» وَالْعِدَّةُ لَيْسَتْ إلَّا لِلْمَدْخُولِ بِهَا.
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ) أَيْ بِأَنْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْحَيْضِ وَهُوَ تِسْعٌ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَسَبْعٌ (أَوْ كِبَرٍ) بِأَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ آيِسَةً بِنْتَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الْأَظْهَرِ أَوْ لَا لَهُمَا بِأَنْ بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَرَ دَمًا أَصْلًا (فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلَاقَ السُّنَّةِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا
أُخْرَى، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى)؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} إلَى أَنْ قَالَ {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ الْحَيْضِ خَاصَّةً حَتَّى يُقَدَّرَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي حَقِّهَا بِالشَّهْرِ
أُخْرَى، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} أَيْ لَمْ يَحِضْنَ بَعْدُ فِيمَا مَضَى؛ لِأَنَّ لَمْ تَقْلِبُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ إلَى الْمُضِيِّ فَأَقَامَ الْأَشْهُرَ مَقَامَ الْحَيْضِ حَيْثُ نَقَلَ مِنْ الْحَيْضِ إلَيْهَا. وَأَيْضًا نَصَّ عَلَى أَنَّ الْأَشْهُرَ عِدَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} وَالْعِدَّةُ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ لَيْسَ إلَّا الْحَيْضُ لَا الْمَجْمُوعُ، فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنِ الْأَشْهُرِ بَدَلَ الْحَيْضِ وَرُشِّحَ بِالِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّهُ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ بِحَيْضَةٍ وَجُعِلَ فِيمَنْ لَا تَحِيضُ بِشَهْرٍ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْإِقَامَةِ بِاعْتِبَارِهِ مَعَ لَازِمِهِ مِنْ الطُّهْرِ الْمُضَافِ إلَى كُلِّ حَيْضَةٍ.
وَرُجِّحَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ اكْتَفَى بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْحَيْضِ الْمَجْعُولِ عِدَّةً، وَالْحَيْضُ الْمَجْعُولُ عِدَّةً هُوَ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِثْلِهِ طُهْرٌ صَحِيحٌ بِحَيْثُ تَكُونُ عِدَّتُهُمَا غَالِبًا شَهْرًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِنَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ حِيَضٍ يَتَخَلَّلُهَا أَطْهَارٌ وَقَوْلِنَا بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ وَالْأَطْهَارِ الْمُتَخَلَّلَةِ، فَالطُّهْرُ ضَرُورَةُ تَحَقُّقِهَا لَا مِنْ مُسَمَّاهُ، وَمَا أَلْزَمَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقَامَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا لَزِمَ مَنْعُ الطَّلَاقِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَيْضِ حُكْمًا مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ مَقَامُهُ فِي أَنَّهُ عِدَّةٌ فَقَطْ لَا فِي ذَاتِهِ وَذَاتُ الشَّهْرِ طُهْرٌ وَلَا فِي حُكْمٍ آخَرَ، أَلَا يَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فِي طُهْرِ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ حَرَامٌ وَفِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَا يَحْرُمُ، فَكَذَا الطَّلَاقُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَهَذَا
وَهُوَ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ، وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُكْمِلُ الْأَوَّلَ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَازَاتِ. قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ)
الْخِلَافُ قَلِيلُ الْجَدْوَى لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفُرُوعِ (قَوْلُهُ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ) هُوَ أَنْ يَقَعَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ رُئِيَ فِيهَا الْهِلَالُ (تُعْتَبَرُ الشُّهُورَ بِالْأَهِلَّةِ) اتِّفَاقًا فِي التَّفْرِيقِ وَالْعِدَّةِ (وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي التَّفْرِيقِ) أَيْ فِي تَفْرِيقِ الطَّلَقَاتِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا تَطْلُقُ الثَّانِيَةَ فِي الْيَوْمِ الْمُوَفِّي ثَلَاثِينَ مِنْ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ بَلْ فِي الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ فَمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الْيَوْمِ الْمُوَفِّي ثَلَاثِينَ كَانَ جَامِعًا بَيْنَ طَلَاقَيْنِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ (وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) تُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إلَّا بِمُضِيِّ تِسْعِينَ يَوْمًا (وَعِنْدَهُمَا يُكْمَلُ الْأَوَّلُ بِالْأَخِيرِ وَالشَّهْرَانِ الْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ) وَقَوْلُهُ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: تَعْتَبِرُ فِي الْعِدَّةِ بِالْأَيَّامِ بِالْإِجْمَاعِ يُخَالِفُ نَقْلَ الْخِلَافِ (قَوْلُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَاتِ) يَعْنِي إذَا اسْتَأْجَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ اُعْتُبِرَتْ بِالْأَهِلَّةِ اتِّفَاقًا نَاقِصَةً كَانَتْ أَوْ كَامِلَةً وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ تُعْتَبَرُ الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ بِالْأَيَّامِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِالْأَخِيرِ وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِالْأَهِلَّةِ. وَقِيلَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْهُرِ الْأَهِلَّةُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَهِيَ مُنْدَفِعَةٌ بِتَكْمِيلِ الْأَوَّلِ بِالْأَخِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فِي الْأَشْهُرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْأَسْمَاءِ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَأْجِرْ مُدَّةَ جُمَادَيَيْنِ وَرَجَبٍ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَثَلًا وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْأَهِلَّةُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تِسْعِينَ؛ لِأَنَّهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ مُسَمَّى اللَّفْظِ الْأَهِلَّةُ صَارَ مَعْنَاهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ فَلَا يَنْقَضِي هَذَا الشَّهْرُ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ الْآخَرِ أَيَّامٌ ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْآخَرُ مِنْ حِينِ انْتَهَى الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُ كَذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ (قَوْلُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا) أَيْ يُطَلِّقَ الَّتِي لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ (وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِزَمَانٍ)
وَقَالَ زُفَرُ: يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِشَهْرٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْحَيْضِ؛ وَلِأَنَّ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ بِزَمَانٍ وَهُوَ الشَّهْرُ: وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا، وَالْكَرَاهِيَةُ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ بِاعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ،
وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَفْصِلُ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِشَهْرٍ. وَفِي الْمُحِيطِ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا فِي صَغِيرَةٍ لَا يُرْجَى حَبَلُهَا، أَمَّا فِيمَنْ يُرْجَى فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ وَطْئِهَا وَطَلَاقِهَا بِشَهْرٍ كَمَا قَالَ زُفَرُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ لَيْسَ هُوَ أَفْضَلِيَّةُ الْفَصْلِ بَلْ لُزُومُ الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ فِي الَّتِي تَحِيضُ وَفِيهَا يَجِبُ الْفَصْلُ بِحَيْضَةٍ؛ فَفِي مَنْ لَا تَحِيضُ يَجِبُ الْفَصْلُ بِمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ وَهُوَ الشَّهْرُ؛ وَلِأَنَّ بِالْجِمَاعِ تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ بِزَمَانٍ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ فِيهَا) أَيْ فِي الَّتِي لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ (وَالْكَرَاهَةُ) أَيْ كَرَاهَةُ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ لِتَوَهُّمِ الْحَبَلِ فَيُشْتَبَهُ وَجْهُ الْعِدَّةِ أَنَّهَا بِالْحَيْضِ أَوْ بِالْوَضْعِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي فِي الَّتِي لَا تَحِيضُ لَا لِصِغَرٍ وَلَا لِكِبَرٍ بَلْ اتَّفَقَ امْتِدَادُ طُهْرِهَا مُتَّصِلًا بِالصِّغَرِ، وَفِي الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ بَعْدُ وَقَدْ وَصَلَتْ إلَى سِنِّ الْبُلُوغِ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْقِيبُ وَطْئِهَا بِطَلَاقِهَا لِتَوَهُّمِ الْحَبَلِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرًا أَنْ يُقَالَ قَدْ عَلَّلْتُمْ مَنْعَ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ آنِفًا بِفُتُورِ الرَّغْبَةِ فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ دَلِيلَ الْحَاجَةِ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ مَمْنُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: لِاشْتِبَاهِ الْعِدَّةِ، وَلِعَدَمِ الْمُبِيحِ وَهُوَ الطَّلَاقُ مَعَ عَدَمِ دَلِيلِ الرَّغْبَةِ. وَفِي الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ إنْ فُقِدَ الْأَوَّلُ فَقَدْ وُجِدَ الثَّانِي فَيَمْتَنِعُ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالرَّغْبَةُ إلَخْ. وَحَاصِلُهُ مَنْعُ عَدَمِ الرَّغْبَةِ مُطْلَقًا بِجِمَاعِ هَذِهِ، بَلْ انْتَفَى سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهَا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ مُطْلَقًا إلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ كَوْنُهُ وَطْئًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ فِرَارًا عَنْ مُؤَنِ الْوَلَدِ فَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ رَغْبَةٍ فِي الْوَطْءِ وَصَارَ كَزَمَانِ الْحَبَلِ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لَا مَعْنَى لِلسُّؤَالِ الْقَائِلِ لَمَّا تَعَارَضَتْ جِهَةُ الرَّغْبَةِ مَعَ جِهَةِ الْفُتُورِ تَسَاقَطَتَا فَبَقِيَ الْأَصْلُ هُوَ حَظْرُ الطَّلَاقِ، وَتَكَلَّفَ جَوَابَهُ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ الْوَجْهِ أَنَّ لِلرَّغْبَةِ سَبَبَيْنِ: عَدَمُ الْوَطْءِ مُدَّةً تَتَجَدَّدُ الرَّغْبَةُ عِنْدَ آخِرِهَا عَادَةً، وَكَوْنُ الْوَطْءِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ، فَعَدَمُ الْمُدَّةِ فَقَطْ بِالْوَطْءِ الْقَرِيبِ عَدَمُ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ مَعَ قِيَامِ الْآخَرِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الرَّغْبَةِ. هَذَا ثُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَنْعِ عَدَمِ الرَّغْبَةِ وَيُتْرَكُ جَمِيعُ مَا قِيلَ مِنْ التَّعْلِيلِ بَعْدَ تَوَهُّمِ الْحَبَلِ وَادِّعَاءِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ بِاعْتِبَارِهِ فَإِنَّهُ تَعْلِيلٌ بِمَا لَا أَثَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا عَقِيبَ الطَّلَاقِ مُتَرَبِّصَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَى أَنْ تَرَى
وَالرَّغْبَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَفْتُرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ لَكِنْ تَكْثُرُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِي وَطْءٍ غَيْرِ مُعَلَّقٍ فِرَارًا عَنْ مُؤَنِ الْوَلَدِ فَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ رَغْبَةٍ وَصَارَ كَزَمَانِ الْحَبَلِ.
(وَطَلَاقُ الْحَامِلِ يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ وَجْهِ الْعِدَّةِ، وَزَمَانُ الْحَبَلِ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ أَوْ يَرْغَبُ فِيهَا لِمَكَانِ وَلَدِهِ مِنْهَا فَلَا تَقِلُّ الرَّغْبَةُ بِالْجِمَاعِ (وَيُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ ثَلَاثًا يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَزُفَرُ (لَا يُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً)
الدَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ لَا تَرَاهُ فَتَسْتَمِرُّ فِي الْعِدَّةِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَمْلُهَا وَتَضَعَ أَوْ يَظْهَرَ أَنَّهُ امْتَدَّ طُهْرُهَا بِأَنْ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلُهَا فَتَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَهَذَا الْحَالُ لَا يَخْتَلِفُ بِوَطْئِهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي فِيهِ الطَّلَاقُ وَعَدَمِ وَطْئِهَا فِيهِ، فَظَهَرَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِاشْتِبَاهِ وَجْهِ الْعِدَّةِ لَا أَثَرَ لَهُ، إذْ لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَ اعْتِدَادِهَا إذَا جُومِعَتْ فِي الطُّهْرِ وَعَدَمِهِ إلَّا بِتَجْوِيزِ أَنَّهَا حَمَلَتْ أَوَّلًا وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ مَعَهُ الْحَالُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِدَادِهَا. لَا يُقَالُ: إنَّهُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ مِنْ الْوَطْءِ يَجُوزُ الْحَبَلُ وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ فَلَا يُجْزَمُ بِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ ثَلَاثًا إلَّا إذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَظْهَرُ فِي مِثْلِهَا الْحَبَلُ وَلَمْ يَظْهَرْ بَلْ وَعَلَى أَصْلِنَا؛ لِأَنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الْحَامِلِ الدَّمَ، بَلْ نَقُولُ: إنَّ مَا تَرَاهُ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ، فَمَعَ تَجْوِيزِ الْحَبَلِ لَا يُتَيَقَّنُ بِأَنَّ مَا رَأَتْهُ حَيْضٌ أَوْ اسْتِحَاضَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ إلَى أَنْ تَذْهَبَ مُدَّةٌ لَوْ كَانَتْ حَامِلًا فِيهَا لَظَهَرَ الْحَبَلُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا بِعَيْنِهِ جَارٍ فِيمَا لَوْ وُطِئَتْ فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ طُهْرُ الطَّلَاقِ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ مَانِعًا مُنِعَ الْوَطْءُ فِيهِ أَيْضًا خُصُوصًا فِي آخِرِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ كَرَاهَةَ الطَّلَاقِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فِي ذَاتِ الْحَيْضِ لِعُرُوضِ النَّدَمِ بِظُهُورِ الْحَبَلِ لِمَكَانِ الْوَلَدِ وَشَتَاتِ حَالِهِ وَحَالِ أُمِّهِ.
(قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْحَامِلِ يَجُوزُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ وَجْهِ الْعِدَّةِ) إنْ اُعْتُبِرَ حَاظِرًا؛ وَلِأَنَّهُ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ؛ لِأَنَّهُ اُتُّفِقَ أَنَّهَا قَدْ حَبِلَتْ أَحَبَّهُ أَوْ سَخِطَهُ فَبَقِيَ آمِنًا مِنْ غَيْرِهِ فَيَرْغَبُ فِيهِ لِذَلِكَ، أَوْ لِمَكَانِ وَلَدِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَقَوَّى بِهِ الْوَلَدُ فَيَقْصِدُ بِهِ نَفْعَهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ فِيهَا بَلْ الرَّغْبَةُ فِي الْوَطْءِ لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ (قَوْلُهُ وَيُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً)
لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ، وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِهَا فَصَارَ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ وَالشَّهْرُ دَلِيلُهَا كَمَا فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ فَصَلَحَ عِلْمًا وَدَلِيلًا، بِخِلَافِ الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِي حَقِّهَا إنَّمَا
وَقَالَ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِحْلَالِ الثَّلَاثِ مُفَرَّقًا عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ) وَوَرَدَ بِإِقَامَةِ الْأَشْهُرِ مَقَامَ الْحَيْضِ فِي الصَّغِيرَةِ أَوْ الْآيِسَةِ فَصَحَّ الْإِلْحَاقُ فِي تَفْرِيقِهَا عَلَى الْأَشْهُرِ (وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ مِنْ فُصُولِ عِدَّتِهَا فَصَارَتْ الْحَامِلُ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا) وَفِيهَا لَا يُفَرَّقُ الطَّلَاقُ عَلَى الْأَشْهُرِ فَكَذَا الْحَامِلُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَلَهُمَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ) وَقَدَّمْنَا أَنَّهَا لَا تَنْتَفِي مُطْلَقًا بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَشُرِعَ لِدَفْعِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْقِبُ النَّدَمَ وَالتَّفْرِيقُ عَلَى أَوْقَاتِ الرَّغْبَةِ وَهِيَ الْأَطْهَارُ الَّتِي تَلِي الْحَيْضَ لِيَكُونَ كُلُّ طَلَاقٍ دَلِيلَ قِيَامِهَا وَلَا دَخْلَ لِكَوْنِهَا مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ لَوْ كَانَتْ فُصُولًا فَكَيْفَ وَفُصُولُهَا لَيْسَ إلَّا الْحَيْضُ؛ لِأَنَّهَا الْعِدَّةُ لَا الْأَطْهَارُ عِنْدَنَا، فَكَوْنُهَا فَصْلًا مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ لَيْسَ جُزْءَ الْمُؤَثِّرِ بَلْ الْمُؤَثِّرُ دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَشَرْطُ دَلَالَتِهِ كَوْنُهُ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ، وَالتَّجَدُّدُ بَعْدَ الْفُتُورِ لَا يَكُونُ عَادَةً إلَّا بَعْدَ زَمَانٍ، وَحِينَ رَأَيْنَا الشَّرْعَ فَرَّقَهَا عَلَى الْأَطْهَارِ وَجَعَلَ الْإِيقَاعَ أَوَّلَ كُلِّ طُهْرٍ جَائِزًا عَلِمْنَا أَنَّهُ حُكْمٌ بِتَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ قَدْرِ مَا قَبْلَهُ مِنْ الزَّمَانِ إلَى مِثْلِهِ مِنْ أَوَّلِ طُهْرٍ يَلِيهِ وَذَلِكَ فِي الْغَالِبِ شَهْرٌ، فَأَدَرْنَا الْإِبَاحَةَ عَلَى الشَّهْرِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّفْرِيقُ عَلَى الْأَشْهُرِ فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَيْسَ، لِكَوْنِهَا فُصُولًا لِإِقَامَتِهَا مَقَامَ الْعِدَّةِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا فَالْإِثْبَاتُ فِيهِمَا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ وَدَلَالَتُهُ، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهَا مَحِلُّ النَّصِّ عَلَى تَعَلُّقِ
هُوَ الطُّهْرُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ فِيهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَا يُرْجَى مَعَ الْحَبَلِ.
(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ)؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَنْعَدِمُ مَشْرُوعِيَّتُهُ (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا) «لِقَوْلِهِ
جَوَازِ الْإِيقَاعِ بِالطُّهْرِ الْحَاصِلِ عَقِيبَ الْحَيْضِ وَهُوَ مَرْجُوٌّ فِي حَقِّهَا كُلُّ لَحْظَةٍ وَلَا يُرْجَى فِي الْحَامِلِ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ سَقَطَ مَا رَجَّحَ بِهِ شَارِحُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ التَّفْرِيقَ عَلَى فُصُولِ الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ إلْغَاءِ كَوْنِهِ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ، عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى التَّفْرِيقِ أَصْلًا بَلْ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةُ مَجْمُوعُ الْأَقْرَاءِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَفْرِيقَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه الْمُتَقَدِّمِ «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ فَتُطَلِّقُهَا لِكُلِّ قُرْءٍ» وَأُرِيدَ بِالْقُرْءِ الطُّهْرُ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لُزُومَ التَّفْرِيقِ طَرِيقُهُ أَنَّ مَفْهُومَ طَلِّقُوهُنَّ: أَوْجِدُوا طَلَاقَهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، فَيَسْتَلْزِمُ عُمُومَيْنِ: عُمُومُ طَلَاقِهِنَّ؛ لِأَنَّهُ جِنْسُ مُضَافٍ، وَكَذَا عِدَّتُهُنَّ، فَقَدْ أَحَلَّ جَمِيعَ طَلَاقِهِنَّ وَهُوَ ثَلَاثٌ بِجَمِيعِ عِدَّتِهِنَّ، وَجَمِيعُهُ بِفَمٍ وَاحِدٍ حَرَامٌ، فَكَانَ الْمُرَادُ تَفْرِيقُهُ عَلَى الْأَطْهَارِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ مَا يَسْتَلْزِمُهَا، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ النَّكِرَةِ، فَالْمَعْنَى: أَوْجِدُوا طَلَاقًا عَلَيْهِنَّ لِعِدَّتِهِنَّ: أَيْ لِاسْتِقْبَالِهَا. وَأَيْضًا فَلَفْظُ فُصُولِ الْعِدَّةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي النُّصُوصِ إنَّمَا سَمَّاهَا بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ، وَلَا يُعْقَلُ مِنْ مَعْنَاهُ سِوَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا لَهُ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ إلَيْهَا اتَّفَقَ أَنَّهُ ثُلُثُهَا اتِّفَاقًا، وَكُلُّ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِ الْحَامِلِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ عِدَّتِهَا كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُتَّفَقْ أَنَّ نِسْبَتَهُ بِالثُّلُثِ، وَعَلَى هَذَا يَقْوَى بَحْثُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الشَّهْرَ مِنْ فُصُولِ عِدَّةِ الْحَامِلِ غَيْرَ أَنَّا لَا نُعَلِّقُ بِهِ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَصْلٌ وَجُزْءٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ زَمَانٌ يَتَجَدَّدُ فِيهِ الرَّغْبَةُ عِنْدَ مَسْبُوقِيَّتِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الزَّمَانِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ) خِلَافًا لِمَنْ قَدَّمْنَا النَّقْلَ عَنْهُمْ مِنْ الْإِمَامِيَّةِ، وَنَقَلَ أَيْضًا عَنْ إسْمَاعِيلِ بْنِ عُلَيَّةَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَهَذَا (لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ) يَعْنِي أَنَّ النَّهْيَ الثَّابِتَ ضِمْنُ الْأَمْرِ: أَيْ قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي «قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ» وَقَوْلِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا: أَيْ مِنْ تَحْرِيمِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ثُمَّ هُوَ بِهَذَا الْإِيقَاعِ عَاصٍ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِقَوْلِهِ
عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ مُرْ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا» وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ. وَهَذَا يُفِيدُ الْوُقُوعَ وَالْحَثَّ عَلَى الرَّجْعَةِ ثُمَّ الِاسْتِحْبَابُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ بِرَفْعِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْعِدَّةُ وَدَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ. قَالَ (فَإِذَا طَهُرَتْ وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ)، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا. قَالَ: وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي
- صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «مُرْ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا» حِينَ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَهَذَا يُفِيدُ الْوُقُوعَ) فَيَنْدَفِعُ بِهِ قَوْلُ نَافِي الْوُقُوعِ (وَالْحَثُّ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالِاسْتِحْبَابُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ) وَكَأَنَّهُ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الْأَصْلِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوُجُوبِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ) كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ (عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ) فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ أَوْجَدَ الصِّيغَةَ الطَّالِبَةَ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ الَّذِي مَادَّتُهُ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصِّيغَةِ النَّادِبَةِ وَالْمُوجِبَةِ حَتَّى يَصْدُقَ النَّدْبُ مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْوُجُوبُ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ مُرْ أَوْجِدْ الصِّيغَةَ الطَّالِبَةَ مُجَرَّدَةً مِنْ الْقَرَائِنِ بَلْ يَتَحَصَّلُ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ يَثْبُتُ كَوْنًا مَطْلُوبًا فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَكَذَا أَحْمَدُ رحمه الله بِالِاسْتِحْبَابِ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَمُسَمَّى الْأَمْرِ الصِّيغَةُ الْمُوجِبَةُ، كَمَا أَنَّ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ فَيَلْزَمُ الْوُجُوبُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه لَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِيهَا فَهُوَ كَالْمُبَلِّغِ لِلصِّيغَةِ، فَاشْتَمَلَ قَوْلُهُ مُرْ ابْنَك عَلَى وُجُوبَيْنِ: صَرِيحٌ وَهُوَ الْوُجُوبُ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه أَنْ يَأْمُرَ. وَضِمْنِيٌّ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِابْنِهِ عِنْدَ تَوْجِيهِ الصِّيغَةِ إلَيْهِ.
وَالْقَائِلُونَ بِالِاسْتِحْبَابِ هَاهُنَا إنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَقَعَتْ فَتَعَذَّرَ ارْتِفَاعُهَا فَبَقِيَ مُجَرَّدُ التَّشْبِيهِ بِعَدَمِ مُبَاشَرَتِهَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ صَارِفًا لِلصِّيغَةِ عَنْ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ إيجَابِ رَفْعِ أَثَرِهَا وَهُوَ الْعِدَّةُ وَتَطْوِيلُهَا، إذْ بَقَاءُ الْأَمْرِ بَقَاءُ مَا هُوَ أَثَرُهُ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ. قِيلَ عَلَيْهِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ هَذَا يَصْلُحُ بَحْثًا يُوجِبُ الْوُجُوبَ، لَكِنْ لَا يُفِيدُ أَنَّ مَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدًا فِي الْأَصْلِ إنَّمَا قَالَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَمَرْجِعُ هَذَا الْكَلَامِ إلَى إنْكَارِ نَقْلِ الْوُجُوبِ عَنْ الْمَشَايِخِ صَرِيحًا بَلْ ذَلِكَ بَحْثٌ، فَإِذَا تَحَقَّقَ النَّقْلُ انْدَفَعَ. وَقَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ كَذَا فِي عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ نَقْلُ الْمُرَجَّحُ فِي الْمَذْهَبِ لَا تَرْجِيحُ مَذْهَبٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْ الْمَذْهَبِ. وَتَذْكِيرُ ضَمِيرِ أَثَرِهِ مَعَ أَنَّهُ لِلْمَعْصِيَةِ إمَّا لِتَأْوِيلِهَا بِالْعِصْيَانِ أَوْ هُوَ لِلطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ (قَوْلُهُ وَإِذَا طَهُرَتْ وَحَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ، وَهَكَذَا
يَلِي الْحَيْضَةَ الْأُولَى. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ (مَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا) وَوَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ طَلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَالْفَاصِلُ هَاهُنَا بَعْضُ الْحَيْضَةِ فَتَكْمُلُ بِالثَّانِيَةِ وَلَا تَتَجَزَّأُ فَتَتَكَامَلُ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ قَدْ انْعَدَمَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِي الْحَيْضِ فَيُسَنُّ تَطْلِيقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ.
ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ. وَلَفْظُ مُحَمَّدٍ فِيهِ: فَإِذَا طَهُرَتْ فِي حَيْضَةٍ أُخْرَى رَاجَعَهَا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَهَا وَرَاجَعَهَا فِيهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي الْأَصْلِ قَوْلُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِيهِ، فَلِذَا قَالَ فِي الْكَافِي: إنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.
(وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ) وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ السُّنَّةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل» وَفِي لَفْظٍ «حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا» وَوَجْهُ مَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رِوَايَةُ سَالِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ تَفْسِيرًا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَقْوَى صِحَّةً. وَظَهَرَ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ «يُمْسِكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ» أَنَّ اسْتِحْبَابَ الرَّجْعَةِ أَوْ إيجَابُهَا مُقَيَّدٌ بِذَلِكَ الْحَيْضِ الَّذِي أَوْقَعَ فِيهِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ إذَا تُؤُمِّلَ، فَعَلَى هَذَا إذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى طَهُرَتْ تَقَرَّرَتْ الْمَعْصِيَةُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَوَجْهُ الظَّاهِرِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَالْفَاصِلُ هُنَا بَعْضُ الْحَيْضَةِ فَتَكْمُلُ بِالْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ وَلَا تَتَجَزَّأُ: أَيْ لَيْسَ لِجُزْئِهَا عَلَى حِدَتِهِ حُكْمٌ فِي الشَّرْعِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ حَيْضَتَيْنِ حَيْضَةٌ فَوَجَبَ تَكَامُلُهَا، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ حَيْضَةٌ إلَّا الثَّانِيَةُ فَلَغَا بَعْضُ الْأُولَى. وَوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَثَرَ الطَّلَاقِ انْعَدَمَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِي هَذِهِ الْحَيْضَةِ فَيُسَنُّ تَطْلِيقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهَا، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَتَفَرَّعُ مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ثُمَّ رَاجَعَهَا لَا يُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلثَّانِيَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ رَاجَعَهَا بَعْدَ الثَّانِيَةِ لَا يُكْرَهُ إيقَاعُ الثَّالِثَةِ، وَعَلَى هَذَا فَرْعُ مَا لَوْ أَخَذَ يَدَهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ تَقَعُ الثَّلَاثُ لِلسُّنَّةِ فِي الْحَالِ مُتَتَابِعَةً؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ فَيَكُونُ الْوَقْتُ وَقْتَ طَلَاقِ السُّنَّةِ فَيَقَعُ الثَّانِي، وَكَذَا الثَّالِثُ، وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لَا يَقَعُ إلَّا الْأُولَى ثُمَّ فِي أَوَّلِ كُلِّ طُهْرٍ بَعْدَ حَيْضَةٍ تَقَعُ أُخْرَى، فَمَا ذَكَرَ فِي الْمَنْظُومَةِ وَمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لَا عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. هَذَا إذَا وَقَعَتْ الرَّجْعَةُ
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً)؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ وَوَقْتُ السُّنَّةِ طُهْرٌ لَا جِمَاعَ فِيهِ (وَإِنْ نَوَى أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى) سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ
بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْمَسِّ، أَمَّا إذَا وَقَعَتْ بِالْجِمَاعِ وَلَمْ تَحْبَلْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فِي هَذَا الطُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ طُهْرٌ جَامَعَهَا فِيهِ وَإِنْ حَبِلَتْ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ شَهْرٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ الْأُولَى سَقَطَتْ وَالطَّلَاقُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فِي الطُّهْرِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا حَبِلَتْ وَظَهَرَ الْحَبَلُ، هَذَا فِي تَخَلُّلِ الرَّجْعَةِ. فَأَمَّا لَوْ تَخَلَّلَ النِّكَاحُ بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ بَائِنًا؛ فَقِيلَ لَا يُكْرَهُ الطَّلَاقُ الثَّانِي اتِّفَاقًا، وَقِيلَ فِي تَخَلُّلِ الرَّجْعَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا اتِّفَاقًا. وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً) فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ فَأَظْهَرُ ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ جَامَعَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ وَقَعَتْ وَاحِدَةً لِلْحَالِ ثُمَّ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ أُخْرَى، إنْ كَانَ جَامَعَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ الثَّلَاثُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا بِدْعَةَ عِنْدَهُ وَلَا سُنَّةَ فِي الْعَدَدِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ يَأْتِي، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا، ثُمَّ لَا يَقَعُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَرَّةً أُخْرَى فَتَقَعُ الثَّانِيَةُ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا أَيْضًا وَقَعَتْ الثَّالِثَةُ.
وَوَجْهُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا هُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ، فَالْمَعْنَى الطَّلَاقُ الْمُخْتَصُّ بِالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةُ
لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَهِيَ ضِدُّ السُّنَّةِ. وَلَنَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ؛ لِأَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا مِنْ حَيْثُ إنَّ وُقُوعَهُ بِالسُّنَّةِ لَا إيقَاعًا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ وَيَنْتَظِمُهُ عِنْدَ نِيَّتِهِ (وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ وَقَعَتْ السَّاعَةَ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى)؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَالطُّهْرِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَإِنْ نَوَى أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ السَّاعَةَ وَقَعْنَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لَمَا قُلْنَا)
مُطْلَقٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ السُّنِّيُّ عَدَدًا وَوَقْتًا فَوَجَبَ جَعْلُ الثَّلَاثِ مُفَرَّقًا عَلَى الْأَطْهَارِ لِتَقَعَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ طُهْرٍ.
وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ بِكَوْنِ اللَّامِ لِلْوَقْتِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ ثَلَاثًا لِوَقْتِ السُّنَّةِ، وَهَذَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الطَّلَاقِ بِإِحْدَى جِهَتَيْ سُنَّةِ الطَّلَاقِ وَهُوَ السُّنِّيُّ وَقْتًا، وَحِينَئِذٍ فَمُؤَدَّاهُ ثَلَاثٌ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ، وَيَصْدُقُ بِوُقُوعِهَا جُمْلَةً فِي طُهْرٍ بِلَا جِمَاعٍ، فَإِنَّهُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ امْتَنَعَ تَعْمِيمُ السُّنَّةِ فِي جِهَتَيْهَا، بِخِلَافِ مَا قَرَّرْنَا، وَأَمَّا لَوْ صَرَفَهُ عَنْ هَذَا بِنِيَّتِهِ فَأَرَادَ الثَّلَاثَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ خِلَافًا لِزُفَرَ، قَالَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ ضِدُّ السُّنَّةِ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِيهِ. قُلْنَا: بَلْ يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا: أَيْ وُقُوعُهُ بِالسُّنَّةِ فَتَصِحُّ إرَادَتُهُ وَتَكُونُ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ: أَيْ لِأَجْلِ السُّنَّةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ وُقُوعَ الثَّلَاثِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ صَرَّحَ بِالْأَوْقَاتِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْقَاتَ السُّنَّةِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الْجَمْعِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ وَالنِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ مَعَ لَفْظٍ مُحْتَمَلٍ وَاللَّامُ تَحْتَمِلُ الْوَقْتَ وَالتَّعْلِيلَ، وَهِيَ فِي مِثْلِهِ لِلْوَقْتِ أَظْهَرُ مِنْهَا لِلتَّعْلِيلِ فَيُصْرَفُ إلَى التَّعْلِيلِ بِالنِّيَّةِ وَإِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ عَدَمِهَا، بِخِلَافِ لَفْظِ أَوْقَاتٍ، وَكَذَا إذَا نَوَى أَنْ يَقَعَ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدَةٌ فَهِيَ عَلَى مَا نَوَى، سَوَاءٌ كَانَتْ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ حَائِضًا أَوْ طَاهِرَةً؛ لِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ زَمَانَ حَيْضِهَا أَوْ طُهْرِهَا؛ فَعَلَى الثَّانِي هُوَ سُنِّيٌّ وُقُوعًا وَإِيقَاعًا وَعَلَى الْأَوَّلِ سُنِّيٌّ وُقُوعًا، فَنِيَّتُهُ الثَّلَاثَ، عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ قَدْ تَكُونُ حَائِضًا فِيهِ نِيَّةُ الْأَعَمِّ مِنْ السُّنِّيِّ وُقُوعًا وَإِيقَاعًا مَعًا أَوْ أَحَدَهُمَا (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ) أَيْ امْرَأَتُهُ: أَيْ الَّتِي قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ (آيِسَةً أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ) الَّتِي هِيَ فُصُولُ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ فَيَتَنَاوَلُ الْحَامِلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (وَقَعَتْ لِلسَّاعَةِ وَاحِدَةً وَبَعْدَ كُلِّ شَهْرٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا دَلِيلُ الْحَاجَةِ كَالطُّهْرِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا قَائِمٌ مَقَامَ الْحَيْضِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ نَوَى أَنْ تَقَعَ السَّاعَةَ ثَلَاثٌ وَقَعْنَ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِزُفَرَ (لِمَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا فَيَصِحُّ مَنْوِيًّا.
بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى الثَّلَاثِ حَيْثُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْوَقْتِ فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ فِي الْحَالِ مُتَتَابِعَةً؛ لِأَنَّ هَذِهِ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ جِمَاعِهِ فَكَانَ كُلُّ وَقْتٍ فِي حَقِّهَا وَقْتَ طَلَاقِ السُّنَّةِ، وَمَا وَجَّهْتُمْ بِهِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الرَّغْبَةَ مُسْتَمِرَّةٌ وَلَوْ عَقِيبَ الْجِمَاعِ يُوجِبُ تَوَالِي الثَّلَاثَ فِي الْوُقُوعِ، كَمَا لَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ وَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ عَلَى مَا مَرَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ تَقَعُ الثَّلَاثُ مُتَتَالِيَةً؛ لِأَنَّ وَقْتَ كُلٍّ وَاقِعٌ مِنْهَا وَقْتَ السُّنَّةِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْوَجْهُ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَنْحَصِرَ حِلُّ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا بِطَلَقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى، وَيَنْعَطِفُ بِهَذَا الْبَحْثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إلَخْ) إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلَاثًا وَقَعَتْ وَاحِدَةً فِي الْحَالِ إنْ كَانَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ جَامَعَهَا أَوْ حَائِضًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ حَتَّى تَطْهُرَ فَتَقَعَ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلِاخْتِصَاصِ: أَيْ الطَّلَاقُ الْمُخْتَصُّ بِالسُّنَّةِ. وَلَوْ نَوَى ثَلَاثًا مُفَرِّقًا عَلَى الْأَطْهَارِ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي أَوْقَاتِ طَلَاقِ السُّنَّةِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ تَعَدُّدَ الْوَاقِعِ فَيَصِحُّ.
وَلَوْ نَوَى ثَلَاثًا جُمْلَةً اُخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَصَاحِبُ الْمُخْتَلِفَاتِ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فَتَقَعُ الثَّلَاثُ جُمْلَةً كَمَا تَقَعُ مُفَرَّقَةً عَلَى الْأَطْهَارِ؛ لِأَنَّ لِلسُّنَّةِ يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ فَيَصِحُّ وُقُوعُهَا كَمَا إذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ، وَحَقَّقَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسُّنَّةِ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ مَا عُرِفَ وَبِدْعِيٌّ وَكِلَاهُمَا عُرِفَا بِالسُّنَّةِ وَإِنْ اقْتَرَنَ أَحَدُهُمَا بِالنَّهْيِ فَأَيُّهُمَا نَوَاهُ صَحَّ فَإِذَا نَوَى الْبِدْعِيَّ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ، وَمُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ مَعَ نِيَّةِ الْجُمْلَةِ لَا تَكُونُ اللَّامُ لِلْوَقْتِ مُفِيدَةً لِلْعُمُومِ، وَمَا وَقَعَ الثَّلَاثُ إلَّا عَنْ ضَرُورَةِ تَعْمِيمِهَا بِالْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ طَالِقٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا فُقِدَ تَعْمِيمُ الْأَوْقَاتِ لَمْ يَبْقَ مَا يَصْلُحُ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّةُ جُمْلَتِهَا، وَقَوْلُهُمْ الْمُخْتَصُّ بِالسُّنَّةِ مُسْتَحَبٌّ وَبِدْعِيٌّ، فَأَيُّهُمَا نَوَاهُ صَحَّ، إنْ أَرَادُوا أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ الْعَامَّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ صَحَّ مَنَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ طَالِقًا لَا يُرَادُ بِهِ الثَّلَاثُ أَصْلًا بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ إيَّاهُ فَلَا يُرَادُ بِهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ إذَا نَوَى فَرْدًا مِنْ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ صَحَّ فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُ وُقُوعَ الْكُلِّ، وَلَيْسَ ثَمَّ مُوجِبٌ آخَرُ لِغَرَضِ أَنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لِعُمُومِ الْوَقْتِ لَيْسَ غَيْرُ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مَنْعَ أَنَّ تَعْمِيمَ الْأَوْقَاتِ يَسْتَلْزِمُ تَعْمِيمَ الْوَاقِعِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ لَا يَقَعُ الثَّلَاثُ لِمَا سَيُعْرَفُ مِنْ أَنَّهَا بِطَلَاقٍ وَاحِدٍ تَكُونُ طَالِقًا كُلَّ يَوْمٍ، وَكَذَا بِطَلَاقٍ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ السَّنَةِ تَصِيرُ بِهِ طَالِقًا فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهَا الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَهَذَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ تَعْمِيمَ أَوْقَاتِ السَّنَةِ بِالْوُقُوعِ لَا فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعْمِيمُ الْوَاقِعِ فِيهِ، فَإِذَا نَوَى الْجَمْعَ بَطَلَ تَعْمِيمُ الْوَقْتِ فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ.
أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ تَقَعُ وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ تَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً بِلَا نِيَّةٍ.
وَلَوْ نَوَى فِيهِ تَجَدُّدَ الْوَاقِعِ فِي الْأَيَّامِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. نَعَمْ هَذَا يَصْلُحُ إشْكَالًا عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ مُفَرَّقًا عَلَى الْأَطْهَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُفَرَّقًا عَلَى الْأَيَّامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُورَدَةِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ طَالِقًا لَا يَقْبَلُ التَّعْمِيمَ، وَلِلسُّنَّةِ عَلَى مَا قَرَّرَ الْمُصَنِّفُ لِوَقْتِهَا فَيُفِيدُ تَعْمِيمَ الْوَقْتِ، لَكِنْ تَعْمِيمُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعْمِيمَ الْوَاقِعِ فِي الْعَدَدِ بَلْ انْسِحَابُ حُكْمِ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ أَنَّهَا طَالِقٌ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَفِي كُلِّ الْأَيَّامِ فَلَمْ يُوجِبْ تَعْمِيمَ طَالِقٍ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَلَا يَحْتَمِلُهُ فَلَا يَحْتَمِلُ حِينَئِذٍ التَّعْمِيمَ فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَسَنَذْكُرُ مَا ذَكَرَ مِنْ وَجْهِ تَصْحِيحٍ فِي فَصْلِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فُرُوعٌ]
أَلْفَاظُ طَلَاقِ السُّنَّةِ عَلَى مَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لِلسُّنَّةِ وَفِي السُّنَّةِ وَعَلَى السُّنَّةِ وَطَلَاقُ سُنَّةٍ وَالْعِدَّةُ وَطَلَاقُ عِدَّةٍ وَطَلَاقُ الْعَدْلِ وَطَلَاقًا عَدْلًا وَطَلَاقُ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَحْسَنُ الطَّلَاقِ وَأَجْمَلُهُ، أَوْ طَلَاقُ الْحَقِّ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ الْكِتَابِ، كُلُّ هَذِهِ تُحْمَلُ عَلَى أَوْقَاتِ السُّنَّةِ بِلَا نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ. وَلَوْ قَالَ طَالِقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ مَعَهُ، فَإِنْ نَوَى طَلَاقَ السُّنَّةِ وَقَعَ فِي أَوْقَاتِهَا، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ. وَلَوْ قَالَ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ بِهِ أَوْ عَلَى قَوْلِ الْقُضَاةِ أَوْ الْفُقَهَاءِ أَوْ طَلَاقَ الْقُضَاةِ أَوْ الْفُقَهَاءِ، فَإِنْ نَوَى السُّنَّةَ دِينَ، وَفِي الْقَضَاءِ يَقَعُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَا خَصَّصَ دِيمَ وَلَا يُسْمَعُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَلَوْ قَالَ عَدْلِيَّةٌ أَوْ سُنِّيَّةٌ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلسُّنَّةِ، وَلَوْ قَالَ حَسَنَةٌ أَوْ جَمِيلَةٌ وَقَعَ فِي الْحَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: وَقَعَ فِي الْحَالِ فِي كِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ جَازَ أَنْ تُوصَفَ بِهَا الْمَرْأَةُ فَلَا تُجْعَلُ لِلطَّلَاقِ حَتَّى يَتَأَخَّرَ فَيَقَعَ فِي الْحَالِ، وَاعْتَبَرَ أَبُو يُوسُفَ الْغَالِبَ وَبَاقِي هَذَا الْفَصْلِ تَشْبِيهُ الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَوْ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ وَنَوَى الثَّلَاثَ فِي الْحَالِ يَقَعُ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ،
فَصْلٌ
(وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا
وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ» وَلِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْعَقْلِ الْمُمَيِّزِ وَهُمَا عَدِيمَا الْعَقْلِ
وَكَذَا الْوَاحِدَةُ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي فِيهِ جِمَاعٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَ فِي طُهْرٍ فِيهِ جِمَاعٌ أَوْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ وَقَعَتْ وَاحِدَةً مِنْ سَاعَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ لَا يَقَعُ لِلْحَالِ حَتَّى تَحِيضَ أَوْ يُجَامِعَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ.
(فَصْلٌ)(قَوْلُهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ) وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ (وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمُ) وَالْمَعْتُوهُ كَالْمَجْنُونِ، قِيلَ هُوَ الْقَلِيلُ الْفَهْمِ الْمُخْتَلِطُ الْكَلَامِ الْفَاسِدُ التَّدْبِيرِ لَكِنْ لَا يَضْرِبُ وَلَا يَشْتُمُ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ. وَقِيلَ الْعَاقِلُ مَنْ يَسْتَقِيمُ كَلَامُهُ وَأَفْعَالُهُ إلَّا نَادِرًا وَالْمَجْنُونُ ضِدُّهُ، وَالْمَعْتُوهُ مَنْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى السَّوَاءِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يُحْكَمُ بِالْعَتَهِ عَلَى أَحَدٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَا قِيلَ مَنْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ غَالِبًا مَعْنَاهُ يَكْثُرُ مِنْهُ.
وَقِيلَ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلَ الْمَجَانِينِ عَنْ قَصْدٍ مَعَ ظُهُورِ الْفَسَادِ وَالْمَجْنُونُ بِلَا قَصْدٍ، وَالْعَاقِلُ خِلَافُهُمَا وَقَدْ يَفْعَلُ فِعْلَ الْمَجَانِينِ عَلَى ظَنِّ الصَّلَاحِ أَحْيَانًا. وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَدْهُوشُ كَذَلِكَ، وَهَذَا (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ») وَاَلَّذِي فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ» وَضَعَّفَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ. وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ هُنَا النَّفَاذُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ. لَكِنْ مَعْلُومٌ مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَنْفُذُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ وَأَدَرْنَاهَا بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ خُصُوصًا مَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ خُصُوصًا مَا لَا يَحِلُّ إلَّا لِانْتِفَاءِ مَصْلَحَةِ ضِدِّهِ الْقَائِمِ كَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي تَمَامَ الْعَقْلِ لِيُحْكِمَ بِهِ التَّمْيِيزَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَلَمْ يَكْفِ عَقْلُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الِاعْتِدَالَ، بِخِلَافِ مَا هُوَ حَسَنٌ لِذَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ حُسْنُهُ السُّقُوطَ وَهُوَ الْإِيمَانُ حَتَّى صَحَّ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَلَوْ فُرِضَ لِبَعْضِ الصِّبْيَانِ الْمُرَاهِقِينَ عَقْلٌ جَيِّدٌ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ صَارَ الْبُلُوغَ
وَالنَّائِمُ عَدِيمُ الِاخْتِيَارِ.
(وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقُولُ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ وَبِهِ يُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ، بِخِلَافِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ. وَلَنَا أَنَّهُ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي مَنْكُوحَتِهِ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ قَضِيَّتِهِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ اعْتِبَارًا بِالطَّائِعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ وَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وَهَذَا آيَةُ الْقَصْدِ
لِانْضِبَاطِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، وَكَوْنُ الْبَعْضِ لَهُ ذَلِكَ لَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَظَانِّ الْكُلِّيَّةِ؛ وَبِهَذَا يَبْعُدُ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ إذَا عَقَلَ الصَّبِيُّ الطَّلَاقَ جَازَ طَلَاقُهُ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: جَوَازُ طَلَاقِ الصَّبِيِّ وَمُرَادُهُ الْعَاقِلُ، وَمِثْلُهُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ هَذِهِ النُّقُولِ.
(قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ) وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) وَبِقَوْلِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِيمَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَلَا خُلْعُهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنهم لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»؛ وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُجَامِعُ الِاخْتِيَارَ الَّذِي بِهِ يُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ بِخِلَافِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ مُخْتَارٌ فِي التَّكَلُّمِ اخْتِيَارًا كَامِلًا فِي السَّبَبِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ فَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ ذَلِكَ وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا فِي نَفْيِ الْحُكْمِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ «حَدِيثُ حُذَيْفَةَ وَأَبِيهِ حِينَ حَلَّفَهُمَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ لَهُمَا صلى الله عليه وسلم نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» فَبَيَّنَ أَنَّ الْيَمِينَ طَوْعًا وَكَرْهًا سَوَاءٌ، فَعُلِمَ أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ عَنْ اخْتِيَارٍ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَعَ الرِّضَا وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالْإِكْرَاهِ. وَحَدِيثُ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى وَلَا عُمُومَ لَهُ،
وَالِاخْتِيَارُ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُخِلٍّ بِهِ كَالْهَازِلِ.
(وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ) وَاخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ بِالْعَقْلِ وَهُوَ زَائِلُ الْعَقْلِ فَصَارَ كَزَوَالِهِ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ.
وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْحُكْمِ الَّذِي يَعُمُّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا وَأَحْكَامَ الْآخِرَةِ بَلْ إمَّا حُكْمُ الدُّنْيَا وَإِمَّا حُكْمُ الْآخِرَةِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ مُرَادٌ فَلَا يُرَادُ الْآخَرُ مَعَهُ وَإِلَّا عُمِّمَ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو الطَّائِيِّ «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُبْغِضُ زَوْجَهَا فَوَجَدَتْهُ نَائِمًا، فَأَخَذَتْ شَفْرَةً وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ حَرَّكَتْهُ وَقَالَتْ لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا وَإِلَّا ذَبَحْتُكَ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ فَأَبَتْ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَدٌّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالصَّدَقَةُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْقَائِلُ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ فِيمَا أُكْرِهَ فِيهِ حَتَّى يُبَاحَ مَرَّةً وَيُفْتَرَضَ وَيَحْرُمَ أُخْرَى فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي حِلِّ الْإِقْدَامِ وَحُرْمَتِهِ بَلْ فِي تَرَتُّبِ حُكْمِ مَا حَلَّ أَوْ وَجَبَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ تَلَفُّظًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّ التَّلَفُّظِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ تَرَتُّبُ حُكْمِهِ إذَا كَانَ مِمَّا يَضُرُّهُ فَالْوَجْهُ مَا تَقَدَّمَ وَجَمِيعُ مَا يَثْبُتُ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَحْكَامُهُ عَشَرَةُ تَصَرُّفَاتٍ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ، وَالظِّهَارُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ، وَجَمَعْتهَا لِيَسْهُلَ حِفْظُهَا فِي قَوْلِي:
يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِتْقٌ وَرَجْعَةٌ
…
نِكَاحٌ وَإِيلَاءٌ طَلَاقُ مُفَارِقِي
وَفَيْءٌ ظِهَارٌ وَالْيَمِينُ وَنَذْرُهُ
…
وَعَفْوٌ لِقَتْلِ شَابَ عَنْهُ مَفَارِقِي
وَهَذَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَبِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ تَتِمُّ أَحَدَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَصِحُّ مَعَهُ.
(قَوْلُهُ وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ) وَكَذَا عَتَاقُهُ وَخُلْعُهُ، وَهُوَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَلَا السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْعَقْلِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ فَهُوَ كَالصَّاحِي. وَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ مِنْ قَوْلِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاقَ: يَعْنِي الْمُكْرَهَ وَالسَّكْرَانَ فَلَيْسَ مَذْهَبًا لِأَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ أَوْ ذَكَرَ كِنَايَةً مِنْ الْكِنَايَاتِ
وَلَنَا أَنَّهُ زَالَ (بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَجُعِلَ بَاقِيًا حُكْمًا زَجْرًا لَهُ، حَتَّى لَوْ شَرِبَ فَصُدِعَ وَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ نَقُولُ إنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ).
مِثْلَ أَنْتِ حُرَّةٌ فَيَجِبُ أَنْ يَصْدُقَ فَيَقَعُ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي شَرْحِ بَكْرٍ: السُّكْرُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّصَرُّفَاتُ أَنْ يَصِيرَ بِحَالٍ بِحَيْثُ يُحَسِّنُ مَا يَسْتَقْبِحُهُ النَّاسُ أَوْ يَسْتَقْبِحُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ النَّاسُ لَكِنَّهُ يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ عَالٍ بَيْنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. فَقَالَ بِوُقُوعِهِ مِنْ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَقَالَ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَطَاوُسٌ وَرَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَزُفَرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَهُوَ مُخْتَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ مَشَايِخِنَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ أَقَلَّ مَا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ لَفْظِهِ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ أَوْ مَظَنَّتُهُ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ النَّائِمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُوقِظَ يَسْتَيْقِظُ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ، وَصَارَ كَزَوَالِهِ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ وَهُوَ الْأَفْيُونُ، وَكَوْنُ زَوَالِ عَقْلِهِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ لَا أَثَرَ لَهُ وَإِلَّا صَحَّتْ رِدَّتُهُ وَلَا تَصِحُّ.
قُلْنَا لَمَّا خَاطَبَهُ الشَّرْعُ فِي حَالِ سُكْرِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِحُكْمٍ فَرْعِيٍّ عَرَفْنَا أَنَّهُ اعْتَبَرَهُ كَقَائِمِ الْعَقْلِ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، وَعَقَلْنَا أَنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ كَوْنَهُ تَسَبَّبَ فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِسَبَبِ مَحْظُورٍ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَأَدَرْنَا عَلَيْهِ وَاعْتَبَرْنَا أَقْوَالَهُ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ فَتَاوَى مَشَايِخِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ بِوُقُوعِ طَلَاقِ مَنْ غَابَ عَقْلُهُ بِأَكْلِ الْحَشِيشِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِوَرَقِ الْقِنَّبِ لِفَتْوَاهُمْ بِحُرْمَتِهِ بَعْدَ أَنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَأَفْتَى الْمُزَنِيّ بِحُرْمَتِهَا، وَأَفْتَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو بِحِلِّهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهَا بِشَيْءٍ لِعَدَمِ ظُهُورِ شَأْنِهَا فِيهِمْ، فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْرِهَا مِنْ الْفَسَادِ كَثِيرًا وَفَشَا عَادَ مَشَايِخُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْمَذْهَبَيْنِ إلَى تَحْرِيمِهَا وَأَفْتَوْا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِمَّنْ زَالَ عَقْلُهُ بِهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يُمَيِّزُ بِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى آخِرِهِ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيهِ بِمَعْنَى عَكْسِ الِاسْتِحْسَانِ وَالِاسْتِقْبَاحِ مَعَ تَمْيِيزِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْعَجَبُ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ مِنْ أَنَّ مَعَهُ مِنْ الْعَقْلِ مَا يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُتَّجَهُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ، أَمَّا ذَلِكَ الْخِطَابُ فَقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} .
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ خِطَابًا لَهُ حَالَ سُكْرِهِ فَنَصٌّ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ سُكْرِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا فِي حَالِ سُكْرِهِ، إذْ لَا يُقَالُ إذَا جُنِنْت فَلَا تَفْعَلْ كَذَا، وَبِدَلَالَاتِ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُلْحِقَ بِالصَّاحِي فِيمَا لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ حَتَّى حُدَّ وَقُتِلَ إذَا قَذَفَ وَقَتَلَ فَلَأَنْ يَلْحَقَ بِهِ فِيمَا يَثْبُتُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ يُوجِبُهُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ عَقِيبَهُ، وَعَدَمُ صِحَّةِ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ النَّصِّ مَا اعْتَبَرَ عَقْلَهُ بَاقِيًا إلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، فَلَوْ أَثْبَتْنَاهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ كَانَ بِالْقِيَاسِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يُوجِبُ إكْفَارُهُ التَّشْدِيدَ فِيمَا يُوجِبُهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِكْفَارَ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إنَّمَا يَكُونُ احْتِيَاطًا، وَلَا يُحْتَاطُ فِي الْإِكْفَارِ بَلْ يُحْتَاطُ فِي عَدَمِهِ؛ وَلِأَنَّ رُكْنَهَا الِاعْتِقَادُ وَهُوَ مُنْتَفٍ. لَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَدَمُ إكْفَارِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَعْتَقِدُ مَا قَالَهُ مِنْ الْكُفْرِ هَزْلًا وَالْوَاقِعُ إكْفَارُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إكْفَارُهُ بِالِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَالِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ كُفْرٌ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي السَّكْرَانِ؛ لِأَنَّ زَائِلَ الْعَقْلِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِشَيْءٍ، وَفِي جُمَلِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ عَقْلِهِ لِلزَّجْرِ وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَالرِّدَّةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا؛ وَلِأَنَّ جِهَةَ زَوَالِ الْعَقْلِ تَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَجِهَةَ بَقَائِهِ زَوَالُهُ فَتُرَجَّحُ جِهَةُ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَعَدَمُ الْوُقُوعِ بِالْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ لِعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتَّدَاوِي غَالِبًا فَلَا يَكُونُ زَوَالُ الْعَقْلِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّدَاوِي بَلْ لِلَّهْوِ وَإِدْخَالِ الْآفَةِ قَصْدًا يَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ يَقَعُ.
فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ شَرِبَ الْبَنْجَ فَارْتَفَعَ إلَى رَأْسِهِ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَالَا: إنْ كَانَ حِينَ شَرِبَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا هُوَ تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ تَطْلُقْ مَعْلُومٌ أَنَّ الضَّرُورَةَ مُبِيحَةٌ، فَكَانَ مَحْمَلُ هَذَا مَا قُلْنَا، وَعَنْ ذَلِكَ قُلْنَا: إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَصُدِعَ فَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ فَطَلَّقَ لَا يَقَعُ، وَالْحُكْمُ لَا يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَالشُّرْبِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْعِلَّةِ: أَعْنِي الصُّدَاعَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ أَثَرَهَا لَا يَصِلُ إلَى الْمَعْلُولِ الْأَخِيرِ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا فَالشُّرْبُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلصُّدَاعِ بَلْ يَثْبُتُ الصُّدَاعُ اتِّفَاقًا عِنْدَ اسْتِعْدَادِ الطَّبِيعَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَصَارَ الشُّرْبُ الَّذِي وُجِدَ عَنْهُ الصُّدَاعُ الَّذِي عَنْهُ زَوَالُ الْعَقْلِ كَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لِلْمَعْصِيَةِ لَمْ يُوجِبْ التَّشْدِيدَ بَلْ يَمْنَعُ التَّرَخُّصَ فَلَمْ يُضَفْ زَوَالُ الْعَقْلِ إلَيْهِ لِيُثْبَتَ التَّشْدِيدُ بِخِلَافِ الشُّرْبِ الَّذِي لَمْ يَحْدُثْ عَنْهُ صُدَاعٌ مُزِيلٌ لِلْعَقْلِ بَلْ زَالَ بِهِ حَيْثُ تَعَلَّقَ بِهِ التَّشْدِيدُ لِإِضَافَةِ زَوَالِ الْعَقْلِ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرِبَهَا مُكْرَهًا أَوْ لِإِسَاغَةِ لُقْمَةٍ ثُمَّ سَكِرَ لَا يَقَعُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ عِنْدَ كَمَالِ التَّلَذُّذِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ مُكْرَهًا، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْوُقُوعِ عِنْدَ زَوَالِ الْعَقْلِ لَيْسَ إلَّا التَّسَبُّبُ فِي زَوَالِهِ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ السُّكْرَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْأَشْرِبَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ اُضْطُرَّ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ، وَمَنْ سَكِرَ مِنْهَا مُخْتَارًا
(وَطَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَاقِعٌ بِالْإِشَارَةِ)؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَعْهُودَةً فَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْعِبَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَسَتَأْتِيكَ وُجُوهُهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا، وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَدَدُ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» ،
اُعْتُبِرَتْ عِبَارَاتُهُ.
وَأَمَّا مَنْ شَرِبَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْعَسَلِ فَسَكِرَ وَطَلَّقَ لَا يَقَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَيُفْتَى بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ مُحَرَّمٌ
(قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَاقِعٌ بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَفْهُومَةً فَكَانَتْ كَالْعِبَارَةِ) فِي الدَّلَالَةِ اسْتِحْسَانًا فَيَصِحُّ بِهَا نِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ أَوْ لَا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْهُ ذَلِكَ أَدَّى إلَى مَوْتِهِ جُوعًا وَعَطَشًا وَعُرْيًا، ثُمَّ رَأَيْنَا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَهَا مِنْهُ فِي الْعِبَادَاتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا حَرَّكَ لِسَانَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ كَانَ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا فَكَذَا فِي الْمُعَامَلَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِالْإِشَارَةِ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِمَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ الْإِشَارَةِ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِشَارَةِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُهُ الْإِشَارَةُ الْمَقْرُونَةُ بِتَصْوِيتٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مِنْهُ ذَلِكَ فَكَانَتْ الْإِشَارَةُ بَيَانًا لِمَا أَجْمَلَهُ الْأَخْرَسُ وَيَتَّصِلُ بِمَا ذَكَرْنَا كِتَابَةُ الطَّلَاقِ، وَالْأَخْرَسُ فِيهَا كَالصَّحِيحِ، فَإِذَا طَلَّقَ الْأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ يَكْتُبُ جَازَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْكَلَامِ قَادِرٌ عَلَى الْكِتَابِ، فَهُوَ وَالصَّحِيحُ فِي الْكِتَابِ سَوَاءٌ، وَسَنُفَصِّلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْصُولًا بِكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ.
(قَوْلُهُ وَطَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا، وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَدَدُ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ) فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وَهِيَ حُرَّةٌ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِتَطْلِيقَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا وَهِيَ أَمَةٌ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ إلَّا بِثَلَاثٍ. وَنُقِلَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ لَهُ: أَيُّهَا الْفَقِيهُ إذَا مَلَكَ الْحُرُّ عَلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ ثَلَاثًا كَيْفَ يُطَلِّقُهَا لِلسُّنَّةِ؟ قَالَ: يُوقِعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةً، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ أَوْقَعَ أُخْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ قَالَ لَهُ حَسْبُك. قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَمَّا تَحَيَّرَ رَجَعَ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةٌ وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةٌ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهم، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما لَهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» قَابَلَ بَيْنَهُمَا، وَاعْتِبَارُ الْعِدَّةِ بِالنِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَكَذَا مَا قُوبِلَ بِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ أَنْسَبُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِيقَاعُ بِالرِّجَالِ؛ وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ «أَنَّ نُفَيْعًا مُكَاتَبًا كَانَ لِأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
لِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَامَةٌ وَالْآدَمِيَّةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لَهَا، وَمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ فِي الْحُرِّ أَكْمَلُ فَكَانَتْ مَالِكِيَّتُهُ أَبْلَغَ وَأَكْثَرَ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ»
أَوْ عَبْدًا لَهَا كَانَ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ فَطَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَأَمَرَهُ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ عُثْمَانَ فَيَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَقِيَهُ عِنْدَ الدَّرَجِ آخِذًا بِيَدِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَسَأَلَهُمَا فَابْتَدَرَاهُ جَمِيعًا فَقَالَا حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَرُمَتْ عَلَيْكَ» (وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ الثَّابِتُ، بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ وَمَا مَهَّدَ مِنْ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَوْ حُسْنِهِ وَلَا وُجِدَ لَهُ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَرِيقٍ يُعْرَفُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ مِنْ كَلَامِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَدِيثُ الْمُوَطَّأِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَعَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ، وَالْإِلْزَامُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ نَقْضُ مَذْهَبِ الْخَصْمِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ الْمُلْزَمُ صَحِيحًا، وَلَا يَكُونُ نَقْضُ مَذْهَبِ خَصْمِهِ فَقَطْ يُوجِبُ صِحَّةَ مَذْهَبِ نَفْسِهِ إلَّا بِطَرِيقِ عَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ مَا نَقَضَ بِهِ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَهُ فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، فَهُوَ فِي مَذْهَبِهِ وَفِي مُعْتَقَدِهِ غَيْرُ مَنْقُوضٍ فَلَمْ يَثْبُتْ لِمَذْهَبِهِ دَلِيلٌ يُقَاوِمُ مَا رَوَيْنَا. فَإِنْ قُلْت: قَدْ ضُعِّفَ أَيْضًا مَا رَوَيْتُمْ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُظَاهِرٍ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْنَا: أَوَّلًا تَضْعِيفُ بَعْضِهِمْ لَيْسَ كَعَدَمِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا هُوَ فِيمَا رَوَيْتُمْ، وَثَانِيًا بِأَنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَدِيٍّ أَخْرَجَ لَهُ حَدِيثًا آخَرَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ آخَرِ آلِ عِمْرَانَ» وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَهُ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ وَأَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيِّ تَضْعِيفَهُ لَكِنْ قَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ حَدِيثَهُ هَذَا عَنْهُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَمُظَاهِرٌ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي مَشَايِخِنَا بِجَرْحٍ، فَإِذَنْ إنْ لَمْ يَكُنْ الْحَدِيثُ صَحِيحًا كَانَ حَسَنًا، وَمِمَّا يُصَحِّحُ الْحَدِيثَ أَيْضًا عَمَلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وَفْقِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِيبَ رِوَايَتِهِ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ. وَفِي الدَّارَقُطْنِيِّ: قَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ: عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالَ مَالِكٌ: شُهْرَةُ الْحَدِيثِ بِالْمَدِينَةِ تُغْنِي عَنْ صِحَّةِ سَنَدِهِ
وَلِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهَا، وَلِلرِّقِّ أَثَرٌ فِي تَنْصِيفِ النِّعَمِ إلَّا أَنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ عُقْدَتَانِ، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْإِيقَاعَ بِالرِّجَالِ.
(وَإِذَا)(تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً) بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَطَلَّقَهَا (وَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ مَوْلَاهُ عَلَى امْرَأَتِهِ)؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَكُونُ الْإِسْقَاطُ إلَيْهِ دُونَ الْمَوْلَى.
انْتَهَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ نِعْمَةٌ) تَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ، وَلِذَا اتَّسَعَ حِلُّهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ زِيَادَةِ فَضْلِهِ (وَلِلرِّقِّ أَثَرٌ فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ) فِي الشَّرْعِ كَمَا عُرِفَ (إلَّا أَنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ عُقْدَتَانِ) يَعْنِي يَلْزَمُ لِتَنْصِيفِ النِّعْمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَرَّةً وَنِصْفًا عَقِيبَ طَلَاقِهِ إيَّاهَا، لَكِنَّ الْعُقْدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَمُلَتْ كَالطَّلْقَةِ وَالْحَيْضَةِ فِي حَقِّهَا، ثُمَّ لَوْ تَمَّ أَمْرُ مَا رَوَاهُ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ قِيَامَ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ احْتِمَالًا لِلَّفْظِ مُسَاوِيًا لَتَأَيَّدَ بِمَا رَوَيْنَاهُ فَكَيْفَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِمْ الْمِلْكُ بِالرِّجَالِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ مَوْلَاهُ عَلَى امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ)؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مِنْ خَصَائِصِ الْآدَمِيَّةِ وَهُوَ فِيهَا مُبْقِي عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي ابْتِدَاءِ تَمَلُّكِهِ إيَّاهُ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بِلَا مَالٍ فِي حَقِّ الِابْتِدَاءِ، وَالْبَقَاءُ فِي حَقِّ النَّفَقَةِ وَتَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِالْعَبْدِ يَقَعُ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ بِحَيْثُ تُؤْخَذُ هِيَ فِيهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى فَيُتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ بِهِ وَالْتِزَامِهِ إيَّاهُ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ حَتَّى ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ كَانَ إلَيْهِ دَفْعُهُ لَا إلَى غَيْرِهِ.
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَصَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، إنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ غَيْرِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَرْعٌ]
الْوَكِيلُ بِالطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَالٍ لَا يَنْعَزِلُ بِطَلَاقِ الْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا الْمُوَكِّلُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا يَنْعَزِلُ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا الْمُوَكِّلُ بَعْدَ الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْوَكِيلِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيمَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَقَعَ عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.