الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِبَابُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ
(الطَّلَاقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ. فَالصَّرِيحُ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَّقْتُك فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ فَكَانَ صَرِيحًا
(بَابُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ)
مَا تَقَدَّمَ كَانَ ذِكْرَ الطَّلَاقِ نَفْسِهِ وَأَقْسَامِهِ الْأَوَّلِيَّةِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ وَإِعْطَاءً لِبَعْضِ أَحْكَامِ تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ، وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ أَحْكَامِ جُزْئِيَّاتٍ لِتِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ، فَإِنَّ الْمُورَدَ فِيهِ خُصُوصُ أَلْفَاظٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَاقٌ لِإِعْطَاءِ أَحْكَامِهَا هَكَذَا أَوْ مُضَافَةٌ إلَى بَعْضِ الْمَرْأَةِ وَإِعْطَاءُ حُكْمِ الْكُلِّيِّ وَتَصْوِيرُهُ قَبْلَ الْجُزْئِيِّ مُنْزَلٌ مَنْزِلَةَ تَفْصِيلٍ يُعْقِبُ إجْمَالًا، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بَابُ بَيَانِ أَحْكَامِ مَا بِهِ الْإِيقَاعُ وَالْوُقُوعُ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ الَّذِي لَا تَحَقُّقَ لَهُ خَارِجًا (قَوْلُهُ فَالصَّرِيحُ أَنْتِ طَالِقٌ إلَخْ) ظَاهِرُ الْحَمْلِ يُفِيدُ أَنْ لَا صَرِيحَ سِوَى ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ، فَسَيَذْكُرُ مِنْهُ التَّطْلِيقَ بِالْمَصْدَرِ، وَلَفْظُ الْكَنْزِ: كَأَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَّقْتُك أَحْسَنُ لِإِشْعَارِ الْكَافِ بِعَدَمِ الْحَصْرِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ ضَبْطُ الصَّرِيحِ بِأَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ بِهِ (طَ لَ قَ) بِصِيغَةِ التَّفْصِيلِ لَا الْأَفْعَالِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْوُقُوعُ بِالْمَصْدَرِ لِتَأَوُّلِهِ بِطَالِقٍ.
(قَوْلُهُ فَكَانَ صَرِيحًا) فَإِنَّ مَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنًى بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا صَرِيحٌ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ فَأَوْلَى بِالصَّرَاحَةِ فَلِذَا رَتَّبَ الصَّرَاحَةَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِقَوْلِهِ فَكَانَ صَرِيحًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ دُونَ غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ فِي قَوْلِهِ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ افْتِقَارِهَا إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ تَدَافُعًا لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ
وَأَنَّهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ بِالنَّصِّ
بِالْغَلَبَةِ هُنَا هُوَ مَا وَصَفَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ فِي غَيْرِهِ، وَالْغَلَبَةُ فِي مَفْهُومِهَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْغَيْرِ قَلِيلًا لِلتَّقَابُلِ بَيْنَ الْغَلَبَةِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّرِيحِ لَفْظَيْ التَّسْرِيحِ وَالْفِرَاقِ لِوُرُودِهِمَا فِي الْقُرْآنِ لِلطَّلَاقِ كَثِيرًا.
قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ تَعَارُفُهُمَا فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ فِي الطَّلَاقِ لَا اسْتِعْمَالُهُمَا شَرْعًا مُرَادًا هُوَ بِهِمَا (قَوْلُهُ وَأَنَّهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ) ذَكَرَ لِلصَّرِيحِ حُكْمَيْنِ: كَوْنُهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَعَدَمُ احْتِيَاجَةِ إلَى نِيَّةٍ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَعْرِصْ عَارِضُ تَسْمِيَةِ مَالٍ أَوْ ذِكْرُ وَصْفٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَقَدْ يُقَالُ الصَّرِيحُ هُوَ الْمُقْتَصَرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَيْدِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} بَعْدَ صَرِيحِ طَلَاقِهِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} فَعُلِمَ أَنَّ الصَّرِيحَ يَسْتَعْقِبُهَا لِلْإِجْمَاعِ. عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُعُولَةِ فِي الْآيَةِ الْمُطَلِّقُونَ صَرِيحًا كَانَ أَوْ مَجَازًا غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى إثْبَاتِ كَوْنِ الْمُطَلِّقِ رَجْعِيًّا بَعْلًا حَقِيقَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِهِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ سَمَّاهُ بَعْلًا فَعُلِمَ أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُبْطِلُ الزَّوْجِيَّةَ، ثُمَّ إيرَادُ أَنَّ حَقِيقَةَ الرَّدِّ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ زَوْجًا إلَّا مَجَازًا، وَجَعَلَهُ حَقِيقَةً يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الرَّدِّ وَلَيْسَ هُوَ بِأَوْلَى مِنْ قَلْبِهِ. ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ تَصَوُّرِ كَوْنِ الرَّدِّ حَقِيقَةً بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ.
بَلْ قَدْ يُقَالُ أَيْضًا بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ زَوَالِهِ مُعَلَّقًا بِمُتَعَلِّقِ الْمِلْكِ عَلَى مَعْنَى مَنْعِ السَّبَبِ مِنْ تَأْثِيرِ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهُ كَقَوْلِنَا رَدَّ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ شَرْطٍ لِلْبَائِعِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: رَدَّ الْمَبِيعَ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مِلْكِهِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِفَسْخِ السَّبَبِ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، كَمَا يُقَالُ مُتَعَلِّقًا بِهِ بَعْدَ تَأْثِيرِ السَّبَبِ كَمَا فِي رَدِّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالْعَيْبِ: يَعْنِي إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ الزَّائِلِ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِثْبَاتِ بَحْثٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ فِي الْأَوَّلِ حَقِيقَةً مِمَّا يَمْنَعُهُ الْخَصْمُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَإِنَّهُ أَعْقَبَهُ الرَّجْعَةَ الَّتِي هِيَ الْمُرَادُ بِالْإِمْسَاكِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَأَنَّهُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ بِالنَّصِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ اسْتِدَامَةُ الْقَائِمِ لَا إعَادَةُ الزَّائِلِ، فَدَلَّ عَلَى إبْقَاءِ النِّكَاحِ بَعْدَ الرَّجْعِيِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْآخَرُ، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ فَنُقِلَ فِيهِ إجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ.
إلَّا دَاوُد فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ قَيْدِ النِّكَاحِ، قُلْنَا: هَذَا احْتِمَالٌ يَعْزُبُ إخْطَارُهُ عِنْدَ خِطَابِ الْمَرْأَةِ بِهِ عَنْ النَّفْسِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ فَصَارَ اللَّفْظُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْنَى. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حَيْثُ أَمَرَهُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَنَوَى أَمْ لَا؟ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ كَالْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَرَائِنَ إرَادَةِ الْإِيقَاعِ قَائِمَةٌ فِيمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ الِاعْتِزَالِ وَالتَّرْكِ لَهَا حَتَّى فُهِمَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَدَلَالَةُ إطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وَنَحْوِهِ اعْتِبَارُ عَدَمِ النِّيَّةِ أَبْعَدَ، ثُمَّ قَوْلُنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَصْلًا يَقَعُ لَا أَنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ نَوَى شَيْئًا آخَرَ، لِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ عَنْ وِثَاقٍ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَكَذَا عَنْ الْعَمَلِ فِي رِوَايَةٍ كَمَا سَيَذْكُرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَصْدِ بِالْخِطَابِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عَالِمًا بِمَعْنَاهُ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَائِبَةِ كَمَا يُفِيدُهُ فُرُوعٌ: هُوَ أَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ مَسَائِلَ الطَّلَاقِ بِحَضْرَةِ زَوْجَتِهِ وَيَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَنْوِي طَلَاقًا لَا تَطْلُقُ، وَفِي مُتَعَلِّمٍ يَكْتُبُ نَاقِلًا مِنْ كِتَابِ رَجُلٍ قَالَ: ثُمَّ وَقَفَ وَكَتَبَ امْرَأَتِي طَالِقٌ وَكَلَّمَا كَتَبَ قَرَنَ الْكِتَابَةَ بِالتَّلَفُّظِ بِقَصْدِ الْحِكَايَةِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ لِقَوْمٍ تَعَلَّمْت ذِكْرًا بِالْفَارِسِيَّةِ فَقُولُوهُ مَعِي فَقَالَ: رَنِ مِنْ بَسّه طَلَاق فَقَالُوهُ لَمْ يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِالْحُرْمَةِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْتَقِدُوهُ ذِكْرًا وَاعْتَقَدُوهُ شَيْئًا آخَرَ، كَذَا نُقِلَ مِنْ فَتَاوَى الْمَنْصُورِيِّ. وَمَا فِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ لُقِّنَتْ الْمَرْأَةُ زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ تَعْرِفْ مَعْنَاهُ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَعْنَاهُ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ صَحَّ النِّكَاحُ كَالطَّلَاقِ،
(وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ) لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِبَانَةَ
وَقِيلَ لَا كَالْبَيْعِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْخِلَافِ فِي الْوُقُوعِ فِي مَسْأَلَةِ الذِّكْرِ، وَفِيهَا فِي الْجِنْسِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَدَّمَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ طَلَاقُ الْهَازِلِ وَطَلَاقُ الرَّجُلِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ وَاقِعٌ.
وَفِي النَّسَفِيِّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْغَلَطُ فِي الطَّلَاقِ، وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ اسْقِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ وَلَوْ كَانَ بِالْعَتَاقِ يَدِينُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ الْغَلَطُ فِيهِمَا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ أَيْضًا: قَالَتْ لِزَوْجِهَا: اقْرَأْ عَلَيَّ اعْتَدِّي أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَفَعَلَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي الْقَضَاءِ لَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ وَلَمْ يَنْوِ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا فِي الْمَنْصُورِيِّ، وَيُخَالِفُ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ آنِفًا مِنْ مَسْأَلَةِ التَّلْقِينِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَقَعَ بِلَا قَصْدٍ لَفْظُ الطَّلَاقِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِيمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ وَاقِعٌ: أَيْ فِي الْقَضَاءِ، وَقَدْ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ بِالْعَتَاقِ يَدِينُ، بِخِلَافِ الْهَازِلِ لِأَنَّهُ مُكَابِرٌ بِاللَّفْظِ فَيَسْتَحِقَّ التَّغْلِيظُ، وَسَيَذْكُرُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ مِنْ الْوِثَاقِ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ أَصَرْحُ صَرِيحٍ فِي الْبَابِ ثُمَّ لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ: يَعْنِي اللَّفْظَ بَعْدَ الْقَصْدِ إلَى اللَّفْظِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ السَّبَبَ عَالَمًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ رَتَّبَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ عَلَيْهِ أَرَادَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ إلَّا إنْ أَرَادَ مَا يَحْتَمِلُهُ. وَأَمَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْهُ أَوْ لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ فَيَثْبُتَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ شَرْعًا وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِ اللَّفْظِ وَلَا بِاللَّفْظِ فَمِمَّا يَنْبُو عَنْهُ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وَفُسِّرَ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ مَعَ أَنَّهُ قَاصِدٌ لِلسَّبَبِ عَالِمٌ بِحُكْمِهِ فَإِلْغَاؤُهُ لِغَلَطِهِ فِي ظَنِّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْآخَرُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ بِلَا قَصْدٍ إلَى الْيَمِينِ كَلَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ، فَرُفِعَ حُكْمُهُ الدُّنْيَوِيُّ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ إلَيْهِ، فَهَذَا تَشْرِيعٌ لِعِبَادِهِ أَنْ لَا يُرَتِّبُوا الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ، وَكَيْفَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّائِمِ عِنْدَ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ إلَى اللَّفْظِ وَلَا حُكْمِهِ وَإِنَّمَا لَا يُصَدِّقُهُ غَيْرُ الْعَلِيمِ وَهُوَ الْقَاضِي.
وَفِي الْحَاوِي مَعْزُوًّا إلَى الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ أَنَّ أَسَدًا سَأَلَ عَمَّنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ عَمْرَةُ عَلَى أَيِّهِمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، فَقَالَ فِي الْقَضَاءِ: تَطْلُقُ الَّتِي سَمَّاهَا، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، أَمَّا الَّتِي سَمَّاهَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلِأَنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ طَلُقَتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَهَذَا صَرِيحٌ.
وَأَمَّا مَا رَوَى عَنْهُمَا نُصَيْرٌ مِنْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الطَّلَاقُ يَقَعُ دِيَانَةً وَقَضَاءً فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِبَانَةَ) أَيْ بِالصَّرِيحِ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَتَلْغُو نِيَّتُهُ
لِأَنَّهُ قَصَدَ تَنْجِيزَ مَا عَلَّقَهُ الشَّرْعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ.
وَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ عَنْ وِثَاقٍ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ. وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ الْعَمَلِ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الطَّلَاقَ لِرَفْعِ الْقَيْدِ وَهِيَ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْعَمَلِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ لِلتَّخْلِيصِ.
لِأَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ تَنْجِيزَ مَا عَلَّقَهُ الشَّرْعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ) عِنْدَ وُجُودِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَالْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ (فَيُرَدُّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَ الشَّرْعَ كَمَا رَدَّ إرْثَ الْوَارِثِ بِالْقَتْلِ لِاسْتِعْجَالِهِ فِيهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ) أَيْ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ (عَنْ وِثَاقٍ لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ) إلَّا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا. وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ (وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ الْعَمَلِ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لِرَفْعِ الْقَيْدِ وَهِيَ لَيْسَتْ مُقَيَّدَةً بِالْعَمَلِ فَلَا يَكُونُ مُحْتَمِلَ اللَّفْظِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّخَلُّصِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ مُتَخَلِّصَةٌ عَنْ الْعَمَلِ، وَلَوْ صَرَّحَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُظَنُّ أَنَّهُ طَلَّقَ ثُمَّ وَصَلَ
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِتَسْكِينِ الطَّاءِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ عُرْفًا فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا.
لَفْظَ الْعَمَلِ اسْتِدْرَاكًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَلَ لَفْظَ الْوِثَاقِ حَيْثُ يُصَدَّقُ قَضَاءً لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ قَلِيلًا، وَكُلُّ مَا لَا يَدِينُهُ الْقَاضِي إذَا سَمِعَتْهُ مِنْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَهَا عَدْلٌ لَا يَسَعُهَا أَنْ تَدِينَهُ لِأَنَّهَا كَالْقَاضِي لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إلَّا الظَّاهِرَ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِتَسْكِينِ الطَّاءِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا) أَيْ لَفْظَةَ مُطْلَقَةٍ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ: أَيْ فِي الطَّلَاقِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ عُرْفًا بَلْ فِي الِانْطِلَاقِ عَنْ الْقَيْدِ الْحِسِّيِّ فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِيهِ فَيَتَوَقَّفَ عَلَى النِّيَّةِ.
[فُرُوعٌ]
لَوْ قَالَ لَهَا: يَا مُطَلَّقَةُ بِالتَّشْدِيدِ أَوْ يَا طَالِقُ وَقَعَ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْت الشَّتْمَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ النِّدَاءَ اسْتِحْضَارٌ بِالْوَصْفِ الَّذِي تَضْمَنَّهُ اللَّفْظُ إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا ابْنِي لِعَبْدِهِ. وَلَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ طَلَّقَهَا قَبْلُ فَقَالَ: أَرَدْت ذَلِكَ الطَّلَاقَ صُدِّقَ دِيَانَةً بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَقَضَاءً فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ حَسَنٌ، وَيَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ مَا فِي الْعِتْقِ لَوْ سَمَّاهَا طَالِقًا، ثُمَّ نَادَاهَا بِهِ لَا تَطْلُقُ.
وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا: سَمِّنِي فَسَمَّاهَا الطَّيِّبَةَ فَقَالَتْ: مَا قُلْتَ شَيْئًا فَقَالَ: هَاتِ مَا أُسَمِّيك بِهِ فَقَالَتْ: سَمِّنِي خَلِيَّةٌ طَالِقٌ قَالَ: فَأَنْتِ خَلِيَّةٌ طَالِقٌ فَجَاءَتْ إلَى عُمَرَ فَقَالَتْ لَهُ: إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَصَّ الْقِصَّةَ فَأَوْجَعَ عُمَرُ رَأْسَهَا وَقَالَ لَهُ: خُذْ بِيَدِهَا وَأَوْجَعَ رَأْسَهَا، وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُك أَمْسِ وَهُوَ كَاذِبٌ كَانَ طَلَاقًا فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْسِبْهَا أَوْ نَسَبَهَا إلَى أَبِيهَا أَوْ أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ وَلَدِهَا وَامْرَأَتِهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَقَالَ: عَنَيْت أُخْرَى أَجْنَبِيَّةً لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ مِنْ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعْطَاءُ وَيَحْلِفُ مَا لَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمَالُ لَا مَا هُوَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ.
وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَنَيْت امْرَأَتِي وَصَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي إبْطَالِ الطَّلَاقِ عَنْ الْمَعْرُوفَةِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى نِكَاحِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ أَوْ عَلَى إقْرَارِهِمَا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ تُصَدِّقَهُ الْمَرْأَةُ الْمَعْرُوفَةُ، كَذَا فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ. وَلَوْ قَالَ: امْرَأَتِي فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ طَالِقٌ وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا لَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لِدَائِنِهِ فَقَالَ: إنْ خَرَجْت مِنْ الْبَلْدَةِ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَك حَقَّك فَامْرَأَتِي فُلَانَةُ طَالِقٌ وَاسْمُ امْرَأَتِهِ غَيْرُهُ لَا تَطْلُقُ إذَا خَرَجَ قَبْلَهُ.
وَلَوْ قَالَ لِإِحْدَى نِسَائِهِ: يَا زَيْنَبُ فَأَجَابَتْهُ زَوْجَتُهُ عَمْرَةُ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ الْمُجِيبَةُ. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْت زَيْنَبَ طَلُقَتَا هَذِهِ بِالْإِشَارَةِ وَتِلْكَ بِالْإِقْرَارِ. هَذَا فِي الْقَضَاءِ. أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الَّتِي قَصَدَهَا ذَكَرَهُ فِي الْبَدَائِعِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ زَيْنَبُ فَقَالَتْ: عَمْرَةُ: نَعَمْ فَقَالَ: إذَنْ أَنْتِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيْك الطَّلَاقُ أَوْ لَك اُعْتُبِرَتْ النِّيَّةُ. وَلَوْ قَالَ: قُولِي أَنَا طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَقُولَهَا.
وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ اسْمُهُمَا وَاحِدٌ وَنِكَاحُ إحْدَاهُمَا فَاسِدٌ فَقَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ وَقَالَ: عَنَيْتُ الَّتِي نِكَاحُهَا فَاسِدٌ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: إحْدَاكُمَا أَوْ إحْدَى امْرَأَتَيَّ طَالِقٌ، وَيَقَعُ أَيْضًا بِالتَّهَجِّي كَأَنْتِ ط ال قِ، وَكَذَا لَوْ لَوْ قِيلَ لَهُ: طَلَّقْتَهَا فَقَالَ: ن ع م إذَا نَوَى صَرَّحَ بِقَيْدِ النِّيَّةِ فِي الْبَدَائِعِ، وَلَا يَقَع بِأُطَلِّقُك إلَّا إذَا غَلَبَ فِي الْحَالِ، وَلَوْ قَالَتْ أَنْتَ طَالِقٌ فَقَالَ: نَعَمْ طَلُقَتْ. وَلَوْ قَالَ لَهُ فِي جَوَابِ طَلَّقَنِي لَا تَطْلُقُ وَإِنْ نَوَى. وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَلَسْتَ طَلَّقْتَهَا فَقَالَ: بَلَى طَلُقَتْ أَوْ نَعَمْ لَا تَطْلُقُ.
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي عَدَمُ الْفَرْقِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يُفَرِّقُونَ بَلْ يَفْهَمُونَ مِنْهُمَا إيجَابَ الْمَنْفِيِّ وَلَوْ قَالَ: خُذِي طَلَاقَك فَقَالَتْ: أَخَذْتُ اُخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَصُحِّحَ الْوُقُوعُ بِلَا اشْتِرَاطِهَا، وَيَقَعُ بِطَلَّقَكِ اللَّهُ أَطْلَقَهَا فِي النَّوَازِلِ مَرَّةً ثُمَّ أَعَادَهَا وَشَرَحَ النِّيَّةَ وَهُوَ الْحَقُّ،.
وَأَمَّا الْمُصَحَّفُ فَهُوَ خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ: تَلَاقٌ، وَتَلَاغٌ،
قَالَ (وَلَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ مَا نَوَى لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ، فَإِنَّ ذِكْرَ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِلطَّلَاقِ لُغَةً كَذِكْرِ الْعَالَمِ ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ
وَطَلَاغٌ، وَطَلَاكٌ، وَتَلَاكٌ. وَيَقَعُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ وَلَا يُصَدَّقُ إلَّا إذَا أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِأَنْ قَالَ: امْرَأَتِي تَطْلُبُ مِنِّي الطَّلَاقَ وَأَنَا لَا أُطَلِّقُ فَأَقُولُ هَذَا وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً، وَكَانَ ابْنُ الْفَضْلِ يُفَرِّقُ أَوَّلًا بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَلْوَانِيِّ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى هَذَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَلَوْ قَالَ: نِسَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا أَوْ الرَّيِّ طَوَالِقُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ لَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ إلَّا إنْ نَوَاهَا، رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذِكْرِ لَفْظِ جَمِيعٍ وَعَدَمِهِ فِي الْأَصَحِّ. وَفِي نِسَاءِ أَهْلِ السِّكَّةِ أَوْ الدَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا وَنِسَاءِ هَذَا الْبَيْتِ وَهِيَ فِيهِ تَطْلُقُ. وَنِسَاءِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهَا بِالدَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقهَا بِالْمِصْرِ.
وَلَوْ قَالَ: طَلَّاقُك عَلَيَّ لَا يَقَعُ، وَلَوْ زَادَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ لَازِمٌ أَوْ ثَابِتٌ قِيلَ تَطْلُقُ رَجْعِيَّةً نَوَى أَوْ لَا، وَقِيلَ: لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى، وَقِيلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقَعُ، وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَقَعُ فِي وَاجِبٍ وَيَقَع فِي لَازِمٍ، وَقِيلَ: بَلْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى نِيَّتِهِ، وَقِيلَ يَقَعُ فِي وَاجِبٍ لِلتَّعَارُفِ بِهِ، وَفِي الثَّلَاثَةِ لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى لِعَدَمِ التَّعَارُفِ. وَفِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لِلْخَاصِّيِّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ ثَابِتًا بَلْ حُكْمَهُ، وَحُكْمُهُ لَا يَجِبُ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَتَاقِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ ثُبُوتَهُ اقْتِضَاءً، وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّتِهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ عُرْفٌ فَاشٍ فَيَصِيرَ صَرِيحًا فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً فِي صَرْفِهِ عَنْهُ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إنْ قَصَدَهُ وَقَعَ وَإِلَّا لَا، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ هَذَا الْأَمْرُ عَلَيَّ وَاجِبٌ بِمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَهُ لَا أَنِّي فَعَلْتُهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ أُطَلِّقَك، وَقَدْ تُعُورِفَ فِي عُرْفِنَا فِي الْحَلِفِ الطَّلَاقَ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا: يُرِيدُ إنْ فَعَلْتُهُ لَزِمَ الطَّلَاقُ وَوَقَعَ، فَيَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَذَا تَعَارَفَ أَهْلُ الْأَرْيَافِ الْحَلِفَ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ الطَّلَاقِ لَا أَفْعَلُ، وَلَوْ قَالَ: طَالِ بِلَا قَافٍ يَقَعُ، قِيلَ: لِأَنَّهُ تَرْخِيمٌ وَهُوَ غَلَطٌ، إذْ التَّرْخِيمُ اخْتِيَارًا فِي النِّدَاءِ، وَفِي غَيْرِهِ إنَّمَا يَقَعُ اضْطِرَارًا فِي الشِّعْرِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ بِثَلَاثٍ وَقَعَتْ ثَلَاثٌ إنْ نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ لَا يُصَدَّقُ إذَا كَانَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَإِلَّا صُدِّقَ، وَمِثْلُهُ بِالْفَارِسَةِ توبسه عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى خِلَافًا لِلصَّفَّارِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ أَطَلْقُ مِنْ فُلَانَةَ وَفُلَانَةُ مُطَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، فَإِنْ عُنِيَ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَالْمَعْنَى عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً لِأَجْلِ فُلَانَةَ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَيْسَ صَرِيحًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ لَهُ مَثَلًا: فُلَانٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَقَالَ: لَهَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ أَزَنَى مِنْ فُلَانَةَ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُونِي طَالِقًا أَوْ اطَّلِقِي يَقَعُ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُونِي لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقَةً لِعَدَمِ تَصَوُّرِ كَوْنِهَا طَالِقًا مِنْهَا بَلْ عِبَارَةً عَنْ إثْبَاتِ كَوْنِهَا طَالِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُنْ فَيَكُونُ} لَيْسَ أَمْرًا بَلْ كِنَايَةً عَنْ التَّكْوِينِ وَكَيْنُونَتُهَا طَالِقًا يَقْتَضِي إيقَاعًا قَبْلُ فَيَتَضَمَّنَ إيقَاعًا سَابِقًا، وَكَذَا قَوْلُهُ اطَّلِقِي وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ لِلْأَمَةِ: كُونِي حُرَّةً.
(قَوْلُهُ وَلَا يَقَعُ بِهِ) أَيْ بِالصَّرِيحِ الْمُقَيَّدِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْتِ طَالِقٌ مُطَلَّقَةٌ طَلَّقْتُك لَا تَطْلُقُ (إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) لَا الصَّرِيحُ مُطْلَقًا لِأَنَّ مِنْهُ الْمَصْدَرَ وَبِهِ يَقَعُ الثَّلَاثُ بِالنِّيَّةِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ مَا نَوَى) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ
وَلِهَذَا يَصِحُّ قِرَانُ الْعَدَدِ بِهِ فَيَكُونَ نَصَبًا عَلَى التَّمْيِيزِ. وَلَنَا أَنَّهُ نَعْتٌ فَرْدٌ حَتَّى قِيلَ لِلْمُثَنَّى طَالِقَانِ وَلِلثَّلَاثِ طَوَالِقُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ، وَذِكْرُ الطَّالِقِ
وَزُفَرَ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَجْهُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ نَوَى مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ، فَإِنْ ذَكَرَ الطَّالِقُ ذِكْرَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْوَصْفَ كَالْفِعْلِ جُزْءُ مَفْهُومِهِ الْمَصْدَرُ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ اتِّفَاقًا (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ ذِكْرَهُ ذِكْرَ الطَّلَاقِ الْمُحْتَمِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ (صَحَّ قِرَانُ الْعَدَدِ بِهِ تَفْسِيرًا حَتَّى يُنْصَبَ عَلَى التَّمْيِيزِ) وَحَاصِلُ التَّمْيِيزِ لَيْسَ إلَّا تَعْيِينَ أَحَدِ مُحْتَمَلَاتٍ لِلَّفْظِ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيثُ «رُكَانَةَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْبَتَّةَ، قَالَ: صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهِ مَا أَرَدْتُ إلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَدْتُ إلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» وَأَيْضًا إذَا صَحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَهُوَ كِنَايَةٌ فَفِي الصَّرِيحِ الْأَقْوَى أَوْلَى.
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ نَعْتٌ فَرْدٌ) قِيلَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الْمَرْأَةِ الْمَوْصُوفَةِ أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ عَلَى مَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى قِيلَ لِلْمُثَنَّى طَالِقَانِ وَالثَّلَاثِ طَوَالِقُ بَلْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ الَّذِي تَضْمَنَّهُ وَوَحْدَتُهُ لَا تَمْنَعُ احْتِمَالَ الْعَدَدِ بِجِنْسِيَّتِهِ. وَتَحْرِيرُ التَّقْرِيرِ أَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا أُرِيدَ مِنْ قَيْدِ النِّكَاحِ كَانَ مَعْنَاهُ لُغَةً وَصْفَهَا بِانْطِلَاقِهَا مِنْ قَيْدِ النِّكَاحِ وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِهِ فَصِدْقُهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّطْلِيقِ، وَالْمُتَيَقَّنُ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ مُطَلِّقًا عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَثْبَتَهُ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِإِخْبَارِهِ فَلَا يَتَجَاوَزُ الْوَاحِدَةَ إذْ الضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِهَا وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ لِذَلِكَ أَوْ نَقَلَهُ مِنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِمُوجِبِ نَقْلٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِأَنَّ جَعْلَهُ مُوقِعًا لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْلَهُ لِأَنَّ بِإِثْبَاتِهِ اقْتِضَاءً يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَيُعْتَرَضُ بِالْقَطْعِ بِتَخَلُّفِ لَازِمِ الْإِخْبَارِ، إذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ قَطُّ احْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَزِمَ تَحَقُّقُ النَّقْلِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ: إنَّهُ إخْبَارٌ مِنْ وَجْهٍ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَا قُلْنَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَ التَّسْلِيمِ الْمَعْلُومِ مِنْ الشَّرْعِ جَعْلُهُ مُوقِعًا وَاحِدَةً فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا نَقَلَهُ إلَى إنْشَاءِ إيقَاعِ الْوَاحِدَةِ فَجَعْلُهُ مُوقِعًا بِهِ مَا شَاءَ اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يُنْقَلَ أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ لِمَا هُوَ أَعَمُّ وَلَيْسَ فَلَا يُرَادُ بِهِ وَمُلَاحَظَةُ مَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْمَصْدَرِ كَمَا ذَكَرْتُمْ إنَّمَا يَتَفَرَّعُ عَنْ إرَادَةِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ وَنَقْلُهُ إلَى الْإِنْشَاءِ يُبَايِنُهُ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ اللَّفْظَ عِلَّةً لِدُخُولِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ فِي الْوُجُودِ الْمُخَالِفِ لِمُقْتَضَاهُ لُغَةً، عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ هُوَ الِانْطِلَاقُ الَّذِي هُوَ وَصْفُهَا، وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّدُ أَصْلًا بَلْ يَخْتَلِفُ بِالْكَيْفِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يَعْقُبُهُ الرَّجْعَةُ شَرْعًا وَمَا لَا لَا فِي الْكَمِّيَّةِ وَحِينَئِذٍ يَتَّفِقُ كَلَامُهُمْ هُنَا، وَفِي الْبَيْعِ حَيْثُ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ بِعْت إنْشَاءً حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ الصِّيغَةَ.
وَإِنْ كَانَتْ لِلْإِخْبَارِ وَضْعًا فَقَدْ
ذِكْرٌ لِطَلَاقٍ هُوَ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ لَا لِطَلَاقٍ هُوَ تَطْلِيقٌ، وَالْعَدَدُ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا كَقَوْلِك أَعْطَيْتُهُ جَزِيلًا: أَيْ عَطَاءً جَزِيلًا (وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ) وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ النَّعْتَ وَحْدَهُ
جُعِلَتْ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ عَدَمُ صِحَّةِ إرَادَةِ الثَّلَاثِ فِي مُطَلَّقَةٍ وَطَلَّقْتُك لِأَنَّهُ صَارَ إنْشَاءً فِي الْوَاحِدَةِ غَيْرَ مُلَاحَظٍ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْعَدَدُ نَحْوُ ثَلَاثًا لَا يَكُونُ صِفَةً لِمَصْدَرِ الْوَصْفِ بَلْ لِمَصْدَرِ غَيْرِهِ: أَيْ طَلَاقًا أَيْ تَطْلِيقًا ثَلَاثًا كَمَا يُنْصَبُ فِي الْفِعْلِ مَصْدَرٌ غَيْرُهُ مِثْلُ {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} أَوْ يُضْمَرُ لَهُ فِعْلٌ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، بِخِلَافِ طَلَّقَهَا وَطَلِّقِي نَفْسَك لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُحْتَمِلَ لِلْكُلِّ مَذْكُورٌ لُغَةً فَصَحَّ إرَادَةٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا نَقْلَ فِيهِ إلَى إيقَاعِ وَاحِدَةٍ، هَذَا وَنُقِضَ بِطَالِقٍ طَلَاقًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ مَعَ أَنَّ الْمُنْتَصِبَ هُوَ مَصْدَرُ طَالِقٍ.
وَيُدْفَعُ بِأَنَّ طَلَاقًا الْمَصْدَرُ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّطْلِيقُ كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالْبَلَاغُ بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ، فَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّلَاثُ عَلَى إرَادَةِ التَّطْلِيقِ بِهِ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ طَالِقٌ لِأَنِّي طَلَّقْتُك تَطْلِيقًا ثَلَاثًا. بَقِيَ أَنْ يُرَدَّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ بِأَنْتِ الطَّلَاقُ وَهُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا نَوَى الثَّلَاثَ كَانَ الْمَعْنَى أَنْتِ وَقَعَ عَلَيْك التَّطْلِيقُ فَيَصِحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ. وَنُوقِضَ بِأَنَّهُ لَمَّا لَا يَجُوزُ فِي طَالِقٍ عِنْدَ إرَادَةِ الثَّلَاثِ أَنْ يُرَادَ أَنْتِ ذَاتٌ وَقَعَ عَلَيْك التَّطْلِيقُ وَجَازَ فِي الْمَصْدَرِ. وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي فِي ضِمْنِ طَالِقٍ ذَلِكَ كَأَنْ يُرَادَ بِاسْمِ الْفِعْلِ اسْمُ الْمَفْعُولِ وَهُوَ مُنْتَفٍ.
فَإِنْ قُلْت: ظَاهِرُ مَا ذَكَرْت أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يُرَادَ اسْمُ الْمَفْعُولِ صَحَّتْ إرَادَةُ الثَّلَاثِ. وَالْفَرْضُ أَنَّ صَرِيحَ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَأَنْتِ مُطَلَّقَةٌ لَا يَقْبَلُ نِيَّةَ الثَّلَاثِ فَكَيْفَ بِمَا يُرَادُ هُوَ بِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ هُوَ اسْمُ الْمَفْعُولِ الْمَنْقُولِ لِلْإِنْشَاءِ عَلَى مَا الْتَزَمْنَا الْجَوَابَ بِهِ، وَاَلَّذِي يُرَادُ بِطَالِقٍ لَيْسَ لِلْإِنْشَاءِ فَتَأَمَّلْ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِطَالِقِ الثَّلَاثِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ فَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ مِمَّا تَصِحُّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ مِنْهُ لَاسْتَفْسَرَهُ. يَدُلُّ عَلَى الْمُلَازَمَةِ حَدِيثُ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْنَمَةَ أَلْبَتَّةَ فَقَالَ: صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهِ مَا أَرَدْتَ إلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَدْتُ إلَّا وَاحِدَةً» الْحَدِيثُ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَمْضِي حُكْمُ الْمُحْتَمَلِ حَتَّى يُسْتَفْسَرَ عَنْهُ، وَثَبَتَ لَنَا مَطْلُوبٌ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْكِنَايَاتِ عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا لَا أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الطَّلَاقُ وَإِلَّا كَانَ غَيْرَ مُحْتَمَلٍ فَلَمْ يَسْأَلْهُ كَمَا لَمْ يَسْأَلْ ابْنَ عُمَرَ، وَلِكَوْنِهَا عَوَامِلَ بِحَقَائِقِهَا احْتَمَلَتْ فَسَأَلَهُ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَتْ حَقَائِقَهَا: أَعْنِي مَعْنَى الْبَيْنُونَةِ الَّتِي تُفِيدُهُ أَلْبَتَّةَ كُلًّا مِنْ نَوْعَيْهَا الْغَلِيظَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الثَّلَاثِ وَالْخَفِيفَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى مَا دُونَهَا فَصَحَّ أَنْ يُرَادَ كُلٌّ مِنْ النَّوْعَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ثَبَتَ الْأَخَفُّ لِلتَّيَقُّنِ.
(قَوْلُهُ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظَةِ الثَّانِيَةِ) يَعْنِي طَالِقٌ الطَّلَاقَ وَبِالثَّالِثَةِ وَهِيَ طَالِقٌ طَلَاقًا، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، غَيْرَ أَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ بِطَالِقٍ طَلَاقًا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِالْمَصْدَرِ، وَيَلْغُو طَالِقٌ فِي حَقِّ الْإِيقَاعِ كَمَا إذَا ذَكَرَ مَعَهُ الْعَدَدَ فَإِنَّ الْوَاقِعَ هُوَ الْعَدَدُ وَإِلَّا يُشْكِلُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ
يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، فَإِذَا ذَكَرَهُ وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ مَعَهُ وَأَنَّهُ يَزِيدُهُ وَكَادَةً أَوْلَى.
وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِاللَّفْظَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الِاسْمُ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ: أَيْ عَادِلٌ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَلَاقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَيْضًا وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ وَيَكُونُ رَجْعِيًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ، وَتَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْكَثْرَةَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ فَيَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ، وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ فِيهَا خِلَافًا لِزُفَرَ.
هُوَ يَقُولُ: إنَّ الثِّنْتَيْنِ بَعْضُ الثَّلَاثِ فَلَمَّا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ صَحَّتْ نِيَّةُ بَعْضِهَا ضَرُورَةً. وَنَحْنُ نَقُولُ: نِيَّةُ الثَّلَاثِ إنَّمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا جِنْسًا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ، أَمَّا الثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ فَعَدَدٌ، وَاللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى التَّوَحُّدِ يُرَاعَى فِي أَلْفَاظِ الْوُحْدَانِ وَذَلِكَ بِالْفَرْدِيَّةِ أَوْ الْجِنْسِيَّةِ وَالْمَثْنَى بِمَعْزِلٍ مِنْهُمَا.
وَيَقَعُ بِالْمَصْدَرِ ثِنْتَانِ وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْحُرَّةِ لِمَا عُرِفَ، وَهَذَا يُقَوِّي الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ، وَيَجِبُ كَوْنُ طَالِقٍ الطَّلَاقَ مِثْلَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ إلَّا فِي الْمُنْكَرِ (قَوْلُهُ وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِاللَّفْظَةِ الْأُولَى) وَهِيَ الطَّلَاقُ (فَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الِاسْمُ. يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ: أَيْ عَادِلٌ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ) وَيُرَدُّ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ طَالِقٌ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ وَسَنَذْكُرُ جَوَابَهُ (قَوْلُهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ) أَيْ فِي أَنْتِ الطَّلَاقُ إلَى نِيَّةٍ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّطْلِيقَ بِالْمَصْدَرِ بِالْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَغْلِبْ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ لَا يُفِيدُ لِأَنَّ الَّذِي غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ هُوَ الْوَصْفُ لَا الْمَصْدَرُ. قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّ الْمَصْدَرَ حَيْثُ اُسْتُعْمِلَ كَانَ إرَادَةُ طَالِقٍ بِهِ هُوَ الْغَالِبُ فَيَكُونُ صَرِيحًا فِي طَالِقِ الصَّرِيحِ فَيَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ طَالِقٍ. لَا يُقَالُ: فَيَلْزَمُ فِي سَائِرِ الْكِنَايَاتِ أَنَّهَا صَرَائِحُ. لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الطَّلَاقِ بَلْ فِي مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى مَا سَيَتَحَقَّقُ وَلِذَا أَوْقَعنَا بِهَا الْبَائِنَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَقَعُ الثَّلَاثُ وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ طَالِقٌ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ كَمَا قُلْنَا صَرِيحٌ فِي طَالِقٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ ذَاتُ طَلَاقٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِحُّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ. وَلَمَّا كَانَ مُحْتَمَلًا تَوَقَّفَ عَلَى النِّيَّةِ، وَهَذَا أَوْجَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا قِيلَ: إنَّهُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ طَالِقٌ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَصْدَرًا فَيَصِحُّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ بِهِ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ بِاللَّفْظِ لَيْسَتْ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ لَا ذَاتِهِ الَّتِي هِيَ هَوَاءٌ مَضْغُوطٌ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ لَيْسَ إلَّا مَا لَا تَصْلُحُ إرَادَتُهُ مِنْهُ فَكَيْفَ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ الَّذِي لَا يَصِحُّ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهَا عَيْنُ الطَّلَاقِ ادِّعَاءً وَتَصِحُّ مَعَهُ أَيْضًا إرَادَةُ الثَّلَاثِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ
فَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ
يَعْنِي النَّاقَةَ، لَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ لِفَوَاتِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ نِيَّةِ الثِّنْتَيْنِ بِالْمَصْدَرِ لَا تَصِحُّ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ أَمَةٌ لَهُمَا أَنَّ الْمَصْدَرَ يَحْتَمِلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَالثِّنْتَانِ كَالثَّلَاثِ.
قُلْنَا: نِيَّةُ الثَّلَاثِ لَمْ تَصِحَّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَثْرَةٌ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَمَامُ جِنْسٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ الثِّنْتَيْنِ فِي الْحُرَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْضٌ وَأَلْفَاظُ الْوُحْدَانِ لَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ الْمَحْضِ بَلْ يُرَاعَى فِيهَا التَّوْحِيدُ، وَهُوَ بِالْفَرْدِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوْ الْجِنْسِيَّةِ وَالْمُثَنَّى بِمَعْزِلٍ عَنْهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِالْمَصْدَرِ الْمُجَرَّدِ عَنْ اللَّامِ إلَّا وَاحِدَةٌ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَأَمَّا الْمُحَلَّى فَيَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ قَالَ الْجَصَّاصُ: هَذِهِ التَّفْرِقَةُ لَا يُعْرَفُ لَهَا وَجْهٌ إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا لِأَنَّ الْمَصْدَرَ ذُكِرَ لِلتَّأَكُّدِ وَنَفْيِ الْمَجَازِ لَا لِلْإِيقَاعِ. أَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ طَلَاقٍ وَالطَّلَاقِ.
وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ هِشَامٍ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ التَّوَارِيخِ أَنَّ الرَّشِيدَ كَتَبَ إلَى أَبِي يُوسُفَ: مَا قَوْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ:
فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ
…
وَإِنْ تَخْرُقِي يَا هِنْدُ فَالْخَرْقُ أَشْأَمُ
فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ
…
ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرُقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ
فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَحْوِيَّةٌ فِقْهِيَّةٌ لَا آمَنُ الْغَلَطَ فِيهَا، فَأَتَى الْكِسَائِيَّ فَسَأَلَهُ، فَأَجَابَ عَنْهَا بِمَا سَنَذْكُرُهُ وَهُوَ بَعْدَ كَوْنِهِ غَلَطًا بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَامِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ مِنْ شَرْطِهِ مَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِهَا لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَقَعُ فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَاَلَّذِي نَقْلُهُ أَهْلُ الثَّبْتِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَمَّنْ قَرَأَ الْفَتْوَى حِينَ وَصَلَتْ خِلَافُ هَذَا، وَأَنَّ الْمُرْسِلَ بِهَا الْكِسَائِيُّ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَلَا دَخْلَ لِأَبِي يُوسُفَ أَصْلًا وَلَا لِلرَّشِيدِ، وَلَمَقَامُ أَبِي يُوسُفَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مَعَ إمَامَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَبَرَاعَتِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ.
فَفِي الْمَبْسُوطِ: ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ الْكِسَائِيَّ بَعَثَ إلَى مُحَمَّدٍ بِفَتْوَى فَدَفَعَهَا إلَيَّ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا قَوْلُ قَاضِي الْقُضَاةِ الْإِمَامِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ:
فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ
…
وَإِنْ تَخْرُقِي يَا هِنْدُ فَالْخَرْقُ أَشْأَمُ
فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ
…
ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرُقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ
فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ؟
فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ، إنْ قَالَ: ثَلَاثٌ مَرْفُوعًا يَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثًا مَنْصُوبًا يَقَعُ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَهُ مَرْفُوعًا كَانَ ابْتِدَاءَ حَالٍ فَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَلَاقٌ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا قَالَ: ثَلَاثًا مَنْصُوبًا عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ أَوْ التَّفْسِيرِ فَيَقَعُ بِهِ ثَلَاثٌ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ، لِأَنَّ الثَّلَاثَ تَفْسِيرٌ لِمَا وَقَعَ، فَاسْتَحْسَنَ الْكِسَائِيُّ جَوَابَهُ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ هِشَامٍ بَعْدَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ: الصَّوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ يَحْتَمِلُ وُقُوعَ الثَّلَاثِ وَالْوَاحِدَةِ، أَمَّا الرَّفْعُ فَلِأَنَّ أَلْ فِي الطَّلَاقِ إمَّا لِمَجَازِ الْجِنْسِ نَحْوَ زَيْدٌ الرَّجُلُ: أَيْ الْمُعْتَدُّ بِهِ.
وَإِمَّا لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ: أَيْ وَهَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ عَزِيمَةُ ثَلَاثٍ وَلَا يَكُونُ لِلْجِنْسِ الْحَقِيقِيِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِخْبَارُ بِالْخَاصِّ عَنْ الْعَامِّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، إذْ لَيْسَ كُلُّ طَلَاقٍ عَزِيمَةَ ثَلَاثِ، فَعَلَى الْعَهْدِيَّةِ يَقَعُ الثَّلَاثُ. وَعَلَى الْجِنْسِيَّةِ وَاحِدَةٌ.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ، إذْ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا بِالْجُمْلَةِ. وَكَوْنُهُ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي عَزِيمَةٍ فَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ إذَا كَانَ ثَلَاثًا، فَإِنَّمَا يَقَعُ مَا نَوَاهُ هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَهُ الشَّاعِرُ فَالثَّلَاثُ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ
فَبِينِي بِهَا إنْ كُنْت غَيْرَ رَفِيقَةٍ
…
وَمَا لِامْرِئٍ بَعْدَ الثَّلَاثِ مُقَدَّمٌ
انْتَهَى.
وَتَخْرُقِي بِضَمِّ الرَّاءِ مُضَارِعُ خَرِقَ بِكَسْرِهَا وَالْخُرْقُ بِالضَّمِّ الِاسْمُ وَهُوَ ضِدُّ الرِّفْقِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ فِي النَّصْبِ كَوْنُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ نِيَابَةً عَنْ الْمَصْدَرِ لِقِلَّةِ الْفَائِدَةِ فِي إرَادَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ عَزِيمَةٌ إنْ كَانَ ثَلَاثًا، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَلِامْتِنَاعِ الْجِنْسِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا ذَكَرَ. بَقِيَ أَنْ يُرَادَ مَجَازُ الْجِنْسِ فَيَقَعَ وَاحِدَةٌ أَوْ الْعَهْدُ الذِّكْرِيُّ وَهُوَ أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَيْنِ فَيَقَعَ الثَّلَاثُ وَلِهَذَا ظَهَرَ مِنْ الشَّاعِرِ أَنَّهُ أَرَادَهُ كَمَا أَفَادَهُ الْبَيْتُ الْأَخِيرُ، فَجَوَابُ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ فَقَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِي طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِي الطَّلَاقَ أُخْرَى يُصَدَّقُ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلْإِيقَاعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَتَقَعُ رَجْعِيَّتَانِ إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا.
(وَإِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُمْلَتِهَا أَوْ إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ) لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى مَحِلِّهِ، وَذَلِكَ (مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ) لِأَنَّ التَّاءَ ضَمِيرُ الْمَرْأَةِ (أَوْ) يَقُولَ (رَقَبَتُكِ طَالِقٌ أَوْ عُنُقُك) طَالِقٌ أَوْ رَأْسُك طَالِقٌ (أَوْ رُوحُك أَوْ بَدَنُك أَوْ جَسَدُك أَوْ فَرْجُك أَوْ وَجْهُك) لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ. أَمَّا الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا غَيْرُهُمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَقَالَ {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} وَقَالَ عليه الصلاة والسلام
يَجِبُ فِي مِثْلِهِ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَى الِاحْتِمَالِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ، وَقَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِي طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِي الطَّلَاقَ أُخْرَى يَصْدُقُ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِطَالِقٍ طَلَاقًا أَوْ الطَّلَاقَ ثِنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ فَأَفَادَ هُنَا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُمَا بِالتَّوْزِيعِ صَحَّ. وَوَجْهُهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلْإِيقَاعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَلَاقٌ فَتَقَعُ رَجْعِيَّتَانِ إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا) وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَمَنَعَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ طَالِقًا نَعْتٌ وَطَلَاقًا مَصْدَرُهُ فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ. وَكَذَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ.
وَيُؤَيِّدُ أَنَّ طَلَاقًا نُصِبَ وَلَا يُدْفَعُ بَعْدَ صَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ لِتَعَدُّدِهِ وَصِحَّةِ الْإِرَادَةِ بِهِ إلَّا بِإِهْدَارِ لُزُومِ صِحَّةِ الْإِعْرَابِ فِي الْإِيقَاعِ مِنْ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، وَظَهَرَ أَنَّ الْأَوْلَى فِي التَّشْبِيهِ أَنْ يُقَالَ: فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقٌ لَا طَالِقٌ وَطَلَاقٌ وَإِنْ صَحَّ الْآخَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُمْلَتِهَا أَوْ إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَقَعَ) وَمِثْلُ الْمُضَافِ إلَى الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَالْمُضَافُ إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ بِرَقَبَتُك طَالِقٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِمَا مَعًا إلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ مِنْ لَفْظِ أَنْتِ وَرَقَبَتُك إلَخْ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ إمَّا بِالْوَضْعِ أَوْ بِالتَّجَوُّزِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ التَّاءَ ضَمِيرُ الْمَرْأَةِ هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي أَنْتِ أَنَّهُ بِرُمَّتِهِ ضَمِيرٌ أَوْ التَّاءَ وَأَنَّ عِمَادَ أَوْ إنَّ وَاللَّوَاحِقَ حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الْمُرَادِ (قَوْلُهُ أَوْ يَقُولُ: رَقَبَتُك طَالِقٌ أَوْ عُنُقُك أَوْ رُوحُك أَوْ بَدَنُك أَوْ جَسَدُك أَوْ فَرْجُك أَوْ وَجْهُك) هَذِهِ أَمْثِلَةُ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ كُلِّ الْإِنْسَانِ وَذِكْرُ اسْتِعْمَالَاتِهَا فِيهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ» فَغَرِيبٌ جِدًّا، وَأَبْعَدَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ حَيْثُ اسْتَشْهَدَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَوَاتِ الْفُرُوجِ أَنْ يَرْكَبْنَ السُّرُوجَ» وَضَعَّفَهُ، وَأَيْنَ لَفْظُ ذَاتِ الْفَرْجِ.
«لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ» وَيُقَالُ فُلَانٌ رَأْسُ الْقَوْمِ وَيَا وَجْهَ الْعَرَبِ وَهَلَكَ رُوحُهُ بِمَعْنَى نَفْسُهُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الدَّمُ فِي رِوَايَةٍ يُقَالُ دَمُهُ هَدَرٌ وَمِنْهُ النَّفْسُ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَكَذَلِكَ إنْ)(طَلَّقَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك) طَالِقٌ لِأَنَّ الشَّائِعَ مَحِلٌّ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ فَكَذَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ فَيَثْبُتَ فِي الْكُلِّ ضَرُورَةً (وَلَوْ قَالَ: يَدُك طَالِقٌ أَوْ رِجْلُك طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَقَعُ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ. لَهُمَا أَنَّهُ جُزْءٌ مُسْتَمْتَعٌ بِعَقْدِ النِّكَاحِ
مِنْ كَوْنِ لَفْظِ الْفَرْجِ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْأَةِ عَنْتَرَةَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ (قَوْلُهُ رَأْسَ الْقَوْمِ) أَيْ أَكْبَرَهُمْ (وَيَا وَجْهَ الْعَرَبِ) يَعْنِي يَا أَوْجَهَهُمْ.
وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فَاسِدٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَالْجَسَدِ وَفُلَانَ الرَّأْسُ مِنْهُ لَا أَنَّ فُلَانًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ.
وَكَذَا مَا قِيلَ مَعْنَى يَا وَجْهَ الْعَرَبِ أَنَّك فِي الْعَرَبِ بِمَنْزِلَةِ الْوَجْهِ لَا أَنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْ جُمْلَةِ الْعَرَبِ بِالْوَجْهِ وَنَادَاهُمْ بِهِ وَلَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ، عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا وَجْهَ الْعَرَبِ يَا أَيُّهَا الْعَرَبُ اهـ. وَمَبْنَى كَلَامِهِ أَنَّ التَّرْكِيبَ اسْتِعَارَةٌ بِالتَّرْكِيبِ شُبِّهَتْ الْعَرَبُ بِالْجِسْمِ الْوَاحِدِ لِتَحَامُلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَأَلُّمِ بَعْضِهِمْ بِتَأَلُّمِ بَعْضٍ، فَأَثْبَتَ لَهُ الْوَجْهَ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ مَجَازًا اسْتِعَارَةً تَحْقِيقِيَّةً شَبَّهَ الرَّجُلَ بِالرَّأْسِ لِشَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِكَوْنِهِ مَجْمَعَ الْحَوَاسِّ وَبِالْوَجْهِ لِظُهُورِهِ وَشُهْرَتِهِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ رَأْسَ الْقَوْمِ وَوَجْهَهُمْ: أَيْ أَشْرَفَهُمْ.
وقَوْله تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أَيْ ذَاتُهُ الْكَرِيمَةُ، وَأَعْتَقَ رَأْسًا وَرَأْسَيْنِ مِنْ الرَّقِيقِ أَوْ إنَّا بِخَيْرِ مَا دَامَ رَأْسُك سَالِمًا يُقَالُ مُرَادًا بِهِ الذَّاتُ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الدَّمُ) يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكُلُّ، وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْكَفَالَةِ، قَالَ: لَوْ كَفَلَ بِدَمِهِ يَصِحُّ، وَرِوَايَةُ كِتَابِ الْعِتْقِ لَا تَصِحُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: دَمُك حُرٌّ لَا يُعْتَقُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ صَحَّحَ عَدَمَ الْوُقُوعِ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ طَلَّقَ جُزْءًا شَائِعًا) يَعْنِي يَقَعُ عَلَيْهَا كَنِصْفِهَا وَرُبْعِهَا وَسُدُسِهَا لِأَنَّ الشَّائِعَ مَحِلُّ التَّصَرُّفَاتِ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْإِجَارَةِ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: يَدُك طَالِقٌ أَوْ رِجْلُك) وَهَذَا يُقَابِلُ مَعْنَى الْأَوَّلِ: أَيْ الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ كَرَقَبَتُك فَإِنَّهُ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ.
وَمِنْهُ الْأُصْبُعُ وَالدُّبُرُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَالسِّنِّ وَالرِّيقِ وَالْعَرَقِ وَالْحَمْلِ لَا يَقَعُ، وَالْعَتَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَكُلُّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَلَوْ ظَاهَرَ أَوْ آلَى أَوْ أَعْتَقَ إصْبَعَهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا وَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَمَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْحِلِّ كَالنِّكَاحِ لَا تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ بِلَا خِلَافٍ.
(قَوْلُهُ لَهُمَا) حَاصِلُهُ قِيَاسُ مُرَكَّبِ نَتِيجَةِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ: أَيْ الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ مَحِلٌّ لِحُكْمِ
وَمَا هَذَا حَالُهُ يَكُونُ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ فَيَكُونَ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ فَيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِيهِ قَضِيَّةً لِلْإِضَافَةِ ثُمَّ يَسْرِي إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُضِيفَ إلَيْهِ النِّكَاحُ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مُمْتَنِعٌ إذْ الْحُرْمَةُ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ تُغَلِّبُ الْحِلَّ فِي هَذَا الْجُزْءِ وَفِي الطَّلَاقِ الْأَمْرُ عَلَى الْقَلْبِ.
وَلَنَا أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُوَ كَمَا إذَا أَضَافَهُ إلَى رِيقِهَا أَوْ ظُفُرِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ مَحِلَّ الطَّلَاقِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْقَيْدُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ وَلَا قَيْدَ فِي الْيَدِ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ لِأَنَّهُ مَحِلٌّ لِلنِّكَاحِ عِنْدَنَا حَتَّى تَصِحَّ إضَافَتُهُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ.
النِّكَاحِ فَجُعِلَ صُغْرًى وَيُضَمُّ إلَيْهَا، وَمَا كَانَ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ يَنْتِجُ الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ مَحِلٌّ لِلطَّلَاقِ، وَالْقِيَاسُ الْفِقْهِيُّ جُزْءٌ هُوَ مَحِلٌّ لِحُكْمِ النِّكَاحِ فَيَكُونَ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ كَالْجُزْءِ الشَّائِعِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ، فَقِيلَ يَقَعُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْرِي كَمَا فِي الْعِتْقِ.
قَالَ: الْغَزَالِيُّ: هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فِي الْعِتْقِ لَا فِي الطَّلَاقِ، وَقِيلَ: يُجْعَلُ الْجُزْءُ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ الْكُلِّ فَيَقَعَ بِاللَّفْظِ، قَالُوا: وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَمِينُك طَالِقٌ فَقَطَعَتْ ثُمَّ دَخَلَتْ، إنْ قُلْنَا بِالسَّرَايَةِ لَا يَقَعُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْعِبَارَةِ عَنْ الْكُلِّ يَقَعُ (قَوْلُهُ وَلَنَا إلَخْ) حَاصِلُهُ مَنْعُ مَحَلِّيَّتِهِ لِلطَّلَاقِ بِمَنْعِ عَلِيَّةِ كَوْنِهِ مَحِلًّا لِلْحِلِّ لِكَوْنِهِ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ بَلْ مَحِلُّهُ مَا فِيهِ قَيْدُ النِّكَاحِ وَالْقَيْدُ وَهُوَ مَنْعُهَا مِنْ الْفِعْلِ مَعَ الْغَيْرِ وَأَمْرُهَا بِهِ مَعَهُ: أَيْ تَسْلِيمُهَا نَفْسَهَا، وَعَنْهُ كَانَ تَخْصِيصُهَا بِهِ هُوَ حُكْمُ النِّكَاحِ أَوَّلًا ثُمَّ يَثْبُتُ الْحِلُّ تَبَعًا لَهُ حُكْمًا لِهَذَا الْحُكْمِ، وَالطَّلَاقُ يُنْبِئُ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ فَيَكُونَ وَضْعُهُ لِرَفْعِ ذَلِكَ، وَيَرْتَفِعُ الْحِلُّ تَبَعًا لِرَفْعِهِ كَمَا ثَبَتَ تَبَعًا لِثُبُوتِهِ، وَهَذَا الْقَيْدُ الْمَعْنَوِيُّ لَيْسَ فِي الْبَلَدِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْهُوِيَّةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ خِطَابٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَجْزَاءِ الْخَارِجِيَّةِ بَلْ بِمُسَمَّى الْعَاقِلِ الْمُكَلَّفِ وَلِهَذَا جَازَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا يَدٌ، وَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْأَجْزَاءِ الْمُعَيَّنَةِ تَبَعٌ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ إذْ لَا وُجُودَ لِلْمُسَمَّى بِدُونِهِ فَكَانَ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ فَكَذَا الطَّلَاقُ، وَوُقُوعُهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الرَّأْسِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ الْكُلِّ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ مُقْتَصِرًا.
وَلِذَا نَقُولُ: لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: عَنَيْت الرَّأْسَ مُقْتَصِرًا قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقَعُ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا فِي الْقَضَاءِ إذَا كَانَ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ عُرْفًا مُشْتَهِرًا لَا يُصَدَّقُ وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِالْيَدِ صَاحِبَهَا كَمَا أَرَادَ عَزَّ قَائِلًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ قَائِلًا {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أَيْ قَدَّمَتْ وَعَنَاهُ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَتَعَارَفَ قَوْمٌ التَّعْبِيرَ بِهَا عَنْ الْكُلِّ وَقَعَ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ
وَاخْتَلَفُوا فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ.
(وَإِنْ طَلَّقَهَا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَهَا كَانَتْ) طَالِقًا (تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً) لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ، وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ الْكُلِّ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ جُزْءٍ سَمَّاهُ لِمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا) لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ،
وَلِذَا لَوْ طَلَّقَ النَّبَطِيُّ بِالْفَارِسِيَّةِ يَقَعُ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهِ الْعَرَبِيُّ وَلَا يُدْرِيهِ لَا يَقَعُ، وَلَا مُنَاقَشَةَ فِي هَذَا، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ مَا يُمْلَكُ تَبَعًا هَلْ يَكُونُ مَحِلًّا لِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ صَيْرُورَتِهِ عِبَارَةً عَنْ الْكُلِّ، فَأَمَّا عَلَى مَجَازِهِ فِي الْكُلِّ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَقَعُ يَدًا كَانَ أَوْ رِجْلًا بَعْدَ كَوْنِهِ مُسْتَقِيمًا لُغَةً أَوْ لُغَةَ قَوْمٍ (قَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ كُلِّ الْبَدَنِ) وَكَذَا لَوْ قَالَ: ظَهْرُك عَلَيَّ أَوْ بَطْنُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي: أَيْ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» الظَّهْرُ الصِّغَارُ فِيهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ فِيهِمَا عُرْفٌ فِي إرَادَةِ الْكُلِّ بِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ، وَلِذَا لَا يَقَعُ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَيُدَّعَ، وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَوْ قَالَ الْمُحَشَّانِ طَالِقٌ يَقَعُ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: تَصْحِيفٌ، إنَّمَا هُوَ بَعْضُك أَوْ نِصْفُك. وَفِي الْخُلَاصَةِ: اسْتُك طَالِقٌ كَفَرْجِك طَالِقٌ، بِخِلَافِ الدُّبُرِ، قَالَ شَارِحٌ: عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتَ بِمَعْنَى الدُّبُرِ وَلَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ الْبُضْعَ بِمَعْنَى الْفَرْجِ أَيْضًا وَيَقَعُ فِي الْفَرْجِ دُونَ الْبُضْعِ لِجَوَازِ تَعَارُفِ أَحَدِهِمَا فِي الْكُلِّ دُونَ الْآخَرِ. وَالْأَوْجُهُ أَنَّ مَحِلَّ النَّظَرِ كَوْنُهُ كَفَرْجِك طَالِقٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَدَارَ تَعَارُفُ التَّعْبِيرِ بِهِ عَنْ الْكُلِّ، وَكَوْنُ الْفَرْجِ عُبِّرَ بِهِ عَنْ الْكُلِّ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ الِاسْتِ كَذَلِكَ.
وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنْ يُقَالَ: يَقَعُ بِالْإِضَافَةِ إلَى اسْمِ جُزْءٍ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ فَإِنَّ نَفْسَ الْجُزْءِ لَا صَفَا التَّعْبِيرُ بِهِ.
هَذَا وَقَدْ يُقَالُ عَلَى الْمُصَنِّفِ إنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ شُهْرَتُهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْفَرْجِ أَوْ وُقُوعُ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ اللِّسَانِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُذْكَرَ الْخِلَافُ فِي الْيَدِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْكُلِّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَيْضًا ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُضَافَ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَالْمُعَبَّرِ بِهِ عَنْ الْكُلِّ صَرِيحٌ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْوُقُوعِ بِهِ النِّيَّةُ وَالصَّرَاحَةُ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمَعْلُومٌ انْتِفَاءُ الطَّلَاقِ كَذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَهَا كَانَتْ تَطْلِيقَةً) وَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ جُزْءٍ سَمَّاهُ كَالثُّمْنِ أَوْ قَالَ: جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ تَطْلِيقَةٍ.
وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَا يَقَعُ بِهِ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، وَالْمَشْرُوعُ الطَّلَاقُ لَا غَيْرُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِهِ مَا لَيْسَ إيَّاهُ، وَإِلَّا فَالْبَعْضُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ لَيْسَ نَفْسًا وَلَا غَيْرًا. وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّرْعَ نَاظِرٌ إلَى صَوْنِ كَلَامِ الْعَاقِلِ وَتَصَرُّفِهِ مَا أَمْكَنَ، وَلِذَا اُعْتُبِرَ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْقِصَاصِ عَفْوًا عَنْهُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمَذْكُورِ جُزْءٌ كَانَ كَذِكْرِ كُلِّهِ تَصْحِيحًا كَالْعَفْوِ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ،
فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْصَافٍ تَكُونُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ضَرُورَةً. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافٍ تَطْلِيقَةً، قِيلَ: يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَتَكَامَلَ، وَقِيلَ: يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ يَتَكَامَلُ فِي نَفْسِهِ فَتَصِيرَ ثَلَاثًا.
فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْصَافٍ يَكُونُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ضَرُورَةً) وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَقَعَ الثَّالِثَةُ لِأَنَّ فِي إيقَاعِهَا شَكًّا لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ يَحْتَمِلُ مَا ذُكِرَ وَيَحْتَمِلُ كَوْنَهَا طَلْقَةً وَنِصْفًا، لِأَنَّ الطَّلْقَتَيْنِ إذَا انْتَصَفَتَا صَارَتَا أَرْبَعَةَ أَنْصَافٍ فَثَلَاثَةٌ مِنْهُمَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَتَكْمُلَ طَلْقَتَيْنِ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ اشْتِبَاهِ قَوْلِنَا نَصَّفْنَا طَلْقَتَيْنِ وَنَصَّفْنَا كُلًّا مِنْ طَلْقَتَيْنِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُوجِبُ لِلْأَرْبَعَةِ الْأَنْصَافِ وَهُوَ احْتِمَالٌ فِي ثَلَاثَةِ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ فَيَثْبُتَ فِي النِّيَّةِ لَا فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ أَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ لَا نِصْفَا تَطْلِيقَتَيْنِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَةٍ قِيلَ: يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَتَكَامَلَ) وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّاطِفِيُّ وَالْعَتَّابِيُّ، وَعُرِفَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: نِصْفَيْ تَطْلِيقَةٍ يَقَعُ وَاحِدَةٌ (وَقِيلَ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ يَتَكَامَلُ فِي نَفْسِهِ فَتَصِيرُ ثَلَاثًا) وَالثَّلَاثُ كَالْجَمْعِ اخْتِصَارًا لِلْمُتَعَاطِفَاتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَنِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَنِصْفَ تَطْلِيقَةٍ.
وَلَوْ قِيلَ: إنَّ الْمَعْنَى نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَنِصْفُهَا الْآخَرِ وَمِثْلُهُ بِالضَّرُورَةِ إذْ لَيْسَ لِلشَّيْءِ إلَّا نِصْفَانِ فَيَقَعَ ثِنْتَانِ اُتُّجِهَ لِأَنَّ نِصْفَهَا وَنِصْفَهَا أَجْزَاءُ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِهِ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَسُدُسَهَا وَثُلُثَهَا حَيْثُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ، بِخِلَافِ نِصْفِ طَلْقَةٍ وَثُلُثِ طَلْقَةٍ وَسُدُسِ طَلْقَةٍ حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثٌ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً فَالثَّانِيَةُ غَيْرُ الْأُولَى فَأَوْقَعَ مِنْ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ جُزْءًا وَلَوْ زَادَ أَجْزَاءَ الْوَاحِدَةِ مِثْلَ نِصْفِ طَلْقَةٍ وَثُلُثِهَا وَاسْتَأْنِ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ لِلُزُومِ كَوْنِ
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ قَالَ: مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَهِيَ ثِنْتَانِ. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ فِي الْأُولَى هِيَ ثِنْتَانِ وَفِي الثَّانِيَةِ ثَلَاثٌ) وَقَالَ زُفَرُ: الْأُولَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمَضْرُوبِ لَهُ
الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ أُخْرَى، وَعَلَى هَذَا لَوْ قِيلَ: يَقَعُ ثَلَاثٌ إذَا قَالَ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَاهَا وَسَبْعَةَ أَثْمَانِهَا لَمْ يَبْعُدْ، إلَّا أَنَّ الْأَصَحَّ فِي اتِّحَادِ الْمَرْجِعِ وَإِنْ زَادَتْ أَجْزَاءُ وَاحِدَةٍ أَنْ تَقَعَ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَجْزَاءَ إلَى وَاحِدَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ، وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةٌ طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً وَكَذَا إذَا قَالَ: بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ إلَّا إذَا نَوَى أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُنَّ جَمِيعًا فَيَقَعَ فِي التَّطْلِيقَتَيْنِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تَطْلِيقَتَانِ وَفِي الثَّلَاثِ ثَلَاثٌ، وَلَوْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ خَمْسُ تَطْلِيقَاتٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ طَلُقَتْ كُلٌّ تَطْلِيقَتَيْنِ.
وَكَذَا مَا زَادَ إلَى ثَمَانٍ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّمَانِ فَقَالَ: تِسْعٌ طَلُقَتْ كُلٌّ ثَلَاثًا وَلَا يَخْفَى الْوَجْهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُكُنَّ فِي ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَلَفْظُ بَيْنَ وَلَفْظُ الْإِشْرَاكِ سَوَاءٌ. بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ لِثَالِثَةٍ: أَشْرَكْتُك فِيمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهِمَا يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهُ شَرِكَهَا فِي كُلِّ تَطْلِيقَةٍ.
وَفِي آخِرِ بَابِ الطَّلَاقِ مِنْ الْمَبْسُوطِ لَوْ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: أَشْرَكْت فُلَانَةَ مَعَهَا فِي الطَّلَاقِ وَقَعَ عَلَى الْأُخْرَى ثَلَاثٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَسْبِقْ وُقُوعُ شَيْءٍ فَيَنْقَسِمَ الثَّلَاثُ بَيْنَهُنَّ نِصْفَيْنِ قِسْمَةً وَاحِدَةً وَهَذَا قَدْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَى الْأُولَى فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِمَّا أَوْقَعَ عَلَيْهَا بِإِشْرَاكِ الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُسَوِّيَ الثَّانِيَةَ بِهَا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَى الْأُولَى فَكَلَامُهُ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ إشْرَاكٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَيْنَكُمَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ وَرَدَ اسْتِفْتَاءٌ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَالَ لِأُخْرَى: أَشْرَكْتُك فِيمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا وَلِثَالِثَةٍ أَشْرَكْتُك فِيمَا أَوْقَعْتُ عَلَيْهِمَا، وَبَعْدَ أَنْ كَتَبْنَا تَطْلُقُ الثَّلَاثُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا قُلْنَا: إنَّ وُقُوعَهُنَّ عَلَى الثَّالِثَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَشْرَكَهَا فِي سِتٍّ. وَفِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ ثَلَاثًا يَنْوِي أَنَّ الثَّلَاثَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ فَتَطْلُقُ كُلٌّ مِنْهُمَا ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ فَتَطْلُقَ كُلٌّ ثَلَاثًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِأَرْبَعٍ: أَنْتَنَ طَوَالِقُ ثَلَاثًا يَنْوِي أَنَّ الثَّلَاثَ بَيْنَهُنَّ فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَطْلُقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً وَفِي الْقَضَاءِ تَطْلُقُ كُلٌّ ثَلَاثًا
(قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَهِيَ ثِنْتَانِ) وَهَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا فِي الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ وَمَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ يَقَعُ ثِنْتَانِ وَفِي الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وَمَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ يَقَعُ ثَلَاثٌ. وَقَالَ: زُفَرُ: فِي الْأُولَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَفِي الثَّانِيَةِ يَقَعُ وَاحِدَةٌ
الْغَايَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْت مِنْك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مَتَى ذُكِرَ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ، كَمَا تَقُولُ لِغَيْرِك: خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ دِرْهَمٍ إلَى مِائَةٍ.
وَتَسْمِيَةُ الصُّورَتَيْنِ أُولَى ثُمَّ الصُّورَتَيْنِ ثَانِيَةً بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ مَدْخُولِ إلَى فِي الصُّورَتَيْنِ، فَالْأُولَى مَا كَانَ مَدْخُولُ إلَى ثِنْتَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ مَا كَانَ مَدْخُولُهَا ثَلَاثًا.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي قَوْلِ زُفَرَ: وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمَضْرُوبِ لَهُ الْغَايَةُ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْت مِنْك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ. وَاعْلَمْ أَنَّ زُفَرَ لَا يُدْخِلُ الْحَدَّيْنِ لَا الْأَوَّلَ وَلَا الثَّانِيَ، وَالْعُرْفُ أَنْ يُرَادَ بِالْغَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَقَطْ مَدْخُولَةُ إلَى وَحَتَّى لِأَنَّهَا الْمُنْتَهَى. فَوَجْهُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِاسْتِعْمَالِ الْغَايَةِ فِي الْحَدِّ: أَيْ الْحَدِّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمَضْرُوبِ لَهُ الْحَدُّ وَالْمَضْرُوبُ لَهُ هُوَ الْبَيْعُ مَثَلًا فَلَا يَدْخُلُ الْحَدَّانِ فِيهِ، فَكَذَا فِي الطَّلَاقِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِتَسْمِيَةِ الْأُولَى غَايَةً فِي وَجْهِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ الْغَايَةُ الْأُولَى. وَالْمُرَادُ بِالْقِيَاسِ قَضِيَّةُ اللَّفْظِ لَا الْقِيَاسُ الْأُصُولِيُّ، لِأَنَّ زُفَرَ إنَّمَا بَنَى جَوَابَهُ عَلَى قَضِيَّةِ اللَّفْظِ كَمَا يُفِيدُهُ جَوَابُهُ الْمَنْقُولُ لِلْأَصْمَعِيِّ حِينَ سَأَلَهُ عِنْدَ بَابِ الرَّشِيدِ عَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَقَالَ: تَطْلُقُ وَاحِدَةً لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا بَيْنَ لَا تَتَنَاوَلُ الْحَدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا فَأَلْزَمَهُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ كَمْ سِنُّك فَقَالَ: مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ تِسْعَ سِنِينَ فَيَكُونَ إيرَادُ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ ذِكْرَ مَحِلٍّ بِإِعْمَالِ اللَّفْظِ كَالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ بِذِكْرِ مَحِلِّ إعْمَالِهِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مَتْرُوكِ الظَّاهِرِ لَا لِلْقِيَاسِ عَلَيْهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ ذِكْرَ الْبَيْعِ عَلَى هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى تَمَامِ الدَّلِيلِ لَا أَصْلَ لِلْقِيَاسِ فَيَكُونَ جُزْءَ الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَدْ نُسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مَا نُسِبَ إلَى الْأَصْمَعِيِّ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي الْإِلْزَامِ: كَمْ سِنُّك؟ فَقَالَ لَهُ زُفَرُ: مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: سِنُّك غُبَّرًا تِسْعُ سِنِينَ، وَهَذَا بَعِيدٌ إذْ يَبْعُدُ أَنْ يُجِيبَ فِيمَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وَنَحْوِهِ بِذَلِكَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ كَمْ سِنُّك فَيُجِيبَ بِلَفْظِ مَا بَيْنَ دُونَ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةً وَسِتِّينَ وَنَحْوَهُ مَعَ ظُهُورِ وُرُودِ الْإِلْزَامِ حِينَئِذٍ إلَّا وَقَدْ أَعَدَّ جَوَابَهُ فَلَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ.
عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ إلْزَامِ الْأَصْمَعِيِّ: اُسْتُحْسِنَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَاَلَّذِي يَتَبَادَرُ فِي وَجْهِ اسْتِحْسَانِهِ أَنَّ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ سِنِّي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ عُرْفًا فِي إرَادَةِ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ وَالْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ، وَلَا عُرْفَ فِي الطَّلَاقِ إذْ لَمْ يُتَعَارَفْ التَّطْلِيقُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَبْقَى عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ قِيلَ مِنْ طُرَفِهِ غَيْرُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ سِتِّينَ فَكَيْفَ يَكُونُ تِسْعَةً، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ سِتِّينَ وَسَبْعِينَ أَحَدٌ وَسِتُّونَ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ إلَى تِسْعٍ وَسِتِّينَ لَا وَاحِدَةٌ إلَى تِسْعَةٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْحَدُّ الْأَوَّلُ خَارِجًا عَنْ مُسَمَّى لَفْظِ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَجَوَابُ زُفَرَ حَيْثُ قَالَ: لَا يَتَنَاوَلُ الْحَدَّيْنِ صَرِيحٌ فِيهِ، وَالْأَوْجُهُ مَا ذَكَرْنَا لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مَتَى ذُكِرَ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ) كَقَوْلِ الرَّجُلِ خُذْ مِنْ مَالِي مِنْ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ سِنِّي مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَمَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَيُرِيدُونَ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِرَادَةُ الْكُلِّ فِيمَا طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْإِبَاحَةِ كَمَا ذُكِرَ، إذْ الْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ
عَشْرَةٍ إلَى مِائَةٍ وَبِعْ عَبْدِي بِمَا بَيْنَ مِائَةٍ إلَى أَلْفٍ وَكُلْ مِنْ الْمِلْحِ إلَى الْحُلْوِ.
لَهُ أَخْذُ الْمِائَةِ وَالْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَأَكْلُ الْحُلْوِ (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْعُرْفِ الْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ مُتَخَلِّلٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي نَحْوِ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى دِرْهَمَيْنِ إرَادَةُ مَجْمُوعِ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ، فَفِي نَحْوِ طَالِقٍ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ انْتَفَى ذَلِكَ الْعُرْفُ مِنْهُ عِنْدَهُ فَوَجَبَ إعْمَالُ طَالِقٍ فَيَقَعَ وَاحِدَةٌ. وَلَا يُعْتَرَضُ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا لِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ جَارٍ فِي غَيْرِهِ لِيَعْتَرِضَ بِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُقْ فِي عَدَمِ مُتَخَلِّلٍ مَعَ أَنَّهُ مَسُوقٌ لَنَفِي قَوْلِهَا يَجِبُ الْأَكْثَرُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانٌ بِالتَّعَارُفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِ زُفَرَ إلَّا أَنَّهُمَا أَطْلَقَا فِيهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّمَا وَقَعَ كَذَلِكَ فِيمَا مَرْجِعُهُ إبَاحَةٌ غُبَّرَا الْمَذْكُورَةِ، أُمًّا مَا أَصْلُهُ الْحَظْرُ حَتَّى لَا يُبَاحَ إلَّا لِدَفْعِ الْحَاجَةِ فَلَا وَالطَّلَاقُ مِنْهُ فَكَانَ قَرِينَةً عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الْكُلِّ، غَيْرَ أَنَّ الْغَايَةَ الْأُولَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ فِي صُورَةِ إيقَاعِهَا وَهِيَ صُورَةٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ إذْ لَا ثَانِيَةَ بِلَا أُولَى وَوُجُودُ الطَّلَاقِ عَيْنُ وُقُوعِهِ، بِخِلَافِ الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ ثَلَاثٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وُقُوعُ الثَّانِيَةِ بِلَا ثَالِثَةٍ، أَمَّا صُورَةُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إدْخَالِهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا دَخَلَتْ ضَرُورَةَ إيقَاعِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَإِيقَاعُ الْوَاحِدَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ إدْخَالِهَا غَايَةً بَلْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ الْعُرْفِ فِيهِ فَلَا يَدْخُلَانِ وَيَقَعُ بِطَالِقٍ وَهَذَا كَمَا صُحِّحَ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ عِنْدَ زُفَرَ خِلَافًا لِمَا قِيلَ: لَا يَقَعُ عِنْدَهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ التَّخَلُّلِ. وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ يَلْغُو قَوْلَهُ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ الْوَاحِدِ مَبْدَأً لِلْغَايَةِ وَمُنْتَهًى وَيَقَعُ بِطَالِقٍ وَاحِدَةٌ، كَذَا هُنَا يَجِبُ أَنْ يَلْغُوَ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثِنْتَيْنِ عِنْدَهُ ثُمَّ يَقَعُ بِطَالِقٍ وَاحِدَةٌ، وَأَوْرَدَ إذَا قِيلَ طَالِقٌ ثَانِيَةً لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ.
هُوَ الْحَظْرُ، ثُمَّ الْغَايَةُ الْأُولَى لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ، وَوُجُودُهَا بِوُقُوعِهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ
أُجِيبُ بِأَنَّ ثَانِيَةً لَغْوٌ فَيَقَعَ بِأَنْتَ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُنَا مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُعْتَبَرٌ فِي إيقَاعِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ إيقَاعِ الْأُولَى.
فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ مَا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْأَمْرَيْنِ وَوُجُودَهُمَا وُقُوعَهُمَا فَيَقَعَ الثَّلَاثُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، أَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْأَوَّلَ وَاحْتِمَالَ وُجُودِ الثَّانِي عُرْفًا، فَفِي مِنْ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ يَصْدُقُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ السَّبْعِينَ بَلْ مُنْتَظِرُهُ وَلَمْ يَعُدْ مُخْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ بِهِ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا إنْ انْتَهَضَ عَلَيْهِمَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى زُفَرَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ مِنْ طُرَفِهِ لَا عُرْفَ فِي الطَّلَاقِ فَلَا يَلْزَمُ إدْخَالُ الْغَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّ مَا بَيْنَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَةَ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ثَانِيَةُ الْوَاقِعِ بَلْ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَا بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى إدْخَالِهَا ضَرُورَةَ إيقَاعِ الثَّانِيَةِ فِي مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ. وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ تَعَارُفُ مِثْلِ ذَلِكَ التَّرْكِيبِ فِي الطَّلَاقِ وَجَبَ اعْتِبَارُ غَبِّرَا أَجْزَاءَ لَفْظِهِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ إلَّا دُخُولَ مَا بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِادِّعَاءِ أَنَّ الْعُرْفَ أَفَادَ أَنَّ مِثْلَهُ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ فِي أَيِّ مَادَّةٍ وَقَعَ وَقَدْ لَا يُسَلِّمُهُ زُفَرُ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ عَلَى مَسْأَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الثَّانِيَةَ وَاقِعَةٌ وَلَا وُجُودَ لَهَا إلَّا بِوُقُوعِ الْأُولَى فَوَقَعَتْ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ الْغَايَةِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى إدْخَالِهَا فِي الْمُغَيَّا فَبَقِيَتْ الْغَايَتَانِ خَارِجَتَيْنِ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ إلَّا بِقَضِيَّةِ اللَّفْظِ، وَمَسْأَلَةِ الْبَيْعِ لِإِظْهَارِ أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُتْرَكْ ظَاهِرُهُ فَتَحْقِيقُ الْفَرْقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ إرَادَةُ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ إلَى آخِرِهِ فَاقْتَضَى فِي مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وُقُوعُ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْأَكْثَرُ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَلَزِمَ وُقُوعُ الْأُولَى،
الْغَايَةَ فِيهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الْبَيْعِ. وَلَوْ نَوَى وَاحِدَةً يَدِينُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ) وَقَالَ زُفَرُ: تَقَعُ ثِنْتَانِ لِعُرْفِ الْحِسَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ. وَلَنَا أَنَّ عَمَلَ الضَّرْبِ أَثَرُهُ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَضْرُوبِ، وَتَكْثِيرُ أَجْزَاءِ الطَّلْقَةِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَهَا (فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثَلَاثٌ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفَ يَجْمَعُ الْمَظْرُوفَ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا تَقَعُ وَاحِدَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ،
بِخِلَافِ بِعْت مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ لِأَنَّ التَّعَارُفَ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْأَعْدَادِ نَحْوَ مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَمَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ وَنَحْوَهُ فَبَقِيَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِهَا عَلَى مُقْتَضَاهُ لُغَةً فَلَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ.
وَبِهِ انْدَفَعَ سُؤَالُ أَنَّ مَا بَيْنَ يَقْتَضِي وُجُودَ الطَّرَفَيْنِ فَيَقَعَانِ كَقَوْلِهِمَا فَإِنَّ الْعُرْفَ أَعْطَى أَنَّ قَضِيَّتَهُ عَدَمُ وُقُوعِ الثَّانِيَةِ. [فَرْعَانِ]
لَوْ قَالَ: مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى عَشْرَةٍ يَقَعُ ثِنْتَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: يَقَعُ ثَلَاثٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُعْتَبَرٌ فِي الطَّلَاقِ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ: طَلَّقَنِي سِتًّا بِأَلْفٍ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَعَتْ الثَّلَاثُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَلَوْ قَالَ: مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَثَلَاثٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ غَايَةً. وَكَذَا يَجِبُ عِنْدَ الْكُلِّ إلَّا إنْ كَانَ فِيهِ الْعُرْفُ الْكَائِنُ فِي الْغَايَةِ (قَوْلُهُ وَلَوْ نَوَى وَاحِدَةً) أَيْ فِي مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ وَفِي مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ إذَا كَانَ فِيهِ عُرْفُ الْغَايَةِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ) وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ) عَالِمًا بِعُرْفِ الْحِسَابِ (فَهِيَ وَاحِدَةٌ) فَفِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْلَى أَنْ تَقَعَ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: يَقَعُ ثِنْتَانِ بِعُرْفِ الْحِسَابِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي وَجْهِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْحِسَابَ لَكِنَّهُ قَصَدَ مُوجِبَهُ عِنْدَ الْحِسَابِ، فَلَوْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْحِسَابَ وَقَصَدَ مُوجِبَهُ عِنْدَهُمْ وَقَعَ ثِنْتَانِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَعِنْدَنَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِكُلِّ حَالٍ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ عُرْفَهُمْ فِيهِ تَضْعِيفُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِعَدَدِ الْآخَرِ، فَقَوْلُهُ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ كَقَوْلِهِ وَاحِدَةً مَرَّتَيْنِ أَوْ ثِنْتَيْنِ مَرَّةً وَثِنْتَيْنِ فِي ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: طَالِقٌ أَرْبَعًا فَيَقَعَ الثَّلَاثُ، فَالْإِلْزَامُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فَقِيرٌ فِي الدُّنْيَا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا، لِأَنَّ ضَرْبَهُ دِرْهَمَهُ مَثَلًا فِي مِائَةِ أَلْفٍ إنْ كَانَ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ كَقَوْلِهِ عِنْدِي دِرْهَمٌ فِي مِائَةٍ فَهُوَ كَذِبٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْإِنْشَاءِ كَجَعَلْتُهُ فِي مِائَةٍ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ لَا يَنْجَعِلُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ مِائَةً فَلَيْسَ ذَلِكَ الْكَلَامُ بِشَيْءٍ (قَوْلُهُ أَثَرُهُ فِي تَكْثِيرِ الْمَضْرُوبِ لَا فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ) وَالطَّلْقَةُ الَّتِي جُعِلَ لَهَا أَجْزَاءٌ كَثِيرَةٌ لَا تَزِيدُ عَلَى طَلْقَةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ بَعْدَ قَوْلِنَا إنْ عَرَفَ الْحِسَابَ فِي التَّرْكِيبِ اللَّفْظِيِّ كَوْنَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مُضَعَّفًا بِعَدَدِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْعُرْفَ لَا يَمْنَعُ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِعُرْفِهِمْ وَأَرَادَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْقَعَ بِلُغَةٍ أُخْرَى فَارِسِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ يُدْرِيهَا (قَوْلُهُ فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ) بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا وَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، فَإِنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفَ يَجْمَعُ الْمَظْرُوفَ فَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَى الْوَاوِ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ
وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مَعَ ثِنْتَيْنِ تَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ كَلِمَةَ " فِي " تَأْتِي بِمَعْنَى " مَعَ " كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ مَعَ عِبَادِي، وَلَوْ نَوَى الظَّرْفَ تَقَعُ وَاحِدَةً، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا فَيَلْغُوَ ذِكْرُ الثَّانِي (وَلَوْ قَالَ اثْنَتَيْنِ فِي اثْنَتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ فَهِيَ ثِنْتَانِ) وَعِنْدَ زُفَرَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ أَنْ تَكُونَ أَرْبَعًا، لَكِنْ لَا مَزِيدَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ.
وَعِنْدَنَا الِاعْتِبَارُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِمِلْكِ الرَّجْعَةِ) وَقَالَ زُفَرُ: هِيَ بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ
بِهَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ، وَإِنْ نَوَى مَعْنَى لَفْظَةِ مَعَ وَقَعَتْ ثَلَاثٌ عَلَيْهَا مَدْخُولًا بِهَا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ ثِنْتَيْنِ، وَإِرَادَةُ مَعْنَى لَفْظَةِ مَعَ بِهَا ثَابِتٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ مَعَ عِبَادِي.
وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ الْمُرَادَ فِي جُمْلَةِ عِبَادِي، وَقِيلَ فِي أَجْسَادِ عِبَادِي، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ (فِي عَبْدِي) فَهِيَ عَلَى حَقِيقَتِهَا عَلَى هَذَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَأْوِيلَهَا مَعَ عِبَادِي يَنْبُو عَنْهُ {وَادْخُلِي جَنَّتِي} فَإِنَّ دُخُولَهُ مَعَهُمْ لَيْسَ إلَّا إلَى الْجَنَّةِ، فَالْأَوْجَهُ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} وَعَنْ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ لَوْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي الْإِقْرَارِ بِأَنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ فِي عَشْرَةٍ وَادَّعَى الْخَصْمَ الْجَمِيعَ: أَيْ مَجْمُوعَ الْحَاصِلِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ يُحَلِّفُهُ الْقَاضِي أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْجَمِيعَ، أَمَّا لَوْ أَرَادَ مَعْنَى الظَّرْفِ لَغَا وَلَمْ يَقَعْ إلَّا الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، فَفِي وَاحِدَةٍ فِي ثِنْتَيْنِ وَاحِدَةٌ وَفِي ثِنْتَيْنِ فِي ثِنْتَيْنِ ثِنْتَانِ اتِّفَاقًا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصْلُحُ لِحَقِيقَةِ الظَّرْفِ فَيَلْغُوَ الثَّانِي.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَقَالَ: زُفَرُ: بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ) وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَالِقٌ طَلْقَةً طَوِيلَةً أَوْ عَرِيضَةً كَانَتْ رَجْعِيَّةً عِنْدَ زُفَرَ فَكَيْفَ يُعَلِّلُ الْبَيْنُونَةَ هُنَا بِالطُّولِ؟ أُجِيبُ بِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ يُفَرِّقُ بَيْنَ وَصْفِهِ بِالطُّولِ صَرِيحًا فَيُوقَعَ بِهِ الرَّجْعِيُّ وَكِنَايَةً فَيُوقَعَ بِهِ الْبَائِنُ
قُلْنَا: لَا بَلْ وَصَفَهُ بِالْقَصْرِ لِأَنَّهُ مَتَى وَقَعَ وَقَعَ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا.
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ فَهِيَ طَالِقٌ فِي الْحَالِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَخَصَّصُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان،
لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ أَبْلَغُ مِنْهُ بِالصَّرِيحِ كَمَا فِي كَثِيرِ الرَّمَادِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الْجَوَادِ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْجُودِ لَهُ بِبَيِّنَةٍ أَعْنِي كَثْرَةَ الرَّمَادِ، وَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ عَلَى مَذْهَبِنَا إلْزَامًا كَأَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَالَ: مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ فَقَدْ وَصَفَهُ بِالطُّولِ، وَلَوْ وَصَفَهُ بِالطُّولِ صَرِيحًا بِأَنْ قَالَ: طَلْقَةً طَوِيلَةً تَقَعُ بَائِنَةً عِنْدَكُمْ فَكَذَا كِنَايَةً بِالْأُولَى لَمَّا قُلْنَا، وَقَدْ فَعَلَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَيْثُ عَلَّلَ سُقُوطَ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عَنْ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى صَاحِبِ النِّصَابِ إذَا دَفَعَهُ إلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ مَعَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ عِنْدَهُ إذَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ النِّصَابَ بَعْد الْحَوْلِ كَذَلِكَ، أَوْ أَنَّ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ كَمَا جَوَّزَهُ فِي الْكَافِي لِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَالَ فِي دَلِيلِهِ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالطُّولِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً طَوِيلَةً كَانَ بَائِنًا كَذَا هُنَا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ هُنَا إلَى الشَّامِ يُفِيدُ الطُّولَ وَالْعَرْضَ فَجَازَ أَنْ لَا تَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ عِنْدَهُ بِأَحَدِهِمَا وَتَحْصُلَ بِالْوَصْفِ بِهِمَا لِأَنَّهُ يُفِيدُ وَتَقَرَّرَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَالْجَبَلِ، لَكِنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يُقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطُّولِ بَلْ يَقُولُ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ (قَوْلُهُ قُلْنَا: بَلْ وَصَفَهُ بِالْقَصْرِ لِأَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الطَّلَاقُ وَقَعَ فِي كُلِّ الدُّنْيَا وَفِي السَّمَوَاتِ) ثُمَّ هُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْقَصْرَ حَقِيقَةً فَكَانَ قَصْرُ حُكْمِهِ وَهُوَ بِالرَّجْعِيِّ وَطُولُهُ بِالْبَائِنِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْهَا مُوقَعٌ وَلَا كِبَرٌ بَلْ مَدّهَا إلَى مَكَان وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ أَصْلًا فَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ زِيَادَةُ شِدَّةٍ فَلَا بَيْنُونَةَ. وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: إنَّهُ إنَّمَا مَدَّ الْمَرْأَةَ لَا الطَّلَاقَ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حَالٌ وَلَا يَصْلُحُ صَاحِبَ الْحَالِ فِي التَّرْكِيبِ إلَّا الضَّمِيرُ فِي طَالِقٍ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ) وَكَذَا فِي الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةَ وَلَا الدَّارِ، وَكَذَا فِي الظِّلِّ وَالشَّمْسِ وَالثَّوْبِ كَالْمَكَانِ، فَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ فِي ثَوْبِ كَذَا وَعَلَيْهَا غَيْرُهُ طَلُقَتْ لِلْحَالِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ.
وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت إذَا لَبِسَتْ وَإِذَا مَرِضَتْ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا إذَا قَصَدَ بِقَوْلِهِ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ إذَا دَخَلَتْ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالدُّخُولِ دِيَانَةً لَا قَضَاءً (قَوْلُهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان) الْمَعْنَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَكَانٍ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُعْدِلُ بِهِ رَفْعُ الْقَيْدِ الشَّرْعِيِّ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ لِمَنْ لَهُ التَّخَلُّصُ بِلَفْظٍ وَضَعَهُ
وَإِنْ عُنِيَ بِهِ إذَا أَتَيْت مَكَّةَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى الْإِضْمَارَ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ، وَإِنْ نَوَى إنْ مَرِضْت لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا دَخَلْت مَكَّةَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَدْخُلَ مَكَّةَ) لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِ الدَّارِ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ لِمُقَارَبَةٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالظَّرْفِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الظَّرْفِيَّةِ.
فَصْلٌ فِي إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ
تَعَالَى سَبَبًا لِذَلِكَ أَنْ يُعَلَّقَ وُجُودُهُ بِوُجُودِ أَمْرٍ مَعْدُومٍ حَتَّى إذَا وُجِدَ حَكَمَ سُبْحَانَهُ بِوُجُودِ الْمَعْنَى وَهُوَ رَفْعُ الْقَيْدِ وَضْعًا شَرْعِيًّا لَا لُزُومًا عَقْلِيًّا، وَالزَّمَانُ وَالْأَفْعَالُ هُمَا الصَّالِحَانِ لِذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ ثُمَّ يُوجَدُ أَوْ قَدْ يُوجَدُ فَتَعَيَّنَا لِتَعْلِيقِ وُجُودِ الطَّلَاقِ بِوُجُودِ كُلٍّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ عَيْنٌ ثَابِتَةٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِنَاطَةُ بِهِ، وَلَوْ أَنَاطَ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ فَالْمَنَاطُ إنَّمَا هُوَ وُجُودُهُ أَوْ فِعْلُ الْفَاعِلِ لَهُ فَكَانَ الصَّالِحُ لِتَعْلِيقِ وُجُودِ الْمَعْنِيِّ بِهِ الزَّمَانُ وَالْأَفْعَالُ، ثُمَّ الزَّمَانُ فِي الْإِضَافَةِ وَالتَّعْلِيقُ يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا.
أَمَّا الْحَالُ فَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَهُ التَّنْجِيزُ وَوُقُوعُ الْمُعَلَّقِ.
وَأَمَّا إضَافَتُهُ إلَى مَاضٍ خَالٍ عَنْهُ فَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَيَلْغُوَ وَيَصِيرَ أَنْتِ طَالِقٌ سَيَقَعُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الطَّلَاقَ بِرَفْعِ الْقَيْدِ وَلَمْ نَقُلْ هُوَ فِعْلٌ مَعْدُومٌ فَنَاسَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ وَيُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى فِعْلِ الْفَاعِلِ لَهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي أَثَرِهِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ حَاصِلَهُ تَعَلُّقُ خِطَابِهِ بِالْحُرْمَةِ عِنْدَهُ، وَهَذَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا، فَجَعَلْنَا الْمُعَلَّقَ رَفْعَ الْقَيْدِ لَا فِعْلَ التَّطْلِيقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: فِي دُخُولِك الدَّارَ أَوْ مَكَّةَ تَعَلُّقٌ بِالْفِعْلِ) أَيْ بِالدُّخُولِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالشَّرْطِ لِصِحَّةِ اسْتِعَارَةِ الظَّرْفِ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ لِمُقَارَبَةٍ بَيْنَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالظَّرْفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَظْرُوفَ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الظَّرْفِ كَالْمَشْرُوطِ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الشَّرْطِ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ مَعْنَاهُ: أَعْنِي الظَّرْفَ، وَكَذَا إذَا قَالَ: فِي لُبْسِك أَوْ فِي ذَهَابِك، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ صَلَاحِيَّةِ الْفِعْلِ لِذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ مَا يَقُومُ بِهَا فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، حَتَّى لَوْ قَالَ: فِي مَرَضِك أَوْ وَجَعِك أَوْ صَلَاتِك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمْرَضَ أَوْ تُصَلِّيَ.
(فَصْلٌ فِي إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ)
ذَكَرَ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فُصُولًا مُتَعَدِّدَةً بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ الْإِيقَاعِ: أَيْ مَا بِهِ الْإِيقَاعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ إلَى مُضَافٍ وَمَوْصُوفٍ وَمُشَبَّهٍ وَغَيْرِهِ مُعَلَّقٍ بِمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، وَكُلٌّ مِنْهَا صِنْفٌ تَحْتَ ذَلِكَ الصِّنْفِ الْمُسَمَّى بَابًا
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ وَذَلِكَ بِوُقُوعِهِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ. وَلَوْ نَوَى بِهِ آخِرَ النَّهَارِ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا أَوْ غَدًا الْيَوْمَ يُؤْخَذُ بِأَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ الَّذِي تَفَوَّهَ بِهِ) فَيَقَعَ فِي الْأَوَّلِ فِي الْيَوْمِ وَفِي الثَّانِي فِي الْغَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: الْيَوْمَ كَانَ تَنْجِيزًا وَالْمُنَجَّزُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ،
كَمَا أَنَّ الْبَابَ يَكُونُ تَحْتَ الصِّنْفِ الْمُسَمَّى كِتَابًا، وَالْكُلَّ تَحْتَ الصِّنْفِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْعِلْمِ الْمُدَوَّنِ فَإِنَّهُ صِنْفٌ عَالٍ، وَالْعِلْمُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ جِنْسٌ وَمَا تَحْتَهُ مِنْ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ نَوْعٌ، وَالْعُلُومُ الْمُدَوَّنَةُ تَكُونُ ظَنِّيَّةً كَالْفِقْهِ، وَقَطْعِيَّةً كَالْكَلَامِ وَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ، فَوَاضِعُ الْعِلْمِ لَمَّا لَاحَظَ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ لَهُ فَوَجَدَهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ بِأَحْوَالٍ شَتَّى أَوْ أَشْيَاءَ مِنْ جِهَةٍ خَاصَّةٍ فَوَضَعَهُ لِيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ فَقَدْ قَيَّدَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ الْعِلْمِ بِعَارِضٍ كُلِّيٍّ فَصَارَ صِنْفًا، وَقِيلَ لِلْوَاضِعِ صَنَّفَ الْعِلْمَ، أَيْ جَعَلَهُ صِنْفًا فَالْوَاضِعُ أَوْلَى بِاسْمِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ.
وَإِنْ صَحَّ أَيْضًا فِيهِمْ وَعُلِمَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَتَبَايَنُ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ صِنْفٍ أَعْلَى لِتَبَايُنِ الْعَوَارِضِ الْمُقَيَّدِ بِكُلٍّ مِنْهَا النَّوْعُ وَأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ نَحْوِ كِتَابِ الْحَوَالَةِ اللَّائِقِ بِهِ خِلَافُ تَسْمِيَتِهِ بِكِتَابٍ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِطُلُوعِ فَجْرِهِ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ) لِأَنَّ جَمِيعَهُ هُوَ مُسَمَّى الْغَدِ، وَلَوْ نَوَى آخِرَ النَّهَارِ جَازَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ (وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْعُمُومِ) تَنْزِيلٌ لِلْأَجْزَاءِ مَنْزِلَةَ الْأَفْرَادِ، وَإِلَّا فَلَفْظُ غَدًا نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ فَلَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا أَوْ غَدًا الْيَوْمَ يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ الَّذِي تَفَوَّهَ بِهِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ نَجَّزَهُ فَلَا يَرْجِعُ مُتَأَخِّرًا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَأَوْرِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ لَمْ يُعْتَبَرْ لِإِضَافَةٍ أُخْرَى لَا لِإِضَافَةِ عَيْنِ مَا نُجِّزَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِبَارَ كَلَامِهِ إيقَاعًا لِلْحَاجَةِ وَهِيَ مُرْتَفِعَةٌ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا ضَرُورَةَ أُخْرَى تَجِبُ لِمُرَاعَاتِهَا وُقُوعُ أُخْرَى، فَإِنَّهَا إذَا طَلُقَتْ الْيَوْمَ كَانَتْ غَدًا كَذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ بِالْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا أَوْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا طَالِقٌ فِي الْغَدِ وَآخِرِ النَّهَارِ بِطَلَاقِهَا فِي الْيَوْمِ وَأَوَّلِ النَّهَارِ، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَتَوَقَّفَ الْمُنَجَّزُ لِاتِّصَالِ مُغَيِّرِ الْأَوَّلِ بِالْآخِرِ فَلَمْ لَمْ يَتَوَقَّفْ بِاتِّصَالِ الْإِضَافَةِ كَمَا تَوَقَّفَ بِاتِّصَالِ الشَّرْطِ
وَإِذَا قَالَ: غَدًا كَانَ إضَافَةً وَالْمُضَافُ لَا يَتَنَجَّزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْإِضَافَةِ فَلَغَا اللَّفْظُ الثَّانِي فِي الْفَصْلَيْنِ.
وَكِلَاهُمَا مُغَيِّرٌ لِلتَّنْجِيزِ؟
فَظَهَرَ أَنَّهُ مُضَافٌ لَا أَنَّهُ طَلَاقٌ آخَرُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَسْقُطُ الْجَوَابُ بِأَنَّ ذِكْرَ الشَّرْطِ يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ الْيَوْمَ لِبَيَانِ وَقْتِ التَّعْلِيقِ لَا لِبَيَانِ وَقْتِ الْوُقُوعِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الشَّرْطِ فَيَبْقَى قَوْلُهُ الْيَوْمَ بَيَانًا لِوَقْتِ الْوُقُوعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَا يَسْقُطُ الْجَوَابُ بِأَنَّ طَالِقٌ الْيَوْمَ إيقَاعٌ فِي الْحَالِ، وَإِذَا جَاءَ غَدٌ تَعْلِيقٌ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا لِلتَّنَافِي وَاعْتِبَارُ الْمُعَلَّقِ أَوْلَى لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ إلْغَاءُ كَلِمَةِ وَاحِدَةٍ وَهِيَ لَفْظَةُ " الْيَوْمَ "، وَفِي اعْتِبَارِ الْمُنَجَّزِ إلْغَاءُ كَلِمَاتٍ وَهِيَ قَوْلُهُ إذَا جَاءَ غَدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْفَرْقُ فِي الْجَوَابَيْنِ بِأَنَّهُ لَمْ تُوقَفْ فَلَمْ يَكُنْ تَنْجِيزًا مَعَ اتِّصَالِ الْمُغَيِّرِ الشَّرْطِيِّ وَلَمَّا لَمْ يَتَوَقَّفْ فَكَانَ تَنْجِيزًا مَعَ اتِّصَالِ الْمُغَيِّرِ الْإِضَافِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُجْعَلْ الثَّانِي نَاسِخًا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ النَّسْخَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْأَوَّلِ وَتَقَرُّرِهِ، وَتَقَرُّرُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَثُبُوتُ وُقُوعِهِ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَأْخِيرُهُ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ طَالِقٌ غَدًا الْيَوْمَ فَلِأَنَّهُ وَقَعَ مُسْتَقِيمًا مُضَافًا وَبَعْدَمَا صَحَّ مُضَافًا إلَى غَدٍ لَا يَكُونُ بِعَيْنِهِ مُنَجَّزًا بَلْ لَوْ اُعْتُبِرَ كَانَ تَطْلِيقَةً أُخْرَى، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهَا لَزِمَتْ إضَافَتُهَا إلَى الْغَدِ فَلَزِمَ إلْغَاءُ اللَّفْظِ الثَّانِي ضَرُورَةً، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ بِكَلَامٍ مُسْتَبِدٍّ فِي نَفْسِهِ مُتَرَاخٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا.
فَإِنْ قُلْت: فَمَا وُجُوهُ الْمَسْأَلَةِ إذَا وُسِّطَتْ الْوَاوُ؟ فَالْجَوَابُ إذَا قُدِّمَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْوَقْتَيْنِ كَأَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ أَوْ الْيَوْمَ وَغَدًا أَوْ فِي لَيْلِك وَنَهَارِك وَهُوَ فِي اللَّيْلِ أَوْ قَلْبِهِ وَهُوَ فِي النَّهَارِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْأُخْرَى لِأَنَّهَا بِطَلَاقِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ تَكُونُ طَلَاقًا فِي آخِرِهِمَا، وَلَوْ نَوَى أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ وَاحِدَةٌ وَغَدًا وَاحِدَةٌ صَحَّ وَوَقَعَتْ ثِنْتَانِ، وَكَذَا طَالِقٌ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِلَا نِيَّةٍ، فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقَعْنَ كَذَلِكَ.
وَإِنْ قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ كَطَالِقٍ غَدًا وَالْيَوْمَ أَوْ فِي نَهَارِك وَلَيْلِك وَهُوَ فِي اللَّيْلِ أَوْ قَلْبِهِ وَهُوَ فِي النَّهَارِ فَعَنْ زُفَرَ كَذَلِكَ تَقَعُ وَاحِدَةٌ وَعِنْدَنَا يَقَعُ ثِنْتَانِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَقَعَ مُضَافًا صَحِيحًا وَالْوَاوَ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ يُوجِبُ تَقْدِيرَ مَا فِي الْأُولَى بِمَا بَعْدَهَا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ، وَقَدْ نُقِلَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ؛ فَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ ثَلَاثٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ مُوقَعٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ قُلْنَا اللَّازِمُ وَهُوَ كَوْنُهَا طَالِقًا فِي كُلِّ يَوْمٍ يَحْصُلُ بِإِيقَاعِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَطْ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى اعْتِبَارِهِ مُوقَعًا كُلَّ يَوْمٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ نَقْلَ هَذَا الْخِلَافِ مَعَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي طَالِقٍ غَدًا وَالْيَوْمَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ إمَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ إلَى آخِرِ الزَّمَانِ فَتَقَعَ وَاحِدَةٌ أَوْ قَلْبَهُ غَدًا وَمَا بَعْدَهُ وَالْيَوْمَ فَكَذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً، فَلَوْ نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلِيقَةً أُخْرَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْبَحْثِ أَوَّلَ كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ.
وَحَاصِلُ مَا يَقَعُ بِهِ جَوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ صِحَّةَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ إمَّا بِاعْتِبَارِ إضْمَارِ التَّطْلِيقِ كَأَنَّهُ قَالَ: طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلِيقَةً أَوْ بِإِضْمَارِ فِي كَأَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَوْ قَالَ: فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاحِدَةً وَهُوَ مَا قَاسَ عَلَيْهِ زُفَرُ. وَفَرَّقُوا بِأَنَّ " فِي " لِلظَّرْفِ وَالزَّمَانُ إنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعِ فَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ يَوْمٍ فِيهِ وُقُوعُ تَعَدُّدِ
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ وَقَالَ نَوَيْت آخِرَ النَّهَارِ دِينَ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ " فِي " جَمِيعِ الْغَدِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ غَدًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلِهَذَا يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَذْفَ فِي وَإِثْبَاتَهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ فِي الْحَالَيْنِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ فِي لِلظَّرْفِ وَالظَّرْفِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَتَعَيَّنَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ، فَإِذَا عَيَّنَ آخِرَ النَّهَارِ كَانَ التَّعْيِينُ الْقَصْدِيُّ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الضَّرُورِيِّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ غَدًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ حَيْثُ وَصَفَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُضَافًا إلَى جَمِيعِ الْغَدِ. نَظِيرُهُ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ عُمْرِي، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ: وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ فِي عُمْرِي، وَعَلَى
الْوَاقِعِ، بِخِلَافِ كَوْنِ كُلِّ يَوْمٍ فِيهِ الِاتِّصَافُ بِالْوَاقِعِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ وَقَالَ: نَوَيْت آخِرَ النَّهَارِ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. لَهُمَا أَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ طَالِقٌ غَدًا وَفِيهِ لَا يُصَدَّقُ فِي نِيَّتِهِ آخِرَهُ، وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ اتِّفَاقًا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، وَهَذَا وَهُوَ كَوْنُ وَصْفِهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ أَوْ صَيْرُورَتِهِ بِمَنْزِلَةِ غَدًا لِأَنَّ حَذْفَ لَفْظَةِ فِي مَعَ إرَادَتِهَا وَإِثْبَاتِهَا سَوَاءٌ فَإِذَا كَانَ فِي حَذْفِهِ يُفِيدُ عُمُومَ الزَّمَانِ فَفِي إثْبَاتِهِ كَذَلِكَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذِكْرَ لَفْظَةِ فِي يُفِيدُ وَصْلَ مُتَعَلِّقِهَا بِجُزْءٍ مِنْ مَدْخُولِهَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِجُزْءٍ آخَرَ أَوْ كُلِّهِ أَوْ لَا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ خُصُوصُ أَحَدِهِمَا مِنْ خَارِجٍ كَمَا فِي صُمْت فِي يَوْمٍ يُعْرَفُ الشُّمُولُ وَأَكَلْت فِي يَوْمٍ يُعْرَفُ عَدَمُهُ لَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ فَإِذَا نَوَى جُزْءًا مِنْ الزَّمَانِ خَاصًّا فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتَوَاطِئِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرُوا وَصْلَ الْفِعْلِ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُفَادَ حِينَئِذٍ عُمُومُهُ لِلْقَطْعِ مِنْ اللُّغَةِ بِفَهْمِ الِاسْتِيعَابِ فِي سِرْت فَرْسَخًا وَبِعَدَمِهِ فِي سِرْت فِي فَرْسَخٍ وَصُمْت عُمُرِي وَفِي عُمُرِي فَنِيَّةُ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ
هَذَيْنِ الدَّهْرَ وَفِي الدَّهْرِ.
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِمَالِكِيَّةِ الطَّلَاقِ فَيَلْغُوَ، كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ
قَضَاءً، وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي غَدٍ قَوْلُهُ فِي شَعْبَانَ مَثَلًا؛ فَإِذَا قَالَ: طَالِقٌ فِي شَعْبَانَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ طَلُقَتْ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، وَإِنْ نَوَى آخِرَ شَعْبَانَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ) أَوْ فِي الشَّهْرِ الَّذِي خَرَجَ (وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ الطَّلَاقَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِمَالِكِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَانَ حَاصِلُهُ إنْكَارًا لِلطَّلَاقِ فَيَلْغُوَ فَكَانَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، وَلِأَنَّهُ حِينَ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ إنْشَاءً أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ: أَيْ طَالِقٌ أَمْسِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ إذَا لَمْ تَنْكِحِي بَعْدُ أَوْ عَنْ طَلَاقِ زَوْجٍ كَانَ لَهَا إنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِلْمُعَيَّنَةِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ يَقَعُ ثِنْتَانِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي التَّرْكِيبِ الْإِيقَاعُ وَالْإِنْشَاءُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا لِتَعَذُّرِهِ وَالصَّارِفُ عَنْهُ إلَى مُحْتَمِلِهِ وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِنْشَاءِ مُنْتَفٍ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، إمَّا بِعَوْدِ الْقَيْدِ بَعْدَ زَوَالِهِ لِثُبُوتِ الْعِدَّةِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ، أَوْ لِبَقَائِهِ مُتَوَقِّفًا إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَقَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا إذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ يَقَعُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ طَلْقَةٌ أُخْرَى لِبَقَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيَّةً لِقِيَامِ الْعِدَّةِ بِعَوْدِ الْقَيْدِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الْمُبَانَةِ مَعَ قِيَامِ عِدَّتِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ حَيْثُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ ثَانِيًا أَوْ التَّأْكِيدِ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ التَّجْدِيدَ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمُنْكَرِ لَيْسَ غَالِبًا، وَلَا الدَّاعِي إلَى تَكْثِيرِ الطَّلَقَاتِ مِنْ اللَّجَاجِ وَالْبَغْضَاءِ بِحَيْثُ لَا يَقْنَعُ الزَّوْجُ بِوَاحِدَةٍ مَوْجُودًا فِيهِ لِأَنَّ تَحَقُّقَ ذَلِكَ فِي الْمُعَيَّنَةِ لَا فِي الْمُنَكَّرَةِ، وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ وَقَعَ السَّاعَةَ لِأَنَّهُ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا لِكَذِبِهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِسْنَادِ فَكَانَ إنْشَاءً فِي الْحَالِ فَيَقَعَ السَّاعَةَ.
وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ حَكَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّوْرِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَحَكَمَ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ بِتَنْجِيزِ طَلَاقِهَا لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّزَ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ قَبْلَهُ ثَلَاثًا وَوُقُوعُ الثَّلَاثِ سَابِقًا عَلَى التَّنْجِيزِ يَمْنَعُ الْمُنْجِزَ بِوُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وَالْمُعَلَّقِ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ وَنَقُولُ أَيْضًا: إنَّ هَذَا تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ اللُّغَةِ لِأَنَّ الْأَجْزِيَةَ تَنْزِلُ بَعْدَ الشَّرْطِ أَوْ مَعَهُ لَا قَبْلَهُ، وَلِحُكْمِ الْعَقْلِ أَيْضًا لِأَنَّ مَدْخُولَ أَدَاةِ الشَّرْطِ سَبَبٌ وَالْجَزَاءَ مُسَبَّبٌ عَنْهُ، وَلَا يُعْقَلُ تَقَدُّمُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ فَكَانَ قَوْلُهُ قَبْلَهُ لَغْوًا أَلْبَتَّةَ فَبَقِيَ الطَّلَاقُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ
أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً بِتَطْلِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا أَوَّلهُ مِنْ أَمْسِ وَقَعَ السَّاعَةَ) لِأَنَّهُ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا أَيْضًا فَكَانَ إنْشَاءً، وَالْإِنْشَاءُ فِي الْمَاضِي إنْشَاءٌ فِي الْحَالِ فَيَقَعَ السَّاعَةَ (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قِبَلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: طَلَّقْتُك وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ نَائِمٌ، أَوْ يُصَحَّحُ إخْبَارًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْك وَسَكَتَ طَلُقَتْ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى زَمَانٍ خَالٍ عَنْ التَّطْلِيقِ وَقَدْ وُجِدَ حَيْثُ سَكَتَ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى وَمَتَى مَا
بِالْقَبْلِيَّةِ وَلِحُكْمِ الشَّرْعِ لِأَنَّ النُّصُوصَ نَاطِقَةٌ بِشَرْعِيَّةِ الطَّلَاقِ وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى رَفْعِهَا فَيَتَفَرَّعَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وُقُوعُ ثَلَاثٍ: الْوَاحِدَةُ الْمُنَجَّزَةُ وَثِنْتَانِ مِنْ الْمُعَلَّقَةِ.
وَلَوْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَقَعَتَا وَوَاحِدَةً مِنْ الْمُعَلَّقَةِ أَوْ ثَلَاثًا وَقَعْنَ فَيَنْزِلَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ لَا يُصَادِفُ أَهْلِيَّةً فَيَلْغُو.
وَلَوْ كَانَ قَالَ: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَ ثِنْتَانِ الْمُنَجَّزَةُ وَالْمُعَلَّقَةُ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ إذَا طَلَّقْتُك وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ نَائِمٌ) أَوْ مَجْنُونٌ وَكَانَ جُنُونُهُ مَعْهُودًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا طَلُقَتْ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا وَأَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ لَمْ تُعْهَدْ فَلَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ فِي الْإِضَافَةِ (أَوْ يُصَحَّحُ إخْبَارًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ كَوْنِهِ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ النِّكَاحِ أَوْ طَلَاقِ زَوْجٍ مُتَقَدِّمٍ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْك وَسَكَتَ طَلُقَتْ) بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ مَتَى ظَرْفُ زَمَانٍ، وَكَذَا " مَا " تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً نَائِبَةً عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ، قَالَ: تَعَالَى قَاصِدًا لِكَلَامِ عِيسَى عليه السلام {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} أَيْ مُدَّةَ دَوَامِي حَيًّا، فَصَارَ حَاصِلُ الْمَعْنَى إضَافَةَ طَلَاقِهَا إلَى زَمَانٍ خَالٍ عَنْ طَلَاقِهَا، وَبِمُجَرَّدِ سُكُوتِهِ وُجِدَ الزَّمَانُ الْمُضَافُ إلَيْهِ فَيَقَعَ.
فَلَوْ قَالَ: مَوْصُولًا أَنْتِ طَالِقُ بَرَّ، حَتَّى لَوْ قَالَ: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ وَصَلَ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ قَالَ: أَصْحَابُنَا بَرَّ وَوَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ: زُفَرُ: ثَلَاثٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْك وَسَكَتَ وَقَعَتْ الثَّلَاثُ مُتَتَابِعَةً لَا جُمْلَةً لِأَنَّهَا تَقْتَضِي عُمُومَ الْإِفْرَادِ لَا عُمُومَ الِاجْتِمَاعِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ فَقَطْ. وَلَوْ قَالَ: حِينَ لَمْ أُطَلِّقْك وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ سَكَتَ، وَكَذَا زَمَانَ لَمْ أُطَلِّقْك وَحَيْثُ لَمْ أُطَلِّقْك وَيَوْمَ لَمْ أُطَلِّقْك. وَإِنْ قَالَ: زَمَانَ
صَرِيحٌ فِي الْوَقْتِ لِأَنَّهُمَا مِنْ ظُرُوفِ الزَّمَانِ، وَكَذَا كَلِمَةُ " مَا " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا دُمْتُ حَيًّا} أَيْ وَقْتَ الْحَيَاةِ.
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ) لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْيَأْسِ عَنْ الْحَيَاةِ وَهُوَ الشَّرْطُ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ، وَمَوْتُهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ هُوَ الصَّحِيحُ.
لَا أُطَلِّقُك أَوْ حِينَ لَا أُطَلِّقُك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمْضِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّ لَمْ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا مَعَ النَّفْيِ وَقَدْ وُجِدَ زَمَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ فَوَقَعَ، وَحَيْثُ لِلْمَكَانِ وَكَمْ مَكَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَكَلِمَةُ لَا لِلِاسْتِقْبَالِ غَالِبًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِحِينَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُ أَوْسَطُ اسْتِعْمَالَاتِهِ إذْ يُرَادُ بِهِ سَاعَةٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ نَحْوُ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وَأَرْبَعُونَ سَنَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} وَالزَّمَانُ كَالْحِينِ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ) بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْيَأْسِ عَنْ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَهَا فِي عُمُرِهِ لَمْ يَصْدُقْ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا بَلْ صَدَقَ نَقِيضُهُ وَهُوَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَالْيَأْسُ يَكُونُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَّاتِهِ وَلَمْ يُقَدِّرْهُ الْمُتَقَدِّمُونَ بَلْ قَالُوا: تَطْلُقُ قُبَيْلَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا وَوَرِثَتْهُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ وَإِلَّا لَا تَرِثُهُ.
وَقَوْلُهُ وَهُوَ الشَّرْطُ: يَعْنِي الْعَدَمَ (قَوْلُهُ كَمَا فِي إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ) إعْطَاءُ نَظِيرٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ بِإِنْ مَنْفِيٌّ حُكْمُهُ كَذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ أَوْ الْعَتَاقُ إذَا عُلِّقَ بِهِ إلَّا بِالْمَوْتِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَزَادَ قَيْدًا حَسَنًا فِي الْمُبْتَغَى بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي بِكَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِ انْتَهَى.
وَمِنْ ثَمَّةَ قَالُوا: لَوْ أَرَادَ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ فَلَمْ تُطَاوِعْهُ فَقَالَ: إنْ لَمْ تَدْخُلِي الْبَيْتَ مَعِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ بَعْدَمَا سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ طَلُقَتْ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الدُّخُولِ كَانَ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ وَقَدْ فَاتَ (قَوْلُهُ وَمَوْتُهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ هُوَ الصَّحِيحُ) اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ بِمَوْتِهَا لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَإِنَّمَا عَجَزَ بِمَوْتِهَا وَصَارَ كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ أَدْخُلَ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ بِمَوْتِهِ لَا بِمَوْتِهَا. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْوَجْهَ السَّابِقَ يَنْتَظِمُ مَوْتَهَا وَمَوْتَهُ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ مَوْتَهَا يُمَكِّنُهُ الدُّخُولَ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْيَأْسُ بِمَوْتِهَا فَلَا يَقَعُ. أَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ الْيَأْسُ مِنْهُ بِمَوْتِهَا، وَإِذَا حَكَمْنَا بِوُقُوعِهِ قَبْلَ مَوْتِهَا لَا يَرِثُ مِنْهَا الزَّوْجُ لِأَنَّهَا بَانَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا زَوْجِيَّةٌ حَالَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِالْبَيْنُونَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ صَرِيحًا لِانْتِفَاءِ الْعِدَّةِ كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك، أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تَطْلُقُ حِينَ سَكَتَ) لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لِلْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وَقَالَ قَائِلُهُمْ:
وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا
…
وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبٌ
فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَتَى وَمَتَى مَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ
الْوُقُوعَ فِي آخِرِ جُزْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَمْ يَلِهِ إلَّا الْمَوْتُ وَبِهِ تَبَيَّنَ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك أَوْ إذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تَطْلُقُ حِينَ سَكَتَ) لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لِلْوَقْتِ كَكَلِمَةِ مَتَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ ابْنُ أَحْمَرَ أَوْ حَرِيُّ بْنُ ضَمْرَةَ:
(وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا
…
وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ)
يَعْنِي أَخَاهُ الصَّغِيرَ، وَمَا قِيلَ إنَّهُ لَعَنْتَرَةُ الْعَبْسِيُّ فَخَطَأٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالشَّأْنِ لِانْتِفَائِهِ مِنْ دِيوَانِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لِعَنْتَرَةَ أَخٌ اسْمُهُ جُنْدُبٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا لَهُ أَخٌ مِنْ أُمِّهِ اسْمُهُ شَيْبُوبٌ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ أُمُّهُ بِحَيْثُ تُوَاكِلُ إيَّاهُ شَدَّادًا حَيْسًا لِأَنَّهَا أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ اطَّلَعَ عَلَى قِصَّتِهِ.
وَقَبْلَ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ:
هَلْ فِي الْقَضِيَّةِ أَنْ إذَا اسْتَغْنَيْتُمْ
…
وَأَمِنْتُمْ فَأَنَا الْبَعِيدُ الْأَجْنَبُ
وَإِذَا الشَّدَائِدُ بِالشَّدَائِدِ مَرَّةً
…
أَشَجَّتْكُمْ فَأَنَا الْمُحَبُّ الْأَقْرَبُ
وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا
…
وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ
هَذَا وَجَدِّكُمْ الصَّغَارُ بِعَيْنِهِ
…
لَا أُمَّ لِي إنْ كَانَ ذَاكَ وَلَا أَبُ
عَجَبٌ لِتِلْكَ قَضِيَّةٍ وَإِقَامَتِي
…
فِيكُمْ عَلَى تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَعْجَبُ
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُحَشِّينَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْآيَةِ وَالْبَيْتِ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجَوَابُ الْأَوَّلِ عَلِمْت وَجَوَابُ الثَّانِي أُدْعَى وَيُدْعَى، وَأَيْضًا تَنْظِيرُهُ لَهَا بِمَتَى غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَحَّضُ لِلْوَقْتِ أَبَدًا، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِلْوَقْتِ يَعْنِي الْمَحْضَ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ وَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ مَطْلُوبِهِمَا عَلَيْهِ، بَلْ الْمَنْقُولُ لَهُمَا أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا مَعْنَى
كَمَا فِي قَوْلِهِ مَتَى شِئْت. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ إذَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ أَيْضًا، قَالَ قَائِلُهُمْ:
وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى
…
وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ
الْوَقْتِ الْمُجَرَّدِ فِي الْمُجَازَاةِ، فَأَوْرَدَ الشَّاهِدِينَ لَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِيَامِ الْوَقْتِ مَعَ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ لَهُمَا حَاجَةٌ أَنْ يُبَيِّنَهَا أَنَّهَا لِلْوَقْتِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الشَّرْطِ، بَلْ حَاجَتُهُمَا فِي إثْبَاتِ الِاجْتِمَاعِ لِيَكُونَ دَفْعًا ظَاهِرًا لِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ أَيْضًا) يَعْنِي الشَّرْطَ الْمُجَرَّدَ عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَإِلَّا لَا يُفِيدُ.
وَهَذَا مَذْهَبٌ نُقِلَ عَنْ الْكُوفِيِّينَ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ
وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ
حَيْثُ جُزِمَ بِهَا فَصَارَتْ مُحْتَمِلَةً لِكُلٍّ مِنْ الشَّرْطِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الظَّرْفِ؛ وَالظَّرْفُ إمَّا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهَا مَجَازٌ عِنْدَهُ فِي الشَّرْطِ الْمُجَرَّدِ وَكَثُرَ حَتَّى صَارَ كَالظَّاهِرِ فَتَسَاوَيَا كَمَا قِيلَ، وَلِذَا صَدَّقَهُ الْقَاضِي فِي دَعْوَاهُ إرَادَةَ الشَّرْطِ الْمُجَرَّدِ، وَبِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ لَهُمَا بَيْنَ هَذِهِ وَمَسْأَلَةِ الْحَلِفِ عَلَى أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْ دِجْلَةَ حَيْثُ صَرَفَاهَا إلَى الشُّرْبِ بِالْآنِيَةِ وَكَرَعَا لِأَنَّ الْمَجَازَ هُنَاكَ غَالِبٌ.
وَاحْتَاجَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى الْفَرْقِ لِأَنَّهُ جَزَمَ هُنَاكَ أَنَّهَا بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لَا هُنَا، وَفَرْقُهُ أَنَّ حُكْمَ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الْحِنْثُ بِالْكَرَعِ ثَابِتٌ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَاعْتِبَارِ الْمَجَازِ لِأَنَّ حُكْمَهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الشُّرْبِ اغْتِرَافًا فَكَانَ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ ثَابِتًا يَقِينًا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَاعْتُبِرَتْ لِذَلِكَ: أَيْ لِلتَّيَقُّنِ بِحُكْمِهَا، بِخِلَافِ الْمَجَازِ بِخِلَافِ مَعْنَى الظَّرْفِ هُنَا فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ وَهُوَ مُنَافٍ لِحُكْمِ الْمَجَازِ، وَأَنْتَ سَمِعْت أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ سُقُوطَ مَعْنَى الظَّرْفِ عَنْهَا وَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ شَرْطًا كَمَتَى، فَثُبُوتُ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ مَمْنُوعٌ، وَأَمَّا كَوْنُهَا مَجَازًا فِي جُزْءِ مَعْنَاهَا فَلَمْ يُسْمَعْ يَقِينًا، وَبِتَقْدِيرِ إحْدَاثِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ النَّقْلِ فِي آحَادِ الْمَجَازِ فَكَوْنُهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا أَرَادَ مَعْنَى الشَّرْطِ أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ الْقَاضِي بَلْ يَصِحُّ دِيَانَةً لِأَنَّهُ الْوَجْهُ عِنْدَهُمَا ظُهُورُهَا فِي الظَّرْفِ، فَمُرَادُهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَالْبَيْتُ الْمَذْكُور لَهُ قَائِلُهُ عَبْدُ قَيْسِ بْنِ خِفَافِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَنْظَلَةَ يُوصِي جُبَيْلًا ابْنَهُ بِقَصِيدَةٍ فِيهَا آدَابٌ وَمَصَالِحُ أَوَّلُهَا:
أَجُبَيْلُ إنَّ أَبَاك كَارِبُ يَوْمِهِ
…
فَإِذَا دُعِيت إلَى الْمَكَارِمِ فَاعْجَلْ
أُوصِيكَ إيصَاءَ امْرِئٍ لَك نَاصِحٌ
…
ظَنَّ بِرَيْبِ الدَّهْرِ غَيْرَ مَعْقِلِ
اللَّهَ فَاتَّقِهِ وَأَوْفِ بِنَذْرِهِ
…
وَإِذَا حَلَفْت مُمَارِيًا فَتَحَلَّلْ
وَالضَّيْفَ تُكْرِمْهُ فَإِنَّ مَبِيتَهُ
…
حَقٌّ وَلَا تَكُ لَعْنَةً لِلنُّزُلِ
فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الشَّرْطُ لَمْ تَطْلُقْ فِي الْحَالِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَقْتُ تَطْلُقُ فَلَا تَطْلُقُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ،
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الضَّيْفَ مُخْبِرُ أَهْلِهِ
…
بِمَبِيتِ لَيْلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ
وَدَعِ الْقَوَارِصَ لِلصِّدِّيقِ وَغَيْرِهِ
…
كَيْ لَا يَرَوْكَ مِنْ اللِّئَامِ الْعُزَّلِ
وَصِلْ الْمُوَاصِلَ مَا صَفَا لَك وُدُّهُ
…
وَاحْذَرْ حِبَالَ الْخَائِنِ الْمُتَبَذِّلِ
وَاتْرُكْ مَحِلَّ السُّوءِ لَا تَحْلُلْ بِهِ
…
وَإِذَا نَبَا بِك مَنْزِلٌ فَتَحَوَّلْ
دَارُ الْهَوَانِ لِمَنْ رَآهَا دَارِهِ
…
أَفَرَاحِلٌ عَنْهَا كَمَنْ لَمْ يَرْحَلْ
وَاسْتَأْنِ حِلْمَك فِي أُمُورِك كُلِّهَا
…
وَإِذَا عَزَمْت عَلَى النَّدَى فَتَوَكَّلْ
وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى
…
وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ
وَإِذَا هَمَمْت بِأَمْرِ شَرٍّ فَاتَّئِدْ
…
وَإِذَا هَمَمْت بِأَمْرِ خَيْرٍ فَاعْجَلْ
وَإِذَا أَتَتْك مِنْ الْعَدُوِّ قَوَارِصُ
…
فَاقْرُصْ لِذَاكَ وَلَا تَقُلْ لَمْ أَفْعَلِ
وَإِذَا افْتَقَرْت فَلَا تَكُنْ مُتَخَشِّعًا
…
تَرْجُو الْفَوَاضِلَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُفْضَلِ
وَإِذَا تَشَاجَرَ فِي فُؤَادِك مَرَّةً
…
أَمْرَانِ فَاعْمِدْ لِلْأَعَفِّ الْأَجْمَلِ
وَإِذَا لَقِيت الْقَوْمَ فَاضْرِبَ فِيهِمْ
…
حَتَّى يَرَوْكَ طِلَاءَ أَجْرَبَ مُهْمَلِ
وَإِذَا رَأَيْت الْبَاهِشِينَ إلَى النَّدَى
…
غُبْرًا أَكُفُّهُمْ بِقَاعٍ مُمْحِلِ
فَأَعْنِهِمْ وَأَيْسِرْ بِمَا يُسَرُّوا بِهِ
…
وَإِذَا هُمُوا نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلْ
وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الشَّاعِرُ إذَا فِيهَا لِلشَّرْطِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا بِالْجَزْمِ وَدُخُولِ فَاءِ الْجَزَاءِ، وَمَعْقِلٌ مِنْ عَقَلْت النَّاقَةَ بِالْعَقْلِ، يُرِيدُ عَقْلِي بِرَيْبِ الدَّهْرِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ، وَتَجَمَّلْ: أَيْ أَظْهِرْ جَمِيلًا وَلَا تُظْهِرْ جَزَعًا، وَقِيلَ كُلْ الْجَمِيلَ الْمَجْمُولَ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ الْأَوَّلِ فِي التَّأْدِيبِ. وَفِي الْمُنْتَقَى لَوْ قَالَ: إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَ التَّطْلِيقِ حَنِثَ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فَيَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقٌ، وَهَذَا الطَّلَاقُ يَصْلُحُ شَرْطًا فِي الْيَمِينِ الْأُولَى. لِأَنَّهُ وَقَعَ بِكَلَامٍ وُجِدَ بَعْدَ الْيَمِينِ الْأُولَى فَحَنِثَ فِي الْيَمِينَيْنِ فَيَقَعَ طَلَاقَانِ.
وَلَوْ قَلَبَ فَقَالَ: إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَ يَقَعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَ التَّطْلِيقِ صَارَ حَانِثًا فِي الْيَمِينِ الْأُولَى فَيَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ بِكَلَامٍ وُجِدَ قَبْلَ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ، فَالشُّرُوطُ تُرَاعَى فِي الْمُسْتَقْبِلِ لَا الْمَاضِي وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا. وَإِنَّمَا هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَيَقَعَانِ بَعْدَ زَمَانٍ يَسِيرٍ فِي الْأُولَى لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَقَعُ وَاحِدَةٌ كَمَا سَكَتَ لِأَنَّهُ حَنِثَ فِي قَوْلِهِ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَسْكُتْ حَتَّى مَاتَ لِأَنَّ زَمَانَ قَوْلِهِ إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ زَمَانٌ يُوجَدُ فِيهِ تَطْلِيقٌ فَيَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ.
وَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ مِنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُك قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك، وَقَلْبُهُ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك إذَا تَزَوَّجْتُك، وَإِذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك، فَفِي الصُّورَتَيْنِ
بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلشَّرْطِ يَخْرُجُ وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَلْبَتَّةَ، أَمَّا إذَا نَوَى الْوَقْتَ يَقَعُ فِي الْحَالِ وَلَوْ نَوَى الشَّرْطَ يَقَعُ فِي آخِرِ الْعُمُرِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهَا.
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ بِهَذِهِ التَّطْلِيقَةِ) مَعْنَاهُ قَالَ ذَلِكَ وُصُولًا بِهِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقَعَ الْمُضَافُ فَيَقَعَانِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله لِأَنَّهُ وُجِدَ زَمَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ وَإِنْ قَلَّ وَهُوَ زَمَانُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ زَمَانَ
الْأُولَيَيْنِ يَقَعُ عِنْدَ التَّزَوُّجِ اتِّفَاقًا، وَفِي الثَّالِثَةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الطَّلَاقَ إذَا أُضِيفَ إلَى وَقْتَيْنِ أَحَدُهُمَا يَقْبَلُهُ وَالْآخِرُ لَا صَحَّ مَا يَقْبَلُهُ وَبَطَلَ مَا لَا يَقْبَلُهُ وَإِنَّ الْآخَرَ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ، وَقَبْلَ وَإِذَا ظَرْفَانِ وَقَبْلَ لَا يَقْبَلُ الطَّلَاقَ، وَإِذَا تَقْبَلُهُ فَأُضِيفَ إلَيْهَا، وَلَهُمَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَمَا قَبْلَهَا تُرَجَّحُ جِهَةُ الشَّرْطِ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الْفَاءِ فِي الْجَزَاءِ، فَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ التَّزَوُّجِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك فَلَا يَقَعُ، أَوْ لِأَنَّ الْآخَرَ وَهُوَ الْإِضَافَةُ إلَى قَبْلَ نَسَخَ الْأَوَّلَ (وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا لِلْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا لِلشَّرْطِ يَخْرُجُ وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ وُقُوعَ الشَّكِّ فِي الشَّرْطِيَّةِ وَالظَّرْفِيَّةِ يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِيَّةِ تَحِلُّ وَعَلَى تَقْدِيرِ الظَّرْفِيَّةِ تَطْلُقُ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَحْرُمَ تَقْدِيمًا لِلْمُحَرَّمِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الظَّرْفِ كَمَا قَالَا.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا مَتْرُوكٌ فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّرَدُّدِ فِي الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي انْتِقَاضِ طَهَارَتِهِ جَاءَ فِيهِ أَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِقَاضِ تَحْرُمُ الصَّلَاةُ وَعَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِهِ تَحِلُّ وَمَعَ هَذَا لَا تَتَرَجَّحُ الْحُرْمَةُ وَإِنْ كَانَ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا إنَّمَا ذَلِكَ فِي تَعَارُضِ دَلِيلِ الْحُرْمَةِ مَعَ دَلِيلِ الْحِلِّ فَالِاحْتِيَاطُ الْعَمَلُ بِدَلِيلِ الْحُرْمَةِ، أَمَّا هُنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا الْحُرْمَةَ لَمْ نَعْمَلْ بِدَلِيلٍ بَلْ بِالشَّكِّ، وَهُنَاكَ يَقَعُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يُشْكِلُ لِأَنَّهُ سَيَذْكُرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ. وَحِينَئِذٍ فَمُقْتَضَى الْوَجْهِ فِي الْمَشِيئَةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَخْرُجُ مِنْ يَدِهَا وَعَلَى قَوْلِهِ يَخْرُجُ، وَكَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ نَوَى وَلَمْ تُدْرَ نِيَّتُهُ لِعَارِضٍ عَرَاهُ، وَأَمَّا إذَا عُرِفَتْ بِأَنَّ اسْتَفْسَرَ فَقَالَ: أَرَدْت الزَّمَانَ فَيَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ عَلَى قَوْلِهِمَا وَلَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَكَذَا عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ.
وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الشَّرْطَ صُدِّقَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ: أَعْنِي قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت الزَّمَانَ صُدِّقَ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت الشَّرْطَ لَا يُصَدَّقُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ. وَعَلَى قَوْلِهِ يُصَدَّقُ فِي الشَّرْطِ وَفِي الظَّرْفِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مُحْتَمَلَاتِهَا مَعَ أَنَّ فِي الثَّانِي تَشْدِيدًا عَلَى نَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ بِهَذِهِ التَّطْلِيقَةِ) الْمُنَجَّزَةِ فَقَطْ، حَتَّى لَوْ كَانَ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ. وَعِنْدَ زُفَرَ ثَلَاثٌ (مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا بِهِ) فَلَوْ فَصَلَ وَقَعَ الْمُضَافُ وَالْمُنَجَّزُ جَمِيعًا (وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقَعَ الْمُضَافُ أَيْضًا فَيَقَعَانِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا) فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الْمُضَافُ وَحْدَهُ (وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ وُجِدَ زَمَانٌ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ وَإِنْ قَلَّ، وَهُوَ زَمَانُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ زَمَانَ
الْبِرِّ مُسْتَثْنًى عَنْ الْيَمِينِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ لِأَنَّ الْبِرَّ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُ الْبِرِّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْقَدْرَ مُسْتَثْنًى، أَصْلُهُ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَاشْتَغَلَ بِالنَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ وَأَخَوَاتُهُ عَلَى مَا يَأْتِيك فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَيْلًا طَلُقَتْ) لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ وَإِذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ يَمْتَدُّ كَالصَّوْمِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمِعْيَارُ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِهِ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وَالْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ وَالطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَيَنْتَظِمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
الْبِرِّ مُسْتَثْنًى بِدَلَالَةِ حَالِ الْحَالِفِ) لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا إلَّا أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يُمَكِّنُهُ تَحْقِيقَ الْبِرِّ فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ (أَصْلُهُ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَاشْتَغَلَ بِالنَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ) بَرَّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، فَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ هُنَا النَّظِيرُ لَا أَصْلُ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْكُلَّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ: لِامْرَأَةِ يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَيْلًا طَلُقَتْ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ حَرَامٌ لَيْلًا وَنَهَارًا. وَالْأَفْعَالُ مِنْهَا مَا يَمْتَدُّ وَهُوَ مَا صَحَّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ لَهُ كَالسَّيْرِ وَالرُّكُوبِ وَالصَّوْمِ وَتَخْيِيرِ الْمَرْأَةِ وَتَفْوِيضِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَاخْتَارِي نَفْسَك يَوْمَ يَقْدَمُ فَيَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِبَيَاضِ النَّهَارِ، فَلَوْ قَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا لَا خِيَارَ لَهَا أَوْ نَهَارًا دَخَلَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا إلَى الْغُرُوبِ لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَدَّ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ ذِكْرِ الْيَوْمِ دُونَ حَرْفٍ فِي ضَرْبِ الْمُدَّةِ تَقْدِيرًا وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ فَيَبْقَى مَعَهُ إلَى أَنْ يَتَعَيَّنَ خِلَافُهُ كَقَوْلِك أَحْسِنْ الظَّنَّ بِاَللَّهِ يَوْمَ تَمُوتُ وَارْكَبْ يَوْمَ يَأْتِي الْعَدُوُّ.
وَمِنْهَا مَا لَا يَمْتَدُّ وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ لَهُ كَالطَّلَاقِ وَالتَّزَوُّجِ وَالْعَتَاقِ وَالدُّخُولِ وَالْقُدُومِ وَالْخُرُوجِ فَيَجِبُ حَمْلُ الْيَوْمِ مَعَهُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ لِأَنَّ ضَرْبَ الْمُدَّةِ لَهُ لَغْوٌ إذْ لَا يَحْتَمِلُهُ (وَالطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ) فَيَقَعُ لَيْلًا تَزَوَّجَهَا أَوْ نَهَارًا، كَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ، وَفِي الْأَصْلِ التَّزَوُّجُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قِيلَ كَأَنَّهُ غَلَطٌ، وَالصَّحِيحُ الطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الصَّحِيحُ التَّزَوُّجُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، قَالَ: كَذَا وَجَدْتُهُ بِخَطِّ شَيْخِي، وَلِأَنَّهُ اعْتَبَرَ
وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَاللَّيْلُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا السَّوَادَ وَالنَّهَارُ يَتَنَاوَلُ الْبَيَاضَ خَاصَّةً وَهَذَا هُوَ اللُّغَةُ. .
فِي الْكِتَابِ فِي وِزَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِعْلُ الشَّرْطِ لَا الْجَزَاءُ، قَالَ: فِي الْأَيْمَانِ: لَوْ قَالَ: يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فِي أَتَزَوَّجُك لَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْقِرَانِ فِي قَوْلِهِ إذَا قَرَنَ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّزَوُّجِ لَا الطَّلَاقِ لِأَنَّ مُقَارَنَتَهُ الْيَوْمَ أَقْوَى لِأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْإِضَافَةِ وَالْمُضَافُ مَعَ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ انْتَهَى.
وَالْأَصْوَبُ الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ: أَعْنِي اعْتِبَارَ الْجَزَاءِ كَالطَّلَاقِ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ الظَّرْفِ إفَادَةُ وُقُوعِهِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَظْرُوفًا أَيْضًا لَكِنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِذِكْرِ ذَلِكَ الظَّرْفُ، بَلْ إنَّمَا ذُكِرَ الْمُضَافُ إلَيْهِ لِيَتَعَيَّنَ الظَّرْفُ فَيَتِمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ تَعْيِينِ زَمَنِ وُقُوعِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ مَا قُصِدَ الظَّرْفُ لَهُ لِاسْتِعْلَامِ الْمُرَادِ مِنْ الظَّرْفِ أَهُوَ الْحَقِيقِيُّ أَوْ الْمَجَازِيُّ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مَا لَمْ يُقْصَدْ لَهُ فِي اسْتِعْلَامِ حَالِهِ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ تَسَامَحُوا فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْجَوَابُ: أَعْنِي مَا يَكُونُ بِهِ الْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ مِمَّا يَمْتَدُّ نَحْوُ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَسِيرُ فُلَانٌ، أَوْ لَا يَمْتَدُّ كَأَنْتِ حُرٌّ يَوْمَ يَقْدَمُ وَطَالِقٌ يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَعَلَّلُوا بِامْتِدَادِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَعَدَمِهِ، وَالْمُحَقِّقُونَ ارْتَفَعُوا عَنْ ذَلِكَ الْإِيهَامِ.
وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي الِاعْتِبَارِ وَيُشْبِهُ كَوْنَهُ وَهْمًا، وَلِذَا نُقِلَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُعَلَّقِ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْجَوَابُ لَوْ اُعْتُبِرَ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ بِالِامْتِدَادِ وَعَدَمِهِ كَأَنْتِ حُرٌّ يَوْمَ يَسِيرُ فُلَانٌ.
[فُرُوعٌ]
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ تَطْلُقُ إذَا انْقَضَى شَهْرٌ، وَأَوْقَعَهُ أَبُو يُوسُفَ لِلْحَالِ، أَوْ قَبْلَ قُدُومِ زَيْدٍ بِشَهْرٍ يَقَعُ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ لِشَهْرٍ مُقْتَصِرًا. وَقَالَ زُفَرُ مُسْتَنِدًا أَوْ قَبْلَ مَوْتِ زَيْدٍ بِشَهْرٍ فَمَاتَ لِتَمَامِهِ وَقَعَ مُسْتَنِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَوْتِ.
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اعْتِبَارِ الْعِدَّةِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَلَوْ كَانَ وَطِئَهَا فِي الشَّهْرِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَوْ كَانَ ثَلَاثًا وَطِئَهَا فِي الشَّهْرِ غَرِمَ الْعَقْرَ، وَعِنْدَهُمَا تُعْتَبَرُ الْعِدَّةُ مِنْ الْحَالِ وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِذَلِكَ الْوَطْءِ وَلَا يَلْزَمُهُ عَقْرٌ، وَقِيلَ تُعْتَبَرُ الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ اتِّفَاقًا احْتِيَاطًا، كَذَا إذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا أَوْ خَالَعَهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرِ ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ لِتَمَامِ الشَّهْرِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَالْبَائِنُ وَيَبْطُلُ الْخُلْعُ وَيَرُدُّ الزَّوْجُ بَدَلَ الْخُلْعِ لِظُهُورِ بُطْلَانِ الْخُلْعِ وَالْبَائِنُ لِسَبْقِ الثَّلَاثِ بِالِاسْتِنَادِ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَالْبَائِنُ وَيَصِحُّ الْخُلْعُ وَيَصِيرُ مَعَ الْخُلْعِ ثَلَاثًا.
وَلَوْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَا تَطْلُقُ لِعَدَمِ شَهْرٍ قَبْلَ الْمَوْتِ.
فَصْلٌ
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا نَوَى)
وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ ثُمَّ وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا فَلَمْ تَجِبْ عِدَّةٌ لَا يَقَعُ لِعَدَمِ الْمَحِلِّ إذْ الْمُسْتَقْبَلُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْأَسْرَارِ. هَذَا عَلَى طَرِيقِ كَوْنِ الْحُكْمِ هُنَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدْ قِيلَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ التَّبْيِينِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي أَوْ قَبْلَ مَوْتِك بِشَهْرٍ عِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَتَرِثُ مِنْهُ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِهِ مُقْتَصِرًا كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَهُ يَقَعُ مُسْتَنِدًا حَتَّى إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا تَرِثُ مِنْهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثَلَاثُ حِيَضٍ. أَمَّا إذَا مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ.
وَلَوْ قَالَ: آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ أَوْ آخِرُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ امْرَأَةً ثُمَّ مَاتَ أَوْ مَلَكَ عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْمِلْكِ وَالتَّزَوُّجِ، وَعِنْدَهُمَا مُقْتَصِرًا حَتَّى يُعْتَبَرَ الْعِتْقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الشِّرَاءِ. فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَمِنْ الثُّلُثِ وَفِي الزَّوْجَةِ الْأَخِيرَةِ تَطْلُقُ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا حَتَّى لَا تَلْزَمَهَا الْعِدَّةُ إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَلَا مِيرَاثَ لَهَا. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْقُدُومِ وَالْمَوْتِ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرَّفٌ وَالْجَزَاءُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُعَرَّفِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي الدَّارِ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَ مِنْهَا آخِرَ النَّهَارِ طَلُقَتْ مِنْ حِينِ تَكَلَّمَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي الِابْتِدَاءِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ قَبْلَ الشَّهْرِ فَلَا يُوجَدُ الْوَقْتُ أَصْلًا فَأَشْبَهَ سَائِرَ الشُّرُوطِ فِي احْتِمَالِ الْخَطَرِ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ فَقَدْ عَلِمْنَا بِوُجُودِ شَهْرٍ قَبْلَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّا نَحْتَاجُ إلَى شَهْرٍ يَتَّصِلُ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ وَالْمَوْتُ يُعْرَفُ، فَفَارَقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الشَّرْطَ وَأَشْبَهَ الْوَقْتَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ فَقُلْنَا بِأَمْرٍ بَيْنَ الظُّهُورِ وَالِاقْتِصَارِ وَهُوَ الِاسْتِنَادُ، وَلَوْ قَالَ: قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ وَقَعَ أَوَّلَ شَعْبَانَ اتِّفَاقًا، وَلَوْ قَالَ لَهُمَا: أَطْوَلُكُمَا حَيَاةً طَالِقٌ السَّاعَةَ لَمْ يَقَعْ حَتَّى تَمُوتَ إحْدَاهُمَا، فَإِذَا مَاتَتْ طَلُقَتْ الْأُخْرَى مُسْتَنِدًا عِنْدَهُ وَمُقْتَصِرًا عِنْدَهُمَا.
(فَصْلٌ). فِيهِ مُتَفَرِّقَاتٌ مِنْ الْإِيقَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ جِهَةَ الْبَحْثِ فِي مَسَائِلِهِ بِعَارِضٍ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْك طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنْ نَوَى طَلَاقَهَا وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ عَلَيْك حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ) وَبِقَوْلِنَا قَالَ أَحْمَدُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا نَوَى لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ: أَيْ الْمِلْكَ الَّذِي يُوجِبُهُ النِّكَاحُ
لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى مَلَكَتْ هِيَ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ كَمَا يَمْلِكُ هُوَ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْكِينِ، وَكَذَا الْحِلُّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَالطَّلَاقُ وُضِعَ لِإِزَالَتِهِمَا فَيَصِحَّ مُضَافًا إلَيْهِ كَمَا صَحَّ مُضَافًا كَمَا فِي الْإِبَانَةِ وَالتَّحْرِيمِ. وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ لِإِزَالَةِ الْقَيْدِ وَهُوَ فِيهَا دُونَ الزَّوْجِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا هِيَ الْمَمْنُوعَةُ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ وَلَوْ كَانَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فَهُوَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ وَالزَّوْجَ مَالِكٌ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مَنْكُوحَةً بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّهَا لِإِزَالَةِ الْوَصْلَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ الْحِلِّ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَصَحَّتْ إضَافَتُهُمَا إلَيْهِمَا وَلَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا إلَيْهَا.
مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى مَلَكَتْ الْمُطَالَبَةَ بِالْوَطْءِ كَمَا يَمْلِكُ هُوَ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْكِينِ، وَكَذَا الْحِلُّ مُشْتَرَكٌ حَتَّى حَلَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الِاسْتِمْتَاعُ بِصَاحِبِهِ وَالطَّلَاقُ لِإِزَالَتِهِ فَيَصِحُّ مُضَافًا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ وُضِعَ لِإِزَالَتِهِمَا الضَّمِيرَ لِلْمِلْكَيْنِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ مُشْتَرَكٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَهُ مِلْكٌ عَلَيْهَا وَلَهَا مِلْكٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، قَالُوا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ كَالْإِضَافَةِ إلَيْهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ حَجْرًا مِنْ جِهَتِهَا حَتَّى أَنَّهُ لَا يَنْكِحَ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا فَتَصِحَّ إضَافَتُهُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ رَفْعِ ذَلِكَ الْقَيْدِ، لَكِنَّ إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَيْهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فَاحْتِيجَ إلَى نِيَّةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنْ يَنْدَفِعَ مَا أَوْرَدَهُ عَلَى الْأَوَّلِ بِالنُّكْتَةِ الْأَخِيرَةِ إذْ يُقَالُ تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى نِيَّةٍ فِي الْإِضَافَةِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ (قَوْلُهُ وَلَنَا) تَحْقِيقُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ أَوْ الْقَيْدِ، فَمَحِلُّ الطَّلَاقِ مَحِلُّهُمَا وَهِيَ مَحِلُّهُمَا دُونَهُ فَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُوَ بَيَانُ أَنَّهَا الْمَحِلُّ أَنَّهَا هِيَ الْمُقَيَّدَةُ بِالنِّكَاحِ عَنْ الْخُرُوجِ وَعَنْ الرِّجَالِ دُونَهُ، وَمِلْكُهَا عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَالِ كَالْمَهْرِ وَهُوَ بَدَلُ مِلْكِهِ لِأُمُورٍ تَرْجِعُ إلَى نَفْسِهَا فَهِيَ الْمَمْلُوكَةُ
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ). قَالَ رضي الله عنه: هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِيمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا قَوْلَ الْكُلِّ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ،
دُونَهُ، وَلِهَذَا مَلَكَ هُوَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّةِ وَلَمْ تَمْلِكْهُ هِيَ بِالْكِتَابِيِّ وَالنَّفَقَةُ بَدَلُ احْتِبَاسِهِ إيَّاهَا.
وَالْحِلُّ الَّذِي يَثْبُتُ لَهَا تَبَعٌ لِلْحِلِّ الَّذِي يَثْبُتُ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْوَطْءَ وَجَبَ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ حِلُّ اسْتِمْتَاعِهَا بِهِ، وَلَيْسَ الْحِلُّ هُوَ الْقَيْدُ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ الطَّلَاقِ، بَلْ الْحِلُّ أَثَرُهُ حَسَبَ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ أَنَّهُ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ إلَخْ، وَالثَّابِتُ أَثَرُ النِّكَاحِ وَيَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الثَّابِتَ تَبَعًا هَلْ يَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّهَا أَيْ لَفْظَهَا مَوْضُوعٌ لِإِزَالَةِ الْوَصْلَةِ وَوَصْلَةُ النِّكَاحِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَصَحَّتْ إضَافَتُهَا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَامِلَةً بِحَقِيقَتِهَا، وَبِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ الْحِلِّ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ فَصَحَّ كَذَلِكَ عَامِلًا بِحَقِيقَتِهِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي الْكِنَايَاتِ.
وَأَمَّا حَجْرُهُ عَنْ أُخْتِهَا وَخَامِسَةٍ فَلَيْسَ مُوجِبَ نِكَاحِهَا بَلْ حَجْرٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ ابْتِدَاءً عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَخَمْسٍ لَا حُكْمًا لِلنِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا مَعَ أُخْتِهَا مَعًا أَوْ ضَمَّ خَمْسًا مَعًا لَا يَجُوزُ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) وَكَذَا طَالِقٌ أَوْ غَيْرُ طَالِقٍ وَطَالِقٌ أَوْ لَا، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، كَذَا ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ الْمَبْسُوطِ فِيمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ لَا شَيْءَ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ لَا شَيْءَ إنَّمَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَهُمَا طَالِقٌ وَوَاحِدَةٌ أَوْ لَا وَاحِدَةَ أَوْ لَا شَيْءَ، وَخَصَّ الْخِلَافَ فِي الْأَصْلِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ لَكِنَّ صَاحِبَ الْأَجْنَاسِ نَقَلَ ذِكْرَهُ مَعَهُ فِي الْجُرْجَانِيَّاتِ، وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ هُنَا قَوْلَ الْكُلِّ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ
لَهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي الْوَاحِدَةِ لِدُخُولِ كَلِمَةِ " أَوْ " بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفْيِ فَيَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْوَاحِدَةِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْوَصْفَ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوعُ بِالْوَصْفِ لَلَغَا ذِكْرُ الثَّلَاثِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَنْعُوتُ الْمَحْذُوفُ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا كَانَ الْوَاقِعُ مَا كَانَ الْعَدَدُ نَعْتًا لَهُ كَانَ الشَّكُّ دَاخِلًا فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ.
خِلَافًا، فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ.
وَالْأَوْجُهُ كَوْنُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِخِلَافِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَةِ أَوْ لَا شَيْءَ فَدَلَّ عَلَى وِفَاقِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَوَّلًا، وَإِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا كَانَ وِفَاقُهُ هُنَا رِوَايَةً فِي وِفَاقِهِ فِي أَوْ لَا شَيْءَ وَخِلَافُهُ هُنَاكَ رِوَايَةً فِي مَسْأَلَةِ أَوَّلًا (قَوْلُهُ لَهُ) أَيْ لِمُحَمَّدٍ فِي إيقَاعِهِ بِهِ وَاحِدَةً عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ (أَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي الْوَاحِدَةِ لِدُخُولِ كَلِمَةِ الشَّكِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفْيِ فَيَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْوَاحِدَةِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ) يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً (بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلًا) أَوْ طَالِقٌ أَوْ غَيْرَ طَالِقٍ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّكَّ فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ الْوَصْفَ مَتَى قُرِنَ بِذِكْرِ الْعَدَدِ كَانَ الْوُقُوعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ) وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِآثَارٍ إجْمَاعِيَّةٍ: مِنْهَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوعُ بِالْوَصْفِ لَلَغَا ذِكْرُ الثَّلَاثِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ بَانَتْ بِطَالِقٍ لَا إلَى عِدَّةٍ فَلَمْ تَبْقَ مَحِلًّا لِوُقُوعِ الزَّائِدِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوعُ بِالْوَصْفِ كَانَ قَوْلُهُ وَاحِدَةً فَاصِلًا بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَمْ يُعْمَلْ. وَمِنْهَا مَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْعَدَدِ وَاحِدَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ (وَقَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَنْعُوتُ بِالْعَدَدِ وَهُوَ الْمَحْذُوفُ) أَيْ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا أَوْ تَطْلِيقًا ثَلَاثًا كَمَا قَرَّرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. أَمَّا عَلَى الْإِنْشَاءِ فَلَا، وَقَدْ رَجَعَ الْمُصَنِّفُ إلَى طَرِيقَةِ الْإِنْشَاءِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَالْوَجْهُ هُنَا يَتِمُّ بِدُونِ ذَلِكَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِك فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ لِأَنَّ مَوْتَهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَمَوْتَهَا يُنَافِي الْمَحَلِّيَّةَ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا.
(وَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهَا أَوْ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ) لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ. أَمَّا مِلْكُهَا إيَّاهُ فَلِلِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ، وَأَمَّا مِلْكُهُ إيَّاهَا فَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ قِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَيَنْتَفِيَ النِّكَاحُ (وَلَوْ اشْتَرَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ النِّكَاحِ، وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الْمُنَافِي لَا مِنْ وَجْهٍ وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَذَا إذَا مَلَكَتْهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُنَافَاةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ. بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ
الْوَاقِعَ الْعَدَدُ عِنْدَ ذِكْرِهِ لَا الْوَصْفُ
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِك فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ) وَهُوَ مَوْتُهُ وَمَوْتُهَا، لِأَنَّ مَوْتَهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَمَوْتَهَا يُنَافِي الْمَحَلِّيَّةَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْمَوْقِعِ وَالْمَحَلِّيَّةِ فِي الْمُوقَعِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ حَالَةُ مَوْتِ أَحَدِهِمَا مُنَافِيَةً لِلنِّكَاحِ لِأَنَّهَا حَالَةُ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ يَسْتَدْعِي حَالَ اسْتِقْرَارِهِ، أَوْ الْمَعْنَى عَلَى تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ مَعَ لِلْقِرَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ دُخُولِك الدَّارَ تَطْلُقُ بِهِ فَاسْتَدْعَى وُقُوعَهُ تَقَدَّمُ الشَّرْطِ وَهُوَ الْمَوْتُ فَيَقَعَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ بَاطِلٌ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهَا) أَيْ سَهْمًا بِأَنْ كَانَ تَزَوَّجَ أَمَةً لِغَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا جَمِيعَهَا مِنْهُ أَوْ سَهْمًا مِنْهَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ وَرِثَهَا أَوْ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهُ بِأَنْ تَزَوَّجَتْ الْحُرَّةُ عَبْدَ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَتْهُ جَمِيعَهُ مِنْهُ أَوْ سَهْمًا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهُ لَهَا أَوْ وَرِثَتْهُ (وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ) بَيْنَهُمَا فَسْخًا لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ، أَمَّا فِي مِلْكِهَا إيَّاهُ فَلِلِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَحْرِيرِهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَأَمَّا فِي مِلْكِهِ إيَّاهَا فَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّ إثْبَاتَهُ عَلَى الْحُرَّةِ لِحَاجَةِ بَقَاءِ النَّسْلِ فَكَانَ مِلْكُ النِّكَاحِ فِي الْأَصْلِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ حُرِّيَّةُ الْمَمْلُوكَةِ لِلضَّرُورَةِ.
وَقَدْ انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِقِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ لِثُبُوتِ الْحِلِّ الْأَقْوَى بِهِ فَيَرْتَفِعُ الْأَضْعَفُ الضَّرُورِيُّ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مِلْكِ الْأَمَةِ كُلِّهَا، وَأَمَّا فِي مِلْكِ بَعْضِهَا فَأُقِيمَ مِلْكُ الْيَمِينِ مَقَامَ الْحِلِّ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ احْتِيَاطًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةُ مِلْكٍ لِقِيَامِ الرِّقِّ بَلْ الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ (قَوْلُهُ وَلَوْ اشْتَرَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ النِّكَاحِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الْمُنَافِي، لَا مِنْ وَجْهٍ) كَمَا فِي مِلْكِ الْبَعْضِ (وَلَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) كَمَا فِي مِلْكِ الْكُلِّ.
(وَكَذَا إذَا مَلَكَتْهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُنَافَاةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَقَعُ) وَإِنَّمَا قُلْنَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ
لَا عِدَّةَ هُنَاكَ حَتَّى حَلَّ وَطْؤُهَا لَهُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ أَمَةٌ لِغَيْرِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكَ فَأَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا مَلَكَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ
الْفَصْلَيْنِ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الْمَنْظُومَةِ مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَتْهُ، أَمَّا إذَا لَمْ تُعْتِقْهُ حَتَّى طَلَّقَهَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَفْصِيلُ مُحَمَّدٍ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا عِدَّةَ هُنَاكَ عَلَيْهَا: يَعْنِي مِنْهُ حَتَّى حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَحِلُّ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا كَمَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا لِعَدَمِ الْعِدَّةِ وَقَدْ قِيلَ بِهِ نَقَلَهُ فِي الْكَافِي.
قَالَ: لَوْ زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا جَازَ ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا مِنْ آخَرَ قَالَ: فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا فِي حَقِّ مَنْ اشْتَرَاهَا وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ رِوَايَتَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا تَجِبُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ عَنْ الْمَاءِ، وَيَسْتَحِيلُ اسْتِبْرَاءُ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ.
وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَعَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ يَنْبَغِي عَدَمُ التَّفْصِيلِ لِمُحَمَّدٍ، إذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْعِدَّةَ هُنَاكَ أَيْضًا قَائِمَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفُرْقَةَ مَتَى وَقَعَتْ بِسَبَبِ التَّنَافِي تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ، وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ الْمَحَلِّيَّةِ فَحَاجَتُنَا إلَى إثْبَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعِتْقِ وَمُجَرَّدُ الْعِدَّةِ لَا يُثْبِتُ الْمَحَلِّيَّةَ ابْتِدَاءً كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ حَكَى فِي الْمَبْسُوطِ الْخِلَافَ عَلَى عَكْسِ هَذَا وَلَمْ يَخُصَّهُ بِمَا إذَا مَلَكَتْهُ بَلْ إجْرَاءً فِي الْفَصْلَيْنِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْمُهَاجَرَةِ وَهِيَ مَا إذَا هَاجَرَتْ فَانْفَسَخَ نِكَاحُهَا فَهَاجَرَ بَعْدَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى قَوْلِهِمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، فَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَقَعُ طَلَاقُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَطَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَقَعُ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ اشْتَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا: يَعْنِي فَأَعْتَقَتْهُ فَحُكِيَ الْخِلَافُ فِي الصُّورَتَيْنِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ) أَيْ الزَّوْجُ لَهَا (وَهِيَ أَمَةٌ لِغَيْرِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكَ فَأَعْتَقَهَا مَلَكَ الرَّجْعَةَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ) إذْ هُوَ السَّبَبُ (حَقِيقَةً بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ لِأَنَّ اللَّفْظَ) أَعْنِي الْعِتْقَ (يَنْتَظِمُهُمَا) أَيْ يَنْتَظِمُ الْإِعْتَاقَ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ وَالْعِتْقَ الَّذِي هُوَ وَصْفُهَا أَثَرٌ لَهُ، وَمَعْنَى الِانْتِظَامِ هَاهُنَا صِحَّةُ إرَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِهِ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الشُّمُولِ لِمَنْعِ انْتِظَامِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فِي إطْلَاقِ
وَلِلْحُكْمِ تَعَلُّقٌ بِهِ وَالْمَذْكُورُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِهِ التَّطْلِيقُ لِأَنَّ فِي التَّعْلِيقَاتِ يَصِيرُ التَّصَرُّفُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ عِنْدَنَا، وَإِذَا كَانَ التَّطْلِيقُ مُعَلَّقًا بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ يُوجَدُ بَعْدَهُ ثُمَّ الطَّلَاقُ يُوجَدُ بَعْدَ التَّطْلِيقِ فَيَكُونَ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعِتْقِ فَيُصَادِفَهَا وَهِيَ حُرَّةً فَلَا تَحْرُمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً بِالثِّنْتَيْنِ. بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ. قُلْنَا: قَدْ تُذْكَرُ لِلتَّأَخُّرِ كَمَا
وَاحِدٍ، وَالْإِعْتَاقُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ لِلْعِتْقِ مِنْ اسْتِعَارَةِ اسْمِ الْحُكْمِ لِلْعِلَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِعْمَالُهُ فِي لَفْظِ إيَّاكَ عَلَى اعْتِبَارِ إرَادَةِ الْفِعْلِ بِهِ إعْمَالُ الْمُسْتَعَارِ لِلْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ إعْمَالِ اسْمِ الْمَصْدَرِ كَأَعْجَبَنِي كَلَامُك زَيْدًا، وَأَمَّا عَلَى التَّجْوِيزِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ فَمُشْكِلٌ لِأَنَّهُ قَاصِرٌ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ فِي الْمَفْعُولِ الْمُتَعَدِّي وَجُعِلَ الْعَامِلُ الْعِتْقَ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ يَرُدُّهُ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ الْإِعْتَاقِ فَلَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ إلَّا بِالْإِعْتَاقِ فَقَطْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، بَلْ عَنْ الْعِتْقِ، هَذَا مَعْنَى الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ فِي الْكَافِي لِحَافِظِ الدِّينِ، وَالْعَجَبُ مِمَّا نَقَلَ فِي جَوَابِهِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَيْسَ بِمُشْكِلٍ لِأَنَّهُ لَمَّا عُلِّقَ التَّطْلِيقُ بِالْإِعْتَاقِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْلِيقُهُ بِالْعِتْقِ الْحَاصِلِ مِنْهُ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ صِحَّةِ الْإِعْمَالِ. وَأَيْضًا كَانَ الْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ بِالْإِعْتَاقِ، وَالْعِتْقُ بِالْوَاوِ لَا بِأَوْ.
وَحَاصِلُ تَقْرِيرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَعَ قَدْ تُذْكَرُ لِلْمُتَأَخِّرِ تَنْزِيلًا لَا مَنْزِلَةَ الْمُقَارِنِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ بَعْدَهُ وَنَفْيِ الرَّيْبِ عَنْهُ كَمَا فِي الْآيَةِ {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} فَصَارَتْ إنَّ مُحْتَمِلَةً لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَتُهَا خِلَافَهُ فَيُصَارَ إلَيْهِ بِمُوجِبٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ، وَهُوَ إنَاطَةُ ثُبُوتِ حُكْمٍ عَلَى ثُبُوتِ مَعْنَى مَدْخُولِهَا الْمَعْدُومِ حَالَ التَّكَلُّمِ وَهُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فَإِنَّ الْإِنَاطَةَ كَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَمَعْنَى مَدْخُولِهَا الْمَعْدُومِ كَائِنًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنَاطٌ بِوُجُودِ حُكْمٍ هُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلَزِمَ كَوْنُ الْإِعْتَاقِ أَوْ الْعِتْقِ شَرْطًا لِلتَّطْلِيقِ، فَإِنْ كَانَ الْإِعْتَاقُ فَيُوجَدَ تَطْلِيقُ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَهُ مُقَارِنًا لِلْمُتَأَخِّرِ عَنْ الْإِعْتَاقِ وَيَقَعَ الطَّلَاقُ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ التَّطْلِيقِ بَعْدَهُ فَيُصَادِفَهَا حُرَّةً فَيَمْلِكَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ وَإِنْ كَانَ الْعِتْقُ فَأَظْهَرُ، هَذَا تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ.
وَقِيلَ عَلَيْهِ الْمَعْلُولُ مَعَ الْعِلَّةِ يَقْتَرِنَانِ كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ فِي الْخَارِجِ، فَالْعِتْقُ مَعَ الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقُ مَعَ التَّطْلِيقِ يَقْتَرِنَانِ، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّهُ قَرَنَ الطَّلَاقَ بِالْإِعْتَاقِ فَيَكُونُ مَقْرُونًا بِالْعِتْقِ وَهُوَ ضِدُّ الرِّقِّ، وَوُجُودُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ مُسْتَلْزِمٌ زَوَالَ الضِّدِّ الْآخَرِ، وَلَا يَنْبَنِي زَوَالُهُ عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ، إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وُجِدَ السُّكُونُ فَزَالَتْ الْحَرَكَةُ أَوْ وُجِدَ الْحَرَكَةُ فَزَالَ السُّكُونُ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ، بَلْ وُجُودُ أَحَدِهِمَا يَقْتَرِنُ بِزَوَالِ الْآخَرِ فَيَثْبُتُ زَوَالُ الرِّقِّ مَعَ الْعِتْقِ فَيَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا حَالَ وُجُودِ الْعِتْقِ وَهِيَ حَالَةُ زَوَالِ الرِّقِّ، فَلَا تُوجِبُ التَّطْلِيقَتَانِ حُرْمَةً غَلِيظَةً فِي الْحُرَّةِ فَيَمْلِكَ الرَّجْعَةَ، وَهَذَا
فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} فَتُحْمَلَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
(وَلَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَقَالَ الْمَوْلَى: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ الْغَدُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: زَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) عَلَيْهَا، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَرَنَ الْإِيقَاعَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْمُعَلَّقُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ وَالْعِتْقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ
يَنْبَنِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْمَعْلُولَ مَعَ الْعِلَّةِ يَقْتَرِنَانِ فِي الْخَارِجِ أَوْ يَتَعَقَّبُهُمَا بِلَا فَصْلٍ وَعَلَى أَنَّ حَالَةَ الدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ كَحَالَةِ الْوُجُودِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ وَعَدَمِ خُرُوجِ مَعَ عَنْ الْمُقَارَنَةِ، وَأَطْبَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ زَمَنَ ثُبُوتِهِ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى خُرُوجِهَا وَتَقَرُّرَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ يَعْقُبُهُ إذَا لَيْسَ هُوَ عِلَّةً، فَلَيْسَ الْعِتْقُ عِلَّةً لِلطَّلَاقِ بَلْ عِلَّةُ الطَّلَاقِ تَعْمَلُ عِنْدَهُ، وَسَنَذْكُرُ مَا عِنْدَنَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ. وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ نِكَاحِك حَيْثُ يَأْتِي فِيهِ التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إذَا تَزَوَّجَهَا. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لِلْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ مِلْكِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْيَمِينَ، فَإِذَا لَزِمَ بِذِكْرِ حُرُوفِهِ: أَعْنِي إنْ وَنَحْوَهُ بِأَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ صَحَّ ضَرُورَةً صِحَّةُ الْيَمِينِ، وَمَرْجِعُ هَذَا إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ الصَّرِيحَ قَبْلَ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ إنَّمَا قَامَ عَلَى مِلْكِهِ الْيَمِينَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمِلْكِ فَتَعَلَّقَ بِمَا يُوجِبُ مَعْنَاهَا كَيْفَمَا كَانَ اللَّفْظُ، وَالتَّقْيِيدُ بِلَفْظٍ خَاصٍّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمَعْنَى تَحَكَّمَ وَلِذَا قَالَ فِي الدِّرَايَةِ: هَذَا الْجَوَابُ لَمْ يَتَّضِحْ لِي فَإِنَّهُ يَمْلِكُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الشَّرْطِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ أَيْ لِامْرَأَتِهِ الْأَمَةِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ، وَقَالَ لَهَا الْمَوْلَى: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ الْغَدُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: زَوْجُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ بَلْ عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ قَرَنَ الْإِيقَاعَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى عِتْقَهَا، وَالْمُعَلَّقُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ (وَالْعِتْقُ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ
أَصْلُهُ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ فَيَكُونَ التَّطْلِيقُ مُقَارِنًا لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَصَارَ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا تُقَدَّرُ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ. وَلَهُمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ ثُمَّ الْعِتْقُ يُصَادِفُهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَكَذَا الطَّلَاقُ وَالطَّلْقَتَانِ تُحَرِّمَانِ الْأَمَةَ حُرْمَةً غَلِيظَةً، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى فَيَقَعَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَبِخِلَافِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ، وَكَذَا الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ، وَلَا وَجْهَ إلَى مَا قَالَ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَالطَّلَاقُ يُقَارِنُ التَّطْلِيقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَيَقْتَرِنَانِ.
أَصْلُهُ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ) الَّذِي يُقَامُ بِهَا فَيَقْتَرِنَانِ فِي الْخَارِجِ (فَيَكُونَ التَّطْلِيقُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ مُقَارِنًا لِلْعِتْقِ الْمُقَارِنِ لِلْإِعْتَاقِ فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَصَارَ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا تُقَدَّرُ عِدَّتُهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ. وَلَهُمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا عَلَّقَ بِهِ الْمَوْلَى الْعِتْقَ ثُمَّ الْعِتْقُ يُصَادِفُهَا أَمَةً، فَكَذَا الطَّلَاقُ وَالطَّلْقَتَانِ تُحَرِّمَانِ الْأَمَةَ حُرْمَةً غَلِيظَةً بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ عَلَّقَ التَّطْلِيقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَبِخِلَافِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ وَكَذَا الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ) ثُمَّ رَدَّ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ (وَلَا وَجْهَ إلَى مَا قَالَ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ يُقَارِنُ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَالطَّلَاقُ يُقَارِنُ التَّطْلِيقَ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ فَيَقْتَرِنَانِ) أَيْ فَيَقْتَرِنُ الطَّلَاقُ بِالْعِتْقِ فَيُصَادِفُهَا عَلَى مَا صَادَفَهَا عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَهِيَ أَمَةٌ فَتَحْرُمَ، وَحَقِيقَةُ مَحِلِّ الْغَلَطِ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ مِنْ جَعْلِ الْعِتْقِ شَرْطًا عَلَى مَا يُعْطِيهِ قَوْلُهُ وَالْمُعَلَّقُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ: يَعْنِي فَلَا يَنْعَقِدُ التَّطْلِيقُ سَبَبًا إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْعِتْقِ الْمُقَارِنِ لِلْإِعْتَاقِ.
لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الشَّرْطُ مَجِيءُ الْيَوْمِ كَمَا هُوَ الشَّرْطُ فِي الْإِعْتَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَعَ الْمَعْلُولِ يَلْزَمُ أَنَّ عِنْدَ مَجِيءِ الْغَدِ يَقْتَرِنُ كُلٌّ مِنْ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فَيَنْزِلُ الطَّلَاقُ حَسْبَمَا يَنْزِلُ الْعِتْقُ وَهِيَ أَمَةٌ فَتَحْرُمَ حُرْمَةً غَلِيظَةً.
وَإِذْ قَدْ بَعُدَ هَذَا التَّوْجِيهُ لِمُحَمَّدِ وَجْهٌ بِتَوْجِيهَاتٍ أُخُرَ: أَحَدُهَا أَنَّهُ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْقِرَانِ فِي الْعِتْقِ وَالتَّعَاقُبِ فِي الطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِكَوْنِ الْإِعْتَاقِ مَنْدُوبًا فَلْتُعْتَبَرُ سُرْعَةُ نُزُولِهِ وَالتَّطْلِيقُ مَحْظُورٌ فَيُعْتَبَرُ مُتَأَخِّرًا نَظِيرُهُ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ يَنْزِلُ الْمِلْكُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَالْفَاسِدُ يَتَأَخَّرُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ لِلْحَظْرِ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الْغَدِ التَّطْلِيقُ وَالْإِعْتَاقُ وَالْعِتْقُ مُقْتَرِنَةً، وَيَنْزِلُ الطَّلَاقُ بَعْدَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ وَهَذِهِ فِي الْبَيِّنِ. اعْلَمْ أَنَّ الْعُقَلَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ يَعْقُبُهَا بِلَا فَصْلٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا مَعًا فِي الْخَارِجِ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ خَصُّوا الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ فَجَعَلُوهَا تَسْتَعْقِبُ الْمَعْلُولَ لِأَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ كَالْأَعْيَانِ بَاقِيَةً فَأَمْكَنَ فِيهَا اعْتِبَارُ الْأَصْلِ وَهُوَ تَقَدُّمُ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ، بِخِلَافِ نَحْوِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَلَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ تَقْدِيمِهَا وَإِلَّا بَقِيَ الْفِعْلُ بِلَا قُدْرَةٍ، وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ التَّعْقِيبُ
فَصْلٌ فِي تَشْبِيهِ الطَّلَاقِ وَوَصْفِهِ
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَهِيَ ثَلَاثٌ)
فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ حَتَّى إنَّ الِانْكِسَارَ يَعْقُبُ الْكَسْرَ فِي الْخَارِجِ.
غَيْرَ أَنَّهُ لِسُرْعَةِ إعْقَابِهِ مَعَ قِلَّةِ الزَّمَنِ إلَى الْغَايَةِ إذَا كَانَ آنِيًّا لَمْ يَقَعْ تَمْيِيزُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فِيهِمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَا يَقُومُ بِهِ التَّأْثِيرُ وَحَالَةَ خُرُوجِهِ مِنْ الْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكْمُلَ هُوِيَّتُهُ لِيَقُومَ بِهِ عَارِضُهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَثَانِيهَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ كَالْمُرْسَلِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَكَأَنَّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجَ أَرْسَلَا عِنْدَهُ فَيَسْبِقَ وُقُوعُ الْأَوْجَزِ وَأَنْتِ حُرَّةٌ أَوْجَزُ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَتَطْلُقُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ ثِنْتَيْنِ فَلَا تَحْرُمُ بِهِمَا. وَثَالِثُهَا لَمَّا تَعَلَّقَا بِشَرْطٍ وَاحِدٍ طَلُقَتْ زَمَنَ نُزُولِ الْحُرِّيَّةِ فَيُصَادِفُهَا حُرَّةً لِاقْتِرَانِهِمَا وُجُودًا، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
قُلْنَا: التَّعَلُّقُ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ يَقْتَضِي أَنْ يُصَادِفَهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي صَادَفَهَا عَلَيْهَا الْعِتْقُ وَهِيَ الرِّقُّ فَتَغْلُظَ الْحُرْمَةُ بِلَا شَكٍّ فَبَطَلَ الْأَخِيرُ، وَإِطْبَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ زَمَنَ خُرُوجِهِ مِنْ الْعَدَمِ لَيْسَ بِثَابِتٍ فَانْتَفَى مَا قَبْلَهُ، وَالْوُقُوعُ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُضِيِّ قَدْرِ التَّكَلُّمِ مِنْ الزَّمَانِ بَلْ بِمُجَرَّدِ نُزُولِهِ يَنْزِلُ فِي أَوَّلِ آنٍ يَعْقُبُهُ لِأَنَّهُ نُزُولُ حُكْمٍ فَبَطَلَ مَا قَبْلَهُمَا وَرُفِعَ الْأَثَرُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَمَّا أَمْكَنَ وَهُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا أُخِّرَ إلَى غَايَةٍ يُنَاسِبُ التَّأْخِيرَ إلَيْهَا أَعْنِي الْقَبْضَ الَّذِي لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِي بَابَ الْمَهْرِ.
أَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَوْ أَمْكَنَ رَفْعُهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ غَايَةٌ يُنَاسِبُ اعْتِبَارُ تَأْخِيرِ ثُبُوتِهِ إلَيْهَا كَمَا هُوَ فِي الْبَيْعِ فَكَيْفَ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنِ الرَّفْعِ وَلَا الدَّفْعِ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِهِ بَلْ هُوَ مَحِلٌّ بِالِاحْتِيَاطِ فَبَطَلَ الْأَوَّلُ.
(فَصْلٌ فِي تَشْبِيهِ الطَّلَاقِ وَوَصْفِهِ)
(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَهِيَ ثَلَاثٌ) طُعِنَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي لَفْظِ السَّبَّابَةِ إذْ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُسَبِّحَةُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ السَّبَّاحَةُ، وَبِأَنَّهُ وَرَدَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي صِفَةِ طُهُورِهِ صلى الله عليه وسلم «أَدْخَلَ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ» كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَبِأَنَّ الْأَعْلَامَ لَا تُوجِبُ تَحَقُّقَ مَعَانِيهَا فِي مُسَمَّيَاتِهَا وَهَذَا مُنْتَفٍ، فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ تَحَقُّقِ الْمَعْنَى بَلْ بِالْعُدُولِ عَنْ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ إلَى الشَّنِيعِ وَالدَّفْعِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِاللَّفْظِ، وَإِلَّا لَوْ قِيلَ: كَوْنُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْمُسَبِّحَةِ يُوجِبُ كَوْنَ الْحَدِيثِ نَقْلًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِالْمَعْنَى حَمْلًا عَلَى تَحَامِي ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ، فَالْأَوْلَى اعْتِبَارُ تِلْكَ النُّسْخَةِ وَنِسْبَةُ غَيْرِهَا إلَى التَّصْحِيفِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا غَلَطًا لُغَةً مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ لِأَنَّ الْفِعْلَ سَبَّحَ وَفَعَّالٌ مُبَالَغَةٌ فِي فَاعِلٍ وَلَيْسَ مِنْهُ فَاعِلٌ بَلْ الْوَصْفُ مِنْهُ مُسَبِّحٌ، وَأَمَّا سَبَّاحٌ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ سَبَحَ فِي الْمَاءِ سِبَاحَةً،
لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» الْحَدِيثَ، وَإِنْ أَشَارَ بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ أَشَارَ بِثِنْتَيْنِ فَهِيَ ثِنْتَانِ لِمَا قُلْنَا، وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا، وَقِيلَ: إذَا أَشَارَ بِظُهُورِهَا فَبِالْمَضْمُومَةِ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ تَقَعُ الْإِشَارَةُ بِالْمَنْشُورَةِ مِنْهَا فَلَوْ نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْمَضْمُومَتَيْنِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْكَفِّ حَتَّى يَقَعَ فِي الْأُولَى ثِنْتَانِ دِيَانَةً،
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْوَجْهِ فَقَالَ (لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْأَصَابِعِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْعَدَدِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ) يَعْنِي لَفْظَ هَكَذَا، وَهَذَا غَلَطٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ الَّتِي يُكَنَّى بِهَا عَنْ الْعَدَدِ كَذَا وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ قَطُّ بِهَا التَّنْبِيهِ، وَالْمُسْتَعْمَلُ بِهَا مَا يُقْصَدُ فِيهِ مَعَانِي الْأَجْزَاءِ نَحْوُ {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} يَقْصِدُ بِالْهَاءِ التَّنْبِيهَ وَبِالْكَافِ التَّشْبِيهَ وَبِذَا الْإِشَارَةَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ
فَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا تَشْبِيهٌ بِالْعَدَدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَهُوَ الْعَدَدُ الْمُفَادُ كَمِّيَّتُهُ بِالْأَصَابِعِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِذَا، بِخِلَافِ كَذَا الْكِنَايَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُقْصَدْ فِيهَا مَعَانِيَ الْإِجْزَاءِ بَلْ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَدٍ مُبْهَمِ الْجِنْسِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الْخَبَرِ، يُقَالُ لِلْعَبْدِ: أَتَذْكُرُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ مُمَيِّزُ هَذِهِ لَيْسَ إلَّا مَا يُبَيِّنُ الْجِنْسَ لَا الْكَمِّيَّةَ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِقَصْدِ إبْهَامِ الْكَمِّيَّةِ نَحْوُ مَلَكْت كَذَا عَبْدًا وَلَا يُقَالُ كَذَا دِرْهَمًا عِشْرِينَ وَلَا كَذَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ هَذَا اسْتِعْمَالًا عَرَبِيًّا، وَهَذَا هُوَ غَلَطُ الْمَعْنَى
(قَوْلُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الشَّهْرُ هَكَذَا» إلَخْ) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» : يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَإِنْ أَشَارَ بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ أَشَارَ بِالثِّنْتَيْنِ فَهُمَا ثِنْتَانِ لِمَا قُلْنَا، وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ بِالْمَنْشُورَةِ، وَلَوْ نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْمَضْمُومَتَيْنِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِشَارَةَ بِالْكَفِّ) فِي الدِّرَايَةِ الْإِشَارَةُ بِالْكَفِّ أَنْ تَقَعَ الْأَصَابِعُ كُلُّهَا مَنْشُورَةً، فَاَلَّذِي يَثْبُتُ بِالنِّيَّةِ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْأَصَابِعُ الثَّلَاثُ مَنْشُورَةً فَقَطْ حَتَّى تَقَعَ فِي الْأُولَى ثِنْتَانِ دِيَانَةً وَفِي الثَّانِيَةِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَقِيلَ إنْ أَشَارَ بِظُهُورِهَا بِأَنْ جَعَلَ بَاطِنَهَا إلَيْهِ وَظَاهِرَهَا إلَى الْمَرْأَةِ فَبِالْمَضْمُومَةِ. وَقِيلَ إنْ كَانَ بَطْنُ كَفِّهِ إلَى السَّمَاءِ فَبِالْمَنْشُورَةِ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْأَرْضِ فَبِالْمَضْمُومَةِ. وَقِيلَ إنْ كَانَ نَشْرًا عَنْ ضَمٍّ فَبِالْمَنْشُورَةِ لِلْعَادَةِ وَهَذَا قَرِيبٌ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ
وَفِي الثَّانِيَةِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ
(وَإِذَا وَصَفَ الطَّلَاقَ بِضَرْبٍ مِنْ الشِّدَّةِ أَوْ الزِّيَادَةِ كَانَ بَائِنًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ رَجْعِيًّا إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ مُعْقِبًا لِلرَّجْعَةِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْبَيْنُونَةِ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ فَيَلْغُو كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك. وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَبَعْدَ الْعِدَّةِ تَحْصُلُ بِهِ فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ لِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ،
وَالْوُسْطَى لَيْسَ بِقَيْدٍ (قَوْلُهُ: وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا) يَعْنِي قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَلَمْ يَقُلْ هَكَذَا يَقَعُ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْعَدَدِ الْمُبْهَمِ، وَعَرَفْت أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالتَّشْبِيهِ الْمُتَقَدِّمِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا وَصَفَ الطَّلَاقَ بِضَرْبٍ مِنْ الشِّدَّةِ أَوْ الزِّيَادَةِ كَانَ بَائِنًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ رَجْعِيًّا إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ) وَبِقَوْلِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ مُعْقِبًا لِلرَّجْعَةِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْبَيْنُونَةِ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ فَيَلْغُو لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ فَصَارَ كَسَلَامِ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ بِقَصْدِ الْقَطْعِ لَا يُعْمَلُ قَصْدُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَكَقَوْلِهِ: وَهَبْتُك عَلَى أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُكِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ طَالِقٌ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك.
وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِمَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْحَالِ، وَكَذَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَآلِ وَبَعْدَهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَيَقَعُ وَاحِدَةً بَائِنَةً إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ، أَمَّا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ اسْمَ الْوَاحِدَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ الْمَحْضَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْفَرْقُ أَنْ لَا رَجْعَةَ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْمَشْرُوعِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا وَصَفَهُ بِالْبَيْنُونَةِ وَلَمْ يَنْفِ الرَّجْعَةَ صَرِيحًا بَلْ يَلْزَمُ ضِمْنًا.
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ احْتَمَلَ الْبَيْنُونَةَ لَصَحَّتْ إرَادَتُهَا بِطَالِقٍ وَتَقَدَّمَ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَدَمُ صِحَّتِهَا. وَأُجِيبُ بِأَنَّ عَمَلَ النِّيَّةِ فِي الْمَلْفُوظِ لَا فِي غَيْرِهِ، وَلَفْظُ " بَائِنٌ " مَا صَارَ مَلْفُوظًا بِالنِّيَّةِ، بِخِلَافِ طَالِقٌ بَائِنٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَيْسَ مَعْنَى عَمَلِ النِّيَّةِ فِي الْمَلْفُوظِ إلَّا تَوْجِيهَهُ إلَى بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ، فَإِذَا فَرَضَ لِلَّفْظِ ذَلِكَ صَحَّ عَمَلُ النِّيَّةِ فِيهِ، وَقَدْ فَرَضَ بِطَالِقٍ ذَلِكَ فَتَعْمَلُ فِيهِ النِّيَّةُ، وَلَا تَكُونُ عَامِلَةً بِلَا لَفْظٍ بَلْ رُبَّمَا يُعْطِي هَذَا الْجَوَابُ افْتِقَارَ " طَالِقٌ بَائِنٌ " فِي وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ إلَى النِّيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ قُلْنَا فِي الْجَوَابِ عَدَمُ صِحَّةِ النِّيَّةِ لَيْسَ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ بَلْ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَنْجِيزَ مَا عَلَّقَهُ الشَّرْعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَبِهِ عَلَّلَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ. وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ كَمَا مَنَعَ مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ صِحَّةِ اللَّفْظِ إذَا كَانَ مُغَيَّرًا. نَعَمْ لَوْ كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ بِلَفْظِ " بَائِنٌ " عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمَرْأَةِ " كَطَالِقٍ " لَا وَصْفَ لِطَالِقٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ إذَا عَنَاهَا وَصْفًا لِلْمَرْأَةِ تَقَعُ ثِنْتَانِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ عَنَى بِأَنْتِ
وَمَسْأَلَةُ الرَّجْعَةِ مَمْنُوعَةٌ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ. أَمَّا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ عَنَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أُخْرَى تَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ (وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ فِي الْحَالِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ بَائِنٌ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ (أَوْ أَسْوَأَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا إذَا قَالَ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ
طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ بَائِنٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أُخْرَى تَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ، عَلَى أَنَّ التَّرْكِيبَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ، وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: الْإِيقَاعُ بِبَائِنٍ وَصْفًا لَهَا وَطَالِقٌ قَرِينَتُهُ فَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ النِّيَّةِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَيْهَا كَمَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لَوْ أَفْرَدَ لَمْ يَبْعُدْ لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ، ثُمَّ بَيْنُونَةُ الْأُولَى ضَرُورَةُ بَيْنُونَةِ الثَّانِيَةِ، إذْ مَعْنَى الرَّجْعِيِّ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِاتِّصَالِ الْبَائِنَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي وَصْفِهَا بِالرَّجْعِيَّةِ. وَكُلُّ كِنَايَةٍ قُرِنَتْ بِطَالِقٍ يَجْرِي فِيهَا ذَلِكَ فَيَقَعُ ثِنْتَانِ بَائِنَتَانِ (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ) مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ فِي الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ، وُقُوعُ الْوَاحِدَةِ بَائِنَةً إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ وَالثَّلَاثُ بِالنِّيَّةِ. وَلَوْ عَنَى بِطَالِقٍ وَاحِدَةٌ وَبِأَفْحَشَ الطَّلَاقِ أُخْرَى يَقَعُ ثِنْتَانِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ الْبَائِنُ لِأَنَّهُ أَيْ الطَّلَاقَ إنَّمَا يُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ وَهُوَ قَطْعُ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ فِي الْبَائِنِ وَمُؤَجَّلًا بِالِانْقِضَاءِ فِي الرَّجْعِيِّ.
وَأَفْعَلُ لِلتَّفَاوُتِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْبَيْنُونَةِ فَإِنَّهُ أَفْحَشُ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ مُؤَجَّلًا: أَعْنِي الرَّجْعِيَّ فَصَارَ كَقَوْلِهِ بَائِنٌ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَخْبَثَ الطَّلَاقِ أَوْ أَسْوَأَهُ. أَوْ أَشَرَّهُ أَوْ أَخْشَنَهُ أَوْ أَكْبَرَهُ أَوْ أَغْلَظَهُ وَأَطْوَلَهُ وَأَعْرَضَهُ وَأَعْظَمَهُ كُلُّهَا مِثْلُ أَفْحَشَهُ، وَسَنَذْكُرُ جَوَابَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَقَعْ ثَلَاثٌ، وَكَذَا طَلَاقُ الشَّيْطَانِ أَوْ طَلَاقُ الْبِدْعَةِ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً بَائِنَةً بِلَا نِيَّةٍ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ هُوَ السُّنِّيُّ فَيَكُونُ الْبِدْعِيُّ وَطَلَاقُ الشَّيْطَانِ هُوَ الْبَائِنَ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَاهُلٌ إذْ لَيْسَ الرَّجْعِيُّ هُوَ السُّنِّيَّ بَلْ أَعَمُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ كَانَ رَجْعِيًّا وَلَيْسَ سُنِّيًّا.
أَوْ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ) لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ هُوَ السُّنِّيُّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: الْبِدْعَةَ وَطَلَاقَ الشَّيْطَانِ بَائِنًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَائِنًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْإِيقَاعُ فِي حَالَةِ حَيْضٍ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِالطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ (وَكَذَا إذَا قَالَ: كَالْجَبَلِ) لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِهِ يُوجِبُ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وَذَلِكَ بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْوَصْفِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: مِثْلَ الْجَبَلِ لِمَا قُلْنَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ الْجَبَلَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ تَشْبِيهًا بِهِ فِي تَوَحُّدِهِ
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ أَوْ كَأَلْفٍ أَوْ مِلْءَ الْبَيْتِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالشِّدَّةِ وَهُوَ الْبَائِنُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ وَالِارْتِفَاضَ، أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَيَحْتَمِلُهُ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِذِكْرِهِ الْمَصْدَرَ،
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ لَا يَكُونُ بَائِنًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْإِيقَاعُ فِي الْحَيْضِ كَمَا تَكُونُ بِالْبَيْنُونَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَلَوْ قَالَ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَجْعِيٌّ لِاحْتِمَالِهِ الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ وَالطَّبِيعِيَّ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ فِيهِ الطَّلَاقُ طَبْعًا، كَذَا ذُكِرَ، وَكَأَنَّهُ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ فَتَجْتَمِعُ الْكَرَاهَةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ، أَوْ يُرَادُ وَقْتٌ تَتَفَتَّى نَفْرَةُ الطِّبَاعِ فِيهِ عَنْ الطَّلَاقِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَائِنٌ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
(قَوْلُهُ: وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ يَكُونُ رَجْعِيًّا) لِمَا ذَكَرْنَا فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا قَالَ كَالْجَبَلِ) لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْجَبَلِ يُوجِبُ زِيَادَةَ الْعِظَمِ فَتَحْصُلُ بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْوَصْفِ الْبَيْنُونَةُ (وَكَذَا إذَا قَالَ: مِثْلَ الْجَبَلِ لِمَا قُلْنَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ الْجَبَلَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ التَّشْبِيهُ فِي تَوَحُّدِهِ) يَعْنِي يُمْكِنُ ذَلِكَ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ. قُلْنَا الْمَعْرُوفُ الَّذِي هُوَ كَالصَّرِيحِ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْجَبَلِ إنَّمَا يُرَادُ فِي الثِّقَلِ أَوْ الْعِظَمِ فَيُثْبِتْ الْمُشْتَهِرُ قَضِيَّةً لِلَّفْظِ وَتَتَوَقَّفُ الْوَحْدَةُ عَلَى النِّيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الْقَاضِي فَلَا يُصَدِّقُهُ فِيهَا.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ أَوْ كَأَلْفٍ أَوْ مِلْءَ الْبَيْتِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ قَوْلُهُ: أَشَدُّ الطَّلَاقِ (فَلِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالشِّدَّةِ) فَإِنْ قِيلَ: بَلْ بِالْأَشَدِّيَّةِ فَيَجِبُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ، وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مِثْلَهُ مَثَلُ: أَقْبَحَ الطَّلَاقِ. أُجِيبُ بِأَنَّ أَفْعَلَ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْوَصْفُ كَقَوْلِهِمْ: الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ: أَيْ عَادِلَاهُمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الثَّلَاثِ بِالِاحْتِمَالِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلظَّاهِرِ وَلِذَا ثَبَتَ الْبَائِنُ كَالْجَبَلِ مَعَ احْتِمَالِ إرَادَةِ كَوْنِ وَجْهِ التَّشْبِيهِ الْوَاحِدَةَ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ يُجْعَلُ ظَاهِرًا لِحُرْمَةِ الثَّلَاثِ فَيُصَارُ إلَى الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَتَتَوَقَّفُ الثَّلَاثُ عَلَى النِّيَّةِ. ثُمَّ قَوْلُهُ:(وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِذِكْرِهِ الْمَصْدَرَ) فَإِنَّ الْمَعْنَى طَالِقٌ طَلَاقًا هُوَ أَشَدُّ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ فِي الْقُوَّةِ تَارَةً وَفِي الْعَدَدِ أُخْرَى، يُقَالُ هُوَ كَأَلْفِ رَجُلٍ وَيُرَادُ بِهِ الْقُوَّةُ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْأَمْرَيْنِ، وَعِنْدَ فِقْدَانِهَا يَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ فَيُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ ظَاهِرًا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَمْلَأُ الْبَيْتَ لِعِظَمِهِ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ يَمْلَؤُهُ لِكَثْرَتِهِ، فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَقَلُّ. ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِشَيْءٍ يَقَعُ بَائِنًا: أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ ذَكَرَ الْعِظَمَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ
الطَّلَاقِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَعْضُ مَا أُضَيِّف إلَيْهِ فَكَانَ أَشَدَّ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: كَأَلْفٍ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْقُوَّةِ) كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ كَأَلْفِ رَجُلٍ: أَيْ بَأْسُهُ وَقُوَّتُهُ كَبَأْسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْعَدَدِ فَقَالَ كَعَدَدِ أَلْفٍ أَوْ قَدْرَ عَدَدِ أَلْفٍ وَفِيهِ يَقَعُ ثَلَاثٌ اتِّفَاقًا فَتَصِحُّ نِيَّةُ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَعِنْدَ فِقْدَانِهَا يَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ فَيُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ ظَاهِرًا فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ: طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْعَدَدِ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى فِي خُصُوصِ الْكَمْيَّةِ، وَإِلَّا لَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا إذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ أَلْفٌ تُشْبِهُ هَذِهِ الْأَلْفَ فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ فِي الْكَثْرَةِ: أَيْ طَالِقٌ عَدَدًا كَثِيرًا كَكَثْرَةِ الْأَلْفِ، وَالْكَثْرَةُ الَّتِي تُشْبِهُ كَثْرَةَ الْأَلْفِ مَا يُقَارِبُهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى اثْنَيْنِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ. قُلْنَا: كَوْنُ التَّشْبِيهِ بِهِ فِي الْقُوَّةِ أَشْهَرَ فَلَا يَقَعُ الْآخَرُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، بِخِلَافِ عَدَدِ الْأَلْفِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مِثْلُ أَلْفٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ: وَاحِدَةٌ كَأَلْفٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَوْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ بِهِ فَقَالَ طَالِقٌ كَعَدَدِ الشَّمْسِ أَوْ التُّرَابِ أَوْ مِثْلَهُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَجْعِيَّةٌ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ لَغْوٌ وَلَا عَدَدَ لِلتُّرَابِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقَعُ الثَّلَاثُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِالْعَدَدِ إذَا ذُكِرَ الْكَثْرَةُ.
وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي ضَرْبًا مِنْ الزِّيَادَةِ كَمَا مَرَّ. أَمَّا لَوْ قَالَ مِثْلَ التُّرَابِ يَقَعُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَنْهُ فِي كَالنُّجُومِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ وَكَعَدَدِ النُّجُومِ ثَلَاثٌ. وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ كَأَلْفٍ أَنَّ الْأَلْفَ مَوْضُوعٌ لِلْعَدَدِ فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهِ لِلْكَثْرَةِ، بِخِلَافِ النُّجُومِ فَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي النُّورِ. وَلَوْ قَالَ كَثَلَاثٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَثَلَاثٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا لَوْ قَالَ كَعَدَدِ ثَلَاثٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهُ الْعَدَدِ بِالْعَدَدِ فِي خُصُوصِ الْكَمْيَّةِ وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ الطَّلَاقِ فَهِيَ ثَلَاثٌ لَا يَدِينُ فِيهَا إذَا قَالَ: نَوَيْت وَاحِدَةً اهـ. وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى عَدَدٍ مَعْلُومِ النَّفْيِ كَعَدَدِ شَعْرِ بَطْنِ كَفِّي أَوْ مَجْهُولِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَعَدَدِ شَعْرِ إبْلِيسَ أَوْ نَحْوِهِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ الثُّبُوتُ لَكِنَّهُ كَانَ زَائِلًا وَقْتَ الْحَلِفِ بِعَارِضٍ كَعَدَدِ شَعْرِ سَاقِي أَوْ سَاقِك وَقَدْ تَنَوَّرَا لَا يَقَعُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الثَّالِثُ) هُوَ قَوْلُهُ: مِلْءَ الْبَيْتِ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَمْلَأُ الْبَيْتَ لِعَظَمِهِ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ يَمْلَأهُ لِكَثْرَتِهِ فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَقَلُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْأَصْلُ) الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا وَصَفَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا يُوصَفُ بِهِ يَلْغُو الْوَصْفُ وَيَقَعُ رَجْعِيًّا نَحْوُ طَلَاقًا لَا يَقَعُ
لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي زِيَادَةَ وَصْفٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ ذَكَرَ الْعِظَمَ يَكُونُ بَائِنًا وَإِلَّا فَلَا أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يَكُونُ فِي التَّوْحِيدِ عَلَى التَّجْرِيدِ. أَمَّا ذِكْرُ الْعِظَمِ فَلِلزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ. وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ مِمَّا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ عِنْدَ النَّاسِ يَقَعُ بَائِنًا وَإِلَّا فَهُوَ رَجْعِيٌّ. وَقِيلَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ. وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ مِثْلُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِثْلُ عِظَمِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ وَمِثْلُ الْجَبَلِ مِثْلُ عِظَمِ الْجَبَلِ
(وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبَائِنُ، وَمَا يَصْعُبُ تَدَارُكُهُ يُقَالُ: لِهَذَا الْأَمْرِ طُولٌ وَعَرْضٌ.
عَلَيْكِ أَوْ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ يُوصَفُ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ لَا يُنْبِئَ عَنْ زِيَادَةٍ فِي أَثَرِهِ كَقَوْلِهِ: أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَسَنَّهُ أَجْمَلَهُ أَعْدَلَهُ خَيْرَهُ أَكْمَلَهُ أَتَمَّهُ أَفْضَلَهُ فَيَقَعُ بِهِ رَجْعِيًّا وَتَكُونُ طَالِقًا لِلسُّنَّةِ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ لِلسُّنَّةِ. وَفِي مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً كَانَتْ طَالِقًا وَيَمْلِكُ رَجْعَتَهَا حَائِضًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَائِضٍ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّطْلِيقَةُ لِلسُّنَّةِ. قَالَ: وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا طَالِقٌ تَطْلِيقَةً لِلسُّنَّةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَوْ يُنْبِئُ كَأَشَدِّهِ وَأَطْوَلِهِ يَقَعُ بِهِ بَائِنًا، وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ فَكَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ كَرَأْسِ إبْرَةٍ وَكَحَبَّةِ خَرْدَلٍ أَوْ كَسِمْسِمَةٍ لِاقْتِضَاءِ التَّشْبِيهِ الزِّيَادَةَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ ذَكَرَ الْعِظَمَ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَرَجْعِيٌّ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ وَلَوْ كَانَ عَظِيمًا لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ التَّوْحِيدُ وَالتَّجْرِيدُ وَالْعِظَمُ لِلزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ. وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ مِمَّا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ عِنْدَ النَّاسِ فَبَائِنٌ وَإِلَّا فَرَجْعِيٌّ ذَكَرَ الْعِظَمَ أَوْ لَا. وَبَيَانُ الْأُصُولِ فِي مِثْلِ رَأْسَ إبْرَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَائِنٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَجْعِيٌّ إلَّا أَنْ يَقُولَ كَعِظَمِ رَأْسِ إبْرَةٍ فَحِينَئِذٍ هُوَ بَائِنٌ وَعِنْدَ زُفَرَ رَجْعِيَّةٌ. وَفِي كَالْجَبَلِ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، رَجْعِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَقُولَ كَعِظَمِ الْجَبَلِ، وَلَوْ قَالَ مِثْلَ عِظَمِهِ فَهُوَ بَائِنٌ عِنْدَ الْكُلِّ.
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ قِيلَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ، هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ. أَمَّا لَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا بَائِنٌ، وَالْبَيْنُونَةُ تَتَنَوَّعُ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ كَالثَّلْجِ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا إنْ أَرَادَ بِهِ بَيَاضَهُ فَرَجْعِيٌّ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَرْدَهُ فَبَائِنٌ اهـ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَقْصُرُ الْبَيْنُونَةَ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى ذِكْرٍ الْعِظَمِ بَلْ يَقَعُ بِدُونِهِ عِنْدَ قَصْدِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَا يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يَقَعَ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَأَعْدَلِ الطَّلَاقِ وَكَأَسَنِّهِ وَكَأَحْسَنِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبَائِنُ، وَمَا يَصْعُبُ تَدَارُكُهُ يُقَالُ فِيهِ لِهَذَا الْأَمْرِ طُولٌ وَعَرْضٌ) فَهُوَ
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهَا رَجْعِيَّةً لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِهِ فَيَلْغُو، وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى مَا مَرَّ وَالْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ.
(فَصْلٌ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ)
(وَإِذَا طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَعْنَ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الْوَاقِعَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا
الْبَائِنُ أَيْضًا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهَا رَجْعِيَّةً لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِهِ فَيَلْغُو) وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طُولَ كَذَا وَكَذَا أَوْ عَرْضَ كَذَا وَكَذَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَاهَا لِأَنَّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ يَدُلَّانِ عَلَى الْقُوَّةِ لَكِنَّهُمَا يَكُونَانِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: طَالِقٌ وَاحِدَةً طُولُهَا كَذَا وَعَرْضُهَا كَذَا فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ (قَوْلُهُ: وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ إلَخْ) أَرَادَ بِالْفُصُولِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: طَالِقٌ بَائِنًا أَوْ أَلْبَتَّةَ أَوْ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ أَوْ أَخْبَثَهُ أَوْ أَسْوَأَهُ وَطَلَاقَ الشَّيْطَانِ وَالْبِدْعَةِ وَأَشَدَّهُ كَأَلْفٍ وَمِلْءَ الْبَيْتِ وَمِثْلَ رَأْسِ إبْرَةٍ وَمِثْلَ الْجَبَلِ وَطَالِقٌ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً لِأَنَّهَا كُلَّهَا بَوَائِنُ وَالْبَيْنُونَةُ تَتَنَوَّعُ إلَى خَفِيفَةٍ وَغَلِيظَةٍ، وَكَذَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ.
وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي طَالِقٍ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ عَرِيضَةً أَوْ طَوِيلَةً لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّطْلِيقَةِ، وَأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ وَنَسَبَهُ إلَى شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَرَجَّحَ بِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْمُحْتَمَلِ، وَتَطْلِيقَةٌ بِتَاءِ الْوَحْدَةِ لَا تَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ.
لَمَّا كَانَ النِّكَاحُ لِلدُّخُولِ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَهُ عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ حُصُولُ غَرَضِ الشَّيْءِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَقَبْلَهُ بِالْعَوَارِضِ فَقُدِّمَ مَا بِالْأَصْلِ عَلَى مَا بِالْعَوَارِضِ (قَوْلُهُ: وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعْنَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ طَلَاقًا) أَيْ تَطْلِيقًا ثَلَاثًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْفَصْلِ، وَفِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَنَّ
عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعًا عَلَى حِدَةٍ فَيَقَعْنَ جُمْلَةً:(فَإِنْ فَرَّقَ الطَّلَاقَ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ) وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ إيقَاعٌ عَلَى حِدَةٍ إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ صَدْرَهُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَتَقَعُ الْأُولَى فِي الْحَالِ فَتُصَادِفُهَا الثَّانِيَةُ وَهِيَ مُبَانَةٌ (وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ
الْوَاقِعَ عِنْدَ أَنْتِ طَالِقٌ مَصْدَرٌ هُوَ تَطْلِيقٌ يَثْبُتُ مُقْتَضًى وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْعَدَدِ وَطَلَاقُهَا أَثَرُهُ، وَبِهِ دُفِعَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةً لِبَيْنُونَتِهَا بِطَالِقٍ وَلَا يُؤَثِّرُ الْعَدَدُ شَيْئًا. وَنَصَّ مُحَمَّدٌ قَالَ: إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا جَمِيعًا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَأَثِمَ بِرَبِّهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَالَ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وَلَا يُنَافِي قَوْلَ الْإِنْشَاءِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ يَتَوَقَّفُ الْوُقُوعُ عَلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ وَكَوْنِهِ وَصْفًا لِمَحْذُوفٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ عَلَيْكِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ الْكُلِّ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ فَرَّقَ الطَّلَاقَ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَقَعْ الثَّانِيَةُ) وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ لِيَتَوَقَّفَ أَوَّلُهُ فَلَمْ يَقَعْ بِطَالِقٍ الْأَوَّلِ شَيْءٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ بِالْوَاوِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ أَوْ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَهُوَ يُغَيِّرُ حُكْمَ التَّفْرِيقِ إذْ الْحَاصِلُ بِهِ كَالْحَاصِلِ بِطَالِقٍ ثَلَاثًا، وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ فِي التَّفْرِيقِ تَبِينُ بِوَاحِدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ الصَّدْرُ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
قُلْنَا: الْجَمْعُ الَّذِي يُبَايِنُ التَّفْرِيقَ حُكْمًا هُوَ الْجَمْعُ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ الْمُغَيِّرِ لَهُ كَلَفْظِ ثَلَاثًا وَنَحْوَهُ، وَلَيْسَ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ لِجَمْعِ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي مَعْنَى الْعَامِلِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَعِيَّةِ وَعَلَى تَقَدُّمِ بَعْضِ الْمُتَعَاطِفَاتِ بِهَا فِي تَعَلُّقِ مَعْنَى الْعَامِلِ بِهِ وَتَأَخُّرِهِ وَكُلٌّ مِنْ الْجَمْعِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَمِنْ الْجَمْعِ بِمَعْنَى تَرَتُّبِ الْمُتَعَاطِفَاتِ عَلَى التَّرَتُّبِ اللَّفْظِيِّ، وَعَكْسُهُ أَفْرَادُهُ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ فَلَيْسَ لِلْوَاوِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَمْعِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ بَلْ تَصْدُقُ مَعَهُ كَمَا تَصْدُقُ مَعَ التَّعَاقُبِ فِي التَّعَلُّقِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا بِالضَّرُورَةِ ذِكْرَ مُغَيِّرٍ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّغْيِيرَ وَهُوَ الْمَعِيَّةُ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِتَوَقُّفِ الصَّدْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنَّهَا فِي التَّرْكِيبِ لِلْمَعِيَّةِ. وَإِذَا عَلِمْت أَنَّهَا لَا تَتَعَرَّضُ إلَّا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُهَا لِلْفَرْدِ الَّذِي هُوَ الْمَعِيَّةُ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهَا لِلْفَرْدِ الَّذِي هُوَ التَّعَاقُبُ فِي مَعْنَى الْعَامِلِ، وَبِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا لِلْمَعِيَّةِ يَعْمَلُ كُلُّ لَفْظٍ عَمَلَهُ فَتَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا يَقَعُ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِهَا لِلتَّرْتِيبِ. فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ: لَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا لِلْمَعِيَّةِ لَزِمَ اعْتِبَارُهَا لِلتَّرْتِيبِ.
وَأَمَّا وُقُوعُ الثَّلَاثِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَوُقُوعُ الثِّنْتَيْنِ فِي قَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفَ وَاحِدَةٍ فَلَيْسَ لِلتَّوَقُّفِ بِسَبَبِ إيجَابِ الْوَاوِ الْمَعِيَّةَ بَلْ لِأَنَّهُ أَخَصْرُ مَا يُلْفَظُ بِهِ إذَا أَرَادَ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ
وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَمَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ وَاحِدَةً كَانَ بَاطِلًا) لِأَنَّهُ قَرَنَ الْوَصْفَ بِالْعَدَدِ فَكَانَ الْوَاقِعُ هُوَ الْعَدَدَ، فَإِذَا مَاتَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ فَاتَ الْمَحَلُّ قَبْلَ الْإِيقَاعِ فَبَطَلَ (وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) لِمَا بَيَّنَّا وَهَذِهِ تُجَانِسُ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ) وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا حَرْفَ الظَّرْفِ إنْ قَرَنَهَا بِهَاءِ الْكِنَايَةِ كَانَ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ آخِرًا كَقَوْلِهِ: جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَهُ عَمْرٌو، وَإِنْ لَمْ يَقْرِنْهَا بِهَاءِ الْكِنَايَةِ كَانَ
الطَّرِيقَةِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي التَّعْبِيرِ لُغَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا فِي إحْدَى وَعِشْرِينَ شَرْعًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَنْفِ حُكْمَهُ إذَا تَكَلَّمَ بِهِ. وَذَكَر شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ زُفَرَ فَلَا يَقَعُ عِنْدَهُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِوُجُودِ الْعَطْفِ فَيَسْبِقُ الْوَاقِعُ الْأَوَّلَ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى عَشَرَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ الْعَاطِفِ وَوُقُوعُ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ: شِئْت وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً لِأَنَّ تَمَامَ الشَّرْطِ بِآخِرِ كَلَامِهَا، وَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَقَعُ الْجَزَاءُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ حَكَى بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا فِي نَحْوِ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَبَيَّنَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْكَلَامِ الثَّانِي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ لِجَوَازِ أَنْ يُلْحِقَ بِكَلَامِهِ شَرْطًا أَوْ اسْتِثْنَاءً وَرَجَّحَ فِي أُصُولِهِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ لَا يَفُوتُ الْمَحَلُّ، فَلَوْ تَوَقَّفَ وُقُوعُ الْأُولَى عَلَى التَّكَلُّمِ بِالثَّانِيَةِ لَوَقَعَا جَمِيعًا لِوُجُودِ الْمَحَلِّ لِلثَّلَاثِ حَالَ التَّكَلُّمِ بِهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّظَرَ إلَى تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ بِتَجْوِيزِ أَنْ يَلْحَقَهُ مُغَيِّرٌ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ تَأَخُّرُ ظُهُورِ وَقْتِ الْوُقُوعِ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ إنَّمَا هُوَ أَنَّهُ إذَا أَلْحَقَ تَبَيَّنَ عَدَمُ الْوُقُوعِ، وَإِذَا لَمْ يُلْحِقْ تَبَيَّنَ الْوُقُوعُ مِنْ حِينِ تَلَفَّظَ بِالْأَوَّلِ، وَهَذَا لَا يَنْفِيه أَبُو يُوسُفَ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَهُمَا (قَوْلُهُ: وَهَذِهِ) أَيْ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ (تُجَانِسُ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى) وَهُوَ فَوَاتُ الْمَحَلِّ عِنْدَ الْإِيقَاعِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ غَيْرَ أَنَّ فَوَاتَهُ فِي هَذِهِ بِالْمَوْتِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَفِيمَا قَبْلَهَا بِالطَّلَاقِ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ دُونَ مَا بَعْدَهُ (قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا ظَرْفًا إنْ قَرَنَهَا بِهَاءِ الْكِنَايَةِ) أَيْ أُضِيفَتْ كَلِمَةُ الظَّرْفِ إلَى ضَمِيرِ
صِفَةً لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا كَقَوْلِهِ: جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَالْقَبْلِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ صِفَةٌ لِلْأُولَى فَتَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ، وَالْبَعْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ صِفَةٌ لِلْأَخِيرَةِ فَحَصَلَتْ الْإِبَانَةُ بِالْأُولَى (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ ثِنْتَانِ) لِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ صِفَةٌ لِلثَّانِيَةِ لِاتِّصَالِهَا بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ فَاقْتَضَى إيقَاعَهَا فِي الْمَاضِي وَإِيقَاعَ الْأُولَى فِي الْحَالِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ أَيْضًا فَيَقْتَرِنَانِ فَيَقَعَانِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْبَعْدِيَّةَ صِفَةٌ لِلْأُولَى فَاقْتَضَى إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ فِي الْحَالِ وَإِيقَاعَ الْأُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ فَتَقْتَرِنَانِ (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ ثِنْتَانِ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ: مَعَهَا وَاحِدَةٌ أَنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةٌ
الْأَوَّلِ كَانَتْ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ آخِرًا كَجَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَهُ عَمْرٌو، وَإِنْ لَمْ يَقْرِنْهَا بِهَا بَلْ أُضِيفَتْ إلَى ظَاهِرٍ كَجَاءَ زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو كَانَ صِفَةً لِلْأَوَّلِ بِالضَّرُورَةِ وَلِأَنَّهَا حِينَئِذٍ خَبَرٌ عَنْهُ.
أَمَّا إذَا قُرِنَ بِهَا ارْتَفَعَ عَمْرٌو الْمُتَأَخِّرُ بِالِابْتِدَاءِ وَيَكُونُ الظَّرْفُ خَبَرَهُ وَالْخَبَرُ وَصْفٌ لِلْمُبْتَدَإِ، وَحِينَئِذٍ الْقَبْلِيَّةُ فِي وَاحِدَةٍ قَبْلَ وَاحِدَةٍ صِفَةٌ لِلْأُولَى فَتَطْلُقُ وَاحِدَةً تَقَعُ قَبْلَ الثَّانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي اللَّفْظِ: أَعْنِي الْمُضَافَ إلَيْهَا لَفْظَةُ " قَبْلَ " قَدْ يُلْحِقُهَا الثَّانِيَةَ، وَفِي قَبْلِهَا وَاحِدَةٌ صِفَةٌ لِلْأَخِيرَةِ لِأَنَّهَا الْمُبْتَدَأُ الْمَخْبَرُ بِالظَّرْفِ عَنْهُ وَالْجُمْلَةُ مَوْصُوفٌ بِمَضْمُونِهَا وَاحِدَةُ الْأُولَى فَقَدْ أَوْقَعَ وَاحِدَةً مَوْصُوفَةً بِقَبْلِيَّةٍ أُخْرَى لَهَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعِ لَهَا وُجُودٌ سَابِقٌ عَلَى الْمَوْقِعَةِ فَيُحْكَمُ أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ فَيَقْتَرِنَانِ فَيَقَعَانِ.
وَإِذَا كَانَ الظَّرْفُ لَفْظَةَ بَعْدَ فَفِي وَاحِدَةٍ بَعْدَ وَاحِدَةٍ يَكُونُ صِفَةً لِلْأُولَى فَقَدْ أَوْقَعَ وَاحِدَةً مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا بَعْدَ أُخْرَى وَهُوَ مَعْنَى قَبْلِيَّةٍ أُخْرَى لَهَا، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى تَقْدِيمِ مَا لَمْ يَسْبِقْ لِلْوُجُودِ عَلَى الْمَوْجُودِ فَيَقْتَرِنَانِ بِحُكْمِ أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ فَيَقَعَانِ، وَفِي وَاحِدَةٍ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ أَوْقَعَ وَاحِدَةً مَوْصُوفَةً بِبَعْدِيَّةٍ أُخْرَى لَهَا فَوَقَعَتْ الْأُولَى قَبْلَهَا فَلَا تَلْحَقُ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَأَمَّا إذَا قَالَ وَاحِدَةً مَعَهَا وَاحِدَةٌ أَوْ مَعَ وَاحِدَةٍ فَلَا فَرْقَ فِي الْحَاصِلِ لِأَنَّ مَعَ لِلْقِرَانِ فَيَتَوَقَّفُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي تَحْقِيقًا لِمَعْنَاهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ مَعَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَسْتَدْعِي سَبْقَ الْمُكَنَّى عَنْهُ.
قُلْنَا: وَقَدْ وَجَدَ وَهِيَ وَاحِدَةٌ الَّتِي هُوَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ إذْ قَدْ سَبَقَ لَفْظُهَا غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ لِاتِّصَالِ الْمُغَيِّرِ وَهُوَ الْمَعِيَّةُ الْمَانِعَةُ مِنْ انْفِرَادِ السَّابِقِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنْفَرِدٌ لَفْظًا وَإِنْ عَنَى سَبْقَ وُجُودِهِ فَمَمْنُوعٌ، وَمِنْ مَسَائِلِ قَبْلَ وَبَعْدَ مَا قِيلَ مَنْظُومًا:
فِي فَتًى عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَهْرٍ
…
قَبْلَ مَا بَعْدَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ
لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَقْتَضِي سَبْقَ الْمُكَنَّى عَنْهُ لَا مَحَالَةَ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَقَعُ ثِنْتَانِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِقِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأُولَى
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تَقَعُ ثِنْتَانِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ) بِالِاتِّفَاقِ. لَهُمَا أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَتَعَلَّقْنَ جُمْلَةً كَمَا إذَا نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ أَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ.
وَصُوَرُهُ ثَلَاثٌ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا ذَكَرَ بِلَفْظِ " قَبْلَ " أَوْ جَمِيعُهُ بِلَفْظِ بَعْدَ أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَفِي الْجَمْعِ كَالْبَيْتِ يُلْغِي قَبْلَ بِبَعْدِ فَيَبْقَى شَهْرٌ قَبْلَهُ رَمَضَانُ فَيَقَعُ فِي شَوَّالٍ، وَفِي نَحْوِهِ ثَلَاثُ صُوَرٍ أُخْرَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ إذَا كَرَّرَ لَفْظَةَ قَبْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بَعْدُ كَمَا فِي الْبَيْتِ وَقَدْ عَرَفْتَ حُكْمَهُ. أَوْ لَا يَتَخَلَّلُ بَلْ يَكُونُ الْمَذْكُورُ مَحْضَ قَبْلُ نَحْوُ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ فَيَقَعُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَمِنْ أَنَّهُ إذَا كَرَّرَ لَفْظَةَ بَعْدَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا قَبْلُ قُلِبَ الْبَيْتُ. وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُلْغِي بَعْدَ بِقَبْلَ فَيَبْقَى شَهْرٌ بَعْدَ رَمَضَانَ فَيَقَعُ فِي شَعْبَانَ، أَوْ لَا يَتَخَلَّلُ بَلْ الْمَذْكُورُ مَحْضُ بَعْدُ نَحْوُ فِي شَهْرٍ بَعْدَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ رَمَضَانُ فَيَقَعُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ (قَوْلُهُ: وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا) يَعْنِي أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي: قَبْلَ وَاحِدَةٍ وَقَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ وَاحِدَةٍ وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ هُوَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. أَمَّا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا فَيَقَعُ ثِنْتَانِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا: أَيْ فِي قَبْلَ وَاحِدَةٍ وَقَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ وَاحِدَةٍ وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ. وَاسْتُشْكِلَ فِي وَاحِدَةٍ قَبْلَ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَبْلَ غَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ» وَأُجِيبُ بِأَنَّ اللَّفْظَ أَشْعَرَ بِالْوُقُوعِ وَكَوْنُ الشَّيْءِ قَبْلَ غَيْرِهِ يَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الْغَيْرِ ظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَدْعِهِ لَا مَحَالَةَ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا) أَيْ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا (إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَدَخَلَتْ وَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا ثِنْتَانِ) وَلَوْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ. لَهُمَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ: أَيْ لِجَمْعِ الْمُتَعَاطِفَاتِ مِمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَانَ عَامِلًا كَجَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو
وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْقِرَانَ وَالتَّرْتِيبَ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَقَعُ ثِنْتَانِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ كَمَا إذَا نَجَّزَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَلَا يَقَعُ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاحِدَةِ بِالشَّكِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ لِأَنَّهُ مُغَيِّرٌ صَدْرَ الْكَلَامِ
أَوْ لَا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ جَاءُوا مُطْلَقًا: أَيْ بِلَا قَيْدِ مَعِيَّةٍ أَوْ تَرَتُّبٍ بَلْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ يَصْدُقُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالْوَاحِدَةِ فِي التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ فَصَارَ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ، وَكَمَا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَهَذَا التَّفْرِيقُ اللَّفْظِيُّ لَا أَثَرَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي حَالِ التَّكَلُّمِ يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ لَا فِي حَالِ التَّطْلِيقِ تَنْجِيزًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً لِأَنَّهُ فِي حَالِ الْإِيقَاعِ وَلَا مُوجِبَ لِتَوَقُّفِ الْأَوَّلِ فَيَقَعُ، أَمَّا هُنَا فَيَتَوَقَّفُ فَيَتَعَلَّقُ الْكُلُّ دَفْعَةً ثُمَّ يَنْزِلْنَ كَذَلِكَ فَيَقَعُ الْكُلُّ، وَلَوْ سَلِمَ التَّعَاقُبُ فِي التَّعْلِيقِ فَالْمُتَعَلِّقَاتُ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ عَلَى التَّعَاقُبِ تَنْزِلُ جُمْلَةً عِنْدَ وُجُودِهِ كَمَا لَوْ حَصَلَ بِأَيْمَانٍ تَتَخَلَّلُهَا أَزْمِنَةٌ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ بَعْدَ زَمَانٍ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ يَقَعُ الْكُلُّ اتِّفَاقًا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَمَا إذَا نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلصُّورَةِ وَكَذَا فَيَتَعَلَّقْنَ وَيَقَعْنَ.
(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ) الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْوَاوِ يَحْتَمِلُ عِنْدَ وُقُوعِ الْوَاوِ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُرَادَ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي ضِمْنِ الْقِرَانِ أَوْ التَّرْتِيبِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ الْأَعَمُّ إلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي ضِمْنِ أَحَدِ أَخِصَّائِهِ، وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُرَادَ الْجَمْعُ بِوَصْفِ التَّرْتِيبِ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً. كَمَا إذَا نَجَّزَ الثَّلَاثَ بِالْوَاوِ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا يَقَعُ وَاحِدَةً لِمُلَاحَظَةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ وَيَلْغُو مَا بَعْدَهَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، فَهَكَذَا هَذَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ أُخْرَى وَبَعْدَهَا أُخْرَى وَيَفُوتُ الْمَحَلُّ بِالْأُولَى، وَعَلَى اعْتِبَارِ إرَادَةِ الْمَعِيَّةِ يَنْزِلُ الْكُلُّ وَلَا تَتَعَيَّنُ لِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ
وَنُزُولُ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَتَنْزِلُ وَاحِدَةٌ وَلَا يَنْزِلُ الزَّائِدُ بِالشَّكِّ. وَتَقْرِيرُ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَوَّلَ تَعَلَّقَ قَبْلَ الثَّانِي لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ، وَتَعَلَّقَ الثَّانِي بِوَاسِطَتِهِ وَالثَّالِثُ بِوَاسِطَتِهِمَا فَيَنْزِلُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ التَّعَلُّقُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ تَكْرَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الثَّانِي بِغَيْرِ شَرْطِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَتَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ الْوَاحِدِ طَلْقَاتٌ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ فَيَنْزِلْنَ جَمِيعًا عِنْدَ الشَّرْطِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَ الْجَزَاءُ لِأَنَّ تَأَخُّرَ الشَّرْطِ مُوجِبٌ لِتَوَقُّفِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مُغَيِّرٌ فَتَعَلَّقَ الْكُلُّ فِيهِ دَفْعَةً فَيَنْزِلُ دَفْعَةً.
وَنُقِضَ بِمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ فَدَخَلَتْ يَقَعُ ثَلَاثٌ، وَلَوْ نَجَّزَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَعَ وَاحِدَةً. وَأُجِيبُ بِأَنَّ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِإِقَامَةِ الثَّانِي بَدَلَ الْأَوَّلِ. وَلَا يُمْكِنُ فِي الطَّلَاقِ فَيَتَعَلَّقُ الْأَوَّلُ وَيَصِحُّ تَعَلُّقُ الثَّانِي لِبَقَاءِ مَحَلِّ التَّعْلِيقِ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ فَيَتَعَلَّقُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَأَنَّهُ أَعَادَ الشَّرْطَ لِتَعْلِيقِ ثِنْتَيْنِ وَجَعَلَهُ يَمِينَيْنِ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ الْكُلُّ جُمْلَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا نَجَّزَ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِإِيقَاعِ الثِّنْتَيْنِ وَقَوْلُهُمَا أَرْجَحُ.
وَقَوْلُهُ: تَعَلَّقَ الثَّانِي بِوَاسِطَةِ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ، إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ عِلَّةُ تَعَلُّقِهِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ عِلَّتُهُ جَمْعُ الْوَاوِ إيَّاهُ إلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ أُرِيدَ كَوْنُهُ سَابِقَ التَّعَلُّقِ سَلَّمْنَاهُ، وَلَا يُفِيدُ كَالْأَيْمَانِ الْمُتَعَاقِبَةِ؛ وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْأَوَّلِ عِلَّةٌ لِتَعَلُّقِ الثَّانِي لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ نُزُولِهِ عِلَّةً لِنُزُولِهِ إذْ لَا تَلَازُمَ فَجَازَ كَوْنُهُ عِلَّةً لِتَعَلُّقِهِ فَيَتَقَدَّمُ فِي التَّعَلُّقِ، وَلَيْسَ نُزُولُهُ عِلَّةً لِنُزُولِهِ، بَلْ إذَا تَعَلَّقَ الثَّانِي
فَيَتَوَقَّفُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ فَيَقَعْنَ جُمْلَةً وَلَا مُغَيِّرَ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ. وَلَوْ عَطَفَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ صَارَ مَعَ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقَيْنِ بِشَرْطٍ، وَعِنْدَ نُزُولِ الشَّرْطِ يَنْزِلُ الْمَشْرُوطُ. وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله أَقْرَبُ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْأَيْمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: لَا يَقَعُ الزَّائِدُ بِالشَّكِّ يُدْفَعُ بِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي تَعَلُّقِ الْكُلِّ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَعِيَّةِ أَوْ التَّرْتِيبِ فَيَجِبُ أَنْ تَنْزِلَ كُلُّهَا عِنْدَ الشَّرْطِ كَالْأَيْمَانِ الْمُتَعَاقِبَةِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ. قُلْنَا: التَّرْتِيبُ الَّذِي يُرَادُ بِالْوَاوِ يَقْتَضِي كَمَا قَرَرْنَاهُ أَنَّ وُقُوعَ كُلِّ مُتَقَدِّمِ جُزْءٍ شَرْطُ وُقُوعِ الْمُتَأَخِّرِ؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبَعْدَهَا أُخْرَى وَتَلِيهَا أُخْرَى فَلَا يَقَعُ مُتَأَخِّرٌ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْمُتَقَدِّمِ فَصَارَ الدُّخُولُ شَرْطَ كُلِّ مُتَأَخِّرٍ، بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ الَّذِي اتَّفَقَ فِي الْأَيْمَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الشَّرْطُ فِي الْكُلِّ إلَّا شَرْطَ الْأَوَّلِ فَقَطْ، فَإِذَا وُجِدَ الدُّخُولُ مَثَلًا فَقَدْ وُجِدَ تَمَامُ شَرْطِ كُلِّ مُعَلَّقٍ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ وَسَقَطَ الظِّهَارُ عِنْدَهُ وَالْإِيلَاءُ لِسَبْقِ الطَّلَاقِ فَتَبِينُ فَلَا تَبْقَى مَحَلًّا لِلظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ.
وَعِنْدَهُمَا هُوَ مُطَلِّقٌ مُظَاهِرٌ مُولٍ. وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةِ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَتَزَوَّجَهَا فَعَلَى الْخِلَافِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّمَ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا وَقَعَ الْكُلُّ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا إشْكَالَ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِسَبْقِ الْإِيلَاءِ ثُمَّ هِيَ بَعْدَهُ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ فَتَطْلُقُ (قَوْلُهُ وَلَوْ عَطَفَ بِحَرْفِ الْفَاءِ) فَقَالَ: أَيْ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ فَدَخَلَتْ (فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ) فَعِنْدَهُ تَبِينُ بِوَاحِدَةٍ وَيَسْقُطُ مَا بَعْدَهَا، وَعِنْدُهُمَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَفِي الْمَبْسُوطِ نَقَلَهُ عَنْ الطَّحَاوِيِّ فَلْيَكُنْ عَنْهُمَا (وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ الْأَصَحُّ) لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَصَارَتْ كَثُمَّ وَبَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ الشَّرْطَ دُخُولَ الدَّارِ وَوُقُوعَ طَلْقَةٍ، وَلَا وُقُوعَ قَبْلَ مَجْمُوعِ الشَّرْطِ فَتَقَعُ الثَّانِيَةُ بَعْدَهُمَا، وَشَرْطُ الثَّالِثَةِ الدُّخُولُ وَوُقُوعُ طَلْقَتَيْنِ فَيَقَعُ بَعْدَهُمَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَرَّرْنَا عَلَيْهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبَعْدَهَا أُخْرَى، وَلَوْ عَطَفَ بِثُمَّ وَأَخَّرَ الشَّرْطَ كَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت.
فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، فَعِنْدَهُ يَقَعُ فِي الْحَالِ ثِنْتَانِ وَتَتَعَلَّقُ الثَّالِثَةُ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهَا لِلتَّرَاخِي، وَكَمَالُهُ بِاعْتِبَارِهِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ فَصَلَ بِسُكُوتٍ، وَلَوْ سَكَتَ وَقَعَ الْأَوَّلُ وَلَا يَتَوَقَّفُ لِيَتَعَلَّقَ فَكَذَا هُنَا. وَإِذَا وَقَعَ الْأَوَّلُ بَقِيَتْ مَحَلًّا فَتَقَعُ الثَّانِيَةُ وَتَتَعَلَّقُ الثَّالِثَةُ بِدُخُولِهَا الدَّارَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ وَيَلْغُو الثَّانِي لِانْتِفَاءِ مَحَلِّيَّتِهَا، وَإِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ فَقَالَ: إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
(وَأُمًّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَاتُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ) لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلطَّلَاقِ بَلْ تَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ أَوْ دَلَالَتِهِ. قَالَ (وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ وَلَا يَقَعُ بِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ) أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ عَنْ النِّكَاحِ وَتَحْتَمِلُ اعْتِدَادَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَوَى الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ بِنِيَّتِهِ فَيَقْتَضِي طَلَاقًا سَابِقًا وَالطَّلَاقُ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ.
مَدْخُولًا بِهَا تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَوَقَعَ الثَّانِي وَلَغَا الثَّالِثُ.
وَالْوَجْهُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْأَصْلِ ظَاهِرٌ، وَعِنْدَهُمَا تَعَلَّقَ الْكُلُّ بِالثَّانِي قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَقَعُ الثَّلَاثُ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَفِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ، فَأَثَرُ التَّرَاخِي يَظْهَرُ عِنْدَهُ فِي التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ تَكَلَّمَ، وَعِنْدَهُمَا فِي الْوُقُوعِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَوْ لَمْ يَعْطِفْ أَصْلًا بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَاحِدَةً يَقَعُ عِنْدَ الشَّرْطِ وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَلَغَا مَا بَعْدَهُ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ تَشْرِيكَهُ مَعَهُ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَاتُ) لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الصَّرِيحِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْكِنَايَاتِ وَقَدَّمَ الصَّرِيحَ إذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْإِفْهَامِ، فَمَا كَانَ أَدْخَلَ وَأَظْهَرَ فِيهِ كَانَ أَصْلًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا وُضِعَ لَهُ، وَحِينَ كَانَ الصَّرِيحُ مَا ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ لِاشْتِهَارِهِ فِي الْمَعْنَى كَانَ الْكِنَايَةُ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ بِهِ لِتَوَارُدِ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفْ الْمُصَنِّفُ الْكِنَايَةَ كَمَا عَرَّفَ الصَّرِيحَ بَلْ ابْتَدَأَ فَقَالَ (وَهُوَ الْكِنَايَاتُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ) إلَى آخِرِهِ لِاشْتِهَارِ أَنَّهَا ضِدَّ الصَّرِيحِ، وَحِينَ عَرَّفَهُ عُلِمَ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَا لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهُ مَعَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ رَسْمُهَا مِنْ تَعْلِيلِهِ حَيْثُ قَالَ: إنَّهَا تَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ، فَكَأَنَّ الْكِنَايَةَ مَا احْتَمَلَ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ فَلَزِمَ أَنْ يَسْتَفْسِرَ عَنْ مَقْصُودِهِ بِهِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ حَالَةً ظَاهِرَةً تُفِيدُ مَقْصُودَهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَعْتَبِرُهَا وَلَا يُصَدِّقُهُ فِي ادِّعَاءٍ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا وَهِيَ دَلَالَةُ الْحَالِ فَإِنَّهَا مِمَّا يُحْكَمُ بِإِرَادَةِ مُقْتَضَاهَا شَرْعًا كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ الْمُطْلَقَةِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ الضَّرُورَةَ نِيَّةَ الْحَجِّ يَنْصَرِفُ إلَى نِيَّةِ الْحَجِّ الْفَرْضِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّيَّةَ بَاطِنَةٌ وَالْحَالُ ظَاهِرَةٌ فِي الْمُرَادِ فَظَهَرَتْ نِيَّتُهُ بِهَا فَلَا يُصَدَّقُ فِي إنْكَارِ مُقْتَضَاهَا بَعْدَ ظُهُورِهِ فِي الْقَضَاءِ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُصَدِّقُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا نَوَى خِلَافَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْحَالِ. فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ يُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي بِالْوُقُوعِ، أَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا يَقَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ مُطْلَقًا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَالَ: أَرَدْتُ عَنْ وَثَاقٍ لَا يُصَدِّقُهُ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ هِيَ زَوْجَتُهُ إذَا كَانَ نَوَاهُ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلطَّلَاقِ) بَلْ مَوْضُوعَةٌ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ مِنْ حُكْمِهِ، وَالْأَعَمُّ فِي الْمَادَّةِ الِاسْتِعْمَالِيَّة يَحْتَمِلُ كُلًّا مِمَّا صَدَقَاتِهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِمُعَيِّنٍ، وَالْمُعَيِّنُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ النِّيَّةُ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاضِي دَلَالَةُ الْحَالِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَدَعْوَاهُ مَا أَرَادَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ حُكْمِهِ، وَلَمْ نَقُلْ: أَعَمُّ مِنْهُ لِمَا سَنَذْكُرُ مِنْ أَنَّهَا لَمْ يُرِدْ بِمَا سِوَى الثَّلَاثِ الرَّجْعِيَّةِ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي أَنْتِ وَاحِدَةً الطَّلَاقَ أَصْلًا بَلْ مَا هُوَ حُكْمُهُ مِنْ الْبَيْنُونَةِ مِنْ النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ بَلْ تَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ تَسَاهُلٌ لِأَنَّ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ تُسْتَعْمَلُ فِيهَا، وَسَنُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الطَّلَاقَ وَنُقَرِّرُهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْتَمِلُهُ مُتَعَلِّقًا لِمَعْنَاهَا أَوْ وَاقِعًا عِنْدَهُ فَتَدْخُلُ الثَّلَاثُ الرَّجْعِيَّةُ (قَوْلُهُ وَهِيَ) أَيْ الْكِنَايَاتُ (عَلَى ضَرْبَيْنِ) هَذَا تَقْسِيمٌ لِلْكِنَايَاتِ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ أَوَّلًا بِحَسَبِ مَا هِيَ كِنَايَةٌ عَنْهُ، وَثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ بِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ هِيَ الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ.
أَمَّا الْأُولَى فَتَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُكْمِ الطَّلَاقِ وَإِلَى مَا عَنْ تَفْوِيضِهِ الثَّانِي لَفْظَانِ اخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاعْتِدَادِ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ وَتَحْتَمِلُ الِاسْتِبْرَاءَ لِيُطَلِّقَهَا، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا نَوَاهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ قَالَهُ، وَالطَّلَاقُ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ قَوْمِهِ، وَلَمَّا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ وَلَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فِيهَا مُقْتَضًى أَوْ مُضْمَرٌ، وَلَوْ كَانَ مُظْهَرًا لَا تَقَعُ بِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ، فَإِذَا كَانَ مُضْمَرًا أَوْلَى، وَفِي قَوْلِهِ وَاحِدَةٌ وَإِنْ صَارَ الْمَصْدَرُ مَذْكُورًا لَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَاحِدَةِ يُنَافِي نِيَّةَ
لَا يَدْخُلُ فِي يَدِهَا إلَّا بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ إلَّا بِقَوْلِهَا بَعْدَ نِيَّتِهِ طَلَّقْت نَفْسِي وَاخْتَرْت نَفْسِي، وَالْأَوَّلُ مَا سِوَاهُمَا وَيَنْقَسِمُ إلَى مَا يَقَعُ بِهِ الْبَائِنُ وَهُوَ مَا سِوَى الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ، وَإِلَى مَا يَقَعُ بِهِ الرَّجْعِيُّ وَهِيَ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ.
أَمَّا الْأُولَى: أَيْ كَوْنُ الْأُولَى وَهِيَ كَلِمَةُ اعْتَدِّي كِنَايَةً فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ عَنْ النِّكَاحِ وَالِاعْتِدَادَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَوَى الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ وَيَقْتَضِي طَلَاقًا سَابِقًا وَالطَّلَاقُ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاقْتِضَاءِ وَثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فِيمَا إذَا قَالَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ كُونِي طَالِقًا بِاسْمِ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ لَا الْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ لِيَرُدَّ أَنَّ شَرْطَهُ اخْتِصَاصُ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ، وَالْعِدَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالطَّلَاقِ لِثُبُوتِهَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ إذَا عَتَقَتْ. وَيُجَابُ بِأَنَّ ثُبُوتَهَا فِيمَا ذُكِرَ لِوُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِهَا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ لَا بِالْأَصَالَةِ وَهُوَ غَيْرُ دَافِعٍ سُؤَالَ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ كَوْنُهَا مَجَازًا عَنْ كُونِي طَالِقًا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا يَجِبُ كَوْنُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك كَذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَمَا فِي النَّوَادِرِ مِنْ أَنَّ وُقُوعَ الرَّجْعِيِّ بِهَا اسْتِحْسَانٌ لِحَدِيثِ «سَوْدَةَ: يَعْنِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: اعْتَدِّي ثُمَّ رَاجَعَهَا» وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقَعَ الْبَائِنُ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ بَعِيدٌ بَلْ ثُبُوتُ الرَّجْعِيِّ بِهَا قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْبَيْنُونَةَ فِي غَيْرِ الثَّلَاثَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِيهَا فَلَا يُتَّجَهُ الْقِيَاسُ أَصْلًا. نَعَمْ الِاعْتِدَادُ يَقْتَضِي فُرْقَةً بَعْدَ الدُّخُولِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ رَجْعِيٍّ وَبَائِنٍ لَكِنْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَعَيُّنَ الْبَائِنِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْأَخَفُّ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّائِدِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ كَلِمَةُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك فَلِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِدَّةِ وَهُوَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَاحْتَمَلَ اسْتَبْرِئِيهِ لِأَنِّي طَلَّقْتُك أَوْ لِأُطَلِّقَك: يَعْنِي إذَا عَلِمْت خُلُوَّهُ عَنْ الْوَلَدِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَقَعُ وَعَلَى الثَّانِي لَا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا أَيْضًا قَبْلَ الدُّخُولِ مَجَازٌ عَنْ كُونِي طَالِقًا كَاعْتَدِّي، وَكَذَا فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ وَهِيَ أَنْتِ وَاحِدَةٌ
الثَّلَاثِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِعْرَابِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ.
قَالَ (وَبَقِيَّةُ الْكِنَايَاتِ إذَا نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا كَانَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً،
فَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَعْتَا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا نَوَاهُ فَكَأَنَّهُ قَالَهُ: يَعْنِي إذَا نَوَاهُ مَعَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فَكَأَنَّهُ قَالَهُ لِظُهُورِ أَنَّ مُجَرَّدَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ وَالطَّلَاقُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ نَحْوُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ عِنْدِي أَوْ فِي قَوْمِك مَدْحًا وَذَمًّا، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ مُقْتَضًى كَمَا هُوَ فِي اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك لِأَنَّهُ يَقَعُ شَرْعًا بِهَا فَهُوَ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً وَمُضْمَرٌ فِي وَاحِدَةٍ، وَلَوْ كَانَ مُظْهِرًا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً، فَإِذَا كَانَ مُضْمَرًا وَأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ أُولَى أَنْ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَفِي وَاحِدَةٍ إنْ صَارَ الْمَصْدَرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ صِفَتِهِ لَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَاحِدِ يَمْنَعُ إرَادَةَ الثَّلَاثِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَحْدُودِ بِالْهَاءِ فَلَا يَتَجَاوَزُ الْوَاحِدَةَ.
وَاعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بِأَنَّ فِيهِ تَكَلُّفًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الزَّوْجِ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْفَعُ احْتِمَالُهُ لِمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَالتَّطْلِيقُ بِالْمَصْدَرِ الْمَلْفُوظِ بِهِ شَائِعٌ فِي طَلَاقِ الْعَرَبِ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الشِّعْرِ الْقَائِلِ:
فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ
إلَى آخِرِهِ، وَمِنْ قَوْلِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حِينَ طَلَّقَ الْأَرْبَعَ: اذْهَبْنَ فَأَنْتُنَّ الطَّلَاقُ أَوْ طَلَاقٌ وَكَثِيرٌ، بِخِلَافِ التَّطْلِيقِ بِلَفْظِ أَنْتِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الزَّوْجِ فَكَانَ احْتِمَالُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ لِلْمَصْدَرِ أَظْهَرَ مِنْ احْتِمَالِهَا لِمُنْفَرِدَةٍ عَنْ الزَّوْجِ فَضْلًا عَنْ تَعَيُّنِ الثَّانِي (قَوْلُهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِعْرَابِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ رَفَعَ الْوَاحِدَةَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى، وَإِنْ نَصَبَهَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ: أَيْ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَوْقَعَ بِالصَّرِيحِ وَإِنْ سَكَنَ اُحْتِيجَ إلَى النِّيَّةِ.
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ حُكْمٍ يَرْجِعُ إلَى الْعَامَّةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الرَّفْعَ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ نَعْتًا لِطَلْقَةٍ: أَيْ أَنْتِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالنَّصْبُ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ آخَرَ: أَيْ أَنْتِ مُتَكَلِّمَةٌ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا الْوَجْهُ يَعُمُّ الْعَوَامَّ وَالْخَوَاصَّ، وَلِأَنَّ الْخَاصَّةَ لَا تَلْتَزِمُ التَّكَلُّمَ الْعُرْفِيَّ عَلَى صِحَّةِ الْإِعْرَابِ بَلْ تِلْكَ صِنَاعَتُهُمْ وَالْعُرْفُ لُغَتُهُمْ، وَلِذَا تَرَى أَهْلَ الْعِلْمِ فِي مَجَارِي كَلَامِهِمْ لَا يُقِيمُونَهُ (قَوْلُهُ: وَبَقِيَّةُ الْكِنَايَاتِ إذَا نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً، فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ كَانَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً) وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ نَظَرٌ، بَلْ يَقَعُ الرَّجْعِيُّ بِبَعْضِ الْكِنَايَاتِ سِوَى الثَّلَاثِ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي أَنَا بَرِيءٌ مِنْ طَلَاقِك يَقَعُ رَجْعِيٌّ إذَا نَوَى، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مِنْ نِكَاحِك، قَالَهُ ابْنُ سَلَامٍ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ اُخْتُلِفَ فِي بَرِئْت مِنْ طَلَاقِك إذَا نَوَى، وَالْأَصَحُّ يَقَعُ رَجْعِيًّا، وَالْأَوْجَهُ عِنْدِي أَنْ يَقَعَ بَائِنًا لِأَنَّ حَقِيقَةَ تَبْرِئَتِهِ مِنْهُ تَسْتَلْزِمُ عَجْزَهُ عَنْ الْإِيقَاعِ وَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ الثَّلَاثِ أَوْ عَدَمِ الْإِيقَاعِ أَصْلًا وَبِذَلِكَ صَارَ كِنَايَةً، فَإِذَا أَرَادَ الْأَوَّلَ
وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ وَبَتَّةٌ وَبَتْلَةٌ وَحَرَامٌ وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ وَخَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ وَوَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ وَسَرَّحْتُك وَفَارَقْتُك وَأَمْرُك بِيَدِك وَاخْتَارِي وَأَنْتِ حُرَّةٌ وَتَقَنَّعِي وَتَخَمَّرِي وَاسْتَتِرِي وَاغْرُبِي وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي وَقُومِي وَابْتَغِي الْأَزْوَاجَ) لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ.
قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ) فَيَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ. قَالَ رضي الله عنه (سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَقَالَ: وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ إذَا كَانَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ)
وَقَعَ وَصُرِفَ إلَى إحْدَى الْبَيْنُونَتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي دُونَ الثَّلَاثِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: الطَّلَاقُ عَلَيْك يَقَعُ بِالنِّيَّةِ وَفِي وَهَبْتُك طَلَاقَك إذَا نَوَى يَقَعُ رَجْعِيًّا، وَكَذَا قَالُوا فِي بِعْتُك طَلَاقَك إذَا قَالَتْ: اشْتَرَيْت مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، ثُمَّ فِي الْهِبَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةً تَطْلُقُ فِي الْقَضَاءِ.
وَلَوْ قَالَ نَوَيْت أَنْ يَكُون فِي يَدِهَا لَا يُصَدَّقُ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَمَا نَوَى، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ طَلُقَتْ وَإِلَّا فَهِيَ زَوْجَتُهُ. هَذَا إذَا ابْتَدَأَ الزَّوْجُ، فَلَوْ ابْتَدَأَتْ فَقَالَتْ: هَبْ لِي طَلَاقِي تُرِيدُ أَعْرِضْ عَنْهُ فَقَالَ: وَهَبْت لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّهُ جَوَابُهَا فِيمَا طَلَبَتْ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ إذَا نَوَى لِأَنَّهُ لَوْ ابْتَدَأَ بِهِ وَنَوَى وَقَعَ، فَإِذَا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ قَصَدَ عَدَمَ الْجَوَابِ، وَأُخْرِجَ الْكَلَامُ ابْتِدَاءً وَلَهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَدْرَى بِنَفْسِهِ وَنِيَّتِهِ، وَيَقَعُ رَجْعِيًّا فِي خُذِي طَلَاقَك وَأَقْرَضْتُك وَكَذَا فِي قَدْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَك أَوْ قَضَاهُ أَوْ شِئْت يَقَعُ بِالنِّيَّةِ رَجْعِيًّا.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَبَتَّةٌ وَبَتْلَةٌ وَحَرَامٌ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَالْحَقِي بِأَهْلِك) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ (وَخَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ وَوَهَبْتُك لِأَهْلِك وَفَارَقْتُك وَأَمْرُك بِيَدِك وَاخْتَارِي وَأَنْتِ حُرَّةٌ) وَأَعْتَقْتُك مِثْلُ أَنْتِ حُرَّةٌ (تَقَنَّعِي وَتَخَمَّرِي وَاسْتَتِرِي وَاغْرُبِي) بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ (وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي وَقُومِي وَابْتَغِي الْأَزْوَاجَ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ) وَتَحْرِيرُ الْمُحْتَمَلَاتِ غَيْرُ خَافٍ، وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك تَمْثِيلٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالصُّورَةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أَشْيَاءَ وَهِيَ هَيْئَةُ النَّاقَةِ إذَا أُرِيدَ إطْلَاقُهَا لِلرَّعْيِ وَهِيَ ذَاتُ رَسَنٍ فَأَلْقَى الْحَبْلَ عَلَى غَارِبِهَا: وَهُوَ مَا بَيْنَ السَّنَامِ وَالْعُنُقِ كَيْ لَا تَتَعَقَّلَ بِهِ إذَا كَانَ مَطْرُوحًا، فَشَبَّهَ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ الْإِطْلَاقِيَّةِ إطْلَاقَ الْمَرْأَةِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ أَوْ الْعَمَلِ أَوْ التَّصَرُّفِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَصَارَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ لِتَعَدُّدِ صُوَرِ الْإِطْلَاقِ، وَفِي وَهَبْتُك لِأَهْلِك إذَا نَوَى يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ كَوْنُ وَهَبْتُك لِأَهْلِك مَجَازًا عَنْ رَدَدْتُك عَلَيْهِمْ فَيَصِيرُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولِهِمْ إيَّاهَا فِي ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِك مِثْلُهُ فِي صَيْرُورَتِهَا إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: وَهَبْتُك لِأَبِيك أَوْ لِابْنِك مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْأَجَانِبِ (فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ) أَيْ فِي الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ) وَهُوَ حَالُ سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ أَوْ سُؤَالِ أَجْنَبِيٍّ (فَيَقَعُ فِي الْقَضَاءِ) وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت غَيْرَ الطَّلَاقِ (وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ) وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا اخْتَارِي لِمَا نَذْكُرُ وَأَمْرُك بِيَدِك.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (سِوَى) أَيْ الْقُدُورِيِّ (بَيَّنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَقَالَ: لَا يُصَدَّقُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فِي الْقَضَاءِ) إذَا قَالَ: نَوَيْت غَيْرَ الطَّلَاقِ مِنْ الْمُحْتَمَلَاتِ، وَهَكَذَا فَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمَشَايِخُ
قَالُوا (وَهَذَا فِيمَا لَا يَصْلُحُ رَدَّا) وَالْجُمْلَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ: حَالَةٌ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الرِّضَا، وَحَالَةُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ.
وَالْكِنَايَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا، وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَا رَدَّا، وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَسَبًّا وَشَتِيمَةً. فَفِي حَالَةِ الرِّضَا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِ النِّيَّةِ لِمَا قُلْنَا، وَفِي حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا، وَلَا يَصْلُحُ رَدَّا فِي الْقَضَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ خَلِيَّةٌ بَرِيَّةٌ بَائِنٌ بَتَّةٌ حَرَامٌ اعْتَدِّي أَمْرُك بِيَدِك اخْتَارِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ الطَّلَاقُ عِنْدَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا مِثْلُ قَوْلِهِ: اذْهَبِي اُخْرُجِي قُومِي تَقَنَّعِي تَخَمَّرِي
كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ (قَالُوا وَهَذَا) أَيْ كَوْنُهُ لَا يُصَدَّقُ إذَا ادَّعَى نِيَّةً غَيْرَ الطَّلَاقِ بَعْدَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ إنَّمَا هُوَ (فِيمَا لَا يَصْلُحُ رَدًّا) أَمَّا مَا يَصْلُحُ لَهُ فَيُصَدَّقُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ.
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ تَقْسِيمًا ضَابِطًا فَقَالَ: الْأَحْوَالُ هُنَا ثَلَاثَةٌ: حَالَةٌ مُطْلَقَةٌ وَفَسَّرَهَا بِحَالَةِ الرِّضَا. وَحَالَةُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَهِيَ مَا قَدَّمْنَا. وَحَالَةُ الْغَضَبِ. وَالْكِنَايَاتُ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِطَلَبِهَا الطَّلَاقَ: أَيْ التَّطْلِيقَ وَيَصْلُحُ رَدًّا لَهُ. وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَلَا يَصْلُحُ رَدًّا لَهُ. وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَشَتْمًا. فَفِي حَالَةِ الرِّضَا يُصَدَّقُ فِي الْكُلِّ إذَا قَالَ لَمْ أُرِدْ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَا ظَاهِرَ يُكَذِّبُهُ، وَفِي حَالَةِ الْمُذَاكَرَةِ لِلطَّلَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَا رَدًّا كَخَلِيَّةٍ بَرِيَّةٍ بَائِنٍ بَتَّةٍ بَتْلَةٍ حَرَامٍ اعْتَدِّي اسْتَتِرِي اخْتَارِي أَمْرُك بِيَدِك، وَيُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ وَلِلرَّدِّ مِثْلُ اُخْرُجِي اذْهَبِي افْلَحِي، تَقُولُ الْعَرَبُ افْلَحْ عَنِّي: أَيْ اذْهَبْ عَنِّي، وَاغْرُبِي قُومِي تَقَنَّعِي، وَمُرَادِفُهَا كَاسْتَتِرِي وَتَخَمَّرِي، وَمَعْنَى الرَّدِّ فِي هَذِهِ: أَيْ اشْتَغِلِي بِالتَّقَنُّعِ الَّذِي هُوَ أَنْفَعُ لَك مِنْ الْقِنَاعِ وَكَذَا أَخَوَاهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ بِخُصُوصِهِ كَوْنُهُ مِنْ الْقَنَاعَةِ وَفِي حَالِ الْغَضَبِ يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا، وَمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَشَتِيمَةً لَا رَدًّا كَخَلِيَّةٍ بَرِيَّةٍ بَتَّةٍ بَتْلَةٍ حَرَامٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، إذْ يَحْتَمِلُ خَلِيَّةً مِنْ الْخَيْرِ بَرِيَّةً مِنْهُ بَتَّةً بَتْلَةً: أَيْ مَقْطُوعَةً عَنْهُ، وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ دُونَ الرَّدِّ وَالشَّتْمِ كَاعْتَدِّي اخْتَارِي أَمْرُك بِيَدِك اسْتَتِرِي.
وَعُرِفَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ اخْتَارِي أَمْرُك بِيَدِك لَا يَقَعُ بِهِمَا الطَّلَاقُ إلَّا بِإِيقَاعِهَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا هُمَا كِنَايَتَانِ عَنْ التَّفْوِيضِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْسِيمِ فِي الْأَحْوَالِ قِسْمَانِ: حَالَةُ الرِّضَا، وَحَالَةُ الْغَضَبِ. وَأَمَّا حَالَةُ الْمُذَاكَرَةِ فَتُصَدَّقُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا، بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ سُؤَالُهَا الطَّلَاقَ إلَّا فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، فَتَحْرِيرُ التَّقْرِيرِ أَنَّ
وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَهُوَ الْأَدْنَى فَحُمِلَ عَلَيْهِ.
وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ يُصَدَّقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ وَالسَّبِّ، إلَّا فِيمَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ وَلَا يَصْلُحُ لِلرَّدِّ وَالشَّتْمِ كَقَوْلِهِ: اعْتَدِّي وَاخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهَا لِأَنَّ الْغَضَبَ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك وَخَلَّيْتُ سَبِيلَك وَفَارَقْتُك، أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لِمَا فِيهَا مِنْ احْتِمَالِ مَعْنَى السَّبِّ.
فِي حَالَةِ الرِّضَا الْمُجَرَّدِ عَنْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ يُصَدَّقُ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الطَّلَاقَ، وَفِي حَالَةِ الرِّضَا الْمَسْئُولِ فِيهَا طَلَاقٌ يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ رَدًّا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ، وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ الْمُجَرَّدِ عَنْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ سَبًّا أَوْ رَدًّا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ إلَّا السَّبَّ أَوْ الرَّدَّ، وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا فَقَطْ، وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ الْمَسْئُولِ فِيهَا الطَّلَاقُ يَجْتَمِعُ فِي عَدَمِ تَصْدِيقِهِ فِي الْمُتَمَحِّضِ جَوَابًا سَبَبَانِ: الْمُذَاكَرَةُ وَالْغَضَبُ، وَكَذَا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِيمَا يَصْلُحُ رَدًّا لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُذَاكَرَةِ وَالْغَضَبِ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي دَعْوَى عَدَمِ إرَادَةِ الطَّلَاقِ.
وَفِيمَا يَصْلُحُ لِلسَّبَبِ يَنْفَرِدُ الْغَضَبُ بِإِثْبَاتِهِ فَلَا تَتَغَيَّرُ الْأَحْكَامُ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَوْلَى أَنْ تُعْرَفَ الْحَالُ الْمُطْلَقَةُ بِالْمُطْلَقَةِ عَنْ قَيْدِ الْغَضَبِ وَالْمُذَاكَرَةِ (قَوْلُهُ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ) أَلْحَقَ أَبُو يُوسُفَ بِاَلَّتِي تَحْتَمِلُ السَّبَّ أَلْفَاظًا أُخْرَى وَهِيَ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك خَلَّيْت سَبِيلَك فَارَقْتُك، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظِ ذَكَرَهَا الْوَلْوَالِجِيُّ، وَذَكَرَهَا الْعَتَّابِيُّ خَمْسَةً: لَا سَبِيلَ لَا مِلْكَ خَلَّيْت سَبِيلَك الْحَقِي بِأَهْلِك حَبْلُك عَلَى غَارِبِك.
وَفِي الْإِيضَاحِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ خَمْسَةً هِيَ هَذِهِ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ مَكَانَ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك فَارَقْتُك فَتَتِمُّ سِتَّةَ أَلْفَاظٍ.
وَوَجْهُ احْتِمَالِهَا السِّتَّ أَنْ لَا مِلْكَ لِي: يَعْنِي أَنْتِ أَقَلُّ مِنْ أَنْ تُنْسَبِي إلَيَّ بِالْمِلْكِ وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِزِيَادَةِ شَرِّك وَخَلَّيْت سَبِيلَك وَفَارَقْتُك وَالْحَقِي بِأَهْلِك وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك: أَيْ أَنْتِ مُسِيئَةٌ لَا يَشْتَغِلُ أَحَدٌ بِتَأْدِيبِك إذْ لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ بِمُمَارَسَتِك. وَفِي رِوَايَةِ جَامِعِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَلْحَقهَا بِالثَّلَاثِ الَّتِي لَا يَدِينُ فِيهَا فِي الْغَضَبِ كَمَا لَا يَدِينُ فِي الْمُذَاكَرَةِ، وَهِيَ اعْتَدِّي اخْتَارِي أَمْرُك بِيَدِك.
وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك تَقَنَّعِي اسْتَتِرِي اُخْرُجِي اذْهَبِي قُومِي تَزَوَّجِي لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْك يَدِينُ فِي الْغَضَبِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُذْكَرُ لِلْإِبْعَادِ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ يَبْعُدُ الْإِنْسَانُ عَنْ الزَّوْجَةِ فِيهِ، وَكَذَا فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا لِأَنَّ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك يَحْتَمِلُ عَلَيَّ طَلَاقُك وَهُوَ يُذْكَرُ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الطَّلَاقِ وَانْطَلِقِي وَانْتَقِلِي كَالْحَقِي وَلَا رِوَايَةَ فِي أَعَرْتُك طَلَاقَك ظَاهِرَةٌ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَقَعُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَفِي النَّوَازِلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ الطَّلَاقُ فِي يَدِهَا لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الطَّلَاقِ وَمَنْفَعَةُ الطَّلَاقِ التَّطْلِيقُ إنْ شَاءَتْ كَمَا كَانَ لِلزَّوْجِ، وَلَوْ قَالَ: طَلَاقُك عَلَيَّ لَا يَقَعُ أَصْلًا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ قَالَ: وَهَبْتُك لِأَبِيك أَوْ لِابْنِك أَوْ لِلْأَزْوَاجِ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُرَدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالطَّلَاقِ عَادَةً، وَلَوْ قَالَ: لِأُخْتِك أَوْ خَالَتِك أَوْ عَمَّتِك أَوْ لِفُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَإِنْ نَوَى لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ بِالطَّلَاقِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ زَادَ عَلَى اذْهَبِي فَقَالَ: اذْهَبِي فَبِيعِي ثَوْبَك لَا يَقَعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اذْهَبِي يُعْمِلُ فِيهِ نِيَّةَ الطَّلَاقِ وَيَبْقَى الزَّائِدُ مَشُورَةً فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الطَّلَاقِ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَاهُ عَادَةً لِأَجْلِ الْبَيْعِ فَكَانَ صَرِيحُهُ خِلَافَ الْمَنْوِيِّ. وَمِنْ الْكِنَايَاتِ تَنَحَّيْ عَنِّي. وَاخْتُلِفَ فِي لَمْ يَبْقَ بَيْنِي وَبَيْنَك عَمَلٌ، قِيلَ يَقَعُ إذَا نَوَى وَقِيلَ لَا، وَمِثْلُهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنِي وَبَيْنَك شَيْءٌ.
وَفِي أَرْبَعَةِ طُرُقٍ عَلَيْك مَفْتُوحَةٌ لَا يَقَعُ بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ خُذِي أَيُّهَا شِئْت، ثُمَّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةِ أَسَدٍ يَقَعُ ثَلَاثًا، وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: أَخَافُ أَنْ يَقَعَ ثَلَاثًا لِمَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ مُرَادَ النَّاسِ بِمِثْلِهِ اُسْلُكِي الطُّرُقَ الْأَرْبَعَةَ وَإِلَّا فَاللَّفْظُ إنَّمَا يُعْطِي الْأَمْرَ بِسُلُوكِ أَحَدِهَا.
وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَقَعَ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَمِنْهَا نَجَوْت مِنِّي.
وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي وَهَبْتُك طَلَاقَك: لَا يَقَعُ، وَقِيلَ يَقَعُ، وَلَا يَقَعُ فِي أَبَحْتُك طَلَاقَك وَإِنْ نَوَى أَوْ صَفَحْت عَنْهُ وَلَا بِأَحْبَبْتُ طَلَاقَك أَوْ رَضِيتُهُ أَوْ هَوَيْته أَوْ أَرَدْته وَإِنْ نَوَى، وَأَمَّا طَالِ بِلَا قَافٍ فَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ الْوُقُوعَ بِهِ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ مَعَ إسْكَانِ اللَّامِ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَمَعَ كَسْرِهَا يَقَعُ بِلَا نِيَّةٍ وَالْوَجْهُ إطْلَاقُ التَّوَقُّفِ عَلَى النِّيَّةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ بِلَا قَافٍ لَيْسَ صَرِيحًا لِعَدَمِ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا التَّرْخِيمُ لُغَةً جَائِزٌ فِي غَيْرِ النِّدَاءِ فَانْتَفَى لُغَةً وَعُرْفًا فَيُصَدَّقُ قَضَاءً مَعَ الْيَمِينِ، هَذَا فِي حَالَةِ الرِّضَا وَعَدَمِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ، أَمَّا فِي أَحَدِهِمَا فَيَقَعُ قَضَاءً أَسْكَتَهَا أَوْ لَا، وَفِيهِ أَيْضًا النَّظَرُ الْمَذْكُورُ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ بِلَا لَفْظٍ لَهُ وَلَا لِأَعَمَّ مِنْهُ لِيَكُونَ كِنَايَةً وَلَيْسَ بِمَجَازٍ فِيهِ، وَهَذَا الْبَحْثُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَإِنْ نَوَى، وَمِثْلُ هَذَا الْبَحْثِ يَجْرِي فِي التَّطْلِيقِ بِالتَّهَجِّي كَأَنْتَ ط ال ق لِأَنَّهُ لَيْسَ طَلَاقًا وَلَا كِنَايَةً لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا يَحْتَمِلُ أَشْيَاءَ، وَأَوْضَاعُ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ هِيَ حُرُوفٌ، وَلِذَا لَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ تَهَجِّيًا لَا يَجِبُ السُّجُودُ لِأَنَّهُ لَيْسَ قُرْآنًا، وَلَا مَخْلَصَ إلَّا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الصَّرِيحِ وَالِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِكَوْنِ اللَّفْظِ دَالًّا عَلَيْهِ وَضْعًا أَوْ عُرْفًا وَحِينَئِذٍ يَقَعُ بِالتَّهَجِّي فِي الْقَضَاءِ، وَلَوْ ادَّعَى عَدَمَ النِّيَّةِ، وَكَذَا بِطَالِ بِلَا قَافٍ، وَفِي قَوْلِهِ لِآخَرَ: احْمِلْ إلَيْهَا طَلَاقَهَا أَوْ أَخْبِرْهَا بِهِ أَوْ بَشِّرْهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْمَحْمُولِ، وَمِنْهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيِّتَةِ أَوْ الْخَمْرِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ يَقَعُ بِالنِّيَّةِ.
وَفِي الْكَافِي لِلشَّهِيدِ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ عَمَّتِي أَوْ خَالَتِي أَوْ مَحْرَمٌ مِنْ الرَّضَاعِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِأَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَصَرَّ عَلَيْهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ قَالَ مَزَحْت أَوْ كَذَبْت أَوْ وَهِمْت أَوْ نَسِيت صُدِّقَ وَلَا يُفَرَّقُ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُفَرَّقَ مُطْلَقًا وَلَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالتَّحْرِيمِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا إيجَابُ تَحْرِيمٍ فَلَا يَقَعُ إلَّا بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ بِنْتِي مِنْ نَسَبٍ وَثَبَتَ عَلَيْهِ وَلَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَمْ يُفَرَّقْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ، وَكَذَا فِي هِيَ أَمِّي وَلَهُ أُمٌّ مَعْرُوفَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ وَمِثْلُهَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ فُرِّقَ وَكَذَا هِيَ أُخْتِي.
وَاخْتُلِفَ فِي لَسْت لِي بِامْرَأَةٍ وَمَا أَنَا لَك بِزَوْجٍ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا لَا لِأَنَّ نَفْيَ النِّكَاحِ لَيْسَ طَلَاقًا بَلْ كَذِبٌ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَمْ أَتَزَوَّجْك أَوْ وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي امْرَأَةٌ، أَوْ لَوْ سُئِلَ هَلْ لَك امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: لَا وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ كَذَا هُنَا.
وَلَهُ أَنَّهَا تَحْتَمِلُهُ: أَيْ لَسْت لِي بِامْرَأَةٍ لِأَنِّي طَلَّقْتُك فَيَصِحُّ نَفْيُهُ كَمَا فِي لَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَك وَمَسْأَلَةُ الْحَلِفِ مَمْنُوعَةٌ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ بِدَلَالَةِ الْيَمِينِ عَلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّفْيَ عَنْ الْمَاضِي لَا فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْحَلِفَ يَكُونُ فِيمَا يَدْخُلُهُ الشَّكُّ لَا فِي إنْشَاءِ النَّفْيِ فِي الْحَالِ.
وَقَوْلُهُ: لَمْ أَتَزَوَّجْك
ثُمَّ وُقُوعُ الْبَائِنِ بِمَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَذْهَبُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ بِهَا رَجْعِيٌّ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا طَلَاقٌ،
جُحُودٌ لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إذْ الطَّلَاقُ لَا يُتَصَوَّرُ بِلَا نِكَاحٍ، وَكَذَا بِدَلَالَةِ السُّؤَالِ عُرِفَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّفْيَ فِي الْمَاضِي. وَفِي فَتَاوَى صَاحِبِ النَّاقِعِ: إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا لَسْت لِي بِزَوْجٍ فَقَالَ صَدَقْت يَنْوِي طَلَاقَهَا يَقَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: لَسْت أَوْ مَا أَنْتِ امْرَأَتِي أَوْ لَسْت أَوْ مَا أَنَا زَوْجُك عِنْدَهُ يَقَعُ بِالنِّيَّةِ وَأَلْغَيَاهُ، وَيَتَّصِلُ بِالْكِنَايَاتِ الطَّلَاقُ بِالْكِتَابَةِ لَوْ كَتَبَ طَلَاقًا أَوْ عَتَاقًا عَلَى مَا لَا يَسْتَبِينُ فِيهِ الْخَطُّ كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ لَا يَقَعُ نَوَى بِهِ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَكَذَا إذَا كَتَبَ عَلَى لَوْحٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ فِي كِتَابٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَبِينُ لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْكِتَابَةِ كَصَوْتٍ لَا يَسْتَبِينُ مِنْهُ حُرُوفٌ، فَلَوْ وَقَعَ وَقَعَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَبِينًا لَكِنْ لَا عَلَى رَسْمِ الرِّسَالَةِ وَالْخِطَابِ فَإِنَّهُ يَنْوِي فِيهِ، كَالْكَلَامِ الْمُكَنَّى لَا يَقَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْتُبُ مِثْلَهُ لِلْإِيقَاعِ وَقَدْ يَكْتُبُ مِثْلَهُ لِتَجْرِبَةِ الْخَطِّ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا يُبَيِّنُ نِيَّتَهُ بِلِسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ يُبَيِّنُ نِيَّتَهُ بِكِتَابَتِهِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ خِطَابًا أَوْ رِسَالَةً، فَإِنْ كَانَ عَلَى رَسْمِ كَتْبِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ حُرٌّ أَوْ إذَا وَصَلَ إلَيْك كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: نَوَيْت مِنْ وَثَاقٍ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، ثُمَّ يَقَعُ عَقِيبَ الْكِتَابَةِ إذَا لَمْ يُعَلِّقْهُ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ فُلَانَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ إذَا وَصَلَ إلَيْك فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِدُونِ الْوُصُولِ إلَيْهَا، وَقَالُوا فِيمَنْ كَتَبَ كِتَابًا عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَفِيهِ إذَا وَصَلَ إلَيْك كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَمَحَا ذِكْرَ الطَّلَاقِ مِنْهُ.
وَأَنْفَذَهُ وَأَسْطُرُهُ بَاقِيَةٌ وَقَعَ إذَا وَصَلَ، وَلَوْ مَحَاهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ كَلَامٌ يَكُونُ رِسَالَةً لَمْ يَقَعُ، وَإِنْ وَصَلَ لِعَدَمِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَمَا وَقَعَ فِي تَفْصِيلِ بَعْضِهِمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا مَحَا مَا سِوَى كِتَابَةِ الطَّلَاقِ وَأَنْفَذَهُ فَوَصَلَ إلَيْهَا لَا يَقَعُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ لَا تَكُونُ كِتَابًا، وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ مَحَا أَكْثَرَ مَا قَبْلَهُ فَأَرْسَلَهُ لَا يَقَعُ أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ إذْ مُقْتَضَاهُ انْتِفَاءُ الْكِتَابِ بِانْتِفَاءِ ذِكْرِ كَثْرَةِ الْحَوَائِجِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. .
وَلَوْ كَتَبَ الصَّحِيحَ إلَى امْرَأَتِهِ بِطَلَاقِهَا ثُمَّ أَنْكَرَ الْكِتَابَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَتَبَهُ بِيَدِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَلَوْ كَتَبَ إلَيْهَا: أَمَّا بَعْدُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إنْ كَانَ مَوْصُولًا بِكِتَابَتِهِ لَا تَطْلُقُ، وَإِنْ كَتَبَ الطَّلَاقَ ثُمَّ فَتَرَ فَتْرَةً ثُمَّ كَتَبَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ إلَى الْغَائِبِ كَالْمَلْفُوظِ، كَذَا فِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لِلْخَاصِّيِّ وَالْخُلَاصَةِ.
وَفِيهَا مَعْزُوًّا إلَى الْمُنْتَقَى: إذَا كَتَبَ كِتَابَ الطَّلَاقِ ثُمَّ نَسَخَهُ فِي كِتَابٍ آخَرَ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ حِينَ كَتَبَ وَلَمْ يُمِلَّ هُوَ فَأَتَاهَا الْكِتَابَانِ طَلُقَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ قَضَاءً، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى تَقَعُ وَاحِدَةٌ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا لَوْ وَصَلَ أَحَدُهُمَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ قَضَاءً وَدِيَانَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِوُصُولِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ يَقَعُ ثِنْتَانِ قَضَاءً لَا دِيَانَةً إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ طَلَاقًا آخَرَ، وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ نَحْوُهُ إنْ كَانَ يَكْتُبُ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَنْ يَسْأَلَ بِكِتَابٍ فَيُجِيبُ بِكِتَابَةٍ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَكْتُبُ وَلَهُ إشَارَةٌ مَعْلُومَةٌ يُعْرَفُ بِهَا طَلَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَبَيْعُهُ فَهِيَ كَالْكَلَامِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ ذَلِكَ أَوْ شَكَكْنَا فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَحْكَامَ الْأَخْرَسِ فِي هَذِهِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ وُقُوعُ الْبَائِنِ بِمَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَذْهَبُنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ بِهَا رَجْعِيٌّ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا طَلَاقٌ) وَالطَّلَاقُ بِلَا مَالٍ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ
لِأَنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ وَيُنْتَقَصُ بِهِ الْعَدَدُ، وَالطَّلَاقُ مُعْقِبٌ لِلرَّجْعَةِ كَالصَّرِيحِ.
وَلَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِبَانَةِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْوِلَايَةِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى إثْبَاتِهَا كَيْ لَا يَنْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ التَّدَارُكِ وَلَا يَقَعُ فِي عُهْدَتِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ،
بِالنَّصِّ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنْهُ حَتَّى أُرِيدَ هُوَ بِهَا لِيَدْفَعَ بِأَنَّ كَوْنَهَا كِنَايَاتٍ مَجَازٌ بَلْ عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا كَمَا سَنَذْكُرُ بَلْ يَكْتَفِي بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَ طَلَاقٌ وَالثَّانِي بِالنَّصِّ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّصُّ إنَّمَا أَفَادَ الرَّجْعَةَ بِالطَّلَاقِ الصَّرِيحِ مَنَعْنَاهُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الْمُعَقَّبَ بِقَوْلِهِ {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أَعَمُّ مِنْ الطَّلَاقِ الصَّرِيحِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى مَعْنَى اللَّفْظِ لَا إلَى اللَّفْظِ، غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ بِالنَّصِّ الْمُقَارَنِ لَهَا أَعْنِي نَصَّ الِافْتِدَاءِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الِافْتِدَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْبَيْنُونَةِ وَإِلَّا يَذْهَبُ مَالُهَا وَلَا يُفِيدُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكِتَابَ يُفِيدُ أَنَّ الطَّلَاقَ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ إلَّا مَا كَانَ عَلَى مَالٍ أَوْ ثَلَاثًا. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِبَانَةِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ مَنْعَ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ شَرْعًا أَثْبَتَهَا بِقَوْلِهِ: الْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى إثْبَاتِ الْإِبَانَةِ كَيْ لَا يَنْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ التَّدَارُكِ وَلَا يَقَعَ فِي عُهْدَتِهَا بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَقَرَّرَ بِأَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْعِبَادِ، وَالزَّوْجُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ثَابِتَةً دَفْعًا لِحَاجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَبَانَهَا بِالثَّلَاثِ عَصَى، وَلَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا رُبَّمَا تَتَرَاءَى لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي الرَّجْعَةِ فَيُرَاجِعُهَا فَيَبْدُو لَهُ فَيُطَلِّقُهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ وَهُوَ حَرَامٌ وَفِيهِ يَنْسَدُّ بَابُ التَّدَارُكِ، فَشَرَعَ لَهُ الْإِبَانَةَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكَ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ حَتَّى لَوْ بَدَا لَهُ أَمْكَنَهُ التَّزَوُّجَ وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ عَنْ اللَّفْظِ.
وَالْأَوْجَهُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ هَكَذَا قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثُ بِكَلِمَةٍ " حَرَامٌ " وَتَفْرِيقُهَا عَلَى مَا ذُكِرَ كَذَلِكَ فَلَزِمَ أَنْ تُشْرَعَ لَهُ الْإِبَانَةُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ يَعْنِي شَرْعَ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ. وَالْأَقْرَبُ إلَى اللَّفْظِ مَا قِيلَ: إنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ كَيْ لَا يَقَعَ فِي الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ بِأَنْ تَفْجَأَهُ الْمَرْأَةُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَتُقَبِّلَهُ بِشَهْوَةٍ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا فَيَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ ثَانٍ وَثَالِثٍ فَيَنْسَدُّ بَابُ التَّدَارُكِ، فَهُوَ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ تُشْرَعَ لَهُ الْإِبَانَةُ كَذَلِكَ كَيْ لَا تَفُوتَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ.
وَدَفَعَ بِأَنَّ هَذِهِ مَصْلَحَةٌ، وَثُبُوتُ التَّمَكُّنِ مِنْ إعَادَتِهَا إذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ طَلَبُهَا وَتَغَيَّرَ رَأْيُهُ مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَحَلُّ التَّغَيُّرِ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى أَكِيدَةٌ، إذْ كَثِيرًا مَا يَقَعُ ذَلِكَ بَلْ وُقُوعُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ أَكْثَرُ مِنْ وُقُوعِ طَلَاقٍ لَمْ تَدْعُ النَّفْسُ بَعْدَهُ إلَى مُرَاجَعَةٍ، وَمَعَ الْإِبَانَةِ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ فَيَحْصُلَ لَهُ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَهَذِهِ لَا تَتَرَتَّبُ إلَّا عَلَى عَدَمِ الْإِبَانَةِ فَاقْتَضَتْ عَدَمَ شَرْعِيَّتِهَا، بِخِلَافِ تِلْكَ إذْ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا مَعَ عَدَمِ شَرْعِيَّةِ الْإِبَانَةِ بِيَسِيرٍ مِنْ الِاحْتِرَاسِ مِنْ فَجْأَتِهَا مُقَبِّلَةً وَنَحْوِهِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ مَنْعِ الْإِبَانَةِ أَجْلَبَ لِلْمَصْلَحَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيتِ الْمَصْلَحَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ أَرَدْت تَخْصِيصَ نَصِّ إعْقَابِ الطَّلَاقِ الرَّجْعَةَ بِالْقِيَاسِ بَعْدَ تَخْصِيصِهِ بِالِافْتِدَاءِ نَصًّا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْقِيَاسِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بِالنَّصِّ جَائِزٌ لَمْ يَتِمَّ الْمَعْنَى فِيهِ وَلَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْخَلَاصِ بِالْإِبَانَةِ لَيْسَ كَحَاجَةِ الْمَرْأَةِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْإِبَانَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْقِبُ النَّدَمَ لِتَرْكِهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ أَوْ تَفْرِيقُ الثَّلَاثِ عَلَى الْأَطْهَارِ بِخِلَافِهَا فَلَمْ يَتَوَقَّفْ دَفْعُ حَاجَتِهِ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَلِذَا رَجَّحْنَا كَرَاهَةَ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ بَعْدَمَا حَقَّقْنَا سَبَبَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الْإِبَانَةِ مِنْ الْفِطَامِ.
هَذَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ أَعْنِي عَدَمَ انْسِدَادِ بَابِ التَّدَارُكِ وَبَابِ الرَّجْعَةِ إذَا تَغَيَّرَ رَأْيُهُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ لَا جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ. وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا أَثْبَتَ الشَّرْعُ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَقَدْ أَثْبَتَ الْإِبَانَةَ لِأَنَّهَا مَعْنَاهَا، وَقَوْلُهُ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ أَيْ الْمَسْنُونُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِ الثَّلَاثَةِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ خُصُوصًا عِنْدَهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَأَيْضًا لَفْظُ بَائِنٍ مَثَلًا يَقَعُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ الْغَلِيظَةُ بِفَمٍ وَاحِدٍ فَتَقَعُ بِهِ الْخَفِيفَةُ كَالطَّلَاقِ لَمَّا وَقَعَ بِالْغَلِيظَةِ وَقَعَ بِهِ الْخَفِيفَةُ.
وَأَيْضًا خَصَّ مِنْهُ الطَّلَاقَ بِمَالٍ فَلَمْ يَبْقَ الْعُمُومُ مِنْهُ مُرَادًا فَحَاصِلُهُ الطَّلَاقُ الْمَسْنُونُ بِلَا مَالٍ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ فَقَدْ أَخْرَجَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَحِينَ ثَبَتَ شَرْعُ الْإِيقَاعِ بِلَفْظِ بَائِنَةٍ ثَبَتَ أَيْضًا إخْرَاجُ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ بِلَا مَالٍ لِأَنَّ شَرْعَ الْإِيقَاعِ بِهِ هُوَ جَعْلُ اللَّفْظِ سَبَبًا لِوُجُوبِ مَعْنَاهُ وَمَعْنَاهُ الْبَيْنُونَةُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى إيقَاعِ الثَّلَاثِ شَرْعًا بِهِ تَحْلِيفُهُ صلى الله عليه وسلم أَبَا رُكَانَةَ حِينَ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ إلَّا وَاحِدَةً، وَشَرَحَ قَوْلَهُ وَلَيْسَتْ كِنَايَاتٍ عَلَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا عَوَامِلُ فِي حَقَائِقِهَا: يَعْنِي لَا تَرَدُّدَ فِي الْمُرَادِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَعْنَى بَائِنٍ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاتِّصَالِ مُرَادٌ، وَكَذَا الْبَتُّ وَالْبَتْلُ: الْقَطْعُ، وَالتَّرَدُّدُ إنَّمَا هُوَ فِي مُتَعَلِّقِهَا: أَعْنِي الْوَصْلَةَ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ وَصْلَةِ النِّكَاحِ وَالْخَيْرَاتِ وَالشَّرِّ، فَإِذَا تَعَيَّنَ بِالنِّيَّةِ عُمِلَ
وَلَيْسَتْ كِنَايَاتٍ عَلَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا عَوَامِلُ فِي حَقَائِقِهَا، وَالشَّرْطُ تَعْيِينُ أَحَدِ نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ دُونَ الطَّلَاقِ، وَانْتِقَاصُ الْعَدَدِ لِثُبُوتِ الطَّلَاقِ بِنَاءً عَلَى زَوَالِ الْوَصْلَةِ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهَا لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ،
بِحَقِيقَتِهِ، وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَامِ وَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ مَعْلُومٌ وَالتَّرَدُّدُ فِي كَوْنِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْمُرَادَ بِالنِّيَّةِ عَمِلَ اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ كِنَايَةٌ مَجَازًا لِلتَّرَدُّدِ فِي ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقِ الَّذِي بِهِ يَتَعَيَّنُ الْفَرْدُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللَّفْظُ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكِنَايَةِ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تُسَاوِي الْمَجَازَ بَلْ قَدْ تَكُونُ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا بِتَعَدُّدِ الْمَعْنَى وَقَدْ تَكُونُ حَقِيقَةً فِيهَا، وَقَدْ حُقِّقَ فِي نَحْوِ: طَوِيلُ النِّجَادِ وَكَثِيرُ الرَّمَادِ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةً طُولُ النِّجَادِ وَكَثْرَةُ الرَّمَادِ، لَكِنْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ بَلْ لِيَعْبُرَ مِنْهُ إلَى طُولِ الْقَامَةِ وَكَثْرَةِ الْأَضْيَافِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: كَوْنُهَا كِنَايَةً لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا مَجَازًا عَنْ الطَّلَاقِ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَكَّكِ، فَالْقَطْعُ الْمُتَعَلِّقُ بِالنِّكَاحِ فَرْدٌ مِنْ نَوْعٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَهُ احْتَمَلَ كَمَا يَحْتَمِلُ رَجُلٌ كُلًّا مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَغَيْرَهُمَا.
وَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّهَا عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا أَوْ بِحَقِيقَةِ مَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ نَحْوَ: حَبْلُك عَلَى غَارِبِك مَجَازٌ عَنْ التَّخْلِيَةِ وَالتَّرْكِ وَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ، وَكَذَا وَهَبْتُك لِأَهْلِك لِتَعَذُّرِ حَقِيقَةِ الْهِبَةِ: أَعْنِي التَّمْلِيكَ فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ رَدَدْتُك عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقِيَاسُ الْبَاقِي سَهْلٌ، وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَا الطَّلَاقُ بَلْ الْبَيْنُونَةُ لِأَنَّهَا هِيَ مَعْنَى اللَّفْظِ الدَّائِرِ فِي الْإِفْرَادِ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى غَلِيظَةٍ وَهِيَ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الثَّلَاثِ، وَخَفِيفَةٍ كَالْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْخُلْعِ فَأَيُّهُمَا أَرَادَ صَحَّ، وَيَثْبُتُ مَا يَثْبُتُ بِلَفْظِ طَالِقٍ عَلَى مَالٍ وَطَالِقٍ ثَلَاثًا.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ عِنْدَ طَالِقٍ شَرْعًا لَازِمٌ أَعَمُّ يَثْبُتُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ
وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ الْأَدْنَى، وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الِاثْنَتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ عَدَدٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي وَقَالَ: نَوَيْت بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالْبَاقِي حَيْضًا دِينَ فِي الْقَضَاءِ) لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَلِأَنَّهُ يَأْمُرُ امْرَأَتَهُ فِي الْعَادَةِ بِالِاعْتِدَادِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ (وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ بِالْبَاقِي شَيْئًا فَهِيَ ثَلَاثٌ) لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْأُولَى الطَّلَاقَ صَارَ الْحَالُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَتَعَيَّنَ الْبَاقِيَانِ لِلطَّلَاقِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ النِّيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لَمْ أَنْوِ بِالْكُلِّ الطَّلَاقَ حَيْثُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا ظَاهِرَ يُكَذِّبُهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: نَوَيْت بِالثَّالِثَةِ الطَّلَاقَ دُونَ الْأُولَيَيْنِ حَيْثُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً لِأَنَّ الْحَالَ عِنْدَ الْأُولَيَيْنِ لَمْ تَكُنْ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ،
وَالْخُلْعِ، فَقَوْلُنَا: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ حِينَئِذٍ مَعْنَاهُ يَقَعُ لَازِمُ لَفْظِ الطَّلَاقِ شَرْعًا، وَانْتِقَاصُ عَدَدِهِ هُوَ بِتَعَدُّدِ وُقُوعِ ذَلِكَ اللَّازِمِ وَاسْتِكْمَالِهِ فِي ذَلِكَ وَبِإِرْسَالِ لَفْظِ الثَّلَاثِ، بَلْ مَعْنَى وَقَعَ الطَّلَاقُ وَقَعَ اللَّازِمُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَى لَفْظِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي فَاتِحَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ فَارْجِعْ إلَيْهَا، فَالْوَاقِعُ بِالْكِنَايَةِ هُوَ الطَّلَاقُ بِلَا تَأْوِيلٍ.
وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْوَاقِعَ الْبَيْنُونَةُ بِالْكِنَايَاتِ ثُمَّ يَنْتَقِصُ الْعَدَدُ بِنَاءً عَلَى زَوَالِ الْوَصْلَةِ. وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَيَنْتَقِصُ بِهِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ وَصْلَةِ النِّكَاحِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ لِتَحَقُّقِ زَوَالِهَا فِي الْفُسُوخِ مَعَ عَدَمِ الطَّلَاقِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ زَوَالَ الْوَصْلَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَعْقِبَ فِي غَيْرِ الْفَسْخِ النُّقْصَانَ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِالْكِنَايَةِ لَيْسَ فَسْخًا فَلَزِمَهُ نُقْصَانُ الْعَدَدِ (قَوْلُهُ: وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ) أَيْ بِالْكِنَايَاتِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي التَّطْلِيقِ بِالْمَصْدَرِ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَنْ يَنْوِيَ بِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ طَلَاقًا، أَوْ بِالْأُولَى طَلَاقًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالْأُولَى حَيْضًا لَا غَيْرُ، وَبِالْأُولَيَيْنِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ طَلَاقًا وَبِالْأُولَى حَيْضًا، وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا.
أَوْ يَنْوِيَ بِالثَّانِيَةِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالثَّانِيَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالْأُخْرَيَيْنِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالْأُولَيَيْنِ حَيْضًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ طَلَاقًا وَبِالثَّالِثَةِ حَيْضًا، أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ طَلَاقًا وَبِالثَّانِيَةِ حَيْضًا، أَوْ بِالْأُولَى
وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُصَدَّقُ الزَّوْجُ عَلَى نَفْيِ النِّيَّةِ إنَّمَا يُصَدَّقُ مَعَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ.
وَالثَّانِيَةِ حَيْضًا وَبِالثَّالِثَةِ طَلَاقًا أَوْ بِالْأُولَى وَالثَّالِثَةِ حَيْضًا وَالثَّانِيَةِ طَلَاقًا أَوْ بِالثَّانِيَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ وَفِي هَذِهِ الْأَحَدَ عَشَرَ تَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ أَوْ يَنْوِي بِكُلٍّ مِنْهَا حَيْضًا، أَوْ بِالثَّالِثَةِ طَلَاقًا لَا غَيْرُ أَوْ بِالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالثَّانِيَةِ طَلَاقًا، أَوْ بِالثَّالِثَةِ حَيْضًا لَا غَيْرُ، أَوْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ حَيْضًا، وَبِالْأُولَى طَلَاقًا أَوْ بِالْأُخْرَيَيْنِ حَيْضًا لَا غَيْرُ، وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ تَطْلُقُ وَاحِدَةً، أَوْ لَمْ يَنْوِ بِكُلٍّ مِنْهَا شَيْئًا فَلَا يَقَعُ فِي هَذَا الْوَجْهِ شَيْءٌ.
وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِوَاحِدَةٍ تَثْبُتُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ نِيَّةِ شَيْءٍ بِمَا بَعْدَهَا، وَيُصَدَّقُ فِي نِيَّةِ الْحَيْضِ لِظُهُورِ الْأَمْرِ بِاعْتِدَادِ الْحَيْضِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ، وَإِذَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ بِشَيْءٍ صَحَّ، وَكَذَا كُلُّ مَا قَبْلَ الْمَنْوِيِّ بِهَا، وَنِيَّةُ الْحَيْضِ بِوَاحِدَةٍ غَيْرِ مَسْبُوقَةٍ بِوَاحِدَةٍ مَنْوِيٍّ بِهَا الطَّلَاقُ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ، وَتَثْبُتُ بِهَا حَالَةُ الْمُذَاكَرَةِ فَيَجْرِي فِيهَا الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ لَهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِوَاحِدَةٍ أُرِيدَ بِهَا الطَّلَاقُ حَيْثُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ لِصِحَّةِ الِاعْتِدَادِ بَعْدَ الطَّلَاقِ.
وَلَا يَخْفَى التَّخْرِيجُ بَعْدَ هَذَا، وَأَنَّ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْخِطَابُ مَعَ مَنْ هِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، فَلَوْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَقَالَ: أَرَدْت بِالْأَوَّلِ طَلَاقًا وَبِالْبَاقِي تَرَبُّصًا بِالْأَشْهُرِ كَانَ حُكْمُهُ مِثْلَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت بِهِنَّ وَاحِدَةً فَهُوَ كَمَا قَالَ دِيَانَةً لِاحْتِمَالِ قَصْدِ التَّأْكِيدِ كَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لَا قَضَاءَ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَعَلِمْت أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالْقَاضِي لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا إذَا عَلِمَتْ مِنْهُ مَا ظَاهِرُهُ خِلَافُ مُدَّعَاهُ، وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى السُّؤَالِ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَدَّمُوهُ مِنْ أَنَّهَا حَالَ سُؤَالِهَا أَوْ سُؤَالِ أَجْنَبِيٍّ طَلَاقَهَا، بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْ حَالَةِ السُّؤَالِ لِلطَّلَاقِ وَمِنْ مُجَرَّدِ ابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُذَاكَرَةُ الَّتِي تَصِيرُ الْكِنَايَةُ مَعَهَا ظَاهِرَةً فِي الْإِيقَاعِ إنَّمَا هِيَ سُؤَالُ الطَّلَاقِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْكِنَايَةِ الصَّالِحَةِ لِلْإِيقَاعِ دُونَ الرَّدِّ عَقِيبَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ ظَاهِرٌ فِي قَصْدِ الْإِيقَاعِ بِهِ فَيَمْتَنِعُ قُبُولُ دَعْوَاهُ عَدَمَ إرَادَةِ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ الْمُذَاكَرَةِ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مَرَّةً، فَإِنَّ الْإِيقَاعَ مَرَّةً لَا يُوجِبُ ظُهُورَ الْإِيقَاعِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لَهُ ظَاهِرًا فِي الْإِيقَاعِ حَتَّى لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ إرَادَتِهِ بِالْكِنَايَةِ (قَوْلُهُ: وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُصَدَّقُ الزَّوْجُ فِي نَفْيِ النِّيَّةِ إنَّمَا يُصَدَّقُ مَعَ الْيَمِينِ إلَخْ) قَدَّمْنَا بَيَانَهُ وَنَقْلَهُ مِنْ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ وَلُزُومُ الْيَمِينِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ بَعْدَ ثُبُوتِ احْتِمَالِ نَفْيِهِ بِالْكِنَايَةِ فَيَضْعُفُ مُجَرَّدُ نَفْيِهِ فَيَقْوَى بِالْيَمِينِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ أَصْلُهُ حَدِيثُ تَحْلِيفِ رُكَانَةَ الْمُتَقَدِّمُ.
[فُرُوعٌ]
طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ: جَعَلْتهَا بَائِنَةً صَارَتْ بَائِنَةً، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَكُونُ إلَّا رَجْعِيَّةً. وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثَلَاثًا صَارَتْ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.
وَقَالَا: لَا تَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ ثَلَاثًا. وَلِمُحَمَّدٍ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ جَعْلَهُ الْوَاحِدَةَ الرَّجْعِيَّةَ بَائِنَةً تَغْيِيرٌ لِلْمَشْرُوعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ. قُلْنَا: يَمْلِكُ الْبَائِنَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا، لَكِنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى وَصْفِ ابْتِدَاءٍ اكْتِفَاءً بِأَصْلِ الطَّلَاق فَكَانَ رَجْعِيًّا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ، فَإِذَا أَبَانَهَا الْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ فَعَلَهَا ابْتِدَاءً كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ لَمَّا مَلَكَ الْبَيْعَ النَّافِذَ كَانَ مَالِكًا لِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وَمَلَكَ إلْحَاقَ وَصْفِهِ بِأَصْلِهِ كَتَنْفِيذِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّرِيحَ يَلْحَقُ الصَّرِيحَ وَالْبَائِنَ عِنْدَنَا، وَالْبَائِنُ يَلْحَقُ الصَّرِيحَ لَا الْبَائِنَ إلَّا إذَا كَانَ مُعَلَّقًا.
فَلَوْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْخُلْعِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَلَوْ قَالَ: بَائِنٌ لَمْ يَقَعْ اتِّفَاقًا، وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ بَائِنٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقٌ آخَرُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ.
أَمَّا كَوْنُ الصَّرِيحِ يَلْحَقُ الْبَائِنَ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} يَعْنِي الْخُلْعَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَهُوَ نَصٌّ عَلَى وُقُوعِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ الْخُلْعِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَهُنَا الْقَيْدُ الْحُكْمِيُّ بَاقٍ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا فَاتَ الِاسْتِمْتَاعُ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَحَلِّ كَالْحَيْضِ، وَلِهَذَا لَحِقَ الْبَائِنُ الصَّرِيحَ بَلْ أَوْلَى لِبَقَاءِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَمَّا عَدَمُ لُحُوقِ الْبَائِنِ فَلِإِمْكَانِ جَعْلِهِ خَبَرًا عَنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِهِ إنْشَاءً لِأَنَّهُ اقْتِضَاءٌ ضَرُورِيٌّ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ الْبَيْنُونَةَ الْغَلِيظَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ وَتَثْبُتَ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً فِي الْمَحَلِّ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ إخْبَارًا عَنْ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فَتُجْعَلُ إنْشَاءً ضَرُورَةً، وَلِهَذَا وَقَعَ الْبَائِنُ الْمُعَلَّقُ قَبْلَ تَنْجِيزِ الْبَيْنُونَةِ كَمَا مَثَّلْنَاهُ لِأَنَّهُ صَحَّ تَعْلِيقُهُ وَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ خَبَرًا حِينَ صَدَرَ.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ مِثْلَهُ لَازِمٌ فِي أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَلْحَقَ الصَّرِيحَ.
أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِأَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا. وَلَوْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ الْإِخْبَارَ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً. وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يَذْكُرْ أَنْتِ بَائِنٌ ثَانِيًا لِيُجْعَلَ خَبَرًا بَلْ الَّذِي وَقَعَ أَثَرُ التَّعْلِيقِ السَّابِقِ وَهُوَ زَوَالُ الْقَيْدِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ مَحَلٌّ فَيَقَعُ وَيَقَعُ الْمُعَلَّقُ بَعْدَ الْمُعَلَّقِ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ اسْتِدْلَالِهِمْ الَّذِي أَطْبَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْبَائِنِ الَّذِي لَا يَلْحَقُ مَا هُوَ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَيْسَ ظَاهِرًا فِي إنْشَاءِ الطَّلَاقِ، وَبِهِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّرِيحِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ بَائِنٌ، وَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مُقَابِلَ الصَّرِيحِ، وَلَا يُقَابِلُهُ الْبَائِنُ إلَّا إذَا كَانَ كِنَايَةً لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَعَمُّ مِنْ الْبَائِنِ لِأَنَّهُ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ بَائِنًا كَانَ الْوَاقِعُ بِهِ أَوْ رَجْعِيًّا، وَالْكِنَايَةُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ إلَّا بَائِنٌ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ نَقْلًا مِنْ الزِّيَادَاتِ: الَّذِي يَلْحَقُ الْبَائِنَ لَا يَكُونُ رَجْعِيًّا، وَالصَّرِيحُ يَلْحَقُ الْبَائِنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجْعِيًّا. وَقَوْلُهُ: الَّذِي يَلْحَقُ الْبَائِنَ لَا يَكُونُ رَجْعِيًّا لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ السَّابِقَةَ تَمْنَعُ الرَّجْعَةَ الَّتِي هِيَ حُكْمُ الصَّرِيحِ غَيْرِ الْمُقَيَّدِ بِإِبَانَةٍ. مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَبَانَهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ يَلْغُو بَائِنٌ هُوَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ تَصَوُّرِ الرَّجْعَةِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءً، وَمَا زَادَ فِي تَعْلِيلِ الْإِلْغَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَاوِي مِنْ قَوْلِهِ: يَلْغُو تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَعَلَى مُجَرَّدِ الْإِلْغَاءِ اقْتَصَرَ فِي الْخُلَاصَةِ وَمَحَلُّهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَعَلَى هَذَا فَمَا وَقَعَ فِي حَلَبَ مِنْ الْخِلَافِ فِي وَاقِعَةٍ، وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا أَبَانَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ الْحَقُّ فِيهِ أَنَّهُ يَلْحَقُهَا لِمَا سَمِعْت مِنْ أَنَّ الصَّرِيحَ وَإِنْ كَانَ بَائِنًا يَلْحَقُ الْبَائِنَ، وَمِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَائِنِ الَّذِي لَا يَلْحَقُ هُوَ مَا كَانَ كِنَايَةً عَلَى مَا يُوجِبُهُ الْوَجْهُ.
وَفِي الْحَقَائِقِ: لَوْ قَالَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إنْ فَعَلْتِ كَذَا فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا لِأَمْرٍ آخَرَ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا وَقَعَ طَلَاقٌ بَائِنٌ، ثُمَّ لَوْ فَعَلَ الْآخَرَ قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ آخَرُ، وَقَالَ: هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ.
[تَتِمَّةٌ]
فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ وَهُوَ مَجْمُوعُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي كُتُبِهِ، لَوْ شَهِدَا بِالطَّلَاقِ وَالزَّوْجَانِ مُتَصَادِقَانِ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُكَذِّبُهُمَا، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا وَنَسِيَاهَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا أَلْزَمْنَاهُ الْإِيقَاعَ عَلَى إحْدَاهُنَّ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ كَالْأَوَّلِ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى طَلْقَتَيْنِ وَآخَرُ بِثَلَاثٍ وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ عَلَى طَلْقَتَيْنِ، وَتَأْتِي هَذِهِ فِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ، وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدُ عَدْلٍ عَلَى الطَّلَاقِ فَسَأَلَتْ الْمَرْأَةُ الْقَاضِيَ أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ حَتَّى تَأْتِيَ بِالْآخَرِ لَا يَفْعَلُ وَيَدْفَعُهَا إلَى زَوْجِهَا، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَادَّعَتْ أَنَّ بَقِيَّةَ الشُّهُودِ بِالْمِصْرِ وَشَاهِدُهَا عَدْلٌ، فَإِنْ أَجَّلَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا حَتَّى يَنْظُرَ مَا تَصْنَعُ فِي شَاهِدِهَا الْآخَرِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ دَفَعَهَا لِلزَّوْجِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَأَنَّهَا دَخَلَتْ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا وَأَنَّهَا كَلَّمَتْهُ، وَكَذَا إنْ اخْتَلَفَا فِي أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ، وَكَذَا فِي مَقَادِيرِ الشُّرُوطِ الَّتِي عَلَّقَ عَلَيْهَا فِي التَّعْلِيقِ وَالْإِرْسَالِ وَمَقَادِيرِ الْأَجْعَالِ وَصِفَاتِهَا وَفِي اشْتِرَاطِهَا وَحَذْفِهَا.
وَإِذَا شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ دَخَلَتْ فُلَانَةُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَهَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ: وَحْدَهَا وَقَدْ دَخَلَتْ فَفُلَانَةُ تَطْلُقُ وَحْدَهَا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى تَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ وَآخَرُ عَلَى تَطْلِيقَةٍ رَجْعِيَّةٍ جَازَتْ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ، وَكَذَا إذَا شَهِدَ عَلَى تَطْلِيقَةٍ وَالْآخَرُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَوَاحِدَةٍ أَوْ عَلَى وَاحِدَةٍ وَالْآخَرُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ أَوْ وَاحِدَةٍ وَنِصْفٍ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهَا فِي الْعَطْفِ تَصِحُّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى اللَّفْظِ أَوْ مُرَادِفِهِ، بِخِلَافِ الْبَائِنِ فَلِذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى وَاحِدَةٍ وَالْآخَرُ عَلَى ثِنْتَيْنِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا لِأَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِثِنْتَيْنِ لَمْ يَتَكَلَّمُ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا بِمُرَادِفِهَا، وَسَيَأْتِي هَذَا الْأَصْلُ فِي بَابِ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ
وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ: فُلَانَةُ طَالِقٌ لَا بَلْ فُلَانَةُ، وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ سَمَّى الْأُولَى فَقَطْ جَازَتْ عَلَى الْأُولَى، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ: طَالِقٌ الطَّلَاقَ كُلَّهُ وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الطَّلَاقِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ: طَالِقٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ جَازَتْ، وَكَذَا إنْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ بِأَنْ شَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْكُوفَةِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لِتَيَقُّنِ كَذِبِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ فِي يَوْمَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْأَيَّامِ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ عَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَ زَيْنَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، وَلَوْ جَاءَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ فَقَضَى بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ الْأُخْرَى لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا، وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتَيْهِ: أَيَّتُكُمَا أَكَلَتْ هَذَا فَهِيَ طَالِقٌ فَجَاءَتْ كُلٌّ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا أَكَلَتْهُ تَطْلُقَانِ جَمِيعًا، وَإِنْ جَاءَتْ إحْدَاهُمَا بِبَيِّنَةٍ فَحُكِمَ بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ الْأُخْرَى لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتَا أَكَلَتَا لَمْ تَطْلُقَا.
بَابُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ
فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَارِ
(وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي يَنْوِي بِذَلِكَ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ، فَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا) لِأَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا الْمَجْلِسُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ،
(بَابُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ)
(فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَارِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الطَّلَاقِ بِوِلَايَةِ الْمُطَلِّقِ نَفْسِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِهِ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَتَحْتَ هَذَا الصِّنْفِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: التَّفْوِيضُ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ وَبِلَفْظِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَبِلَفْظِ الْمَشِيئَةِ (قَوْلُهُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي يَنْوِي بِذَلِكَ الطَّلَاقَ) يَعْنِي يَنْوِي تَخْيِيرَهَا فِيهِ (أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ) وَإِنْ طَالَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ بِالْأَعْمَالِ (فَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا؛ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يُخَيِّرُ زَوْجَتَهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَمْرُهَا بِيَدِهَا فَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا، رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ، وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ بِهِ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَفِي غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ نَصْرٍ وَبِهِ نَقُولُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ «قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ رضي الله عنها لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» وَحَكَى صَاحِبُ
وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْفِعْلِ مِنْهَا، وَالتَّمْلِيكَاتُ تَقْتَضِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ اُعْتُبِرَتْ سَاعَةً
الْمُغْنِي هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ فَاعْتَرَضَ عَلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ تَسْتَقِرَّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَلِذَا نَصَّ فِي بَلَاغَاتِ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ قَائِلٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَجْلِسِ قَالَ: بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ رضي الله عنهم فِي الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ، فَإِذَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا فَيَكُونُ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا مِنْ قَوْلِ الْمَذْكُورِينَ وَسُكُوتِ غَيْرِهِمْ، وَأَيْنَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ مِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُمْ الثَّانِيَ. وَقَوْلُهُ: فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ لَا يَضُرُّ بَعْدَ تَلَقِّي الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ، مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ جَيِّدَةٌ.
وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ " لَا تَعْجَلِي إلَخْ " فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ تَخْيِيرُهُ ذَلِكَ هَذَا التَّخْيِيرَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ وَهِيَ أَنْ تُوقِعَ بِنَفْسِهَا بَلْ عَلَى أَنَّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلَّقَهَا؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى الْآيَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّخْيِيرِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْفِعْلِ مِنْهَا وَالتَّمْلِيكَاتُ تَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ) أَوْ رَدَّ لَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَمْ يَبْقَ الزَّوْجُ مَالِكًا لِلطَّلَاقِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مَمْلُوكًا كُلِّهِ لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ، فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ التَّخْيِيرِ وَقَعَ.
وَأَيْضًا لَوْ صَارَتْ مَالِكَةً كَانَ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَا يَحْنَثُ. وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَائِبَةً عَنْهُ لَا مَالِكَةً. وَأَيْضًا يَصِحُّ عِنْدَنَا تَوْكِيلُ الْمَدْيُونِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى تَعْلِيلِ كَوْنِهِ تَمْلِيكًا بِأَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَالِكِ هُنَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ لِاخْتِيَارِهِ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُهَا
وَاحِدَةً، إلَّا أَنَّ الْمَجْلِسَ تَارَةً يَتَبَدَّلُ بِالذَّهَابِ عَنْهُ وَتَارَةً بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ، إذْ مَجْلِسُ الْأَكْلِ غَيْرُ مَجْلِسِ
إثْمٌ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ وَلَا خُلْفَ فِي عَدَمِ فِعْلِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ مُخْلِفٌ إنْ لَمْ يَفْعَلْ وَيُتَصَوَّرُ الْمِلْكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنَّ تَمْلِيكَ الْفِعْلِ هَكَذَا، وَلُزُومَ انْتِفَاءِ الْمِلْكِ بِالتَّمْلِيكِ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي مِلْكِ الْأَفْعَالِ لِلْقَطْعِ بِثُبُوتِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ كَمُلَا وَهُوَ الِاقْتِصَاصُ، وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ مَمْنُوعَةٌ، وَالْحِنْثُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالْمَنْعُ مَذْكُورٌ فِي الزِّيَادَاتِ لِصَاحِبِ الْمُحِيطِ، وَأَمَّا الْمَدْيُونُ فَوَكِيلٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَمَلُهُ فِي الْإِبْرَاءِ لِرَبِّ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِهِ، وَثَبَتَ أَثَرُ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ نَبْرِيهِ فِي تَطْلِيقِهَا نَفْسَهَا بِأَنْ يُقَالَ: هِيَ وَكِيلَةٌ فَهِيَ فِي نَفْسِ فِعْلِ الْإِيقَاعِ عَامِلَةٌ لَهُ، وَثُبُوتُ الْحَاصِلِ لَهَا ضِمْنًا، وَلَوْ الْتَزَمَ كَوْنَ الْمَدْيُونِ مُمَلَّكًا لَمْ يَصِحَّ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ لِأَنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ وَسَنَذْكُرُ مَا هُوَ الْأَوْجَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ التَّمْلِيكُ هُوَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْجَوَابَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ هُوَ تَطْلِيقُهَا نَفْسَهَا وَهُوَ بَعْدَ تَمَامِ التَّمْلِيكِ فَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَطْلُوبِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: إنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ يُخَالِفُ سَائِرَ التَّمْلِيكَاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَبْقَى إلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ إنْ كَانَتْ غَائِبَةً، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ بِخُصُوصِهِ لَا يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ الَّذِي يُتِمُّ بِهِ التَّمْلِيكَاتِ، وَلِكَوْنِهِ تَمْلِيكًا يَتِمُّ بِالْمُمَلِّكِ وَحْدَهُ بِلَا قَبُولٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ لَا لِكَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى التَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ يُمْكِنُ فِي سَائِرِ الْوَكَالَاتِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى إنْ بِعْته فَقَدْ أَجَزْته، وَالْوِلَايَاتُ لِتَضَمُّنِهَا إذَا حَكَمْت بَيْنَ مَنْ شِئْت فَقَدْ أَجَزْته فَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ الرُّجُوعُ وَالْعَزْلُ فِيهِمَا فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى لِابْتِنَائِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ إذَا كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ فِيهِ بِالْمُمَلِّكِ وَحْدَهُ لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُخَالِفُ سَائِرَ التَّمْلِيكَاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَبْقَى إلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، بَلْ بَقَاؤُهُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ الَّتِي يَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَهَا، وَإِنَّمَا خَالَفَهَا بِمَا ذَكَرْنَا وَبِاعْتِبَارِ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ، أَمَّا لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك مَتَى شِئْت فَهُوَ لَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا فَوَّضَ وَهِيَ غَائِبَةٌ اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ عِلْمِهَا، وَلَوْ قَالَ: جَعَلْت لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا الْيَوْمَ اُعْتُبِرَ مَجْلِسَ عِلْمِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَوْ مَضَى الْيَوْمُ ثُمَّ عَلِمَتْ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَكَذَا كُلُّ وَقْتٍ قُيِّدَ التَّفْوِيضُ بِهِ وَهِيَ غَائِبَةٌ وَلَمْ تَعْلَمْ حَتَّى انْقَضَى بَطَلَ خِيَارُهَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِتَطْلِيقِهَا نَفْسَهَا وَقَدْ عَلِمْت مَا هُوَ التَّحْقِيقُ (قَوْلُهُ: إذْ مَجْلِسُ إلَخْ) لَوْ كَانَا يَتَحَدَّثَانِ فَأَخَذَا
الْمُنَاظَرَةِ وَمَجْلِسُ الْقِتَالِ غَيْرُهُمَا.
وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ الِافْتِرَاقُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي نَفْسِهَا وَيَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي تَصَرُّفٍ آخَرَ غَيْرِهِ (فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي قَوْلِهِ اخْتَارِي كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً).
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهَذَا شَيْءٌ، وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا أَوْ يُفَارِقَهَا فَيَمْلِكُ إقَامَتَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ الْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا بِثُبُوتِ اخْتِصَاصِهَا بِهَا وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ (وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ
فِي الْأَكْلِ انْقَضَى مَجْلِسُ الْحَدِيثِ وَجَاءَ مَجْلِسُ الْأَكْلِ، فَلَوْ انْتَقَلَا إلَى الْمُنَاظَرَةِ انْقَضَى مَجْلِسُ الْأَكْلِ وَجَاءَ مَجْلِسُ الْمُنَاظَرَةِ، وَلَوْ خَيَّرَهَا فَلَبِسَتْ ثَوْبًا أَوْ شَرِبَتْ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِأَنَّ الْعَطَشَ قَدْ يَكُونُ شَدِيدًا يَمْنَعُ التَّأَمُّلَ، وَلِبْسُ الثَّوْبِ قَدْ يَكُونُ لِتَدْعُوَ شُهُودًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَتْ مَا لَيْسَ قَلِيلًا أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ أَقَامَهَا الزَّوْجُ قَسْرًا فَإِنَّهُ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لِظُهُورِ الْإِعْرَاضِ بِهِ.
وَوَجْهٌ بِأَنَّ فِي الْإِقَامَةِ أَنَّهَا يُمْكِنُهَا مُمَانَعَتُهُ فِي الْقِيَامِ أَوْ تُبَادِرُ الزَّوْجَ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَعَدَمُ ذَلِكَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ، وَكَذَا إذَا خَاضَتْ فِي كَلَامٍ آخَرَ، قَالَ تَعَالَى {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أَفَادَ أَنَّهُ إعْرَاضٌ عَنْ الْأَوَّلِ (قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ) أَيْ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ (اخْتَارِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي نَفْسِهَا) بِالْإِقَامَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَعَدَمِهِ (وَيَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي غَيْرِهِ) مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ، فَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَأَنْكَرَ قَصْدَ الطَّلَاقِ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، أَمَّا إذَا خَيَّرَهَا بَعْدَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، وَكَذَا إذَا كَانَا فِي غَضَبٍ أَوْ شَتِيمَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ (قَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهَا شَيْءٌ) لِأَنَّ التَّمْلِيكَ فَرْعُ مِلْكِ الْمُمَلَّكِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ، لَوْ قَالَ: اخْتَرْت نَفْسِي مِنْك أَوْ اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي نَاوِيًا لَا يَقَعُ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْوُقُوعَ بِاخْتِيَارِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ إلَخْ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ آخَرُ لِلِاسْتِحْسَانِ يُقَابِلُ الْقِيَاسَ وَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ بِخُصُوصِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي جَوَازَ إقَامَتِهَا مَقَامَهُ فِي الْفِرَاقِ وَلَا تَلَاقِيَ بَيْنَهُمَا، بَلْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ لِأَنَّ إقَامَتَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَهُوَ وَجْهُ الْقِيَاسِ
(قَوْلُهُ ثُمَّ الْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ) رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ ثَلَاثٌ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَفِي غَيْرِهَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْوَاحِدَةِ، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ الْوَاقِعَ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْغَايَتَيْنِ.
وَرَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّ الْكِتَابَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْهُ الطَّلَاقَ بِمَالٍ وَقَبْلَ الدُّخُولِ وَلَزِمَ إخْرَاجُ الطَّلَاقِ بِمَا دَلَّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ وَلَفْظُ اخْتَرْت نَفْسِي، بَلْ نَفْسُ تَخْيِيرِهَا يُفِيدُ مِلْكَهَا نَفْسَهَا إذَا اخْتَارَتْهَا لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الِاسْتِخْلَاصِ وَالصَّفَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمِلْكِ وَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ، وَإِلَّا لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ التَّخْيِيرِ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا بَائِنَةٌ كَمَا رُوِيَ عَنْهُمَا الرَّجْعِيَّةُ، فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُمَا. وَقَدْ تَرَجَّحَ بِمَا ذَكَرْنَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْخُلُوصَ وَالصَّفَاءَ، وَالْبَيْنُونَةُ تَثْبُتُ فِيهِ مُقْتَضًى فَلَا يَعُمُّ، بِخِلَافِ أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِهِ فَلَا يَقَعُ الثَّلَاثُ فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي وَإِنْ نَوَاهَا
نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَدْ تَتَنَوَّعُ.
قَالَ (وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي كَلَامِهِ أَوْ فِي كَلَامِهَا، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ: اخْتَرْت فَهُوَ بَاطِلٌ) لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ فِي الْمُفَسَّرَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ الْآخَرِ وَلَا تَعْيِينَ مَعَ الْإِبْهَامِ (وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ: اخْتَرْت تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّ كَلَامَهُ مُفَسَّرٌ، وَكَلَامُهَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ فَيَتَضَمَّنُ إعَادَتَهُ
بِخِلَافِ التَّفْوِيضِ بِقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك حَيْثُ تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ شَامِلٌ بِعُمُومِهِ لِمَعْنَى الشَّأْنِ لِلطَّلَاقِ فَكَانَ مِنْ أَفْرَادِهِ لَفْظًا وَالْمَصْدَرُ يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الْعُمُومِ.
وَقِيلَ الْفَرْقُ أَنَّ الْوُقُوعَ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَإِجْمَاعُهُمْ انْعَقَدَ عَلَى الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ: أَيْ بَائِنٌ وَنَحْوُهُ لِأَنَّ الْوُقُوعَ مُقْتَضَى نَفْسِ الْأَلْفَاظِ وَمُقْتَضَاهَا الْبَيْنُونَةُ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِانْتِفَاءِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ الْوَاقِعَ بِهِ ثَلَاثٌ قَوْلًا بِكَمَالِ الِاسْتِخْلَاصِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي كَلَامِهِ أَوْ كَلَامِهَا) يَعْنِي أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَالِاخْتِيَارَةِ وَالتَّطْلِيقَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَتْ: اخْتَرْت أَبِي وَأُمِّي أَوْ الْأَزْوَاجَ أَوْ أَهْلِي بَعْدَ قَوْلِهِ: اخْتَارِي يَقَعُ لِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ فِي الْأَزْوَاجِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا أَهْلِي لِأَنَّ الْكَوْنَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ اخْتَرْت أَهْلِي إنَّمَا يَكُونُ لِلْبَيْنُونَةِ وَعَدَمِ الْوَصْلَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَلِذَا تَطْلُقُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ: الْحَقِي بِأَهْلِك، بِخِلَافِ قَوْلِهَا: اخْتَرْت قَوْمِي أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَا يَقَعُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَهَا أَبٌ أَوْ أُمٌّ.
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَهَا أَخٌ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لِأَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ عَادَةً عِنْدَ الْبَيْنُونَةِ إذَا عَدِمَتْ الْوَالِدَيْنِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي كَلَامِهِ تَضَمَّنَ جَوَابُهَا إعَادَتَهُ كَأَنَّهَا قَالَتْ: فَعَلْت ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِهَا فَقَدْ وُجِدَ مَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْنُونَةِ فِي اللَّفْظِ الْعَامِلِ فِي الْإِيقَاعِ فَالْحَاجَةُ مَعَهُ لَيْسَ إلَّا إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ، فَإِذَا فُرِضَ وُجُودُهَا تَمَّتْ عِلَّةُ الْبَيْنُونَةِ فَتَثْبُتُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَذْكُرْ النَّفْسَ وَنَحْوَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يُفَسِّرُ الْمُبْهَمَ إذْ لَفْظُهُ حِينَئِذٍ مُبْهَمٌ، وَلِذَا كَانَ كِنَايَةً لِاحْتِمَالِ اخْتَارِي مَا شِئْت مِنْ مَالٍ أَوْ حَالٍ أَوْ مَسْكَنٍ وَغَيْرِهِ.
وَأَيْضًا الْإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُفَسَّرِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَالْإِيقَاعُ بِالِاخْتِيَارِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ فِيهِ، وَلَوْلَا هَذَا لَأَمْكَنَ الِاكْتِفَاءُ بِتَفْسِيرِ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ دُونَ الْمَقَالِيَّةِ بَعْدَ أَنْ نَوَى الزَّوْجُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ وَتَصَادَقَا عَلَيْهِ لَكِنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَوَقَعَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَعَ لَفْظٍ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَصْلًا كَاسْقِنِي، وَبِهَذَا يَبْطُلُ اكْتِفَاءُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِالنِّيَّةِ مَعَ الْقَرِينَةِ عَنْ ذِكْرِ النَّفْسِ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي لَا بَلْ زَوْجِي يَقَعُ، وَلَوْ قَدَّمَتْ زَوْجِي لَا يَقَعُ.
وَالْوَجْهُ عَدَمُ صِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي الْأَوَّلِ وَخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا فِي الثَّانِي، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي أَوْ زَوْجِي لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ عَطَفَتْ بِالْوَاوِ فَالِاعْتِبَارُ لِلْمُقَدَّمِ وَيَلْغُو
(وَكَذَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي اخْتِيَارَةً فَقَالَتْ: اخْتَرْت) لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الِاخْتِيَارَةِ تُنْبِئُ عَنْ الِاتِّحَادِ وَالِانْفِرَادِ، وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا هُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ مَرَّةً وَيَتَعَدَّدُ أُخْرَى فَصَارَ مُفَسَّرًا مِنْ جَانِبِهِ.
(وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا نَوَى الزَّوْجُ) لِأَنَّ كَلَامَهَا مُفَسَّرٌ، وَمَا نَوَاهُ الزَّوْجُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ (وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَقَالَتْ: أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي فَهِيَ طَالِقٌ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَطْلُقَ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ أَوْ يَحْتَمِلُهُ، فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي.
مَا بَعْدَهُ، وَلَوْ خَيَّرَهَا ثُمَّ جَعَلَ لَهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ تَخْتَارَهُ فَاخْتَارَتْهُ لَا يَقَعُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ إذْ هُوَ اعْتِيَاضٌ عَنْ تَرْكِ حَقِّ تَمَلُّكِ نَفْسِهَا فَهُوَ كَالِاعْتِيَاضِ عَنْ تَرْكِ حَقِّ الشُّفْعَةِ (قَوْلُهُ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: اخْتَارِي اخْتِيَارَةً إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ ذِكْرَهُ الِاخْتِيَارَةَ فِي كَلَامِهِ تَفْسِيرٌ مِنْ جَانِبِهِ كَذِكْرِهِ نَفْسَهَا، فَلَوْ لَمْ تَزِدْ هِيَ عَلَى اخْتَرْت وَقَعَتْ بَائِنَةً.
وَوَجْهُهُ بِأَنَّ الْهَاءَ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا هُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ مَرَّةً بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ وَيَتَعَدَّدُ أُخْرَى بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي أَوْ اخْتَارِي نَفْسَك بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ بِمَا شِئْت فَقَالَتْ: اخْتَرْت يَقَعُ الثَّلَاثُ، فَلَمَّا قَيَّدَ بِالْوَحْدَةِ ظَهَرَ أَنَّهُ أَرَادَ تَخْيِيرَهَا فِي الطَّلَاقِ فَكَانَ مُفَسَّرًا، فَإِلْزَامُ التَّنَاقُضِ بِأَنَّهُ أَثْبَتَ هُنَا إمْكَانَ تَعَدُّدِ الْوَاقِعِ وَلَوْ ثَلَاثًا وَنَفَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ مُنْدَفِعٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ مِمَّا ذَكَرْنَا كَوْنُ الِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ يَتَنَوَّعُ كَالْبَيْنُونَةِ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ حَتَّى يُصَابَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ لَفْظٍ آخَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُفَسَّرِ بِذِكْرِ النَّفْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بِقَوْلِهَا اخْتَرْت اخْتِيَارَةً أَوْ أَهْلِي وَنَحْوَهُ فَإِنَّ هَذِهِ لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهَا. قُلْنَا: عُرِفَ مِنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ اعْتِبَارُ مُفَسَّرٍ لَفْظًا مِنْ جَانِبٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فَيَنْتَفِي غَيْرُ الْمُفَسَّرِ، وَأَمَّا خُصُوصُ لَفْظِ الْمُفَسَّرِ فَمَعْلُومُ الْإِلْغَاءِ، وَاعْتِبَارُ الْمُفَسَّرِ أَعَمَّ مِنْهُ حَتَّى بِقَرِينَةٍ غَيْرِ لَفْظِيَّةٍ يُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُقُوعِ بِلَا لَفْظٍ صَالِحٍ، وَلَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ.
وَعَنْ عَلِيٍّ تَقَعُ رَجْعِيَّةً كَأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَ اللَّفْظِ إيقَاعًا، لَكِنَّ قَوْلَ «عَائِشَةَ رضي الله عنها خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَرْنَاهُ وَلَمْ يَعْدُدْهُ عَلَيْنَا شَيْئًا» رَوَاهُ السِّتَّةُ. وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ " فَلَمْ يَعْدُدْ " يُفِيدُ عَدَمَ وُقُوعِ شَيْءٍ.
(قَوْلُهُ: فَقَالَتْ أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي) الْمَقْصُودُ أَنَّهَا ذَكَرَتْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ كَأَخْتَارُ نَفْسِي سَوَاءٌ ذَكَرَتْ " أَنَا " أَوْ لَا، فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ وَعْدٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَإِنَّهَا قَالَتْ لَا بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» اعْتَبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَوَابًا مِنْهَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَتَجُوزُ فِي الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَأَدَاءِ الشَّاهِدِ الشَّهَادَةَ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا: أُطَلِّقُ نَفْسِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِكَايَةٍ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ
أَنَا أُطَلِّقُ حَيْثُ لَا تُطَلِّقُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتِقْ رَقَبَتَك فَقَالَ: أَنَا أُعْتِقُ لَا يُعْتَقُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا قَالَتْ: «لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ: إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِي {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلَى قَوْلِهِ {أَجْرًا عَظِيمًا} فَقُلْتُ: فَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتُ» .
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ «بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَاعْتَبَرَهُ صلى الله عليه وسلم جَوَابًا. لَا يُقَالُ: قَدْ ذَكَرَتْ أَنَّ التَّخْيِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ هَذَا الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ بَلْ إنَّهُنَّ لَوْ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ يُطَلِّقُهُنَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ اعْتِدَادُهُ صلى الله عليه وسلم جَوَابًا يُفِيدُ قِيَامَ مَعْنَاهُ فِي الْحَالِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَتَجُوزُ فِي الِاسْتِقْبَالِ) هُوَ أَحَدُ الْمَذَاهِبِ، وَقِيلَ بِالْقَلْبِ، وَقِيلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ جَعْلِهِ لِلْحَالِ خَاصًّا أَوْ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا يُرَجَّحُ هُنَا إرَادَةُ أَحَدِ مَفْهُومَيْهِ: أَعْنِي الْحَالَ بِقَرِينَةٍ بِكَوْنِهِ إخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ فَيَصِحُّ الْإِخْبَارُ بِاللِّسَانِ عَمَّا هُوَ قَائِمٌ بِمَحَلٍّ آخَرَ حَالَ الْإِخْبَارِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةُ
قَوْلُهَا: أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ (وَقَالَا: تَطْلُقُ وَاحِدَةً) وَإِنَّمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ لِدَلَالَةِ التَّكْرَارِ عَلَيْهِ إذْ الِاخْتِيَارُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ هُوَ الَّذِي
الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا: أُطَلِّقُ نَفْسِي لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ إخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ قَائِمٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقُومُ بِاللِّسَانِ، فَلَوْ جَازَ قَامَ بِهِ الْأَمْرَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِيقَاعَ لَا يَكُونُ بِنَفْسِ أُطَلِّقُ لِأَنَّهُ لَا تَعَارُفَ فِيهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ تُعُورِفَ جَازَ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَقَعَ بِهِ هُنَا إنْ تُعُورِفَ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ لَا إخْبَارٌ (قَوْلُهُ: وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ) وَلَا إلَى ذِكْرِ نَفْسِهَا ذَكَرَهُ فِي الدِّرَايَةِ لِأَنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ وَهُوَ التَّعَدُّدُ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّلَاقِ لَا بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ، وَهَذَا يُفِيدُ عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا فِي الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، لَا عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا فِي الْوُقُوعِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِيرَ كَالصَّرِيحِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ الزِّيَادَاتِ بِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَإِنْ
يَتَكَرَّرُ لَهُمَا إنْ ذَكَرَ الْأُولَى، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبُ يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ فَيُعْتَبَرُ فِيمَا يُفِيدُ.
كَرَّرَ.
وَمَا فِي الْجَامِعِ قَالَ اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي بِأَلْفٍ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَاشْتَرَطَ النِّيَّةَ مَعَ الْمَالِ وَالتَّكْرَارِ فَضْلًا عَنْ أَحَدِهِمَا وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْأَحْوَالَ شُرُوطٌ، لَكِنْ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ لِقَاضِي خَانْ: لَوْ كَرَّرَ فَقَالَ: أَمْرُك بِيَدِك أَمْرُك بِيَدِك أَوْ فَأَمْرُك بِيَدِك أَوْ وَأَمْرُك بِيَدِك بِالْفَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ فَقَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي وَقَالَ الزَّوْجُ: لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَا يُزِيلُ الْإِبْهَامَ، وَكَذَا لَوْ كَرَّرَ الِاخْتِيَارَ انْتَهَى وَهُوَ الْوَجْهُ.
وَتَحَقَّقَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْعَتَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَشَرَطَ أَبُو مَعِينٍ النَّسَفِيُّ النِّيَّةَ مَعَ التَّكْرَارِ كَقَاضِي خَانْ. وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَشْهَدَ بِمَا اسْتَشْهَدْنَا بِهِ فِي لُزُومِ النِّيَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْمَنْقُولِ عَلَى لُزُومِ النِّيَّةِ مُطْلَقًا وَلَوْ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ ظَاهِرٌ فِي إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَكَيْفَ يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي إذَا أَنْكَرَ إرَادَةَ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا مَا فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ اشْتِرَاطِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: أَيْ يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوعِ ثُبُوتُ النِّيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ إثْبَاتَ أَجْوِبَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ قَوْلِنَا: يَقَعُ لَا يَقَعُ يَجِبُ لَا يَجِبُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يُشْتَرَطُ لِلْقَضَاءِ، غَيْرَ أَنَّا مَعَ ذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ: لَمْ أَنْوِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: لِانْتِهَاضِ الْوَجْهِ بِهِ لِأَنَّ تَكْرَارَ أَمْرِهِ بِالِاخْتِيَارِ لَا يُصَيِّرُهُ ظَاهِرًا فِي الطَّلَاقِ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ اخْتَارِي فِي الْمَالِ وَاخْتَارِي فِي الْمَسْكَنِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ كَاعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي حَيْثُ يُصَدِّقُهُ فِي إنْكَارِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لِإِمْكَانِ إرَادَةِ اعْتَدِّي نِعَمَ اللَّهِ وَمَعَاصِيَك وَنِعَمِي.
وَمَا فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ قَالَ: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ: نَوَيْت بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالْبَاقِيَتَيْنِ التَّأْكِيدَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْأُولَى الطَّلَاقَ كَانَ الْحَالُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْبَاقِي طَلَاقًا ظَاهِرًا، وَمِثْلُهُ فِي الْمُحِيطِ ظَاهِرٌ. وَقَالَ فِي الْكَافِي فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِشُهْرَتِهِ لِأَنَّ غَرَضَ مُحَمَّدٍ رحمه الله التَّفْرِيعُ دُونَ بَيَانِ صِحَّةِ الْجَوَابِ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنَّ حَذْفَ النِّيَّةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ: إنْ ذَكَرَ الْأُولَى وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبُ) يَعْنِي هُوَ فِي نَفْسِهِ يُفِيدُ الْفَرْدِيَّةَ وَالنِّسْبَةَ الْمَخْصُوصَةَ، فَإِنْ بَطَلَ الثَّانِي فِي خُصُوصِ هَذَا الْمَحَلِّ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ فِي الْمِلْكِ، أَعْنِي الثَّلَاثَ الَّتِي مَلَكَتْهَا بِقَوْلِهِ اخْتَارِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إذْ حَقِيقَةُ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِ الْأَعْيَانِ كَمَا يُقَالُ صَامَ حَجَّ
وَلَهُ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَغْوٌ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ فِي الْمِلْكِ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ كَالْمُجْتَمِعِ فِي الْمَكَانِ، وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ وَالْإِفْرَادُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، فَإِذَا لَغَا فِي حَقِّ الْأَصْلِ لَغَا فِي حَقِّ الْبِنَاءِ (وَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْت اخْتِيَارَةً فَهِيَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّهَا لِلْمَرَّةِ فَصَارَ كَمَا إذَا صَرَّحَتْ بِهَا وَلِأَنَّ الِاخْتِيَارَةَ لِلتَّأْكِيدِ وَبِدُونِ التَّأْكِيدِ تَقَعُ الثَّلَاثُ فَمَعَ التَّأْكِيدِ أَوْلَى
لَمْ يَجُزْ إبْطَالُ الْآخَرِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ (قَوْلُهُ وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ) ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأُولَى نَعْتٌ لِمُؤَنَّثٍ فَاسْتَدْعَى مَذْكُورًا يُوصَفُ بِهِ وَالْمَذْكُورُ ضِمْنًا الِاخْتِيَارَةُ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَرْت الِاخْتِيَارَةَ أَوْ الْمَرَّةَ الْأُولَى، وَلَوْ قَالَتْ ذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا.
وَالْآخَرُ أَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّرْتِيبِ لَا فِيمَا يَلِيقُ وَصْفُهُ بِهِ فَيَلْغُو وَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْكُلِّ، وَهَذَا تَتِمُّ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إنَّ هَذَا وَصْفُ لَغْوٍ إلَى قَوْلِهِ فِي الْمَكَانِ، فَقَوْلُهُ: وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ ابْتِدَاءً وَجْهٌ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ قَوْلِهِمَا إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ إلَخْ لَا يُطَابِقُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ. وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ لَفْظُ الْأُولَى، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ يُطْلِقُهُ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَبَعْضُهُمْ يَنْسُبُهُ إلَى كُلِّهِمْ، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْعُ أَنَّ الْإِفْرَادَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّرْتِيبِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْأُولَى، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَدْلُولُهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ، حَتَّى إذَا لَغَا فِي حَقِّ الْأَصْلِ لَغَا فِي حَقِّ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْإِفْرَادُ.
وَإِذَا لَغِيَا بَقِيَ قَوْلُهَا: اخْتَرْت وَهُوَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْكُلِّ فَيَقَعْنَ، وَلِذَا اخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُمَا. وَالْجَوَابُ بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ الْفَرْدِيَّةَ مَدْلُولٌ تَضَمُّنِيٌّ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ جُزْأَيْ الْمَدْلُولِ الْمُطَابِقِيِّ هُوَ الْمَقْصُودَ وَالْآخَرُ تَبَعًا كَمَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ: وَالْإِفْرَادُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فَيَنْتَفِي التَّبَعُ بِانْتِفَاءِ الْمَقْصُودِ وَالْوَصْفُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَضْعٌ لِذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَمْ يُلَاحَظْ الْفَرْدُ فِيهِ حَقِيقِيًّا أَوْ اعْتِبَارِيًّا كَالطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالْجَمَاعَةِ الْأُولَى إلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، فَإِذَا بَطَلَتْ بَطَلَ الْكَلَامُ. وَقَدْ ضَعَّفَ بَعْضُهُمْ تَعْلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِأَنَّ التَّرْتِيبَ ثَابِتٌ فِي اللَّفْظِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْمَعْنَى، فَصَدَقَ وَصْفُهَا بِالْأُولَى وَالْوُسْطَى إلَى آخِرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ قَوْلَهُ: اخْتَارِي اخْتَارِي جُمْلَةٌ بَعْدَ جُمْلَةٍ. وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا اخْتَرْت لَفْظَتَك الْأُولَى أَوْ كَلِمَتَك الْأُولَى، وَلَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا بَعْدَ فَرْضِ إهْدَارِ وَصْفِ الطَّلَاقِ بِهِ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا مَنْ رَامَ الدَّفْعَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى اخْتَرْت الْإِيقَاعَ بِكَلِمَتِك الْأُولَى لِأَنَّ الْإِيقَاعَ لَا يَكُونُ بِكَلِمَتِهِ قَطُّ بَلْ بِكَلِمَتِهَا مَرِيدَةً بِهَا الطَّلَاقَ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ: اخْتَرْت اخْتِيَارَةً أَوْ الِاخْتِيَارَةَ أَوْ مَرَّةً أَوْ بِمَرَّةٍ أَوْ دَفْعَةً أَوْ بِدَفْعَةٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ أَوْ اخْتِيَارَةً وَاحِدَةً تَقَعُ الثَّلَاثُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ جَوَابُ الْكُلِّ، حَتَّى لَوْ كَانَ
(وَلَوْ قَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ الِانْطِلَاقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَأَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ (وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ أَوْ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهَا الِاخْتِيَارَ لَكِنْ بِتَطْلِيقَةٍ وَهِيَ مُعْقِبَةٌ لِلرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ.
بِمَالٍ لَزِمَ كُلُّهُ (قَوْلُهُ: فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) وَهُوَ سَهْوٌ بَلْ بَائِنٌ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْمَبْسُوطِ وَالْأَوْضَحِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَوَامِعِ الْفِقْهِ وَعَامَّةِ الْجَوَامِعِ سِوَى جَامِعِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ مَا فِي الْهِدَايَةِ.
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْوَاقِعَ بِالتَّخْيِيرِ بَائِنٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ تَمْلِيكُ النَّفْسِ مِنْهَا وَلَيْسَ فِي الرَّجْعِيِّ مِلْكُهَا نَفْسَهَا وَإِيقَاعُهَا وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الصَّرِيحِ، لَكِنْ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ الْوُقُوعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَوَّضَ بِهِ إلَيْهَا، وَالصَّرِيحُ لَا يُنَافِي الْبَيْنُونَةَ كَمَا فِي تَسْمِيَةِ الْمَالِ فَيَقَعُ بِهِ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ إلَّا مَا مُلِّكَتْ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهَا بِالْبَائِنِ فَأَوْقَعَتْ الرَّجْعِيَّ أَوْ بِالْعَكْسِ وَقَعَ مَا أَمَرَهَا بِهِ لَا مَا أَوْقَعَتْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اخْتَرْت وَطَلَّقْت حَيْثُ يَصِحُّ طَلَّقْت جَوَابًا لِاخْتَارِي حَتَّى تَقَعَ بِهِ الْبَائِنَةُ وَاخْتَرْت لَا يَصْلُحُ جَوَابَ طَلِّقِي نَفْسَك حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ.
وَسَنَذْكُرُ جَوَابَهُ فِي فَصْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ (قَوْلُهُ: لَكِنْ بِتَطْلِيقَةٍ) قِيلَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ هَذَا كَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِاخْتَرْتُ جَوَابًا لِطَلِّقِي نَفْسَك. أُجِيبُ بِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ لَمَّا فَسَّرَ الْأَوَّلَ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْمُفَسَّرَ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ وَالتَّخْيِيرُ، وَقَوْلُهَا: اخْتَرْت يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُ.
فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ
[فُرُوعٌ]
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَاخْتَارِي فَقَالَتْ: شِئْت وَاخْتَرْت يَقَعُ ثِنْتَانِ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ.
وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي بِأَلْفٍ فَقَالَتْ: اخْتَرْت جَمِيعَ ذَلِكَ وَقَعَتْ الْأُولَيَانِ بِلَا شَيْءٍ وَالثَّالِثَةُ بِأَلْفٍ لِأَنَّهَا الْمَقْرُونَةُ بِالْبَدَلِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالشُّرُوطِ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي اخْتِيَارَةً أَوْ وَاحِدَةً أَوْ بِوَاحِدَةٍ.
وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ إنْ قَالَتْ: اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى، وَبِأَلْفٍ إنْ قَالَتْ: اخْتَرْت الْأَخِيرَةَ.
. وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ اسْمٌ لِلْوَاحِدَةِ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْ الْكُلِّ بَلْ الْبَعْضِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تُسْأَلُ الْمَرْأَةُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَتْ: عَنَيْت الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةَ وَقَعَتَا بِلَا شَيْءٍ أَوْ الثَّالِثَةَ بَانَتْ بِأَلْفٍ.
وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي بِالْعَطْفِ بِأَلْفٍ فَالْأَلْفُ مُقَابَلٌ بِالثَّلَاثِ لِلْعَطْفِ، فَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَوْ وَقَعَتْ وَقَعَتْ بِثُلُثِ الْبَدَلِ وَلَمْ يَرْضَهُ. وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ وَقَعَتْ ثَلَاثٌ بِأَلْفٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ وَقَعَ بِثُلُثِ الْأَلْفِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي مِنْ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مَا شِئْت فَلَهَا اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا غَيْرُ لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَعِنْدَهُمَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّهَا لِلْبَيَانِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ.
(فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ)
قَدَّمَ التَّخْيِيرَ لِتَأَيُّدِهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ كَالتَّخْيِيرِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ مِنْ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ النَّفْسِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَمِنْ عَدَمِ مِلْكِ الزَّوْجِ الرُّجُوعَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ سِوَى نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ هَاهُنَا لَا فِي التَّخْيِيرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْوِيضَ بِلَفْظِ أَمْرُك بِيَدِك لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ، وَصِحَّتُهُ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، وَكَذَا صِحَّةُ التَّفْوِيضِ بِلَفْظِ اخْتَارِي نَفْسَك لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَطْلِيقَهَا فَلَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ التَّفْوِيضُ مِنْهُ، وَلَفْظُ اخْتَارِي نَفْسَك يُفِيدُهُ، فَعَلَى هَذَا إنَّمَا يَتَّجِهُ تَقْدِيمُ التَّفْوِيضِ بِلَفْظِ اخْتَارِي لِتَأَيُّدِهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم نَصًّا، بِخِلَافِهِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ خِلَافُ أَحَدٍ لَمْ يَقَعْ بِهِ ذَلِكَ النَّقْلُ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا افْتَرَقَ الْبَابَانِ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْإِيقَاعِ
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك يَنْوِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ لِكَوْنِهِ تَمْلِيكًا كَالتَّخْيِيرِ، وَالْوَاحِدَةُ صِفَةٌ لِلِاخْتِيَارَةِ، فَصَارَ كَأَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَبِذَلِكَ يَقَعُ الثَّلَاثُ
بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ، فَإِنَّ إيقَاعَهَا بِهِ إنَّمَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا قِيَاسًا لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهِ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُمَلَّكَ إذْ لَا يَكُونُ مَا فِي مِلْكِهِ أَوْسَعَ مِمَّا فِي مِلْكِ مُمَلِّكِهِ وَهَذَا يَتَسَاوَى فِيهِ الْبَابَانِ، فَإِنَّ إيقَاعَهَا بِلَفْظِ اخْتَرْت نَفْسِي يَصِحُّ فِي جَوَابِ أَمْرُك بِيَدِك كَمَا يَصِحُّ فِي اخْتَارِي.
وَأَمَّا الْإِيقَاعُ بِلَفْظِ أَمْرِي بِيَدِي وَنَحْوِهِ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا وَلَا اسْتِحْسَانًا فَلَا تَحُمْ حَوْلَ الْحِمَى وَتَتْرُكْ النُّزُولَ مَخَافَةً (قَوْلُهُ: وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك يَنْوِي ثَلَاثًا) أَيْ يَنْوِي التَّفْوِيضَ فِي ثَلَاثٍ (فَقَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ) وَهُنَا مَقَامَانِ: الْوُقُوعُ وَكَوْنُهُ ثَلَاثًا، وَالْوُقُوعُ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّتِهِ جَوَابًا، فَأَفَادَهُ بِقَوْلِهِ لِكَوْنِهِ أَيْ الْأَمْرِ بِالْيَدِ تَمْلِيكًا كَالتَّخْيِيرِ فَجَوَابُهُ جَوَابُهُ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِطَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ كَالتَّخْيِيرِ، وَلَا يَصْلُحُ اخْتَرْت نَفْسِي جَوَابًا لَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ رحمه الله.
وَجَوَابُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الِاخْتِيَارَ أَضْعَفُ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَلِذَا لَوْ قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي فَأَجَازَهُ مُبْتَدَأً جَازَ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي لَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَقَعُ، وَإِنْ أَجَازَهُ وَلَا يَمْلِكُ هُوَ الْإِيقَاعَ بِهِ فَصَلُحَ الْأَقْوَى جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ دُونَ الْعَكْسِ لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ، ثُمَّ كَوْنُ الْأَقْوَى يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ بِلَا عَكْسٍ يَحْتَاجُ إلَى التَّوْجِيهِ.
وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ لِأَنَّ الْجَوَابَ هُوَ الْعَامِلُ وَالتَّفْوِيضُ شَرْطُ عَمَلِهِ فَلَا يَكُونُ دُونَهُ بَلْ فَائِقًا أَوْ مُسَاوِيًا. وَفَرَّقَ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ بِأَنَّ قَوْلَهَا اخْتَرْت مُبْهَمٌ، وَقَوْلَهُ: طَلِّقِي نَفْسَك مُفَسَّرٌ وَالْمُبْهَمُ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْمُفَسَّرِ وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْرِيرِ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّفْسِيرِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، ثُمَّ أَفَادَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ (وَالْوَاحِدَةُ) أَيْ الَّتِي نَطَقَتْ بِهَا (صِفَةُ الِاخْتِيَارَةِ فَصَارَ كَأَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَبِذَلِكَ يَقَعُ الثَّلَاثُ) وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ بِاخْتِيَارَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا وَصْفًا لَهَا لَكِنَّهُ قَصَدَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَصَرَّحَتْ بِقَوْلِهَا
(وَلَوْ قَالَتْ: قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ فِي الْأُولَى الِاخْتِيَارَةُ، وَفِي الثَّانِيَةِ التَّطْلِيقَةُ إلَّا أَنَّهَا تَكُونُ بَائِنَةً لِأَنَّ التَّفْوِيضَ فِي الْبَائِنِ ضَرُورَةُ مِلْكِهَا أَمْرَهَا، وَكَلَامُهَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ فَتَصِيرُ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي التَّفْوِيضِ مَذْكُورَةً فِي الْإِيقَاعِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ وَنِيَّةُ الثَّلَاثِ نِيَّةُ التَّعْمِيمِ،
اخْتِيَارَةً وَاحِدَةً كَوْنَ الْمُرَادِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ الِاخْتِيَارَةَ لَيْسَتْ إلَّا الْمَرَّةَ مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَإِذَا كَانَ اخْتِيَارُهَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ انْتَفَى الِاخْتِيَارُ بَعْدَهُ، وَكَوْنُهَا بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهَا اخْتِيَارٌ آخَرُ هُوَ بِأَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ تَرَكْته بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكَرِهْته بِمَرَّةٍ وَأَعْرَضْت عَنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَا لَا يُحْصَى مِنْ هَذَا لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا بُلُوغَ مَا قُيِّدَ بِهِ مِنْ التَّرْكِ مَثَلًا وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِعْرَاضُ مُنْتَهَاهُ.
وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ بِوَاحِدَةٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ صِفَةَ طَلْقَةٍ وَلَمَّا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا فِي التَّطْلِيقِ فَقَوْلُهَا: اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ كَوْنِ إرَادَةِ الْمَوْصُوفِ طَلْقَةً
بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اخْتَارِي لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا بَطَلَ أَمْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ غَدٍ) لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِذِكْرِ وَقْتَيْنِ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مِنْ جِنْسِهِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمْرُ إذْ ذِكْرُ الْيَوْمِ بِعِبَارَةِ الْفَرْدِ لَا يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ فَكَانَا أَمْرَيْنِ فَبِرَدِّ أَحَدِهِمَا لَا يَرْتَدُّ الْآخَرُ.
وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: هُمَا أَمْرٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ. قُلْنَا: الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْقِيتَ،
أَوْ اخْتِيَارَةً، فَإِذَا نَوَتْهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهَا نِيَّةٌ تَقَعُ وَاحِدَةٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ لَمْ يَتَسَاوَيَا، فَإِنَّ خُصُوصَ الْعَامِلِ اللَّفْظِيِّ قَرِينَةُ خُصُوصِ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ هُنَا لَفْظُ اخْتَرْت فِي قَوْلِهَا: اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَابَتْ بِطَلَّقْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ حَيْثُ تُقَدِّرُ الطَّلْقَةَ وَهُوَ بِخُصُوصِ الْعَامِلِ أَيْضًا، وَبِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ جَوَابِهَا بِطَلَّقْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ حَيْثُ يَقَعُ وَاحِدَةً بَائِنَةً وَاخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ التَّطْلِيقَةُ بَائِنَةً لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَائِنِ لِأَنَّهَا بِهِ تَمْلِكُ أَمْرَهَا وَإِنَّمَا تَمْلِكُهُ بِالْبَائِنِ لَا بِالرَّجْعِيِّ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ الثَّلَاثَ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ: نَوَيْت التَّفْوِيضَ فِي وَاحِدَةٍ بَعْدَمَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فِي الْجَوَابِ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الثَّلَاثَ (قَوْلُهُ: وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فِي فَصْلِ الِاخْتِيَارِ بِقَوْلِهِ الِاخْتِيَارُ لَا يَتَنَوَّعُ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ إلَى آخِرِهِ) حَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ وَالْيَوْمَ وَغَدًا يَفْتَرِقَانِ فِي حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ وَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا فِيهِ تَمْلِكُهُ بَعْدَ الْغَدِ، وَالثَّانِي عَدَمُ مِلْكِهَا فِي اللَّيْلِ، وَفِي الْيَوْمِ وَغَدًا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ لَا تَمْلِكُ طَلَاقَ نَفْسِهَا غَدًا: أَيْ نَهَارًا وَتَمْلِكُهُ لَيْلًا.
وَالْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ وَاحِدَةٍ فِي الْيَوْمِ وَغَدًا وَتَمْلِيكَانِ فِي الْيَوْمِ وَبَعْدَ غَدٍ.
وَجَعَلَهُ زُفَرُ رحمه الله فِي الْكُلِّ تَمْلِيكًا وَاحِدًا فِي الْيَوْمِ وَبَعْدَ غَدٍ، فَلَمْ يُثْبِتْ الْخِيَارَ بَعْدَ الْغَدِ إذَا رَدَّتْهُ الْيَوْمَ قِيَاسًا عَلَى طَلِّقِي نَفْسَك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ حَيْثُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَاحِدًا فَكَذَا يَكُونُ هُنَا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَعَلَى أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا.
قُلْنَا: الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْقِيتَ، وَإِذَا وَقَعَ تَصِيرُ بِهِ طَالِقًا فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ فَذِكْرُ بَعْدَ غَدٍ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ لَا يَقْتَضِي طَلَاقًا آخَرَ، أَمَّا الْأَمْرُ بِالْيَدِ فَيَحْتَمِلُهُ فَيَصِحُّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ لَهُ غَيْرَ أَنَّ عَطْفَ زَمَنٍ عَلَى زَمَنٍ مُمَاثِلٍ مَفْصُولٌ بَيْنَهُمَا بِزَمَنٍ مُمَاثِلٍ لَهُمَا ظَاهِرًا فِي قَصْدِ تَقْيِيدِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ بِالْأَوَّلِ، وَتَقْيِيدُ أَمْرٍ آخَرَ بِالثَّانِي وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ لِهَذِهِ الطَّفْرَةِ مَعْنًى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَصِيرُ لَفْظُ يَوْمٍ مُفْرَدًا غَيْرَ مَجْمُوعٍ إلَى مَا بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ صَارَ عَطْفَ جُمْلَةٍ: أَيْ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك بَعْدَ غَدٍ. وَلَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ، بِخِلَافِ
وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ يَحْتَمِلُهُ، فَيُوَقَّتُ الْأَمْرُ بِالْأَوَّلِ وَجَعَلَ الثَّانِيَ أَمْرًا مُبْتَدَأً (وَلَوْ قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا لَا يَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا فِي غَدٍ) لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقْتٌ مِنْ جِنْسِهِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْكَلَامُ وَقَدْ يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ الْمَشُورَةِ لَا يَنْقَطِعُ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك فِي يَوْمَيْنِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهَا إذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي الْيَوْمِ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا غَدًا لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْأَمْرِ كَمَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْإِيقَاعِ.
الْيَوْمَ وَغَدًا فَإِنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِيَوْمٍ آخَرَ لِتَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْقَصْدِ الْمَذْكُورِ فَكَانَ جَمْعًا بِحَرْفِ الْجَمْعِ فِي التَّمْلِيكِ الْوَاحِدِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك فِي يَوْمَيْنِ، وَفِي مِثْلِهِ تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ اسْتِعْمَالًا لُغَوِيًّا وَعُرْفِيًّا، عَلَى أَنَّ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ مِنْ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ تَطْلُقُ طَلَاقَيْنِ، بِخِلَافِ الْيَوْمَ وَغَدًا يَمْتَنِعُ قِيَاسُهُ.
وَأَيْضًا فِي: طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ فِي الْغَدِ لِأَنَّهَا طَالِقٌ فِيهِ أَيْضًا، بِخِلَافِ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْغَدِ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ الْمَشُورَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ لَا اعْتِبَارَ بِهِ تَعْلِيلًا لِدُخُولِ اللَّيْلِ فِي التَّمْلِيكِ الْمُضَافِ إلَى الْيَوْمِ وَغَدٍ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي دُخُولَ اللَّيْلِ فِي الْيَوْمِ الْمُفْرَدِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى: أَعْنِي أَنَّهُ قَدْ يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ الْمَشُورَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ (قَوْلُهُ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا أَنَّهَا إذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي الْيَوْمِ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا غَدًا) رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ رَدَّ إيقَاعِ الزَّوْجِ لَوْ نَجَّزَ، فَكَذَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ يَثْبُتُ حُكْمُهُ لَهَا مِنْ الْمِلْكِ بِلَا قَبُولٍ كَالْإِيقَاعِ مِنْهُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ رَدَّهَا لَغْوٌ، فَالْحَالُ كَمَا كَانَ فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْغَدِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي رَدَّتْ فِيهِ أَيْضًا فَصَارَ كَقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَمَا خَيَّرَهَا فِي الْيَوْمِ وَغَدًا وَاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ حَيْثُ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا.
وَتَحْقِيقُ وَجْهِ الظَّاهِرِ أَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْمِلْكِ مُغَيًّا شَرْعًا بِأَحَدِ الْأُمُورِ مِنْ انْقِضَاءِ مَجْلِسِ الْعِلْمِ أَوْ الْخِطَابِ بِلَا اخْتِيَارِ شَيْءٍ أَوْ بِفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ أَوْ اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا، فَإِذَا رَدَّتْ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا خَرَجَ مِلْكُ الْإِيقَاعِ عَنْهَا فَلَا تَمْلِكُ اخْتِيَارَ نَفْسِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُضَافُ تَوْقِيتُ التَّمْلِيكِ بِهَذِهِ إلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ تَوْقِيتَهُ فِي الْجُمْلَةِ ثَابِتٌ شَرْعًا كَمَا فِي الْإِجَارَةِ.
وَالْأَوْجَهُ تَشْبِيهُهُ بِالْعَارِيَّةِ لِوَجْهَيْنِ: كَوْنُهُ بِلَا عِوَضٍ وَالْعَارِيَّةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ.
وَالثَّانِي أَنَّ تَوْقِيتَهَا لَيْسَ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْمَجْلِسِ لَيْسَ مَضْبُوطَ الْكَمِّيَّةِ إذْ قَدْ يَمْتَدُّ يَوْمًا وَيَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ، وَكَذَا اخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا وَفِعْلُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ.
وَأَمَّا تَقْرِيرُهُ بِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إنَّمَا لَهُ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا فَكَمَا أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا فَتَعُودُ إلَى النِّكَاحِ كَذَلِكَ إذَا اخْتَارَتْ
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا الْيَوْمَ لَا يَبْقَى لَهَا الْخِيَارُ فِي الْغَدِ، فَكَذَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا بِرَدِّ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا يَمْلِكُ إلَّا اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَنَّهُمَا أَمْرَانِ لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ لِكُلِّ وَقْتٍ خَبَرًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ
زَوْجَهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فَلَا يُفْصِحُ عَنْ جَوَابِ النُّكْتَةِ الَّتِي هِيَ مَبْنَى جَوَازِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا: أَعْنِي أَنَّ الْمِلْكَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إنَّمَا يَرْتَدُّ شَطْرُ التَّمْلِيكِ، وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِلَا قَبُولٍ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ وَجْهِ الظَّاهِرِ حَمْلُ الرَّدِّ الْمَذْكُورِ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تَتَعَرَّضُ لِمَا بِهِ الرَّدُّ فَيُمْكِنُ حَمْلُ رَدِّهَا عَلَى كَوْنِهِ بِمَا يَكُونُ بِلَفْظِ الرَّدِّ وَنَحْوِهِ بِأَنْ تَقُولَ عَقِيبَ الْمِلْكِ بِتَخْيِيرِهَا: رَدَدْت التَّفْوِيضَ أَوْ لَا أُطَلِّقُ، وَبِكَوْنِ هَذَا إعْطَاءً لِنَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ وَيَكُونُ هُوَ مُسْتَنَدَ مَا فُرِّعَ فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ بِيَدِ أَجْنَبِيٍّ يَقَعُ لَازِمًا فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهَا وَالْمَسْأَلَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَنْدَفِعُ الْمُنَاقَضَةُ الْمُورَدَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ حَيْثُ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَفِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ: أَعْنِي فِي قَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا، وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا لَا يَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِرَدِّهَا هُنَا اخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا الْيَوْمَ، وَحَقِيقَتُهُ انْتِهَاءُ مِلْكِهَا، وَهُنَاكَ الْمُرَادُ أَنْ تَقُولَ: رَدَدْت فَلَمْ يَبْقَ تَدَافُعٌ، لَكِنْ الشَّارِحُونَ قَرَّرُوا ثُبُوتَ التَّدَافُعِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ نَقَلُوا لِأَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ وَنَقَلُوا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
وَوَفَّقُوا بِأَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ عِنْدَ التَّفْوِيضِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَرْتَدُّ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ لِرَجُلٍ فَصَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ ثُبُوتُهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ أَوْ التَّمْلِيكِ. أَمَّا الْإِسْقَاطُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا التَّمْلِيكُ فَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} سَمَّى الْإِبْرَاءَ تَصَدُّقًا.
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْمُنَاقَصَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْفُصُولِ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَخْرُجُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا. وَوَفَّقَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ فِيمَا إذَا كَانَ مُنَجَّزًا، وَعَدَمَهُ إذَا كَانَ مُعَلَّقًا مِثْلُ أَنْ قَالَ: أكرترابزنم فَأَمْرُك بِيَدِك ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ وَجَدَ الشَّرْطَ يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ ضَرَبَهَا لَا يَصِيرُ بِيَدِهَا وَمِنْ الْمُنَاقَضَةِ تَصْرِيحُهُمْ بِصِحَّةِ إضَافَتِهِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَنَّهُمَا أَمْرَانِ) حَتَّى لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا غَدًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا فِي الْغَدِ تَخْيِيرٌ جَدِيدٌ بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ الْمُنْقَضِي بِاخْتِيَارِهَا الزَّوْجَ.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لِكُلِّ وَقْتٍ خَبَرًا صُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ اشْتِرَاكَ الْوَقْتَيْنِ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ اسْتِقْلَالُ كُلِّ كَلَامٍ.
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ هَذِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافًا، فَلَمْ يَبْقَ تَخْصِيصُ أَبِي يُوسُفَ إلَّا لِأَنَّهُ مَخْرَجُ الْفَرْعِ الْمَذْكُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا عَدَمُ جَوَازِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا لَيْلًا فَلَا تَغْفُلُ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ لَهَا فِي يَوْمٍ مُفْرَدٍ وَلَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ، وَالثَّابِتُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيه بِأَمْرٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ حَيْثُ يَمْتَدُّ إلَى الْغُرُوبِ فَقَطْ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك فِي الْيَوْمِ إنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَهُوَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَفِي غَدٍ.
وَفِي جَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ غَدًا بَعْدَ غَدٍ فَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا أَوْقَاتٌ مُتَرَادِفَةٌ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك أَبَدًا فَيَرْتَدُّ بِرَدِّهَا
(وَإِنْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ فَلَمْ تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حَتَّى جَنَّ اللَّيْلُ فَلَا خِيَارَ لَهَا) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ مِمَّا يَمْتَدُّ فَيَحْمِلُ الْيَوْمَ الْمَقْرُونَ بِهِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَيَتَوَقَّتُ بِهِ ثُمَّ يَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ وَقْتِهِ
(وَإِذَا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ خَيَّرَهَا فَمَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ فَالْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ) لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ التَّطْلِيقِ مِنْهَا (لِأَنَّ الْمَالِكَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ)
مَرَّةً، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لِأَنَّهَا أَوْقَاتٌ حَقِيقَةً.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا قَالَ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ صَحَّ) وَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا يَوْمَ يَقْدَمُ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُفَارِقُ بِهِ سَائِرَ التَّمْلِيكَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ إضَافَتُهَا وَلَا تَعْلِيقُهَا بِخِلَافِ هَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ تَمْلِيكُ فِعْلٍ فَلَا يَقْتَضِي لَوَازِمَ تَمْلِيكَاتِ الْأَعْيَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ. فَإِنْ قِيلَ: يُخَالِفُهُ مَا فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ لِقَاضِي خَانْ: لَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك فَطَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوْ ثَلَاثًا إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ: اخْتَرْت نَفْسِي طَلُقَتْ ثَلَاثًا لِلْحَالِ، وَلَوْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا بَطَلَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَطَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا تَفْسِيرٌ لِلْأَمْرِ وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ، أَمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ إلَى وَقْتِ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ يَقْتَضِي الْمَالِكِيَّةَ، وَالْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ الْبَيْنُونَةَ فِي الْحَالِ فَلَا تَثْبُتُ الْمَالِكِيَّةُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك وَنَوَى السُّنَّةَ أَوْ التَّعْلِيقَ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِمَا كَانَ تَفْسِيرًا يَثْبُتُ مَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الثَّلَاثُ وَلَا يَثْبُتُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ السُّنَّةُ وَالتَّعْلِيقُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِمَالُ لَفْظِ التَّنْجِيزِ لِلتَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْرَادِهِ وَلَا مُتَعَلِّقًا بِهِ بَعْدَمَا ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَطَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ التَّفْوِيضِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ مُرَادًا بِلَا لَفْظٍ، ثُمَّ لَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حَتَّى انْقَضَى يَوْمُ قُدُومِهِ وَدَخَلَ اللَّيْلُ فَلَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ مِمَّا يَمْتَدُّ فَيُحْمَلُ الْيَوْمُ الْمَقْرُونُ بِهِ عَلَى النَّهَارِ لَا عَلَى الْوَقْتِ مُطْلَقًا. وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ: يَعْنِي فِي آخِرِ فَصْلِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْقُدُومُ فَيُحْمَلُ الْيَوْمُ عَلَى الْوَقْتِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَدٍّ لِمَا حَقَّقْنَاهُ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ امْتِدَادُهُ وَعَدَمُهُ هُوَ الْمُضَافُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ خَيَّرَهَا فَمَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ فَالْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ التَّطْلِيقِ مِنْهَا لِأَنَّ الْمَالِكَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ بَيِّنَاهُ) أَيْ فِي أَوَّلِ
ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْمَعُ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ فَمَجْلِسُ عِلْمِهَا وَبُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهَا لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ لَا يَشُوبُهُ التَّعْلِيقُ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ مَجْلِسُهَا فَالْمَجْلِسُ تَارَةً يَتَبَدَّلُ بِالتَّحَوُّلِ
فَصْلِ الِاخْتِيَارِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ هُنَاكَ هُوَ أَنَّ التَّمْلِيكَ يَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَاسْتَدَلَّ هُنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ.
وَالْوَجْهُ الْمَشْهُورُ فِيهِ قَوْلُهُمْ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، وَإِلَّا فَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ التَّفْوِيضَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ تَمْلِيكٌ وَهُوَ لَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، وَسَنُحَقِّقُ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ لِيَنْدَفِعَ الْوَكِيلُ فِي الْمَشِيئَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدَّمْنَا مَا فِي قَوْلِهِ يَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ، فَالصَّوَابُ إسْنَادُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَجْلِسِ إلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ قَالُوا لَهَا فِي الْمَجْلِسِ (قَوْلُهُ: ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْمَعُ) أَيْ تَسْمَعُ لَفْظَهُ بِالتَّخْيِيرِ (اُعْتُبِرَ مَجْلِسُهَا ذَلِكَ) أَيْ مَجْلِسُ سَمَاعِهَا (وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ فَمَجْلِسُ عِلْمِهَا) عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ) أَمَّا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا، وَأَمَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّ الْإِيقَاعَ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ إلَّا أَنَّ الْوُقُوعَ مُضَافٌ إلَى مَعْنًى مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ طَلَّقْت نَفْسَكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَثْبُتُ لِلتَّفْوِيضِ أَحْكَامٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى جِهَةِ التَّمْلِيكِ وَأَحْكَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْلِيقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّهَا مِمَّا يُمْكِنُ تَرَتُّبُهَا عَلَى التَّمْلِيكِ، فَصِحَّةُ التَّوْقِيتِ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ إلْحَاقَهُ بِالْعَارِيَّةِ أَقْرَبُ.
ثُمَّ مِنْ صُوَرِ التَّوْقِيتِ مَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَأَنْ يَقُولَ: أَمْرُك بِيَدِك شَهْرًا أَوْ جُمُعَةً فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ التَّفْوِيضِ وَلَيْسَ هَذَا التَّوَقُّفُ سِوَى امْتِدَادِ الْمِلْكِ الَّذِي تَحَقَّقَ فِي الْحَالِ، وَكَذَا عَدَمُ صِحَّةِ الرَّدِّ بَعْدَ سُكُوتِهِ أَوَّلَ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالتَّمْلِيكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ، وَأَمَّا اقْتِصَارُهُ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ فَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ وَهُوَ يَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي يَسْتَدْعِيه التَّمْلِيكُ فِي الْمَجْلِسِ الْقَبُولُ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، بَلْ امْتِدَادُهُ فِي تَمَامِ الْمَجْلِسِ أَثَرُ الْمِلْكِ وَارْتِفَاعُهُ بَعْدَهُ، وَنَفْسُ اقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ
وَمَرَّةً بِالْأَخْذِ فِي عَمَلٍ آخَرَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْخِيَارِ، وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ الْإِعْرَاضِ، إذْ الْقِيَامُ يُفَرِّقُ الرَّأْيَ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ وَلَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يَقْطَعُهُ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ. وَقَوْلُهُ مَكَثَتْ يَوْمًا لَيْسَ لِلتَّقْدِيرِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ عَمَلٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ فِيهِ لَا مُطْلَقَ الْعَمَلِ (وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَجَلَسَتْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِقْبَالِ فَإِنَّ الْقُعُودَ أَجْمَعُ لِلرَّأْيِ (وَكَذَا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ أَوْ مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ) لِأَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ جِلْسَةٍ إلَى جِلْسَةٍ فَلَا يَكُونُ إعْرَاضًا، كَمَا إذَا كَانَتْ مُحْتَبِيَةً فَتَرَبَّعَتْ.
قَالَ رضي الله عنه: هَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ إظْهَارُ التَّهَاوُنِ بِالْأَمْرِ فَكَانَ إعْرَاضًا،
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ تَطْلِيقَهَا نَفْسَهَا قَبُولٌ، قُلْنَا: لَا يَتِمُّ إذْ هُوَ التَّصَرُّفُ الْمُتَفَرِّعُ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ لَهُ.
أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الرُّجُوعِ مِنْ الزَّوْجِ فَيُنَاسِبُ كُلًّا مِنْ التَّعْلِيقِ وَالتَّمْلِيكِ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ يَلْزَمُ بِلَا قَضَاءٍ وَلَا رِضًا، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْآثَارِ يَصِحُّ تَرَتُّبُهَا عَلَى جِهَةِ الْمِلْكِ هُنَا، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ جِهَةِ التَّعْلِيقِ، وَقَوْلُهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا طَلَّقْت نَفْسَك فَأَنْتِ طَالِقٌ يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ فِي الْوَكَالَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا بِعْت مَتَاعِي فَقَدْ أَجَزْت بَيْعَك، وَالْوِلَايَةِ كَأَنَّ الْإِمَامَ قَالَ لَهُ: إذَا قَضَيْت فَقَدْ أَنَفَذْت قَضَاءَك كَمَا قَدَّمْنَا، وَالِاعْتِبَارَاتُ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا كَثِيرَةٌ فِي دَائِرَةِ الْإِمْكَانِ (قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ:) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عَمَلٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَتْ فِيهِ) فَلَوْ لَبِسَتْ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ أَوْ أَكَلَتْ قَلِيلًا أَوْ شَرِبَتْ أَوْ قَرَأَتْ قَلِيلًا أَوْ سَبَّحَتْ أَوْ قَالَتْ اُدْعُ إلَيَّ أَبِي أَسْتَشِيرُهُ أَوْ الشُّهُودَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا هُوَ عَمَلُ الْفُرْقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ فِي التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا، وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذَا مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي وَطَلِّقِي نَفْسَك وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت، وَكَذَا إذْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: أَمْرُ امْرَأَتِي بِيَدِك أَوْ طَلِّقْهَا إذَا شِئْت أَوْ إنْ شِئْت أَوْ أَعْتِقْ عَبْدِي إذَا شِئْت، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: بِعْهُ إنْ شِئْت لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ.
وَلَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ اخْتَضَبَتْ أَوْ جَامَعَهَا يَبْطُلُ. وَذَكَرَ الْمَرْغِينَانِيُّ إنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يَدْعُو الشُّهُودَ فَقَامَتْ لِتَدْعُوَ وَلَمْ تَنْتَقِلْ، قِيلَ لَا يَبْطُلَ خِيَارُهَا لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَقِيلَ يَبْطُلُ لِلتَّبَدُّلِ وَلَا تُعْذَرُ فِيهِ كَمَا لَا تُعْذَرُ فِيمَا إذَا أُقِيمَتْ كُرْهًا، وَقِيلَ إذَا لَمْ تَنْتَقِلْ لَمْ يَبْطُلْ، وَإِنْ انْتَقَلَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَلَوْ نَامَتْ وَهِيَ قَاعِدَةٌ أَوْ كَانَتْ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ أَوْ الْوِتْرَ فَأَتَمَّتْهَا أَوْ النَّفَلَ فَأَتَمَّتْ رَكْعَتَيْنِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا، وَلَوْ قَامَتْ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي بَطَلَ إلَّا فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك فَقَالَتْ: لِمَ لَا تُطَلِّقُنِي بِلِسَانِك فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ لِأَنَّ قَوْلَهَا لِمَ لَا تُطَلِّقُنِي لَيْسَ رَدًّا فَتَمْلِكُ بَعْدَهُ الطَّلَاقَ.
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهَا لِمَ إلَخْ كَلَامٌ زَائِدٌ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ.
وَلَوْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاضْطَجَعَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله (وَلَوْ قَالَتْ اُدْعُ أَبِي أَسْتَشِرْهُ أَوْ شُهُودًا أُشْهِدْهُمْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا) لِأَنَّ الِاسْتِشَارَةَ لِتَحَرِّي الصَّوَابِ، وَالْإِشْهَادَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِنْكَارِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ (وَإِنْ كَانَتْ تَسِيرُ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فِي مَحْمَلٍ فَوَقَفَتْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا، وَإِنْ سَارَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا) لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ وَوُقُوفَهَا مُضَافٌ إلَيْهَا (وَالسَّفِينَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ) لِأَنَّ سَيْرَهَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَى رَاكِبِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيقَافِهَا وَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يَقْدِرُ. .
فَصْلٌ فِي الْمَشِيئَةِ
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَقَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ،
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْدِلِ لِلْمَجْلِسِ مَا يَكُونُ قَطْعًا لِلْكَلَامِ الْأَوْلِ وَإِفَاضَتِهِ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ بَلْ الْكُلُّ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّلَاقُ (قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) أَيْ مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ قَدْ يَسْتَنِدُ لِأَجْلِ التَّفَكُّرِ لِأَنَّ الِاسْتِنَادِ وَالِاتِّكَاءَ سَبَبٌ لِلرَّاحَةِ كَالْقُعُودِ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ جِلْسَةٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الثَّابِتُ لِلْجَالِسِ (قَوْلُهُ وَإِنْ سَارَتْ بَطُلَ) قِيلَ لَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا مَعَ سُكُوتِهِ، وَالدَّابَّةُ تَسِيرُ طَلُقَتْ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُهَا الْجَوَابُ بِأَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَتَبَدَّلُ حُكْمًا، وَهَذَا لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ لِيَصِيرَ الْجَوَابُ مُتَّصِلًا بِالْخِطَابِ وَقَدْ وُجِدَ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ مَعَهَا عَلَى الدَّابَّةَ أَوْ الْمَحْمَلِ أَوْ لَا، وَلَوْ كَانَتْ رَاكِبَةً فَنَزَلَتْ أَوْ تَحَوَّلَتْ إلَى دَابَّةٍ أُخْرَى أَوْ كَانَتْ نَازِلَةً فَرَكَبَتْ بَطُلَ خِيَارُهَا، وَفِي الْمَحْمَلِ يَقُودُهُ الْجَمَّالُ وَهُمَا فِيهِ لَا يَبْطُلُ ذِكْرُهُ فِي الْغَايَةِ لِأَنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَالسَّفِينَةِ (قَوْلُهُ وَالسَّفِينَةُ كَالْبَيْتِ لِأَنَّ سَيْرَهَا غَيْرَ مُضَافٍ إلَى رَاكِبِهَا) بَلْ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الرِّيحِ وَدَفْعِ الْمَاءِ فِيمَا لَهُ جِرْيَةٍ كَالنِّيلِ فَلَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ بِسَيْرِهَا بَلْ يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّفِينَةَ إذَا كَانَتْ وَاقِفَةً فَسَارَتْ بَطُلَ خِيَارُهَا.
(فَصْلٌ فِي الْمَشِيئَةِ) (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَقَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ
وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَقَعْنَ عَلَيْهَا) وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي مَعْنَاهُ افْعَلِي فِعْلَ التَّطْلِيقِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ فَيَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، فَلِهَذَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَيَنْصَرِفُ إلَى وَاحِدَةٍ عِنْدَ عَدَمِهَا وَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ رَجْعِيَّةً لِأَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ، وَلَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ نِيَّةُ الْعَدَدِ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَمَةً لِأَنَّهُ جِنْسٌ فِي حَقِّهَا.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك قَالَتْ: أَبَنْت نَفْسِي طَلَقْت) وَلَوْ قَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَبَنْتُك يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَتْ: أَبَنْت نَفْسِي فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ أَجَزْت ذَلِكَ بَانَتْ فَكَانَتْ مُوَافِقَةً لِلتَّفْوِيضِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهَا زَادَتْ فِيهِ وَصْفًا وَهُوَ
وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَقَعْنَ عَلَيْهَا) سَوَاءٌ أَوْقَعَتْهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ مُتَفَرِّقًا وَإِنَّمَا صَحَّ إرَادَةُ الثَّلَاثِ (لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي نَفْسَك مَعْنَاهُ افْعَلِي فِعْلَ التَّطْلِيقِ) فَهُوَ مَذْكُورٌ لُغَةً لِأَنَّهُ جُزْءُ مَعْنَى اللَّفْظِ فَصَحَّ نِيَّةُ الْعُمُومِ غَيْرَ أَنَّ الْعُمُومَ فِي حَقِّ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَفِي حَقِّ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: أَبَنْت نَفْسِي طَلُقَتْ) أَيْ رَجْعِيًّا، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي لَمْ تَطْلُقْ. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ صِحَّةِ الْجَوَابِ بِأَبَنْتُ وَعَدَمِهِ بِاخْتَرْت أَنَّ الْمُفَوَّضَ الطَّلَاقُ، وَالْإِبَانَةُ مِنْ أَلْفَاظِهِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي إيقَاعِهِ كِنَايَةً فَقَدْ أَجَابَتْ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا، بِخِلَافِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، وَلِهَذَا لَوْ قَالَتْ: أَبَنْت نَفْسِي تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ، وَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا تَلْحَقُهُ إجَازَةٌ، وَإِنَّمَا صَارَ كِنَايَةً بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِيمَا إذَا جُعِلَ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ، غَيْرَ أَنَّهَا زَادَتْ وَصْفَ تَعْجِيلِ الْبَيْنُونَةِ فِيهِ فَيَلْغُو الْوَصْفُ وَيَثْبُتُ الْأَصْلُ. لَا يُقَالُ: قَدْ صَحَّ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَمْرُ بِالْيَدِ هُوَ التَّخْيِيرُ مَعْنًى فَيَثْبُتُ جَوَابًا لَهُ بِدَلَالَةِ نَصِّ إجْمَاعِهِمْ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْرُك بِيَدِك لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنَّك مُخَيَّرَةٌ فِي أَمْرِك الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ بَيْنَ إيقَاعِهِ وَعَدَمِهِ، فَحَيْثُ جُعِلَ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ كَانَ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ بِمُرَادِفِهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ خُصُوصَ اللَّفْظِ مُلْغًى، بِخِلَافِ طَلِّقِي لِأَنَّهُ وَضْعًا طَلَبُ الطَّلَاقِ لَا التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَمِهِ، ثُمَّ إذَا أَجَابَتْ بِاخْتَرْت نَفْسِي خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِاشْتِغَالِهَا بِمَا لَا يَعْنِيهَا فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِجَوَابِهَا بِأَبَنْتُ نَفْسِي لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا، لِأَنَّ الْإِبَانَةَ تُغَايِرُ الطَّلَاقَ
تَعْجِيلُ الْإِبَانَةِ فَيَلْغُو الْوَصْفُ الزَّائِدُ وَيَثْبُتُ الْأَصْلُ، كَمَا إذَا قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. بِخِلَافِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَرْتُك أَوْ اخْتَارِي يَنْوِي الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ، لَوْ قَالَتْ ابْتِدَاءً: اخْتَرْت نَفْسِي فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ أَجَزْت لَا يَقَعُ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ طَلَاقًا بِالْإِجْمَاعِ إذَا حَصَلَ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ، وَقَوْلُهُ طَلِّقِي نَفْسَك لَيْسَ بِتَنْجِيزٍ فَيَلْغُو. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِقَوْلِهَا أَبَنْت نَفْسِي لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا إذْ الْإِبَانَةُ تَغَايُرُ الطَّلَاقَ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ) لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِتَطْلِيقِهَا وَالْيَمِينُ تَصَرُّفٌ لَازِمٌ، وَلَوْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا بَطَلَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي ضَرَّتَك لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَقْبَلُ الرُّجُوعَ
لِحُصُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَمَا يَخْرُجُ بِقَوْلِهَا اخْتَرْت، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ فَطَلَّقَتْ تَطْلِيقَةً أَوْ قَالَ: ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ أَلْفًا لَا يَقَعُ شَيْءٌ. الْجَوَابُ أَنَّهَا خَالَفَتْهُ فِيهِمَا فِي الْأَصْلِ، فِي الْأُولَى ظَاهِرٌ وَكَذَا فِي الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْإِيقَاعَ بِالْعَدَدِ عِنْدَ ذِكْرِهِ لَا بِالْوَصْفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ خِلَافًا مُعْتَبَرًا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا خَالَفَتْ فِي الْوَصْفِ بَعْدَ مُوَافَقَتِهَا فِي الْأَصْلِ فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا إذْ الْوَصْفُ تَابِعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا التُّمُرْتَاشِيُّ، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ صُورَةِ اللَّفْظِ لَيْسَ غَيْرَهُ، إذْ لَوْ أَوْقَعَتْ عَلَى الْمُرَافَقَةِ: أَعْنِي الثَّلَاثَ وَالنِّصْفَ كَانَ الْوَاقِعُ هُوَ الْوَاقِعَ بِالتَّطْلِيقَةِ وَالْأَلْفِ، وَالْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْوَاقِعَ بِمُجَرَّدِ الصَّرِيحِ لَيْسَ هُوَ الْوَاقِعَ بِالْبَائِنِ، وَقَدْ اُعْتُبِرَ الْخِلَافُ لِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ بِلَا مُخَالَفَةٍ فِي الْمَعْنَى خِلَافًا نَظَرًا إلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْإِيقَاعِ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَعْنَى غَيْرُ خِلَافٍ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَلَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا بَطَلَ خِيَارُهَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقِي ضَرَّتَك لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَقْبَلُ الرُّجُوعَ) وَكَذَا قَوْلُهُ لِأَجْنَبِيٍّ طَلِّقْهَا أَوْ قَوْلُ
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك مَتَى شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى عَامَّةٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت.
(وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْ امْرَأَتِي فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ) وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ، فَلَا يَلْزَمُ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك لِأَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا فَكَانَ تَمْلِيكًا لَا تَوْكِيلًا (وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْهَا إنْ شِئْت فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ خَاصَّةً) وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: هَذَا وَالْأَوَّلُ
أَجْنَبِيٍّ لَهَا طَلِّقِي فُلَانَةَ لِأَنَّهَا عَامِلَةٌ فِيهِ لِغَيْرِهَا، وَكَذَا الْمَدْيُونُ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ بِقَوْلِ الدَّائِنِ لَهُ أَبْرِئْ ذِمَّتَك عَامِلٌ لِغَيْرِهِ بِالذَّاتِ وَلِنَفْسِهِ ضِمْنًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَالتَّوْكِيلُ اسْتِعَانَةٌ، فَلَوْ لَزِمَ فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ، وَقَدَّمْنَا عَدَمَ ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ طَلِّقِي وَأَبْرِئْ ذِمَّتَك إذْ كُلُّ مَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي أَحَدِهِمَا يُمْكِنُ فِي الْآخَرِ، وَإِنَّ عَدَمَ الرُّجُوعِ أَيْضًا يَتَفَرَّعُ عَلَى مَعْنَى الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالتَّمْلِيكِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَبُولِ شَرْعًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَرَتُّبِهِ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيقِ الْمُسْتَخْرَجِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مِثْلُهُ فِي الْوَكَالَاتِ وَالْوِلَايَاتِ، فَلَوْ صَحَّ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ الرُّجُوعُ عَنْ تَوْكِيلٍ وَوِلَايَةٍ. وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَجْلِسِ فَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك مَتَى شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ) وَكَذَا إذَا شِئْت وَإِذَا مَا شِئْت لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعُمُومِ. وَيَرِدُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي " إذْ " أَنَّهَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ " إنْ " فَلَا تَقْتَضِي بَقَاءَ الْأَمْرِ فِي يَدِهَا، وَفِيهِ جَوَابُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْمَلَ شَرْطًا وَأَنْ تَعْمَلَ ظَرْفًا وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ مَا مَلَكَتْ، وَإِنَّمَا مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ وَقْتَ الْمَشِيئَةِ فَلَا تَمْلِكُهُ دُونَهَا، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ هَذَا إضَافَةٌ لِلتَّمْلِيكِ لَا تَنْجِيزٌ.
وَمِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ أَنَّهَا إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بِلَا قَصْدٍ غَلَطًا لَا يَقَعُ إذَا ذَكَرَ الْمَشِيئَةَ وَيَقَعُ إذَا لَمْ يَذْكُرْهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مَا يُوجِبُ حَمْلَ مَا أُطْلِقَ مِنْ كَلَامِهِمْ مِنْ الْوُقُوعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ غَلَطًا عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْقَضَاءِ لَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْ امْرَأَتِي فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ وَلَهُ) أَيْ لِلْقَائِلِ (أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ وَالتَّوْكِيلُ اسْتِعَانَةٌ فَلَا يَلْزَمُ) وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يَقْتَصِرَ، وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك لِأَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا فَكَانَ تَمْلِيكًا لَا تَوْكِيلًا (وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْهَا إنْ شِئْت فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ خَاصَّةً وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ. وَقَالَ زُفَرُ: هَذَا وَالْأَوَّلُ) وَهُوَ قَوْلُهُ لِلرَّجُلِ طَلِّقْ امْرَأَتِي بِلَا
سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْمَشِيئَةِ كَعَدَمِهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قِيلَ لَهُ: بِعْهُ إنْ شِئْت. وَلَنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْمَالِكُ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ،
ذِكْرِ مَشِيئَةٍ (سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْمَشِيئَةِ كَعَدَمِهِ لِأَنَّهُ) وَكِيلًا كَانَ أَوْ مَالِكًا (يَتَصَرَّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ) فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ: بِعْ عَبْدِي هَذَا إنْ شِئْت لَا يَقْتَصِرُ وَلَهُ الرُّجُوعُ.
أُجِيبَ بِأَنْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَشِيئَةِ الَّتِي بِمَعْنَى عَدَمِ الْجَبْرِ بَلْ فِي أَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ لَهُ الْمَشِيئَةَ لَفْظًا صَارَ مُوجِبُ اللَّفْظِ التَّمْلِيكَ لَا التَّوْكِيلَ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ لِغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ عَنْ مَشِيئَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَإِنْ كَانَ امْتِثَالُهُ بِمَشِيئَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ بِمَشِيئَةِ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً غَيْرَ مُعْتَبِرٍ ذَلِكَ امْتِثَالًا، فَإِذَا صَرَّحَ لَهُ الْمَالِكُ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهِ كَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا فَيَسْتَلْزِمُ حُكْمَ التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ فَيَلْغُو وَصْفُ التَّمْلِيكِ وَيَبْقَى الْإِذْنُ وَالتَّصَرُّفُ بِمُقْتَضَى مُجَرَّدِ الْإِذْنِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ.
قِيلَ: فِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ لَيْسَ بِمُعَلَّقٍ بِالْمَشِيئَةِ بَلْ الْمُعَلَّقُ فِيهِ الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ وَهِيَ تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَهَذَا غَلَطٌ يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ هُوَ قَوْلُهُ بِعْ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ كَوْنُ نَفْسِ قَوْلِهِ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ بَلْ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَفَرَغَ مِنْهُ قَبْلَ مَشِيئَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَلَمْ يَبْقَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ سِوَى فِعْلِ مُتَعَلَّقِ التَّوْكِيلِ أَوْ عَدَمِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. وَإِلَى هُنَا تَمَّ مِنْ الْمُصَنِّفِ إنَاطَةُ وَصْفِ التَّمْلِيكِ مَرَّةً بِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَمَرَّةً بِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِهِ، وَمَرَّةً بِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمَشِيئَةِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ الرَّأْيُ وَالْمَشِيئَةُ وَاحِدًا، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالرَّأْيِ الْعَمَلُ بِمَا يَرَاهُ أَصْوَبَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْخَذَ فِي مَفْهُومِهِ كَوْنُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَالْعَمَلُ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِهِ لِغَيْرِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ أَيْ بِاخْتِيَارِهِ ابْتِدَاءً بِلَا اعْتِبَارِهِ عَلَى مُطَابَقَةِ أَمْرِ آمِرٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْأَصْوَبِيَّةِ فِي مُتَعَلِّقِهَا بَلْ هِيَ وَالْإِرَادَةُ يُخَصَّصَانِ الشَّيْءَ بِوَقْتِ وُجُودِهِ، وَالْأَوَّلُ نَقَضْنَاهُ بِالْوَكَالَةِ، وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِأَنَّ الْعَامِلَ بِرَأْيِهِ هُوَ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ عَلَى رَأْيِهِ مَا يُقَيِّدُهُ فِي فِعْلٍ وَلَا تَرْكٍ، وَالْوَكِيلُ وَإِنْ كَانَ بِوَكَالَةٍ عَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَهُ مَا يَغْلِبُهُ فِي جَانِبِ التَّرْكِ وَهُوَ لُزُومُ خُلْفِ الْوَعْدِ الثَّابِتِ ضِمْنَ رِضَاهُ بِالتَّوْكِيلِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ فَرَضِيَ كَانَ وَاعِدًا بِفِعْلِ مَا اسْتَعَانَ بِهِ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أَخْلَفَ الْوَعْدَ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهَا لَا تُعَدُّ مُخْلِفَةً بِتَرْكِ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَقْسِرْهَا عَلَيْهِ قَاسِرٌ شَرْعِيٌّ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ عَامِلًا بِرَأْيِ نَفْسِهِ
وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّهَا مَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ فَتَمْلِكُ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ ضَرُورَةً (وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تَقَعُ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّهَا أَتَتْ بِمَا مَلَكَتْهُ وَزِيَادَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَلْفًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَكَانَتْ مُبْتَدِئَةً، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الْوَاحِدَةَ وَالثَّلَاثُ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الثَّلَاثَ اسْمٌ لِعَدَدٍ مُرَكَّبٍ مُجْتَمِعٍ وَالْوَاحِدَةُ فَرْدٌ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مُغَايِرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ، بِخِلَافِ
مُطْلَقًا، وَالثَّانِي بِأَمْرِ الْمَدْيُونِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَقَدَّمْنَا مَا فِي جَوَابِهِ مِنْ النَّظَرِ، وَلَوْ تَمَّ انْتَقَضَ بِالتَّفْوِيضِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ قَطْعًا لَيْسَ بِتَطْلِيقِ زَوْجَةِ غَيْرِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَالثَّالِثُ أَقْرَبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِمَا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا لَمَّا مَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ كَانَ لَهَا أَنْ تُوقِعَ مِنْهَا مَا شَاءَتْ) كَالزَّوْجِ نَفْسِهِ (وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِمَا مَلَكَتْهُ وَزِيَادَةً فَصَارَ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَلْفًا) وَكَقَوْلِهَا طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَبَنْت نَفْسِي فِي جَوَابِ طَلِّقِي نَفْسَك وَطَلَّقْت نَفْسِي وَضَرَّتِي، وَقَوْلُ الْعَبْدِ فِي جَوَابِ اعْتِقْ نَفْسَك أَعْتَقْت نَفْسِي وَفُلَانًا حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثٌ فِي الْأُولَى وَرَجْعِيٌّ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَتَطْلُقُ هِيَ وَيَعْتِقُ هُوَ دُونَ مَنْ قَرَنَاهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا مُبْتَدِئَةً) فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَمَّا بَعْدَ الْأُولَى مِنْ الصُّوَرِ لِامْتِثَالِهَا بَدْءًا، ثُمَّ الْمُخَالَفَةُ بِمَا بَعْدَهُ فَلَا تُعْتَبَرُ.
وَوَجْهُهَا فِي أَبَنْت نَفْسِي أَنَّ مَعْنَاهُ طَلَّقْت نَفْسِي بَائِنًا وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الزَّوْجِ جَوَابٌ عَنْ الْأَوَّلِ: أَيْ أَنَّ الزَّوْجَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ مِلْكِهِ الثَّلَاثَ، وَكَمَا إذَا صَرَّحَ بِمَا الثَّلَاثُ فِي ضِمْنِهِ فَيَثْبُتُ الْقَدْرُ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَيَلْغُو مَا سِوَاهُ، وَكَذَا هِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا
الزَّوْجِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَكَذَا هِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا مَلَكَتْ الثَّلَاثَ، أَمَّا هَاهُنَا لَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ وَمَا أَتَتْ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهَا فَلَغَتْ.
(وَإِنْ أَمَرَهَا بِطَلَاقٍ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَطَلَّقَتْ بَائِنَةً، أَوْ أَمَرَهَا بِالْبَائِنِ فَطَلَّقَتْ رَجْعِيَّةً وَقَعَ مَا أَمَرَ بِهِ الزَّوْجُ) فَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً أَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَتَقُولُ: طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً بَائِنَةً فَتَقَعُ رَجْعِيَّةً لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَزِيَادَةِ وَصْفٍ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَلْغُو الْوَصْفُ وَيَبْقَى الْأَصْلُ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَقُولَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً بَائِنَةً فَتَقُولُ طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَتَقَعُ بَائِنَةً لِأَنَّ قَوْلَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً لَغْوٌ مِنْهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا عَيَّنَ صِفَةَ الْمُفَوَّضِ إلَيْهَا فَحَاجَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى إيقَاعِ الْأَصْلِ دُونَ تَعْيِينِ الْوَصْفِ فَصَارَ كَأَنَّهَا اقْتَصَرَتْ
مَلَّكْتُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا (أَمَّا هُنَا فَلَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ) لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَّكَهَا الْوَاحِدَةَ وَلَمْ تَأْتِ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَلَمْ تَصِرْ بِاعْتِبَارِهَا مَالِكَةً وَلَا بِاعْتِبَارِهَا مُتَصَرِّفَةً عَنْ الْآمِرِ لِعَدَمِ الْمُوَافَقَةِ، وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّهَا مَلَكَتْ الْوَاحِدَةَ وَهِيَ شَيْءٌ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ، بِخِلَافِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي فِي ضِمْنِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهَا بِقَيْدِ ضِدِّهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ الثَّلَاثُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مُرَكَّبٍ مُجْتَمَعُ الْوُحْدَانِ وَالْوَاحِدُ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ وَبِخِلَافِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا مَلَكَتْ الثَّلَاثَ.
أَمَّا هُنَا فَلَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ لَا يَسْتَعْقِبُ إيرَادًا. وَوَقَعَ فِي لَفْظِ الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ وَالثَّلَاثُ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ: يَعْنِي فَلَمْ تَكُنْ بِإِيقَاعِهَا مُوَافَقَةً لِمَا مَلَّكَهَا. فَاعْتَرَضَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْجُزْءَ مِنْ الْعَشَرَةِ لَيْسَ عَنْهَا وَلَا غَيْرِهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ بِخِلَافِ نَحْوِ الطَّلَاقِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ لِلْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا أَنَّ اصْطِلَاحَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ مَا لَيْسَ عَيْنًا فَهُوَ غَيْرٌ، وَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ وَضْعِ الِاصْطِلَاحِ أَصْلًا بَلْ عَدَمُ وَضْعِ لَفْظَةِ غَيْرٍ لُغَةً لَمْ يَتَوَقَّفْ إثْبَاتُ الْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ، إذْ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يُقَالَ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ وَالْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ إيَّاهَا فَلَا تَكُونُ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا فَإِيرَادُ مِثْلِهِ إلْزَامٌ بِمُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ بَعْدَ الْتِزَامِهِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ عَبَّرَ عَمَّا لَيْسَ إيَّاهُ بِلَفْظِ غَيْرٍ مَجَازًا.
(قَوْلُهُ وَلَوْ أَمَرَهَا بِطَلَاقٍ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا فَطَلَّقَتْ بَائِنًا أَوْ أَمَرَهَا بِالْبَائِنِ فَطَلَّقْت رَجْعِيًّا وَقَعَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً أَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِيهَا فَتَقُولُ: طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً بَائِنَةً تَقَعُ رَجْعِيَّةً لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَزِيَادَةِ وَصْفٍ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَلْغُو الْوَصْفُ وَيَبْقَى الْأَصْلُ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً بَائِنَةً فَتَقُولُ طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً تَقَعُ بَائِنَةً لِأَنَّ قَوْلَهَا رَجْعِيَّةً لَغْوٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا عَيَّنَ صِفَةَ الْمُفَوَّضِ إلَيْهَا فِي الصُّورَتَيْنِ فَحَاجَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَصْلِ الْإِيقَاعِ) لَا إلَى ذِكْرِ وَصْفِهِ، فَذِكْرُهَا إيَّاهُ مُوَافِقًا أَوْ مُخَالِفًا لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِإِيقَاعِهَا لَيْسَ إلَّا بِنَاءً عَلَى التَّفْوِيضِ، فَذِكْرُهَا كَسُكُوتِهَا عَنْهُ، وَعِنْدَ سُكُوتِهَا يَقَعُ عَلَى الْوَصْفِ
عَلَى الْأَصْلِ فَيَقَعُ بِالصِّفَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الزَّوْجُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا (وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ إنْ شِئْت الثَّلَاثَ وَهِيَ بِإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ مَا شَاءَتْ الثَّلَاثَ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ (وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً إنْ شِئْت فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّ مَشِيئَةَ الثَّلَاثِ لَيْسَتْ بِمَشِيئَةٍ لِلْوَاحِدَةِ كَإِيقَاعِهَا (وَقَالَا: تَقَعُ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّ مَشِيئَةَ الثَّلَاثِ مَشِيئَةٌ لِلْوَاحِدَةِ، كَمَا أَنَّ إيقَاعَهَا إيقَاعٌ لِلْوَاحِدَةِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَقَالَتْ: شِئْتُ إنْ شِئْتَ فَقَالَ الزَّوْجُ: شِئْتُ يَنْوِي الطَّلَاقَ بَطَلَ الْأَمْرُ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالْمَشِيئَةِ الْمُرْسَلَةِ وَهِيَ أَتَتْ بِالْمُعَلَّقَةِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَهُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِيهَا فَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ شِئْت وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمَرْأَةِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ لِيَصِيرَ الزَّوْجُ شَائِيًا طَلَاقَهَا، وَالنِّيَّةُ لَا تَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ
الْمُفَوَّضِ.
وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ إنْ كَانَتْ فِي الْوَصْفِ لَا يَبْطُلُ الْجَوَابُ، بَلْ يَبْطُلُ الْوَصْفُ الَّذِي بِهِ الْمُخَالَفَةُ وَيَقَعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَوَّضَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ حَيْثُ يَبْطُلُ، كَمَا إذَا فَوَّضَ وَاحِدَةً طَلُقَتْ ثَلَاثًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ فَوَّضَ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ أَلْفًا، وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُ أَبَنْت عَلَى مُخَالَفَةِ الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إلَخْ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا، فَلَوْ أَنَّهُ زَادَ قَوْلَهُ إنْ شِئْت فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إنْ شِئْت الثَّلَاثَ فَكَانَ تَفْوِيضُ الثَّلَاثِ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ هُوَ مَشِيئَتُهَا إيَّاهَا وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لِأَنَّهَا لَمْ تَشَأْ إلَّا وَاحِدَةً، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ عِنْدَهُمَا، فَلَوْ زَادَ قَوْلَهُ إنْ شِئْت فَالْخِلَافُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَشِيئَةُ الثَّلَاثِ لَيْسَتْ مَشِيئَةَ الْوَاحِدَةِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَهُمَا يَقُولَانِ: مَشِيئَةُ الثَّلَاثِ مَشِيئَةُ الْوَاحِدَةِ كَمَا أَنَّ إيقَاعَهَا إيقَاعُ الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَقَالَتْ: شِئْتُ إنْ شِئْتَ فَقَالَ: شِئْتُ يَنْوِي الطَّلَاقَ بَطَلَ الْأَمْرُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالْمَشِيئَةِ الْمُرْسَلَةِ) مِنْهَا (وَهِيَ قَدْ أَتَتْ بِالْمُعَلَّقَةِ فَمَا وُجِدَ الشَّرْطُ ثُمَّ هُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِيهَا فَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ شِئْت وَإِنْ نَوَى لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الرَّجُلِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ وَلَا فِي كَلَامِهَا) لِأَنَّهَا لَمْ تَقُلْ شِئْت طَلَاقِي إنْ شِئْتَ لِيَكُونَ الزَّوْجُ بِقَوْلِهِ شِئْتُ شَائِيًا طَلَاقَهَا لَفْظًا بَلْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ لَا تَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ الصَّالِحِ لِلْإِيقَاعِ وَلَا فِي الْمَذْكُورِ
حَتَّى لَوْ قَالَ: شِئْت طَلَاقَك يَقَعُ إذَا نَوَى لِأَنَّهُ إيقَاعٌ مُبْتَدَأٌ إذْ الْمَشِيئَةُ تُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَرَدْت طَلَاقَك لِأَنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ.
الَّذِي لَيْسَ بِصَالِحٍ لِلْإِيقَاعِ بِهِ نَحْوُ اسْقِنِي.
(حَتَّى لَوْ قَالَ: شِئْت طَلَاقَك يَنْوِيهِ وَقَعَ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ) لِأَنَّهَا مِنْ الشَّيْءِ وَهُوَ الْمَوْجُودُ (بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَرَدْت طَلَاقَك لِأَنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ) بَلْ هِيَ طَلَبٌ لِنَفْسِ الْوُجُودِ عَنْ مَيْلٍ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَشِيئَةَ وَالْإِرَادَةَ فِي صِفَةِ الْعِبَادِ مُخْتَلِفَانِ، وَفِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَرَادِفَانِ كَمَا هُوَ اللُّغَةُ فِيهِمَا مُطْلَقًا فَلَا يَدْخُلُهُمَا وُجُودٌ: أَيْ لَا يَكُونُ الْوُجُودُ جُزْءَ مَفْهُومِ أَحَدِهِمَا غَيْرَ أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَكَذَا مَا أَرَادَهُ، لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْمُرَادِ إنَّمَا يَكُونُ لِعَجْزِ الْمُرِيدِ لَا لِذَاتِ الْإِرَادَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ الْمُؤَثِّرَةَ لِلْوُجُودِ لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصِّيَّةُ الْقُدْرَةِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهَا الْمُخَصِّصَةُ لِلْمَقْدُورِ الْمَعْلُومِ وُجُودُهُ بِالْوَقْتِ وَالْكَيْفِيَّةِ، ثُمَّ الْقُدْرَةُ تُؤَثِّرُ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّفُ شَيْءٌ عَنْ مُرَادِهِ تَعَالَى لِمَا قُلْنَا فِي الْمَشِيئَةِ بِخِلَافِ الْعِبَادِ، وَعَنْ هَذَا لَوْ قَالَ أَرَادَ اللَّهُ طَلَاقَك يَنْوِيهِ يَقَعُ كَمَا لَوْ قَالَ شَاءَ اللَّهُ، بِخِلَافِ أَحَبَّ اللَّهُ طَلَاقَك أَوْ رَضِيَهُ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَلْزِمَانِ مِنْهُ تَعَالَى الْوُجُودَ.
وَلَوْ قِيلَ: التَّخْصِيصُ بِالْوَقْتِ الْإِرَادَةُ يَكُونُ عَنْ طَلَبِهِ وَيَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْفَرْقِ بَيْنَ صِفَةِ الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ. نَعَمْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَبَيْنِ أَنَّهُ فِي الْكَلَامِ طَلَبٌ تَكْلِيفِيٌّ وَهَذَا بِخِلَافِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ كَوْنُ الطَّلَبِ الْكَلَامِيِّ تَكْلِيفًا دَائِمًا كَمَا فِي الطَّلَبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِكُنْ.
وَلَوْ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ الطَّلَبَ خَارِجٌ عَنْهَا لَزِمَ كَوْنُهَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَإِذْ قَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ لَا يَكُونُ فَرْقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ رِوَايَةً عَنْهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي صِفَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى. بَقِيَ الشَّأْنُ فِي كَوْنِ الْمَشِيئَةِ تُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لِلِاشْتِقَاقِ مِنْ الشَّيْءِ وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الشَّيْءَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْأَعْيَانِ إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ فِي مَفْهُومِهِ الْوُجُودَ اصْطِلَاحٌ طَارِئٌ عَلَى اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ لُغَةً يُقَالُ لِلْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ، وَكَوْنُ الْإِرَادَةِ نُسِبَتْ إلَى مَا لَا يَعْقِلُ بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ، كَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ لَا أَثَرَ لَهُ إلَّا
(وَكَذَا إذَا قَالَتْ شِئْتُ إنْ شَاءَ أَبِي أَوْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِأَمْرٍ لَمْ يَجِئْ بَعْدُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ مَشِيئَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَبَطَلَ الْأَمْرُ (وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِأَمْرٍ قَدْ مَضَى طَلُقَتْ) لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَوْ إذَا مَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت أَوْ مَتَى مَا شِئْت فَرَدَّتْ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ) أَمَّا كَلِمَةُ مَتَى وَمَتَى مَا فَلِأَنَّهُمَا لِلْوَقْتِ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، كَأَنَّهُ قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ رَدَّتْ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي شَاءَتْ فَلَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا
لَوْ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا عَقْلِيًّا أَوْ مَجَازًا لُغَوِيًّا فِي لَفْظِ الْإِرَادَةِ، عَلَى أَنَّهُ سُمِعَ نِسْبَةُ الْمَشِيئَةِ أَيْضًا إلَى ذَلِكَ.
أَنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ:
يَا مَرْحَبَاهُ بِحِمَارٍ عَقْرَا
…
إذَا أَتَى قَرَّبْتُهُ لِمَا يَشَا
مِنْ الشَّعِيرِ وَالْحَشِيشِ وَالْمَا
وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ قَصْرِ الْمَمْدُودِ، فَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعُرْفُ فِيهِ: يَعْنِي بِكَوْنِ الْعُرْفِ الْعَامِّ أَنَّهُ الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ وَالْمَشِيئَةُ مِنْهُ بِأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ وَهُوَ الشَّيْءُ الْكَائِنُ مَصْدَرًا لِشَاءَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: شَاءَ شَيْئًا عَلَى إرَادَةِ الْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ ثُمَّ يُشْتَقُّ مِنْهُ.
وَلِمَا كَانَ الْوُجُودُ عَلَى هَذَا مُحْتَمِلَ اللَّفْظِ لَا مُوجِبَهُ احْتَاجَ إلَى النِّيَّةِ فَلَزِمَ الْوُجُودُ فِيهَا، فَإِذَا قَالَ: شِئْت كَذَا فِي التَّخَاطُبِ الْعُرْفِيِّ فَمَعْنَاهُ أَوْجَدْتُهُ عَنْ اخْتِيَارٍ، بِخِلَافِ أَرَدْت كَذَا مُجَرَّدًا يُفِيدُ عُرْفًا عَدَمَ الْوُجُودِ، وَأَحْبَبْت طَلَاقَك وَرَضِيتُهُ مِثْلُ أَرَدْتُهُ، وَلَوْ قَالَ: شَائِي طَلَاقَك نَاوِيًا لِلطَّلَاقِ فَقَالَتْ: شِئْت وَقَعَ، وَلَوْ قَالَ أَرِيدِيهِ أَوْ اهْوَيْهِ أَوْ أَحِبِّيهِ أَوْ ارْضَيْهِ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ: أَرَدْتُهُ أَحْبَبْتُهُ هَوَيْتُهُ رَضِيتُهُ لَا يَقَعُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَرَدْت أَوْ أَحْبَبْت إلَى آخِرِهَا فَقَالَتْ: أَرَدْت أَوْ أَحْبَبْت إلَى آخِرِهَا فَإِنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إنْ كُنْت تُحِبِّينِي يَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهَا فَإِذَا قَالَتْ: أَحْبَبْت وَقَعَ (قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِأَمْرٍ قَدْ مَضَى) كَشِئْت إنْ كَانَ فُلَانٌ قَدْ جَاءَ وَقَدْ جَاءَ، أَوْ لِأَمْرٍ كَائِنٍ كَشِئْت إنْ كَانَ أَبِي فِي الدَّارِ وَهُوَ فِيهَا طَلُقَتْ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِأَمْرٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ.
قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ إنْ كُنْت فَعَلْت كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ أَنْ يَكْفُرَ وَهُوَ مُنْتَفٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ بِكُفْرِهِ فَاللَّازِمُ حَقٌّ، وَعَلَى الْمُخْتَارِ وَهُوَ عَدَمُ كُفْرِهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُفَرَّقُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ جُعِلَتْ كِنَايَةً عَنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إذَا جَعَلَ تَعْلِيقَ كُفْرِهِ بِأَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَكَذَا إذَا جَعَلَهُ بِمَاضٍ تَحَامِيًا عَنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ. وَالْأَوْجَهُ أَنَّ الْكُفْرَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَتَبَدُّلُهُ غَيْرُ وَاقِعٍ مَعَ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ هُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ اعْتِقَادُهُ يَجِبُ أَنْ يَكْفُرَ فَلْيَكْفُرْ هُنَا بِلَفْظِ هُوَ كَافِرٌ وَإِنْ لَمْ يَتَبَدَّلْ اعْتِقَادُهُ. قُلْنَا: النَّازِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ حُكْمُ اللَّفْظِ لَا عَيْنُهُ فَلَيْسَ هُوَ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ مُتَكَلِّمًا بِقَوْلِهِ هُوَ كَافِرٌ حَقِيقَةً.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْت فَرَدَّتْ) بِأَنْ قَالَتْ: لَا أَشَاءُ لَا يَكُونُ رَدًّا وَلَهَا أَنْ تَشَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، أَمَّا كَلِمَةُ مَتَى فَإِنَّهَا لِعُمُومِ الْأَوْقَاتِ كَأَنَّهُ قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت، وَإِنَّمَا
قَبْلَ الْمَشِيئَةِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ، وَلَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا إلَّا وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تَعُمُّ الْأَزْمَانَ دُونَ الْأَفْعَالِ فَتَمْلِكُ التَّطْلِيقَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَا تَمْلِكُ تَطْلِيقًا بَعْدَ تَطْلِيقٍ، وَأُمًّا كَلِمَةُ إذَا وَإِذَا مَا فَهُمَا وَمَتَى سَوَاءٌ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ لَكِنَّ الْأَمْرَ صَارَ بِيَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ حَتَّى تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا) لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تُوجِبُ تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمِلْكِ الْقَائِمِ (حَتَّى لَوْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا
لَمْ يَرْتَدَّ بِرَدِّهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا فِي الْحَالِ شَيْئًا بَلْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتِ مَشِيئَتِهَا فَلَا يَكُونُ تَمْلِيكًا قَبْلَهُ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ هَذَا تَمْلِيكًا فِي حَالٍ أَصْلًا لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِطَلَاقِهَا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ مَشِيئَتِهَا، فَإِذَا وُجِدَتْ مَشِيئَتُهَا وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَ فِي لَفْظِ طَلِّقِي نَفْسَك إذَا شِئْت لِأَنَّهَا تَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لَكِنْ الْوَاقِعُ طَلَاقُهُ الْمُعَلَّقُ وَقَوْلُهَا طَلَّقْت إيجَادٌ لِلشَّرْطِ الَّذِي هُوَ مَشِيئَةُ الطَّلَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمَشِيئَةَ تُقَارِنُ الْإِيجَادَ، ثُمَّ لَا تَمْلِكُ طَلَاقَ نَفْسِهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تَعُمُّ الْأَزْمَانَ لَا الْأَفْعَالَ بِخِلَافِ كُلَّمَا (قَوْلُهُ وَأَمَّا كَلِمَةُ إذَا وَإِذَا مَا فَهِيَ كَمَتَى عِنْدَهُمَا) فَمَا كَانَ حُكْمًا لِمَتَى يَكُونُ حُكْمًا لِإِذَا (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَإِنْ كَانَتْ إذَا تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ) الْمُجَرَّدِ عَنْ مَعْنَى الزَّمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ (لَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ) أَيْضًا مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَمَقْرُونًا بِهِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَحَقَّقَ فِيهِ ثُبُوتُ حُكْمٍ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِالشَّكِّ، فَفِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك الْحُكْمُ الثَّابِتُ عَدَمُ الطَّلَاقِ فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إلَّا بِيَقِينٍ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهَا الزَّمَانُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا فَلَا تَطْلُقُ إلَّا بِالْمَوْتِ، وَفِي أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت صَارَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِانْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ إلَّا بِيَقِينٍ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهَا الشَّرْطُ الْمُجَرَّدُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا.
نَعَمْ لَوْ صَرَّحَ فَقَالَ: أَرَدْت مُجَرَّدَ الشَّرْطِ لَنَا أَنْ نَقُولَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَيَحْلِفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَرَادَهُ وَقَوْلُهُ وَقَدْ مَرَّ: يَعْنِي فِي فَصْلِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ. هَذَا وَالْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِهِ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ إذَا شِئْت يَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَعْلِيقُ طَلَاقِهِمَا بِشَرْطٍ هُوَ مَشِيئَتُهَا وَأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى زَمَانِهِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ حَتَّى إذَا تَحَقَّقَتْ مَشِيئَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَتْ: شِئْت ذَلِكَ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي وَقَعَ مُعَلَّقًا كَانَ أَوْ مُضَافًا لَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ دَخَلَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ثَبَتَ مِلْكُهَا بِالتَّمْلِيكِ فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ فِي الْمُرَادِ بِإِذَا أَنَّهُ مَحْضُ الشَّرْطِ فَيَخْرُجُ مِنْ يَدِهَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ أَوْ الزَّمَانِ فَلَا يَخْرُجُ كَمَتَى، وَقَدْ صَرَّحَ آنِفًا فِي مَتَى بِعَدَمِ ثُبُوتِ التَّمْلِيكِ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَّكَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي شَاءَتْ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا قَبْلَهُ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ.
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فَاَلَّذِي دَخَلَ فِي مِلْكِهَا تَحْقِيقُ الشَّرْطِ أَوْ الْمُضَافِ إلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ مَشِيئَتُهَا الطَّلَاقَ لِيَقَعَ طَلَاقُهُ.
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُمْ فِي قَوْلِهِ (أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْت لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ) مَعْنَاهُ تُطَلِّقُ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ تَجُوزُ بِالتَّطْلِيقِ عَنْهُ بِأَنْ تَقُولَ: شِئْت طَلَاقِي أَوْ طَلَّقْت نَفْسِي فَيَقَعُ طَلَاقُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ كَلَامُهُمْ فِي قَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك كُلَّمَا شِئْت (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّ مُوجِبَ كُلَّمَا تَكْرَارُ الْأَفْعَالِ أَبَدًا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَعَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ أَنْ تَمْلِكَ طَلَاقَهَا أَيْضًا وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. أَجَابَ بِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ
لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُسْتَحْدَثٌ (وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ) لِأَنَّهَا تُوجِبُ عُمُومَ الِانْفِرَادِ لَا عُمُومَ الِاجْتِمَاعِ فَلَا تَمْلِكُ الْإِيقَاعَ جُمْلَةً وَجَمْعًا (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْت أَوْ أَيْنَ شِئْت لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَشَاءَ، وَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا) لِأَنَّ كَلِمَةَ حَيْثُ وَأَيْنَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَكَانِ وَالطَّلَاقُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَكَانِ فَيَلْغُو وَيَبْقَى ذِكْرُ مُطْلَقِ الْمَشِيئَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ الزَّمَانِ لِأَنَّ لَهُ تَعَلُّقًا بِهِ حَتَّى يَقَعَ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت طَلُقَتْ تَطْلِيقَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) وَمَعْنَاهُ قَبْلَ
لَكِنْ التَّفْوِيضُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمِلْكِ الْقَائِمِ لَا إلَى عَدَمِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْمِلْكِ الْمَعْدُومِ، فَلَوْ انْصَرَفَ إلَيْهِ انْصَرَفَ إلَى عَدَمِ الْمِلْكِ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ لَزِمَ أَنَّ بِاسْتِغْرَاقِهِ تَكْرَارًا يَنْتَهِي بِهِ التَّفْوِيضُ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ الثَّلَاثُ، فَلَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَعَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ مَلَكَتْ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ أَيْضًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ إنَّمَا تَمْلِكُ ثِنْتَيْنِ لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الْهَدْمِ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهَا لِعُمُومِ الِانْفِرَادِ لَا عُمُومِ الِاجْتِمَاعِ فَلَا تَمْلِكُ الْإِيقَاعَ جَمْعًا، وَعَلَى هَذَا لَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا ثِنْتَيْنِ، فَلَوْ طَلَّقَتْ ثَلَاثًا أَوْ ثِنْتَيْنِ وَقَعَ عِنْدَهُمَا وَاحِدَةً.
وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ إيقَاعُ الْوَاحِدَةِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْتِ أَوْ أَيْنَ شِئْتِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَشَاءَ وَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَلَوْ قَامَتْ مِنْهُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا لِأَنَّ كَلِمَةَ حَيْثُ وَأَيْنَ لِلْمَكَانِ وَالطَّلَاقُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَكَانِ فَيَلْغُو وَيَبْقَى ذِكْرُ مُطْلَقِ الْمَشِيئَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا لَغَا الْمَكَانُ صَارَ أَنْتِ طَالِقٌ شِئْت، وَبِهِ يَقَعُ لِلْحَالِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُجْعَلُ الظَّرْفُ مَجَازًا عَنْ الشَّرْطِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفِيدُ ضَرْبًا مِنْ التَّأْخِيرِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ إلْغَائِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْقِيَامِ وَفِي أَدَوَاتِهِ مَا لَا يَبْطُلُ بِهِ كَمَتَى، وَإِذَا أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى إنْ أَوْلَى لِأَنَّهَا أُمُّ الْبَابِ وَصَرْفٌ لِشَرْطٍ وَفِيهِ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ. وَاعْتَرَضَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمَنَارِ بِأَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ مَجَازًا عَنْ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى انْتَهَى.
فَإِنْ أَرَادَ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الزَّمَانَ كَمَتَى حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْ يَدِهَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَلَيْسَ مَعْنًى لِحَيْثُ وَأَيْنَ بَلْ مَعْنَاهُمَا الْمَكَانُ، وَإِنْ أَرَادَ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ مَعْنَاهُمَا أَصْلًا، بَلْ اسْمُ الظَّرْفِ اصْطِلَاحٌ مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهٍ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بِالْأَوْعِيَةِ لِلْأَمْتِعَةِ وَهِيَ الظُّرُوفُ لُغَةً (قَوْلُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ عُمُومًا) كَمَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت (وَخُصُوصًا) فِي أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت طَلُقَتْ) إنْ كَانَتْ غَيْرَ
الْمَشِيئَةِ، فَإِنْ قَالَتْ: قَدْ شِئْت وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا وَقَالَ الزَّوْجُ ذَلِكَ نَوَيْت فَهُوَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَثْبُتُ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ مَشِيئَتِهَا وَإِرَادَتِهِ، أَمَّا إذَا أَرَادَتْ ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ عَلَى الْقَلْبِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَغَا تَصَرُّفَهَا لِعَدَمِ الْمُوَافَقَةِ فَبَقِيَ إيقَاعُ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ تُعْتَبَرُ مَشِيئَتُهَا فِيمَا قَالُوا جَرْيًا عَلَى مُوجِبِ التَّخْيِيرِ قَالَ رضي الله عنه
مَدْخُولٍ بِهَا طَلْقَةً بَائِنَةً، وَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّتِهَا بِعَدَمِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا طَلُقَتْ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ ذَلِكَ شَاءَتْ أَوْ لَا، ثُمَّ إنْ قَالَتْ: شِئْت بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ تَصِيرُ كَذَلِكَ لِلْمُطَابَقَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا بِأَنْ شَاءَتْ بَائِنَةً وَالزَّوْجُ ثَلَاثًا أَوْ عَلَى الْقَلْبِ فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَغَتْ مَشِيئَتُهَا لِعَدَمِ الْمُوَافَقَةِ فَبَقِيَ إيقَاعُ الزَّوْجِ بِالصَّرِيحِ وَنِيَّتُهُ لَا تَعْمَلُ فِي جَعْلِهِ بَائِنًا وَلَا ثَلَاثًا، وَلَوْ لَمْ تَحْضُرْ الزَّوْجَ نِيَّةٌ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ وَيَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ مَشِيئَتُهَا، حَتَّى لَوْ شَاءَتْ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنَةً وَلَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ يَقَعُ مَا أَوْقَعَتْ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ.
أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّهُ أَقَامَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ الْوَصْفِ لِأَنَّ كَيْفَ لِلْحَالِ، وَالزَّوْجُ لَوْ أَوْقَعَ رَجْعِيًّا يَمْلِكُ جَعْلَهُ بَائِنًا وَثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَذَا الْمَرْأَةُ عِنْدَ هَذَا التَّفْوِيضِ تَمْلِكُ جَعْلَ مَا وَقَعَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَكَذَلِكَ تَمْلِكُ إيقَاعَ الْبَائِنِ وَالثَّلَاثِ لِأَنَّهُ تَفْوِيضُ أَصْلِ الطَّلَاقِ إلَيْهَا عَلَى أَيِّ وَصْفٍ شَاءَتْ، كَذَا فِي الْكَافِي وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ مَشِيئَتِهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ
وَقَالَ فِي الْأَصْلِ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ مَا لَمْ تُوقِعْ الْمَرْأَةُ فَتَشَاءُ رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْعَتَاقُ لَهُمَا أَنَّهُ فَوَّضَ التَّطْلِيقَ إلَيْهَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شَاءَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِ أَصْلِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا لِتَكُونَ لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ: أَعْنِي قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ كَلِمَةَ كَيْفَ
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت) يَقَعُ لِلْحَالِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَشِيئَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَصْلَ الطَّلَاقِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهَا عِنْدَهُ بَلْ بِصِفَتِهِ وَعِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقَانِ مَعًا بِمَشِيئَتِهَا. وَمَا قِيلَ: إنَّ الْعِتْقَ لَا كَيْفِيَّةَ لَهُ لِيَتَعَلَّقَ فَيَقَعُ أَلْبَتَّةَ يُوهِمُ عَدَمَ الْخِلَافِ أَوْ تَرْجِيحَ الْعِتْقِ بِذَلِكَ لَكِنَّ الثَّابِتَ مَا سَمِعْت مِنْ الْخِلَافِ وَعَدَمُ كَيْفِيَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى أَصْلِ الْعِتْقِ مَمْنُوعٌ بَلْ لَهُ كَيْفِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ مُعَلَّقًا وَمُنَجَّزًا عَلَى مَالٍ وَبِدُونِهِ عَلَى وَجْهِ التَّدْبِيرِ وَغَيْرِهِ مُطْلَقًا عَمَّا يَأْتِي مِنْ الزَّمَانِ وَمُقَيَّدًا بِهِ (قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِ أَصْلِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ أَصْلُهُ بِمَشِيئَتِهَا حَتَّى وَقَعَ دُونَهَا وَقَعَ مَوْصُوفًا أَلْبَتَّةَ ضَرُورَةَ عَدَمِ انْفِكَاكِ الذَّاتِ عَنْ الْوَصْفِ فَقَدْ ثَبَتَ وَصْفٌ لَا بِمَشِيئَتِهَا، وَقَدْ كَانَ كُلُّ وَصْفٍ بِمَشِيئَتِهَا هَذَا خُلْفًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: حَقِيقَةُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تَنْجِيزٌ لِأَصْلِ الطَّلَاقِ جَاعِلًا صِفَتَهُ عَلَى مَشِيئَتِهَا، وَمِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ أَصْلِهِ وَصْفُ الرَّجْعَةِ فَكَانَ فِي نَفْسِ كَلَامِهِ هَذَا مُخَصِّصًا بَعْضَ الْأَوْصَافِ مِنْ عُمُومِهَا. بَقِيَ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى؟ تَخْصِيصُ الْعَامِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ الَّتِي هِيَ تَنْجِيزُ أَصْلِ الطَّلَاقِ أَوْ اعْتِبَارُ أَصْلِهِ مُعَلَّقًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْعُمُومِ؟ وَالنَّظَرُ فِي تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ أَغْلِبُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُنَجَّزِ مُعَلَّقًا لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ.
وَأَمَّا مَا رَجَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي مِنْ أَنَّ بِتَقْدِيرِ قَوْلِهِمَا يَبْطُلُ الِاسْتِيصَافُ وَالْكَلَامُ يُحْمَلُ عَلَى التَّخْصِيصِ دُونَ التَّعْطِيلِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ كَيْفَ فِي التَّرْكِيبِ لِلِاسْتِيصَافِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِخْبَارِ هُنَا غَيْرُ مُرَادٍ أَصْلًا، بَلْ تَرْكِيبُ كَيْفَ شِئْت مَجَازٌ عَنْ كُلِّ كَيْفِيَّةٍ شِئْتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} أَيْ يَنْظُرُونَ إلَى كَيْفِيَّةِ خَلْقِهَا. فَإِنْ قُلْت: فَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ كَيْفَ شَرْطًا وَهُوَ أَحَدُ اسْتِعْمَالَيْهَا فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ تَعْلِيقَ أَصْلِ الطَّلَاقِ حِينَئِذٍ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ.
فَالْجَوَابُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ شَرْطَ شَرْطِيَّتِهَا اتِّفَاقُ فِعْلَيْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَفْظًا وَمَعْنَى نَحْوُ كَيْفَ تَصْنَعْ أَصْنَعْ. وَمَا قِيلَ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَحْسُوسِ حَالُهُ وَأَصْلُهُ سَوَاءٌ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا قَائِمًا بِالْآخَرِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقُومُ بِالْجِسْمِ فَلَزِمَ مِنْهُ كَوْنُ الطَّلَاقِ لَيْسَ مَوْجُودًا بِدُونِ الْكَيْفِيَّةِ بَلْ كُلٌّ مِنْ الطَّلَاقِ وَكَيْفِيَّتِهِ سَوَاءٌ فِي الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَرْعِيَّةِ،
لِلِاسْتِيصَافِ، يُقَالُ كَيْفَ أَصْبَحْت وَالتَّفْوِيضُ فِي وَصْفِهِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ أَصْلِهِ وَوُجُودَ الطَّلَاقِ بِوُقُوعِهِ.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ مَا شِئْت طَلَّقَتْ نَفْسَهَا مَا شَاءَتْ) لِأَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ لِلْعَدَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا أَيَّ عَدَدٍ شَاءَتْ
فَإِذَا تَعَلَّقَ أَحَدُهُمَا بِمَشِيئَتِهَا تَعَلَّقَ الْآخَرُ، فَحَاصِلُهُ ذِكْرٌ مَبْنًى آخَرَ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَرُورِيَّةِ تَعَلُّقِ الْأَصْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ ضَعِيفٌ إذْ الْمَبْنَى لَيْسَ إلَّا التَّلَازُمُ فَمَا يَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ، وَلَا دَخْلَ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ فِي ذَلِكَ فَالتَّقْرِيرُ مَا قَرَّرْنَاهُ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ مَا شِئْت طَلَّقَتْ نَفْسَهَا مَا شَاءَتْ) وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَيَتَعَلَّقُ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا بِالِاتِّفَاقِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ كَيْفَ شِئْت عَلَى قَوْلِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَمْ اسْمٌ لِلْعَدَدِ فَكَانَ التَّفْوِيضُ فِي نَفْسِ الْعَدَدِ وَالْوَاقِعُ لَيْسَ إلَّا الْعَدَدَ إذْ ذُكِرَ فَصَارَ التَّفْوِيضُ فِي نَفْسِ الْوَاقِعِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُبَاحُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا كَمَا لَا يُبَاحُ لِلزَّوْجِ لَكِنْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا فِي التَّخْيِيرِ. وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ.
قَالَ: لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا عَلَى قَوْلِهِمَا أَوْ ثِنْتَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ فَرَّقَتْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْقَعَ الزَّوْجُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَمَا فِي أَصْلِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ إنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا مَا لَمْ تَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِهِ عَلَى مَشِيئَةِ الْقُدْرَةِ لَا مَشِيئَةِ الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ الْوَاحِدُ عَدَدٌ عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ لِمَا تَكَرَّرَ مِنْ إطْلَاقِ الْعَدَدِ وَإِرَادَتِهِ وَمَا شِئْت تَعْمِيمُ الْعَدَدِ فَتَقْرِيرُهُ تَقْرِيرُهُ. وَأَوْرَدَ أَنَّ كَلِمَةَ مَا كَمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْعَدَدِ تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ نَحْوُ مَا دَامَ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي تَفْوِيضِ الْعَدَدِ فَلَا يَثْبُتُ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْمِثْلِ بِأَنْ يُقَالَ لَوْ أَعْمَلْنَاهَا بِمَعْنَى لِوَقْتٍ لَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَلَوْ أَعْمَلْنَاهَا بِمَعْنَى الْعَدَدِ يَبْطُلُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ بِالشَّكِّ فَتَعَارَضَا، وَتَرَجَّحَ اعْتِبَارُهَا لِلْعَدَدِ بِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِمَعْنَى الْعَدَدِ وَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَبَادَرُ حَالَةَ وَصْلِهَا بِدَامَ
(فَإِنْ قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ بَطَلَ، وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ كَانَ رَدًّا) لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ خِطَابٌ فِي الْحَالِ فَيَقْتَضِي الْجَوَابَ فِي الْحَالِ.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَلَا تُطَلِّقَ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: تُطَلِّقُ ثَلَاثًا إنْ شَاءَتْ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا مُحْكَمَةٌ فِي التَّعْمِيمِ وَكَلِمَةَ مَنْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِتَمْيِيزٍ فَحُمِلَ عَلَى تَمْيِيزِ الْجِنْسِ، كَمَا إذَا قَالَ: كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت أَوْ طَلِّقْ مِنْ نِسَائِي مَنْ شَاءَتْ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ حَقِيقَةٌ لِلتَّبْعِيضِ وَمَا لِلتَّعْمِيمِ فَعُمِلَ بِهِمَا،
ثُمَّ (إنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ) بِأَنْ قَالَتْ: لَا أُطَلِّقُ (كَانَ رَدًّا) لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِهِ بِكُلَّمَا.
وَقَوْلُهُ (خِطَابٌ فِي الْحَالِ) احْتِرَازٌ عَنْ إذَا وَمَتَى: يَعْنِي هَذَا تَمْلِيكٌ مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَاقْتَضَى جَوَابًا فِي الْحَالِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ) بِالِاتِّفَاقِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّلَاثِ فَلَا تَطْلُقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَتَطْلُقُ عِنْدَهُمَا إنْ شَاءَتْ (لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا مُحْكَمَةٌ فِي الْعُمُومِ وَكَلِمَةُ مِنْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّمْيِيزِ) أَيْ لِلْبَيَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} وَغَيْرُهُ صِلَةٌ {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} وَتَبْعِيضًا نَحْوُ أَكَلْت مِنْ الرَّغِيفِ (فَيُحْمَلُ عَلَى تَمْيِيزِ الْجِنْسِ) مُحَافَظَةً عَلَى عُمُومِ مَا: أَيْ بَيَانُ الْجِنْسِ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ حُمِلَتْ عَلَى التَّبْعِيضِ: يَعْنِي فَيَكُونُ بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّلَاثُ مِنْ الطَّلَاقِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْدَادِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الطَّلَاقِ عَدَدٌ إلَّا الثَّلَاثُ فَذَاكَ شَرْعًا، أَمَّا فِي الْإِمْكَانِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَطْلُقَ عِشْرِينَ وَمِائَةً وَغَيْرَهُمَا وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ الْمَنْعَ، فَالْمَعْنَى طَلِّقِي نَفْسَك الْعَدَدَ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ دُونَ سَائِرِ الْأَعْدَادِ.
وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَكُونُ التَّفْوِيضُ فِي الثَّلَاثِ خَاصَّةً فَصِحَّةُ تَطْلِيقِهَا وَاحِدَةً بِاعْتِبَارِ مِلْكِهَا مَا دَخَلَتْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا (كَمَا لَوْ قَالَ: كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت) لَهُ أَكْلُ الْكُلِّ (وَطَلِّقْ مِنْ نِسَائِي مَنْ شَاءَتْ) فَشِئْنَ كُلُّهُنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى التَّبْعِيضِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَبْطُلُ عُمُومُ مَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ حَقِيقَةٌ فِي التَّبْعِيضِ) إذَا دَخَلَ عَلَى ذِي أَبْعَاضٍ وَالطَّلَاقُ مِنْهُ (وَمَا لِلتَّعْمِيمِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا) بِمِنْ فِي مَعْنَاهَا فِي مِثْلِهِ وَبِمَا فِي عُمُومٍ مَخْصُوصٍ ضَرُورَةُ إعْمَالِ مِنْ فِي مَعْنَاهَا فِي مِثْلِهِ، بِخِلَافِ حَمْلِ مِنْ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنَّ ضَابِطَهُ صِحَّةُ وَضْعِ الَّذِي مَكَانَهَا وَوَصْلُهُ بِمَدْخُولِهَا مَعَ ضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ، مِثَالُهُ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}: أَيْ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَلَا يَحْسُنُ هُنَا طَلِّقِي نَفْسَك
وَفِيمَا اسْتَشْهَدَا بِهِ تَرْكُ التَّبْعِيضِ بِدَلَالَةِ إظْهَارِ السَّمَاحَةِ أَوْ لِعُمُومِ الصِّفَةِ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ، حَتَّى لَوْ قَالَ: مَنْ شِئْت كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
مَا شِئْت الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ، فَإِنَّ مَا مَوْصُولُ مَعْرِفَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مَوْصُوفِهَا مَعْرِفَةً وَهُوَ هُنَا الْعَدَدُ فَانْحَلَّ إلَى طَلِّقِي نَفْسَك الْعَدَدَ الَّذِي شِئْتِهِ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ وَيَسْتَلْزِمُ سَبْقَ الْعَهْدِ بِالْعَدَدِ الَّذِي شَاءَتْهُ أَوْ تَشَاؤُهُ وَأَنَّهُ هُوَ الثَّلَاثُ فَيَكُونُ التَّفْوِيضُ ابْتِدَاءً إنَّمَا هُوَ فِي الثَّلَاثِ، وَإِنَّمَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لِأَنَّهَا جُزْءُ مَا مَلَكْتَهُ بِالتَّفْوِيضِ كَقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ وَاحِدَةً، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا بِخِلَافِ التَّبْعِيضِ حَيْثُ لَا يَسْتَلْزِمُ نَبْوَةً إذْ الْمَعْنَى طَلِّقِي نَفْسَك عَدَدًا شِئْتِهِ، عَلَى أَنَّ مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، فَالْجُمْلَةُ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الضَّمِيرِ الرَّابِطِ الْمَحْذُوفِ قَيْدٌ فِي الْعَدَدِ مُزِيلٌ مِنْ إبْهَامِهِ.
[فُرُوعٌ]
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا أَنْ تَشَائِي وَاحِدَةً فَشَاءَتْ وَاحِدَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إنْ لَمْ تَشَائِي وَاحِدَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَإِذَا شَاءَتْ وَاحِدَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهَا مَشِيئَةَ الْوَاحِدَةِ فَإِذَا شَاءَتْهَا تَقَعُ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَفُلَانٌ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَفُلَانٌ لَا يَقَعُ بِالْمَشِيئَةِ مِنْ فُلَانٍ شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى بَاطِلٍ فَيَبْطُلُ، وَلَوْ قَالَ حِينَ شِئْت فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ طَلِّقْهَا إذَا أَوْ مَتَى شِئْت لِأَنَّ حِينَ لِلْوَقْتِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت فَلَهَا مَشِيئَتَانِ مَشِيئَةٌ فِي الْحَالِ وَمَشِيئَةٌ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا فِي الْحَالِ طَلَاقًا مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ، فَإِذَا شَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ كَالْمُرْسَلِ عِنْدَ الشَّرْطِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إذَا شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ فَشَاءَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ شَاءَتَا طَلَاقَ إحْدَاهُمَا لَا يَقَعُ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهُمَا طَلَاقَهُمَا وَلَمْ يُوجَدْ.
وَلَوْ قَالَ لِاثْنَيْنِ إنْ شِئْتُمَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَشَاءَ أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً وَالْآخِرُ ثِنْتَيْنِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهُمَا الثَّلَاثَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُمَا طَلِّقَاهَا ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً وَالْآخَرُ ثِنْتَيْنِ وَقَعَ الثَّلَاثُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَنْفَرِدُ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ فَيَصِحُّ إيقَاعُهُ لِبَعْضِهَا.
وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ وَقَعَ عَلَيْهِمَا بِمَشِيئَةِ الْأُولَى إنْ نَوَى الزَّوْجُ وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ فِي الْوُقُوعِ وَيَحْتَمِلُ فِي الْمِلْكِ: أَيْ كِلَاهُمَا مَمْلُوكَانِ لِي فَأَيُّهُمَا نَوَى صَدَقَ.
وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ إنْ شِئْت وَأَبَيْت أَوْ إنْ شِئْت وَلَمْ تَشَائِي لَمْ تَطْلُقْ أَبَدًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَشِيئَةَ وَالْإِبَاءَ شَرْطًا وَاحِدًا وَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا. وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت وَإِنْ لَمْ تَشَائِي فَشَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ طَلُقَتْ، وَلَوْ قَامَتْ بِلَا مَشِيئَةٍ تَطْلُقُ أَيْضًا كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلَتْ أَوْ لَمْ تَدْخُلِي. أَمَّا لَوْ أَخَّرَ الطَّلَاقَ فَقَالَ إنْ شِئْت وَإِنْ لَمْ تَشَائِي فَأَنْتَ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ أَبَدًا.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَإِنْ أَبَيْت، فَإِنْ شَاءَتْ يَقَعُ وَإِنْ أَبَتْ يَقَعُ، وَإِنْ سَكَتَتْ حَتَّى قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ لَا يَقَعُ. وَكَذَا إنْ شِئْت أَوْ أَبَيْت. وَفِي طَالِقٍ إنْ أَبَيْت أَوْ كَرِهْت طَلَاقَك فَقَالَتْ: أَبَيْت تَطْلُقُ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَشَائِي طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: لَا أَشَاءُ لَا تَطْلُقُ لِأَنَّ لَفْظَ أَبَيْت لِإِيجَادِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْإِبَاءُ وَقَدْ وُجِدَ، وَأَمَّا لَفْظُ لَمْ تَشَائِي فَلِلْعَدَمِ لَا لِلْإِيجَادِ وَعَدَمُ الْمَشِيئَةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِقَوْلِهَا لَا أَشَاءُ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَشَاءَ مِنْ بَعْدُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ وَفِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ: شِئْت نِصْفَ وَاحِدَةٍ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَقَالَ لَهَا آخَرُ أَعْتِقِي عَبْدَك فَبَدَأَتْ بِعِتْقِ الْعَبْدِ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ بِالْعِتْقِ زَوْجَهَا فَبَدَأَتْ بِالْعِتْقِ لَا يَبْطُلُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خِيَارُهَا فِي الطَّلَاقِ. وَعَنْهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت لِلسُّنَّةِ وَاحِدَةً فَلَهَا الْمَشِيئَةُ السَّاعَةَ لَا عِنْدَ الطُّهْرِ، فَإِنْ شَاءَتْ السَّاعَةَ وَقَعَتْ عِنْدَ الطُّهْرِ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَتْ حَائِضًا فَلَهَا الْمَشِيئَةُ حِينَ تَطْهُرُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ مِنْ طَلَاقِ الْأَصْلِ
لَوْ قَالَ: إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا فَالْمَشِيئَةُ إلَيْهَا لِلْحَالِ، بِخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إنْ شِئْت فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ إلَيْهَا فِي الْغَدِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْمَشِيئَةُ إلَيْهَا فِي الْغَدِ فِي الْفَصْلَيْنِ. وَقَالَ زُفَرُ: الْمَشِيئَةُ لِلْحَالِ فِيهِمَا. وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى الْعَكْسِ. وَفِي الْمُنْتَقَى بِرِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إنْ شِئْت أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت غَدًا لَهَا الْمَشِيئَةُ غَدًا وَقَالَا: إنْ قَدَّمَ الْمَشِيئَةَ عَلَى الْغَدِ فَلَهَا الْمَشِيئَةُ لِلْحَالِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا فَلَهَا الْمَشِيئَةُ غَدًا. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: اخْتَارِي غَدًا إنْ شِئْت أَوْ اخْتَارِي إنْ شِئْت غَدًا، أَوْ أَمْرُك بِيَدِك غَدًا إنْ شِئْت أَوْ أَمْرُك بِيَدِك إنْ شِئْت غَدًا فَالْمَشِيئَةُ فِي الْغَدِ فِي الْحَالَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا إذَا قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك غَدًا إنْ شِئْت أَوْ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت غَدًا أَوْ إنْ شِئْت فَطَلِّقِي نَفْسَك غَدًا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إلَّا فِي الْغَدِ عِنْدَهُ، وَقَالَا: إنْ قَدَّمَ الْمَشِيئَةَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فَتَقُولَ فِي الْحَالِ طَلَّقْت نَفْسِي غَدًا. وَالْمَذْكُورُ فِي الْكَافِي وَشَرْحِ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ أَنْتِ غَدًا طَالِقٌ إنْ شِئْت فَقَالَتْ: السَّاعَةَ شِئْت كَانَ بَاطِلًا، إنَّمَا لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الْغَدِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا فَإِنَّ لَهَا الْمَشِيئَةَ فِي مَجْلِسِهَا لِأَنَّ فِي الثَّانِي عَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ طَلَاقًا مُضَافًا إلَى غَدٍ.
وَلَوْ عَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ طَلَاقًا مُنَجَّزًا تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ حَالًا حَتَّى لَوْ قَامَتْ بَطَلَتْ مَشِيئَتُهَا، فَكَذَا إذَا عَلَّقَ بِهَا طَلَاقًا مُضَافًا. وَفِي الْأَوَّلِ بَدَأَ بِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الْغَدِ ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهَا فَتُرَاعَى الْمَشِيئَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي الْفَصْلَيْنِ تُرَاعَى الْمَشِيئَةُ فِي غَدٍ وَعِنْدَ زُفَرَ تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ فِيهِمَا حَالًا
وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت إنْ شِئْت أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت إذَا شِئْت فَهُمَا سَوَاءٌ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ أَخَّرَ قَوْلَهُ إنْ شِئْت فَكَذَلِكَ وَإِنْ قَدَّمَهُ تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ شَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إذَا شَاءَتْ. وَلَوْ قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا بَطَلَ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِيمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت هُنَا مَشِيئَتَانِ الْأُولَى عَلَى الْمَجْلِسِ وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ إلَيْهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمُؤَقَّتَةِ، فَمَتَى شَاءَتْ بَعْدَ هَذَا طَلُقَتْ، قَالَ: وَإِنْ لَمْ تَقُلْ شِئْت حَتَّى قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إنْ شِئْت السَّاعَةَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ السَّاعَةَ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ شَاءَ زَيْدٌ فَقَالَ زَيْدٌ: شِئْت وَاحِدَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ مَا شَاءَ الثَّلَاثَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: شِئْت أَرْبَعًا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَاحِدَةً وَإِنْ شِئْت اثْنَتَيْنِ فَقَالَتْ: شِئْت وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَلَوْ قَالَ: اُخْرُجِي إنْ شِئْت يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ فَشَاءَتْ وَلَمْ تَخْرُجْ وَقَعَ نَظِيرُهُ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي وَطَلِّقْنِي وَطَلِّقْنِي فَقَالَ الزَّوْجُ: طَلَّقْت فَهِيَ ثَلَاثٌ. وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي طَلِّقْنِي طَلِّقْنِي بِلَا وَاوٍ فَطَلَّقَ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ. .
وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أُرِيدُ أَنْ أُطَلِّقَ نَفْسِي؟ فَقَالَ الزَّوْجُ: نَعَمْ فَقَالَتْ: طَلَّقْت يُنْظَرُ إنْ نَوَى الزَّوْجُ التَّفْوِيضَ وَقَعَ وَإِنْ نَوَى الرَّدَّ: يَعْنِي طَلِّقِي إنْ اسْتَطَعْت لَا يَقَعُ.
بَابُ الْأَيْمَانِ فِي الطَّلَاقِ
(وَإِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى النِّكَاحِ وَقَعَ عَقِيبَ النِّكَاحِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَقَعُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ»
بَابُ الْأَيْمَانِ فِي الطَّلَاقِ).
الْيَمِينُ فِي الْأَصْلِ الْقُوَّةُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ الْمَقَادِيرَ بِالْأَوْقَاتِ نَازِلَةٌ
…
وَلَا يَمِينَ عَلَى دَفْعِ الْمَقَادِيرِ
أَيْ لَا قُوَّةَ، وَسُمِّيَتْ إحْدَى الْيَدَيْنِ بِالْيَمِينِ لِزِيَادَةِ قُوَّتِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُخْرَى، وَسُمِّيَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ يَمِينًا لِإِفَادَتِهِ الْقُوَّةَ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَرَدُّدِ النَّفْسِ فِيهِ، وَلَا شَكَّ فِي إفَادَةِ تَعْلِيقِ الْمَكْرُوهِ لِلنَّفْسِ عَلَى أَمْرٍ بِحَيْثُ يَنْزِلُ شَرْعًا عِنْدَ نُزُولِهِ قُوَّةُ الِامْتِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَتَعْلِيقُ الْمَحْبُوبِ لَهَا عَلَى ذَلِكَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ فَكَانَ يَمِينًا (قَوْلُهُ وَإِذَا أَضَافَ إلَخْ) اسْتَعْمَلَهَا فِي الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ وَإِلَّا فَالْمِثَالُ لَا يُطَابِقُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لَا إضَافَةٌ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقَعُ) وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ خَصَّ بَلَدًا أَوْ قَبِيلَةً أَوْ صِنْفًا أَوْ امْرَأَةً صَحَّ، وَإِنْ عَمَّمَ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ إذْ فِيهِ سَدُّ بَابِ النِّكَاحِ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.
وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَصَرُّفُ يَمِينٍ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عِنْدَ الشَّرْطِ وَالْمِلْكُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ عِنْدَهُ وَقَبْلَ ذَلِكَ أَثَرُهُ الْمَنْعُ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْمُتَصَرِّفِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ التَّنْجِيزِ،
أَمَّا لَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُظَاهِرًا مَعَ الْعُمُومِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ بِالتَّكْفِيرِ. وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعُمُومِ وَذَلِكَ الْخُصُوصِ إلَّا أَنَّ صِحَّتَهُ فِي الْعُمُومِ مُطْلَقٌ، يَعْنِي لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعَلِّقَ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، وَفِي الْمُعَيَّنَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحِ الشَّرْطِ، فَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّهُ عَرَّفَهَا بِالْإِشَارَةِ فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الصِّفَةُ: أَعْنِي أَتَزَوَّجُهَا، بَلْ الصِّفَةُ فِيهَا لَغْوٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ تَزَوَّجْت هَذِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِالسَّبَبِ فِي الْمُحِيطِ.
لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَجْتَمِعُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا تَطْلُقُ، وَكَذَا كُلُّ جَارِيَةٍ أَطَؤُهَا حُرَّةٌ فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا لَا تَعْتِقُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يُضَفْ إلَى الْمِلْكِ.
وَلَوْ قَالَ: نِصْفُ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُزَوِّجُنِيهَا طَالِقٌ فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا تَطْلُقُ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ بَدَلًا أَوْ شَرْطًا. وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ لَمْ يَعْتِقْ. وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ. تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ» وَعِنْدَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى مِنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» انْتَهَى، وَفِيهِ جُوَيْبِرٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، قَالَ: طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا «عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ عَمٌّ لِي: اعْمَلْ لِي عَمَلًا حَتَّى أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي، فَقُلْتُ: إنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي: تَزَوَّجْهَا فَإِنَّهُ لَا طَلَاقَ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ، قَالَ فَتَزَوَّجْتُهَا فَوَلَدَتْ لِي سَعْدًا وَسَعِيدًا» .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ لِمَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَيَلْزَمُ
وَالْحَمْلُ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ كَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا (وَإِذَا أَضَافَهُ إلَى شَرْطٍ وَقَعَ عَقِيبَ الشَّرْطِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِي الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ
كَالْعِتْقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْإِبْرَاءِ، وَمَا ظُنَّ مَانِعًا مِنْ أَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى النِّكَاحِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ فَيَلْغُو، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوُصْلَةِ وَانْتِظَامِ الْمَصَالِحِ فَلَا يَمْلِكُ جَعْلَهُ سَبَبًا لِانْقِطَاعِهَا، بِخِلَافِ الْعِتْقِ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ فَتَعْلِيقُهُ بِهِ مُبَادَرَةٌ إلَى الْمَطْلُوبِ.
أَمَّا الطَّلَاقُ فَمَحْظُورٌ، وَإِنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ غَلَطٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ كَمَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْوَصْلَةِ بِالدُّخُولِ كَذَلِكَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ، فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَدْعُو إلَى تَزَوُّجِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ حَالِهَا وَسُوءِ عِشْرَتِهَا وَيَخْشَى لَجَاجَتَهَا وَغَلَبَتَهَا عَلَيْهِ فَيُؤَيِّسُهَا بِتَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِنِكَاحِهَا فِطَامًا لَهَا عَنْ مَوَاقِعِ الضَّرَرِ، فَيَجِبُ أَنْ يُشْرَعَ كَمَا شُرِعَ تَعْلِيقُهُ بِخُرُوجِهَا لِيَفْطِمَهَا عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَتَحَقَّقَ الْمُقْتَضَى وَهُوَ تَكَلُّمُهُ بِالتَّعْلِيقِ لِمَا يَصِحُّ بِلَا مَانِعٍ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ تَعْلِيقِ طَلَاقِ الْمَنْكُوحَةِ لِمَا سَيُذْكَرُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَمَّا مَا قَبْلَ الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرِينَ فَمَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ التَّنْجِيزِ لِأَنَّهُ هُوَ الطَّلَاقُ، أَمَّا الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ فَلَيْسَ بِهِ بَلْ لَهُ عَرَضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ طَلَاقًا وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ (وَالْحَمْلُ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ كَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَكُلُّ أُمَّةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ هُوَ كَمَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: أَوَ لَيْسَ قَدْ جَاءَ «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إلَّا بَعْدَ مِلْكٍ» قَالَ: إنَّمَا ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: امْرَأَةُ فُلَانٍ طَالِقٌ وَعَبْدُ فُلَانٍ حُرٌّ.
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَغَيْرُهُمَا) تَصْرِيحٌ بِمَا يُفْهَمُ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ الْمُشْعِرَةِ بِعَدَمِ الْحَصْرِ خُصُوصًا بَعْدَ قَوْلِهِ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ يُعْطِي أَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ غَيْرِهِمَا أَيْضًا.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ سَالِمٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَسْوَدِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَكْحُولٍ الشَّامِيِّ فِي رَجُلٍ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ يَوْمَ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ قَالُوا هُوَ كَمَا قَالَ. وَفِي لَفْظٍ: يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَقَدْ نُقِلَ مَذْهَبُنَا أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَشُرَيْحٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ الْأَخِيرَانِ فَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِهِمَا. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: إنَّهُمَا بَاطِلَانِ، فَفِي الْأَوَّلِ أَبُو خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ وَهُوَ عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: وَضَّاعٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ: كَذَّابٌ، وَفِي الْأَخِيرِ عَلِيُّ بْنُ قَرِينٍ كَذَّبَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: يَسْرِقُ الْحَدِيثَ، بَلْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْقَاضِي شَيْخُ السُّهَيْلِيِّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ وَقَالَ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الصِّحَّةِ، وَلِذَا مَا عَمِلَ بِهَا مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، فَمَا قِيلَ: لَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُهَا حَتَّى يُتْرَكَ الْعَمَلُ بِهَا سَاقِطٌ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ فَرْعُ صِحَّةِ الدَّلِيلِ أَوَّلًا، كَيْفَ وَمَعَ عَدَمِ تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ لَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تَعْلِيقِهِ بَلْ عَلَى نَفْيِ تَنْجِيزِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى التَّنْجِيزِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّعْلِيقِ فَالْجَوَابُ صَارَ ظَاهِرًا بَعْدَ اشْتِهَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ لَا قَبْلَهُ، فَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُونَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ تَنْجِيزًا وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ طَلَاقًا إذَا وُجِدَ النِّكَاحُ فَنَفَى ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّرْعِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا.
بَقِيَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَمْنَعُوا كَوْنَ الْمُعَلَّقِ لَيْسَ طَلَاقًا لِيَخْرُجَ عَنْ تَنَاوُلِ النَّصِّ، بَلْ هُوَ طَلَاقٌ تَأَخَّرَ عَمَلُهُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ الطَّلَاقِ تَعْلِيقَهُ، وَكَذَا الشَّرْعُ لَوْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَعَلَّقَ طَلَاقَهَا لَا يَحْنَثُ إجْمَاعًا. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيَّ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَقَالَ الْقَاسِمُ: إنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ إنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ إنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُظَاهِرِ.
فَقَدْ صَرَّحَ عُمَرُ بِصِحَّةِ تَعْلِيقِ الظِّهَارِ بِالْمِلْكِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا وَالْكُلُّ وَاحِدٌ. وَالْخِلَافُ فِيهِ أَيْضًا وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ إذَا قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَصِحُّ فَمَتَى تَزَوَّجَهَا يَصِيرُ مُولِيًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّعْلِيقُ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ فِي مَحَلٍّ فِي حَالٍ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَيَلْغُو كَتَعْلِيقِ الصَّبِيِّ بِأَنْ قَالَ: إذَا بَلَغْت فَزَوْجَتُهُ طَالِقٌ، وَتَعْلِيقُ الْبَالِغِ طَلَاقَ الْأَجْنَبِيَّةِ بِغَيْرِ الْمِلْكِ.
قُلْنَا: لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ بَيَانِ الْمُرَادِ بِقَوْلِنَا هُوَ طَلَاقٌ أَوْ لَيْسَ بِهِ إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَفْظُ الطَّلَاقِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِحُكْمِ الطَّلَاقِ مِنْ الْعِدَّةِ وَغَيْرِهَا تَأَخَّرَ عَمَلُهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ.
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ سَبَبًا شَرْعًا لِثُبُوتِ حُكْمٍ فِي مَحَلٍّ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ اتِّصَالِهِ بِذَلِكَ الْمَحَلِّ شَرْعًا: أَعْنِي أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّرْعُ أَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ فِيهِ لَا مُجَرَّدُ الِاتِّصَالِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّ سَبَبِيَّتَهُ لَيْسَتْ إلَّا بِإِيجَابِهِ الْحُكْمَ فِي مَحِلِّ حُلُولِهِ مَلْزُومًا لِلْحُكْمِ فَيَحِلُّ حَيْثُ حَلَّ، وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْنِ أَنْتِ طَالِقٌ الْآنَ، بَلْ إذَا كَانَ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ إذْ ذَاكَ لَا الْآنَ، فَإِذَا كَانَ ذَاكَ يَرْتَفِعُ الْمَانِعُ وَهُوَ التَّعْلِيقُ فَحِينَئِذٍ يَنْزِلُ بِالْمَحِلِّ سَبَبًا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ الْبَيْعَ عَلَى مُنْتَظَرٍ بَلْ أَثْبَتَهُ فِي الْحَالِ، غَيْرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ خِيَارَ أَنْ يَفْسَخَ إنْ لَمْ يُوَافِقْ غَرَضَهُ رِفْقًا بِهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْوُصُولِ فِي الْحَالِ بَلْ يُحَقِّقُ سَبَبِيَّتَهُ فِي الْحَالِ لَوْ تَأَمَّلْت هَذَا التَّرْكِيبَ.
وَأَمَّا عَدَمُ اعْتِبَارِهِ مِنْ الصَّبِيِّ فَلَيْسَ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمَحَلِّ بَلْ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلتَّعْلِيقِ كَالتَّنْجِيزِ، بِخِلَافِ الْبَالِغِ فَإِنَّ افْتِقَارَهُ فِي التَّصَرُّفِ إلَى الْمَحَلِّ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ قَصْدِ التَّنْجِيزِ فِيهِ لِلْحَالِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ الْتِزَامُ يَمِينٍ يَقْصِدُ بِهَا بِالذَّاتِ الْبِرَّ: أَعْنِي مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ تَزَوُّجِهَا، وَهَذَا يَقُومُ بِهِ وَحْدَهُ فَيَتَضَمَّنُ هَذَا مَنْعَ كَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي الْمَحَلِّ فِي حَالِ عَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ بَلْ تَصَرُّفٌ مُقْتَصِرٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحِنْثُ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ وَبِتَقْدِيرِهِ يَنْعَقِدُ كَلَامُهُ سَبَبًا وَهُوَ يَسْتَدْعِي الْمَحَلِّيَّةَ وَهُمَا مَعًا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى مِلْكِ النِّكَاحِ لَزِمَ لِصِحَّةِ كَلَامِهِ فِي الْحَالِ ظُهُورُ قِيَامِ مِلْكِهِ عِنْدَ انْعِقَادِهِ. ثُمَّ رَأَيْنَا الشَّرْعَ صَحَّحَهُ مُكْتَفِيًا بِظُهُورِ قِيَامِهِ عِنْدَهُ فِيمَا إذَا قَالَ لِلْمَنْكُوحَةِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ فَتَصْحِيحُهُ إيَّاهُ مَعَ تَيَقُّنِ قِيَامِهِ أَحْرَى وَذَلِكَ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَهُوَ تَعْلِيقُهُ بِالْمِلْكِ، وَبِهَذَا حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ الْأَخِيرِ: أَعْنِي تَطْلِيقَهُ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ بِغَيْرِ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا رَأَيْنَا الشَّرْعَ صَحَّحَ قَوْلَهُ لِلْأَمَةِ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ حَتَّى يُعْتِقَ مَا تَلِدُهُ مَعَ عَدَمِ قِيَامِ مِلْكِ عِتْقِ الْوَلَدِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ، فَظَهَرَ أَنَّ قِيَامَ الْمَحَلِّيَّةِ لِلْحُكْمِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ، وَلَعَمْرِي إنَّ جُلَّ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ بِنِهَايَةِ الْإِيجَازِ وَطَلَاوَةِ الْأَلْفَاظِ.
وَقَوْلُهُ وَقَعَ عَقِيبَ النِّكَاحِ يُفِيدُ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُقَارِنَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَا يَقَعُ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ نِكَاحِك إذْ لَا يَثْبُتُ الشَّيْءُ مُنْتَفِيًا، وَمَرْجِعُ ضَمِيرِ أَثَرِهِ تَصَرُّفُ يَمِينٍ وَهُوَ إضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ: أَيْ تَصَرُّفٌ هُوَ يَمِينٌ، وَكَذَا هُوَ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْمُتَصَرِّفِ، أَيْ فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ الْمَحَلِّ بَلْ قِيَامُ ذِمَّةِ الْحَالِفِ فِي ذَلِكَ كَافٍ.
وَقَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ النِّكَاحِ. قُلْنَا: فَمَاذَا يَلْزَمُ إذْ قَدْ يَكُونُ عَلِمَ مَصْلَحَةً فِي ذَلِكَ دِينًا لِعِلْمِهِ بِغَلَبَةِ الْجَوْرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دُنْيَا لِعَدَمِ يَسَارِهِ وَلِنَفْسِهِ لَجَاجٌ فَيَأَّسَهَا، عَلَى أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ تَزَوُّجَهُ عِنْدَنَا بِأَنْ يَعْقِدَ لَهُ فُضُولِيٌّ وَيُجِيزُ هُوَ بِالْفِعْلِ كَسَوْقِ الْوَاجِبِ إلَيْهَا أَوْ الْوَطْءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ كَوْنُ الْمُضَافِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا فِي الْحَالِ كَالْمُعَلَّقِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ نَحْوَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٌ، وَلَا فَرْقَ إلَّا ظُهُورُ إرَادَةِ الْمُضِيفِ الْإِيقَاعَ، بِخِلَافِ الْمُعَلَّقِ فَإِنَّ قَصْدَهُ الْبِرُّ، فَكَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمَعْقُولَ صَارِفٌ لِلَّفْظِ عَنْ قَضِيَّتِهِ وَلَا يُعْرَى عَنْ شَيْءٍ مَعَ أَنَّ نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَإِذَا جَاءَ غَدٌ وَاحِدٌ فِي قَصْدِ الْإِيقَاعِ، وَهُمْ يَجْعَلُونَ إذَا جَاءَ غَدٌ تَعْلِيقًا غَيْرَ سَبَبٍ فِي الْحَالِ وَالْآخَرُ سَبَبًا فِي الْحَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُ يَنْزِلُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ عِنْدَ الشَّرْطِ أَوْقَعَ تَنْجِيزًا فَالْمُرَادُ الْإِيقَاعُ حُكْمًا، وَلِهَذَا إذَا عَلَّقَ الْعَاقِلُ الطَّلَاقَ ثُمَّ جُنَّ عِنْدَ الشَّرْطِ تَطْلُقُ، وَلَوْ كَانَ كَالْمَلْفُوظِ حَقِيقَةً لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ.
[فُرُوعٌ] فِي الْمُنْتَقَى: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ: فَهِيَ طَالِقٌ وَإِنْ أَمَرْت مَنْ يُزَوِّجُنِيهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَأَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ طَلُقَتْ لِأَنَّهُمَا يَمِينَانِ: إحْدَاهُمَا عَلَى الْأَمْرِ وَالْأُخْرَى عَلَى التَّزَوُّجِ. وَلَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَإِنْ أَمَرْت مَنْ يُزَوِّجُنِيهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَأَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ فَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ طَلُقَتْ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَاحِدَةٌ وَالشَّرْطَ شَيْئَانِ وَقَدْ وُجِدَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْوَاقِعُ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ حَيْثُ لَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا لَا تَطْلُقُ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّرْطِ، فَإِنْ أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلًا فَقَالَ: زَوِّجْنِي فُلَانَةَ وَهِيَ امْرَأَتُهُ عَلَى حَالِهَا طَلُقَتْ لِكَمَالِ الشَّرْطِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ أَوْ أَمَرْت إنْسَانًا أَنْ يُزَوِّجَنِيهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَزَوَّجَهُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّهُ حَنِثَ بِالْأَمْرِ قَبْلَ تَزْوِيجِ الْمَأْمُورِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ بِلَا وُقُوعِ شَيْءٍ فَلَا يَحْنَثُ بِتَزَوُّجِهِ بَعْدَهُ
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ أَوْ خَطَبْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَخَطَبَهَا فَتَزَوَّجَهَا لَا تَطْلُقُ، قَالَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ حَنِثَ بِالْخِطْبَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ مُنْعَقِدَةٌ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: الْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَحَدُهُمَا، وَأَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ صَالِحٌ وَالْآخَرُ لَا فَإِنَّهُ نَصٌّ عَلَى الْحِنْثِ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ قَبْلَ الْأَمْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَقَبْلَ الْخِطْبَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَعَ بِأَنْ قَالَ لِلْمَرْأَةِ ابْتِدَاءً بِحَضْرَةِ رَجُلَيْنِ: تَزَوَّجْتُك بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ.
وَفِي فَوَائِدِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ: لَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ لَا تَطْلُقُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا تَطْلُقُ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ اعْتِرَاضُ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مَضْمُونُ الشَّرْطَيْنِ.
رَجُلٌ لَهُ مُطَلَّقَةٌ فَقَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُهَا فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَتَزَوَّجَهَا تَطْلُقُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ تَزَوَّجْت عَلَيْك مَا عِشْت فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت عَلَيْك فَالطَّلَاقُ عَلَيَّ وَاجِبٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا يَقَعُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تَطْلِيقَةٌ بِالْيَمِينِ الْأُولَى وَتَقَعُ أُخْرَى عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ يَصْرِفُهَا إلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ، هَذَا فِي النَّوَازِلِ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَطْلُقَ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ الثَّانِيَةَ تَعْلِيقُ إيجَابِ الطَّلَاقِ بِالتَّزْوِيجِ وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ تَعْلِيقِ نَفْسِ الطَّلَاقِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِالْيَمِينِ الْأُولَى طَلَاقُ إحْدَاهُمَا يُصْرَفُ إلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الْأُولَى لَمَّا
فَيَصِحُّ يَمِينًا أَوْ إيقَاعًا (وَلَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مَالِكًا أَوْ يُضِيفَهُ إلَى مِلْكٍ) لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لِيَكُونَ مُخِيفًا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ وَالظُّهُورُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ سَبَبِهِ (فَإِنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ
انْصَرَفَتْ إلَى الطَّلَاقِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ زن ويرا طَلَاق، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَلَهُ امْرَأَتَانِ يَقَعُ عَلَى إحْدَاهُمَا انْتَهَى. وَفِي نَظَرِهِ نَظَرٌ. أَمَّا قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَطْلُقَ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ إلَخْ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّنْجِيزَ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَاجِبٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْت مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَأَنَّ الْمُخْتَارَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَالْمَذْكُورُ فِي النَّوَازِلِ بِنَاءٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِالْيَمِينِ الْأُولَى طَلَاقُ إحْدَاهُمَا إلَخْ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ حَلَالَ اللَّهِ عَامٌّ اسْتِغْرَاقِيٌّ لَا بَدَلِيٌّ فَيَشْمَلُ الزَّوْجَتَيْنِ مَعًا فَقَدْ حَرَّمَهُمَا وَزْن ويرا طَلَاق لَيْسَ مِثْلُهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ امْرَأَتُهُ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ فَقَدْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى وَاحِدَةٍ مُبْهَمَةٍ فَإِلَيْهِ تَعْيِينُهَا
وَإِذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ فَزَوَّجَهُ فُضُولِيٌّ فَأَجَازَ بِالْفِعْلِ بِأَنْ سَاقَ الْمَهْرَ وَنَحْوَهُ لَا تَطْلُقُ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ بِهِ لِانْتِقَالِ الْعِبَارَةِ إلَيْهِ.
(قَوْلُهُ فَيَصِحُّ يَمِينًا أَوْ إيقَاعًا) أَيْ فَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ الْمَذْكُورُ يَمِينًا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ عِنْدَنَا فِي الْحَالِ، أَوْ إيقَاعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ سَبَبٌ فِي الْحَالِ (قَوْلُهُ وَلَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مَالِكًا أَوْ يُضِيفُهُ إلَى مِلْكِهِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الْوُجُودِ) أَيْ ظَاهِرًا وُجُودُهُ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ الْقُوَّةُ: أَيْ عَلَى الِامْتِنَاعِ هُنَا (قَوْلُهُ وَالظُّهُورُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ) لَفْظُ الظُّهُورِ هُنَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَذَا لَفْظُ ظَاهِرٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَمَا كَانَ ظَاهِرَ الْوُجُودِ فَتَعَلَّقَ الْإِدْرَاكُ بِهِ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ الْخَاصِّ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ حِينَ صَدَرَ لَا يَصِحُّ جَعْلُهُ إيقَاعًا لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَلَا يَمِينًا لِعَدَمِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ حَامِلًا عَلَى الْبِرِّ لِإِخَافَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مُخِيفًا لِعَدَمِ ظُهُورِ الْجَزَاءِ عِنْدَ الْفِعْلِ لِعَدَمِ ظُهُورِ ثُبُوتِ الْمَحَلِّيَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. لَا يُقَالُ: لَمْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى الْعَاقِبَةِ، إنْ تَزَوَّجَهَا ظَهَرَ كَوْنُهُ يَمِينًا وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ إلَى أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا.
لِأَنَّا نَقُولُ: تَحَقُّقُ عَدَمِ الْيَمِينِ حَالَ صُدُورِهِ لِانْتِفَاءِ حَقِيقَتِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ مُخِيفًا فَلَمْ يَقَعْ يَمِينًا فَلَا تَتَحَقَّقُ يَمِينٌ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِلَفْظٍ آخَرَ، وَمَعْنَى الْإِخَافَةِ هُنَا إخَافَةُ لُزُومِ نِصْفِ الْمَهْرِ إنْ تَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ فَيَجِبُ الْمَالُ فَيَمْتَنِعُ عَنْ التَّزَوُّجِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَمِينٌ مَعَ أَنَّهُ لَا حَمْلَ فِيهِ وَلَا مَنْعَ بِإِخَافَةٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ لَا لِلشَّاذِّ (قَوْلُهُ وَالْإِضَافَةُ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ) يَعْنِي التَّزَوُّجَ (بِمَنْزِلَةِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ) وَقَالَ بِشْرُ الْمَرِيسِيِّ:
لَمْ تَطْلُقْ) لِأَنَّ الْحَالِفَ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا أَضَافَهُ إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
(وَأَلْفَاظُ الشَّرْطِ إنْ وَإِذَا وَإِذَا مَا
لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ عَقِيبَ سَبَبِهِ، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ هُوَ ذَلِكَ السَّبَبَ اقْتَرَنَ الْمِلْكُ وَالْوُقُوعُ وَالطَّلَاقُ الْمُقَارِنُ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ أَوْ لِزَوَالِهِ لَا يَقَعُ كَالطَّالِقِ مَعَ نِكَاحِك أَوْ مَعَ مَوْتِي، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَقَدَّمُ الْمِلْكَ.
وَالْجَوَابُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ: حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى مِنْ إلْغَائِهِ فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ السَّبَبَ وَأَرَادَ بِهِ الْمُسَبَّبَ، فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ إنْ تَزَوَّجْتُك إنْ مَلَكْتُك بِالتَّزَوُّجِ، لَكِنَّ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ سَبَبِهِ يَنْبُو عَنْ هَذَا، إلَّا أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ وَجْهِ التَّجَوُّزِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ وَهُوَ بَعِيدٌ إذْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، بَلْ هُوَ فِي هَذَا الْقِنِّ مِنْ الْمُسَلَّمَاتِ وَكَانَ سَبَبُ عُدُولِ الْمُصَنِّفِ عَنْهُ أَنَّهُمْ دَفَعُوا الْوَارِدَ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ لِلْأَجْنَبِيَّةِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ لَا تَطْلُقُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ تَمَامَ الْكَلَامِ مُضْمَرًا تَصْحِيحًا، وَالتَّقْدِيرُ إنْ تَزَوَّجْتُك فَدَخَلْت حَتَّى يَصِحَّ وَيَقَعَ بِهِ كَمَا قَالَ بِهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّ الْيَمِينَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ أَوْ غَيْرُ مَطْلُوبٍ فَلَا يُحْتَالُ فِي تَصْحِيحِهِ، وَهَذَا يُنَافِي ذَلِكَ الْجَوَابَ.
وَيَكْفِي فِي جَوَابِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مَا قَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ، لَكِنْ لَا يَخْفَى وُرُودُ أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِالسَّبَبِ الْمُسَبَّبُ أَوْ حَقِيقَتُهُ، وَالْأَوَّلُ تَصْحِيحُ الْيَمِينِ فَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْمَنْقُولِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعَلَى الثَّانِي يَرِدُ مَا قَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُدْفَعَ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى تَحْقِيقِ تِلْكَ الْإِرَادَةِ لِانْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ وَطَرِيقِ الْمَجَازِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَحْسُنُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا، بَلْ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْإِضَافَةُ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ مُرَادٌ بِهَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ كَمَا أَجَابَ بِهِ مُحَمَّدٌ رحمه الله.
[فُرُوعٌ].
لَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثُمَّ نَكَحَهَا يُوقِعُهُ أَبُو يُوسُفَ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالنِّكَاحِ وَذَكَرَ مَعَهُ وَقْتًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِهِ فِيهِ فَلَغَا ذِكْرُهُ الْوَقْتَ وَبَقِيَ التَّعْلِيقُ. وَقَالَا: لَا يَقَعُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ كَالْمَلْفُوظِ عِنْدَ الشَّرْطِ.
وَلَوْ قَالَ وَقْتَ النِّكَاحِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَك لَا تَطْلُقُ كَذَا هَذَا
وَلَوْ قَالَ لِوَالِدَيْهِ: إنْ زَوَّجْتُمَانِي امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَزَوَّجَاهُ امْرَأَةً بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا تَطْلُقُ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى مِلْكِ النِّكَاحِ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْوَالِدَيْنِ لَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ
وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِأَجْنَبِيَّةِ: مَا دُمْت فِي نِكَاحِي فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ غَيْرَهَا لَا تَطْلُقُ، أَمَّا إذَا قَالَ لَهَا: إنْ تَزَوَّجْتُك فَمَا دُمْت فِي نِكَاحِي فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ غَيْرَهَا تَطْلُقُ.
(قَوْلُهُ وَأَلْفَاظُ الشَّرْطِ إلَخْ) وَمَنْ جُمْلَتِهَا لَوْ وَمَنْ وَأَيُّ وَأَيَّانَ وَأَيْنَ وَأَنَّى وَجَمِيعُهَا تَجْزِمُ إلَّا لَوْ وَإِذَا،
كُلُّ وَكُلَّمَا وَمَتَى وَمَتَى مَا) لِأَنَّ الشَّرْطَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَامَةِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مِمَّا تَلِيهَا أَفْعَالٌ فَتَكُونُ عَلَامَاتٍ عَلَى الْحِنْثِ، ثُمَّ كَلِمَةُ إنْ حَرْفٌ لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْوَقْتِ وَمَا وَرَاءَهَا مُلْحَقٌ بِهَا، وَكَلِمَةُ كُلٍّ لَيْسَتْ شَرْطًا حَقِيقَةً لِأَنَّ مَا يَلِيهَا اسْمٌ وَالشَّرْطُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ وَالْأَجْزِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالشَّرْطِ لِتَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ
وَقِيلَ يُجْزَمُ بِهَا إذَا زِيدَ بَعْدَهَا مَا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ إنَّمَا يُجْزَمُ بِإِذَا فِي الشِّعْرِ وَكَذَا بِلَوْ، قَالَ لَوْ يَشَأْ طَارَ بِهِ ذُو مَيْعَةٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَامَةِ) يَعْنِي مِنْ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَلَامَةِ وَهُوَ الشَّرَطُ بِالتَّحْرِيكِ، قَالَ تَعَالَى {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أَيْ عَلَامَاتُهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَادَّةِ وَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ لَفْظِ عَلَامَةٍ وَشَرْطٍ (قَوْلُهُ فَتَكُونُ عَلَامَاتٍ) أَيْ يَكُونُ وُجُودُ الْأَفْعَالِ عَلَامَاتٍ عَلَى الْحِنْثِ وَالْحِنْثُ هُوَ وُقُوعُ الْجَزَاءِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى أَلْفَاظِ الشَّرْطِ عَلَامَاتُ وُجُودِ الْجَزَاءِ: أَيْ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالذَّاتِ، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ وَلَفْظِ لَوْ أَيْضًا كَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُفَادُ بِهَا امْتِنَاعَ فِعْلِ الشَّرْطِ الْمُسْتَلْزِمِ لِامْتِنَاعِ الْجَوَابِ، نَحْوُ لَوْ جَاءَ زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُك فَيُعْرَفُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ إذَا وُجِدَ اسْتَلْزَمَ وُجُودَ الْجَوَابِ، لِأَنَّ اللَّازِمَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَلْزُومِ، وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ الْأَدَوَاتِ تُفِيدُ الْوُجُودَ لِلْوُجُودِ إلَّا أَنَّ لَمَّا كَانَتْ أَدْخَلَ حَيْثُ وُضِعَتْ لِإِفَادَةِ أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ وُجِدَ وَفُرِغَ مِنْهُ خُصَّتْ بِقَوْلِنَا حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ، وَلَوْ وُضِعَتْ لِإِفَادَةِ امْتِنَاعِ الْمَلْزُومِ وَدَلَّتْ عَلَى الْوُجُودِ لِلْوُجُودِ بِالِالْتِزَامِ فَخُصَّتْ بِحَرْفِ امْتِنَاعٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ يُنَافِيهِ: أَعْنِي التَّعْلِيقَ عَلَى مَا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ تَحَقُّقَ عَدَمِهِ فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلِعَدَمِ حُصُولِهِ لَمْ تُذْكَرْ لَمَّا، وَإِنْ كَانَ لَوْ قَالَ لَوْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ كَمَا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ.
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لَكِنَّهُ لَيْسَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيَّ وَلَا الْمَشْهُورَ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَعَلَّقُ. وَفِي الْحَاوِي فِي فُرُوعِنَا: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ تَزَوَّجْتُك تَطْلُقُ إذَا تَزَوَّجَهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي قَوْلِنَا {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً} الْآيَةُ. فَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إلَى تَجْوِيزِهِ، وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا لِلتَّعْلِيقِ فِي الْمَاضِي. وَأَجَابُوا عَنْ الْآيَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَكَذَا لِعَدَمِ حُصُولِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِي التَّعْلِيقِ بِلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهَا وَذَكَرَ كُلًّا وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِثُبُوتِ مَعْنَى الشَّرْطِ مَعَهَا وَهُوَ التَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَهُوَ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ صِفَةَ الِاسْمِ الَّذِي أُضِيفَتْ إلَيْهِ.
[فُرُوعٌ].
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا دُخُولُك أَوْ لَوْلَا أَبُوك أَوْ لَوْلَا مَهْرُك لَمْ يَقَعْ، وَكَذَا فِي الْإِخْبَارِ بِأَنْ قَالَ: طَلَّقْت
الَّذِي يَلِيهَا مِثْلُ قَوْلِك كُلُّ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ. قَالَ رضي الله عنه:
بِالْأَمْسِ لَوْلَا كَذَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَوْضِعَ وُجُوبِ الْفَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ التَّعْلِيقُ إلَّا بِهَا إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَ فَيَتَعَلَّقَ بِدُونِهَا عَلَى خِلَافِ فِي أَنَّهُ حِينَئِذٍ هُوَ الْجَوَابُ أَوْ يُضْمَرُ الْجَوَابُ بَعْدَهُ وَالْمُتَقَدِّمُ دَلِيلُهُ. وَأَمَّا الْفَقِيهُ فَنَظَرُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلَا عَلَيْهِ مِنْ اعْتِبَارِهِ الْجَوَابَ. فَإِذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ لِلْحَالِ، فَإِنْ نَوَى تَعْلِيقَهُ دِينَ، وَكَذَا إنْ نَوَى تَقْدِيمَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُتَنَجَّزُ حَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى الْفَائِدَةِ فَتُضْمَرُ الْفَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ مَنْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا وَدُفِعَ بِمَا إذَا أَجَابَ بِالْوَاوِ فَإِنَّهُ يُتَنَجَّزُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَعْلِيقُهُ حَتَّى لَوْ نَوَاهُ دِينَ. وَفِي الْحُكْمِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُ فِي الْغَايَة. قَالَ فِي الدِّرَايَةِ: وَلَوْ نَوَى تَقْدِيمَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قِيلَ: يَصِحُّ وَتُحْمَلُ الْوَاوُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ لِأَنَّ وَاوَ الِابْتِدَاءِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي أَوَّلِ كَلَامٍ وَمَوَاضِعُ الْفَاءِ جُمِعَتْ مَفَارِيدَ فِي بَيْتٍ هُوَ هَذَا:
طَلَبِيَّةٌ وَاسْمِيَّةٌ وَبِجَامِدٍ
…
وَبِمَا وَلَنْ وَبِقَدْ وَبِالتَّنْفِيسِ
وَأَحْبَبْت ذِكْرَ بَعْضِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَإِيضَاحَهُ لِيُفْهَمَ فَنَظَمْتُهَا فِي ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ وَهِيَ هَذِهِ:
تَعْلَمُ جَوَابَ الشَّرْطِ حَتْمَ قِرَانِهِ
…
بِفَاءٍ إذَا مَا فِعْلُهُ طَلَبًا أَتَى
كَذَا جَامِدًا أَوْ مُقْسَمًا كَانَ أَوْ بِقَدْ
…
وَرُبَّ وَسِينٍ أَوْ بِسَوْفَ ادْرِ يَا فَتَى
أَوْ اسْمِيَّةً أَوْ كَانَ مَنْفِيَّ مَا وَإِنْ
…
وَلَنْ مَنْ يَحُدْ عَمَّا حَدَدْنَاهُ قَدْ عَتَا
وَلَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ وَأَدْخَلَ الْفَاءَ فِي الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ دَخَلَتْ لَا رِوَايَةَ فِيهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَتَنَجَّزُ لِأَنَّ الْفَاءَ فَاصِلَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَتَعَلَّقُ لِأَنَّ الْفَاءَ حَرْفُ تَعْلِيقٍ. وَقِيَاسُ الْمَذْكُورِ فِي حَذْفِ الْفَاءِ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِهَا، وَذِكْرُ الْوَاوِ مَعَ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ التَّنْجِيزُ مُوجِبَ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ التَّعْلِيقَ لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ وَهُوَ عَدَمُ كَوْنِ التَّعْلِيقِ إذْ ذَاكَ مَدْلُولَ اللَّفْظِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَالْفَاءُ وَإِنْ كَانَ حَرْفَ تَعْلِيقٍ لَكِنْ لَا يُوجِبُهُ إلَّا فِي مَحِلِّهِ فَلَا أَثَرَ لَهُ هُنَا.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَنَجَّزَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِعَدَمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا لِأَنَّ ذِكْرَهُ بَيَانٌ لِإِرَادَتِهِ التَّعْلِيقَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ دَخَلَتْ تَنَجَّزَ لِعَدَمِ التَّعْلِيقِ وَالصِّفَةُ الْمُعْتَبَرَةُ كَالشَّرْطِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ مِثْلُ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ، أَمَّا فِي الْمُعَيَّنَةِ فَلَغْوٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ.
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَعَ فِي الْحَالِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْعِلَّةِ. وَقَدْ نَاظَرَ مُحَمَّدٌ الْكِسَائِيَّ فِي ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الرَّشِيدِ فَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهَا بِمَعْنَى إذَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوْلَى إذْ لَا أَصْلَ لِجَعْلِهَا كَإِذَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَتَيْنِ مَا ذُكِرَ بَلْ التَّعْلِيلُ هُوَ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ فِيهِمَا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ طَلُقَتْ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي مِثْلِهِ عَاطِفَةٌ عَلَى شَرْطٍ هُوَ نَقِيضُ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، تَقْدِيرُهُ إنْ لَمْ تَدْخُلِي وَإِنْ دَخَلْت، وَإِنْ
(فَفِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ انْحَلَّتْ وَانْتَهَتْ الْيَمِينُ) لِأَنَّهَا غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِلْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ لُغَةً، فَبِوُجُودِ الْفِعْلِ مَرَّةً يَتِمُّ الشَّرْطُ وَلَا بَقَاءَ لِلْيَمِينِ بِدُونِهِ
(إلَّا فِي كُلَّمَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْأَفْعَالِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} الْآيَةُ
وَمِنْ ضَرُورَةِ التَّعْمِيمِ التَّكْرَارُ. قَالَ (فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَتَكَرَّرَ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ)
هَذِهِ هِيَ الْوَصْلِيَّةُ، وَيَقَعُ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذْ دَخَلْت وَبِقَوْلِهِ اُدْخُلِي الدَّارَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ يَتَعَلَّقُ بِالدُّخُولِ لِأَنَّ الْحَالَ شَرْطٌ مِثْلُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تُؤَدِّيَ (قَوْلُهُ فَفِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ انْحَلَّتْ وَانْتَهَتْ الْيَمِينُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِلْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ لُغَةً، فَبِوُجُودِ الْفِعْلِ مَرَّةً يَتِمُّ الشَّرْطُ) وَإِذَا تَمَّ وَقَعَ الْحِنْثُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ مَرَّةً أُخْرَى إلَّا بِيَمِينٍ أُخْرَى أَوْ بِعُمُومِ تِلْكَ الْيَمِينِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَتَى: إنَّهَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ كَقَوْلِهِ:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلَى ضَوْءِ نَارِهِ
…
تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مَوْقِدٍ
وَالْحَقُّ أَنَّهَا إنَّمَا تُفِيدُ عُمُومَ الْأَوْقَاتِ بِمَعْنَى أَنَّ أَيَّ وَقْتٍ تَأْتِي تَجِدْ ذَلِكَ، فَفِي مَتَى خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، الْمُفَادُ أَنَّ أَيَّ وَقْتٍ تَحَقَّقَ فِيهِ الْخُرُوجُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ فِي وَقْتٍ وَقَعَ، ثُمَّ لَا يَقَعُ بِخُرُوجٍ آخَرَ إلَّا لَوْ أَفَادَتْ التَّكْرَارَ، وَإِنْ مَعَ لَفْظِ أَبَدًا مُؤَدَّى لَفْظِ مَتَى بِانْفِرَادِهِ، فَإِذَا قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ أَبَدًا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا فَطَلُقَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا لَا تَطْلُقُ، كَذَا أَجَابَ أَبُو نَصْرٍ الدَّبُوسِيُّ.
وَمِنْ غَرَائِبِ الْمَسَائِلِ مَا فِي الْغَايَةِ: مَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُنَّ فَهِيَ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مِرَارًا طَلُقَتْ بِكُلِّ مَرَّةٍ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَهُوَ الدُّخُولُ أُضِيفَ إلَى جَمَاعَةٍ فَيُرَادُ بِهِ عُمُومُهُ عُرْفًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} أَفَادَ الْعُمُومَ، وَلِذَا تَكَرَّرَ الْجَزَاءُ عَلَى قَاتِلِ وَاحِدٍ، وَبِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إذَا قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَقَتَلَ وَاحِدٌ قَتِيلَيْنِ فَلَهُ سَلَبُهُمَا. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْعُمُومَ فِي الْأَوَّلِ لِعُمُومِ الصَّيْدِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ ضَمِيرُ مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ فَعَمَّ لِذَلِكَ لَا لِمَا ذُكِرَ. وَعُمُومُ الثَّانِي بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّ مُرَادَهُ التَّشْجِيعُ وَكَثْرَةُ الْقَتْلِ. قِيلَ وَالْأَوْلَى الِاسْتِشْهَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} الْآيَةُ حَيْثُ يَحْرُمُ الْقُعُودُ مَعَ الْوَاحِدِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَقَدْ أَفَادَتْ إذَا التَّكْرَارَ لِعُمُومِ الِاسْمِ الَّذِي نُسِبَ إلَيْهِ فِعْلُ الشَّرْطِ. وَالْأَوْجَهُ أَنَّ الْعُمُومَ بِالْعِلَّةِ لَا بِالصِّيغَةِ فِيهِمَا لِمَا فِيهِمَا مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْجَزَاءُ فِي الْأَوَّلِ وَمَنْعُ الْقُعُودِ عَلَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ وَهُوَ الْقَتْلُ وَالْخَوْضُ فَيَتَكَرَّرُ بِهِ
وَفِي الْمُحِيطِ وَجَوَامِعِ الْفِقْهِ: لَوْ قَالَ: أَيُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ كُلِّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا حَيْثُ تَعُمُّ بِعُمُومِ الصِّفَةِ، وَاسْتُشْكِلَ حَيْثُ لَمْ يَعُمَّ أَيَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا بِعُمُومِ الصِّفَةِ.
(قَوْلُهُ إلَّا فِي كُلَّمَا فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ) وَمِنْ لَطِيفِ مَسَائِلِهَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا: كُلَّمَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَلَّقَهَا طَلْقَةً يَقَعُ ثِنْتَانِ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا وَقَعَ طَلَاقِي عَلَيْك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الثَّانِيَةِ اقْتَضَى تَكْرَارَ الْجَزَاءِ بِتَكَرُّرِ الْوُقُوعِ فَيَتَكَرَّرُ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا، وَفِي الْأُولَى اقْتَضَى تَكَرُّرَهُ بِتَكَرُّرِ طَلَاقِهِ. وَلَا يُقَالُ: طَلَّقَهَا إذَا طَلُقَتْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَيَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ: إحْدَاهُمَا بِحُكْمِ الْإِيقَاعِ، وَالْأُخْرَى بِحُكْمِ التَّعْلِيقِ.
(قَوْلُهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ التَّعْمِيمِ التَّكْرَارُ) أَوْرَدَ فِي كُلِّ عُمُومٍ وَلَا تَكْرَارٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ فَطَلُقَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ
لِأَنَّ بِاسْتِيفَاءِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ الْمَمْلُوكَاتِ فِي هَذَا النِّكَاحِ لَمْ يَبْقَ الْجَزَاءُ وَبَقَاءُ الْيَمِينِ بِهِ وَبِالشَّرْطِ. وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْ دَخَلَتْ عَلَى نَفْسِ التَّزَوُّجِ بِأَنْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَرَّةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ) لِأَنَّ انْعِقَادَهَا بِاعْتِبَارِ مَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ بِالتَّزَوُّجِ وَذَلِكَ غَيْرُ
لَا تَطْلُقُ، وَأَمَّا الْوُقُوعُ عَلَى امْرَأَةٍ أُخْرَى بِتَزَوُّجِهَا فَبِاعْتِبَارِ عُمُومِ الِاسْمِ وَلَمْ يَنْشَأْ مِنْ نَفْسِ الشَّرْطِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَعْمِيمُ الْأَفْعَالِ وَالتَّكْرَارُ مِنْ ضَرُورَتِهِ لِأَنَّهُ كَمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيَامِ بِآحَادٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَكُونُ بِتَجَدُّدِ الْأَمْثَالِ مِنْ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ وَلَوْ دَخَلْت عَلَى نَفْسِ التَّزَوُّجِ بِأَنْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ يَحْنَثُ بِكُلِّ مَرَّةٍ) أَبَدًا لِأَنَّ الشَّرْطَ مِلْكٌ يُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وَكُلَّمَا وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ تَبِعَهُ مِلْكُ الثَّلَاثِ فَيَتْبَعُهُ جَزَاؤُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُنْتَقَى: إذَا قَالَ كُلَّمَا تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً طَلُقَتْ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا لَا تَطْلُقُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِمُعَيَّنَةٍ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك أَوْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ تَكَرَّرَ دَائِمًا، وَاسْتَوْضَحَهُ بِمَا إذَا قَالَ: كُلَّمَا اشْتَرَيْت ثَوْبًا أَوْ رَكِبْت دَابَّةً لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنَّمَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ فِي الْمُعَيَّنَةِ لَا فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ.
وَحَقِيقَةُ الْبَحْثِ ادِّعَاؤُهُ اتِّحَادَ الْحَاصِلِ بَيْنَ كُلِّ وَكُلَّمَا إذَا نُسِبَ فِعْلُهَا إلَى مُنَكَّرٍ. فَإِنْ قُلْت: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ كُلًّا يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَسْمَاءِ وَعُمُومُ الْأَفْعَالِ يَثْبُتُ ضَرُورَةً، وَكُلُّ مَا يَقْتَضِيهِ فِي الْأَفْعَالِ وَعُمُومِ الْأَسْمَاءِ يَثْبُتُ ضَرُورَةً، فَإِذَا وُجِدَ فِي لَفْظِ كُلٍّ اسْمٌ وَاحِدٌ انْحَلَّتْ فِي حَقِّهِ وَلَا يَتَكَرَّرُ بِهِ نَفْسُهُ وَبَقِيَتْ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ، وَفِي كُلَّمَا إذَا وُجِدَ فِعْلٌ انْحَلَّتْ بِاعْتِبَارِهِ وَبَقِيَتْ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُمَاثِلَةِ سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَوَّلُ أَوْ لَا. قُلْنَا: قَدْ اعْتَرَفْتُمْ بِثُبُوتِ عُمُومِ الْأَسْمَاءِ ضَرُورَةً وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى النَّظَرِ إلَى سَبَبِهِ، إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْعُمُومُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ فَصَارَ الْحَاصِلُ كُلُّ تَزَوُّجٍ لِكُلِّ امْرَأَةٍ، وَفِي مِثْلِهِ تَنْقَسِمُ الْآحَادُ عَلَى الْآحَادِ ظَاهِرًا عَلَى مَا قَرَّرُوا فِي رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ وَ {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا إذَا انْحَلَّتْ فِي فِعْلٍ انْحَلَّتْ فِي اسْمِهِ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْحِنْثُ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَيُدْفَعُ بِأَنَّ
مَحْصُورٍ.
قَالَ (وَزَوَالُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْيَمِينِ)(لَا يُبْطِلُهَا) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَبَقِيَ وَالْجَزَاءُ بَاقٍ لِبَقَاءِ مَحَلِّهِ فَبَقِيَ الْيَمِينُ (ثُمَّ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي مِلْكِهِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ) لِأَنَّهُ وُجِدَ الشَّرْطُ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْجَزَاءِ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ وَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ لِمَا قُلْنَا (وَإِنْ وُجِدَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ (وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ.
(وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الشَّرْطِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ) لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَزَوَالَ الْمِلْكِ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ (فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا مِثْلُ أَنْ
انْقِسَامَ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ عِنْدَ التَّسَاوِي وَهُوَ مُنْتَفٍ لِأَنَّ دَائِرَةَ عُمُومِ الْأَفْعَالِ أَوْسَعُ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِهِ مَا يَتَحَقَّقُ بِالتَّكْرَارِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَقَدْ فُرِضَ عُمُومُهُ بِكُلَّمَا فَلَا يُعْتَبَرُ كُلُّ اسْمٍ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(قَوْلُهُ وَزَوَالُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا يُبْطِلُهَا) حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ عَتَقَ فِي الْحَالِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ عَدَمِ الْبُطْلَانِ بِمَا إذَا زَالَ الْمِلْكُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ، أَمَّا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ عَادَتْ فَدَخَلَتْ لَا تَطْلُقُ عَلَى مَا سَيَأْتِي. ثُمَّ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي مِلْكِهِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ إلَى آخِرِ مَا فِي الْكِتَابِ، هَذَا وَكَمَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ خِلَافًا لَزُفَرَ كَذَلِكَ يَبْطُلُ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، حَتَّى لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ لَحَاقِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا تَطْلُقُ خِلَافًا لَهُمَا. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا جَاءَ تَائِبًا مُسْلِمًا فَتَزَوَّجَهَا ثَانِيًا لَا يَنْقُصُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ شَيْءٌ عِنْدَهُ وَيَنْقُصُ عِنْدَهُمَا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الشَّرْطِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الشَّرْطِ وَلِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ) وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَدْخُلِي الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: لَمْ أَدْخُلْ وَقَالَ: دَخَلْت فَالْقَوْلُ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَمَسِّكَةً بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الدُّخُولِ. وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أُجَامِعْك فِي حَيْضَتِك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: لَمْ يُجَامِعْنِي وَقَالَ: فَعَلْت فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ أَنَّهَا مُتَمَسِّكَةٌ بِظَاهِرَيْنِ عَدَمِ الْجِمَاعِ وَحُرْمَتِهِ فِي الْحَيْضِ الدَّاعِيَةِ إلَى عَدَمِهِ لِكَوْنِهِ أَنْكَرَ الطَّلَاقَ وَاسْتَحْضَرَ هُنَا مَا فِي النِّكَاحِ. لَوْ قَالَ: بَلَغَك الْخَبَرُ فَسَكَتَ وَقَالَتْ: رَدَدْت الْقَوْلُ قَوْلُهُ، خِلَافًا لِزُفَرَ لِهَذَا أَيْضًا فَهَذَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَهِيَ فِي طُهْرٍ خَالٍ عَنْ الْجِمَاعِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ: جَامَعْتُك فِي حَيْضَتِك فَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ لَهَا إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً لِأَنَّهُ يُرِيدُ إبْطَالَ حُكْمٍ وَاقِعٍ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُضَافَ سَبَبٌ فِي الْحَالِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ طَلَاقِ السُّنَّةِ بِالْفَرْضِ (قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا) عَلَيْهِ الْأَرْبَعَةُ رَحِمَهُمْ
يَقُولَ: إنْ حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ فَقَالَتْ: قَدْ حِضْت طَلُقَتْ هِيَ وَلَمْ تَطْلُقْ فُلَانَةُ) وَوَقَعَ الطَّلَاقُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَلَا تُصَدَّقُ كَمَا فِي الدُّخُولِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا إذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا كَمَا قُبِلَ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ وَالْغَشَيَانِ لَكِنَّهَا شَاهِدَةٌ فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا بَلْ هِيَ مُتَّهَمَةٌ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي حَقِّهَا
اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَقَعُ وَتَخْتَبِرُهَا النِّسَاءُ بِإِدْخَالِ قُطْنَةٍ فِي فَرْجِهَا فِي زَمَانِ قَالَتْ ذَلِكَ. وَدُفِعَ بِأَنَّهَا أَمِينَةٌ مَأْمُورَةٌ بِإِظْهَارِ مَا فِي رَحِمِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} تَحْرِيمُ كِتْمَانِهَا أَمْرٌ بِالْإِظْهَارِ.
وَفَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالْإِظْهَارِ تَرْتِيبُ أَحْكَامِ الْمُظْهِرِ، وَهُوَ فَرْعُ قَبُولِهِ مَعَ أَنَّ إدْخَالَ الْقُطْنَةِ لَا يُوصِلُ إلَى عِلْمٍ وَلَا ظَنٍّ لِجَوَازِ أَخْذِ دَمٍ مِنْ الْخَارِجِ تَحَمَّلَتْ بِهِ (قَوْلُهُ وَلَمْ تَطْلُقْ فُلَانَةُ) هَذَا إذَا كَذَّبَهَا، أَمَّا إذَا صَدَّقَهَا طَلُقَتْ فُلَانَةُ أَيْضًا، وَكَذَا فِي جَمِيعِ نَظَائِرِهِ (قَوْلُهُ كَمَا قُبِلَ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ) أَيْ انْقِضَائِهَا، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ لَمْ يُرَاجِعْهَا فَقَالَتْ لَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ تَحْتَمِلُ صِدْقَهَا قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي انْقَطَعَ حَقُّ الرَّجْعَةِ، أَوْ قَالَتْ لِرَجُلٍ آخَرَ: انْقَضَتْ عِدَّتِي مِنْ فُلَانٍ وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ جَازَ لَهُ تَزَوُّجُهَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهَا (وَالْغَشَيَانُ) أَيْ حِلُّ الْوَطْءِ وَحُرْمَتُهُ، فَلَوْ قَالَتْ: أَنَا حَائِضٌ حَرُمَ أَوْ طَاهِرٌ حَلَّ، أَوْ قَالَتْ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا: تَزَوَّجْت بِثَانٍ وَغَشِيَنِي حَلَّتْ لَهُ. لَا يُقَالُ: إمَّا أَنْ تَكُونَ حَاضَتْ أَوْ لَا، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى الثَّانِي لَا يَقَعُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَنْظُورُ إلَيْهِ فِي حَقِّهَا شَرْعًا الْإِخْبَارُ بِهِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ وَفِي حَقِّ ضَرَّتِهَا حَقِيقَتُهُ وَشَهَادَتُهَا عَلَى ذَلِكَ شَهَادَةُ فَرْدٍ وَإِخْبَارُهَا بِهِ لَا يَسْرِي فِي حَقِّهَا مَعَ التَّكْذِيبِ، وَلَا بَعْدُ فِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا غَيْرِهِ، كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ عَلَى الْمَيِّتِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى نَصِيبِهِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْبَاقُونَ، وَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِالْمَبِيعِ لِمُسْتَحِقٍّ لَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، هَذَا وَإِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إذَا أَخْبَرَتْ بِالْحَيْضِ وَهُوَ قَائِمٌ، أَمَّا بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فَلَا لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ حِضْت حَيْضَةً حَيْثُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ حِضْت وَطَهُرْت وَأَنَا الْآنَ حَائِضٌ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَلَا يَقَعُ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ الشَّرْطِ حَالَ عَدَمِهِ، وَلَا يَقَعُ إلَّا إذَا أَخْبَرَتْ فِي الطُّهْرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْحَيْضَةِ فَحِينَئِذٍ يَقَعُ، وَهَذَا لِأَنَّهَا جُعِلَتْ أَمِينَةً شَرْعًا فِيمَا تُخْبِرُ مِنْ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ضَرُورَةَ إقَامَةِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا فَلَا تَكُونُ مُؤْتَمَنَةً حَالَ عَدَمِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ فَقَالَتَا: حِضْنَا لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُمَا، فَإِنْ صَدَّقَ إحْدَاهُمَا وَكَذَّبَ
(وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَك اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ فَقَالَتْ أُحِبُّهُ)
أَوْ قَالَ: (إنْ كُنْت تُحِبِّينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ مَعَك فَقَالَتْ: أُحِبُّك)(طَلُقَتْ هِيَ وَلَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ وَلَا تَطْلُقُ صَاحِبَتُهَا) لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهَا لِأَنَّهَا لِشِدَّةِ بُغْضِهَا إيَّاهُ قَدْ تُحِبُّ التَّخْلِيصَ مِنْهُ بِالْعَذَابِ،
الْأُخْرَى طَلُقَتْ الْمُكَذَّبَةُ، وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَقَالَ ذَلِكَ فَقُلْنَ: حِضْنَا لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُنَّ، وَكَذَا إنْ صَدَّقَ إحْدَاهُنَّ فَإِنْ صَدَّقَ ثِنْتَيْنِ فَقَطْ طَلُقَتْ الْمُكَذَّبَةُ دُونَ الْمُصَدَّقَاتِ. وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ يَطْلُقْنَ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُنَّ. وَكَذَا إنْ صَدَّقَ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ، وَإِنْ صَدَّقَ ثَلَاثًا فَقَطْ طَلُقَتْ الْمُكَذَّبَةُ دُونَ الْمُصَدَّقَاتِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ حَيْضَ الْكُلِّ شَرْطٌ لِلْوُقُوعِ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ حَتَّى يَحِضْنَ جَمِيعًا، وَإِنْ حَاضَ بَعْضُهُنَّ يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ فَلَا يَثْبُتُ، وَإِنْ قُلْنَ جَمِيعًا: حِضْنَا لَا يَثْبُتُ حَيْضُ كُلِّ وَاحِدَةٍ إلَّا فِي حَقِّ نَفْسِهَا إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهَا فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَإِنْ صَدَّقَ الْبَعْضَ وَكَذَّبَ الْبَعْضَ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُكَذَّبَةُ وَاحِدَةً طَلُقَتْ هِيَ وَحْدَهَا لِتَمَامِ الشَّرْطِ فِي حَقِّهَا لِأَنَّ قَوْلَهَا مَقْبُولٌ فِي نَفْسِهَا وَقَدْ صَدَّقَ غَيْرَهَا فَتَمَّ الشَّرْطُ فِيهَا وَلَا تَطْلُقُ غَيْرُهَا لِأَنَّ الْمُكَذَّبَةَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي غَيْرِهَا فَلَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ فِي الْغَيْرِ، وَإِنْ كَذَّبَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُكَذَّبَاتِ لَمْ يَثْبُتْ حَيْضُهَا إلَّا فِي حَقِّ نَفْسِهَا فَكَانَ الْمَوْجُودُ بَعْضَ الشَّرْطِ فَلَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ حَتَّى يُصَدَّقَ مَنْ سِوَاهَا جَمِيعًا.
(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَك اللَّهُ، إلَى قَوْلِهِ: لِمَا بَيَّنَّا) يُرِيدُ أَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا شَاهِدَةٌ فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا. وَقَوْلُهُ (وَلَا يُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهَا) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ نُزُولُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ خَبَرِهَا بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ صِدْقِهَا، فَأُمِنَا هُنَا فَكَذِبُهَا مُتَيَقَّنٌ فَكَيْفَ نَحْكُمُ بِالْجَزَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ. أَجَابَ بِمَنْعِ تَيَقُّنِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبْلُغُ بِهِ ضِيقُ الصَّدْرِ وَعَدَمُ الصَّبْرِ وَسُوءُ الْحَالِ إلَى دَرَجَةٍ يُحِبُّ الْمَوْتَ فِيهَا فَجَازَ أَنْ تَحْمِلَهَا شِدَّةُ بُغْضِهَا مَعَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ وَعَدَمِ الذَّوْقِ لِلْعَذَابِ فِي الْحَالِ عَلَى تَمَنِّي الْخَلَاصِ مِنْهُ بِالْعَذَابِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبِّينِي بِقَلْبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: أُحِبُّك كَاذِبَةً طَلُقَتْ قَضَاءً وَدَيَّانَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ بِالْقَلْبِ فَذِكْرُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ فَصَارَ كَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَطْلُقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا إنْ صَدَقَتْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَحَبَّةِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانُ خَلَفٌ عَنْهُ، وَتَقْيِيدُهُ بِالْأَصْلِ يُبْطِلُ الْخُلُقِيَّةَ. قُلْنَا: بَلْ عَدَمُ إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا فِي قَلْبِهَا أَوْجَبَ النَّقْلَ إلَى الْخَلَفِ مُطْلَقًا فَاسْتَوَى التَّقْيِيدُ وَعَدَمُهُ. وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ بِالْقَلْبِ لَا تُعْتَبَرُ وَإِنْ أَمْكَنَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كُنْت أَنَا أُحِبُّ كَذَا ثُمَّ قَالَ: لَسْت أُحِبُّهُ كَاذِبًا فَهِيَ امْرَأَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاسْتَشْكَلَ السَّرَخْسِيُّ هَذَا بِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا فِي قَلْبِهَا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِ نَفْسِهِ، لَكِنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا إذْ الْقَلْبُ مُتَقَلِّبٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ، فَالْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ مُتَعَذِّرٌ، وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تُنَاطُ بِالْأُمُورِ
وَفِي حَقِّهَا إنْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِإِخْبَارِهَا وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، فَفِي حَقِّ غَيْرِهَا بَقِيَ الْحُكْمُ عَلَى الْأَصْلِ وَهِيَ الْمَحَبَّةُ
(وَإِذَا قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ حَتَّى يَسْتَمِرَّ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِأَنَّ مَا يَنْقَطِعُ دُونَهَا لَا يَكُونُ حَيْضًا (فَإِذَا تَمَّتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَكَمْنَا بِالطَّلَاقِ مِنْ حِينِ حَاضَتْ) لِأَنَّهُ بِالِامْتِدَادِ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَكَانَ حَيْضًا مِنْ الِابْتِدَاءِ (وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا) لِأَنَّ الْحَيْضَةَ بِالْهَاءِ هِيَ الْكَامِلَةُ مِنْهَا، وَلِهَذَا حُمِلَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ الِاسْتِبْرَاءِ وَكَمَالُهَا بِانْتِهَائِهَا وَذَلِكَ بِالطُّهْرِ
الظَّاهِرَةِ لَا الْخَفِيَّةِ، كَالرُّخْصَةِ بِالسَّفَرِ وَالْحَدَثِ بِالنَّوْمِ وَالْجَنَابَةِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَلْبِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَحَبَّةِ إنَّمَا يُفَارِقُ التَّعْلِيقَ بِالْحَيْضِ فِي أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ تَخْيِيرًا، حَتَّى لَوْ قَامَتْ وَقَالَتْ أُحِبُّك لَا تَطْلُقُ، وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَاذِبَةً تَطْلُقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْحَيْضِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ، وَلَا تَطْلُقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً.
[فُرُوعٌ].
فِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا شَيْئًا مِنْ السَّبِّ نَحْوُ قَرْطَبَانِ وَسَفَلَةٍ فَقَالَ: إنْ كُنْت كَمَا قُلْت: فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كَمَا قَالَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الزَّوْجَ فِي الْغَالِبِ لَا يُرِيدُ إلَّا أَنْ يُؤْذِيَهَا بِالطَّلَاقِ كَمَا آذَتْهُ. وَقَالَ الْإِسْكَافُ فِيمَنْ قَالَتْ: يَا قَرْطَبَانُ فَقَالَ زَوْجُهَا: إنْ كُنْت أَنَا قَرْطَبَانِ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلُقُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الشَّرْطَ يَصْدُقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ فَتْوَى أَهْلِ بُخَارَى عَلَى الْمُجَازَاةِ دُونَ الشَّرْطِ.
(قَوْلُهُ فَكَانَ حَيْضًا مِنْ الِابْتِدَاءِ) وَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُعَيِّنَ ذَلِكَ فَيَقُولَ طَلُقَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا الِاسْتِنَادِ فِيمَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَتَزَوَّجَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ أَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِالْحَيْضِ عِتْقًا فَجَنَى الْعَبْدُ أَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَمِرَّ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَمَرَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيُعْتَبَرُ فِي الْعَبْدِ جِنَايَةُ الْأَحْرَارِ، وَلَا تُحْسَبُ هَذِهِ الْحَيْضَةُ مِنْ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا بَعْضُ حَيْضَةٍ لِأَنَّهُ حِينَ كَانَ الشَّرْطُ رُؤْيَةَ الدَّمِ لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ بَعْدَ حَيْضِهَا (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَطْهُرَ) أَيْ يُحْكَمَ بِطُهْرِهَا عَنْ هَذَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ إنْ حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ حِضْت حَيْثُ لَا يَكُونُ الْأَوَّلُ بِدْعِيًّا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ فِي الطُّهْرِ بِخِلَافِ الثَّانِي، ثُمَّ إنَّمَا يُحْكَمُ بِطُهْرِهَا فَيَقَعُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ بِالِاغْتِسَالِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ صَيْرُورَةِ الصَّلَاةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، وَأَمَّا بِالْعَشَرَةِ فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ بِالْهَاءِ هِيَ الْكَامِلَةُ) عَنْ هَذَا لَوْ قَالَ نِصْفَ حَيْضَةٍ كَانَ الْحُكْمُ كَمَا فِي حَيْضَةٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْكَامِلِ وَهِيَ لَا تَتَجَزَّأُ خِلَافًا لِزُفَرَ فِي قَوْلِهِ تَطْلُقُ بِحَيْضِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ لِلتَّيَقُّنِ بِالنِّصْفِ. قُلْنَا: هَذَا نِصْفُ أَقْصَى مُدَّتِهِ لَا نِصْفُ الدُّرُورِ، وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ تَطْهُرْ ثُمَّ تَحِضْ. وَإِذَا قَالَ لِطَاهِرَةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا طَهُرْت لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَقْتَضِي شَرْطًا مُسْتَقْبَلًا وَهَذَا الْحَيْضُ قَدْ مَضَى بَعْضُهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ، وَمَا مَضَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْيَمِينِ وَالْبَاقِي تَبَعٌ لِلْمَاضِي فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ كَمَا لَا يَتَنَاوَلُ الْمَاضِيَ، بِخِلَافِ
(وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا صُمْت يَوْمًا طَلُقَتْ حِينَ تَغِيبَ الشَّمْسُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تَصُومُ) لِأَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ مُمْتَدٍّ يُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إذَا صُمْت لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِمِعْيَارٍ وَقَدْ وُجِدَ الصَّوْمُ بِرُكْنِهِ وَشَرْطِهِ.
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا وَلَدْت غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَإِذَا وَلَدْت جَارِيَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا أَوَّلُ لَزِمَهُ فِي الْقَضَاءِ تَطْلِيقَةٌ، وَفِي التَّنَزُّهِ تَطْلِيقَتَانِ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ) لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْجَارِيَةِ ثُمَّ لَا تَقَعُ أُخْرَى بِهِ لِأَنَّهُ حَالُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا وَقَعَتْ تَطْلِيقَتَانِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْغُلَامِ ثُمَّ لَا يَقَعُ شَيْءٌ آخَرُ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَالُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِذًا فِي حَالٍ تَقَعُ وَاحِدَةٌ وَفِي حَالٍ تَقَعُ ثِنْتَانِ فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِالثِّنْتَيْنِ تَنَزُّهًا وَاحْتِيَاطًا، وَالْعِدَّةُ مُنْقَضِيَةٌ بِيَقِينٍ لِمَا بَيَّنَّا.
قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ تَحِيضِي حَيْضَةً بِشَهْرٍ حَيْثُ تَطْلُقُ إذَا حَاضَتْ فَلَا يُنْتَظَرُ الطُّهْرُ، وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ الِاسْتِبْرَاءِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إذَا صُمْت لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِمِعْيَارٍ) إذْ لَمْ يَقُلْ إذَا صُمْت يَوْمًا أَوْ شَهْرًا فَيَتَعَلَّقُ بِمَا يُسَمَّى صَوْمًا فِي الشَّرْعِ وَقَدْ وُجِدَ الصَّوْمُ بَرَكَتُهُ وَشَرْطُهُ بِإِمْسَاكِ سَاعَةٍ فَيَقَعُ بِهِ وَإِنْ قَطَعَتْهُ بَعْدَهُ، وَكَذَا إذَا صُمْت فِي يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرِطْ كَمَالَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَدَّرَهُ بِمِعْيَارٍ كَإِذَا صُمْت يَوْمًا فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا بَعْدَ الْغُرُوبِ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي صَامَتْ فِيهِ. وَنَظِيرُ إذَا صُمْت يَوْمًا إذَا صُمْت صَوْمًا لَا يَقَعُ إلَّا بِتَمَامِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمِعْيَارٍ، وَإِذَا صَلَّيْت صَلَاةً يَقَعُ بِرَكْعَتَيْنِ، وَفِي إذَا صَلَّيْت يَقَعُ بِرَكْعَةٍ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا وَلَدْت غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَإِذَا وَلَدْت جَارِيَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً وَلَا يَدْرِي أَيَّهمَا الْأَوَّلُ) لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ بِالسَّابِقِ وَلَا يَقَعُ بِاللَّاحِقِ شَيْءٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُقَارِنَ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَتَقْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ وَاضِحٌ مِنْ الْكِتَابِ. وَمَا عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ لِاحْتِمَالِ الْخُرُوجِ مَعًا.
قِيلَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَوَّلَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ تَحَقَّقَ وِلَادَتَهُمَا مَعًا وَقَعَ الثَّلَاثُ وَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ. وَلَوْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَوَّلَهُمْ وَقَعَ ثِنْتَانِ فِي الْقَضَاءِ وَثَلَاثٌ فِي التَّنَزُّهِ لِأَنَّ الْغُلَامَ إنْ كَانَ أَوَّلًا أَوْ ثَانِيًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا وَاحِدَةً بِهِ وَثِنْتَيْنِ بِالْجَارِيَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي مَا بَقِيَ فِي الْبَطْنِ وَلَدٌ، وَإِنْ كَانَ آخِرًا يَقَعُ ثِنْتَانِ بِالْجَارِيَةِ الْأُولَى وَلَا يَقَعُ بِالثَّانِيَةِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِالْجَارِيَةِ انْحَلَّتْ بِالْأُولَى، وَلَا يَقَعُ بِالْغُلَامِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ حَالَ
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: إنْ كَلَّمْت أَبَا عَمْرٍو وَأَبَا يُوسُفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَبَانَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلَّمَتْ أَبَا عَمْرٍو ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَكَلَّمَتْ أَبَا يُوسُفَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا مَعَ الْوَاحِدَةِ الْأُولَى) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَقَعُ، وَهَذِهِ عَلَى وُجُوهٍ:(أَمَّا إنْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ فِي الْمِلْكِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَهَذَا ظَاهِرٌ، أَوْ وُجِدَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَقَعُ، أَوْ وُجِدَ الْأَوَّلُ فِي الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَقَعُ أَيْضًا لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَقَعُ) أَوْ وُجِدَ الْأَوَّلُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي الْمِلْكِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ الْخِلَافِيَّةُ. لَهُ اعْتِبَارُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي إذْ هُمَا فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ. وَلَنَا أَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ بِأَهْلِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ يُشْتَرَطُ حَالَةُ التَّعْلِيقِ لِيَصِيرَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَتُرَدَّدَ بَيْنَ ثَلَاثٍ وَثِنْتَيْنِ فَيُحْكَمُ بِالْأَقَلِّ قَضَاءً وَبِالْأَكْثَرِ تَنَزُّهًا.
وَلَوْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وَجَارِيَةً لَزِمَهُ وَاحِدَةٌ فِي الْقَضَاءِ وَفِي التَّنَزُّهِ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْغُلَامَانِ أَوَّلًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِأَوَّلِهِمَا وَلَا يَقَعُ بِالثَّانِي شَيْءٌ وَلَا بِالْجَارِيَةِ الْأَخِيرَةِ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أَوَّلًا أَوْ وَسَطًا وَقَعَ ثِنْتَانِ بِهَا وَوَاحِدَةً بِالْغُلَامِ بَعْدَهَا أَوْ قَبْلَهَا فَتَرَدَّدَ بَيْنَ ثَلَاثٍ وَوَاحِدَةٍ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُك غُلَامًا فَطَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ جَارِيَةً فَثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْهُمَا لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّ حَمْلَك اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ فَيَعُمُّ كُلَّهُ، فَمَا لَمْ يَكُنْ الْكُلُّ جَارِيَةً أَوْ غُلَامًا لَا يَقَعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِك غُلَامًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ كَقَوْلِهِ إنْ كَانَ مَا فِي هَذَا الْعِدْلِ حِنْطَةً فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ دَقِيقًا فَطَالِقٌ فَإِذَا فِيهِ حِنْطَةٌ وَدَقِيقٌ لَا تَطْلُقُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَالْبَاقِي بِحَالِهِ وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَفِي الْجَامِعِ: لَوْ قَالَ: إنْ وَلَدَتْ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَطَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا يَقَعُ الثَّلَاثُ لِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَوْجُودٌ فِي الْمُقَيَّدِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: إنْ كَلَّمْت أَبَا عَمْرٍو وَأَبَا يُوسُفَ) حَاصِلُ مَبْنَى الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا جَعَلَ الشَّرْطَ فِعْلًا مُتَعَلِّقًا بِشَيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا نَحْوُ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ اُشْتُرِطَ لِلْوُقُوعِ قِيَامُ الْمِلْك عِنْدَ آخِرِهِمَا عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَقِيَاسُهُ فِيمَا إذَا كَانَ فِعْلًا قَائِمًا بِاثْنَيْنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَائِمٌ بِهِمَا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ مِثْلُ إنْ جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الشَّرْطَ مَجِيئُهُمَا فَلَا يَقَعُ طَلَاقٌ إلَّا أَنْ يَجِيءَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُعْرَفُ بِهِ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ إذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، وَجَعَلَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ مِنْ تَعَدُّدِ الشَّرْطِ لَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ تَعَدُّدَهُ بِتَعَدُّدِ فِعْلِ الشَّرْطِ وَلَا تَعَدُّدَ فِي الْفِعْلِ هُنَا بَلْ فِي مُتَعَلَّقِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدُهُ تَعَدُّدَهُ، فَإِنَّهَا لَوْ كَلَّمَتْهُمَا مَعًا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَغَايَتُهُ تَعَدُّدٌ بِالْقُوَّةِ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ اعْتِبَارُ الْأَوْلَى مِنْ الْوَصْفَيْنِ بِالثَّانِي فِي وُجُوبِ قِيَامِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ إذْ هُمَا فِي حُكْمِ هَذَا الطَّلَاقِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا (وَلَنَا أَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ بِأَهْلِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ) وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ لِصِحَّتِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَعَ الْأَهْلِيَّةِ: قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ، وَكَوْنُ الشَّرْطِ الْمِلْكَ لِيَصِيرَ الْجَزَاءُ
لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَتَصِحُّ الْيَمِينُ وَعِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ لِيَنْزِلَ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ إلَّا فِي الْمِلْكِ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ
فِي الْأَوَّلِ غَالِبَ الْوُجُودِ بِتَقْدِيرِ الشَّرْطِ نَظَرًا إلَى ظُهُورِ الِاسْتِصْحَابِ وَمُتَيَقَّنُهُ فِي الثَّانِي، فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْإِخَافَةُ الْحَامِلَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ أَوْ الْفِعْلِ، فَإِذَا تَمَّتْ لَا يُحْتَاجُ فِي بَقَائِهَا إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَهَا بَعْدَ تَحَقُّقِ حَقِيقَتِهَا بِقِيَامِ الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِوُقُوعِ الْحِنْثِ وَالْحِنْثُ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ الْأَخِيرِ فَلَا يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ إلَّا عِنْدَهُ، وَهَذَا مَا وَعَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ.
وَأَمَّا الشَّرْطَانِ فَتَحَقُّقُهُمَا حَقِيقَةً بِتَكْرَارِ أَدَاتِهِمَا وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ بِوَاوٍ وَبِغَيْرِهِ، أَمَّا الثَّانِي فَكَقَوْلِهِ إنْ أَكَلْت إنْ لَبِسْت فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ تَلْبَسْ ثُمَّ تَأْكُلْ فَتَقَدَّمَ الْمُؤَخَّرُ وَهَذَا الَّذِي سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ اعْتِرَاضُ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ. وَصُورَتُهُ فِي الْجَامِعِ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا فَهِيَ طَالِقٌ يُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرُ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ وَاسْتَغْنَى عَنْ اللِّقَاءِ بِتَقْدِيمِ الْجَزَاءِ، فَالْكَلَامُ شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَالتَّزَوُّجُ شَرْطُ الِانْحِلَالِ، وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} الْمَعْنَى: إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْت أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ وقَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} فَالْجَوَابُ أَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً بَعْدَ هِبَتِهَا نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ؛ فَالْمَعْنَى: إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَنْكِحَ مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ نَفْسَهَا فَقَدْ أَحْلَلْنَاهَا.
قِيلَ وَيَحْتَمِلُ تَأَخُّرَ إرَادَتِهِ لِأَنَّهَا كَالْقَبُولِ، فَالْمَعْنَى: إنْ وَهَبَتْ مُؤْمِنَةٌ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ فَإِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ: أَيْ قَبْلَ أَحْلَلْنَاهَا. وَوَجْهُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّرْطَانِ شَرْطًا وَاحِدًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ لِعَدَمِ الْعَطْفِ وَإِنْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَأَقَرَّ كُلَّ شَرْطٍ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّقْدِيرِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالْكَلَامُ فِي مُوجِبِ اللَّفْظِ وَلَا الشَّرْطُ الثَّانِي مَعَ مَا بَعْدَهُ هُوَ الْجَزَاءُ لِلْأَوَّلِ لِعَدَمِ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ وَنِيَّةُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَخَفُّ مِنْ إضْمَارِ الْحَرْفِ لِأَنَّهُ تَصْحِيحٌ لِلْمَنْطُوقِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ شَيْءٍ آخَرَ فَكَانَ قَوْلُهُ إنْ أَكَلْت مُقَدَّمًا مِنْ تَأْخِيرٍ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الْجَوَابِ الْمُتَأَخِّرِ، وَالتَّقْدِيرُ إنْ لَبِسْت فَإِنْ أَكَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ لُزُومِ التَّنْجِيزِ فِي مِثْلِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ.
وَعَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ لُزُومِ إضْمَارِ الْفَاءِ يَجِبُ أَنْ لَا يُعْكَسَ التَّرْتِيبُ. وَفِي التَّجْرِيدِ لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمِلْكِ عِنْدَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ طَلُقَتْ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَكَانَ الْمُتَقَدِّمُ شَرْطَ الِانْحِلَالِ فَيُعْتَبَرُ الْمِلْكُ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: إنْ أَعْطَيْتُك إنْ وَعَدْتُك إنْ سَأَلْتنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَسْأَلَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَعِدُهَا ثُمَّ يُعْطِيهَا لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَطِيَّةِ الْوَعْدَ وَفِي الْوَعْدِ السُّؤَالَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ سَأَلْتَنِي إنْ وَعَدْتُك إنْ أَعْطَيْتُك، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ مَنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ بِإِذَا، فَإِنْ كَانَ بِإِنْ تَطْلُقَ لِوُجُودِهِمَا كَيْفَ كَانَ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي ذَلِكَ " إذَا " لَا " إنْ ".
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ وَإِذَا قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ ذَكَرَ بِكَلِمَةِ إنْ أَوْ مَتَى فَأَيُّهُمَا قَدِمَ أَوَّلًا يَقَعُ الطَّلَاقُ
الْحَالُ حَالُ بَقَاءِ الْيَمِينِ فَيُسْتَغْنَى عَنْ قِيَامِ الْمِلْكِ إذْ بَقَاؤُهُ بِمَحَلِّهِ وَهُوَ الذِّمَّةُ.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: هِيَ طَالِقٌ مَا بَقِيَ مِنْ الطَّلَاقِ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ عِنْدَهُمَا فَتَعُودُ إلَيْهِ بِالثَّلَاثِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ فَتَعُودُ إلَيْهِ مَا بَقِيَ،
وَلَا يُنْتَظَرُ قُدُومُ الْآخَرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ يَمِينٌ تَامٌّ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي لَا جَزَاءَ لَهُ، فَإِذَا عُطِفَ عَلَى شَرْطٍ تَعَلَّقَ بِهِ جَزَاؤُهُ: أَيْ تَعَلَّقَ جَزَاؤُهُ بِعَيْنِهِ بِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ تِلْكَ التَّطْلِيقَةَ، فَلِذَا لَوْ قَدِمَا مَعًا لَمْ يَقَعْ إلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا إذَا خَلَّلَ الْجَزَاءَ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فَقَالَ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا قَدِمَ فُلَانٌ أَيُّهُمَا سَبَقَ وَقَعَ، ثُمَّ لَا يَقَعُ عِنْدَ الشَّرْطِ الثَّانِي شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَقَعَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ تَطْلِيقَةٌ فَتَقَعُ أُخْرَى عِنْدَ الثَّانِي، وَإِنْ أَخَّرَ الْجَزَاءَ فَقَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ وَإِذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ حَتَّى يَقْدُمَا لِأَنَّهُ عَطَفَ شَرْطًا مَحْضًا عَلَى شَرْطٍ لَا حُكْمَ لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَزَاءَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَصَارَ شَرْطًا وَاحِدًا فَلَا يَقَعُ إلَّا بِوُجُودِهِمَا، لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ بِأَوَّلِهِمَا صَارَ عَطْفًا عَلَى الْيَمِينِ كَالْأَوَّلِ لَا عَلَى الشَّرْطِ فَقَطْ، فَإِنْ نَوَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِأَحَدِهِمَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ بِنِيَّةِ تَقْدِيمِ الْجَزَاءِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ، وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا عَطَفَ بِلَا أَدَاةِ شَرْطٍ كَانَ الْمَجْمُوعُ شَرْطًا وَاحِدًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ نَوَى إضْمَارًا كَلِمَةَ الشَّرْطِ، كَذَا فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ.
[تَنْبِيهٌ]
يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الشَّرْطِ الِاتِّصَالُ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَعُرُوضُ اللَّغْوِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَزَاءِ فَاصِلٌ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ.
وَفِي الْجَامِعِ: لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ يَتَعَلَّقُ اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَغْوٌ كَقَوْلِهِ حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ، بِخِلَافِ وَحُرٌّ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِلَفْظِهِ لَا يَكُونُ بِالْوَاوِ، فَإِنَّمَا يُشَاكِلُهُ حُرٌّ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَا يُعْتَقُ فِيهِ. وَأَجْمَعُوا أَنَّ السُّكُوتَ وَالْعَطْفَ لَا يَمْنَعَانِ الْعَطْفَ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ غَيْرُ مُغَيِّرٍ بَلْ مُقَرَّرٌ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَإِذَا تَعَقَّبَ الشَّرْطُ أَجْزِيَةً لَيْسَتْ أَيْمَانًا تَامَّةً ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَرِيبِ قَيْدِ الْكُلِّ. وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدُهُ حُرٌّ وَإِنْ كَلَّمْت فُلَانًا يَتَعَلَّقُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِهِ، وَعَنْ هَذَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا إنْ دَخَلَتْ صَحَّ التَّعْلِيقُ فَيَتَعَلَّقُ الثَّلَاثُ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَطَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ إلَخْ) فَائِدَةُ الْخِلَافِ لَا تَظْهَرُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ لِلِاتِّفَاقِ فِيهَا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ. أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْبَاقِيَ وَاحِدَةٌ بِهَا يَكْمُلُ الثَّلَاثُ.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالثَّلَاثُ الْمُعَلَّقَةُ بِوَاسِطَةِ مِلْكِهِ ثِنْتَيْنِ بِالْهَدْمِ مَعَ الْوَاحِدَةِ الْبَاقِيَةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا عَلَّقَ طَلْقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ نَجَزَ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ؛ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تَعَالَى تَحْرُمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً، وَعِنْدَهُمَا لَا إذْ يَمْلِكُ بَعْدَ
وَسَنُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِنْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعْت إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ ثَلَاثٌ مُطْلَقٌ لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَقِيَ حَتَّى وُقُوعِهَا فَتَبْقَى الْيَمِينُ. وَلَنَا أَنَّ الْجَزَاءَ طَلَقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَانِعَةُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ وَالْيَمِينُ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ، وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ فَاتَ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ الْمُبْطِلِ لِلْمَحَلِّيَّةِ فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَانَهَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ بَاقٍ لِبَقَاءِ مَحَلِّهِ
الْوُقُوعِ ثِنْتَيْنِ (قَوْلُهُ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ) وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْجَزَاءَ طَلَقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ) لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِكَوْنِ الْجَزَاءِ غَالِبَ الْوُقُوعِ لِتَحَقُّقِ الْإِخَافَةِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ عَدَمُ الْعَوْدِ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَ التَّزَوُّجِ بِهِ عَدَمُ فِرَاقِهَا وَعَوْدُهَا إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُعْقَدُ لِلْعُمْرِ فَلَا يَكُونُ غَيْرُ الْمِلْكِ الْقَائِمِ مُرَادًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِهِ فَتَقَيَّدَ الْإِطْلَاقُ بِهِ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ: أَعْنِي إرَادَةَ الْيَمِينِ.
وَأَيْضًا بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ خَرَجَتْ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ لَهُ، وَإِنَّمَا تَحْدُثُ مَحَلِّيَّتُهَا بَعْدَ الثَّانِي فَصَارَتْ كَالْمُرْتَدَّةِ تَحْدُثُ مَحَلِّيَّتُهَا بِالْإِسْلَامِ، وَبُطْلَانُ الْمَحَلِّيَّةِ لِلْجَزَاءِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ كَفَوْتِ مَحِلِّ الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَتْ
(وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا جَامَعْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَجَامَعَهَا فَلَمَّا الْتَقَى الْخِتَانَانِ طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ لَبِثَ سَاعَةً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ ثُمَّ أَدْخَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ) وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إذَا جَامَعْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمَهْرَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا لِوُجُودِ الْجِمَاعِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلِاتِّحَادِ) وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْجِمَاعَ إدْخَالُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ وَلَا دَوَامَ لِلْإِدْخَالِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْرَجَ ثُمَّ أَوْلَجَ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِدْخَالُ بَعْدَ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَجْلِسِ وَالْمَقْصُودِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَجَبَ الْعُقْرُ إذْ الْوَطْءُ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِاللَّبَاثِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رحمه الله
حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا لَا يَقَعُ الْيَمِينُ فَهَذَا كَذَلِكَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ حَيْثُ يُعْتَقُ لِأَنَّ مَحَلِّيَّتَهُ بِالرِّقِّ وَلَمْ تَزُلْ بِالْبَيْعِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ حَيْثُ يَقَعُ الْمُعَلَّقُ، خِلَافًا لِزُفَرَ حَيْثُ يُوقِعُ الْوَاحِدَةَ الْبَاقِيَةَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ اسْتَفَادَ حِلًّا جَدِيدًا بِمِلْكٍ جَدِيدٍ يَمْلِكُ بِهِ الثَّلَاثَ لِأَنَّ عَدَمَ بَقَاءِ الْيَمِينِ بِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ وَلَمْ تَزُلْ بِالطَّلْقَتَيْنِ فَكَانَتْ بَاقِيَةً حَالَ عَوْدِهَا إلَيْهِ.
وَأَوْرَدَ بَعْضُ أَفَاضِلِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ إلَّا وَاحِدَةٌ كَقَوْلِ زُفَرَ لِقَوْلِهِمْ الْمُعَلَّقُ طَلَقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ هَذَا الْمِلْكِ لَيْسَ إلَّا وَاحِدَةٌ فَكَانَ كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَإِنَّمَا تَقَعُ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي مِلْكِهِ سِوَاهَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ مَشْرُوطَةٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ الثَّلَاثُ مَا دَامَ مِلْكُهُ لَهَا، فَإِذَا زَالَ بَقِيَ الْمُعَلَّقُ ثَلَاثًا مُطَلَّقَةً كَمَا هُوَ اللَّفْظُ لَكِنْ بِشَرْطِ بَقَائِهَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ، فَإِذَا نَجَزَ ثِنْتَيْنِ زَالَ مِلْكُ الثَّلَاثِ فَبَقِيَ الْمُعَلَّقُ ثَلَاثًا مُطَلَّقَةً مَا بَقِيَتْ مَحَلِّيَّتُهَا وَأَمْكَنَ وُقُوعُهَا، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي تَنْجِيزِهِ الثِّنْتَيْنِ فَيَقَعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ فَدَخَلَتْ حَيْثُ يَصِيرُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ لَا الْحِلُّ الْأَصْلِيُّ، إلَّا أَنَّ قِيَامَ النِّكَاحِ مِنْ شَرْطِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ لِبَقَاءِ الْمَشْرُوطِ كَالشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ، أَمَّا الطَّلَاقُ فَتَحْرِيمُ الْحِلِّ، وَقَدْ فَاتَ بِتَنْجِيزِ الطَّلَقَاتِ
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا جَامَعْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَجَامَعَهَا فَلَمَّا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَقَعَ الثَّلَاثُ) ثُمَّ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي الْحَالِ بَلْ لَبِثَ سَاعَةً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَهْرُ: أَيْ الْعُقْرُ بِهَذَا اللُّبْثِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخْرَجَهُ ثُمَّ أَدْخَلَهُ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إذَا جَامَعْتُك) فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَتَقَتْ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَإِذَا مَكَثَ بَعْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عُقْرٌ لَهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعُقْرَ فِي الْفَصْلَيْنِ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ بِالدَّوَامِ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَالْحُرِّيَّةِ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَبَقِيَ الْعُقْرُ (وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْجَامِعَ الْإِدْخَالُ وَلَيْسَ لَهُ دَوَامٌ) حَتَّى يَكُونَ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخْرَجَ ثُمَّ أَوْلَجَ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِدْخَالُ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ: أَيْ فِيهِ شُبْهَةُ أَنَّهُ جِمَاعٌ
لِوُجُودِ الْمِسَاسِ، وَلَوْ نَزَعَ ثُمَّ أَوْلَجَ صَارَ مُرَاجِعًا بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
(فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ)
وَاحِدٌ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ فَلَا يَكُونُ آخِرُهُ مُوجِبًا لَهُ، وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلَى اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ.
وَإِذَا امْتَنَعَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْبَضْعِ الْمُحْتَرَمِ لَا يَخْلُو عَنْ حَدٍّ زَاجِرٍ أَوْ مَهْرٍ جَابِرٍ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجْعِيًّا يَصِيرُ مُرَاجَعًا بِاللَّبَاثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْمِسَاسِ بِشَهْوَةٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الدَّوَامَ لَيْسَ بِتَعَرُّضِ لِلْبَضْعِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَمْ يُوجَبْ سَبَبٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلرَّجْعَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْرَجَهُ ثُمَّ أَدْخَلَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجَعًا بِالْإِجْمَاعِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِنْ لَبِثَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَنْزِعْ وَجَبَ مَهْرَانِ مَهْرٌ بِالْوَطْءِ وَمَهْرٌ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْنِفْ الْإِدْخَالَ لِأَنَّ دَوَامَهُ عَلَى ذَلِكَ فَوْقَ الْخَلْوَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
(فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ)
وَهُوَ بَيَانٌ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا أَنَّ مَا بَعْدَهَا لَمْ يَرِدْ بِحُكْمِ الصَّدْرِ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْقَطِعَ حَدًّا اسْمِيًّا لِمَفْهُومِ لَفْظِ اسْتِثْنَاءٍ اصْطِلَاحًا عَلَى أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ، وَعَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ لِبَعْضِ الْجِنْسِ مِنْ الْحُكْمِ مَجَازٌ فِيهِ لِبَعْضِ غَيْرِهِ، يُرَادُ الْكَائِنُ بَعْضُ الْجِنْسِ فِي الْمُتَّصِلِ وَيُقَيَّدُ بِغَيْرِهِ فِي الْمُنْقَطِعِ.
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ إلَّا حَقِيقَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ لِبَعْضِ الْجِنْسِ مِنْ الْحُكْمِ فَقَطْ، وَفِيهِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ أَيْضًا بِالتَّوَاطُؤِ وَالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَإِنَّهُ أَفْيَدُ، بِخِلَافِ مَعْنَى لَفْظِ اسْتِثْنَاءٍ فَإِنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ بَلْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَأُلْحِقَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالتَّعْلِيقِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكَلَامِ مِنْ إثْبَاتِ مُوجَبِهِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ الْكُلَّ وَالِاسْتِثْنَاءَ الْبَعْضَ، وَقَدَّمَ مَسْأَلَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ لِمُشَابَهَتِهَا الشَّرْطَ فِي مَنْعِ الْكُلِّ، وَذَكَرَ أَدَاةَ التَّعْلِيقِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَهْيَعَةٍ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لَا إلَى غَايَةٍ، وَالشَّرْطُ مَنْعٌ إلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهِ كَمَا يُفِيدُهُ: أُكْرِمُ بَنِي تَمِيمٍ إنْ دَخَلُوا، وَلِذَا لَمْ يُورِدْهُ فِي بَحْثِ التَّعْلِيقَاتِ، وَلَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ اسْمٌ تَوْقِيفِيٌّ، قَالَ تَعَالَى {وَلا يَسْتَثْنُونَ}
(وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ)
أَيْ لَمْ يَقُولُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلِلْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْمِ أَيْضًا اُتُّجِهَ ذِكْرُهُ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي صِيَغِ الْإِخْبَارِ وَإِنْ كَانَ إنْشَاءَ إيجَابٍ لَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
لَوْ قَالَ: أَعْتِقُوا عَبْدِي بَعْدَ مَوْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَعْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ فَلَهُمْ عِتْقُهُ. وَلَوْ قَالَ: بِعْ عَبْدِي هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ لِلْمَأْمُورِ بَيْعُهُ. قِيلَ لِأَنَّ الْإِيجَابَ يَقَعُ مُلْزِمًا فَيَحْتَاجُ إلَى إبْطَالِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَذَكَرَهُ لَيْسَ إلَّا ذَلِكَ، وَالْأَمْرُ لَا يَقَعُ مُلْزِمًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى عَزْلِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِيَجِبَ اعْتِبَارُ صِحَّتِهِ.
وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ: كُلُّ مَا يَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ يُبْطِلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ كَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ كَالصَّوْمِ لَا يَرْفَعُهُ لَوْ قَالَ: نَوَيْت صَوْمَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَدَاؤُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَهَلْ الشَّرْطُ فِي صِحَّتِهِ تَصْحِيحُ حُرُوفِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ أَوْ أَنْ يَسْمَعَهُ؟ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ إلَخْ) وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ إنْ شَاءَ الْجِنُّ أَوْ الْحَائِطُ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى مَشِيئَةٍ لَمْ يَقَعْ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، حَتَّى لَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا يَقَعُ. وَحُكِيَ عِنْدَنَا فِيهِ خِلَافٌ قَالَ خَلْفٌ: يَقَعُ، وَقَالَ أَسَدٌ لَا يَقَعُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ طَلَاقًا، وَقَالَ: رَأَيْت أَبَا يُوسُفَ فِي النَّوْمِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لَا يَقَعُ، فَقُلْت لِمَ؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَوْ غَيْرُ طَالِقٍ أَكَانَ يَقَعُ؟ قُلْت: لَا، قَالَ كَذَا هَذَا، وَكَذَا إذَا لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَصَارَ كَسُكُوتِ الْبِكْرِ إذَا زَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ وَلَا تَدْرِي أَنَّ السُّكُوتَ رِضًا يَمْضِي بِهِ الْعَقْدُ عَلَيْهَا.
وَفِي خَارِجِ الْمَذْهَبِ خِلَافٌ فِي النِّيَّةِ. قِيلَ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ قَبْلَ فَرَاغِهِ، وَقِيلَ: وَلَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ، وَقِيلَ: وَلَوْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهَا بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ مَا فِيهِ مَوْصُولًا اسْمِيًّا فَمُقْتَضَاهُ أَنْ تَطْلُقَ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً لِأَنَّ الْغَيْبَ هُوَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْوَاقِعِ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَلَا شَكَّ فِي أَنْتِ طَالِقٌ الْمَذْكُورُ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ، وَيَحْتَمِلُ كَوْنَهَا حَرْفِيًّا: أَيْ مُدَّةَ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَلَا تَطْلُقُ، فَالْحُكْمُ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِالْمُنَجَّزِ لَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْوُقُوعِ مَعَ الْمَشِيئَةِ إذَا كَانَ الْأَظْهَرُ كَوْنُهَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ لِيَتَرَجَّحَ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ، لَكِنْ الثَّابِتَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا مَوْصُولًا اسْمِيًّا، ثُمَّ لَا يَقَعُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً إذَا قُلْنَا بِتَسَاوِي اسْتِعْمَالَيْهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرَادَ الظَّرْفَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نِيَّةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ وَعَلِمْت أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ زَيْدٌ فَهُوَ تَمْلِيكٌ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ فِيهِ مَجْلِسُ عِلْمِهِ، فَإِنْ شَاءَ فِيهِ طَلُقَتْ وَإِلَّا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهِ، وَكَذَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ أَوْ يُرِيدُ أَوْ يَجِبُ أَوْ يَرْضَى أَوْ يَهْوَى أَوْ يَرَى أَوْ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ تَقَيَّدَ بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إخْبَارُ فُلَانٍ بِلِسَانِهِ لَا مَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ بِقَلْبِهِ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَأَخَوَاتِهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَلَهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْعِبَارَةُ فَيُقَامُ مَقَامَهُ، كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ، وَكَذَا إذَا أَضَافَ الْمَشِيئَةَ وَالثَّلَاثَةَ بَعْدَهَا إلَيْهِ تَعَالَى بِالْبَاءِ فَقَالَ: طَالِقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ، إذْ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَالْكَائِنُ فِي التَّعْلِيقِ إلْصَاقُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وَإِنْ أَضَافَ الْأَرْبَعَةَ وَمَا بَعْدَهَا بِالْبَاءِ إلَى الْعَبْدِ كَانَ تَمْلِيكًا، وَإِنْ قَالَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِحُكْمِهِ أَوْ بِقَضَائِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ أَوْ بِقُدْرَتِهِ وَقَعَ فِي الْحَالِ سَوَاءٌ أَضَافَهُ إلَيْهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ فِي مِثْلِهِ التَّنْجِيزُ عُرْفًا، وَإِنْ قَالَ بِحَرْفِ اللَّامِ يَقَعُ فِي الْوُجُوهِ
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»
كُلِّهَا، سَوَاءٌ أَضَافَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْإِيقَاعِ كَقَوْلِهِ طَالِقٌ لِدُخُولِك الدَّارَ.
وَإِنْ قَالَ بِحَرْفِ " فِي " إنْ أَضَافَهُ إلَيْهِ تَعَالَى لَا يَقَعُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا إلَّا فِي قَوْلِهِ طَالِقٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ فِي بِمَعْنَى الشَّرْطِ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا بِمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يَقَعُ إلَّا فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ لِلْمَعْلُومِ وَهُوَ وَاقِعٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ عَنْهُ تَعَالَى بِحَالٍ فَكَانَ تَعْلِيقًا بِأَمْرٍ مَوْجُودٍ فَيَكُونُ تَنْجِيزًا، وَلَا يَلْزَمُ الْقُدْرَةُ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُنَا التَّقْدِيرُ، وَقَدْ يُقَدِّرُ شَيْئًا وَقَدْ لَا يُقَدِّرُهُ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ حَقِيقَةَ قُدْرَتِهِ تَعَالَى يَقَعُ فِي الْحَالِ كَذَا فِي الْكَافِي.
وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُرَادَ الْعِلْمُ عَلَى مَفْهُومِهِ، وَإِذَا كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهَا طَالِقٌ فَهُوَ فَرْعٌ تَحَقَّقَ طَلَاقًا، وَكَذَا نَقُولُ الْقُدْرَةُ عَلَى مَفْهُومِهَا وَلَا يَقَعُ، لِأَنَّ مَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى: أَيْ فِي قُدْرَتِهِ تَعَالَى وُقُوعُهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ سَبْقَ تَحَقُّقِهِ. يُقَالُ لِلْفَاسِدِ الْحَالِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ صَلَاحُهُ مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقُهُ فِي الْحَالِ. وَفِيهِ أَيْضًا: وَإِنْ أَضَافَ إلَى الْعَبْدِ بِفِي كَانَ تَمْلِيكًا فِي الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ وَمَا بِمَعْنَاهَا مِنْ الْهَوَى وَالرُّؤْيَةِ تَعْلِيقًا فِي السِّتَّةِ الْأَوَاخِرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّنْجِيزِ بِقَوْلِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ فِي إرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ فَيَلْزَمُ الْوُقُوعُ، بِخِلَافِ تَوْجِيهِنَا.
وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ وَثِنْتَيْنِ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَحِقَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فَبَطَلَ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَشَاءَ اللَّهُ فَيُعْدَمُ الشَّرْطُ فَلَمْ يَقَعْ فَكَانَ فِي تَصْحِيحِهِ إبْطَالُهُ؛ وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَاحِدَةً الْيَوْمَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فَثِنْتَيْنِ فَمَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا وَقَعَ ثِنْتَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَاحِدَةَ فِي الْيَوْمِ لَطَلَّقَهَا فِيهِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ الْوَاحِدَةَ فَتَحَقَّقَ شَرْطُ وُقُوعِ الثِّنْتَيْنِ وَهُوَ عَدَمُ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى الْوَاحِدَةَ بِخِلَافِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الثِّنْتَيْنِ فِيهَا عَدَمُ مَشِيئَتِهَا فَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهَا مَعَ عَدَمِ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى عز وجل، وَالْمَسْأَلَتَانِ مَذْكُورَتَانِ فِي النَّوَازِلِ وَقَالَ فِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ: طَالِقٌ الْيَوْمَ ثِنْتَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فِي الْيَوْمِ فَطَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّاهُ.
وَقَالَ: لَوْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالْيَوْمِ فِي الْيَمِينَيْنِ فَهُوَ إلَى الْمَوْتِ، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ ثَلَاثًا بِلَا فَصْلٍ، وَقَدْ ظَنَّ أَنَّهُ مُخَالِفُ مَسْأَلَةِ النَّوَازِلِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمُنْتَقَى تَعْلِيقُ الثَّلَاثِ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى التَّطْلِيقَتَيْنِ وَقَدْ وُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، إذْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى التَّطْلِيقَتَيْنِ لِأَوْقَعَهُمَا الزَّوْجُ.
وَفِي مَسْأَلَةِ النَّوَازِلِ تَعْلِيقُ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ إيَّاهُمَا فَلَا يَقَعَانِ أَبَدًا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ» إلَخْ) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ مَرْوِيٌّ. أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى» لَفْظُ النَّسَائِيّ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ «فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنَ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ غَيْرَ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: كَانَ أَيُّوبُ أَحْيَانًا يَرْفَعُهُ وَأَحْيَانًا لَا يَرْفَعُهُ اهـ. وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الرَّفْعِ لِمَا قَدَّمْنَا فِي نَظَائِرِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكًا رحمه الله يَقُولُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ لَفْظِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ الْمُورَدِ فِي الْيَمِينِ لَا يَتِمُّ فِي مُجَرَّدِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْكَعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ لِغُلَامِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ عَلَى الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ»
وَلِأَنَّهُ أَتَى بِصُورَةٍ الشَّرْطِ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنَّهُ إعْدَامٌ قَبْلَ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ لَا يُعْلَمُ هَاهُنَا فَيَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الشُّرُوطِ (وَلَوْ سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ)
وَهُوَ مَعْلُولٌ بِإِسْحَاقَ، هَذَا نُقِلَ تَضْعِيفُهُ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَلَمْ يُعْلَمْ تَوْثِيقُهُ عَنْ غَيْرِهِمَا. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ طَلَّقَ وَاسْتَثْنَى فَلَهُ ثُنْيَاهُ» ضَعَّفَهُ عَبْدُ الْحَقِّ بِحُمَيْدٍ، وَتَعَدُّدُ طُرُقِ الضَّعِيفِ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُهُ إلَى الْحَسَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ ضَعْفُهُ بِالْوَضْعِ، لَكِنْ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّعَدُّدِ لَا يَكْفِي (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِصُورَةِ الشَّرْطِ) أَيْ بِحَرْفِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا ثَابِتَةٌ قَطْعًا أَوْ مُنْتَفِيَةٌ قَطْعًا فَلَا تَرَدُّدَ فِي حُكْمِهَا، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ تَعْلِيقٌ (فَيَكُونُ تَعْلِيقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ.
(وَأَنَّهُ إعْدَامٌ) أَيْ التَّعْلِيقُ إعْدَامُ الْعَلِيَّةِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ (قَوْلُهُ وَالشَّرْطُ لَا يُعْلَمُ هُنَا فَيَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ إبْطَالٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وَقَالَ:
إذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْت أَهْلِي
…
وَعَادَ الْقَارُ كَاللَّبَنِ الْحَلِيبِ
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَعْلِيقٌ مُلَاحَظَةً لِلصِّيغَةِ وَهُمَا لَاحَظَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَوْلَى، وَقَدْ نُقِلَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِهِ.
وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلُقُ عَلَى التَّعْلِيقِ لِعَدَمِ الْفَاءِ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ وَلَا تَطْلُقُ عَلَى الْإِبْطَالِ. وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ لِلْمُصَنَّفِ عَكْسُ هَذَا، وَهُوَ غَلَطٌ فَاجْتَنِبْهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ يَمِينَيْنِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَعَبْدِي حُرٌّ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَعَلَى التَّعْلِيقِ يَعُودُ إلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَوْ كَلَّمَتْ زَيْدًا لَا يَقَعُ، وَلَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ يَقَعُ، وَعَلَى الْإِبْطَالِ إلَى الْكُلِّ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِالْإِبْطَالِ، فَلَوْ كَلَّمَتْ زَيْدًا أَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ، وَلَوْ أَدْخَلَهُ فِي الْإِيقَاعَيْنِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ فَلَا تَطْلُقُ وَلَا يُعْتَقُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِمَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِالْإِبْطَالِ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ كَالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ إذَا دَخَلَ عَلَى إيقَاعَيْنِ يَتَعَلَّقَانِ بِهِ، وَفِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَقَالَهُ حَنِثَ عَلَى التَّعْلِيقِ لَا الْإِبْطَالِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنَّهُ عَزَى إلَيْهِ الْإِبْطَالَ فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ إبْطَالٌ (قَوْلُهُ وَلَوْ سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ) أَيْ إذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سَكَتَ كَثِيرًا بِلَا ضَرُورَةٍ بِخِلَافِهِ بِجُشَاءٍ أَوْ تَنَفُّسٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَكَتَ قَدْرَ التَّنَفُّسِ ثُمَّ اسْتَثْنَى لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِلْفَصْلِ وَلِلْفَصْلِ اللَّغْوِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، لِأَنَّ التَّكْرَارَ لِلتَّأْكِيدِ شَائِعٌ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ يَقُولُ قَوْلُهُ وَثَلَاثًا لَغْوٌ فَيَقَعُ فَاصِلًا فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَلَوْ قَالَ: حُرٌّ حُرٌّ بِلَا وَاوٍ وَاسْتَثْنَى لَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا بِلَا خِلَافٍ لِظُهُورِ التَّأْكِيدِ. وَقِيَاسُهُ إذَا كَرَّرَ ثَلَاثًا بِلَا وَاوٍ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ. وَلَوْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ وَعَتِيقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ فَلَا يُعْتَقُ، بِخِلَافِ حُرٌّ وَحُرٌّ لِأَنَّ الْعَطْفَ التَّفْسِيرِيَّ إنَّمَا يَكُونُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ، وَحُرٌّ لِقَوْلِهِ حُرٌّ تَفْسِيرًا فَكَانَ فَاصِلًا بِخِلَافِ حُرٌّ وَعَتِيقٌ، وَمِثْلُ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ كَقَوْلِهِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَغْوًا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ تَكْمِيلُ الْأَوَّلِ. وَلَوْ قَالَ: ثَلَاثًا بَوَائِنَ أَوْ أَلْبَتَّةَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ مَعَ الثَّلَاثِ لَغْوٌ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ هَذَا وَيَتَرَاءَى خِلَافٌ فِي الْفَصْلِ بِالذِّكْرِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي النَّوَازِلِ: لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مُسْتَثْنٍ دِيَانَةً لَا قَضَاءً. وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ أَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَ رَجُلًا وَيَخَافَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي السِّرِّ يُحَلِّفُهُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ الْيَمِينِ مَوْصُولًا سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ.
وَالْأَوْجَهُ أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْفَصْلِ بِالذِّكْرِ، وَلَوْ كَانَ بِلِسَانِهِ ثِقَلٌ وَطَالَ تَرَدُّدُهُ ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ فَسَدَ إنْسَانٌ فَاهُ سَاعَةً ثُمَّ أَطْلَقَهُ فَاسْتَثْنَى مُتَّصِلًا بِرَفْعِهِ صَحَّ. وَعَنْ هِشَامٍ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَمَّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فَأَمْسَكَتْ فَاهُ قَالَ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ قَضَاءً وَدِيَانَةً: يَعْنِي إذَا لَمْ يَسْتَثْنِ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ، وَلَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ الْفَصْلِ، وَاشْتِرَاطُ الِاتِّصَالِ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْأَرْبَعَةُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُهُ إلَى سَنَةٍ. وَعَنْهُ أَبَدًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ تَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ «سُلَيْمَانَ عليه السلام لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلٌّ تَلِدُ غُلَامًا فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: يَعْنِي الْمَلَكَ، قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَسِيَ إلَى آخِرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قَالَهَا لَقَاتَلُوا جَمِيعًا» قُلْنَا: يَحْتَمِلُ قَوْلَ الْمَلَكِ لَهُ قَبْلَ فَرَاغِهِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَوْ قَالَهَا»: يَعْنِي مُتَّصِلًا.
وَاسْتَدَلَّ الْمُطْلِقُونَ بِظَوَاهِرَ مِنْهَا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَكَّةَ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا الْحَدِيثُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه: إلَّا الْإِذْخِرَ، فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ» وَمِنْهَا أَنَّهُ «قَالَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ: لَا يَفْلِتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إلَّا سُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءَ، فَقَالَ: إلَّا سُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءِ» وَمَا أُجِيبَ بِهِ عَنْ هَذَيْنِ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَى جِهَةِ النَّسْخِ دُفِعَ بِأَنَّهُ بِإِلَّا وَهِيَ تُؤْذِنُ بِاتِّصَالِ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّفْعُ بِنَفْسِ لَفْظِ الْقَائِلِ إيذَانًا بِأَنَّهُ وَافَقَ الشَّرْعَ الْمُتَجَدِّدَ، وَفِي الْعُرْفِيَّاتِ مِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فَيُقَدَّرُ لَهُ جُمْلَةٌ تُشَاكِلُ الْأُولَى مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِهَا كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا إلَّا الْإِذْخِرَ.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ لَمْ يَغْزُهُمْ» وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَهُ لَمْ يَغْزُهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ وَلَمْ يَحْنَثْ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَيَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَى الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَكَفَّرَ عَنْهَا. فَحِينَ رَأَى أَنَّ عَدَمَ غَزْوِهِمْ خَيْرٌ لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.
فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ ذِكْرُ الشَّرْطِ بَعْدَهُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ. قَالَ رضي الله عنه:
وَلَوْ طَلَّقَ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّك قَدْ اسْتَثْنَيْت وَهُوَ غَيْرُ ذَاكِرٍ إنْ كَانَ بِحَيْثُ إذَا غُصِبَ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ وَسِعَهُ الْأَخْذُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِلَّا لَا يَأْخُذُ بِهَا.
وَمِنْهَا إطْلَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ «فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاتِّصَالِ بِالْعُرْفِ الْعَمَلِيِّ، لِأَنَّ عُرْفَ جَمِيعِ النَّاسِ وَصْلُ الِاسْتِثْنَاءِ لَا فَصْلُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ وَلَفْظُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ بِلَا مُهْلَةٍ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» ثُمَّ يُوجِبُهُ أَيْضًا اللَّوَازِمُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِوُقُوعِ طَلَاقٍ وَلَا عَتَاقٍ وَلَا إقْرَارٍ بِمَالٍ وَلَا مَا لَا يُحْصَى مِنْ اللَّوَازِمِ الْبَاطِلَةِ، وَبِذَلِكَ أَخَافَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمَنْصُورَ حِينَ وَشَى بِهِ أَعْدَاؤُهُ إلَيْهِ بِأَنَّهُ يَرُدُّ رَأْيَ جَدِّك ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ، فَقَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: إنَّ مُخَالِفَتَهُ فِيهَا تَحْصِينُ الْخِلَافَةِ عَلَيْك وَمَنْعُ خُرُوجِ الْمُحَالِفِينَ لَك مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْك، وَإِلَّا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَثْنُوا إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِك.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِنَا فِي أَنَّهُ إذَا قَالَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ طَالِقٌ أَوْ حُرَّةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: يَتَنَجَّزَانِ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُمَا بِشَرْطٍ مُحَقَّقٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ كُلًّا مِنْ طَلَاقِهَا وَعَتَاقَهَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّلَفُّظُ بِهِ، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ صُدُورَ اللَّفْظِ مِنْهُ فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ صُدُورَهُ، وَإِنْ أَرَادَ وُجُودَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَقَدْ حَكَمَتْ الشَّرِيعَةُ أَنَّهُ إذَا صَدَرَ اللَّفْظُ وَجَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَشِيئَةِ فِيمَا بَعْدُ فَمَشِيئَتُهُ قَدِيمَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَظَنُّهُ أَنَّهَا تَتَجَدَّدُ مُحَالٌ.
وَالْحُجَّةُ لَنَا مَا رَوَيْنَا وَبَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى. وَالْجَوَابُ عَنْ مُتَمَسَّكِهِ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِمُحَقَّقٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَخْتَارُ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيقَ وُجُودِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فَقَدْ حَكَمَتْ الشَّرِيعَةُ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، إذْ التَّعْلِيقَاتُ مِنْ نَحْوِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ أَوْ دَخَلْت الدَّارَ وُجِدَ فِيهِ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَلَمْ تَحْكُمْ الشَّرِيعَةُ بِوُقُوعِهِ فِي الْحَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
(قَوْلُهُ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ ذِكْرُ الشَّرْطِ إلَخْ) إنَّمَا نَوْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ اسْتِثْنَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَعْلِيقٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ النَّقْلِ عَنْهُمَا، وَقَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ مَثَلًا، قَالَ فِي النَّوَازِلِ: هَذَا قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ مِنْ الْأَمْثَالِ مَا لَيْسَ بِهِ حَقِيقَةٌ، وَلِأَنَّ الْمِثْلَ تَشْبِيهٌ وَلَا يَكُونُ فِي التَّشْبِيهِ إيجَابُ الْمَالِ، قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِيجَابَ عَلَى نَفْسِهِ.
[فُرُوعٌ]
طَلَّقَ أَوْ خَلَعَ ثُمَّ ادَّعَى الِاسْتِثْنَاءَ أَوْ الشَّرْطَ وَلَا مُنَازِعَ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَكَذَا إذَا كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فِيهِ ذَكَرَهُ فِي الْحَاوِي لِلْإِمَامِ مَحْمُودٍ الْبُخَارِيِّ وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَلَّقَ أَوْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ قَالَا: لَمْ يَسْتَثْنِ قُبِلَتْ، وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى النَّفْيِ بَلْ قَالَا: لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ لَفْظَةِ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي الِاسْتِثْنَاءَ. فَفِي الْمُحِيطِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَفِي فَوَائِدِ شَمْسِ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيِّ: لَا يَسْمَعُ دَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ إذَا عَرَفَ الطَّلَاقَ بِالْبَيِّنَةِ بَلْ إذَا عَرَفَ بِإِقْرَارِهِ، وَمِثْلُهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُك أَمْسِ وَقُلْت: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَعْتِقُ.
وَفِي الْفَتَاوَى لِلنَّسَفِيِّ: لَوْ ادَّعَى الِاسْتِثْنَاءَ وَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقَنِي فَالْقَوْلُ لَهَا وَلَا يُصَدَّقُ الزَّوْجُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ
(وَكَذَا إذَا)(مَاتَتْ قَبْلَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) لِأَنَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ خَرَجَ الْكَلَامُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا وَالْمَوْتُ يُنَافِي الْمُوجِبَ دُونَ الْمُبْطِلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ
(وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثِنْتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً)
مَا لَوْ قَالَ لَهَا: قُلْت لَك: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت فَقَالَتْ: طَلَّقَنِي مُنَجَّزًا الْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: إذَا ذُكِرَ الْجُعْلُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ كَالْخَلْعِ.
وَنَقَلَ نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ مَشَايِخَنَا أَجَابُوا فِي دَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ أَنْ لَا يُصَدَّقَ الزَّوْجُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَقَدْ فَسَدَ حَالُ النَّاسِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنْ يَنْظُرَ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ وَالشُّهُودُ لَا يَشْهَدُونَ عَلَى النَّفْيِ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِمَا فِي الْمُحِيطِ مِنْ عَدَمِ الْوُقُوعِ تَصْدِيقًا لَهُ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ أَوْ جُهِلَ حَالُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِقَوْلِ الْمَانِعِ لِغَلَبَةِ الْفُسَّاقِ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا مَاتَتْ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ. وَقَوْلُهُ وَالْمَوْتُ يُنَافِي إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّ الْمَوْتَ يُنَافِي الْوَاقِعَ مِنْ الطَّلَاقِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَاتَتْ قَبْلَ الْوَصْفِ أَوْ الْعَدَدِ لَا يَقَعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَافِيَ الِاسْتِثْنَاءَ وَهُوَ الْمُبْطِلُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ. أَجَابَ بِأَنَّ الْمَوْتَ يُنَافِي الْمُوجِبَ فَيَبْطُلُ بِهِ وَيُنَاسِبُ الِاسْتِثْنَاءَ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ) قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَعْلَمُ إرَادَتَهُ بِأَنْ ذَكَرَ لِآخِرِ قَصْدِهِ قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِالطَّلَاقِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: يَحْتَمِلُ كَذِبَهُ عَلَى الرَّجُلِ فِي ذَلِكَ أَوْ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فَيَتْرُكَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيهِ، ثُمَّ الْوَاقِعُ الْوُقُوعُ فَبَحْثُهُ هَذَا إذَا كَانَ لِإِثْبَاتِ عَدَمِ الْوُقُوعِ فَقَدْ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ إذَا اكْتَفَى فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ بِنِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُ غَيْرُ اللَّجَاجِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: إلَّا ثِنْتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْأَكْثَرَ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. قَالُوا: لَمْ تَتَكَلَّمْ الْعَرَبُ بِهِ وقَوْله تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَالْغَاوُونَ الْأَكْثَرُونَ. قَالَ: تَعَالَى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، إذْ الْمُرَادُ بِعِبَادِي الْخُلَّصُ هَكَذَا اسْتَقَرَّ الِاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِيُّ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ لِلتَّشْرِيفِ فَلَمْ يَدْخُلْ الْغَاوُونَ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ ثُبُوتِهِ لُغَةً وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ التَّأْوِيلِ فِي الْآيَةِ مَمْنُوعٌ وَلَوْ سُلِّمَ مَعَ مَا فِيهِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل:«يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ» . وَلَوْ سُلِّمَ فَعَدَمُ السَّمَاعِ فِي تَرْكِيبٍ مُعَيَّنٍ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِفُلَانِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ يَبْقَى التَّكَلُّمُ بِالْبَعْضِ بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ لِيَصِيرَ مُتَكَلَّمًا بِهِ وَصَارِفًا لِلَّفْظِ إلَيْهِ،
لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ مِائَةٌ إلَّا ثُمُنًا وَسُدُسَ ثُمُنٍ وَسَائِرَ الْكُسُورِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَرِدْ بِالصَّدْرِ.
فَحَاصِلُ التَّرْكِيبِ مِنْ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَوْلُهُمْ إخْرَاجٌ عَنْ الصَّدْرِ إلَى آخِرِهِ تَجَوُّزٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِخْرَاجِ مُتَعَذِّرَةٌ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي سَبْقَ الدُّخُولِ، فَإِنْ اُعْتُبِرَ الدُّخُولُ فِي التَّنَاوُلِ فَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يُفِيدُ الْإِخْرَاجَ مِنْهُ لِأَنَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ بَعْلَةِ وَضْعِهِ لِتَمَامِ الْمَعْنَى وَهِيَ قَائِمَةٌ مُطْلَقًا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ الدُّخُولُ فِي الْإِرَادَةِ بِالْحُكْمِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ نَسْخًا، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} مِنْ الْإِخْبَارَاتِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إرَادَةِ عُمُومِ الصَّدْرِ بِالْحُكْمِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعِ، أَوْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُنْتَفِيَ، أَوْ غَالِطًا فِي أَحَدِهِمَا وَيَسْتَحِيلَانِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ بَيَانُ أَنَّ مَا بَعْدَ إلَّا لَمْ يَرِدْ بِالْحُكْمِ، ثُمَّ هَلْ يَكُونُ مُرَادًا بِالصَّدْرِ: أَعْنِي الْعَامَّ أَوْ الْكُلَّ، ثُمَّ أَخْرَجَ ثُمَّ حَكَمَ عَلَى الْبَاقِي، أَوْ أُرِيدَ ابْتِدَاءً بِالصَّدْرِ مَا سِوَى مَا بَعْدَ إلَّا وَإِلَّا قَرِينَتُهُ خِلَافٌ لَا يُوجِبُ خِلَافًا فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَاصِلَ تَرْكِيبِ الِاسْتِثْنَاءِ تَكَلُّمُهُ بِالْبَاقِي: أَيْ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، وَحَقَّقْنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أُرِيدَ عَشَرَةٌ وَحُكِمَ عَلَى سَبْعَةٍ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً، فَإِرَادَةُ الْعَشَرَةِ بِعَشَرَةٍ بَاقٍ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَذْهَبُ الْآخَرُ بِزِيَادَةِ تَكَلُّفٍ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْقِيقِ دَلَالَتِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً اسْمًا مُرَكَّبًا لِمَعْنَى سَبْعَةٍ كَمَا نُسِبَ إلَى الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ، عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ، بَلْ مُرَادُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَعَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً.
وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إخْرَاجٌ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ لِاسْتِلْزَامِهِ فِي الْإِخْبَارِ مَا ذَكَرْنَا، وَنُسِبَ إلَى الشَّافِعِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ، وَالتَّخْصِيصُ بَيَانُ أَنَّ الْمُخَصَّصَ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا، أَوْ قَالُوهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حُكْمَيْنِ عَلَى الثَّلَاثَةِ مَثَلًا فِي ضِمْنِ الْعَشَرَةِ بِالْإِثْبَاتِ وَبَعْدَ إلَّا بِالنَّفْيِ، لَكِنْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَا حَقِيقَةَ لِلْإِسْنَادَيْنِ فِيهَا وَإِلَّا كَانَ تَنَاقُضًا، وَحِينَئِذٍ فَالثَّابِتُ صُورَةُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حُكْمِ الصَّدْرِ وَمَا بَعْدَ إلَّا، وَتَرَجَّحَ الثَّانِي فَيَجِبُ حَمْلُ الْمَرْجُوحِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ لِكُلِّ مُعَارَضَةٍ تَرَجَّحَ فِيهَا أَحَدُ الْمُتَعَارِضَيْنِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ فِي الصَّدْرِ إلَّا عَلَى سَبْعَةٍ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ) قِيلَ: لِأَنَّهُ رُجُوعٌ بَعْدَ التَّقَرُّرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَحَّ فِيمَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، لَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَيْضًا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ يَصِيرُ مُتَكَلِّمًا بِهِ، وَتَرْكِيبُ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يُوضَعْ إلَّا لِلتَّكَلُّمِ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا لَا لِنَفْيِ الْكُلِّ كَمَا يُفِيدُهُ التَّبَادُرُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْيِ أَنَّهُ لِنَفْيِ الْكُلِّ، بَلْ يُفِيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعَشَرَةِ وَنَحْوُهُ وَاسْتِقْرَاءُ اسْتِعْمَالَاتِ الْعَرَبِ تُفِيدُهُ وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَجْوِيزِهِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كَوْنِ الْكُلِّ مُخْرَجًا بِغَيْرِ لَفْظِ الصَّدْرِ أَوْ مُسَاوِيهِ كَعَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا مَمَالِيكِي فَيَعْتِقُونَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَقَاضِي خَانْ وَزِيَادَاتِ الْمُصَنِّفِ فَلَوْ قَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبَ وَعَمْرَةَ وَفَاطِمَةَ وَحَفْصَةَ لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ.
وَفِي الْبَقَّالِيِّ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ إلَّا هَذِهِ وَلَيْسَ لَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا لَا تَطْلُقُ. وَفِي الذَّخِيرَةِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ ثِنْتَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَاحِدَةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، فَكَانَ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى تَوَقُّفَ صِحَّةِ الْأُولَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ أَوَّلًا، وَهُمَا يَرَيَانِ اقْتِصَارَ صِحَّتِهِ عَلَى الْأُولَى، وَزُفَرُ يَرَى اقْتِصَارَهُ عَلَى الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْجَهُ لِأَنَّ الصَّدْرَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِخْرَاجِ. وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا ثَلَاثًا بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ تَعَدُّدٍ يَصِحُّ مَعَهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ.
وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ إلَّا ثِنْتَيْنِ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَوَاحِدَةً إلَّا اثْنَتَيْنِ يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَكَذَا ثِنْتَيْنِ وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلَيْنِ إخْرَاجُ الثِّنْتَيْنِ مِنْ الثِّنْتَيْنِ أَوْ الْوَاحِدَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ وَاحِدَةً مِنْ وَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً حَيْثُ تَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ لِصِحَّةِ إخْرَاجِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الثِّنْتَيْنِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ، وَإِذَا تَعَقَّبَ جَمَلًا قَيَّدَ الْأَخِيرَةَ مِنْهَا، وَكَمَا قَيَّدْنَا بُطْلَانَ الْمُسْتَغْرَقِ بِمَا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الصَّدْرِ أَوْ مُسَاوِيهِ كَذَلِكَ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْمُسْتَغْرِقَ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ يَكُونُ جَبْرًا لِلصَّدْرِ، فَإِنْ كَانَ صَحَّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّدَ الِاسْتِثْنَاءُ بِلَا وَاوٍ كَانَ الْكُلُّ إسْقَاطًا مِمَّا يَلِيهِ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ إسْقَاطٌ مِنْ الصَّدْرِ وَكُلَّ شَفْعٍ جَبْرٌ لَهُ، فَإِذَا قَالَ: طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً كَانَ الْوَاقِعُ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّك أَسْقَطْت مِنْ الثَّلَاثِ ثِنْتَيْنِ أَوَّلًا فَصَارَ الْحَاصِلُ وَاحِدَةً، ثُمَّ أَسْقَطْت مِنْ السَّاقِطِ مِنْ الصَّدْرِ وَاحِدَةً فَجُبِرَ بِهَا الصَّدْرُ فَصَارَ الْبَاقِي ثِنْتَيْنِ، فَقَدْ أَخْرَجَ مِنْ الثَّلَاثِ الْمُسْتَثْنَاةِ وَاحِدَةً فَصَارَتْ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا مِنْ الثَّلَاثِ الصَّدْرِ فَصَارَ الْبَاقِي وَاحِدَةً، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ الْمُسْتَثْنَاةَ مِنْ الثَّلَاثِ لَمْ تَبْطُلْ بَلْ تَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْهَا فَيَصِحُّ أَوَّلًا فَيَبْطُلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَصْلُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ قَوْله تَعَالَى {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِلا امْرَأَتَهُ} وَمِنْ فُرُوعِهَا الْمَعْرُوفَةِ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً إلَّا ثَمَانِيَةً إلَّا سَبْعَةً إلَّا سِتَّةً إلَّا خَمْسَةً إلَّا أَرْبَعَةً إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا ثِنْتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً تَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ. وَلَوْ قَالَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعًا إلَّا ثَلَاثًا يَقَعُ
وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ثِنْتَانِ فَيَقَعَانِ وَفِي الثَّانِي وَاحِدَةٌ، فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ: إلَّا ثَلَاثًا يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بَابُ طَلَاقِ الْمَرِيضِ
الثَّلَاثُ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ أَوَّلًا، وَيُسْتَتْبَعُ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا فِي الْحُكْمِ ابْتِدَاءً، فَلَوْ أَوْقَعَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ ثُمَّ اسْتَثْنَى كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْكُلِّ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إلَّا ثَلَاثًا تَقَعُ وَاحِدَةً، أَوْ عَشَرَةً إلَّا تِسْعَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً، أَوْ خَمْسًا إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ الثَّلَاثُ.
وَفِي الْمُنْتَقَى: طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إلَّا أَرْبَعًا فَهِيَ ثَلَاثٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَوْلُهُ وَثَلَاثًا فَاصِلًا لَغْوًا فَاسْتَثْنَى الْأَكْثَرَ فَيَقَعُ الْكُلُّ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقَعُ ثِنْتَانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: سِتًّا إلَّا أَرْبَعًا. وَمَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَنْوِي، فَإِنْ قَالَ عَنِيت ثِنْتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَثِنْتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِلَّا فَلَا خَارِجَ عَنْ قَانُونِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ، كَذَلِكَ الْحَلْوَانِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا فِي الْمُنْتَقَى.
وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ طُولِبَ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ طَلُقَتْ وَاحِدَةً فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ثِنْتَانِ، وَمَا قِيلَ إنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تُنَاسِبُ أَصْلَ أَبِي يُوسُفَ، يَعْنِي فِي مَنْعِ إخْرَاجِ الْأَكْثَرِ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي لِأَنَّ تِلْكَ رِوَايَةٌ عَنْهُ لَا ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ. نَعَمْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُنَاسِبُ تِلْكَ الرِّوَايَةَ. وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الثَّانِيَةِ فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ فَتَقَعُ وَاحِدَةً. .
[فَرْعٌ]
إخْرَاجُ بَعْضِ التَّطْلِيقَةِ لَغْوٌ بِخِلَافِ إيقَاعِهِ. فَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَ الثَّلَاثُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: ثِنْتَانِ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فِي الْإِيقَاعِ فَكَذَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إلَّا وَاحِدَةً. وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي الْإِيقَاعِ إنَّمَا لَا يَتَجَزَّأُ لِمَعْنًى فِي الْمَوْقِعِ وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَيَتَجَزَّأُ فِيهِ فَصَارَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَنِصْفٍ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا
(بَابُ طَلَاقِ الْمَرِيضِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَلَاقِ الصَّحِيحِ بِأَقْسَامِهِ مِنْ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ وَالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَكُلًّا وَجُزْءًا شَرَعَ فِي بَيَانِ طَلَاقِ الْمَرِيضِ إذْ الْمَرَضُ مِنْ الْعَوَارِضِ، وَتَصَوُّرُ مَفْهُومِهِ ضَرُورِيٌّ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ فَهْمَ الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ الْمَرَضِ أَجْلَى مِنْ
(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ طَلَاقًا بَائِنًا فَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تَرِثُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِهَذَا الْعَارِضِ وَهِيَ السَّبَبُ
فَهْمِهِ مِنْ قَوْلنَا مَعْنًى يَزُولُ بِحُلُولِهِ فِي بَدَنِ الْحَيِّ اعْتِدَالُ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، بَلْ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى التَّعْرِيفِ بِالْأَخْفَى (قَوْلُهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ مَرَضِ الْمَوْتِ فَلَا تَرِثُهُ، وَقَيَّدَ بِالْبَائِنِ لِأَنَّ فِي الرَّجْعِيِّ يَرِثُهُ وَتَرِثُهُ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَ فِي الصِّحَّةِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ فِي طَلَاقٍ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَوَارَثَانِ فِي الْعِدَّةِ.
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الصِّحَّةِ فِي كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَا يَرِثُهُ الْآخَرُ، وَبِالْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَا تَرِثُهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي قَوْلِهِ تَرِثُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِعَشْرَةِ أَزْوَاجٍ.
وَلِابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي قَوْلِهِ تَرِثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَيُعْرَفُ مِنْ تَقْيِيدِ الْإِرْثِ بِالْعِدَّةِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي مَرَضٍ مَاتَ فِيهِ لَا تَرِثُ لِأَنَّهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ الطَّلَاقِ، وَقَيَّدَ بِغَيْرِ الرِّضَا، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بِرِضَاهَا لَا تَرِثُ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِ كَوْنِهِمَا مِمَّنْ يَتَوَارَثَانِ حَالَ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِمَالِهِ إذَا مَرِضَ هُوَ إذْ ذَاكَ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا وَقْتَ الطَّلَاقِ لَا تَرِثُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ عِتْقٍ لَا تَرِثُ.
أَمَّا لَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ إذَا أَسْلَمْت فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنًا تَرِثُهُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِزَمَانِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا دَامَ بِهِ الْمَرَضُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَرِثُ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَرِثُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُبَانَةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرِ مِنْ سَنَتَيْنِ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ عِنْدَهُ حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ حَادِثٌ فِي الْعِدَّةِ مِنْ زِنًا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَيَتَيَقَّنُ بِوَضْعِهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَرِثُ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْمَلُ عَلَى الزِّنَا وَإِنْ قَالَتْهُ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَا تَرِثُ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ (قَوْلُهُ وَهِيَ السَّبَبُ) أَيْ الزَّوْجِيَّةُ هِيَ السَّبَبُ فِي الْإِرْثِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ بِالْبَيْنُونَةِ، وَكَذَا لَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَاقْتَضَتْ التَّوَارُثَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ عُمَرُ وَابْنُهُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْمُغِيرَةُ، وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَائِشَةَ وَزَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَعُرْوَةَ
وَلِهَذَا لَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ. وَلَنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ سَبَبُ إرْثِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَالزَّوْجُ قَصَدَ إبْطَالَهُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ بِتَأْخِيرِ عَمَلِهِ إلَى زَمَانِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ يَبْقَى فِي حَقِّ بَعْضِ الْآثَارِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى
وَشُرَيْحٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَاوُسٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْحَرْثِ الْعُكْلِيِّ.
لَنَا الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ.
أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَرَّثَ تَمَاضُرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ بْنِ زِيَادٍ الْكَلْبِيَّةَ، وَقِيلَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ السُّلَمِيَّةُ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَمَّا بَتَّ طَلَاقَهَا فِي مَرَضِهِ وَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَقَالَ: مَا اتَّهَمْته وَلَكِنْ أَرَدْت السُّنَّةَ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَلْيَقُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَرَّثَهَا فَرَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَا فَرَرْت مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَقَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي خِلَافَتِهِ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُوَرِّثْهَا، أَرَادَ بِهِ لِعَدَمِ عِلْمِي إذْ ذَاكَ بِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي حَقِّهَا ذَلِكَ، وَهُوَ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ فَلَا يُقْدَحُ فِيهِ.
لَا يُقَالُ: بَلْ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ كَانَ سُكُوتِيًّا، وَحِينَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ سُكُوتَهُ لَمْ يَكُنْ وِفَاقًا.
لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ لَوْ كَانَ إذْ ذَاكَ فَقِيهًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ الْفُقَهَاءِ إذْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَتْوَى وَلَا شُهْرَةٌ بِفِقْهٍ، وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ يَتْبَعُ ظُهُورَ ذَلِكَ فَخِلَافُهُ كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ.
وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ: كَانَ قَضَاءُ عُثْمَانَ بَعْدَ الْعِدَّةِ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى مَا لَوْ وَهَبَ كُلَّ مَالِهِ أَوْ تَبَرَّعَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِجَامِعِ إبْطَالِ حَقٍّ بَعْدَ تَعَلُّقِهِ بِمَالِهِ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ بِالْمَرَضِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَلِذَا حُجِرَ عَنْ التَّبَرُّعَاتِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالزَّوْجَةُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَقَدْ تَمَّ الْقِيَاسُ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ظُهُورِ قَصْدِ الْإِبْطَالِ بَلْ هُوَ دَائِرٌ مَعَ ثُبُوتِ الْإِبْطَالِ سَوَاءً قَصَدَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَمْ يَخْطِرْ لَهُ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ فَهُوَ قِيَاسُهُ عَلَى قَاتِلِ الْمُوَرِّثِ.
وَصُورَتُهُ: هَكَذَا قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهَا بَعْدَ تَعَلُّقِهِ فَيَثْبُتُ نَقِيضُ مَقْصُودِهِ كَقَاتِلِ الْمُوَرِّثِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ فَعَلَهُ مُحَرَّمًا لِغَرَضٍ فَاسِدٍ فَالْحُكْمُ ثُبُوتُ نَقِيضِ مَقْصُودِهِ، وَلِذَا اخْتَلَفَ خُصُوصُ الثَّابِتِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَنْعُ الْمِيرَاثِ وَفِي الْفَرْعِ ثُبُوتُ الْمِيرَاثِ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ فِي طَرِيقِ الْآمِدِيِّ بِمُنَاسِبِ غَرِيبٌ إذْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلُ بِالِاعْتِبَارِ، بَلْ الثَّابِتُ مُجَرَّدُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَهُ فِي الْمَحِلِّ: أَعْنِي الْقَاتِلَ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَقَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِالْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ تَرِثَ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ تَزَوُّجِهَا كَقَوْلِ مَالِكٍ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا رَأَوْا أَنَّ اشْتِرَاطَ عَمَلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الْإِمْكَانُ وَهُوَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ بِالْمِيرَاثِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ وَالْعِتْقُ، فَحَيْثُ
فِي حَقِّ إرْثِهَا عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهُ لَا إمْكَانَ، وَالزَّوْجِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِإِرْثِهِ عَنْهَا فَتَبْطُلُ فِي حَقِّهِ خُصُوصًا إذَا رَضِيَ بِهِ.
(وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَمْرِهَا أَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ
اقْتَضَى الدَّلِيلُ تَوْرِيثَ الشَّرْعِ إيَّاهَا لَزِمَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ بَقَاءُ النِّكَاحِ حَالَ الْمَوْتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَقَاءَهُ إمَّا بِالْحُكْمِ بِقِيَامِهِ حَقِيقَةً أَوْ بِقِيَامِ آثَارِهِ مِنْ مَنْعِ الْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقِيَامُ هَذِهِ الْآثَارِ لَيْسَ إلَّا بِقِيَامِ الْعِدَّةِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ تَوْرِيثِهَا بِمَوْتِهِ فِي عَدَمِهَا، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يُعَيِّنْ لِقِيَاسِهِ أَصْلًا فِي الْإِلْحَاقِ، بَلْ قَالَ: قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهَا فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَمِثْلُهُ لَا يُفْعَلُ إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ أَمْوَالٌ شَتَّى يُمْكِنُ الْإِلْحَاقُ بِكُلٍّ مِنْهَا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِرَدِّ الْقَصْدِ أَصْلٌ سِوَى قَاتِلِ الْمُوَرِّثِ.
وَيُمْكِنُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ أُصُولَهُ كُلَّ مَنْ أَلْزَمْ ضَرَرًا بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يُرَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ الزَّوْجِيَّةُ سَبَبُ إرْثِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ غَيْرُ جَيِّدٍ لِأَنَّهَا سَبَبُ إرْثِهَا عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ مَرَضٍ أَوْ فَجْأَةٍ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ: الزَّوْجِيَّةُ سَبَبُ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَالزَّوْجُ قَصَدَ إلَخْ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ) أَيْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ لَا إمْكَانَ لِلتَّوْرِيثِ إذَا لَمْ يُعْهَدُ بَقَاءُ شَيْءٍ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ بَعْدَهَا.
عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ امْرَأَةَ الْفَارِّ تَرِثُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَبِهِ يُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَرِثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ: أَيْ مَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قُدْرَةِ التَّزَوُّجِ وَهُوَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: أَيْ مَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَالزَّوْجِيَّةُ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يَرِثُهَا: أَيْ الزَّوْجِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَيْ حَالَةَ مَرَضِهِ لَيْسَتْ سَبَبًا لِإِرْثِهِ عَنْهَا بَلْ فِي حَالِ مَرَضِهَا.
وَنَقُولُ: لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَرِيضَةَ فَأَبَانَتْ نَفْسَهَا بِأَنْ ارْتَدَّتْ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ فِي حَقِّهَا فَيَرِثُهَا الزَّوْجُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّتْ صَحِيحَةً لِأَنَّهَا بَانَتْ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ مُشْرِفَةً عَلَى الْهَلَاكِ وَلَا هِيَ بِالرِّدَّةِ مُشْرِفَةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ (قَوْلُهُ فَتَبْطُلُ فِي حَقِّهِ) بِرَفْعِ اللَّامِ فَتَبْطُلُ الزَّوْجِيَّةُ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَرِثُهَا إذَا مَاتَتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَانَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ثُمَّ مَاتَ حَيْثُ تَرِثُهُ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ وَإِنْ بَطَلَتْ بِالْبَائِنِ حَقِيقَةً لَكِنَّهَا جُعِلَتْ بَاقِيَةً فِي حَقِّهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا لِأَنَّهُ قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّهَا، وَضَبْطُهُ بِنَصَبِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ النَّفْيِ سَهْوٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْعَكِسُ الْغَرَضُ، إذْ يَكُونُ مَعْنَاهُ لَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ سَبَبًا لِإِرْثِهِ مِنْهَا لَبَطَلَتْ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبٍ فَلَا تَبْطُلُ، وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ فَيَجِبُ أَنْ يَرِثَهَا وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ
(قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَمْرِهَا) لَيْسَ قَيْدًا، بَلْ الْمَقْصُودُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَائِنًا بِأَمْرِهَا،
وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ) لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِبْطَالِ حَقِّهَا وَالتَّأْخِيرِ لِحَقِّهَا. وَإِنْ قَالَتْ طَلِّقْنِي لِلرَّجْعَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَرِثَتْهُ لِأَنَّ
وَلِهَذَا عَطَفَ قَوْلَهُ أَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ إنَّمَا يُثْبِتُ طَلْقَةً بَائِنَةً، وَكَذَا إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْهُ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِبْطَالِ حَقِّهَا.
أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِلْأَمْرِ مِنْهَا بِالْعِلَّةِ، وَأَمَّا فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَلِأَنَّهُمَا بَاشَرَا الْعِلَّةَ.
أَمَّا فِي التَّخْيِيرِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْهَا، وَأَمَّا فِي الْخُلْعِ فَلِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ عِلَّةُ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ شِرَاءُ الطَّلَاقِ، وَمُبَاشَرَةُ آخِرِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ كَمُبَاشَرَتِهَا، بِخِلَافِ مُبَاشَرَةِ بَعْضِ الْعِلَّةِ.
فَمِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَقَدْ دَخَلَ بِهِمَا طَلِّقَا أَنْفُسَكُمَا ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا عَلَى التَّعَاقُبِ طَلُقَتَا ثَلَاثًا بِتَطْلِيقِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ وَوَرِثَتْ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا لَمْ تُبَاشِرْ عِلَّةَ الْفُرْقَةِ لَا الْأُولَى لِأَنَّهَا الْمُبَاشِرَةُ.
وَلَوْ بَدَأَتْ الْأُولَى بِطَلَاقِ ضَرَّتِهَا ثُمَّ بِطَلَاقِ نَفْسِهَا ثُمَّ الْأُخْرَى كَذَلِكَ وَرِثَتَا لِأَنَّ الْوَاقِعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلَاقُ ضَرَّتِهَا لِإِطْلَاقِ نَفْسِهَا الْخُرُوجَ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا لِاشْتِغَالِهَا بِطَلَاقِ الضَّرَّةِ، وَالتَّفْوِيضُ تَمْلِيكٌ وَهُوَ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ.
وَلَوْ طَلَّقَتْ كُلٌّ نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا مَعًا طَلُقَتَا وَلَمْ تَرِثَا لِأَنَّ كُلًّا طَلُقَتْ بِتَطْلِيقِ نَفْسِهَا ثُمَّ اشْتَغَلَتْ بِمَا لَا يُفِيدُ مِنْ تَطْلِيقِ ضَرَّتِهَا.
وَإِنْ طَلَّقَتَا إحْدَاهُمَا بِأَنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَطَلَّقَتْهَا ضَرَّتُهَا وَوُجِدَ ذَلِكَ مَعًا طَلُقَتْ وَلَا تَرِثُ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي حَقِّهَا طَلَاقُ نَفْسِهَا وَطَلَاقُ الْوَكِيلِ فَيُضَافُ إلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ أَقْوَى، أَوْ كُلٌّ يَصْلُحُ عِلَّةً وَقَدْ نَزَلَا مَعًا فَيُضَافُ إلَى كُلٍّ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ.
وَلَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ طَلِّقَا أَنْفُسَكُمَا إنْ شِئْتُمَا فَطَلَّقَتْ إحْدَاهُمَا نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا حَتَّى تُطَلِّقَ الْأُخْرَى نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا لِتَعَلُّقِ التَّفْوِيضِ بِمَشِيئَتِهِمَا خِلَافًا لِزُفَرَ كَأَنَّهُ قَالَ طَلِّقَا أَنْفُسَكُمَا إنْ شِئْتُمَا طَلَاقَكُمَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ التَّفْوِيضَ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ فَتَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ، فَلَوْ طَلَّقَتْ الْأُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ نَفْسَهَا وَصَاحِبَتَهَا طَلُقَتَا لِوُجُودِ كَمَالِ الْعِلَّةِ وَوَرِثَتْ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ بَاشَرَتْ آخِرَ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ وَالْأُولَى بَعْضُ الْعِلَّةِ.
وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مِنْهُمَا مَعًا بَانَتَا وَوَرِثَتَاهُ لِأَنَّ كُلًّا بَاشَرَتْ بَعْضَ الْعِلَّةِ، هَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ.
وَلَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ أَمْرُكُمَا بِيَدَيْكُمَا فَهُوَ تَمْلِيكٌ مِنْهُمَا فَلَا تَنْفَرِدُ إحْدَاهُمَا بِالطَّلَاقِ كَمَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَتَا عَلَى طَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَقَعُ، وَفِي قَوْلِهِ إنْ شِئْتُمَا لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّأْيَ إلَيْهِمَا فِي شَيْئَيْنِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمَا فِي شَيْءٍ صَحَّ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ عَبْدَيْنِ فَبَاعَا أَحَدَهُمَا وَهُنَاكَ فَوَّضَ إلَيْهِمَا بِشَرْطِ مَشِيئَتِهِمَا الطَّلَاقَيْنِ فَكَانَ عَدَمًا قَبْلَ الشَّرْطِ.
وَلَوْ قَالَ طَلِّقَا أَنْفُسَكُمَا بِأَلْفٍ فَقَالَتْ كُلٌّ طَلَّقْتُ نَفْسِي وَصَاحِبَتِي بِأَلْفٍ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا بَانَتَا بِأَلْفٍ وَيُقَسَّمُ عَلَى مَهْرَيْهِمَا لِأَنَّ الْأَلْفَ مُقَابَلٌ بِالْبُضْعَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ فَيَقُومُ بِمَا تَزَوَّجَهُمَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرِثَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ إلَّا بِالْتِزَامِ الْمَالِ وَالْتِزَامِ كُلٍّ عِلَّةً لِأَنَّهُ شِرَاءُ الطَّلَاقِ، فَكَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ عِلَّةً وَفِعْلُ الْأُخْرَى شَرْطًا وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ فَلِذَا بَطَلَ الْإِرْثُ.
وَلَوْ طَلَّقَتَا إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ لِأَنَّهُمَا مَأْمُورَتَانِ بِطَلَاقِهِمَا فَقَدْ أَتَتَا بِبَعْضِ مَا أُمِرَتَا بِهِ وَلَمْ تَرِثْ لِأَنَّهُ وَقَعَ بِقَبُولِهَا، وَإِنْ قَامَتَا بَطَلَ الْأَمْرُ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ بِبَدَلٍ فَشَرْطُهُ اجْتِمَاعُ رَأْيِهِمَا، بِخِلَافِ الْمَأْمُورَتَيْنِ بِالطَّلَاقِ بِلَا بَدَلٍ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِإِيقَاعِ الْأَمْرِ، وَإِذَا بَطَلَ الْأَمْرُ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بَطَلَ فِي حَقِّ الْأُخْرَى لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ اجْتِمَاعُ رَأْيِهِمَا الْكُلُّ مِنْ الْكَافِي (قَوْلُهُ وَالتَّأْخِيرُ) أَيْ تَأْخِيرُ عَمَلِ الطَّلَاقِ
الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ النِّكَاحَ فَلَمْ تَكُنْ بِسُؤَالِهَا رَاضِيَةً بِبُطْلَانِ حَقِّهَا
(وَإِنْ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا فِي صِحَّتِي وَانْقَضَتْ عِدَّتُك فَصَدَّقَتْهُ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَوَصِيَّتُهُ. وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ بِأَمْرِهَا ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الْمِيرَاثِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رحمه الله فَإِنَّ لَهَا جَمِيعَ مَا أَوْصَى وَمَا أَقَرَّ بِهِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَمَّا بَطَلَ بِسُؤَالِهَا زَالَ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ حَتَّى جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَانْعَدَمَتْ التُّهْمَةُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهَا وَيَجُوزُ وَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ وَهِيَ سَبَبُ التُّهْمَةِ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ التُّهْمَةِ وَلِهَذَا يُدَارُ عَلَى النِّكَاحِ وَالْقَرَابَةِ، وَلَا عِدَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
لَحِقَهَا وَهِيَ قَدْ رَضِيَتْ بِإِبْطَالِهِ، وَلِذَا لَوْ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ فِي مَرَضِهِ بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ لَمْ تَرِثْ لِرِضَاهَا بِالْمُبْطِلِ وَإِنْ كَانَتْ مُضْطَرَّةً، لِأَنَّ سَبَبَ الِاضْطِرَارِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَلَمْ يَكُنْ جَانِيًا فِي الْفُرْقَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فَأَجَازَ الزَّوْجُ فِي مَرَضِهِ حَيْثُ تَرِثُ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلْإِرْثِ إجَازَتُهُ، وَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِتَمْكِينِ ابْنِ الزَّوْجِ لَا تَرِثُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَقَرَّبَهَا مُكْرَهَةً لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ فَيَكُونُ الْأَبُ كَالْمُبَاشِرِ.
وَلَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْهَا وَهِيَ مَرِيضَةٌ وَرِثَهَا الزَّوْجُ لِكَوْنِهَا فَارَّةً.
وَفِي الْجَامِعِ: لَوْ فَارَقَتْهُ فِي مَرَضِهَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ أَوْ الْبُلُوغِ وَرِثَهَا لِأَنَّهَا مِنْ قِبَلِهَا وَإِذَا لَمْ تَكُنْ طَلَاقًا.
وَفِي الْيَنَابِيعِ جَعَلَ هَذَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَفِي الْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةُ وَاللِّعَانِ لَا يَرِثُهَا لِأَنَّهَا طَلَاقٌ فَكَانَتْ مُضَافَةً إلَيْهِ.
وَأَوْرَدَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرِثَهَا أَصْلًا لِأَنَّا جَعَلْنَا قِيَامَ الْعِدَّةِ كَقِيَامِ النِّكَاحِ فِي حَقِّهَا وَلَا عِدَّةَ هُنَا عِنْدَ مَوْتِهَا فَلَمْ يَبْقَ النِّكَاحُ كَبُعْدِ الْعِدَّةِ.
أُجِيبُ لَمَّا صَارَتْ مَحْجُورَةً عَنْ إبْطَالِ حَقِّهِ أَبْقَيْنَا النِّكَاحَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ أَوْرَدَا لِقَصْدِهَا إبْطَالَ حَقِّهِ كَمُسْتَعْجِلِ الْإِرْثِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ الَّذِي هُوَ مَبْنَى هَذَا الْجَوَابِ يَسْتَلْزِمُ تَوْرِيثَ امْرَأَةِ الْفَارِّ إذَا مَاتَ بَعْدَ الْعِدَّةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَفِي الْقُنْيَةِ: أَكْرَهُ عَلَى طَلَاقِهَا الثَّلَاثَ لَا تَرِثُ لِعَدَمِ قَصْدِ الْفِرَارِ، وَلَوْ أُكْرِهَتْ عَلَى سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ تَرِثُ
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا كُنْت طَلَّقَتْك،
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَخْتَارُ الطَّلَاقَ لِيَنْفَتِحَ بَابُ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا فَيَزِيدَ حَقُّهَا، وَالزَّوْجَانِ قَدْ يَتَوَاضَعَانِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْفُرْقَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَبَرَّهَا الزَّوْجُ بِمَالِهِ زِيَادَةً عَلَى مِيرَاثِهَا وَهَذِهِ التُّهْمَةُ فِي الزِّيَادَةِ فَرَدَدْنَاهَا، وَلَا تُهْمَةَ فِي قَدْرِ الْمِيرَاثِ فَصَحَّحْنَاهُ، وَلَا مُوَاضَعَةَ عَادَةً فِي حَقِّ الزَّكَاةِ وَالتَّزَوُّجِ وَالشَّهَادَةِ، فَلَا تُهْمَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ
قَالَ رضي الله عنه:
إلَى قَوْلِهِ: فَلَا تُهْمَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ) هَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ: مَا إذَا تَصَادَقَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى طَلَاقِهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ الْمَرَضِ، وَمَا إذَا أَنْشَأَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِسُؤَالِهَا ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِمَالٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمِيرَاثِ وَمِنْ كُلٍّ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَالْمُقِرِّ بِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا تَمَامُ الْمُوصَى بِهِ وَالْمُقِرِّ بِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَقَالَا فِي الْأَوَّلِ كَقَوْلِ زُفَرَ، وَفِي الثَّانِي كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
لِزُفَرَ إنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ الْإِرْثُ وَقَدْ بَطَلَ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْأُولَى وَسُؤَالِهَا فِي الثَّانِيَةِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ مُوجِبِهِمَا.
قُلْنَا: ذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ تُهْمَةً لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ ثُبُوتَ التُّهْمَةِ بِهِ بَاطِنٌ فَأُدِيرَ عَلَى مَظِنَّتِهَا وَذَلِكَ قِيَامُ الْعِدَّةِ وَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى فَوَجَبَ تَفْصِيلُنَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَدَارَ التُّهْمَةِ قِيَامُ الْعِدَّةِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ أَنَّ مَا يَنْتَفِي بِالتُّهْمَةِ مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ ثَابِتٌ فِي الْأُولَى حَتَّى جَازَتْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ فَعُلِمَ انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ شَرْعًا وَأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً، وَعَنْ هَذَا جَازَ وَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهَا وَأَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ مِنْ وَقْتِ التَّصَادُقِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ قَصْرَ سَبَبِ التُّهْمَةِ عَلَى الْعِدَّةِ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ أَيْضًا نَظَرًا إلَى تَقَدُّمِ النِّكَاحِ الْمُفِيدِ لِلْأُلْفَةِ وَالشَّفَقَةِ وَإِرَادَةِ إيصَالِ الْخَيْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَظْهَرَا مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ إلَّا فِي مَرَضِهِ كَانَا مُتَّهَمَيْنِ بِالْمُوَاضَعَةِ لِيَنْفَتِحَ بَابُ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ، وَهَذِهِ التُّهْمَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لَا فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إذْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالتَّوَاضُعِ لِلتَّزَوُّجِ بِأُخْتِهَا أَوْ هِيَ بِغَيْرِهِ أَوْ لِدَفْعِ الزَّكَاةِ أَوْ لِلشَّهَادَةِ فَلِذَا صَدَقَا فِيهَا لَا فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَهَذِهِ التُّهْمَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الزَّائِدِ فَيَنْتَفِي، ثُمَّ مَا تَأْخُذُهُ إنَّمَا يَلْزَمُ فِي حَقِّهِمْ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ لَا الدَّيْنِ.
وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ لَوْ تَوَى شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالتَّوَى عَلَى الْكُلِّ، وَلَوْ كَانَ مَا تَأْخُذُهُ بِطَرِيقِ الدَّيْنِ لَكَانَ عَلَى الْوَرَثَةِ مَا دَامَ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ، وَلَوْ طَلَبَتْ أَنْ تَأْخُذَ دَنَانِيرَ وَالتَّرِكَةُ عُرُوضٌ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ دَيْنًا لَكَانَ لَهَا ذَلِكَ، وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ عَيْنِ التَّرِكَةِ لَيْسَ عَلَى الْوَرَثَةِ ذَلِكَ بَلْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهَا مِنْ مَالٍ آخَرَ وَتُعَامَلُ فِيهِ بِزَعْمِهَا أَنْ مَا تَأْخُذُهُ دَيْنٌ، وَلَوْ أَقَرَّ بِفَسَادِ نِكَاحِهَا أَوْ خُلْعِهَا أَجْنَبِيٌّ فِي مَرَضِهِ تَرِثُ.
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: وَكَذَا لَوْ قَالَ كُنْت جَامَعْت أُمَّك أَوْ تَزَوَّجْتُك بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا يُدَارُ عَلَى النِّكَاحِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ.
وَالْقَرَابَةُ: أَيْ قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَلَا تُقْبَلُ مِنْ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَلَا الْأَبِ وَالْجَدِّ لِابْنِهِ وَابْنِ ابْنِهِ.
وَفِي الْغَايَةِ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إنْ كَانَ جَرَى بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ وَتَرَكَتْ خِدْمَتُهُ فِي مَرَضِهِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُوَاضَعَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهَا فَحِينَئِذٍ لَا تُهْمَةَ فِي الْإِقْرَارِ لَهَا وَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْمُطَايَبَةِ وَمُبَالَغَتِهَا فِي خَدَمَتْهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ وَوَصِيَّتُهُ لِلتُّهْمَةِ، وَقَاسَهُ عَلَى مَا فِي الذَّخِيرَةِ فِيمَا إذَا قَالَتْ لَك امْرَأَةٌ غَيْرِي أَوْ تَزَوَّجْت عَلِيَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ فَإِنَّهُ قَالَ: قِيلَ الْأَوْلَى يُحَكَّمُ الْحَالُ
(وَمَنْ كَانَ مَحْصُورًا أَوْ فِي صَفِّ الْقِتَالِ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا لَمْ تَرِثْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَارَزَ رَجُلًا أَوْ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ وَرِثَتْ إنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَوْ قُتِلَ) وَأَصْلُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ امْرَأَة الْفَارِّ تَرِثُ اسْتِحْسَانًا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ بِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَرَضٍ يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ غَالِبًا كَمَا إذَا كَانَ صَاحِبَ الْفِرَاشِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يَقُومُ بِحَوَائِجِهِ كَمَا يَعْتَادُهُ الْأَصِحَّاءُ، وَقَدْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَرَضِ فِي تَوَجُّهِ الْهَلَاكِ الْغَالِبِ، وَمَا يَكُونُ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْفِرَارِ، فَالْمَحْصُورُ وَاَلَّذِي فِي صَفِّ الْقِتَالِ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةُ لِأَنَّ الْحِصْنَ لِدَفْعِ بَأْسِ الْعَدُوِّ وَكَذَا الْمَنَعَةُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْفِرَارِ، وَاَلَّذِي بَارَزَ أَوْ قُدِّمَ لَيُقْتَلَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكُ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْفِرَارُ وَلِهَذَا أَخَوَاتٌ تَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ، وَقَوْلُهُ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَوْ قُتِلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا مَاتَ
إنْ كَانَ قَدْ جَرَى بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ وَخُصُومَةٌ تَدُلُّ عَلَى غَضَبِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَقَعُ.
قَالَ السُّرُوجِيُّ: فَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَحْكِيمِ الْحَالِ هُنَاكَ أَنْ تُحَكَّمَ هُنَا اهـ.
وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُصُومَةِ ظَاهِرَةٌ فِي قَوْلِهَا تَزَوَّجْت عَلِيَّ وَنَحْوِهِ إذَا اقْتَرَنَ بِالْمُشَاجَرَةِ، أَمَّا هُنَا فَلَا، إذْ الْإِيصَاءُ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْمِيرَاثِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ تِلْكَ الْخُصُومَةَ وَالْبَغْضَاءَ لَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَإِلَّا لَمْ يُوصِ لَهَا ظَاهِرًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الظَّاهِرَ بِذَلِكَ الْإِيصَاءِ التَّوَاضُعُ عَلَى إظْهَارِ الْخُصُومَةِ وَالتَّشَاجُرِ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْحِيَلِ ذَلِكَ لِلْأَغْرَاضِ
(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ مَحْصُورًا إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّ مَبْنَى الْفِرَارِ عَلَى الطَّلَاقِ حَالَ تَوَجُّهِ الْهَلَاكِ الْغَالِبِ عِنْدَهُ، وَغَلَبَةُ الْهَلَاكِ تَكُونُ حَالَ عَدَمِ الْمَرَضِ كَمَا تَكُونُ بِهِ وَتَوَجُّهُهُ بِغَيْرِهِ يَكُونُ بِالْمُبَارَزَةِ وَالتَّقْدُمَةِ لِلرَّجْمِ وَالْقَتْلِ قِصَاصًا، أَوْ فِي سَفِينَةٍ فَتَلَاطَمَتْ الْأَمْوَاجُ وَخِيفَ الْغَرَقُ أَوْ انْكَسَرَتْ وَبَقِيَ عَلَى لَوْحٍ أَوْ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ فَبَقِيَ فِي فَمِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَحْصُورًا فِي حِصْنٍ أَوْ فِي صَفِّ الْقِتَالِ أَوْ مَحْبُوسًا لِلْقَتْلِ أَوْ نَازِلًا فِي مَسْبَعَةٍ أَوْ فِي مَخْيَفٍ مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ رَاكِبٍ سَفِينَةً دُونَ مَا قُلْنَا، وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ، فَلَوْ بَاشَرَتْ سَبَبَ الْفُرْقَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحْوَالِ الْفِرَارِ كَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَتَمْكِينِ ابْنِ الزَّوْجِ وَالِارْتِدَادِ فَإِنَّهُ يَرِثُهَا عَلَى مَا بَيِّنَاهُ آنِفًا.
وَالْحَامِلُ لَا تَكُونُ فَارَّةً إلَّا فِي حَالِ الطَّلْقِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إذْ تَمَّ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثَبَتَ حُكْمُ فِرَارِهَا لِتَوَقُّعِ الْوِلَادَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ.
قُلْنَا: الْمَنَاطُ مَا يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ إلَّا فِي الطَّلْقِ، وَتَوَجُّهُهُ بِالْمَرَضِ قِيلَ: أَنْ لَا يَقْدِرَ أَنْ يَقُومَ إلَّا بِأَنْ يُقَامَ، وَقِيلَ إذَا خَطَا ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُهَادَى فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَمَرِيضٌ.
وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْمَرِيضَ جِدًّا لَا يَعْجُزُ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَقِيلَ أَنْ لَا يَقْدِرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَّا أَنْ يُهَادَى، وَقِيلَ أَنْ لَا يَقُومَ بِحَوَائِجِهِ فِي الْبَيْتِ كَمَا تَعْتَادُهُ الْأَصِحَّاءُ وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّفُ، وَاَلَّذِي يَقْضِيهَا فِيهِ وَهُوَ يَشْتَكِي لَا يَكُونُ فَارًّا لِأَنَّ
بِذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَصَاحِبِ الْفِرَاشِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ إذَا قُتِلَ.
(وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ إذَا دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إذَا صَلَّى فُلَانٌ الظُّهْرَ أَوْ إذَا دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ لَمْ تَرِثْ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ إلَّا فِي قَوْلِهِ إذَا دَخَلْت الدَّارَ) وَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ: إمَّا أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ أَوْ كِلَاهُمَا فِي الْمَرَضِ.
أَمَّا الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ بِأَنْ قَالَ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ بِأَنْ قَالَ إذَا دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ أَوْ صَلَّى فُلَانٌ الظُّهْرَ، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ فَلَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى الْفِرَارِ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِمُبَاشَرَةٍ التَّعْلِيقِ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ لَمْ تَرِثْ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله تَرِثُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ فَكَانَ إيقَاعًا فِي الْمَرَضِ.
وَلَنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ السَّابِقَ يَصِيرُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ حُكْمًا لَا قَصْدًا
الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْهُ، فَأَمَّا مَنْ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَحَمُّ فَلَا وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهَا فِي الْبَيْتِ لَا فِي خَارِجِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صَحِيحٌ، هَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهَا الصُّعُودُ إلَى السَّطْحِ فَهِيَ مَرِيضَةٌ، وَالْمَسْلُولُ وَالْمَفْلُوجُ وَالْقَعَدُ مَا دَامَ يَزْدَادُ مَا بِهِ فَهُوَ غَالِبُ الْهَلَاكِ وَإِلَّا فَكَالصَّحِيحِ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي بُرْهَانُ الْأَئِمَّةِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ.
وَقِيلَ إنْ كَانَ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ بِالتَّدَاوِي فَكَالْمَرِيضِ وَإِلَّا فَكَالصَّحِيحِ.
وَقِيلَ مَا كَانَ يَزْدَادُ أَبَدًا، لَا إنْ كَانَ يَزْدَادُ تَارَةً وَيَقِلُّ أُخْرَى، وَلَوْ قُرِّبَ لِلْقَتْلِ فَطَلَّقَ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ أَوْ حُبِسَ ثُمَّ قُتِلَ أَوْ مَاتَ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ تَرِثُهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ فِرَارُهُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ ثُمَّ تَرَتَّبَ مَوْتُهُ فَلَا يُبَالِي بِكَوْنِهِ بِغَيْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَمَا يَكُونُ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْفِرَارِ يَقْتَضِي إلْحَاقَ حَالَةِ الطَّلْقِ لِلْحَامِلِ وَالْمُبَارِزَةِ بِحَالِ الصِّحَّةِ إلَّا أَنْ يَبْرُزَ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَقْرَانِهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُعَلِّقَ مَا هُوَ فِي حُكْمِ مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَرَضِ، عَلَى أَنَّهُ غَالِبًا مُتَعَلِّقٌ بِالْخَوْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَاقِعُ غَلَبَةَ الْهَلَاكِ فَتَأَمَّلْ، وَأَمَّا فِي حَالَةِ فَشْوِ الطَّاعُونِ فَهَلْ يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْ الْأَصِحَّاءِ حُكْمُ الْمَرَضِ فَقَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَلَمْ أَرَهُ لِمَشَايِخِنَا
(قَوْلُهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ) أَيْ طَالِقٌ بَائِنٌ لِأَنَّ الْفِرَارَ يَثْبُتُ بِهِ لَا بِالرَّجْعِيِّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (قَوْلُهُ إمَّا أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ إلَخْ) ضَبْطُهُ إمَّا أَنْ يُعَلِّقَهُ بِفِعْلِ أَحَدٍ أَوْ لَا.
الثَّانِي التَّعْلِيقُ بِنَحْوِ مَجِيءِ الْغَدِ وَالْأَوَّلُ إمَّا بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ إمَّا الْمَرْأَةُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، وَالْكُلُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ وَوُقُوعُ الشَّرْطِ فِي الْمَرَضِ أَوْ الشَّرْطُ فَقَطْ.
فَفِي التَّعْلِيقِ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ وَمَجِيءِ الْوَقْتِ إنْ كَانَا فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ لِظُهُورِ قَصْدِ الْفِرَارِ بِالتَّعْلِيقِ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ لَمْ تَرِثْ.
وَقَالَ زُفَرُ تَرِثُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَهُ فَكَانَ إيقَاعًا فِي الْمَرَضِ.
وَلَنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ السَّابِقَ يَصِيرُ تَطْلِيقًا بِنَفْسِهِ عِنْدَ الشَّرْطِ حُكْمًا لَا قَصْدًا: يَعْنِي يَسْلَمُ قَوْلُ زُفَرَ إنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنْجَزِ لَكِنْ حُكْمًا لَا قَصْدًا، وَلِذَا لَوْ كَانَ مَجْنُونًا عِنْدَ الشَّرْطِ وَقَعَ، وَلَوْ حَلَفَ بَعْدَ
وَلَا ظُلْمَ إلَّا عَنْ قَصْدٍ فَلَا يُرَدُّ تَصَرُّفُهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَسَوَاءٌ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ أَوْ كَانَا فِي الْمَرَضِ وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يَصِيرُ فَارًّا لِوُجُودِ قَصْدِ الْإِبْطَالِ، إمَّا بِالتَّعْلِيقِ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ فِي الْمَرَضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ بُدٌّ فَلَهُ مِنْ التَّعْلِيقِ أَلْفُ بُدٍّ فَيُرَدُّ تَصَرُّفُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَا إذَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِهَا، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَكَلَامِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ لَمْ تَرِثْ لِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ وَكَلَامِ الْأَبَوَيْنِ تَرِثُ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ لِمَا لَهَا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا
التَّعْلِيقِ لَا يُطَلِّقُ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ لَمْ يَحْنَثْ، فَلَوْ كَانَ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَمْ يَقَعْ فِي الْأَوَّلِ وَحَنِثَ فِي الثَّانِي وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَارًّا بِالتَّعْلِيقِ فِي الصِّحَّةِ وَبَعْدَهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى مَنْعِ فِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ وَمَجِيءِ الْوَقْتِ فَلَا يَكُونُ ظَالِمًا.
وَأَمَّا فِي التَّعْلِيقِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَتَرِثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ لِوُجُودِ قَصْدِ الْإِبْطَالِ: إمَّا بِالتَّعْلِيقِ إنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ، أَوْ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ، وَكَوْنُ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْهُ غَايَةَ مَا يُوجِبُ اضْطِرَارَهُ، وَالِاضْطِرَارُ فِي جَانِبِ الْفَاعِلِ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ، كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ أَتْلَفَهُ نَائِمًا أَوْ مُخْطِئًا يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يُوصَفْ فِعْلُهُ بِالظُّلْمِ، وَحَقُّهَا صَارَ مَعْصُومًا بِمَرَضِهِ فَاضْطِرَارُهُ إلَى إبْطَالِهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ تَصَرُّفَهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا حُكْمُ الْفِرَارِ مَعَ عَدَمِ الْفِرَارِ، وَمَا كَانَ مُوجِبَ الْمِيرَاثِ إلَّا الْفِرَارُ وَلَا فِرَارَ مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ بُدٌّ فَلَهُ مِنْ التَّعْلِيقِ أَلْفُ بُدٍّ) رُبَّمَا يُعْطِي أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْفِرَارِ إذَا كَانَ الشَّرْطُ لَا بُدَّ مِنْهُ التَّعْلِيقُ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْفِرَارُ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ فِي الْمَرَضِ لَكِنَّ ثُبُوتَ الْفِرَارِ مَعَ كَوْنِ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حَالَتَيْ كَوْنِ التَّعْلِيقِ فِي الْمَرَضِ أَوْ الصِّحَّةِ.
وَعَلَى الثَّانِي لَا يَسْتَقِيمُ النَّظَرُ إلَى التَّعْلِيقِ فِي إثْبَاتِ الْفِرَارِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ اضْطِرَارٌ جَاءَ مِنْهُ حَيْثُ عُلِّقَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِوُرُودِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّهُ لِاضْطِرَارِهِ إلَى الشَّرْطِ يَفْعَلُهُ فَكَانَ حَالَ التَّعْلِيقِ رَاضِيًا بِالشَّرْطِ، بَلْ إنَّمَا عَلَّقَ لِيَفْعَلَ الشَّرْطَ وَيَقَعَ الْجَزَاءُ وَفِيهِ مَا فِيهِ.
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِفِعْلِهَا فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَكَلَامِ زَيْدٍ لَمْ تَرِثْ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ) أَيْ بِالطَّلَاقِ، إذْ الرِّضَا بِالشَّرْطِ رِضًا بِالْمَشْرُوطِ.
أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ لِشَرِيكِهِ إنْ ضَرَبَتْهُ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ يُعْتَقُ وَلِلضَّارِبِ تَضْمِينُ الْحَالِفِ فَقَدْ رَضِيَ
أَوْ فِي الْعُقْبَى وَلَا رِضًا مَعَ الِاضْطِرَارِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ صُنْعٌ بَعْدَمَا تَعَلَّقَ حَقُّهَا بِمَالِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَرِثُ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَلْجَأَهَا إلَى الْمُبَاشَرَةِ فَيَنْتَقِل الْفِعْلُ إلَيْهِ كَأَنَّهَا آلَةٌ لَهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ.
قَالَ (وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْ) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: تَرِثُ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْفِرَارَ حِينَ أَوْقَعَ فِي الْمَرَضِ وَقَدْ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَرَضُ إذَا تَعَقَّبَهُ بُرْءٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ مَرَضُ الْمَوْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا. وَلَوْ طَلَّقَهَا فَارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ مِنْ مَرَضِهِ وَهِيَ
بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يَجْعَل ذَلِكَ رِضًا بِالْمَشْرُوطِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَى فِعْلِ الشَّرْطِ لَكِنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْ هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ فَهُوَ حُرٌّ فَقَالَ لَهُ شَرِيكُهُ إنْ ضَرَبْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ فَلِلضَّارِبِ تَضْمِينُ الْحَالِفِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، وَفِعْلُ الشَّرْطِ مُضْطَرًّا لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.
وَأَجَابَ فِي الْكَافِي بِأَنَّ حُكْمَ الْفِرَارِ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِشُبْهَةِ الْعُدْوَانِ فَيَبْطُلُ بِمَا لَهُ شُبْهَةُ الرِّضَا، وَلَا كَذَلِكَ الضَّمَانُ، وَقَدْ وُجِدَ هُنَا شُبْهَةُ رِضَا الْمَرْأَةِ فَكَفَى لِنَفْيِ حُكْمِ الْفِرَارِ (وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَالصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَكَلَامِ الْأَبَوَيْنِ) وَمِنْهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَاؤُهُ وَالْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالتَّنَفُّسُ فَلَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ (قَوْلُهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ) بِأَنْ أَكْرَهَ إنْسَانًا عَلَى إتْلَافِ مَالٍ صَارَ الْمُكْرِهُ مُتْلِفًا حَتَّى يَضْمَنَ وَيَنْتَقِلَ الْفِعْلُ إلَيْهِ، فَكَذَا هُنَا، وَكَفِعْلِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى الشَّاهِدَيْنِ حَتَّى يَضْمَنَانِ إذَا رَجَعَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَلْجَأً حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْضِ يَفْسُقُ.
وَفِي مَبْسُوطِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ
(قَوْلُهُ فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا) يَعْنِي الْفِرَارَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْخَاصِّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ شَرْعًا بِالْإِبَانَةِ فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا وَلَا يَتَعَلَّقُ إلَّا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ خِلَافُهُ.
أَوْ نَقُولُ: هُوَ بِطَلَاقِهِ فَارٌّ لَكِنَّ الْفِرَارَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِشَرْطِ ثُبُوتِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا فَانْتَفَى شَرْطُ عَمَلِ الْعِلَّةِ (قَوْلُهُ وَلَوْ طَلَّقَهَا) أَيْ بَائِنًا
فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَرِثْ، وَإِنْ لَمْ تَرْتَدَّ بَلْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا فِي الْجِمَاعِ وَرِثَتْ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهَا بِالرِّدَّةِ أَبْطَلَتْ أَهْلِيَّةَ الْإِرْثِ إذْ الْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَلَا بَقَاءَ لَهُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ، وَبِالْمُطَاوَعَةِ مَا أَبْطَلَتْ الْأَهْلِيَّةَ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ لَا تُنَافِي الْإِرْثَ وَهُوَ الْبَاقِي، بِخِلَافِ مَا إذَا طَاوَعَتْ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْفُرْقَةَ فَتَكُونُ رَاضِيَةً بِبُطْلَانِ السَّبَبِ، وَبَعْدَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالْمُطَاوَعَةِ لِتَقَدُّمِهَا عَلَيْهَا فَافْتَرَقَا
(وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَاعَنَ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لَا تَرِثُ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) وَهَذَا مُلْحَقٌ بِالتَّعْلِيقِ بِفِعْلِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ إذْ هِيَ مُلْجَأَةٌ إلَى الْخُصُومَةِ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ (وَإِنْ آلَى وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَمْ تَرِثْ، وَإِنْ كَانَ الْإِيلَاءُ أَيْضًا فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ) لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي مَعْنَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ خَالِيَةٍ
ثَلَاثًا أَوْ غَيْرَهُ فِي مَرَضِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ فَرَّعَ عَلَى هَذَا الطَّلَاقِ نَفْسِهِ مَسْأَلَةَ الْمُطَاوَعَةِ وَقَالَ إنَّهَا تَرِثُ، وَلَا يَتَفَرَّعُ إرْثُهَا عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ بَائِنًا لِأَنَّهَا إذَا طَاوَعَتْهُ بَعْدَ الرُّجْعَى لَا تَرِثُ كَمَا لَوْ طَاوَعَتْهُ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ (قَوْلُهُ لَمْ تَرِثْ) بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَإِنَّهَا بِالرِّدَّةِ تَسْقُطُ ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ تَعُودُ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّتُهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ لَا تُنَافِي الْإِرْثَ وَهُوَ الْبَاقِي) بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ لَا تُنَافِي الْإِرْثَ بَلْ تَثْبُتُ مَعَهُ كَمَا فِي الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَإِنَّمَا تُنَافِي النِّكَاحَ خَاصَّةً فَيَبْقَى الْإِرْثُ لِعَدَمِ الْمُزِيلِ فَمَرْجِعُ ضَمِيرِ وَهُوَ الْبَاقِي الْإِرْثُ (قَوْلُهُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ) أَيْ حَالَةَ الْمَرَضِ (قَوْلُهُ فَتَكُونُ رَاضِيَةً بِبُطْلَانِ السَّبَبِ) وَهُوَ النِّكَاحُ وَذَلِكَ رِضًا بِبُطْلَانِ الْمُسَبِّبِ (قَوْلُهُ لِتَقَدُّمِهَا عَلَيْهَا) أَيْ لِتَقَدُّمِ الْحُرْمَةُ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ لِحُصُولِهَا بِالطَّلَاقِ السَّابِقِ عَلَيْهَا.
(قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ) وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ: أَيْ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ، وَلَا رِضًا مَعَ الِاضْطِرَارِ كَذَا قِيلَ.
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَلْجَأَهَا إلَى الْمُبَاشَرَةِ فَيَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَيْهِ إلَخْ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ ذَكَرَهُ فِي صُورَةِ مَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ، وَمَا ذَكَرْنَا ذَكَرَهُ فِي صُورَةِ مَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ وَهُوَ الْمُوَازِنُ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَذْفَ كَانَ فِي الصِّحَّةِ، وَاللِّعَانَ فِي الْمَرَضِ وَقَوْلُهُ (إذْ هِيَ مُلْجَأَةٌ إلَى الْخُصُومَةِ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُلْحَقَ بِفِعْلِهَا الشَّرْطُ الَّذِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ هُوَ خُصُومَتُهَا: أَيْ مُطَالَبَتَهَا بِمُوجَبِ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ بِهِ يَنْدَفِعُ الْعَارُ، وَلَوْ جُعِلَ لِعَانُهَا صَحَّ أَيْضًا إذْ هِيَ مُلْجَأَةٌ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ إذْ لِعَانُهُ يُلْجِئُهَا إلَى لِعَانِهَا.
لَا يُقَالُ: هُوَ أَيْضًا مَلْجَأٌ إلَى لِعَانِهِ مِنْ قِبَلِهَا لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ فِي الْكُلِّ يَعُودُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَلْجَأَهَا إلَى الْخُصُومَةِ وَأَثَرُهَا لِعَانُهُ فَكَانَ لِعَانُهُ مَنْسُوبًا إلَى اخْتِيَارِهِ، فَهِيَ وَإِنْ بَاشَرَتْ آخِرَ جُزْأَيْ مَدَارِ الْفُرْقَةِ وَهُوَ مَا تَمَسَّك بِهِ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي لِأَنَّ لِعَانَهَا آخِرُ اللِّعَانَيْنِ لَكِنَّ الزَّوْجَ اضْطَرَّهَا إلَيْهِ.
وَقِيلَ فِي وَجْهِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْفُرْقَةُ قَذْفُ الرَّجُلِ وَلَمْ يَكُنْ قَذَفَهُ فِي زَمَانِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ سَبَبٌ بَعِيدٌ.
ثُمَّ قِيلَ عَلَى الْأَوَّلِ إنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ قَضَاءُ الْقَاضِي لَا اللِّعَانُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ
عَنْ الْوِقَاعِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِالتَّعْلِيقِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ قَالَ (وَالطَّلَاقُ الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ تَرِثُ بِهِ
الْمُلْجِئُ لِلْقَاضِي إلَى الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ لَا يَسْتَنِدُ إلَّا إلَى الشَّهَادَةِ وَاللِّعَانُ هُوَ الشَّهَادَةُ الْمُلْجِئَةِ (قَوْلُهُ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِالتَّعْلِيقِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ) كَأَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّتِهِ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ فَمَضَتْ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ فِيهِ لَا تَرِثُ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ فِي صِحَّتِهِ بِأَمْرِ سَمَاوِيٍّ وَوُجِدَ الشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ لَا يَكُونُ فَارًّا.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِيلَاءَ فِي الصِّحَّةِ لَيْسَ مِثْلَ التَّعْلِيقِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ بَلْ نَظِيرُ مَا لَوْ وَكَّلَ فِي صِحَّته بِالطَّلَاقِ وَطَلَّقَهَا الْوَكِيلُ فِي الْمَرَضِ كَانَ فَارًّا لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ عَزْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْزِلْهُ كَانَ فَارًّا كَذَا هُنَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إبْطَالِ الْإِيلَاءِ فِي الْمَرَضِ بِالْفَيْءِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَارًّا.
أُجِيبُ بِالْفَرْقِ بِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ الْإِيلَاءِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ، فَإِنَّ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْإِيلَاءُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، بَلْ إذَا كَانَ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَاسْتَمَرَّ بِخِلَافِ عَزْلِ الْوَكِيلِ (قَوْلُهُ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بِسُؤَالِهَا أَوْ لَا، أَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِهِ، وَالْفِعْلُ مِمَّا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِهِ إلَّا قِيَامُ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ مَشْرُوطٌ فِيهِمَا جَمِيعًا.
[فُرُوعٌ]
قَالَ صَحِيحٌ لِمَوْطُوءَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ بَيَّنَ فِي مَرَضِهِ فِي إحْدَاهُمَا صَارَ فَارًّا بِالْبَيَانِ، وَتَرِثُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِيهَا بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ فَجَعَلَ إنْشَاءً فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِلتُّهْمَةِ.
وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَهُ ثُمَّ مَاتَ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى وَلَمْ تَرِثْ لِأَنَّهُ بَيَانٌ حُكْمِيٌّ فَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ فِي صِحَّتِهِ بِمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ فَجَاءَ وَهُوَ مَرِيضٌ لَا تَرِثُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلطَّلَاقِ بِفِعْلِهِ فَتَرِثُ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ فِي صِحَّتِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ثُمَّ بَاشَرَ الشَّرْطَ فِي الْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا نِصْفُ الْإِرْثِ إذْ لَا يُزَاحِمُهَا إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مُطَلَّقَةٌ بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ مَاتَتْ الَّتِي بَيَّنَ طَلَاقَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْ مِنْهُ وَصَحَّ الْبَيَانُ فِيهَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْ بَيَانِهِ بِخُرُوجِهَا عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ بِالْمَوْتِ، وَكَانَ الْإِرْثُ لِلْأُخْرَى لِأَنَّ التَّعْيِينَ دُونَ الْإِنْشَاءِ، وَلَوْ أَنْشَأَ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَتْ الْمُطَلَّقَةُ كَانَ جَمِيعُ الْإِرْثِ لِلْأُخْرَى، كَذَا هُنَا.
وَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ مَاتَتْ الْأُخْرَى وَبَقِيَتْ الَّتِي بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِيهَا ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ لَهَا نِصْفُ الْإِرْثِ لِأَنَّ الْبَيَانَ إنَّمَا بَطَلَ صِيَانَةً لِحَقِّهَا الثَّابِتِ ظَاهِرًا وَحَقُّهَا الثَّابِتُ ظَاهِرًا وَقْتَ الْبَيَانِ النِّصْفُ فَلَمْ تَزِدْ عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا تَسْتَحِقُّ إلَّا النِّصْفَ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى كَانَ لَهَا الرُّبْعُ وَثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ لِلْمَرْأَةِ الْأُخْرَى، لِأَنَّنَا إنَّمَا أَبْطَلْنَا الْبَيَانَ صِيَانَةً لِحَقِّهَا الثَّابِتِ وَقْتَ الْبَيَانِ وَوَقْتَ الْبَيَانِ حَقُّهَا فِي الرُّبْعِ فَكَانَ لِلْمُعَيَّنَةِ الرُّبْعُ، وَلِأَنَّ الْأُخْرَى مَنْكُوحَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَسْتَحِقُّ كُلَّ الْإِرْثِ وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَسْتَحِقُّ نِصْفَهُ، فَسَلِمَ النِّصْفُ لِلْأُخْرَى بِلَا مُنَازَعَةٍ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيَتَنَصَّفُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ الزَّوْجُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا لِأَقَلِّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَهُوَ لَيْسَ بِبَيَانٍ وَبَقِيَ الزَّوْجُ عَلَى خِيَارِهِ لِأَنَّ الْعَلُوقَ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ بِوَطْءٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَذَا لَا يَصْلُحُ بَيَانًا فَلَا يَكُونُ بَيَانًا بِالشَّكِّ إذْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِاحْتِمَالِ الْعَلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ نَفَى الزَّوْجُ هَذَا الْوَلَدَ أُمِرَ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ قَالَ عَنَيْت عِنْدَ الْإِيقَاعِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ يُلَاعَنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّتِي وَلَدَتْ وَيُقْطَعُ
فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُزِيلُ النِّكَاحَ حَتَّى يُحِلَّ الْوَطْءَ فَكَانَ السَّبَبُ قَائِمًا. قَالَ (وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَرِثُ إنَّمَا تَرِثُ إذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ) وَقَدْ بَيِّنَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَيُلْحَقُ بِالْأُمِّ لِأَنَّهُ قَذَفَ مَنْكُوحَتَهُ، وَإِنْ قَالَ عَنَيْت الَّتِي وَلَدَتْ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ وَقْتَ الْإِيقَاعِ الَّتِي وَلَدَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً فَيَجِبُ الْحَدُّ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِعَدَمِ اللِّعَانِ.
فَإِنْ قَالَ لَمْ أَعْنِ عِنْدَ الْإِيقَاعِ أَحَدًا وَلَكِنْ أُرِيدُ بِالْمُبْهَمِ الَّتِي وَلَدَتْ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَذَفَ مَنْكُوحَتَهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَقْتَ التَّعْيِينِ وَلَا يُلَاعِنُ أَيْضًا لِأَنَّ شَرْطَهُ قِيَامُ النِّكَاحِ وَقَدْ زَالَ بِالْبَيَانِ وَالنَّسَبُ ثَابِتٌ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرِ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِيقَاعِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ لِتَيَقُّنِنَا بِالْوَطْءِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَحُكْمُ الشَّرْعِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ يَكُونُ الْوَطْءُ مِنْهُ ضَرُورَةً، وَالْوَطْءُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ بَيَانٌ إجْمَاعًا وَتَعَيَّنَتْ الَّتِي وَلَدَتْ لِلنِّكَاحِ، فَإِنْ نَفَى الْوَلَدَ لَاعَنَ وَلَا يَنْقَطِعُ النَّسَبُ عَنْهُ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ بِالْعَلُوقِ مِنْهُ مَانِعٌ مِنْ قَطْعِ النَّسَبِ عَنْهُ، فَإِنْ وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا لِأَقَلِّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِيقَاعِ وَالْأُخْرَى وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ تَعَيَّنَتْ صَاحِبَةُ الْأَقَلِّ لِلطَّلَاقِ لِأَنَّ وَطْأَهَا لَا يَصْلُحُ بَيَانًا وَوَطْءُ صَاحِبَةِ الْأَكْثَرِ يَصْلُحُ بَيَانًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلُودَ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ حَصَلَ بِعَلُوقٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، أَمَّا عَلُوقُ الْأُخْرَى فَمَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَكُونُ بَيَانًا، وَعِدَّةُ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ إنْ كَانَ بَيْنَ وِلَادَتِهَا وَبَيْنَ وِلَادَةِ صَاحِبَةِ الْأَكْثَرِ بَعْدَهَا أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِتَيَقُّنِنَا أَنَّ عَلُوقَ صَاحِبَةِ الْأَكْثَرِ وَوَطْأَهَا كَانَ قَبْلَ وِلَادَةِ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ وَقَبْلَ الْوِلَادَةِ هِيَ حَامِلٌ وَعِدَّةُ الْحَامِلِ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَعِدَّةُ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ بِالْحَيْضِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ وَطْءَ صَاحِبَةِ الْأَكْثَرِ كَانَ بَعْدَ وِلَادَةِ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ، وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِوَطْءِ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ أَوَّلًا طَلُقَتْ صَاحِبَةُ الْأَكْثَرِ بِإِقْرَارِهِ.
وَلَا يَصْدُقُ فِي صَرْفِ الطَّلَاقِ عَنْ صَاحِبَةِ الْأَقَلِّ فَطَلُقَتَا، كَمَنْ قَالَ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى بِهَذَا الِاسْمِ وَعَنَيْتهَا طَلُقَتَا، وَإِنْ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِيقَاعِ وَبَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ يَوْمٌ أَوْ أَكْثَرُ فَوِلَادَةُ الْأُولَى تَكُونُ بَيَانًا لِلطَّلَاقِ فِي الْأُخْرَى، فَإِذَا وَلَدَتْ الْأُخْرَى بَعْدَهُ لَا يَتَحَوَّلُ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ عَلَيْهَا إلَى غَيْرِهَا، وَصَارَ كَمَا إذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ الْأُخْرَى يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ آخِرًا كَذَا هُنَا، وَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ.
أَمَّا وَلَدُ الْأُولَى فَظَاهِرٌ، وَكَذَا وَلَدُ الثَّانِيَةِ لِاحْتِمَالِ وَطْئِهَا قَبْلَ عَلُوقِ الْأُولَى، وَتَنْقَضِي عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ وَلَدًا آخَرَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الثَّانِي مِنْهُ أَيْضًا وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِعَلُوقِ الْوَلَدِ الثَّانِي حَالَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَحَالَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَصِلْ الْمَاءُ إلَى رَحِمِهَا لِانْسِدَادِ فَمِهِ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَمْلَ انْفَتَحَ فَمُ الرَّحِمِ وَوَصَلَ الْمَاءُ إلَيْهِ فَعَلَقَ الْوَلَدُ الثَّانِي قَبْلَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ حَالُ نُزُولِ الثَّلَاثِ وَالشَّيْءُ فِي نُزُولِهِ غَيْرُ نَازِلٍ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ احْتِيَاطًا فَيَتَعَلَّقُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ مُعَلَّقًا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ الْكَافِي.
بَابُ الرَّجْعَةِ
(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي عِدَّتِهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَرْضَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ
بَابُ الرَّجْعَةِ)
وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي إعْقَابِ الطَّلَاقِ بِالرَّجْعَةِ ظَاهِرٌ، وَالرَّجْعَةُ تَتَعَدَّى وَلَا تَتَعَدَّى، يُقَالُ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَرَجَعْته إلَى أَهْلِهِ: أَيْ رَدَدْته، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} وَيُقَالُ فِي مَصْدَرِهِ أَيْضًا رَجْعًا وَرُجُوعًا وَمَرْجِعًا وَالرَّجْعِيُّ وَالرَّجْعَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَرُبَّمَا قَالُوا إلَى اللَّهِ رُجْعَانُك (قَوْلُهُ رَجْعِيَّةً) الرَّجْعِيُّ تَطْلِيقُ الْمَدْخُولِ بِهَا مَا دُونَ الثَّلَاثِ بِلَا مَالٍ، أَوْ مَا دُونَ الثِّنْتَيْنِ إنْ كَانَتْ أَمَةً بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ وَالْمُشَبَّهِ أَوْ بِبَعْضِ الْكِنَايَاتِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْكِنَايَاتِ.
وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِالْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ فَلَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِنَايَاتٍ رَجْعِيَّةٍ غَيْرِهَا فَمَا فَقَدَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَلَيْسَ بِرَجْعِيٍّ كَالثَّلَاثِ وَغَالِبِ الْكِنَايَاتِ وَلَوْ بِلَا مَالٍ وَكَالْوَاحِدَةِ عَلَى مَالٍ وَقَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا لَا عِدَّةَ لَهَا قَبْلَهُ فَلَا تُتَصَوَّرُ الرَّجْعَةُ، وَالْمَوْصُوفُ وَالْمُشَبَّهُ مُسْتَدْرَكَانِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بَعْدَ قَوْلِهِ {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ثُمَّ قَوْلِهِ {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} وَالْمُرَادُ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: أَيْ فَقُرْبُ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ.
فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ اسْتِدَامَةُ الْقَائِمِ لَا إعَادَةُ الزَّائِلِ، وَعَلَى شَرْعِيَّةِ الرَّجْعَةِ شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ فِي التَّقْدِيرَيْنِ وقَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ تَوَقُّفِ الرَّجْعَةِ عَلَى رِضَاهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ أَحَقَّ مُطْلَقًا: أَيْ هُوَ الَّذِي لَهُ حَقُّ الرَّجْعَةِ وَإِنْ أَبَتْ هِيَ وَأَبُوهَا، وَحِكْمَتُهُ اسْتِدْرَاكُ الزَّوْجِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّهِ مِنْ النِّكَاحِ لَا لِغَيْرِهِ لَا أَنَّهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَقُّ مِنْهُ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْعِدَّةِ إذْ لَا يَكُونُ بَعْدَهَا بَعْلًا، وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ النِّكَاحِ أَيْضًا، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَنَّ إطْلَاقَ الرَّدِّ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْبَعْلِ مُجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ لِأَنَّ الرَّدَّ يَصْدُقُ حَقِيقَةً بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ زَوَالِ الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَالَ بَعْدُ.
يُقَالُ رَدَّ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فِي بَيْعٍ فِيهِ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ كَمَا يُقَالُ بَعْدَ الزَّوَالِ يَجُوزُ رَدُّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ، وَلَوْ تَعَارَضَا كَانَ حَمْلُ الرَّدِّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُجَازٌ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِيقَةِ الْبَعْلِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْبَعْلِ مُجَازًا مُحَافَظَةً عَلَى حَقِيقَةِ الرَّدِّ لِتَأَيُّدِ إرَادَةِ حَقِيقَةِ الْبَعْلِ بِجَعْلِ الرَّجْعَةِ إمْسَاكًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أَوْ نَقُولُ: يُمْكِنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَقِيقَتَيْنِ بِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالرَّدِّ
وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى إمْسَاكًا وَهُوَ الْإِبْقَاءُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِدَامَةُ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا
(وَالرَّجْعَةُ أَنْ يَقُولَ رَاجَعْتُك أَوْ رَاجَعْت امْرَأَتِي) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّجْعَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ قَالَ (أَوْ يَطَأَهَا أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ) وَهَذَا عِنْدَنَا
الرَّدَّ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ كَوْنُهَا بِحَيْثُ لَا تَحْرُمُ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ فَلَا إشْكَالَ حِينَئِذٍ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ) إمْسَاكٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا وَهُوَ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَزُولُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا مِلْكَ بَعْدَ الْعِدَّةِ لِيُسْتَدَامَ، وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ كَمَا وَقَعَ الْإِطْلَاقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى رِضَاهَا وَعَدَمِهِ كَذَلِكَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قِيَامِ الْعِدَّةِ وَعَدَمِهَا.
أَجَابَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ قِيَامِهَا ضَرُورِيٌّ لِمَا قُلْنَا
(قَوْلُهُ وَهَذَا صَرِيحٌ) أَلْفَاظُ الرَّجْعَةِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ رَاجَعْتُك فِي حَالِ خِطَابِهَا وَرَاجَعْت امْرَأَتِي فِي حَالِ غِيبَتِهَا وَحُضُورِهَا أَيْضًا، وَمِنْ الصَّرِيحِ ارْتَجَعْتُك وَرَجَعْتُك وَرَدَدْتُك وَأَمْسَكْتُك.
وَفِي الْمُحِيطِ: مَسَكْتُك بِمَنْزِلَةٍ أَمْسَكْتُك وَهُمَا لُغَتَانِ، فَهَذِهِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِهَا بِلَا نِيَّةٍ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يُشْتَرَطُ فِي رَدَدْتُك ذِكْرُ الصِّلَةِ فَيَقُولُ إلَيَّ أَوْ إلَى نِكَاحِي أَوْ إلَى عِصْمَتِي، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِارْتِجَاعِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَهُوَ حَسَنٌ إذْ مُطْلَقُهُ يُسْتَعْمَلُ لِضِدِّ الْقَبُولِ.
وَالْكِنَايَاتُ أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْت وَأَنْتِ امْرَأَتِي فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ.
لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَصْدُقُ عَلَى إرَادَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمِيرَاثِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِمْسَاكِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَكُونُ رَجْعَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ رَجْعَةٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ نَأْخُذُ.
وَفِي الْيَنَابِيعِ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا فِي الْقُنْيَةِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَزَوُّجَ الزَّوْجَةِ مَلْغِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا فِي ضِمْنِهِ.
قُلْنَا نَحْنُ لَا نَعْتَبِرُهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي ضِمْنِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ التَّزَوُّجِ مَجَازًا فِي مَعْنَى الْإِمْسَاكِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: لَوْ قَالَ رَاجَعْتُك بِمَهْرِ أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ قَبِلْت صَحَّ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَهْرِ فَيُشْتَرَطُ قَبُولُهَا.
وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ وَالْحَاوِي قَالَ: رَاجَعْتُك عَلَى أَلْفٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَجِبُ الْأَلْفُ وَلَا تَصِيرُ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ كَمَا فِي الْإِقَالَةِ (قَوْلُهُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ) كَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدَ قَوْلَيْ مَالِكٍ خِلَافًا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَوَاهِرِ فِي حُصُولِ الرَّجْعَةِ بِرَاجَعْتُكِ بِلَا نِيَّةٍ قَوْلَانِ لِمَالِكٍ كَمَا فِي نِكَاحِ الْهَازِلِ (قَوْلُهُ أَوْ يُقَبِّلُهَا أَوْ يَلْمِسُهَا بِشَهْوَةٍ) يُحْتَمَلُ كَوْنُ الشَّهْوَةِ قَيْدًا فِي اللَّمْسِ لَا فِيهِمَا لِأَنَّهُ أَفْرَدَ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ بِقَيْدِ الشَّهْوَةِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ غَرَضِهِ التَّشْرِيكُ فِي الْقَيْدِ لَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ بَعْدَ الْكُلِّ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ: التَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى دَاخِلِ فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ رَجْعَةٌ، وَلَمْ يُقَيِّدْ التَّقْبِيلَ فِي الْكِتَابِ.
وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى دُبْرِهَا فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَفِي الْبَدَائِعِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يُكْرَهُ التَّقْبِيلُ وَاللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَدَلَّ أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ رَجْعَةً.
وَفِي الْخُلَاصَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَكَّنَهَا أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ فَقَيَّدَ الْقُبْلَةَ بِالشَّهْوَةِ، لَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ إنَّ الْفِعْلَ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِدَامَةِ وَالدَّلَالَةُ إنَّمَا تَقُومُ بِفِعْلٍ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ: أَيْ يَخْتَصُّ حُكْمُهُ بِهِ يُفِيدُ عَدَمَ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ حَتَّى يَحْرُمَ وَطْؤُهَا، وَعِنْدَنَا هُوَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَسَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْفِعْلُ قَدْ يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِدَامَةِ كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ،
اشْتِرَاطِهَا فِي الْقُبْلَةِ لِأَنَّ الْقُبْلَةَ مُطْلَقًا يَخْتَصُّ حُكْمُهَا بِهِ، بِخِلَافِ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ فَإِنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِهِ إلَّا إذَا كَانَا عَنْ شَهْوَةٍ لِمَا يُذْكَرُ فَلَا يَكُونَانِ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ دَلِيلًا، وَلَا يَكُونُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إلَى غَيْرِ دَاخِلِ الْفَرْجِ مِنْهَا رَجْعَةً.
هَذَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ مِنْهَا أَوْ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ رَجْعَةً إذَا كَانَ مَا صَدَرَ مِنْهَا بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهَا اتِّفَاقًا، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَاسًا مِنْهَا بِأَنْ كَانَ نَائِمًا مَثَلًا لَا بِتَمْكِينِهِ، أَوْ فَعَلَتْهُ وَهُوَ مُكْرَهٌ أَوْ مَعْتُوهٌ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ انْتَهَى، وَعَنْ مُحَمَّد كَقَوْلٍ أَبِي يُوسُفَ.
وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ الِاعْتِبَارُ بِالْمُصَاهَرَةِ لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ حُرْمَتِهَا بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ مِنْهَا أَوْ مِنْهُ، وَكَذَا إذَا أَدْخَلَتْ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ كَانَتْ رَجْعَةً اتِّفَاقًا، كَالْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ إذَا فَعَلَتْ بِالْبَائِعِ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ.
وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بِأَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ قَدْ يَكُونَانِ بِفِعْلِهَا كَمَا إذَا جَنَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ بِفِعْلِهَا قَطُّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَارِيَةِ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِفِعْلِهَا، هَذَا إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي الشَّهْوَةِ، فَإِذَا أَنْكَرَ لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ، وَكَذَا إنْ مَاتَ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ، وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشَّهْوَةِ لِأَنَّهَا غَيْبٌ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَلَا تَكُونُ الْخَلْوَة وَلَا الْمُسَافَرَةُ بِهَا رَجْعَةً إلَّا عِنْدَ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، وَتُكْرَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا كَكَرَاهَةِ خُرُوجِهَا مِنْ الْمَنْزِلِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُكْرَهُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ (قَوْلُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْأَخْرَسِ وَمُعْتَقَلِ اللِّسَانِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ سَبَبُ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ أَوْ سَبَبُ اسْتِحْدَاثِ الْحِلِّ الزَّائِلِ.
قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَقَالَ بِالثَّانِي، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي حِلُّ الْوَطْءِ وَحُرْمَتُهُ، فَعِنْدَنَا يَحِلُّ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَكُونُ الْحِلُّ قَائِمًا قَبْلَ انْقِضَائِهَا، وَعِنْدَهُ إنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ وَاسْتِيفَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَشَرْطٌ عِنْدَهُ عَلَى قَوْلٍ لَهُ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَذَا فِي التُّحْفَةِ (قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَمَّى إمْسَاكًا (قَوْلُهُ وَسَنُقَرِّرُهُ) أَيْ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهَا: أَيْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةٌ إلَى آخِرِهِ، وَهُنَاكَ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ) يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ الْمُخْتَصِّ
وَالدَّلَالَةُ فِعْلٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ وَهَذِهِ الْأَفَاعِيلُ تَخْتَصُّ بِهِ خُصُوصًا فِي الْحُرَّةِ، بِخِلَافِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِدُونِ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْقَابِلَةِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا، وَالنَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ الْمُسَاكِنَيْنِ وَالزَّوْجُ يُسَاكِنُهَا فِي الْعِدَّةِ، فَلَوْ كَانَ رَجْعَةً لَطَلَّقَهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا.
قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ،
بِالْمِلْكِ كَمَنْ بَاعَ أَمَتَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ وَطِئَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فِيهَا فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ، فَكَمَا أَنَّ سُقُوطَ الْخِيَارِ بِاسْتِدَامَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ يَثْبُتُ بِالْفِعْلِ كَذَلِكَ اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بَعْدَ سَبَبِ الزَّوَالِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالطَّلَاقُ يُزِيلُهُ إلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ فَكَانَ أَضْعَفَ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ.
وَبِقَوْلِنَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْجِمَاعُ رَجْعَةٌ عِنْدَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَجَابِرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ: إنْ أَرَادَ بِهِ الرَّجْعَةَ فَهُوَ رَجْعَةٌ (قَوْلُهُ خُصُوصًا فِي الْحُرَّةِ) فَإِنَّهُ لَا سَبَبَ لِحِلِّهَا فِيهَا مُطْلَقًا إلَّا النِّكَاحُ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ فِيهَا بِأَمْرَيْنِ (قَوْلُهُ وَغَيْرِهِمَا) كَالْخَاتِنَةِ وَالشَّاهِدِ عَلَى الزِّنَا (قَوْلُهُ فَلَوْ كَانَ) أَيْ النَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ رَجْعَةً لَطَلَّقَهَا لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الطَّلَاقُ، وَهَذَا التَّعْمِيمُ يُفِيدُ أَنَّ النَّظَرَ إلَى دُبْرِهَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً وَبِهِ صَرَّحَ فِي نِكَاحِ الزِّيَادَاتِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَطْءِ فِي الدُّبْرِ أَشَارَ الْقُدُورِيُّ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ رَجْعَةٌ إذْ هُوَ مَسٌّ بِشَهْوَةٍ وَزِيَادَةٌ لَا تَرْفَعُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَرَجْعَةُ الْمَجْنُونِ بِالْفِعْلِ وَلَا تَصِحُّ بِالْقَوْلِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ.
وَقِيلَ بِهِمَا.
وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ ثُمَّ قَالَ وَطِئْتهَا وَأَنْكَرَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ.
وَلَوْ قَالَ لَمْ أَدْخُلْ بِهَا لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا.
وَتَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتُهَا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَاطِلٌ كَالنِّكَاحِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّهُ يُرَاجِعُ بِالْقَوْلِ.
وَفِي الْيَنَابِيعِ: الرَّجْعَةُ سُنِّيَّةٌ وَبِدْعِيَّةٌ،
فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا تَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ. وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ كَمَا فِي الْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ، إلَّا أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَيْ لَا يَجْرِيَ التَّنَاكُرُ فِيهَا، وَمَا تَلَاهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْمُفَارَقَةِ وَهُوَ فِيهَا مُسْتَحَبٌّ
فَالسُّنِّيَّةُ بِالْقَوْلِ
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ (قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ) الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَا إشْهَادٍ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ كَقَوْلِنَا فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةً عَنْهُ، وَكَذَا الْمَنْسُوبُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ لَهُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبَسِيطِ وَفِي الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ: الْإِشْهَادُ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي الرَّوْضَةِ لَهُمْ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى الْأَظْهَرِ (قَوْلُهُ وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ فِي الرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْإِشْهَادِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَوْلُهُ {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وقَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وَقَوْلُهُ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مُرْ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا» وَهَذِهِ النُّصُوصُ سَاكِتَةٌ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ فَاشْتِرَاطُهُ إثْبَاتٌ بِلَا دَلِيلٍ وَمَا تُلِيَ فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَيْهِ إذْ الْأَمْرُ فِيهِ لِلنَّدْبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَ الرَّجْعَةَ بِالْمُفَارِقَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَدْ أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ فِي جُمْلَتَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ كَالْوُجُوبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَالْمَجَازِيُّ كَالنَّدْبِ، فَإِذَا ثَبَتَ إرَادَةُ أَحَدِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا لَزِمَ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ وَإِلَّا لَزِمَ تَعْمِيمُ اللَّفْظِ فِي الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا وَقَدْ ثَبَتَ إرَادَةُ النَّدْبِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُفَارَقَةِ فَلَزِمَ إرَادَتُهُ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ، فَيَكُونُ النَّدْبُ الْمُرَادُ بِهِ شَامِلًا لَهُمَا وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيُجِيزُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَنْتَهِضُ هَذَا عَلَيْهِ إلَّا بِانْتِهَاضِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي الْأُصُولِ، وَمَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ لَا حَاجَةَ
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا كَيْ لَا تَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ (وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَقَالَ كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ فَصَدَّقَتْهُ فَهِيَ رَجْعَةٌ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا) لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ فَكَانَ مُتَّهَمًا إلَّا أَنَّ بِالتَّصْدِيقِ تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ
. (وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ قَدْ رَاجَعْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَقَالَا: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ الْعِدَّةَ إذْ هِيَ بَاقِيَةٌ ظَاهِرًا إلَى أَنْ تُخْبِرَ وَقَدْ سَبَقَتْهُ الرَّجْعَةُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهَا صَادَفَتْ حَالَةَ
إلَى إيرَادِ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ فَكَيْفَ قُلْتُمْ بِهِ هُنَا وَالِاشْتِغَالُ بِجَوَابِهِ لِلْمُتَأَمِّلِ أَصْلًا؟ (قَوْلُهُ كَيْ لَا تَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ) قِيلَ عَلَيْهِ لَا مَعْصِيَةَ بِدُونِ عِلْمِهَا بِالرَّجْعَةِ.
وَدَفَعَ بِأَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ سُؤَالٍ تَقَعُ فِي الْمَعْصِيَةِ لِتَقْصِيرِهَا فِي الْأَمْرِ.
وَاسْتَشْكَلَ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا إيجَابٌ لِلسُّؤَالِ عَلَيْهَا وَإِثْبَاتُ الْمَعْصِيَةِ بِالْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهَا، وَلَيْسَ السُّؤَالُ إلَّا لِدَفْعِ مَا هُوَ مُتَوَهَّمُ الْوُجُودِ بَعْدَ تَحَقُّقِ عَدَمِهِ فَهُوَ وِزَانُ إعْلَامِهِ إيَّاهَا إذْ هُوَ أَيْضًا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَكَذَا سُؤَالُهَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّهَا فِي النِّكَاحِ كَذَلِكَ، وَلَوْ رَاجَعَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ فَهِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ دَخَلَ بِهَا الْأَوَّلُ
أَوْ لَا (قَوْلُهُ وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ إلَخْ) هُنَا مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى إذَا لَمْ يُظْهِرْ رَجْعَتَهَا فِي الْعِدَّةِ حَتَّى انْقَضَتْ فَقَالَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِانْقِضَائِهَا كُنْت رَاجَعْتُك فِيهَا.
وَالثَّانِيَةُ قَالَ قَبْلَ الْعِلْمِ رَاجَعْتُك عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ.
أَمَّا الْأُولَى فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ أَمَةً أَوْ حُرَّةً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ أَوْ تُكَذِّبَهُ،
الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الِانْقِضَاءِ فَإِذَا أَخْبَرَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى سَبْقِ الِانْقِضَاءِ وَأَقْرَبُ أَحْوَالِهِ حَالُ قَوْلِ الزَّوْجِ وَمَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَالْمُرَاجَعَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ
فَفِي الْحُرَّةِ إنْ صَدَّقَتْهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا فَالرَّجْعَةُ أَوْلَى، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لَا تَثْبُتُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ وَالْخَبَرُ مُجَرَّدُ دَعْوَى تَمَلُّكِ بُضْعِهَا بَعْدَ ظُهُورِ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ، وَمُجَرَّدُ دَعْوَى مِلْكٍ فِي وَقْتٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِيهِ لَا يَجُوزُ قَبُولُهَا مَعَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ فِيهِ إنْشَاؤُهُ كَأَنْ يَقُولَ فِي الْعِدَّةِ كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ تَثْبُتُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّهَمًا فِيهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يُنْشِئَهُ فِي الْحَالِ أَوْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إنْشَاءً إنْ كَانَتْ الصِّيغَةُ تَحْتَمِلُهُ، فَصَارَ كَالْوَكِيلِ إذَا أَخْبَرَ قَبْلَ الْعَزْلِ بِبَيْعِ الْعَيْنِ يُصَدَّقُ لِمِلْكِهِ الْإِنْشَاءَ، وَبَعْدَ مَا بَلَغَهُ الْعَزْلُ لَوْ أَخْبَرَ بِبَيْعِهِ سَابِقًا وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ حَيْثُ لَمْ يُخْبِرْ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ إذَا كَذَّبَتْهُ بَلْ تَذْهَبُ إلَى حَالِهَا بِلَا يَمِينٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ إحْدَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي لَا يَمِينَ فِيهَا عِنْدَهُ وَفِي الْأَمَةِ إذَا كَذَّبَتْهُ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمَوْلَى.
وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَقَوْلِهِمَا، وَسَتَأْتِي أَوْجُهُ الْأَقْوَالِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِلْحُرَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِلْأَمَةِ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ إذَا قَالَ قَبِلَ الِانْقِضَاءَ فَلْنُوَافِقْهُ فَنَقُولُ: وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، فَإِنْ قَالَتْ مُجِيبَةً انْقَضَتْ عِدَّتِي مَفْصُولًا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ سُكُوتِهَا وَعَدَمِ جَوَابِهَا عَلَى الْفَوْرِ.
وَلَوْ قِيلَ وَجَبَ إحَالَتُهُ عَلَى أَقْرَبِ حَالِ التَّكَلُّمِ وَذَلِكَ حَالَ سُكُوتِهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ وَهُوَ بَعْدَ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ أَمْكَنُ، وَإِنْ قَالَتْهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ لَا تَثْبُتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ الِانْقِضَاءَ، فَلَوْ لَمْ تَحْتَمِلْهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ إلَّا إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ وَثَبَتَ ذَلِكَ.
وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ ظَاهِرًا لِبَقَائِهَا ظَاهِرًا مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَائِهَا فَتَثْبُتُ كَمَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ لَوْ قَالَ طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً انْقَضَتْ عِدَّتِي لَحِقَهَا طَلْقَةٌ أُخْرَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ قِيَامَهَا حَالَ كَلَامِهِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ شَرْعًا فَوَجَبَ قَبُولُ إخْبَارِهَا وَأَقْرَبُ زَمَانٍ يُحَالُ عَلَيْهِ خَبَرُهَا زَمَانُ تَكَلُّمِهِ فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُقَارِنَةً لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ، كَمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي قَوْلِهِ طَالِقٌ مَعَ انْقِضَاءِ عِدَّتِك، وَعَلَى هَذَا لَوْ اتَّفَقَ أَنْ خَرَجَ كَلَامُ الرَّجُلِ مَعَ قَوْلِهَا انْقَضَتْ عِدَّتِي يَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الرَّجْعَةُ، وَمَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ الْمَقِيسِ لَهُمَا عَلَيْهَا مَمْنُوعَةٌ فَلَا يَقَعُ عِنْدَهُ.
قِيلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ لِإِقْرَارِهِ بِالْوُقُوعِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنْشَاءٌ وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ لِيَكُونَ إقْرَارًا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ أَنْشَأَ فِي وَقْتٍ لَا يَصِحُّ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ.
نَعَمْ لَوْ عَرَفَ أَنَّ
(وَإِذْ قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا: قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى) لِأَنَّ بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لَهُ، فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ لِلزَّوْجِ فَشَابَهُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ يَقُولُ حُكْمُ الرَّجْعَةِ يُبْتَنَى عَلَى الْعِدَّةِ وَالْقَوْلُ فِي الْعِدَّةِ قَوْلُهَا، فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى،
مُقْتَضَى الْفِقْهِ كَوْنُ إيقَاعِهِ وُجِدَ فِي حَالِ الِانْقِضَاءِ فَلَجَّ وَقَالَ لَا أَعْتَبِرُ هَذَا بَلْ وَقَعَ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ وَالْأَوْجَهُ فِيمَا إذَا ادَّعَى صِحِّيَّتَهُ إنْ طَلَّقْتُك وَنَحْوَهُ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ ظَاهِرٌ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ يَحْتَمِلُهُ لِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَرَاجَعْتُك بِالْعَكْسِ.
فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ هَذَا فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْمَنْعِ، وَتُسْتَحْلَفُ الْمَرْأَةُ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهَا كَانَتْ مُنْقَضِيَةً حَالَ إخْبَارِهَا.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الرَّجْعَةِ حَيْثُ لَمْ تُسْتَحْلَفْ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي الْعِدَّةِ أَنَّ إلْزَامَ الْيَمِينِ لِفَائِدَةِ النُّكُولِ وَهُوَ بَذْلٌ عِنْدَهُ وَبَذْلُ الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالِاحْتِبَاسِ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ جَائِزٌ، بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَإِنْ بَذْلَهَا لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إذَا نَكَلَتْ هُنَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْعِدَّةِ لِنُكُولِهَا ضَرُورَةً كَثُبُوتِ النَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى شَهَادَتِهَا بِالْوِلَادَةِ.
(قَوْلُهُ إذَا قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقَوْلُ لَهَا عِنْدَهُ، وَقَالَا: لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ) وَهُوَ مَنَافِعُ بُضْعِهَا لِلزَّوْجِ فَيُقْبَلُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ.
وَلَا يَخْفَى قِيَامُ الْفَرْقِ بَيْنَ إقْرَارِهِ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ وَإِقْرَارِهِ بِأَنَّ الزَّوْجَ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِإِنْكَاحِهَا حَالَ غَيْبَتِهَا وَعَدَمِ إذْنِهَا فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فِي دَعْوَى الْمُرَاجَعَةِ وَهُوَ يَقُولُ إنَّ حُكْمَ الرَّجْعَةِ مِنْ الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا يَنْبَنِي عَلَى الْعِدَّةِ مِنْ قِيَامِهَا وَانْقِضَائِهَا وَهِيَ أَمِينَةٌ فِيهَا مُصَدَّقَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِالِانْقِضَاءِ وَالْبَقَاءِ لَا قَوْلَ لِلْمَوْلَى فِيهَا أَصْلًا، فَكَذَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا مُلَازَمَةَ يَحْكُمُ بِهَا الْعَقْلُ بَيْنَ كَوْنِ الْقَوْلِ قَوْلَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَيْنَ كَوْنِهَا لَهَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا إلَّا إذَا وَقَعَ لَازِمًا لِوُجُودِ قَوْلِهَا فِي الْعِدَّةِ قَوْلًا: أَيْ بِأَنْ تَدَّعِي فِيهَا الثُّبُوتَ أَوْ الِانْقِضَاءَ فَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ وَعَدَمُهَا لَازِمًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ قَوْلَهَا فِيهَا مَا ثَبَتَ إلَّا لِأَجْلِ أَنَّ الْقَوْلَ لَهَا فِي الْمُسْتَلْزَمِ لَا لِمَعْنَى تَقْتَضِيهِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي سَمَاعَ قَوْلِهَا فِي الرَّجْعَةِ ابْتِدَاءً كَمَا هُوَ هُنَا فَإِنَّهَا لَمْ تَدَّعِ فِي الْعِدَّةِ دَعْوَى يُخَالِفُهَا فِيهَا الزَّوْجُ بَلْ اتَّفَقَا عَلَى انْقِضَائِهَا وَوَقْتِ انْقِضَائِهَا، وَإِنَّمَا ادَّعَى فِي حَالِ كَوْنِهِ لَا مِلْكَ لَهُ عَلَيْهَا أَنَّهُ رَاجَعَهَا قَبْلَ الِانْقِضَاءِ، وَهِيَ مُنْكِرَةٌ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهَا (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ) بِأَنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى وَصَدَّقَتْهُ فَالْقَوْلُ لِلْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ.
وَكَذَا عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلْمَوْلَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِهِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ فِي الرَّجْعَةِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَهَا وَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ (وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُك فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا) لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ إذْ هِيَ الْعَالِمَةُ بِهِ
. (وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَعَشْرَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ، وَإِنْ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٍ) لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا مَزِيدَ لَهُ عَلَى الْعَشَرَةِ، فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَانْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ، وَفِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ يُحْتَمَلُ عَوْدُ الدَّمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْتَضِدَ الِانْقِطَاعُ بِحَقِيقَةِ الِاغْتِسَالِ أَوْ بِلُزُومِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ بِمُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً لِأَنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّهَا أَمَارَةٌ زَائِدَةٌ فَاكْتَفَى بِالِانْقِطَاعِ، وَتَنْقَطِعُ إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: إذَا تَيَمَّمَتْ انْقَطَعَتْ، وَهَذَا قِيَاسٌ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ
وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَمَّا فِي الْيَنَابِيعِ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ حَتَّى يَتَّفِقَ الْمَوْلَى وَالْأَمَةُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا لَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ إلَّا إذَا اتَّفَقَا، إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِالرَّجْعَةِ وَلَا بِعَدَمِهَا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَقُلْ فِي الصَّحِيحِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ، وَيَسْتَلْزِمُ ظُهُورُ مِلْكِ الْمَوْلَى الْمُتْعَةَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِهِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا كَذَّبَتْهُ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الرَّجْعَةِ وَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهَا (قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى لَمْ تَنْقَضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ إذْ هِيَ الْعَالِمَةُ بِهِ) دُونَ غَيْرِهَا: أَيْ بِالِانْقِضَاءِ وَلِذَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إنِّي حَائِضٌ حَتَّى لَا يَحِلَّ قُرْبَانُهَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِلسَّيِّدِ.
وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْتُ: يَعْنِي قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي بِالْوِلَادَةِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ قَالَتْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا مُسْتَبِينَ بَعْضِ الْخَلْقِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطْلُبَ يَمِينَهَا عَلَى أَنَّهَا أَسْقَطَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ
(قَوْلُهُ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ) أَيْ بِأَنْ يَخْرُجَ وَقْتُهَا الَّذِي طَهُرَتْ فِيهِ فَتَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، فَإِنْ كَانَ الطُّهْرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَهُوَ ذَلِكَ الزَّمَنُ الْيَسِيرُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا حَتَّى يَخْرُجَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَهُرَتْ فِي وَقْتٍ مُهْمَلٍ كَبَعْدِ الشُّرُوقِ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ إلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً) فَإِنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّهَا أَمَارَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ زَائِدَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ لَيْسَا وَاجِبَيْنِ عَلَيْهَا، فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ وَإِنْ كَانَ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ حَلَّ وَطْؤُهَا وَانْقَطَعَتْ رَجْعَتُهَا (قَوْلُهُ وَتَنْقَطِعُ إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ) أَيْ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا
حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ بِالِاغْتِسَالِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مُلَوَّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ طَهَارَةً ضَرُورَةَ أَنْ لَا تَتَضَاعَفَ الْوَاجِبَاتُ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَتَحَقَّقُ حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ،
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ) بِرَفْعِ (يَثْبُتُ) لِأَنَّ حَتَّى هُنَا لَيْسَتْ لِلْغَايَةِ بَلْ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْغُسْلِ فَكَانَ التَّيَمُّمُ مِثْلُهُ، ثُمَّ انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ مِمَّا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ، وَلِذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ وَبَقِيَتْ لَمْعَةٌ انْقَطَعَتْ، وَكَذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَلَمْ تَتَيَمَّمْ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهِ فَانْقِطَاعُهَا بِالتَّيَمُّمِ وَبِهِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ أَوْلَى.
وَلَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِآخَرَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ وَإِنْ قَامَ مَقَامَ الْغُسْلِ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ.
وَالِاحْتِيَاطُ فِي التَّزَوُّجِ عَدَمُ جَوَازِهِ مَعَهُ وَفِي الرَّجْعَةِ انْقِطَاعُهَا مَعَهُ حَتَّى لَا يَأْتِيَهَا رَجُلٌ فِي شُبْهَةٍ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ مُلَوِّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ) أَيْ حَقِيقَةً لَا شَرْعًا كَذَا فِي الدِّرَايَةِ.
وَلْنُفَصِّلْ هَذَا الْمَقَامَ لِيَنْدَفِعَ مَا يُخَالُ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ لِلْأَوْهَامِ مُسْتَعِينًا فِيهِ بِالْمَلِكِ الْعَلَّامِ مُصَلِّيًا عَلَى سَيِّدِنَا نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ أَفْضَلِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ فَنَقُولُ: هَذَا الْبَحْثُ لَهُ ثَلَاثَةُ مَوَارِد فِي الْفِقْهِ: أَوَّلُهَا بَابُ التَّيَمُّمِ فِي الْبَحْثِ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْفَرَائِضِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ أَوْ لَا، فَقَالَ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ تُثْبِتُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ بِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَلَا يَبْقَى بَعْدَهَا.
فَاتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا فِي جَوَابِهِ عَلَى أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ تَعْمَلُ عَمَلَ الْمَاءِ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ.
وَصَرَّحَ فِي النِّهَايَةِ فِي تَقْرِيرِهِ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ وَهُوَ الْعَدَمُ كَالْمَاءِ، إلَّا أَنَّهُ بِالْمَاءِ مُقَدَّرٌ إلَى وُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُنَا إلَى شَيْئَيْنِ الْحَدَثِ وَالْمَاءِ.
ثَانِيهَا بَابُ الْإِمَامَةِ فِي مَسْأَلَةِ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ فَافْتَرَقُوا فِيهَا، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ، وَقَالَا: مُطْلَقَةٌ فَيَجُوزُ.
وَثَالِثُهَا هُنَا فَافْتَرَقُوا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ عَكَسُوا كَلِمَتَهُمْ، فَتَرَاءَى لِمُحَمَّدٍ وَجْهَانِ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ فِي الْإِمَامَةِ ضَرُورِيَّةٌ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي جَوَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ بَعْدَمَا قَالَ فِي الْإِمَامَةِ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ قَالَ هُنَا مُطْلَقَةٌ.
وَلَهُمَا وَجْهٌ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا هُنَاكَ مُطْلَقَةٌ وَهُنَا ضَرُورِيَّةٌ مُلَوِّثَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْ الشَّارِحِينَ يَأْخُذُ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ بِيَقِينٍ، وَلِهَذَا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ إنَّمَا يَصِيرُ حَدَثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فَقَدْ نَاقَضُوا جَمِيعًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ فِي التَّيَمُّمِ جِهَةَ الْإِطْلَاقِ وَجِهَةَ الضَّرُورَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ مُلَوَّثٌ فِي نَفْسِهِ مُغَبَّرٌ لَا يُطَهِّرُ: أَيْ لَا يُنَظِّفُ، فَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ يُزِيلُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا كَالْمَاءِ إلَى غَايَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ وُجُودِ الْحَدَثِ أَوْ الْمَاءِ، وَمَعْنَى الضَّرُورَةِ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ ضَرُورَةُ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ وَعَدَمُ تَفْوِيتِهَا وَتَكْثِيرٌ لِلْخَيْرَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ إكْرَامًا لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ، وَلِذَا كَانَ مِنْ الْخَصَائِصِ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْإِخْلَالَ بِمَعْنَى الْإِطْلَاقِ إذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُ بَيَانُ سَبَبِ شَرْعِيَّتِهِ.
وَلَمَّا شُرِعَ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا شُرِعَ كَمَا شُرِعَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ ضَعْفَهُ وَانْحِطَاطَهُ عَنْ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُلَوَّثًا وَمُغَبَّرًا فَهُوَ بِسَبَبِ عَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ ابْتِدَاءً كَالْمَاءِ حَتَّى يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْوُضُوءِ تَحْسِينَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَتَنْظِيفَهَا لِلْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا وَالتُّرَابُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ بَلْ ضِدُّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِلضَّرُورَةِ الْمُتَحَقِّقَةِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ تَكْرِيمًا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَذِكْرُ التَّلْوِيثِ وَعَدَمِ تَطْهِيرِهِ فِي نَفْسِهِ ذِكْرُ سَبَبِ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا لِلْحَاجَةِ الْمَذْكُورَةِ.
إذَا عَلِمْت هَذَا فَقَوْلُهُمْ مَعَ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا مُطْلَقَةٌ: أَيْ تُزِيلُ الْحَدَثَ، وَيُسْتَبَاحُ بِهِ كُلُّ مَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَاءِ عَلَى
وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا ضَرُورِيَّةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ، ثُمَّ قِيلَ تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ عِنْدَهُمَا،
الْوَجْهِ الَّذِي يُسْتَبَاحُ بِهِ لِيَنْتَفِيَ بِهِ قَصْرُ الصِّحَّةِ بِهِ عَلَى فَرْضٍ وَاحِدٍ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمْ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ عَلَى مَا سَمِعْت، فَمَنْ قَالَ إنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي مَوْضِعٍ وَقَالَ فِي آخَرَ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا أَصْلًا.
وَقَوْلُ مَنْ ذَكَرَ فِي تَقْرِيرِهِ إنَّهُ لَا يَرْفَعُ بِيَقِينٍ حَاصِلُهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَرْفَعُهُ بِيَقِينٍ، وَهَذَا يَرْفَعُهُ ظَنَّا لِلْخِلَافِ فِي أَنَّ الْحَدَثَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ مُجَرَّدُ مَانِعِيَّةٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَرْفَعُهُ إلَّا الْمَاءُ وَحِينَ قِيلَ بِهِ صَارَ مَحِلَّ اجْتِهَادٍ، غَيْرَ أَنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الظَّنُّ.
وَالثَّانِي لِمَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ الْحَدَث وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ قَائِمٌ بِالْأَعْضَاءِ زَائِدٌ عَلَى نَفْسِ الْمَانِعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي ارْتِفَاعِهِ بِالتَّيَمُّمِ، وَكَوْنُ الْحَدَثِ يَظْهَرُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ، إذْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدَثَ اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ إلَى غَايَةٍ ثُمَّ يُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَالدَّلِيلُ الْمُلْجِئُ إلَى هَذَا كَوْنُ رُؤْيَةِ الْمَاءِ لَا يُعْقَلُ وَجْهُ كَوْنِهَا نَفْسَهَا حَدَثًا ثُمَّ النَّظَرُ فِي وَجْهِ تَعْيِينِ كُلٍّ مِنْهُمْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ بِخُصُوصِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ فِيهِ، فَأَمَّا وَجْهُ تَخْصِيصِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّهُ رَأَى وُجُوبَ الِاحْتِيَاطِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ أَنْ لَا يَصِحَّ، وَلَا يُعَلَّلُ هَذَا إلَّا بِجِهَةِ الضَّرُورَةِ فَاعْتَبَرَ لَهَا فَيَقُولُ: لَمَّا كَانَتْ ضَرُورِيَّةً حَيْثُ كَانَتْ تُنْتَقَضُ بِوُجُودِ الْمَاءِ وَلَا تَثْبُتُ إلَّا مَعَ عَدَمِهِ كَانَتْ ضَعِيفَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ فَيَكُونُ الِاقْتِدَاءُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
وَفِي الرَّجْعَةِ الِاحْتِيَاطُ فِي انْقِطَاعِهَا وَلَا يُعَلَّلُ إلَّا بِجِهَةِ الْإِطْلَاقِ فَاعْتُبِرَ هَاهُنَا، وَهُمَا لَمَّا عَكَسَا الْحُكْمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَكْسِ الْمَبْنِيِّ فِيهِمَا بُدٌّ، وَالْبَاقِي بَعْدَ هَذَا إنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي التَّرْجِيحِ فِي الْخِلَافَيْنِ فِي الْحُكْمِ.
وَعِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الِاقْتِدَاءِ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الرَّجْعَةِ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمَا لِأَنَّ الضَّعْفَ الْكَائِنَ فِي طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ لَهُ أَثَرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عِنْدَنَا، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ شَيْءٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ وَتَنْقَطِعُ بِهِ الرَّجْعَةُ خُصُوصًا وَالِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ.
هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ اشْتِرَاطَ الْغُسْلِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ لِتَمَامِ الْعَادَةِ قَبْلَ الْعَشَرَةِ يَرُدُّهُ الدَّلِيلُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} لِخُلُوِّهِ عَنْ اشْتِرَاطِهِ، فَاشْتِرَاطُهُ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَرُدُّهُ النَّصُّ.
فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّ تَعَيُّنَ الِانْقِضَاءِ مُنْتَفٍ لِفَرْضِ أَنَّهُ لَيْسَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَاحْتِمَالُ عَوْدِ الدَّمِ دُفِعَ بِأَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ الزَّائِدَ لَا يُجْدِي قَطْعُ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا فِي الْوَاقِعِ وَلَا شَرْعًا، لِأَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ ثُمَّ عَادَ الدَّمُ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ كَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ بَعْدَ أَنْ قُلْنَا انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ فَكَانَ الْحَالُ مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ بَعْدَ الْغُسْلِ كَمَا هُوَ كَذَلِكَ قَبْلَهُ.
وَلَوْ رَاجَعَهَا بَعْدَ هَذَا الْغُسْلِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ بِهِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ ثُمَّ عَاوَدَهَا وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي التَّيَمُّمِ فَلَيْسَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا مُقَيَّدًا، هَكَذَا إذَا انْقَطَعَ لِأَقَلِّ مِنْ عَشَرَةٍ وَلَمْ يُعَاوِدْهَا أَوْ عَاوَدَهَا وَتَجَاوَزَهَا ظَهَرَ انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ مِنْ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذْ ذَاكَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الْغُسْلِ ظَهَرَ صِحَّتُهُ، وَإِنْ عَاوَدَهَا وَلَمْ يَتَجَاوَزْ فَالْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ بِالْعَكْسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا ضَرُورِيَّةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ) إذْ حِلُّ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْقِرَاءَةِ مِنْ ضَرُورَةِ حِلِّ الصَّلَاةِ وَمُقْتَضَاهُ،
وَقِيلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِيَتَقَرَّرَ حُكْمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ
(وَإِذَا اغْتَسَلَتْ وَنَسِيَتْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ، فَإِنْ كَانَ عُضْوًا فَمَا فَوْقَهُ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتْ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ أَنْ لَا تَبْقَى الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا غَسَلَتْ الْأَكْثَرَ. وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ أَنْ تَبْقَى لِأَنَّ حُكْمَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَجَزَّأُ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ لِقِلَّتِهِ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ، فَقُلْنَا بِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ
وَكَذَا اللَّمْسُ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مَسِّ الْمُصْحَفِ لِلْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِنِسْيَانٍ أَوْ غَلَطٍ أَوْ زِيَادَةِ إتْقَانٍ، وَكَذَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ (قَوْلُهُ وَقِيلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِيَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ فَسَادَهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مُحْتَمَلٌ لِاحْتِمَالِ رُؤْيَةِ الْمَاءِ فِيهَا، وَلَوْ تَيَمَّمَتْ وَقَرَأَتْ أَوْ مَسَّتْ الْمُصْحَفَ أَوْ دَخَلَتْ الْمَسْجِدَ، قَالَ الْكَرْخِيُّ: تَنْقَطِعُ بِهِ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ، وَقَالَ الرَّازِيّ: لَا تَنْقَطِعُ بِهِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتْ) وَذَلِكَ كَنَحْوِ الْأُصْبُعِ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَالْيَنَابِيعِ، وَكَذَا بَعْضُ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالْعُضْوِ الْكَامِلِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ (قَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ، إلَى قَوْلِهِ: وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ) الْحَاصِلُ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْعُضْوِ وَمَا دُونَهُ اسْتِحْسَانٌ، فَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ أَنْ تَنْقَطِعَ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ وَفِي بَعْضِ الْعُضْوِ أَنْ لَا تَنْقَطِعَ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ إلَى حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ.
وَلَا يَخْفَى تَأَتِّي كُلٌّ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ الْعُضْوِ وَمَا دُونَهُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَتَعَارَضَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قِيَاسَانِ: قِيَاسُ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ الرَّجْعَةِ، وَقِيَاسُ بَقَاءِ الْحَدَثِ بِعَيْنِهِ فَيُوجِبُ عَدَمَ انْقِطَاعِهَا.
وَمَبْنَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ الثَّانِي، إذْ حَاصِلُهُ اعْتِبَارُ ظُهُورِ عَدَمِ إصَابَةِ الْمَاءِ لِشَيْءٍ وَعَدَمُهُ، فَإِذَا ظَهَرَ عَدَمُهُ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ، وَإِذَا ظَهَرَ ثُبُوتُ الْإِصَابَةِ انْقَطَعَتْ غَيْرَ أَنَّ ظُهُورَ التَّرْكِ يَتَحَقَّقُ فِي الْعُضْوِ لَا فِي الْأَقَلِّ.
عَلَى أَنَّ كَوْنَ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ قِيَاسًا مَمْنُوعٌ، بَلْ إنَّمَا
لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ عَادَةً فَافْتَرَقَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّ تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ عُضْوٍ كَامِلٍ. وَعَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا دُونَ الْعُضْوِ لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِ اخْتِلَافًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ.
(وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ) لِأَنَّ الْحَبَلَ مَتَى ظَهَرَ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ جُعِلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوَطْءِ مِنْهُ وَكَذَا إذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ
يُحْكَمُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ خَاصَّةٍ بِخُصُوصِ دَلَائِلَ فِيهَا لَا أَنَّهُ مُطَّرِدٌ شَرْعًا مُمَهِّدٌ.
ثُمَّ وَجْهُ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ الْجَفَافُ إلَيْهِ بَعْدَ إصَابَةِ الْمَاءِ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَبِتَقْدِيرِهِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، فَحَكَمَ بِانْقِطَاعِهَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا، وَلَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ حَتَّى تَغْسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ احْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الْفُرُوجِ، حَتَّى إنَّهَا لَوْ تَيَقَّنَتْ عَدَمَ إصَابَةِ الْمَاءِ بِأَنْ عَلِمَتْ قَصْدَهَا إلَى إخْلَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَنْ الْإِصَابَةِ.
قُلْنَا: لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ فَإِنَّ احْتِمَالَ جَفَافِهِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ يَبْعُدُ فِيهِ جِدًّا لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْهُ مِمَّنْ هُوَ بِصَدَدِ تَعْمِيمِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فَلَمْ تَنْقَطِعْ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ الْعُضْوِ) الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ إذْ تَرْكُ كُلٍّ بِانْفِرَادِهِ كَتَرْكِ عُضْوٍ، وَعَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ كَتَرْكِ مَا دُونَ الْعُضْوِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِمَا) أَيْ فِي فَرْضِيَّةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ اخْتِلَافًا فَعَلَى تَقْدِيرِ الِافْتِرَاضِ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ السُّنَّةِ تَنْقَطِعُ، فَقَطَعْنَاهَا مُلَاحَظَةً لِهَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا، وَلَوْ بَقِيَ أَحَدُ الْمَنْخِرَيْنِ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ
(قَوْلُهُ وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ) قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا (وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الْحَبَلَ مَتَى ظَهَرَ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ التَّزَوُّجِ جُعِلَ مِنْهُ شَرْعًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ») وَإِذَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ فَقَدْ أَنْزَلَهُ وَاطِئًا وَبَطَلَ زَعْمُهُ فِي عَدَمِ الْوَطْءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِإِقْرَارِهِ بِعَدَمِ حَقِّ الرَّجْعَةِ لَهُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ
مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَطْءُ تَأَكَّدَ الْمِلْكُ وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكٍ مُتَأَكِّدٍ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَيَبْطُلُ زَعْمُهُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ الْإِحْصَانُ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ الرَّجْعَةُ أَوْلَى. وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ أَنْ تَلِدَ قَبْلَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالْوِلَادَةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ الرَّجْعَةُ.
قَالَ: (فَإِنْ خَلَا بِهَا وَأَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا
إيَّاهُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ حَكَمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَلَهُ الرَّجْعَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَهَذَا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّ أَحَدٍ بِسَبَبِ إقْرَارِهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَأُخِذَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ ثُمَّ وَصَلَتْ إلَى يَدِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا شَرْعًا بِالْحُكْمِ لِلْمُسْتَحِقِّ ثُمَّ بِصِحَّةِ الرُّجُوعِ لَهُ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي عَبْدِ إنْسَانٍ إنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ أَوْ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ اشْتَرَاهُ حُكِمَ بِصِحَّةِ الشِّرَاءِ وَبِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الشِّرَاءِ فَرْعُ تَكْذِيبِهِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَكْذِيبَ الشَّرْعِ إقْرَارَهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ حَقٍّ لَهُ تَكْذِيبٌ فِي اللَّازِمِ فَيَنْتَفِيَانِ، وَإِذَا انْتَفَى عَدَمُ الْوَطْءِ وَالرَّجْعَةِ ثَبَتَ وُجُودُهُمَا فَعَادَ حَقُّهُ فِي الرَّجْعَةِ، بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّ تَكْذِيبَ الشَّرْعِ يَقْصُرُهُ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ فَيَبْقَى لَازِمُ الْمُرْتَفَعِ بِالتَّكْذِيبِ كَمَا لَوْ لَمْ يُكَذَّبْ فَلِذَا كُذِّبَ فِي إقْرَارِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَثَبَتَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْمَقَرِّ لَهُ بِالْعَيْنِ مَعَ تَكْذِيبِهِ بِالْحُكْمِ لِلْمُسْتَحِقِّ.
فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْمَلْزُومِ مَعَ تَخَلُّفِ اللَّازِمِ وَإِنْ كَانَ لُزُومًا شَرْعِيًّا لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ يُبْطِلُ اعْتِبَارَ الشَّرْعِ إيَّاهُ لَازِمًا وَقَدْ فَرَضَ اعْتِبَارَهُ لَازِمًا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ.
أَمَّا الشَّرْعِيِّ فَقَدْ يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِاللُّزُومِ عَلَى تَقْدِيرٍ فَتَقْتَصِرُ الْمُلَازَمَةُ عَلَيْهِ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِالْعَيْنِ لِفُلَانٍ ثَبَتَ أَنَّ فُلَانًا أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَذَّبَهُ الشَّرْعُ بِالْقَضَاءِ بِهِ لِلْمُسْتَحِقِّ فِي إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ لِفُلَانٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِفُلَانٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَقَطْ وَأَنَّهُ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقِرِّ فَثَبَتَ اللُّزُومُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (قَوْلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ الْإِحْصَانُ) أَيْ الْوَطْءِ الَّذِي يَثْبُتُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ وَالْإِحْصَانُ لَهُ مَدْخَلٌ فِي إيجَابِ الْعُقُوبَةِ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ الرَّجْعَةُ وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعُقُوبَةِ أَوْلَى (قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ أَنْ تَلِدَ قَبْلَ الطَّلَاقِ) أَيْ فِي مُدَّةٍ تَصْلُحُ بِأَنْ تَلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ النِّكَاحِ كَمَا قَدَّمْنَا
(قَوْلُهُ وَأَغْلَقَ بَابًا) الْمُنَاسِبُ أَوْ أَغْلَقَ بِأَوْ كَمَا فَعَلَ فِي أَرْخَى لَا بِالْوَاوِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ لِلْخَلْوَةِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِإِثْبَاتِهَا لَا مُبَايِنٌ لَهَا
وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَمْلِكْ الرَّجْعَةَ) لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِالْوَطْءِ وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالرَّجْعَةُ حَقُّهُ وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا، بِخِلَافِ الْمَهْرِ لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى يُبْتَنَى عَلَى تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ لَا عَلَى الْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ.
(فَإِنْ رَاجَعَهَا) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا (ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ)(صَحَّتْ تِلْكَ الرَّجْعَةُ) لِأَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذْ هِيَ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْوَلَدُ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَأُنْزِلَ وَاطِئًا قَبْلَ الطَّلَاقِ دُونَ مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي يَزُولُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ قَبْلَهُ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ
قَوْلُهُ لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِالْوَطْءِ) إذْ بِعَدَمِهِ تَبِينُ بِالطَّلَاقِ لَا إلَى عِدَّةٍ، وَشَرْطُ الرَّجْعَةِ الْعِدَّةُ وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَصَارَ مُبْطِلًا حَقَّ نَفْسِهِ مِنْ الرَّجْعَةِ (قَوْله وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ إنَّهُ هُنَا أَيْضًا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا حَيْثُ لَزِمَهُ تَمَامُ الْمَهْرِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْخَلْوَةِ وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ شَرْعًا إنْزَالًا لَهُ وَاطِئًا شَرْعًا فَمُنِعَ كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا أَوْ عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُهُ، بَلْ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى تَمَامِ تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ وَهُوَ بُضْعُهَا بِالتَّخْلِيَةِ الَّتِي هِيَ وُسْعُهَا، وَلَوْ تَوَقَّفَ لُزُومُ كَمَالِ الْمَهْرِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ هُوَ فِعْلَهَا لَتَضَرَّرَتْ فَلَمْ يَكُنْ مُكَذَّبًا شَرْعًا وَتَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ أَوْ كَذِبِهِمَا وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا لِأَنَّ انْقِضَاءَهَا يَسْتَلْزِمُ حِلَّهَا لِلْأَزْوَاجِ فَهِيَ حَقُّ الشَّرْعِ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي إبْطَالِهَا فَتَصِيرُ الْعِدَّةُ قَائِمَةً شَرْعًا وَلَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا فَلَمْ تَقُمْ الْخَلْوَةُ هُنَا مَقَامَ الْوَطْءِ لَمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إنَّ الْعِدَّةَ تَسْتَدْعِي سَبَبًا فِي الشُّغْلِ مَرْدُودٌ بِالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَلَوْ قَالَ جَامَعْتهَا كَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي الْوَطْءِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا، وَعَنَى بِهِ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِظُهُورِ الْحَمْلِ حَالَ الطَّلَاقِ أَوْ بِالْوِلَادَةِ قَبْلَ الطَّلَاقِ كَمَا هُوَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ لَهُ فِي قَوْلِهِ لَمْ أُجَامِعْهَا حَيْثُ جَعَلَهُ وَاطِئًا حُكْمًا لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَنْبَنِي عَلَى الدُّخُولِ وَقَدْ ثَبَتَ لِثُبُوتِ النَّسَبِ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بِلَا مَاءٍ فَتَثْبُتُ
(قَوْلُهُ مَعْنَاهُ بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا) أَيْ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِاعْتِرَافِهِ بِعَدَمِ الْوَطْءِ، فَلَوْ جَاءَتْ بَعْدَ هَذِهِ الرَّجْعَةِ بِوَلَدٍ لِأَقَلِّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ صَحَّتْ: أَيْ ظَهَرَ صِحَّتُهَا (قَوْلُهُ لِأَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي) وَهُوَ إنْزَالُهُ وَاطِئًا بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَحِينَئِذٍ فَالصَّلَفُ فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ لِأَنَّ عَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي يَحْرُمُ الْوَطْءُ لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ عَلَى زَعْمِهِ فِي عَدَمِ
وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ
(فَإِنْ قَالَ لَهَا إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ فَهِيَ رَجْعَةٌ) مَعْنَاهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ إذَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَيَكُونُ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ عَلُوقٍ حَادِثٍ مِنْهُ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا
(وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالْوَلَدُ الْأَوَّلُ طَلَاقٌ وَالْوَلَدُ الثَّانِي رَجْعَةٌ وَكَذَا الثَّالِثُ) لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِالْأَوَّلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَصَارَتْ مُعْتَدَّةً، وَبِالثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْعَلُوقَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ فِي الْعِدَّةِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّانِي بِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ، وَبِالْوَلَدِ الثَّالِثِ صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَتَقَعُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ بِوِلَادَةِ الثَّالِثِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ لِأَنَّهَا حَائِلٌ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ حِينَ وَقَعَ الطَّلَاقُ
الْوَطْءِ إذْ الْمُؤَدِّي عَلَى عِبَارَتِهِ هَكَذَا عَلَى اعْتِبَارِ إنْزَالِهِ وَاطِئًا بَعْدَ الطَّلَاقِ يَزُولُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ قَبْلَهُ فَيَحْرُمُ، وَتَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ بِتَكَلُّفٍ بَعْدَ تَوَهُّمِ خَطَئِهَا (قَوْلُهُ وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ) فَإِنْ قِيلَ: وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ، فَالْجَوَابُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الِاعْتِبَارَيْنِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ كَذِبُهُ وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ الزِّنَا وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْكِذْبَةِ
(قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ) أَنْ فِيهِ لِلْوَصْلِ، فَأَفَادَ أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَعْنَاهُ: أَيْ فَصَاعِدًا أَقَلُّ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَإِنْ كَانَ عَشْرَ سِنِينَ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الثَّانِيَ يُضَافُ إلَى عَلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ امْتِدَادَ الطُّهْرِ لَا غَايَةَ لَهُ إلَّا الْإِيَاسُ وَبِهِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَوْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ لَا يَكُونُ رَجْعَةً، وَفِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ يَكُونُ رَجْعَةً لِاحْتِمَالِ الْعَلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ سَقَطَ هُنَا لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا مِنْ بَطْنَيْنِ كَانَ الثَّانِي مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُمَا حِينَئِذٍ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الثَّانِي مِنْ وَطْءٍ عَلَى حِدَتِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا بِالْوَطْءِ الْكَائِنِ بَعْدَ الطَّلَاقِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ وَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَهُمَا تَوْءَمَانِ فَيَقَعُ طَلْقَتَانِ بِالْأَوَّلَيْنِ لَا غَيْرَ إذْ بِالثَّالِثِ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلَانِ فِي بَطْنٍ وَالثَّالِثُ فِي بَطْنٍ تَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْأَوَّلِ لَا غَيْرُ، وَتَنْقَضِي
(وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ) لِأَنَّهَا حَلَالٌ لِلزَّوْجِ إذْ النِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ الرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ لَهُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مَشْرُوعًا (وَيُسْتَحَبُّ لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا حَتَّى يُؤْذِنَهَا أَوْ يُسْمِعَهَا خَفْقَ نَعْلَيْهِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الْمُرَاجَعَةُ لِأَنَّهَا رُبَّمَا تَكُونُ مُتَجَرِّدَةً فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَوْضِعٍ يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: لَهُ ذَلِكَ لِقِيَامِ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَغْشَاهَا عِنْدَنَا. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الْآيَةَ، وَلِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ، فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَمَلَ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ وَلِهَذَا تُحْتَسَبُ الْأَقْرَاءُ مِنْ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَمْلِكْ الزَّوْجُ الْإِخْرَاجَ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا فَتَبْطُلُ الْعِدَّةُ وَيَتَقَرَّرُ مِلْكُ الزَّوْجِ. وَقَوْلُهُ حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا
الْعِدَّةُ بِالثَّانِي وَلَا يَقَعُ بِالثَّالِثِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي بَطْنٍ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي بَطْنٍ يَقَعُ ثِنْتَانِ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالثَّالِثِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانُوا فِي بُطُونٍ فَالْوَلَدُ الثَّانِي رَجْعَةٌ، وَكَذَا الثَّالِثُ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِالْأَوَّلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَدَخَلَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَبِالْوَلَدِ الثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَلُوقَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ فِي الْعِدَّةِ فَيَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا.
وَقَوْلُهُ وَبِالثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا مَعْنَاهُ ظَهَرَ بِهِ الرَّجْعَةُ سَابِقًا ثُمَّ يَقَعُ بِالثَّانِي طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِكُلَّمَا الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكْرَارِ وَدَخَلَتْ فِي الْعِدَّةِ وَبِالْوَلَدِ الثَّالِثِ تَظْهَرُ رَجْعَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَتَقَعُ الثَّالِثَةُ بِوِلَادَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْحُكْمُ بِالْوَطْءِ فِي النِّفَاسِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّ النِّفَاسَ لَا يَلْزَمُ لَهُ كَمْيَّةٌ خَاصَّةٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُمْتَدٌّ وَجَازَ أَنْ لَا تَرَى شَيْئًا أَصْلًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ فَلَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمُ بِالْوَطْءِ
(قَوْلُهُ تَتَشَوَّفُ) التَّشَوُّفُ خَاصٌّ بِالْوَجْهِ وَالتَّزَيُّنُ عَامٌ مِنْ شُفْت الشَّيْءَ جَلَوْته وَدِينَارٌ مُشَوَّفٌ: أَيْ مَجْلُوٌّ وَهُوَ أَنْ تَجْلُوَ وَجْهَهَا وَتَصْقُلَهُ (قَوْلُهُ إذْ النِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا) وَكَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِهِ مِنْ التَّوَارُثِ.
وَلَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ تَدْخُلُ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فَتَطْلُقُ سِوَى الْمُسَافَرَةِ بِهَا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ لِنَصٍّ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} نَزَلَتْ فِي الرَّجْعِيَّةِ لِسِيَاقِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أَيْ يَبْدُوَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَلِحُرْمَتِهَا بِهَذَا النَّصِّ لَمْ تُجْعَلْ رَجْعَةً لِأَنَّ الرَّجْعَةَ مَنْدُوبَةٌ وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا حَرَامٌ.
قِيلَ وَلَا دَلَالَتُهَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ يُصَرِّحُ بِعَدَمِ رَجْعَتِهَا.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ التَّقْبِيلَ بِشَهْوَةٍ وَنَحْوَهُ يَكُونُ نَفْسُهُ رَجْعَةً وَإِنْ نَادَى عَلَى نَفْسِهِ بِعَدَمِ الرَّجْعَةِ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ
مَعْنَاهُ الِاسْتِحْبَابُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ
(وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُحَرِّمُهُ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ وَهُوَ الطَّلَاقُ. وَلَنَا أَنَّهَا قَائِمَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا لِأَنَّ حَقَّ الرَّجْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلزَّوْجِ لِيُمْكِنَهُ التَّدَارُكُ عِنْدَ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ اسْتِبْدَادَهُ بِهِ، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً
كَمَا قُلْنَا، وَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ لَا يَحِلُّ الْخُرُوجُ بِهَا إلَى مَا دُونَهُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مَنُوطَةً بِالسَّفَرِ بَلْ بِالْخُرُوجِ، وَكَمَا يُكْرَهُ السَّفَرُ بِهَا تُكْرَهُ الْخَلْوَةُ إذْ قَدْ يَنْظُرُ نَظَرًا يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَيُطَلِّقُهَا أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ حَرَامٌ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: إنَّمَا تُكْرَهُ الْخَلْوَةُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ غَشَيَانَهَا إذْ يَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بِغَيْرِ إشْهَادٍ وَهُوَ مَكْرُوهٍ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ إذَا أَمِنَ لَا يُكْرَهُ، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الْخَلْوَةِ حِينَئِذٍ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَى التَّعْلِيلِ بِاحْتِمَالِ النَّظَرِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا كَأَنَّهُ لِبُعْدِهِ جِدًّا حَيْثُ كَانَ إنَّمَا هُوَ النَّظَرُ إلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ، وَقَلَّ أَنْ يَقَعَ مَعَ الْخَلْوَةِ، حَتَّى إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مَعَ زَوْجَتِهِ الَّتِي هِيَ فِي عِصْمَتِهِ سِنِينَ لَا يَقَعُ لَهُ هَذَا النَّظَرُ إلَّا إنْ تَعَمَّدْهُ قَصْدًا حَالَةَ الْجِمَاعِ، لَكِنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ: يَعْنِي الطَّلَاقَ وَعَمَلَهُ قُطِعَ النِّكَاحُ لِحَاجَتِهِ: أَيْ لِحَاجَةِ الزَّوْجِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ: أَيْ الْعِدَّةُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الرَّجْعَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَمِلَ الْإِبَانَةَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ وَأَنَّ مُسَافَرَتَهُ بِهَا كَانَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ كَمَا يَقْتَضِي قَصْرَ كَرَاهَةِ الْمُسَافَرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مَا إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ كَذَلِكَ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الْخَلْوَةِ بِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الرَّجْعَةَ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَاجَعَهَا ظَهَرَتْ حَاجَتُهُ، وَأَنَّ الْمُبْطِلَ لَمْ يَعْمَلْ أَصْلًا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْخَلْوَةَ وَالْمُسَافَرَةَ لَمْ يَكُونَا بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ احْتِسَابُ الْأَقْرَاءِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْعِدَّةِ، فَلَوْ كَانَ الْمُبْطِلُ مُقْتَصِرًا عَلَى انْقِضَائِهَا لَمْ تُحْتَسَبْ وَاحْتِيجَ إلَى عِدَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ.
وَالْأَوْجَهُ تَحْرِيمُ السَّفَرِ مُطْلَقًا لِإِطْلَاقِ النَّصِّ فِي مَنْعِ السَّفَرِ بِهَا دُونَ الْخَلْوَةِ لِعَدَمِ النَّصِّ وَقُصُورِ الْمَعْنَى وَهُوَ لُزُومُ الْمُرَاجَعَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلُزُومُ ظُهُورِ أَنَّ الْخَلْوَةَ بِأَجْنَبِيَّةٍ غَيْرُ ضَائِرٍ إذْ حَالَةُ تَحَقُّقِهَا كَانَتْ زَوْجَةً يُبَاحُ مَعَهَا شَرْعًا مَا يُبَاحُ مِنْ الزَّوْجَةِ
(قَوْلُهُ وَذَلِكَ) يَعْنِي اسْتِبْدَادَهُ بِهِ (يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً
إذْ الدَّلِيلُ يُنَافِيهِ وَالْقَاطِعُ أَخَّرَ عِلْمَهُ إلَى مُدَّةٍ إجْمَاعًا أَوْ نَظَرًا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ
(وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا) لِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ بَاقٍ لِأَنَّ زَوَالَهُ مُعَلَّقٌ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَيَنْعَدِمُ قَبْلَهُ، وَمَنْعُ الْغَيْرِ فِي الْعِدَّةِ لِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ
وَالدَّلِيلُ يُنَافِيهِ) أَيْ دَلِيلَ الِاسْتِبْدَادِ وَهُوَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا يُنَافِيهِ: أَيْ يُنَافِي الْإِنْشَاءَ لِأَنَّ لَوْ كَانَ إنْشَاءً وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِهِ الزَّوْجُ بَلْ احْتَاجَ إلَى رِضَا الْمَرْأَةِ وَإِذْنِهَا وَالشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ احْتِيَاطًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ فِي الرَّجْعِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ النُّصُوصِ فَارْجِعْ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَالْقَاطِعُ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الزَّوْجِيَّةُ زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ.
قُلْنَا نَعَمْ وُجِدَ، وَلَكِنْ أَخَّرَ عَمَلَهُ إجْمَاعًا لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ تَثْبُتُ بِلَا رِضَاهَا يُفِيدُ أَنَّ عَمَلَهُ وَهُوَ الْقَطْعُ مُؤَخِّرٌ.
أَوْ نَقُولُ: تَأَخَّرَ عَمَلُهُ نَظَرًا لِلزَّوْجِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ حَقَّ الرَّجْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ)
لَمَّا ذَكَرَ مَا يُتَدَارَكُ بِهِ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ذَكَرَ مَا يُتَدَارَكُ بِهِ غَيْرُهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ) تَرْكِيبٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّ حِلَّ الْمَحِلِّ بَاقٍ أَوْ لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ بَاقِيَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ هِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ مَحِلًّا وَلَا مَعْنَى لِنِسْبَةِ الْحِلِّ إلَيْهَا إذْ لَا مَعْنَى يَحِلُّ كَوْنُهَا مَحِلًّا (قَوْلُهُ لِأَنَّ زَوَالَهُ) مَرْجِعُ الضَّمِيرِ الْحِلُّ وَضَمِيرُ فَيَنْعَدِمُ لِلزَّوَالِ (قَوْلُهُ وَمَنْعُ الْغَيْرِ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ مَا فَرْقٌ بَيْنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ جَازَ فِي الْعِدَّةِ لِلزَّوْجِ
وَلَا اشْتِبَاهَ فِي إطْلَاقِهِ
(وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فِي الْأَمَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَيَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَمُوتَ عَنْهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
التَّزَوُّجُ لَا لِغَيْرِهِ فَأَجَابَ بِلُزُومِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ فِي الْأَجْنَبِيِّ دُونَ الزَّوْجِ وَهُوَ سَهْلٌ، وَقَدْ يُقَرِّرُ هَكَذَا الْمَنْعُ فِي الْعِدَّةِ عَامٌّ بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يَعْنِي انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فَكَيْفَ جَازَ لِلزَّوْجِ تَزَوُّجُهَا فِي الْعِدَّةِ؟ حَاصِلُ هَذَا اسْتِشْكَالُ الْإِطْلَاقِ لِلزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ وَعُمُومُ النَّصِّ يَمْنَعُهُ.
وَالْأَوَّلُ طَلَبُ الْفَرْقِ.
قُلْنَا: عُمُومُهُ فِي ضَمِيرِ تَعْزِمُوا، وَفِي الْعِدَّةِ خَصَّ مِنْهَا الْعِدَّةَ مِنْ الزَّوْجِ نَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَلْزَمُ تَخْصِيصُهُ مِنْ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ.
وَحِكْمَةُ شَرْعِيَّةِ الْعِدَّةِ فِي الْأَصْلِ أَنْ لَا يَشْتَبِهَ النَّسَبُ (وَلَا اشْتِبَاهَ فِي إطْلَاقِهِ) أَيْ إطْلَاقَ صَاحِبِ الْعِدَّةِ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْعِ لِأَنَّ الْمَاءَ مَاؤُهُ فَلِذَلِكَ جَازَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَأَطْلَقَ، وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانَ عِلَّةِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ: أَعْنِي الْإِجْمَاعَ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ وَالْآيِسَةَ لَا اشْتِبَاهَ فِي حَقِّهِمَا مَعَ عَدَمِ إطْلَاقِ الْغَيْرِ فِيهِمَا بَلْ بَيَانُ عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ إطْلَاقِهِ، وَعَدَمُ الْمَانِعِ لَا يُعَلَّلُ بِهِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ مَعَ الْمَانِعِ بَلْ هُوَ مُنْتَفٍ فَجَازَ الْإِجْمَاعُ، وَبَسَطَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الِاشْتِبَاهِ فَوُجُودُ الْحَاجَةِ إلَى الدَّفْعِ مُقْتَضٍ لِثُبُوتِ الْعِدَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّزَوُّجِ، فَفِي مَحِلٍّ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الْحَاجَةِ إلَى الدَّفْعِ كَمَا فِي صَاحِبِ الْعِدَّةِ فُقِدَ الْمَانِعُ مِنْ عَدَمِهَا إلَّا أَنَّهُ وُجِدَ الْمُقْتَضِي لِلْعَدَمِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْعَكْسِ: يَعْنِي لَيْسَ عَدَمُهَا عِلَّةً لِعَدَمِ الْحُكْمِ وَلِذَلِكَ ثَبَتَ الْحُكْمُ: أَعْنِي وُجُودَ الْعِدَّةِ مَعَ عَدَمِهَا فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} إمَّا بِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إظْهَارُ الْخَطَرِ الْمُحَلِّ إذَا تَأَمَّلْت حَيْثُ مُنِعَ عَنْ وُرُودِ مِلْكِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَيْهِ مُدَّةً لِيَعُزَّ عَلَى الرَّاغِبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْلَقَ مُطْلَقًا كَمَا أَظْهَرَ خَطَرَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِاشْتِرَاطِ جَمْعِ النَّاسِ لِيَشْهَدُوهُ أَوْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَوْ هِيَ فِيهِمَا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ، وَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهُمَا مِنْ حُكْمِ الْعِدَّةِ مَعَ النَّصِّ عَلَيْهِمَا وَفِي غَيْرِهِمَا مُعَلَّلٌ بِمَا قُلْنَا فَلَيْسَتْ الْعِدَّةُ مُطْلَقًا تَعَبُّدِيَّةً
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فِي الْأَمَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إلَخْ) لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُطَلَّقَةِ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لِصَرِيحِ إطْلَاقِ النَّصِّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ
فَالْمُرَادُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، وَالثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ ثُمَّ الْغَايَةُ نِكَاحُ الزَّوْجِ مُطْلَقًا، وَالزَّوْجِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَشَرْطُ الدُّخُولِ ثَبَتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ النِّكَاحُ عَلَى الْوَطْءِ حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِفَادَةِ دُونَ الْإِعَادَةِ إذْ الْعَقْدُ اُسْتُفِيدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الزَّوْجِ
بِهَا تَحِلُّ بِلَا زَوْجٍ وَهُوَ زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ مُصَادِمَةٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ رَآهُ أَنْ يَنْقُلَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْتَبِرَهُ لِأَنَّ فِي نَقْلِهِ إشَاعَتَهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْفَتِحُ بَابٌ لِلشَّيْطَانِ فِي تَخْفِيفِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَهُ مِمَّا لَا يُسَوَّغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ لِفَوْتِ شَرْطِهِ مِنْ عَدَمِ مُخَالِفَةِ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ.
وَمِمَّا صُرِّحَ فِيهِ بِعَدَمِ الْفَرْقِ مُخْتَارَاتُ النَّوَازِلِ وَالْأَمْرُ فِيهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ لَا يَبْعُدُ إكْفَارُ مُخَالِفِهِ (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ) أَيْ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ طَلَّقَهَا (الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ) لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا عَقِيبَ الطَّلْقَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا أَيْ الثَّالِثَةَ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الثَّالِثَةَ هِيَ قَوْلُهُ {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَإِنَّ «أَبَا رَزِينٍ الْعُقَيْلِيَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَرَفْتُ الطَّلْقَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ: فِي قَوْلِهِ {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}» كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ الْخِلَافُ فِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُ وَقَعَ بِلَفْظِ التَّسْرِيحِ أَوْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} إذْ لَا يُمْكِنُ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ لِأَنَّهُ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْرِيحِ الثَّالِثَةُ وَلَا تَكْرَارَ، فَإِنَّ الثَّانِيَ ذُكِرَ شَرْطَا لِإِعْطَاءِ حُكْمِ الثَّالِثَةِ، وَالْأَوَّلُ ذُكِرَ لِبَيَانِ ابْتِدَاءِ شَرْعِيَّةِ الثَّالِثَةِ.
وَحَاصِلُهُ أَنْ يُقَالَ شَرَعَهَا ثَلَاثًا وَرَتَّبَ عَلَى الثَّالِثَةِ حُكْمًا وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وَبَعْدَ هُمَا إمَّا إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِثَالِثَةٍ بِإِحْسَانٍ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ اخْتِيَارًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْجَائِزَيْنِ لَهُ فَحُكْمُهُ أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ كِلَيْهِمَا مُرَادٌ بِهِ الثَّالِثَةُ (قَوْلُهُ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ) فِيهِ مَا سَبَقَ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْغَايَةُ) أَيْ غَايَةَ عَدَمِ الْحِلِّ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَحِلُّ لَهُ} هُوَ الزَّوْجُ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَلِذَا قُلْنَا لَوْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ مَلَكَهَا أَوْ ثَلَاثًا لِحُرَّةٍ فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَمَلَكَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى يُزَوِّجَهَا فَيَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا (قَوْلُهُ وَالزَّوْجِيَّةُ) مُطْلَقًا، وَكَذَا الزَّوْجُ مُطْلَقًا إنَّمَا يَثْبُتُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، أَوْ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ خُصُوصًا إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِخِلَافِهِ مُضَافًا إلَى الْمَاضِي، لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْأَوَّلِ التَّحَصُّنُ وَالْإِعْفَافُ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالصَّحِيحِ، وَفِي الثَّانِي صِدْقُ الْإِخْبَارِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالتَّزَوُّجِ فَاسِدًا وَلِذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِالْفَاسِدِ لَا فِي حَلِفِهِ لَا يَتَزَوَّجُ (قَوْلُهُ وَشَرْطُ الدُّخُولِ ثَبَتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ إلَخْ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى الْوَطْءِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِعِبَارَةِ النَّصِّ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالسَّوْقِ (قَوْلُهُ حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِفَادَةِ دُونَ الْإِعَادَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْإِعَادَةَ لَازِمٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِ لَفْظِ تَنْكِحَ
أَوْ يُزَادَ عَلَى النَّصِّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَةَ الْآخَرِ» رُوِيَ بِرِوَايَاتٍ،
عَلَى الْعَقْدِ لِأَنَّ اسْمَ الزَّوْجِ يَتَضَمَّنُ إعَادَتَهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ الْتِزَامًا، بِخِلَافِ مَا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَطْءِ وَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ مَجَازًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ إذْ هُوَ حَالَ نِسْبَتِهِ إلَيْهَا يُرَادُ بِهِ التَّمْكِينُ مِنْ حَقِيقَتِهِ لَا حَقِيقَتُهُ، فَإِنَّ الْمَجَازَ فِي الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ الْإِعَادَةِ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى الْعُمُومِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ عَلَى رَأَيْنَا وَهُوَ أَنَّ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْعَقْدِ مُجَازَيْنَ النِّكَاحُ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ الْوَطْءُ وَالزَّوْجُ فِي الْأَجْنَبِيِّ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْوَطْءِ مَجَازٌ وَاحِدٌ وَهُوَ النِّكَاحُ فِي التَّمْكِينِ وَالزَّوْجُ حِينَئِذٍ حَقِيقَةٌ (قَوْلُهُ أَوْ يُزَادَ عَلَى النَّصِّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ) هَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا أُرِيدَ بِلَفْظِ تَنْكِحَ فِي النَّصِّ الْعَقْدُ لَا عَلَى إرَادَةِ الْوَطْءِ فِيهِ (قَوْلُهُ يُرْوَى بِرِوَايَاتٍ) رَوَى الْجَمَاعَةُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُوَاقِعَهَا أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ» وَرَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ بِفَتْحِ الزَّايِ لَا غَيْرُ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ» وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ «كَذَبَتْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَحِلِّي لَهُ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ قَالَ وَكَانَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم بَنُوكَ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا وَأَنْتِ تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ، فَوَاَللَّهِ
وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهِ سِوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَوْلُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ، وَالشَّرْطُ الْإِيلَاجُ دُونَ الْإِنْزَالِ لِأَنَّهُ كَمَالٌ وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ وَالْكَمَالُ قَيْدٌ زَائِدٌ
(وَالصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ فِي التَّحْلِيلِ كَالْبَالِغِ) لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ الشَّرْطُ بِالنَّصِّ،
لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ» وَهُوَ فِي الْمُوَطَّإِ هَكَذَا: أَنْبَأْنَا مَالِكٌ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ عَنْ الزَّبِيرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ «أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ ثَلَاثًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَكَحَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزَّبِيرِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا فَفَارَقَهَا، فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَنْكِحَهَا فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: لَا تَحِلُّ لَك حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» وَوَقَعَ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَكْسُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ يُقَالُ لَهَا تَمِيمَةُ بِنْتُ وَهْبٍ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا رِفَاعَةُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمَّ فَارَقَهَا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَقَالَ وَاَللَّهِ يَا تَمِيمَةُ لَا تَرْجِعِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رَجُلٌ غَيْرُهُ» قَالَ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إلَّا سَلَمَةُ أَبُو الْفَضْلِ (قَوْلُهُ وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهِ) أَيْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ الْمُرَادُ الْخِلَافُ الْعَالِي سِوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ كَوْنُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَالشِّيعَةِ قَائِلِينَ بِقَوْلِهِ، وَاسْتُغْرِبَ ذَلِكَ مِنْ سَعِيدٍ حَتَّى قِيلَ لَعَلَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُ (قَوْلُهُ لَا يَنْفُذُ) لِمُخَالَفَتِهِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَمَنْ أَفْتَى بِهَذَا الْقَوْلِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ انْتَهَى.
وَهَذَا لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ ذَلِكَ لِإِغَاظَةِ الزَّوْجِ حَتَّى لَا يَسْرَحَ فِي كَثْرَةِ الطَّلَاقِ عُومِلَ بِمَا يَبْغُضُ حِينَ عَمِلَ أَبْغَضَ مَا يُبَاحُ (قَوْلُهُ وَالشَّرْطُ الْإِيلَاجُ) بِقَيْدِ كَوْنِهِ عَنْ قُوَّةِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَلْفُوفًا بِخِرْقَةٍ إذَا كَانَ يَجِدُ لَذَّةَ حَرَارَةِ الْمَحِلِّ، فَلَوْ أَوْلَجَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ لَا بِقُوَّتِهِ بَلْ بِمُسَاعِدَةِ الْيَدِ لَا يَحِلُّهَا إلَّا إنْ انْتَعَشَ وَعَمِلَ، وَالصَّغِيرُ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ لَذَّةً أَصْلًا، بِخِلَافِ مَنْ فِي آلَتِهِ فُتُورٌ وَأَوْلَجَهَا فِيهَا حَتَّى الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ بِهِ، وَخَرَجَ الْمَجْبُوبُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ يُولَجُ فِي مَحِلِّ الْحِلِّ: أَيْ فِي مَحِلِّ الْخِتَانِ فَلَا يَحِلُّ بِسُحْقِهِ حَتَّى تَحْبَلَ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ: إنْ كَانَ الْمَجْبُوبُ لَا يُنْزِلُ لَا يَحِلُّ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ لِأَنَّهُ إذَا جَفَّ مَاؤُهُ صَارَ كَالصَّبِيِّ أَوْ دُونَهُ وَدَخَلَ الْخَصِيُّ الَّذِي مِثْلُهُ يُجَامِعُ فَيُحِلُّهَا. وَفِي التَّجْرِيدِ: لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا لَمْ يَحِلَّ، فَإِنْ حَبِلَتْ وَوَلَدَتْ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ كَانَ مَسْلُولًا وَجَامَعَهَا حَلَّتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فِي الْمَحِلِّ بِيَقِينٍ، حَتَّى لَوْ جَامَعَهَا وَهِيَ مُفْضَاةٌ لَا تَحِلُّ مَا لَمْ تَحْبَلْ، وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا فَوَطِئَهَا هَذَا الزَّوْجُ فَأَفْضَاهَا لَا يُحِلُّهَا، وَإِنْ كَانَ يُوطَأُ مِثْلُهَا حَلَّتْ وَإِنْ أَفْضَاهَا (قَوْلُهُ دُونَ الْإِنْزَالِ) خِلَافًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَا تَحِلُّ عِنْدَهُ حَتَّى يُنْزِلَ الثَّانِي حَمْلًا لِلْعُسَيْلَةِ عَلَيْهِ، وَمُنِعَ بِأَنَّهَا تَصْدُقُ مَعَهُ وَمَعَ الْإِيلَاجِ وَإِنَّمَا هُوَ كَمَالٌ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْعُسَيْلَةُ هِيَ الْجِمَاعُ» انْتَهَى. فَحَيْثُ صَدَقَ مُسَمَّى الْجِمَاعِ تَثْبُتُ فِيهِ إلَّا أَنَّ فِي سَنَدِهِ ابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَكِّيِّ مَجْهُولٌ
(قَوْلُهُ وَهُوَ الشَّرْطُ بِالنَّصِّ) فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَوْ كَانَ هُوَ الشَّرْطُ لَيْسَ غَيْرَهُ حَلَّتْ بِدُخُولِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ لَكِنَّهَا لَا تَحِلُّ بِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَرَطَ الْعُسَيْلَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الزَّوْجِ مِمَّنْ يَلْتَذُّ أَيْضًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَا بِغَيْرِ إذْنِهِ عَاقِلًا
وَمَالِكٌ رحمه الله يُخَالِفُنَا فِيهِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ وَمِثْلُهُ يُجَامِعُ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ وَأَحَلَّهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنْ تَتَحَرَّك آلَتُهُ وَيَشْتَهِي، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهَا لِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَهُوَ سَبَبٌ لِنُزُولِ مَائِهَا وَالْحَاجَةِ إلَى الْإِيجَابِ فِي حَقِّهَا، أَمَّا لَا غُسْلَ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ يُؤْمَرُ بِهِ تَخَلُّقًا قَالَ (وَوَطْءُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لَا يُحِلُّهَا) لِأَنَّ الْغَايَةَ نِكَاحُ الزَّوْجِ
(وَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ فَالنِّكَاحُ مَكْرُوهٌ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»
أَوْ مَجْنُونًا إذَا كَانَ يُجَامِعُ مِثْلُهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فِي الذِّمِّيَّةِ حَتَّى يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَتْ عَبْدًا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَجَازَ السَّيِّدُ النِّكَاحَ فَلَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى طَلَّقَهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَطَأَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ، وَتَحِلُّ بِوَطْءِ الزَّوْجِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِحْرَامِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا.
رَجُلٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَاشْتَرَى عَبْدًا صَغِيرًا لَهُ عَشْرُ سِنِينَ فَزَوَّجَهُ مِنْ مُطَلَّقَتِهِ فَجَامَعَهَا ثُمَّ مَلَّكَهَا إيَّاهُ فَقَبِلَتْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَحَلَّتْ لِلزَّوْجِ (قَوْلُهُ وَفَسَّرَهُ) أَيْ فَسَّرَ الصَّبِيَّ الْمُرَاهِقَ فِي الْجَامِعِ فَقَالَ: غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ وَمِثْلُهُ يُجَامِعُ، وَفِي الْمَنَافِعِ: الْمُرَاهِقُ الدَّانِي مِنْ الْبُلُوغِ، وَقِيلَ الَّذِي تَتَحَرَّكُ آلَتُهُ وَيَشْتَهِي الْجِمَاعَ.
وَفِي فَوَائِدِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ: إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَشْرِ سِنِينَ.
وَلَا تَنْسَ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ مِنْ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الزَّوْجِ كُفُؤًا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا كَانَتْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَتْ الْحُرَّةُ نَفْسَهَا عَبْدًا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِدُخُولِهِ (قَوْلُهُ وَوَطْءُ الْمَوْلَى لَا يُحِلُّهَا) لِزَوْجِهَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ غَايَةَ الْحُرْمَةِ نِكَاحُ الزَّوْجِ وَلَيْسَ الْمَوْلَى زَوْجًا
(قَوْلُهُ بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ) أَيْ بِأَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُك عَلَى أَنْ أُحِلَّك لَهُ أَوْ تَقُولَ هِيَ ذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ الْمُنْتَهِضَةِ سَبَبًا لِلْعِقَابِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» أَمَّا لَوْ نَوَيَاهُ وَلَمْ يَقُولَاهُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ وَيَكُونُ الرَّجُلُ مَأْجُورًا لِقَصْدِهِ الْإِصْلَاحَ.
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -، وَالتَّخْرِيجُ عَنْ بَعْضِهِمْ يَكْفِينَا فَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ قَالَ:«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَحَدِيثُ عُقْبَةَ هَكَذَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: إسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكُبْرَى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: مَا أَرَاهُ سَمِعَ مِنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ وَلَا رُوِيَ عَنْهُ. وَدُفِعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْإِسْنَادِ قَالَ لِي أَبُو مُصْعَبٍ مِشْرَحٌ
وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُهُ (فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَمَا وَطِئَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ) لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ إذْ النِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُفْسِدُ النِّكَاحَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُؤَقَّتِ فِيهِ وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِفَسَادِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ الشَّرْعُ فَيُجَازَى بِمَنْعِ مَقْصُودِهِ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُوَرِّثِ
يَرُدُّ ذَلِكَ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مُعَنْعَنًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنْ اللَّيْثِ بِهِ، وَلِذَلِكَ حَسَّنَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ جِهَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ لِأَنَّ شَيْخَ ابْنِ مَاجَهْ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ ذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِ الْمِصْرِيِّينَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِعِلْمٍ وَضَبْطٍ، وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ ثِقَةٌ، أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمِشْرَحٌ، وَثَّقَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ وَثَّقَهُ.
وَالْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا ابْنُ الْقَطَّانِ وَلَا غَيْرُهُ.
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّخْرِيجِ: الْمُصَنِّفُ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوطِ بِهِ التَّحْلِيلُ وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، لَكِنْ يُقَالُ لَمَّا سَمَّاهُ مُحَلِّلًا دَلَّ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ هُوَ الْمُثَبِّتُ لِلْحِلِّ فَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمَا سَمَّاهُ مُحَلِّلًا انْتَهَى.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ ثُمَّ جَوَابُهُ.
أَمَّا الِاعْتِرَاضُ فَمَنْشَؤُهُ عَدَمُ مَعْرِفَةِ اصْطِلَاحِ أَصْحَابِنَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الْحَرَامِ إلَّا عَلَى مَنْعٍ ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ، فَإِذَا ثَبَتَ بِظَنِّيٍّ سَمَّوْهُ مَكْرُوهًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَكَلَامُهُ فِيهِ يَقْتَضِي تَلَازُمَ الْحُرْمَةِ وَالْفَسَادِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ يُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ مَعَ لُزُومِ الْإِثْمِ فِي الْعِبَادَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا خُصُوصًا عَلَى مَا يُعْطَى كَلَامُهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَنْعِ الثَّابِتِ بِظَنِّيٍّ حَرَامًا (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ الْمُحَلِّلَ الشَّارِطَ هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ لِأَنَّ عُمُومَهُ وَهُوَ الْمُحَلِّلُ مُطْلَقًا غَيْرُ مُرَادٍ إجْمَاعًا وَإِلَّا شَمِلَ الْمُتَزَوِّجَ تَزْوِيجَ رَغْبَةٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُوَقِّتِ) وَالْمُوَقِّتُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ، أَوْ هُوَ الْمُتْعَةُ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فَيَفْسُدُ فَلَا يُحِلُّهَا وَتَسْمِيَتُهُ مُحَلِّلًا لَا يَسْتَلْزِمُ الْحِلَّ لِجَوَازِ كَوْنِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ شَارِطًا أَوْ طَالِبًا لِلْحِلِّ وَلِأَنَّهُ مَلْعُونٌ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يُلْعَنْ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا أَخٌ لَهُ لِيُحِلَّهَا لِأَخِيهِ هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحَّحَهُ.
قُلْنَا: كَوْنُهُ فِي مَعْنَى الْمُوَقِّتِ مَمْنُوعٌ، إذْ تَعْيِينُ نِهَايَتِهِ الْوَطْءُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعْيِينَ وَقْتِهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ يَكُونُ فِي لَيْلَةِ الْخَلْوَةِ أَوْ بَعْدَ جُمُعَةٍ أَوْ شَهْرٍ فَلَا تَوْقِيتَ صَرِيحٌ وَلَا مَعْنَى، وَحَقِيقَةُ الْمُحَلِّلِ مُثْبِتُ الْحِلِّ لَا مَنْ قَامَ بِهِ مُجَرَّدَ طَلَبِهِ، وَاللَّعْنَةُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ مِنْ الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى يُعَارِضَ هَذَا الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ كُنَّا نَعُدُّهُ سِفَاحًا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَحْكُمُونَ بِحِلِّهَا لِلْأَوَّلِ لِصِدْقِهِ مَعَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُفْسِدَ وَهُوَ التَّوْقِيتُ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَوْقِيتٍ، وَالْغَرَضُ وَهُوَ حِلُّهَا لَهُ يَتَخَلَّفُ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَهُ بِطَرِيقٍ
(وَإِذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَادَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَيَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي مَا دُونَ الثَّلَاثِ كَمَا يَهْدِمُ الثَّلَاثَ. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ)
مَحْظُورٍ كَقَاتِلِ الْمُوَرِّثِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَالْحِلُّ كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ اعْتَرَضَ عَدَمَهُ مُغَيًّا بِنِكَاحٍ زَوْجٍ غَيْرِهِ، فَعِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ يَنْتَهِي الْمَنْعُ الْمُغَيَّا فَيَثْبُتُ مَا كَانَ ثَابِتًا أَلْبَتَّةَ، فَحَيْثُ حُكِمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ مَعَ الدُّخُولِ لَزِمَ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَلْبَتَّةَ.
وَمِنْ الْحِيَلِ إذَا خَافَتْ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا الْمُحَلِّلُ أَنْ تَقُولَ زَوَّجْتُك نَفْسِي عَلَى أَنَّ أَمْرِي بِيَدِي أُطَلِّقُ نَفْسِي كُلَّمَا أُرِيدُ، فَإِذَا قِيلَ عَلَى هَذَا جَازَ النِّكَاحُ وَصَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ شَرْطَ التَّحْلِيلِ يَبْطُلُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الشَّرْطُ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْمُحَلِّلُ مِنْ الطَّلَاقِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي رَوْضَةِ الزندويستي ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ وَلَا يُحْكَمَ بِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ كَوْنِهِ ضَعِيفَ الثُّبُوتِ تَنْبُو عَنْهُ قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَالْعُقُودُ فِي مِثْلِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهَا مَا يَبْطُلُ فِيهِ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْأَصْلُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ هُوَ، فَيَجِبُ بُطْلَانُ هَذَا وَأَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الطَّلَاقِ.
نَعَمْ يُكْرَهُ الشَّرْطُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَحْمَلِ الْحَدِيثِ، وَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَصْدُ التَّحْلِيلِ بِلَا كَرَاهَةٍ.
وَمَا أَوْرَدَهُ السُّرُوجِيُّ مِنْ أَنَّ الثَّابِتَ عَادَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا فِي غَيْرِ مَحِلِّ كَلَامِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الزَّوْجِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ مُتَدَاوَلٌ، إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ وَصَارَ مَشْهُورًا بِهِ.
وَهُنَا قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ مَأْجُورٌ وَإِنْ شَرَطَ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَتَأْوِيلُ اللَّعْنِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إذَا شَرَطَ الْأَجْرَ عَلَى ذَلِكَ.
هَذَا، وَلَوْلَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَعُدُّهُ سِفَاحًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ عَنْ وَاقِعَةِ حَالٍ مُفْرَدَةٍ لِشَخْصٍ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ أَنَّ تَعَلُّقَ اللَّعْنِ بِهِ إذَا كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ بِأَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْأَمْرِ شَرَطَ أَوْ لَا، لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ مِنْ فَعَّلَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَهُوَ التَّكْثِيرُ فِي فِعْلِ الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ، فَلَوْ أَرَادَ تَعْلِيقَ اللَّعْنِ بِهِ بِمَرَّةٍ إذَا شَرَطَ لَقَالَ الْمُحِلُّ مِنْ أَحَلَّهَا بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ لَكِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ يَصْرِفُ عَنْ هَذَا فَيَكُونُ مِنْ نَحْوِ قَطَّعْت اللَّحْمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكْثِيرٌ
(قَوْلُهُ وَيَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ) يَعْنِي إذَا كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يَهْدِمُ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَقْيِيدُهُ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ بِالْحُرَّةِ لِوَضْعِهَا فِي هَدْمِ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَمَةِ إلَّا هَدْمُ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا لِأَنَّهُ لَا هَدْمَ فِي الْأَمَةِ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَهْدِمُ) وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
لِأَنَّهُ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا، وَلَا إنْهَاءَ لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ الثُّبُوتِ. وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»
قَالَ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ إذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَأَرَادَ الْأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى كَمْ هِيَ عِنْدَهُ؟ فَالْتَفَتَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا؟ قَالَ: يَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي الْوَاحِدَةَ وَالثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، وَاسْأَلْ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: فَلَقِيت ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ فِي نَحْوِهِ قَالَ: هِيَ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ، وَنَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ.
وَنُقِلَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فَأَخَذَ الْمَشَايِخُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ شُبَّانِ الصَّحَابَةِ وَشُبَّانُ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ مَشَايِخِ الصَّحَابَةِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْوَجْهِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ) أَيْ لِأَنَّ الزَّوْجَ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَا تَحِلُّ لَهُ أَيْ مُطْلَقًا لَا بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَيَكُونَ: أَيْ الزَّوْجَ مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ، وَلَا إنْهَاءَ لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ الثُّبُوتِ: أَيْ ثُبُوتَهَا فَاللَّامُ بَدَلُ الْإِضَافَةِ وَلَا ثُبُوتَ لَهَا إلَّا بَعْدَ الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونُ مَنْهِيًّا قَبْلَهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ أَوْ قَبْلَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي حَيْثُ تَعُودُ بِمَا بَقِيَ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ.
قُلْنَا: قَدْ عَمِلْنَا بِالنَّصِّ وَجَعَلْنَاهُ مَنْهِيَّا لِلْحُرْمَةِ فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ، لَكِنْ ثَبَتَ لَهُ وَصْفٌ آخَرُ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ إثْبَاتُ الْحِلِّ مُطْلَقًا قُلْنَا بِهِ وَتَرَكْتُمْ أَنْتُمْ الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ آنِفًا.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا، وَحَقِيقَتُهُ مُثْبِتُ الْحِلِّ كَالْمُحَرَّمِ وَالْمُسْوَدِّ وَالْمُبْيَضِّ وَغَيْرُهَا مُثْبِتُ الْحُرْمَةِ وَالسَّوَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قُلْت: تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ مَحْمَلَ الْحَدِيثِ الشَّارِطِ لِلْحِلِّ لِلْعِلْمِ قَطْعًا أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ لَيْسَ مُتَعَلِّقُ اللَّعْنَةِ وَإِلَّا لَتَعَلَّقَتْ بِالْمُتَزَوِّجِ تَزْوِيجَ رَغْبَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مُتَعَلِّقِ اللَّعْنَةِ عَلَى مَا قَالُوا شَارِطَ الْحِلِّ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ الْجَدِيدِ شَرْعًا لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْمُحَلِّلِ مُثْبِتَ الْحِلِّ بَلْ شَارِطَهُ.
قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ الزَّوْجَ يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ مُثْبِتِ الْحِلِّ، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: لَعَنَ اللَّهُ مُثْبِتَ الْحِلِّ إذَا شَرَطَ الْحِلَّ، فَلَا يَكُونُ شَارِطُ الْحِلِّ مُرَادًا بِلَفْظٍ مِنْ التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ بَلْ كُلُّهُ مُضْمَرٌ، فَفِيهِ حِينَئِذٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مُثْبِتُ الْحِلِّ وَتَعْلِيقُ اللَّعْنَةِ بِهِ إذَا شَرَطَهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَحْمَلَهُ لَعْنَةُ الْمُحَلِّلِ إذَا شَرَطَهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحَلِّلِ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ هُوَ الشَّارِطُ لِلْحِلِّ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مُثْبِتًا لَهُ.
نَعَمْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قِيلَ إنَّهُ لَمَّا جُعِلَ مُحَلِّلًا فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُهُ فِي غَيْرِهَا.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يُثْبِتُهُ فِيهَا بِدَلَالَتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحَلِّلًا فِي الْغَلِيظَةِ فَفِي الْخَفِيفَةِ أَوْلَى.
وَأَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ زَوْجًا لِأَنَّ صُورَةَ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ مَحِلٌّ وَالْمَحِلُّ لَا يَدْخُلُ فِي التَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ لَانْسَدَّ بَابُ الْقِيَاسِ لِأَنَّ مَحِلَّ الْأَصْلِ غَيْرُ مَحِلِّ الْفَرْعِ.
وَأُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُمْكِنُ وَلَا يُمْكِنُ هُنَا لِأَنَّ الْحِلَّ ثَابِتٌ فِيهِ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ.
أُجِيبُ إنْ لَمْ يَقْبَلُ الْمَحِلُّ أَصْلَ الْحِلِّ يَقْبَلُ ثُبُوتَ وَصْفِ
سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَهُوَ الْمُثَبِّتُ لِلْحِلِّ
(وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت وَدَخَلَ بِي الزَّوْجُ وَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُصَدِّقَهَا إذَا كَانَ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ).
الْكَمَالِ فِيهِ، بِأَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ يَمْلِكُ تَجْدِيدَهُ بَعْدَ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ، وَمَا صَلَحَ سَبَبًا لِأَصْلِ الشَّيْءِ صَلَحَ سَبَبًا لِوَصْفِهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ غَايَةُ مَا تَحَقَّقَ مِنْ الشَّارِعِ تَسْمِيَتُهُ مُحَلِّلًا، وَمَفْهُومُهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنَّهُ مُثْبِتٌ لِمُجَرَّدِ الْحِلِّ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَكَوْنُ الْحِلِّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِهِ، وَثُبُوتُهُ كَذَلِكَ فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَحِلٌّ ابْتَدَأَ فِيهِ الْحِلُّ لِاسْتِيفَاءِ الزَّوْجِ مَالَهُ مِنْ الطَّلْقَاتِ قَبْلَهُ، وَحَيْثُ ابْتَدَأَ ثُبُوتُ الْحِلِّ كَانَ ثَلَاثًا شَرْعًا، فَظَهَرَ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَقَدْ صَدَقَ قَوْلُ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ: وَمَسْأَلَةٌ يُخَالَفُ فِيهَا كِبَارُ الصَّحَابَةِ يَعُوزُ فِقْهُهَا وَيَصْعُبُ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَعُودِي إلَى رِفَاعَةَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» فَغَيَّا عَدَمَ الْعَوْدِ بِالذَّوْقِ.
فَعِنْدَهُ يَنْتَهِي عَدَمُهُ وَيَثْبُتُ هُوَ، وَالْعَوْدُ هُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ مَا يَمْلِكُ فِيهَا الزَّوْجُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِصِدْقِ حَقِيقَتِهِ قَبْلَ الزَّوْجِ الثَّانِي لَوْ قَالَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ بِلَا تَحَلُّلِ زَوْجٍ أَتُرِيدِينَ أَنْ تَعُودِي إلَى فُلَانٍ صَدَقَ حَقِيقَتُهُ وَإِنْ كَانَ الْعَوْدُ لَا إلَى مَا يَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثًا.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَوْدَ إلَى عَيْنِ الْحَالَةِ الْأُولَى مُحَالٌ، فَالْمُرَادُ الْعَوْدُ إلَى شَبَهِهَا وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِمُجَرَّدِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْحِلِّ لِانْتِفَاءِ اشْتِرَاطِ عُمُومِ وَجْهِ التَّشْبِيهِ
(قَوْلُهُ فَقَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْتُ وَدَخَلَ بِي الزَّوْجُ وَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي) فِي النِّهَايَةِ: إنَّمَا ذَكَرَ إخْبَارَهَا هَكَذَا مَبْسُوطًا، لِأَنَّهَا لَوْ قَالَتْ حَلَلْت لَك فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَالَتْ لَمْ يَكُنْ الثَّانِي دَخَلَ بِي، إنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِشَرَائِطِ الْحِلِّ لَمْ تُصَدَّقْ وَإِلَّا تُصَدَّقُ، وَفِيمَا ذَكَرَتْهُ مَبْسُوطًا لَا تُصَدَّقُ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَعَنْ السَّرَخْسِيِّ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا حَتَّى يَسْتَفْسِرَهَا لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّاسِ فِي حِلِّهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ.
وَفِي التَّفَارِيقِ: لَوْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا ثُمَّ قَالَتْ مَا تَزَوَّجْت أَوْ مَا دَخَلَ بِي صَدَقَتْ إذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ جِهَتِهَا.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ إقْدَامَهَا عَلَى النِّكَاحِ اعْتِرَافٌ مِنْهَا بِصِحَّتِهِ فَكَانَتْ مُتَنَاقِضَةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهَا، كَمَا لَوْ قَالَتْ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِهَا كُنْت مَجُوسِيَّةً أَوْ مُرْتَدَّةً أَوْ مُعْتَدَّةً أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ
لِأَنَّهُ مُعَامَلَةٌ أَوْ أَمْرٌ دِينِيٌّ لِتَعَلُّقِ الْحِلِّ بِهِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِمَا مَقْبُولٌ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَدْنَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَسَنُبَيِّنُهَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ.
أَوْ مُحَرَّمًا أَوْ كَانَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ شُهُود، ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَغَيْرِهِ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي.
وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لَهَا ذَلِكَ وَكَذَّبَتْهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَلِذَا يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى أَوْ كَمَالُهُ إنْ دَخَلَ بِهَا انْتَهَى مِنْ قَائِلِهِ.
ثُمَّ رَأَيْت فِي الْخُلَاصَةِ مَا يُوَافِقُ الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ، قَالَ فِي الْفَتَاوَى فِي بَابِ الْبَاءِ: لَوْ قَالَتْ بَعْدَمَا تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ مَا تَزَوَّجْت بِآخَرَ وَقَالَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ تَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِك لَا تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ انْتَهَى.
وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ الثَّانِي النِّكَاحُ وَقَعَ فَاسِدًا لِأَنِّي جَامَعْت أُمَّهَا إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ تَحِلُّ، كَذَا أَجَابَ الْقَاضِي الْإِمَامُ.
وَلَوْ قَالَتْ دَخَلَ بِي الثَّانِي وَالثَّانِي مُنْكِرٌ فَالْمُعْتَبَرُ قَوْلُهَا، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ.
وَفِي النِّهَايَةِ وَلَمْ يَمُرَّ بِي: لَوْ قَالَ الْمُحَلِّلُ بَعْدَ الدُّخُولِ كُنْت حَلَفْت بِطَلَاقِهَا إنْ تَزَوَّجْتهَا هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قُلْت: يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهَا، إنْ كَانَ صَادِقًا عِنْدَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا تَحِلُّ.
وَعَنْ الْفَضْلِيِّ: لَوْ قَالَتْ تَزَوَّجْنِي فَإِنِّي تَزَوَّجْت غَيْرَك فَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَالَتْ مَا تَزَوَّجْت صُدِّقَتْ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَقَرَّتْ بِدُخُولِ الثَّانِي، كَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يَحْمِلُ قَوْلَهَا تَزَوَّجْت عَلَى الْعَقْدِ، وَقَوْلَهَا مَا تَزَوَّجْت عَلَى مَعْنَى مَا دَخَلَ بِي لَا عَلَى إنْكَارِ مَا اعْتَرَفَتْ بِهِ، وَلِذَا قَالَ: إلَّا أَنْ تَكُونَ أَقَرَّتْ بِدُخُولِ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهَا فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ مُنَاقَضَةً صَرِيحَةً.
وَسُئِلَ نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ فَأُفْتِيَتْ الْمَرْأَةُ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ وَخَافَتْ إنْ أَعْلَمَتْهُ بِذَلِكَ أَنْ يُنْكِرَ هَلْ لَهَا أَنْ تَسْتَحِلَّ بَعْدَ مَا يُفَارِقُهَا بِسَفَرٍ وَتَأْمُرَهُ إذَا حَضَرَ بِتَجْدِيدِ الْعَقْدِ؟ قَالَ: نَعَمْ دِيَانَةً (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ) أَنَّثَ الضَّمِيرَ وَإِنْ كَانَ مَرْجِعُهُ وَهُوَ النِّكَاحُ مُذَكَّرًا لِتَأْنِيثِ خَبَرِهِ وَفِي غَيْرِ نُسْخَةٍ لِأَنَّهُ عَلَى الْأَصْلِ (وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِمَا مَقْبُولٌ) كَالْوِكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَاتِ، وَلِذَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ فِي الْهَدِيَّةِ (قَوْلُهُ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ) أَفَادَ أَنَّ تَصْدِيقَهَا إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهَا مَشْرُوطٌ بِاحْتِمَالِ الْمُدَّةِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَسَنُبَيِّنُهَا فِي الْعِدَّةِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَوَالَةُ غَيْرُ رَائِجَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا.
وَأَجَابَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي الْعِدَّةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ فِي عِدَّةٍ غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يَقْضِي الْعَجَبَ مِنْ تَسْطِيرَهِ فِي الْأَوْرَاقِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا تَوْفِيقَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ بَيَانُهَا فِي الْكِتَابِ تَعَيَّنَ تَعَيُّنُهَا فِي الشَّرْحِ، وَذِكْرُ نُبْذَةٍ مِنْ الْخِلَافِ.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ مَا تُصَدَّقُ إذَا ادَّعَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا إنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَقَالَا: أَقَلُّهَا تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا.
وَقَالَ شُرَيْحٌ: لَوْ ادَّعَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ وَجَاءَتْ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ النِّسَاءِ الْعُدُولِ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا أَنَّهَا رَأَتْ الْحَيْضَ وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَتُصَلِّي فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه:(قالون) وَمَعْنَاهُ بِالرُّومِيَّةِ أَحْسَنْت.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَلَحْظَتَانِ إنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ، وَسَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ إنْ وَقَعَ فِي الْحَيْضِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْجَوَاهِرِ: أَرْبَعُونَ.
وَقَالَ إِسْحَاق بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ: إنْ كَانَ لَهَا أَقْرَاءٌ مَعْلُومَةٌ تَعْرِفُهَا بِطَانَةُ أَهْلِهَا تُصَدَّقُ عَلَى مَا يُشْهَدُ بِهِ، وَإِلَّا لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا إنْ قُلْنَا أَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَإِنْ قُلْنَا خَمْسَةَ عَشَرَ تَزْدَادُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فَيَصِيرُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ إِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّهْرَ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَطُهْرٍ فَتُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ إذَا أَخْبَرَتْ بِمَا دُونَهُ، وَالْمُكَذَّبُ عَادَةً كَالْمُكَذَّبِ حَقِيقَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا قَالَ أَنْفَقْتُ عَلَيْهِ مِائَةً فِي يَوْمٍ لَا يَصَّدَّقُ وَإِنْ اُحْتُمِلَ صِدْقُهُ بِأَنْ تَكَرَّرَ هَلَاكُ الْمُشْتَرَى فِي الْيَوْمِ، أَوَلَا يَرَى أَنَّ اللَّهُ سبحانه وتعالى لَمَّا أَقَامَ الزَّمَانَ مَقَامَ الْأَقْرَاءِ فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ قَدَّرَ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَقَالَ تَعَالَى وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَشْهَدَ بِمَا دُونَ الْعَادَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ أَنَّ هَذَا مِنْ النَّادِرِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَأَيْت أَنَّ قَوْلَ إِسْحَاقَ وَمَنْ مَعَهُ أَوْلَى بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَخْرِيجُهُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ يُجْعَلَ مُطْلَقًا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ تَفَادِيًا مِنْ الطَّلَاقِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا كُلُّ طُهْرٍ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَثَلَاثُ حِيَضٍ بِخَمْسَةَ عَشَرَ كُلُّ حَيْضَةٍ بِخَمْسَةٍ أَخْذًا بِالْوَسَطِ فِيهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنْ يُجْعَلَ مُطْلَقًا فِي آخِرِ الطُّهْرِ تَفَادِيًا مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا اعْتِبَارًا لِلْأَكْثَرِ وَطُهْرَيْنِ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي وَزِيَادَةِ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَأَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا طُهْرٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ وَحَيْضَتَانِ بِعِشْرَيْنِ.
وَعَلَى تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ أَقَلُّهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِهِ، وَالْمُتَخَلِّلُ ثَلَاثُونَ وَحَيْضَتَانِ بِعَشَرَةٍ.
وَتَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنْ يُجْعَلَ مُطْلَقًا فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَطُهْرَانِ بِثَلَاثِينَ وَثَلَاثُ حِيَضٍ بِتِسْعَةٍ اعْتِبَارًا لِأَقَلِّهِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي وَزِيَادَةِ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَأَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا حَيْضَتَانِ بِسِتَّةٍ وَطُهْرٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمِثْلُهُ لِلثَّانِي وَزِيَادَةُ طُهْرٍ: يَعْنِي إذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْمُدَّتَيْنِ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا تُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لَا يَجُوزُ حَتَّى يُحْتَسَبُ مَعَ الْمُدَّتَيْنِ طُهْرٌ آخَرُ فِي كُلٍّ تَخْرِيجٌ جُعِلَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الزَّوْجُ فِيهِ مُطَلِّقًا فِي آخِرِ الطُّهْرِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِي إذَا جُعِلَ مُطَلِّقًا فِي آخِرِهِ وَالْفَرْضُ أَنَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ انْقَضَتْ بِأَوَّلِ الطُّهْرِ لَزِمَ مَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ عَلَّقَ طَلَاقَهَا الثَّلَاثَ بِالْوِلَادَةِ فَوَلَدَتْ لَمْ تُصَدَّقْ فِي أَقَلِّ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا فِي قَوْلِهِ عَلَى تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى تَخْرِيجِ الْحَسَنِ لَمْ تُصَدَّقْ فِي أَقَلِّ مِنْ مِائَةِ يَوْمٍ احْتِسَابًا لِلنِّفَاسِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ طُهْرٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَطُهْرَانِ بِسِتِّينَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ لَا يَكُونُ حَيْضًا بَلْ بَعْدَهُ، وَكَوْنُ مَا بَعْدَهُ حَيْضًا مَوْقُوفٌ عَلَى تَقَدُّمِ طُهْرٍ تَامٍّ وَهُوَ مَا قُلْنَا، هَذَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ فِي الثَّانِي إلَى سِتِّينَ عَلَى مَا سَمِعْت عَلَى التَّخْرِيجَيْنِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ فِي خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا لِأَنَّ نِفَاسَهَا يُقَدَّرُ بِأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَهُ لِأَنَّ مُدَّتَهُ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ الْحَيْضِ؛ فَيُقَدَّرُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَكْثَرِهِ بِيَوْمٍ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَثَلَاثَةٍ أَطْهَارٍ، وَيَحْتَاجُ فِي حَقِّ الثَّانِي إلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثَةٍ أَيْضًا.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُصَدَّقُ فِي أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَسَاعَةٍ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِأَقَلِّ النِّفَاسِ، فَإِذَا قَالَتْ كَانَ سَاعَةً صُدِّقَتْ ثُمَّ الطُّهْرُ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَطُهْرَانِ، وَيَحْتَاجُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي إلَى أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَمَةِ فَتَخْرِيجُهُ عَلَى الْمَذَاهِبِ غَيْرُ خَافٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
1
(بَابُ الْإِيلَاءِ)
تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ بِأَرْبَعَةِ طُرُقٍ: الطَّلَاقِ، وَالْإِيلَاءِ، وَاللِّعَانِ، وَالظِّهَارِ. فَبَدَأَ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالْمُبَاحُ فِي وَقْتِهِ. ثُمَّ أَوْلَاهُ الْإِيلَاءَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فِي الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَمِينٌ مَشْرُوعٌ لَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الظُّلْمِ لِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْوَطْءِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا لَيْسَ إلَّا بِالطَّلَاقِ فِي الْحَالِ أَوْ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، غَيْرَ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِأَسْبَابِ الْأَصْلِ وَالْأَشْهَرُ مِنْهَا الِابْتِدَاءُ بِهِ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا فَقُدِّمَ، ثُمَّ أَوْلَى الْإِيلَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْمَعْصِيَةُ، إذْ قَدْ يَكُونُ بِرِضَاهَا لِخَوْفِ غِيلٍ عَلَى وَلَدٍ وَعَدَمِ مُوَافَقَةِ مِزَاجِهَا وَنَحْوِهِ فَيَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ لِقَطْعِ لِجَاجِ النَّفْسِ، بِخِلَافِ الظِّهَارِ وَاللَّعَّانِ فَإِنَّهُمَا لَا يَنْفَكَّانِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ عَلَيْهِمَا الْخُلْعَ لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَسْتَلْزِمُهَا لِجَوَازِ أَنْ تَسْأَلَهُ لَا لِنُشُوزٍ بَلْ لِقَصْدِ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ أَوْ لِعَجْزٍ عَنْ أَدَاءِ حُقُوقِ الزَّوْجِ وَالْقِيَامِ بِأُمُورِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْإِيلَاءَ عَلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي عَدَمِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اسْتِلْزَامِ الْمَعْصِيَةِ وَالِانْفِكَاكِ عَنْهَا لِاخْتِصَاصِهِ هُوَ بِزِيَادَةِ تَسْمِيَةِ الْمَالِ فَهُوَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْكَبِ مِنْ الْفَرْدِ. وَالْإِيلَاءُ لُغَةً الْيَمِينُ، وَالْجَمْعُ الْأَلَايَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ
…
وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلْيَةُ بَرَّتْ
وَفِعْلُهُ آلَى يُولِي إيلَاءً كَتَصْرِيفِ أَعْطَى. وَفِي الشَّرْعِ: هُوَ الْيَمِينُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بِاَللَّهِ أَوْ بِتَعْلِيقِ مَا يَسْتَشِقُّهُ عَلَى الْقُرْبَانِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ فِي الْكَنْزِ: الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْحَلِفِ يَتَحَقَّقُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ إنْ وَطِئْتُك فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَغْزُوَ، وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُولِيًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَشُقُّ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ إشْقَاقُهُ بِعَارِضٍ ذَمِيمٍ فِي النَّفْسِ مِنْ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ، بِخِلَافِ إنْ وَطِئْتُك فَعَلَيَّ حَجٌّ أَوْ صِيَامٌ أَوْ صَدَقَةٌ فَالْمُولِي حِينَئِذٍ مَنْ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْمَكْرُوهَيْنِ مِنْ الطَّلَاقِ أَوْ لُزُومِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ مَنْ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْمَكْرُوهَيْنِ مِنْ الطَّلَاقِ أَوْ الْكَفَّارَةِ لِقُصُورِ هَذَا عَنْ نَحْوِ إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدُهُ حُرٌّ أَوْ فُلَانَةُ طَالِقٌ.
. وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ الْحَلِفُ الْمَذْكُورُ،
وَشَرْطُهُ مَحَلِّيَّةُ الْمَرْأَةِ وَأَهْلِيَّةُ الْحَالِفِ وَعَدَمُ النَّقْصِ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالْأَوَّلُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالثَّانِي بِأَهْلِيَّةِ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا بِأَهْلِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فَيَصِحُّ إيلَاءُ الذِّمِّيِّ عِنْدَهُ بِمَا فِيهِ كَفَّارَةٌ نَحْوُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، فَإِنْ قَرِبَهَا لَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ بِلَا قُرْبَانٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا، أَمَّا لَوْ آلَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ كَإِنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ حَجٌّ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ صَوْمٌ فَلَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا، وَلَوْ آلَى بِمَا لَا يُلْزِمُ قُرْبَةً كَإِنْ قَرِبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَحْوُهُ صَحَّ اتِّفَاقًا،
وَحُكْمُهُ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ أَوْ الْجَزَاءِ الْمُعَلَّقِ بِتَقْدِيرِ الْحِنْثِ بِالْقُرْبَانِ، وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ بَائِنَةٍ بِتَقْدِيرِ الْبَرِّ.
وَأَلْفَاظُهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ؛ فَالصَّرِيحُ نَحْوَ لَا أَقْرَبُك لَا أُجَامِعُك لَا أَطَؤُك لَا أُبَاضِعُك لَا أَغْتَسِلُ مِنْك مِنْ جَنَابَةٍ، فَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ الْجِمَاعَ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ، وَالْكِنَايَةُ نَحْوَ لَا أَمَسُّك لَا آتِيك لَا أَغْشَاك لَا أَلْمِسُك لَأَغِيظَنَّك لَأَسُوأَنَّكِ لَا أَدْخُلُ عَلَيْك لَا أَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَك لَا أُضَاجِعُك لَا أَقْرَبُ فِرَاشَك فَلَا يَكُونُ إيلَاءً بِلَا نِيَّةٍ وَيُدِينُ فِي الْقَضَاءِ. وَقِيلَ الصَّرِيحُ لَفْظَانِ: لَا أُجَامِعُك، لَا أَنِيكُك، وَهَذِهِ كِنَايَاتٌ تَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ لِأَنَّ الصَّرَاحَةَ مَنُوطَةٌ بِتَبَادُرِ الْمَعْنَى لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا لَا بِالْحَقِيقَةِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ كَوْنُ الصَّرِيحِ لَفْظًا وَاحِدًا وَهُوَ ثَانِي مَا ذَكَرَ.
وَفِي الْبَدَائِعِ: الِافْتِضَاضُ فِي الْبِكْرِ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَالدُّنُوُّ كِنَايَةٌ، وَكَذَا لَا أَبِيتُ مَعَك فِي فِرَاشٍ، وَيُخَالِفُهُ مَا فِي الْمُنْتَقَى لَا أَنَامُ مَعَك إيلَاءً بِلَا نِيَّةٍ، وَكَذَا لَا يَمَسُّ فَرْجِي فَرْجَك.
فِي الذَّخِيرَةِ: وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ مَا يُخَالِفُهُ قَالَ: لَا يَمَسُّ جِلْدِي جِلْدَك لَا يَصِيرُ مُولِيًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَلُفَّ ذَكَرَهُ بِشَيْءٍ. وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ: يَحْنَثُ بِمَسِّ الْفَرْجِ دُونَ الْجِمَاعِ فَلَيْسَ بِمُولٍ؛ قِيلَ فِيهِ بُعْدٌ وَهُوَ حَقٌّ لِأَنَّ الْفَرْضَ كَوْنُ الْجِمَاعِ هُوَ الْمُرَادُ وَلِذَا كَانَ كِنَايَةً مُفْتَقِرَةً إلَى النِّيَّةِ وَهُوَ فَرْعُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْجِمَاعِ فَيَكُونُ مُولِيًا. وَفِي التُّحْفَةِ: لَوْ قَالَ أَنَا مِنْك مُولٍ فَإِنْ عَنَى الْخَبَرَ كَذِبًا فَلَيْسَ بِمُولٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَصْدُقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ هَذَا إيجَابٌ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْإِيجَابَ فَهُوَ مُولٍ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِيلَاءَ
(وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الْآيَةُ (فَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ) لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْحِنْثِ (وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ)
بِهَذَا اللَّفْظِ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلَ امْرَأَةِ فُلَانٍ وَقَدْ كَانَ فُلَانٌ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ، فَإِنْ نَوَى الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِهَا فِي الْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ وَلَا التَّحْرِيمَ لَا يَكُونُ مُولِيًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِيلَاءُ الْحَلِفُ إلَخْ، وَقَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ امْرَأَةِ فُلَانٍ أَوْ أَنَا مُولٍ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ حَلِفٍ إنْشَائِيَّةٍ وَلَا تَعْلِيقِيَّةٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْحَلِفِ قَوْلُهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَنَحْوَهُ أَوْ إنْ قَرِبْتُك، وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَنْتِ مِثْلُهَا إيَّاهُ وَلَا مُحَقِّقًا لِوُجُودِهِ لِفَرْضِ عَدَمِ وُجُودِهِ سَابِقًا وَلَاحِقًا، إلَّا أَنَّ هَذَا جَوَابُ الرِّوَايَةِ، صَرَّحَ بِهِ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَفِيهِ: لَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى أَشْرَكْتُك فِي إيلَاءِ هَذِهِ كَانَ بَاطِلًا.
وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَهُوَ مُولٍ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنَا مِنْك مُولٍ مَعْنَاهُ أَنَا مِنْك حَالِفٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ أَحْلِفُ فَقَطْ كَمَا يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ فَيَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ أَنَا حَالِفٌ، وَكَذَا التَّشْبِيهُ الْمَذْكُورُ يَئُولُ إلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: لَا وَطِئْتُك فِي الدُّبُرِ أَوْ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَمْ يَصِرْ مُولِيًا، خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله، وَلَوْ قَالَ: لَا جَامَعْتُك إلَّا جِمَاعَ سُوءٍ. سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ، فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ صَارَ مُولِيًا، وَإِنْ قَالَ أَرَدْت جِمَاعًا ضَعِيفًا لَا يَزِيدُ عَلَى نَحْوِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَلَيْسَ بِمُولٍ، وَكَذَا إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْت دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ مُولٍ
(قَوْلُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ) لَيْسَ حُكْمُ الْمُولِي مُطْلَقًا عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ بَلْ حُكْمُ هَذَا الْمُولِي الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ إذَا قَالَ الرَّجُلُ وَاَللَّهِ إلَخْ لِمَا سَتَعْرِفُ أَنَّ الْمُولِيَ قَدْ لَا يَكُونُ حُكْمُهُ الْكَفَّارَةُ بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْقَدِيمِ: لَا كَفَّارَةَ فِي خُصُوصِ هَذَا الْحِنْثِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الْمَغْفِرَةَ بِتَقْدِيرِ الْفَيْءِ، وَالْمُرَادُ الْجِمَاعُ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ الرُّجُوعُ، وَبِالْجِمَاعِ يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ التَّرْكِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلُهُ الْجَدِيدُ كَقَوْلِنَا لِأَنَّ وَعْدَ الْمَغْفِرَةِ بِسَبَبِ الْفَيْئَةِ الَّتِي هِيَ مِثْلُ التَّوْبَةِ لَا يُنَافِي إلْزَامَ الْكَفَّارَةِ بَلْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ انْفِكَاكُ التَّلَازُمِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ: أَعْنِي الْمَغْفِرَةَ وَسُقُوطَ الْكَفَّارَةِ، وَثُبُوتُ أَحَدِهِمَا مَعَ نَقِيضِ الْآخَرِ مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ حَلِفٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ إذَا حَنِثَ الْحَالِفُ فِيهَا تَوْبَةٌ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ تَثْبُتُ مَعَ عَدَمِ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا إعْمَالًا لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الْآيَةَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحِ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَهُوَ قَوْلُ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. قَالَ قَتَادَةُ: خَالَفَ الْحَسَنُ النَّاسَ (قَوْلُهُ وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ)
لِأَنَّ الْيَمِينَ تَرْتَفِعُ بِالْحِنْثِ
(وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَبِينُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي
بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ آخَرُ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَنْحَلُّ بِالْحِنْثِ
(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَبِينُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي) لَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ تَبِينُ، بَلْ قَالَ يَقَعُ رَجْعِيًّا سَوَاءٌ طَلَّقَ الزَّوْجُ بِنَفْسِهِ أَوْ الْحَاكِمُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَرُجِّحَ بِأَنَّ الْوَاقِعَ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ إلَّا الثَّابِتَ بِالنَّصِّ.
وَالْجَوَابُ مَنْعُ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ دَفْعِهِ فِي الْكِنَايَاتِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَسْتَدْعِي سَبَبًا، وَالسَّبَبُ هُنَا أَنَّهُ وَقَعَ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الظُّلْمِ، وَالرَّجْعِيُّ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى عِصْمَتِهِ وَيُعِيدَ الْإِيلَاءَ فَتَعَيَّنَ الْبَائِنُ لِتَمْلِكَ نَفْسَهَا وَتَزُولُ سَلْطَنَتُهُ عَلَيْهَا جَزَاءً لِظُلْمِهِ مَعَ وُرُودِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ كَمَا سَتَقِفُ عَلَى انْتِهَاضِهَا بِإِثْبَاتِهِ. ثُمَّ الْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْفَيْءَ عِنْدَهُ يَكُونُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَيَكُونُ بَعْدَهَا وَعِنْدَ مُضِيِّهَا يُوقَفُ إلَى أَنْ يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا} وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَاقْتَضَى جَوَازَ الْفَيْءِ بَعْدَ الْمُدَّةِ.
وَعِنْدَنَا الْفَيْءُ فِي الْمُدَّةِ لَا غَيْرُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْفَاءَ لِتَعْقِيبِ الْمَعْنَى فِي الزَّمَانِ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ كَجَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو، وَتَدْخُلُ الْجُمَلَ لِتَفْصِيلِ مُجْمَلٍ قَبْلَهَا وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْأَوَّلِ نَحْوَ {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} وَنَحْوَ: تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ فَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ التَّعْقِيبَ، بَلْ التَّعْقِيبُ الذِّكْرِيّ بِأَنْ ذَكَرَ التَّفْصِيلَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَكَالْأَوَّلِ كَجَاءَ زَيْدٌ فَقَامَ عَمْرٌو، وَكُلٌّ مِنْ التَّعْقِيبَيْنِ جَائِزُ الْإِرَادَةِ فِي الْآيَةِ؛ الْمَعْنَوِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيلَاءِ، {فَإِنْ فَاءُوا} أَيْ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، وَالذِّكْرِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ مَعَ عَدَمِ الْوَطْءِ كَانَ مَوْضِعُ تَفْصِيلِ الْحَالِ فِي الْأَمْرَيْنِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا} إلَى قَوْلِهِ {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
وَاقِعٌ بِهَذَا الْمَعْرِضِ فَيَصِحُّ كَوْنُ الْمُرَادِ {فَإِنْ فَاءُوا} : أَيْ رَجَعُوا عَمَّا اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ تَعْقِيبًا عَلَى الْإِيلَاءِ التَّعْقِيبُ الذِّكْرِيُّ أَوْ بَعْدَهَا تَعْقِيبًا عَلَى التَّرَبُّصِ {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لِمَا حَدَثَ مِنْهُمْ مِنْ الْيَمِينِ عَلَى الظُّلْمِ وَعَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ الْفَيْئَةِ الَّتِي هِيَ تَوْبَةٌ، أَوْ غَفُورٌ لِلْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ إنْ كَانَ بِرِضَاهَا لِغَرَضِ تَحْصِينِ وَلَدٍ عَنْ الْغِيلِ وَنَحْوِهِ رَحِيمٌ بِشَرْعِ الْكَفَّارَةِ كَافِيَةٌ عَنْهُ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ {فَإِنْ فَاءُوا} تَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ وَهُوَ كَوْنُ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ، إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ تَوَافُقُ الْقِرَاءَتَيْنِ شَاذَّتَيْنِ كَانَتَا أَوْ إحْدَاهُمَا شَاذَّةٌ فَتَنْزِلُ تَفْسِيرًا لِلْمُرَادِ بِالْأُخْرَى، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ فِي الْمُدَّةِ إذْ لَا تُعَارِضُ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا فِيهَا أَوْ بَعْدَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَإِنْ أَبَى الْخَصْمُ وَرَدَّ الْمُخْتَلَفَ إلَى الْمُخْتَلِفِ يَتِمُّ إذَا أَثْبَتَ الْأَصْلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ إنَّمَا يَقْرَؤُهَا الرَّاوِي خَبَرًا عَنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ قُرْآنًا فَانْتِفَاءُ الْقُرْآنِيَّةِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ التَّوَاتُرُ انْتِفَاءُ الْأَخَصِّ، فَإِنَّ الْقُرْآنِيَّةَ أَخَصُّ مِنْ الْخَبَرِيَّةِ، وَانْتِفَاءَ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْأَعَمِّ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ كَوْنِهَا قُرْآنًا أَوْ خَبَرًا عَنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَذَلِكَ دَوَرَانٌ بَيْنَ الْحُجِّيَّةِ عَلَى وَجْهٍ وَبَيْنَهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ لَا بَيْنَ الْحُجِّيَّةِ وَعَدَمِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ الْمُفَادِ بِهَا جَوَازُ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَفِيءَ بَعْدَهَا، وَتَنْحَلُّ يَمِينُهُ إذَا لَمْ يَفِئْ فِيهَا أَوْ لَا بَلْ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَيْءِ أَثْبَتْنَاهُ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تَنْفِيهِ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ حُكْمَ الْإِيلَاءِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَفِيءَ فِي الْمُدَّةِ أَوْ يَثْبُتَ الطَّلَاقُ بِتَطْلِيقِهِ أَوْ تَطْلِيقِ الْقَاضِي عَلَى الْخِلَافِ
لِأَنَّهُ مَانِعُ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ كَمَا فِي الْجُبِّ وَالْعُنَّةِ. وَلَنَا أَنَّهُ ظَلَمَهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا
هَذَا هُوَ الْمُفَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا} فِيهِنَّ فَكَذَا {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} فَكَذَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ التَّأْوِيلِ لِأَنَّ التَّرْدِيدَ مَأْخُوذٌ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهُ نَقِيضُ الْآخَرِ، أَيْ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ. فَلَمْ يَفِيئُوا فِيهَا وَهُوَ لَازِمٌ فَإِنَّهُمْ لَوْ فَاءُوا فِيهِنَّ لَمْ تَبْقَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ لَا فَيْءَ إلَّا فِي الْمُدَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ تَقَعُ الْفِرْقَةُ بَيْنَهُمَا طَلَاقًا بَائِنًا وَعِنْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَلَاقِهِ أَوْ بِطَلَاقِ الْقَاضِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يُتَصَوَّرُ الْعَزْمُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّصَّ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ مَسْمُوعٌ وَهُوَ قَوْلُهُ {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَحَاصِلُهُ إلْحَاقُ الْمُوَلِّي بِالْعِنِّينِ فِي حُكْمٍ هُوَ إلْزَامُهُ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَلَّقَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، وَإِلَّا كَانَ مَوْقِعًا مِنْ غَيْرِ إيقَاعٍ.
وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْعَزْمُ عَلَيْهِ لَوْ وَقَعَ بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ مَمْنُوعٌ، بَلْ إذَا فَرَضَ وُقُوعَهُ عِنْدَهَا كَانَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ عَزْمُهُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّرْكِ حَتَّى يَتِمَّ، فَمَعْنَى فَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنْ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ التَّرْكِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} بِمَا يُقَارِنُ هَذَا التَّرْكَ وَالِاسْتِمْرَارَ مِنْ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُجَادَلَةِ وَحَدِيثَ النَّفْسِ بِهِ كَمَا يَسْمَعُ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ عَلِيمٌ بِمَا اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ الظُّلْمِ، وَفِيهِ مَعْنَى الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ، وَانْدَرَجَ فِي هَذَا جَوَابُ الثَّانِي. وَعَنْ الْأَخِيرِ بِأَنَّ الْعِنِّينَ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَنَاسَبَهُ التَّخْفِيفُ عَلَيْهِ وَلِذَا كَانَ أَجَلُهُ أَكْثَرُ، وَالْمُولِيَ ظَالِمٌ يَمْنَعُ حَقَّهَا فَيُجَازَى بِوُقُوعِهِ بِنَفْسِ الِانْقِضَاءِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بِلَا إيقَاعٍ بَلْ الزَّوْجُ بِالْإِيلَاءِ مُوقِعٌ، فَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَنْجِيزًا فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ مُؤَجَّلًا.
أَوْ نَقُولُ: جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِوُقُوعِهِ عِنْدَ اسْتِمْرَارِ ظُلْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ إنَّمَا هِيَ رَفْعُ الْقَيْدِ الثَّابِتِ شَرْعًا بِالنِّكَاحِ، وَلَفْظُ أَنْتِ طَالِقٌ الْآلَةُ الَّتِي يَثْبُتُ هُوَ عِنْدَهَا شَرْعًا وَلَمْ يَقْصُرْ الشَّرْعُ ثُبُوتَهُ عَلَى اللَّفْظِ، أَلَّا يَرَى أَنَّهُ حَكَمَ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ كِتَابَتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَتْ الْكِتَابَةُ لَفْظًا فَلَا بُعْدَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ عِنْدَ ظُلْمِهِ بِمَنْعِهِ حَقِّهَا هَذِهِ الْمُدَّةِ. لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَكُونُ ظَالِمًا بِذَلِكَ وَهُوَ بِوَطْئِهِ وَاحِدَةً لَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَلَا يُلْزِمُهُ بِغَيْرِهَا فَهُوَ لَيْسَ بِظَالِمٍ.
لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا فِي الدِّيَانَةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ أَنْ يُجَامِعَهَا أَحْيَانًا لِيُعِفَّهَا، فَإِنْ أَبَى كَانَ عَاصِيًا. وَالنُّصُوصُ مِنْ السُّنَّةِ وَالْآثَارِ تُفِيدُ ذَلِكَ، لَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ هَذَا كُلُّهُ تَجْوِيزٌ لِوُقُوعِهِ كَذَلِكَ وَنَقُولُ بِجَوَازِهِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا هُوَ الثَّابِتُ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الدَّلِيلِ وَهُوَ مَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْآيَةَ وَإِنْ صَحَّ فِيهَا كَوْنُ الْعَزْمِ عَلَى الطَّلَاقِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قُلْتُمْ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا مَا قُلْنَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أَفَادَتْ أَنْ لَا فَيْءَ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَزِمَ انْتِفَاءُ قَوْلِكُمْ مِنْ إلْزَامِكُمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ الطَّلَاقِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا قُلْنَا، وَإِلَّا لَزِمَ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَهُوَ إلْزَامُهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ هُوَ مَحْمَلُ اسْتِدْلَالِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا أَنَّهُ ظَلَمَهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا فَجَازَاهُ الشَّرْعُ بِزَوَالِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُصَادَرَةٌ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِعَيْنِ مَحِلِّ النِّزَاعِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَجَازَاهُ بِذَلِكَ بِالنَّصِّ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ مُفَسَّرَةٌ بِكَوْنِ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ بِقِرَاءَةٍ أُخْرَى إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا، وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِآثَارِ وَهِيَ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَيْمُونِيِّ قَالَ: ذَكَرْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدِيثَ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عُثْمَانَ يَعْنِي بِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ مِمَّا يُوَافِقُ مَذْهَبَنَا قَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ قَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ خِلَافُهُ.
قِيلَ لَهُ مَنْ رَوَاهُ؟ قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ عُثْمَانَ، وَمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ
فَجَازَاهُ الشَّرْعُ بِزَوَالِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَزَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَحَكَمَ الشَّرْعُ بِتَأْجِيلِهِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، فَإِنْ مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ تَوَقَّفَ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَفِيءَ. وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْإِيلَاءِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى لَا تَحِلُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَجَلِ إلَّا أَنْ يَمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلَاقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ: أَيْ الْبُخَارِيُّ: قَالَ لِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَوَقَّفَ حَتَّى يُطَلِّقَ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْت بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ يَقُولُ يُوقَفُ الْمُولِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْت اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ.
قُلْنَا: الْآثَارُ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ مُعَارِضَةٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فِيمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَا يَقُولَانِ فِي الْإِيلَاءِ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ. وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ سَنَدَهُ جَيِّدٌ مَوْصُولٌ، بِخِلَافِ ذَاكَ فَإِنَّ حَالَ رِجَالِهِ لَا يُعْرَفُ إلَى حَبِيبٍ، وَهُوَ أَيْضًا أَعْضَلُهُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ طَاوُسًا أَخَذَ عَنْ عُثْمَانَ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي فِيمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأْنَا مَعْمَرُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالُوا: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ وَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُرْسَلٌ، فَإِنَّ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم مُرْسَلَةٌ، وَكَذَا قَتَادَةُ وَهُمَا مُتَعَاصِرَانِ، وَتُوُفِّيَ قَتَادَةُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَةٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ، وَكَذَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ فِي قَوْلٍ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ سِتَّ
(فَإِنْ كَانَ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ) لِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِهِ
عَشْرَةَ فَاعْتَدَلَا فِي هَذَا الْقَدْرِ. ثُمَّ الْمُثْبَتُ مِنْ اشْتِهَارِ قَتَادَةَ بِعِظَمِ الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَدَاءِ كَمَا سَمِعَ بِعَيْنِهِ أَكْثَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ الْمُثْبَتِ لِمُحَمَّدٍ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: رَأَيْت حَمَامَةً الْتَقَمَتْ لُؤْلُؤَةً فَخَرَجَتْ عَنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا دَخَلَتْ، وَرَأَيْت حَمَامَةً أُخْرَى الْتَقَمَتْ لُؤْلُؤَةً فَخَرَجَتْ مِنْهَا أَصْغَرُ مِمَّا دَخَلَتْ، وَرَأَيْت أُخْرَى الْتَقَمَتْ لُؤْلُؤَةً فَخَرَجَتْ كَمَا دَخَلَتْ سَوَاءً.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ سِيرِينَ: أَمَّا الَّتِي خَرَجَتْ أَعْظَمُ مِمَّا دَخَلَتْ فَذَاكَ الْحَسَنُ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَيُجَوِّدُهُ بِمَنْطِقِهِ ثُمَّ يَصِلُ فِيهِ مِنْ مَوَاعِظِهِ. وَأَمَّا الَّتِي خَرَجَتْ أَصْغَرُ فَذَاكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يُنْتَقَصُ مِنْهُ وَيُسْأَلُ. وَأَمَّا الَّتِي خَرَجَتْ كَمَا دَخَلَتْ فَهُوَ قَتَادَةُ وَهُوَ أَحْفَظُ النَّاسِ انْتَهَى.
وَفِي تَرَاجِمِهِ الْعَجَائِبُ مِنْ حِفْظِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا آلَى فَلَمْ يَفِئْ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ. وَرِجَالُ هَذَا السَّنَدِ كُلُّهُمْ أَخْرَجَ لَهُمْ الشَّيْخَانِ فَهُمْ رِجَالُ الصَّحِيحِ فَيَنْتَهِضُ مُعَارِضًا، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ أَصَحَّ الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، ثُمَّ مَا كَانَ عَلَى شَرْطِهِمَا إلَى آخِرِ مَا عُرِفَ، وَقَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَرَضُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَلَى نَفْسِ الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُمَا فَلَمْ يَفُتْهُ إلَّا كَوْنُهُ لَمْ يَكْتُبْ فِي خُصُوصِ أَوْرَاقٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ.
وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ غَيْرَهُ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إنَّ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ الْحُكْمُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَحَابِيٍّ وَبَلَدٍ فَيُقَالُ: أَصَحُّهَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْهُ، وَأَصَحُّ أَسَانِيدِ الشَّامِيِّينَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَأَصَحُّ أَسَانِيدِ الْيَمَانِيِّينَ مَعْمَرُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَيْضًا الْوُقُوفُ عَلَى اقْتِحَامِ هَذِهِ، فَإِنَّ فِي خُصُوصِ الْوَارِدِ مَا قَدْ يَلْزَمُ الْوُقُوفَ عَنْ ذَلِكَ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ الرَّاوِي الْمُعَيَّنُ أَكْثَرَ مُلَازَمَةً لِمُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِهِ فَيَصِيرُ أَدْرَى بِحَدِيثِهِ وَأَحْفَظَ لَهُ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى أَكْثَرَ إحَاطَةً بِأَفْرَادِ مُتُونِهِ، وَأَعْلَمُ بِعَادَتِهِ فِي تَحْدِيثِهِ وَعِنْدَ تَدْلِيسِهِ إنْ كَانَ وَبِقَصْدِهِ عِنْدَ إبْهَامِهِ وَإِرْسَالِهِ مِمَّنْ لَمْ يُلَازِمْهُ تِلْكَ الْمُلَازَمَةَ، أَمَّا فِي فَرْدٍ مُعَيَّنٍ فَرَضَ أَنَّ غَيْرَهُ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي مَلَكَةِ النَّفْسِ مِنْ الضَّبْطِ أَوْ أَرْفَعْ سَمْعَهُ مِنْهُ فَأَتْقَنَهُ وَحَافَظَ عَلَيْهِ كَمَا يُحَافِظُ عَلَى سَائِرِ مَحْفُوظَاتِهِ يَكُونُ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ بِمُعَارِضِهِ مَا هُوَ إلَّا مَحْضُ تَحَكُّمٍ، فَإِنْ بَعُدَ هَذَا الْفَرْضُ لَمْ يَبْقَ زِيَادَةُ الْآخَرِ إلَّا بِالْمُلَازَمَةِ، وَأَثَرِهَا الَّذِي يَزِيدُ بِهِ عَلَى الْآخَرِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ مُتُونِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى خُصُوصِ مَتْنٍ، وَحِينَئِذٍ فَنَاهِيَك بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَدْ رَوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ فَحَاصِلُهَا أَنَّ قَوْلَ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ، وَكَذَا مَا ذَكَرَ عَنْ سُهَيْلٍ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مَنْ هُمْ فَيَجُوزُ كَوْنُ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ تَعَارَضَتْ عَنْهُ الرِّوَايَاتُ مَعَ اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ فِي عُلُوِّ الْحَالِ وَالْفِقْهِ كَمَا أَسْمَعْنَاك عَمَّنْ ذَكَرُوا، وَكَوْنُ مَنْ ذَهَبَ إلَى خِلَافِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمْ أَفْقَهُ وَأَعْلَى مَنْصِبًا، وَنَحْنُ قَدْ أَخْرَجْنَا مَا قُلْنَاهُ عَنْ الْأَكَابِرِ مِثْلِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ مَا عَارَضَنَا
(وَإِنْ كَانَ حَلَفَ عَلَى الْأَبَدِ فَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ) لِأَنَّهَا مُطْلَقَةً وَلَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ لِتَرْتَفِعَ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَنْعُ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ (فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا عَادَ الْإِيلَاءُ، فَإِنْ وَطِئَهَا وَإِلَّا وَقَعَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى)
بِهِ، وَكَذَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم بِرِكَابِهِ حِينَ رَكِبَ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا، وَكَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا قَدَّمْنَا، وَكَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.
أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ بْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَهُوَ أَمْلَكُ بِرَدِّهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا. وَابْنُ إِسْحَاقَ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: آلَى النُّعْمَانُ مِنْ امْرَأَتِهِ وَكَانَ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضَرَبَ فَخْذَهُ وَقَالَ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَاعْتَرِفْ بِتَطْلِيقَةٍ.
وَأَخْرَجَ نَحْوَ مَذْهَبِنَا عَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَكْحُول. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ نَحْوَهُ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَبِيصَةً وَسَالِمٍ وَأَبِي سَلَمَةَ وَهَذَا تَرْجِيحٌ عَامٌّ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْوُقُوعِ بِمُجَرَّدِ الْمُضِيِّ يَتَرَجَّحُ عَلَى قَوْلِ مُخَالِفِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ كَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى السَّمَاعِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ لَفْظِ الْآيَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ لَهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِهِ عَلَى خِلَافِهِ، وَمَنْ قَالَ كَقَوْلِهِمْ لَمْ يَظْهَرْ فِي قَوْلِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَعَ الْمُتَبَادِرِ مِنْ اللَّفْظِ فَلَا يَلْزَمُ حَمْلُ قَوْلِهِمْ عَلَى سَمَاعٍ، وَانْدَرَجَ فِي هَذَا مَنْ رَوَى عَنْهُمْ الشَّافِعِيُّ مِنْ الصَّحَابَةِ وَسُهَيْلٍ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ لِسُهَيْلٍ حُجَّةٌ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ حَلَفَ عَلَى الْأَبَدِ) هُوَ أَنْ يُصَرِّحَ بِلَفْظِ الْأَبَدِ أَوْ يُطَلِّقَ فَيَقُولُ لَا أَقْرَبُك مُقْتَصِرًا إلَّا أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَلَيْسَ بِمُولٍ أَصْلًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِالْحَيْضِ فَلَا يُضَافُ الْمَنْعُ إلَى الْيَمِينِ، وَكَذَا لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ يَكُونُ مُولِيًا.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ لَازِمِ قَوْلِهِ فَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فِيمَا يَتَبَادَرُ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ أُخْرَى عِنْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى إذَا كَانَتْ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بَعْدُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو سَهْلٍ الشَّرْغِيُّ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمَرْغِينَانِيُّ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ لِأَنَّ حَاصِلَ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ أُجَامِعْك فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، فَكَذَا إذَا صَرَّحَ بِمَلْزُومِهِ، وَالْمُخْتَارُ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ إنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا، وَعَلَيْهِ مَشَى فِي الْبَدَائِعِ وَتُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ وَشَرْحِي الْإِسْبِيجَابِيِّ وَالْجَامِعِ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ جَزَاءُ الظُّلْمِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي الْأَوَّلِ بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِهَا حَالَ قِيَامِ الْعِصْمَةِ فَانْعَقَدَ إيلَاءٌ وَثَبَتَ حُكْمُهُ مِنْ الْوُقُوعِ عِنْدَ مُضِيِّ الْأَشْهُرِ جَزَاءً
لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ لِإِطْلَاقِهَا، وَبِالتَّزَوُّجِ ثَبَتَ حَقُّهَا فَيَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ وَيَعْتَبِرُ ابْتِدَاءُ هَذَا الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ.
(فَإِنْ تَزَوَّجَهَا ثَالِثًا عَادَ الْإِيلَاءُ وَوَقَعَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى إنْ لَمْ يَقْرَبْهَا) لِمَا بَيِّنَاهُ (فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ الْإِيلَاءِ طَلَاقٌ) لِتَقَيُّدِهِ بِطَلَاقِ هَذَا الْمِلْكِ وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ الْخِلَافِيَّةِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ
لِظُلْمِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُبَانَةِ حَقُّ الْوَطْءِ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ ثَانِيًا ابْتِدَاءً فِي حَقِّهَا، فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُ الْبَرِّ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ آلَى حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ ثُمَّ أَبَانَهَا تَنْجِيزًا ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ حَيْثُ تَقَعُ الثَّانِيَةُ لِصِحَّةِ الْإِيلَاءِ لِصُدُورِهِ فِي حَالٍ يَتَحَقَّقُ بِهِ ظُلْمُهُ فَيَكُونُ إذَا صَحَّ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيقِ الْبَائِنِ، وَالْبَائِنُ الْمُعَلَّقُ يَلْحَقُ الْبَائِنَ الْمُنْجَزَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي ذَيْلِ الْكِنَايَاتِ.
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَّضِحُ لَك الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي سَهْلٍ: إنَّهُ كَقَوْلِهِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إنَّمَا صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا انْعَقَدَ إيلَاءً شَرْعِيًّا مُسْتَعْقِبًا لِحُكْمِهِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِتَقْدِيرِ الْبَرِّ، وَانْعِقَادِهِ إيلَاءً إنَّمَا يَكُونُ حَالَ كَوْنِهِ ظَالِمًا لِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ هُوَ جَزَاؤُهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا كَانَ الثَّابِتُ مُجَرَّدَ الْيَمِينِ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِهَا وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْإِيلَاءِ فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ فَيَبْقَى يَمِينًا دُونَ إيلَاءٍ فَلَا يَصِيرُ كَقَوْلِهِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيُوَفِّرُ عَلَيْهِ حُكْمَ الْيَمِينِ الْمُجَرَّدَةِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَبَدًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَمْ يَطَأْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا تَطْلُقُ، وَلَوْ وَطِئَهَا كَفَّرَ لِلْحِنْثِ كَذَا هَذَا، وَلِذَا قُلْنَا إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِوَاسِطَةِ تَكَرُّرِ النِّكَاحِ فِي الْإِيلَاءِ الْمُطْلَقِ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لَوْ وَطِئَ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ لَوْ مَضَتْ الْمُدَّةُ دُونَ وَطْءٍ.
(قَوْلُهُ وَيَعْتَبِرُ ابْتِدَاءُ هَذَا الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ) أَطْلَقَ فِي ذَلِكَ وَكَذَا فِي الْكَافِي، وَقَيَّدَهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْغَايَةِ تَبَعًا لِلتُّمُرْتَاشِيِّ والمرغيناني بِمَا إذَا كَانَ التَّزَوُّجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهَا اعْتَبَرَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَمِثْلُهُ لَوْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ مُؤَبَّدًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ، فَإِنْ مَضَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَإِنْ مَضَتْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ عَادَ الْإِيلَاءُ، وَيَعْتَبِرُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ فَلَا يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى قَبْلَهُ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ احْتَسَبَ بِهِ. قَالَ فِي شَرَحَ الْكَنْزِ: وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الطَّلَاقَ يَتَكَرَّرُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ انْتَهَى.
فَالْأَوْلَى اعْتِبَارُ الْإِطْلَاقِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ (قَوْلُهُ لِتَقَيُّدِهِ بِطَلَاقِ هَذَا الْمِلْكِ) لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الْمَنْعُ وَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِبُطْلَانِ حِلٍّ يُخَافُ بُطْلَانُهُ، وَلَا يُخَافُ بُطْلَانُ حِلٍّ سَيُوجِدُ جَدِيدًا بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ غَالِبُ الْعَدَمِ عَلَى وِزَانِ مَا قَدَّمْنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ، وَهُوَ مَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالدُّخُولِ
(وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ) لِإِطْلَاقِهَا وَعَدَمِ الْحِنْثِ (فَإِنْ وَطِئَهَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ) لِوُجُودِ الْحِنْثِ
(فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا) لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا إيلَاءَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ،
مَثَلًا ثُمَّ نَجَّزَ الثَّلَاثَ فَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَدَخَلَتْ لَا تَطْلُقُ خِلَافًا لَزُفَرَ فَهَذِهِ فَرْعُ تِلْكَ وَفِيهَا خِلَافُ زُفَرَ كَتِلْكَ، وَكَذَا لَوْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَطَلَ الْإِيلَاءُ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ خِلَافًا لَزُفَرَ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فِي الْإِيلَاءِ الْمُؤَبَّدِ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ خِلَافًا لَهُ، وَلَوْ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ عَادَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَتَطْلُقُ كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهَا حَتَّى تَبِينَ بِثَلَاثِ، وَفِيهِ خِلَافُ مُحَمَّدٍ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْهَدْمِ وَقَدْ مَرَّتْ
(قَوْلُهُ فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا) وَقَالَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ: يَصِيرُ مُولِيًا فِي قَلِيلِ الْمُدَّةِ وَكَثِيرِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِطَلْقَةٍ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ الْإِيلَاءَ بِكَوْنِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، بَلْ خَصَّ بِالْأَرْبَعَةِ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ وَأَطْلَقَ الْحَلِفَ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا صَحَّ عِنْدَهُ فَتْوَاهُ بِخِلَافِهِ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً مَا لَمْ يَبْلُغْ الْحَدَّ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ إيلَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَوَقَّتَ اللَّهُ عز وجل أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشُّعَبِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ إيلَاءٌ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي دَفْعِهِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا، فَإِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِي مِثْلِهِ ظَاهِرٌ فِي السَّمَاعِ لَكِنْ يَبْقَى فِيهِ أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ إذْ هُوَ تَقْيِيدٌ لِإِطْلَاقِ الْحَلِفِ فِي كَوْنِهِ إيلَاءٌ فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُولِي مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَرْعُ كَوْنِ أَقَلِّ الْمُدَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِلَّا فَنَحْنُ
وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قُرْبَانِهَا فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ بِلَا مَانِعٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يُثْبِتُ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِيهِ (وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ مُولٍ) لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَجَمْعِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ (وَلَوْ مَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ بَعْدَ الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا) لِأَنَّ الثَّانِيَ إيجَابٌ مُبْتَدَأٌ وَقَدْ صَارَ مَمْنُوعًا
لَا نَقُولُ بِهِ إذْ قُلْنَا بِعَدَمِ تَقْيِيدِ الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا بِهَا فَإِثْبَاتُ كَوْنِ الْأَقَلِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِهِ مُصَادَرَةٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قُرْبَانِهَا فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ بِلَا مَانِعٍ إلَخْ).
قِيلَ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ شَهْرًا، فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَصْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا شَهْرًا وَإِلَّا فَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الِامْتِنَاعِ إلَّا فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ مُطْلَقًا لَا فِي أَكْثَرِهَا لِجَوَازِ كَوْنِ الْحَلِفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ لَفْظُ (أَكْثَرَ) مُقْحَمٌ وَبَعْدُ ذَلِكَ التَّقْرِيبِ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ تَمَامَ الْمُدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ سَمَّاهَا أَكْثَرَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا. وَلَا إشْكَالَ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي جَمِيعِهَا فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْحَلِفِ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَاسْتَضْعَفَهُ فِي الْكَافِي. قَالَ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ قَالَ فِي أَكْثَرِ الْمُدَّتَيْنِ انْتَهَى.
وَوَجْهُهُ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يَلْزَمُ فِي إضَافَتِهِ إلَى شَيْءٍ كَوْنُهُ بَعْضَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ وَلِذَا امْتَنَعَ يُوسُفُ أَحْسَنُ إخْوَتِهِ، وَخَوَاصُّ الْبَشَرِ أَفْضَلُ الْمَلَائِكَةِ، وَلَيْسَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ الَّتِي هِيَ الْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ بَعْضَ الْمُدَّةِ الْمُضَافِ إلَيْهَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْأَرْبَعَةِ بَعْضَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا فَلَزِمَ فِي صِحَّتِهِ أَنْ يَقُولَ أَكْثَرَ الْمُدَّتَيْنِ: يَعْنِي الْمُدَّةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا وَمُدَّةَ الْإِيلَاءِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مُدَّتَانِ وَالثَّانِيَةُ أَكْثَرُهَا.
وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَسْلَمَ (قَوْلُهُ وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ) إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَفْظُ بَعْضِ الشَّهْرَيْنِ لَيْسَ قَيْدًا فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بَلْ قَيْدٌ فِي الثَّانِيَةِ فَقَطْ، وَلَفْظُ يَوْمًا فِي الثَّانِيَةِ لَيْسَ قَيْدًا، لَا فَرْقَ بَيْنَ مُكْثِهِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً. وَقِيلَ تَكْرِيرُ الْيَمِينِ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ وَبَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ تَنْجِيزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَقَيَّدَ بِمُكْثِهِ يَوْمًا لِتَكُونَ الْمَسْأَلَةُ اتِّفَاقِيَّةً، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَثْبَاتَ الْمَذْهَبِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَمِينَانِ وَلَمْ يُحْكَ فِيهِ خِلَافٌ. وَإِنَّمَا حُكِيَ فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَذَكَرُوا أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ.
بَعْدَ الْيَمِينِ الْأُولَى شَهْرَيْنِ وَبَعْدَ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا مَكَثَ فِيهِ فَلَمْ تَتَكَامَلْ مُدَّةُ الْمَنْعِ.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي الْمُنْتَقَى جَعْلُ كَوْنِهِمَا يَمِينَيْنِ قِيَاسًا وَكَوْنِهِمَا يَمِينًا وَاحِدَةً اسْتِحْسَانًا.
وَفَرَّعَ فِي الدِّرَايَةِ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْزُوَهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ وَتَطْلُقُ ثَلَاثًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا قِيَاسًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَوَاحِدَةٌ اسْتِحْسَانًا وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَهُوَ خِلَافُ الْأَشْهَرِ. وَلَوْ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ يَوْمٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُولِيًا أَيْضًا، لَكِنْ لَا لِمَا فِي الْكِتَابِ بَلْ لِتَدَاخُلِ الْمُدَّتَيْنِ فَتَتَأَخَّرُ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ عَنْ الْأُولَى بِيَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ بِسَاعَةٍ بِحَسَبِ مَا فَصَلَ بِهِ بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ. فَالْحَاصِلُ مِنْ حِلْفَيْهِ الْحَلِفُ عَلَى شَهْرَيْنِ وَيَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ عَلَى حَسَبِ الْفَاصِلِ.
وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْإِيلَاءَ يُوجِبُ طَلَاقًا فِي الْبَرِّ وَكَفَّارَةً فِي الْحِنْثِ، وَأَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ كَوْنِهِ إيلَاءً وَيَمِينًا كَمَا قَدَّمْنَا، فَلِذَلِكَ قَدْ يَتَعَدَّدُ الْبَرُّ وَالْحِنْثُ وَقَدْ يَتَّحِدَانِ، وَقَدْ يَتَعَدَّدُ الْبَرُّ وَيَتَّحِدُ الْحِنْثُ وَقَلْبُهُ، وَتَعَدُّدُ الْبَرِّ بِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ بِتَعَدُّدِ الْإِيلَاءِ وَهُوَ بِتَعَدُّدِ الظُّلْمِ وَهُوَ بِتَعَدُّدِ مُدَّةِ الْمَنْعِ، وَمَا لَمْ يَجِبْ تَعْدُدْهَا مِنْ اللَّفْظِ كَانَتْ الْمُدَّتَانِ مُتَدَاخِلَتَيْنِ، وَتَعَدُّدُ الْيَمِينِ بِتَعَدُّدِ اسْمِ اللَّهِ أَوْ تَكْرَارِ حَرْفِ (لَا) دَاخِلَةً عَلَى الْمُدَّةِ، وَمَنْ زَادَ السُّكُوتَ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ لِأَنَّ الِاسْمَ الْكَرِيمَ يَتَكَرَّرُ بَعْدَ السُّكُوتِ، وَلَوْ كَانَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ الِاسْمِ الْكَرِيمِ لَمْ يَلْزَمْ التَّعَدُّدُ مِنْ تَعَدُّدِهِ. فِي التَّجْرِيدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ وَالْمَجْلِسُ وَالْمَجَالِسُ سَوَاءٌ.
وَلَوْ قَالَ عَنَيْت بِالثَّانِي الْأَوَّلَ لَمْ يَسْتَقِمْ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ حَلَفَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ يَسْتَقِيمُ. مِثَالُ تَعَدُّدِهِمَا إذَا جَاءَ غَدٌّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إذَا جَاءَ بَعْدَ غَدٍّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك. أَمَّا إنَّهُمَا يَمِينَانِ فَلِتَعَدُّدٍ الذِّكْرِ، وَأَمَّا أَنَّهُمَا إيلَاءَانِ فَلِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بَرَّ فِي الْأُولَى وَبَانَتْ، فَإِذَا مَضَى يَوْمٌ آخَرُ بَرَّ فِي الثَّانِيَةِ وَطَلُقَتْ أَيْضًا؛ وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ الْغَدِ تَجِبُ كَفَّارَتَانِ وَإِنْ أَطْلَقَ لُزُومَهُمَا فِي الْكَافِي، وَلَوْ قَرِبَهَا فِي الْغَدِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْغَدَّ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَيْهِ إلَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَتَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْيَمِينِ.
وَنَظِيرُهُ فِي النَّوَازِلِ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ يَوْمًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمْهُ شَهْرًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ سَنَةً؛ إنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ سَاعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْغَدِ فَعَلَيْهِ يَمِينَانِ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ شَهْرٍ فَعَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ سَنَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَمِنْ تَعَدُّدِهِمَا وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَكَذَا وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، إلَّا أَنَّهُ تَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ بِلَا تَدَاخُلٍ فَلَا يَتَصَوَّرُ فِي قُرْبَانٍ وَاحِدٍ كَفَّارَتَانِ، وَهَذِهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْهِدَايَةِ فِي عَدَمِ تَدَاخُلِ الْمُدَّتَيْنِ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ يَوْمٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِيلَاءٍ كَمَا ذَكَرَ، وَلَكِنْ تَتَدَاخَلُ الْمُدَّتَانِ، فَلَوْ قَرِبَهَا فِي الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا فِي الشَّهْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى شَهْرَيْنِ يَمِينَانِ بَلْ عَلَى كُلِّ شَهْرَيْنِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ تَوَارَدَ شُرُوحُ الْهِدَايَةِ مِنْ النِّهَايَةِ، وَغَايَةُ الْبَيَانِ عَلَى الْخَطَإِ عِنْدَ كَلَامِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاحْذَرْهُ، فَلَوْ قَرِبَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ أَطْلَقَ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ بَعْدَ سَاعَةٍ فَصَاعِدًا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ بَعْدَ سَاعَةٍ قَالَ كَذَلِكَ فَقَرِبَهَا بَعْدَ الْيَمِينِ الثَّالِثَةِ لَزِمَهُ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ لِلتَّدَاخُلِ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ، وَعِنْدَ تَمَامِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ سَاعَةٌ بَعْدَهَا تَبِينُ بِأُخْرَى إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ بِثَالِثَةٍ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ مَا مَضَى فِي الْكِتَابِ فِي تَأْبِيدِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْإِيلَاءَاتِ هُنَاكَ تَنْزِلُ مُتَعَاقِبَةً بِوَاسِطَةِ تَأْبِيدِ الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ، فَجَاءَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ الثَّانِي فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَا.
وَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ: لَا يُبْتَدَأُ الْإِيلَاءُ إلَّا فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمَنْعِ ظَالِمًا، أَمَّا هُنَا فَالْإِيلَاءَاتُ الثَّلَاثَةُ صُرِّحَ بِهَا فِي حَالِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ حَالُ تَحَقُّقِ ظُلْمِهِ بِهَا فَلَا يَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الثَّانِيَةِ عَلَى قِيَامِ النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ لَمْ تَقَعْ الثَّالِثَةُ إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا فَيَقَعُ بِحُكْمِ تَأْبِيدِ الْيَمِينِ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ. وَمِثَالُ اتِّحَادِهِمَا: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ وَشَهْرَيْنِ. وَفِي الْكَافِي فِي نَظِيرِهِ: كُلَّمَا كَلَّمْت وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَكَلَّمَتْهُمَا مَعًا، وَلَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ فَإِنَّ بِتَكْلِيمِهِمَا مَعًا لَمْ تَنْحَلَّ الْيَمِينُ، بَلْ لَوْ كَلَّمْت أَحَدَهُمَا بَعْدَهُمَا ثَبَتَ الْإِيلَاءُ، فَالظَّاهِرُ كَوْنُ هَذَا مِنْ صُوَرِ تَعَدُّدِ الْبَرِّ. فَإِنَّ عِلَّةَ التَّعَدُّدِ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا فِي هَذِهِ.
وَمِثَالُ تَعَدُّدِ الْبَرِّ وَاتِّحَادِ الْيَمِينِ: كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَدَخَلَتْهَا فِي يَوْمٍ ثُمَّ فِي يَوْمٍ آخَرَ ثُمَّ فِي يَوْمٍ آخَرَ، فَإِنْ قَرِبَهَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ، فَإِذَا مَضَى يَوْمٌ آخَرُ بَانَتْ بِأُخْرَى، وَإِذَا مَضَى يَوْمٌ آخَرُ بَانَتْ بِالثَّالِثَةِ، وَفِي هَذَا الْمِثَالِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ وَقَعَ جَزَاءً لِشَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ فَيَلْزَمُ تَكَرُّرُهُ. وَلَا يَشْكُلُ بِأَنَّهُ لَا حَلِفَ عِنْدَ الشَّرْطِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا حَلِفَ عِنْدَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَمَعَ ذَلِكَ ثَبَتَ الْحَلِفُ عِنْدَهُ، وَلَعَلَّهُ اشْتَبَهَ وَاَللَّهِ كُلَّمَا دَخَلْت لَا أَقْرَبُك بِكُلَّمَا دَخَلْت فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، وَكَذَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ قَرِبْتُك يَتَعَدَّدُ بَرًّا، وَكُلَّمَا دَخَلْت انْعَقَدَتْ مُدَّةٌ يَقَعُ بِمُضِيِّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ حِنْثُهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِتَعَذُّرِ وُقُوعِ شَيْءٍ آخَرَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَنَحْوِهِ كُلَّمَا دَخَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ إنْ قَرِبْتُك سَوَاءٌ.
وَمِثَالُ اتِّحَادِ الْإِيلَاءِ وَتَعَدُّدِ الْيَمِينِ: إذَا جَاءَ غَدٌّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَالَ فِي الْمَجْلِسِ إذَا جَاءَ غَدٌّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الْبَرِّ حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ الْغَدِّ طَلُقَتْ، وَإِنْ قَرِبَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ لِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ وَتَعَدُّدِ الِاسْمِ، وَكَذَا وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ لَفْظَ أُخْرَى أَوْ نَحْوَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ خِلَافِيَّةٌ. وَصُورَتُهَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك
(وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك سَنَةً إلَّا يَوْمًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا) خِلَافًا لَزُفَرَ، هُوَ يَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءَ إلَى آخِرِهَا اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ فَتَمَّتْ مُدَّةُ الْمَنْعِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَوْلَى مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَهَاهُنَا يُمْكِنُهُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمَ مُنْكَرٌ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْآخِرِ لِتَصْحِيحِهَا فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ التَّنْكِيرِ وَلَا كَذَلِكَ الْيَمِينُ
وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فِي ثَلَاثَةِ مَجَالِسَ فَكُلٌّ مِنْ الْيَمِينِ وَالْإِيلَاءِ ثَلَاثَةٌ. وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّكْرَارَ فَالْيَمِينُ وَاحِدٌ وَالْإِيلَاءُ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ التَّشْدِيدَ وَالتَّغْلِيظَ وَهُوَ الِابْتِدَاءُ دُونَ التَّكْرَارِ فَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ إجْمَاعًا وَالْإِيلَاءُ ثَلَاثَةٌ قِيَاسًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، حَتَّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا تَبِينُ بِطَلْقَةٍ ثُمَّ عَقِيبُهَا تَبِينُ بِأُخْرَى ثُمَّ بِأُخْرَى إلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَإِنْ قَرِبَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا الْإِيلَاءُ وَاحِدٌ فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَيَجِبُ بِالْقُرْبَانِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْوَاحِدَ يَكْفِي لِأَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمُدَّةُ مُتَّحِدَةً كَانَ الْمَنْعُ مُتَّحِدًا فَلَا يَتَكَرَّرُ الْإِيلَاءُ
(قَوْلُهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا) أَيْ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا إذَا قَرِبَهَا وَبَقِيَ بَعْدَ يَوْمِ الْقُرْبَانِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا إلَى تَمَامِ السَّنَةِ؛ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْقُرْبَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ (قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ) وَهُوَ مَا إذَا قَالَ أَجَّرْتُك سَنَةً إلَّا يَوْمًا يَنْصَرِفُ الْيَوْمُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ سَنَةً إلَّا نُقْصَانَ يَوْمٍ يَكُونُ مُولِيًا صَرْفًا لَهُ إلَى الْآخَرِ وَبِمَا إذَا أَجَّلَ الدَّيْنَ (قَوْلُهُ وَهَاهُنَا يُمْكِنُهُ) لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمَ مُنْكَرٌ فَيَصْدُقُ عَلَى كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ تِلْكَ السَّنَةِ حَقِيقَةً فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ اعْتِبَارًا لِيَوْمِ الْوَطْءِ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُعَيَّنَ لِكَوْنِ الْيَوْمِ الْمُسْتَثْنَى آخِرُ السَّنَةِ لَيْسَ اللَّفْظُ بَلْ تَصْحِيحُ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِالْجَهَالَةِ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ شَائِعًا فِي السَّنَةِ لَا تَتَعَيَّنُ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ وَالنُّقْصَانِ يَنْصَرِفُ إلَى الْآخَرِ، وَكَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ فَتَتَعَيَّنُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ.
وَاَلَّذِي يُشْكِلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا سَنَةً إلَّا يَوْمًا يَنْصَرِفُ إلَى الْيَوْمِ الْأَخِيرِ. وَجَوَابُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بِأَنَّ الْمُعَيَّنَ الْحَامِلَ وَهُوَ الْمُغَايَظَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِعَدَمِ كَلَامِهِ فِي الْحَالِ مَنْظُورٌ فِيهِ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ
(وَلَوْ قَرِبَهَا فِي يَوْمٍ وَالْبَاقِي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ صَارَ مُولِيًا) لِسُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ.
(وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ الْكُوفَةَ وَامْرَأَتُهُ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْكُوفَةِ
الْإِلْزَامِ إذْ الْإِيلَاءُ أَيْضًا يَكُونُ مِنْ الْمُغَايَظَةِ (قَوْلُهُ صَارَ مُولِيًا لِسُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ) مَعَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ، وَلَوْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ لَا أَقْرَبُك إلَّا يَوْمًا لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَهَا، فَإِذَا قَرِبَهَا صَارَ مُولِيًا. وَلَوْ قَالَ سَنَةً إلَّا يَوْمًا أَقْرَبُك فِيهِ لَا يَكُونُ مُولِيًا أَبَدًا لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى كُلَّ يَوْمٍ يَقْرَبُهَا فِيهِ فَلَا يَكُونُ مَمْنُوعًا أَبَدًا، وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَ مَعَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ.
وَإِذَا قَالَ سَنَةً فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا فَوَقَعَتْ طَلْقَةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَمَضَتْ أَرْبَعَةٌ أُخْرَى لَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا وَقَعَتْ أُخْرَى، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فَمَضَتْ أَرْبَعَةٌ أُخْرَى لَا يَقَعُ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بِالضَّرُورَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ) إذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا فِي مَكَان مُعَيَّنٍ هِيَ فِيهِ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ فِي غَيْرِهِمَا، إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا عَلَى مَا فَرَّعَ قَاضِي خَانْ والمرغيناني فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَفَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إمْكَانَ خُرُوجِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ فَيَلْتَقِيَانِ فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى مَا فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَزَوْجَتُهُ فِي بَلَدٍ فَحَلَفَ لَا يَدْخُلُهُ وَبَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ لَا يَصِيرُ مُولِيًا لِجَوَازِ أَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ فَيَلْتَقِيَانِ فِي أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيَقْرَبُهَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ مُولِيًا عَلَى قَوْلِ كُلِّ مَنْ قَدَّمْنَا عِنْدَ انْعِقَادِ الْإِيلَاءِ إذَا حَلَفَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُ.
وَكَذَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إلَّا فِي الْمُحَرَّمِ وَهُوَ فِي شَوَّالٍ أَوْ حَتَّى تَفْطِمِي وَلَدَك وَإِلَى مُدَّةِ الْفِطَامِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ لِلْجُمْهُورِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ، وَقَدْ بَحَثْنَا هُنَاكَ أَنَّ هَذَا فَرْعُ كَوْنِ أَقَلِّ مُدَّةٍ يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ بِالْحَلِفِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَبِالضَّرُورَةِ إنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا أَصْلًا مُمَهَّدًا فِي مَذْهَبِ الْمَانِعِينَ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَمِ انْعِقَادِهِ لِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِدَلِيلِهِ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَتُعَلَّلُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمَذْهَبِيَّةُ لَا عِنْدَ قَصْدِ الْإِثْبَاتِ عَلَى الْمُخَالِفِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَإِنَّهُ مُولٍ، فَإِذَا تَرَكَهُنَّ فِي الْمُدَّةِ طُلِّقْنَ، وَلَوْ قَرِبَ ثَلَاثًا
(قَالَ: وَلَوْ حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ بِصَوْمٍ أَوْ بِصَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ فَهُوَ مُولٍ) لِتَحَقُّقِ الْمَنْعِ بِالْيَمِينِ وَهُوَ ذِكْرُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذِهِ الْأَجْزِيَةُ مَانِعَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ. وَصُورَةُ الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنْ يُعَلِّقَ بِقُرْبَانِهَا عِتْقَ عَبْدِهِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: يُمْكِنُهُ الْبَيْعُ ثُمَّ الْقُرْبَانُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهُمَا يَقُولَانِ الْبَيْعُ مَوْهُومٌ
مِنْهُنَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَثَبَتَ أَنَّ إمْكَانَ الْقُرْبَانِ بِغَيْرِ شَيْءٍ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيلَاءِ. أُجِيبَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِمَنْعِ الْحَقِّ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ، وَعَدَمُ لُزُومِ شَيْءٍ لِعَدَمِ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْحِنْثَ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِقُرْبَانِهِنَّ، وَالْمَوْجُودُ قُرْبَانُ بَعْضِهِنَّ.
وَحَاصِلُ هَذَا تَخْصِيصُ اطِّرَادِ الْأَصْلِ بِمَا إذَا حَلَفَ عَلَى وَاحِدَةٍ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ (قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ بِحَجٍّ إلَخْ) بِأَنْ يَقُولَ إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صِيَامٌ أَوْ هَدْيٌ أَوْ اعْتِكَافٌ أَوْ يَمِينٌ أَوْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ لِزَوْجَةٍ أُخْرَى أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَعَلَيَّ عِتْقٌ لِعَبْدٍ مُبْهَمٍ فَهُوَ مُولٍ. أَمَّا لَوْ قَالَ فَعَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ مَثَلًا فَلَيْسَ بِمُولٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَرْكُ الْقُرْبَانِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ ذَلِكَ ثُمَّ يَطَؤُهَا بِلَا شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ.
وَلَوْ قَالَ فَعَلَيَّ اتِّبَاعُ جِنَازَةٍ أَوْ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ أَوْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ الصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ تَسْبِيحَةٌ فَلَيْسَ بِمُولٍ.
وَنُقِلَ فِي الصَّلَاةِ خِلَافُ مُحَمَّدٍ، فَعِنْدَهُ يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهَا مِمَّا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ. وَتَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْهُ. وَيَجِبُ صِحَّةُ الْإِيلَاءِ فِيمَا لَوْ قَالَ فَعَلَيَّ مِائَةُ رَكْعَةٍ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَشُقُّ عَادَةً، وَكَذَا خِلَافُهُ ثَابِتٌ فِي مَسْأَلَةِ الْغَزْوِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلَ الْبَابِ. فَإِنْ قُلْت: يَنْبَغِي فِي الصَّلَاةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ يَكُونَ مُولِيًا اتِّفَاقًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ كَالْحَجِّ.
قُلْنَا: نَعَمْ لَوْ لَزِمَ مَنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ لَا يَسْقُطَ إلَّا بِالصَّلَاةِ فِيهِ، لَكِنْ الْمَذْهَبُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي غَيْرِهِ وَيَسْقُطُ النَّذْرُ بِهِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَلَوْ قَالَ فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَى هَذَا الْمِسْكَيْنِ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَوْ مَالِي هِبَةً فِي الْمَسَاكِينِ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ التَّصَدُّقَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ حُرٌّ صَارَ مُولِيًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُمَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ يَصِيرُ مُولِيًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُ مُولِيًا. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَعْتِقَ عَبْدِي أَوْ حَتَّى أُطَلِّقَ فُلَانَةَ أَوْ حَتَّى أُطَلِّقَك يَصِيرُ مُولِيًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ بِلَا شَيْءٍ بِأَنْ لَا يَشْتَرِيَ عَبْدًا وَلَا يَتَزَوَّجَ وَبِتَقْدِيمِ الْغَايَةِ.
قُلْنَا لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ لَازِمٍ إذْ اللُّزُومُ لِأَجْلِ قُرْبَانِهَا كَاللُّزُومِ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ مَتَى جَعَلَ لِيَمِينِهِ غَايَةً لَا تُوجَدُ فِي الْمُدَّةِ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَوْ يَنْزِلَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ أَوْ الدَّابَّةُ فَهُوَ مُولٍ اسْتِحْسَانًا بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَإِنْ احْتَمَلَ الْقُرْبُ وَقْتَ التَّكَلُّمِ بِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْغَايَةُ لَا تَتَصَوَّرُ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ كَقَوْلِهِ حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَمُوتِي أَوْ أَقْتُلَك أَوْ تَقْتُلِينِي أَوْ أَبِينَك وَإِنْ كَانَتْ تُوجَدُ فِي الْمُدَّةِ لَكِنَّهَا تُصْلِحُ جَزَاءً نَحْوَ حَتَّى أَعْتِقَ عَبْدِي أَوْ أُطَلِّقَ فُلَانَةَ كَانَ مُولِيًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ عَرَفْت الْوَجْهَ (قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ) أَيْ فِي ثُبُوتِ الْإِيلَاءِ بِالْحَلِفِ بِعِتْقِ عَبْدِهِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ ضَمِيرَ فِيهِ لِعِتْقِ عَبْدِهِ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ لَا الْمُبْهَمُ، فَإِنَّ تَعْلِيلَهُ لَا يَتِمُّ فِيهِ (قَوْلُهُ الْبَيْعُ مَوْهُومٌ) أَيْ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ بِنَفْسِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُشْتَرِينَ، وَقَدْ لَا يَجِدُ مُشْتَرِيًا فِي الْمُدَّةِ فَتَمْضِي
فَلَا يَمْنَعُ الْمَانِعِيَّةَ فِيهِ، وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ أَنْ يُعَلِّقَ بِقُرْبَانِهَا طَلَاقَهَا أَوْ طَلَاقَ صَاحِبَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مَانِعٌ.
(وَإِنْ آلَى مِنْ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ آلَى مِنْ الْبَائِنَةِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا) لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَمَحَلُّ
قَبْلَ وُجُودِهِ، بِخِلَافِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُ وَهُوَ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى امْتِثَالِهَا أَيْضًا لَكِنَّ امْتِثَالَهَا وَاجِبٌ وَالْوُجُوبُ طَرِيقُ الْوُجُودِ، بِخِلَافِ امْتِثَالِ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ مَوْهُومًا فَلَا يُمْنَعُ الْمَانِعِيَّةُ الْكَائِنَةُ فِي الْجَزَاءِ وَهُوَ عِتْقُ الْعَبْدِ بِالْقُرْبَانِ.
وَلَوْ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَلَوْ مَلَكَهُ بِسَبَبِ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ عَادَ الْإِيلَاءُ مِنْ وَقْتِ الْمِلْكِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلُ تَجَدُّدِ الْمِلْكِ لَمْ يَعُدْ لِسُقُوطِ الْيَمِينِ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْبَيْعِ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَطْءِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ مَوْتُ الْمَرْأَةِ الْمُعَلَّقِ طَلَاقُهَا أَوْ إبَانَتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
(قَوْلُهُ وَإِنْ آلَى مِنْ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ كَانَ مُولِيًا) بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِهِ مِنْ الْبَائِنَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ طُهْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ فَلِاحْتِمَالِ رَجْعَتِهَا فَيَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ مُمْتَدًّا إلَى مَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى مَضَى شَهْرٌ مِنْ الرَّجْعَةِ بَانَتْ وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى زَوَالَ الزَّوْجِيَّةِ بِالطَّلْقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَحُرْمَةَ الْوَطْءِ كَالْبَائِنَةِ، وَعَلَى قَوْلِنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ ظَالِمًا. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِبْرَةَ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَى النَّصِّ، وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ مِنْ نِسَائِنَا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وَالْبَعْلُ الزَّوْجُ حَقِيقَةً عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الرَّجْعَةِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ فَيَشْمَلُهَا نَصُّ الْإِيلَاءِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْإِيلَاءُ وَإِنْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ لِخَوْفِ الْغِيلِ عَلَى وَلَدٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّعَلُّلَ بِالظُّلْمِ بِاعْتِبَارِ بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْغَالِبِ، بِخِلَافِ الْبَائِنِ لِانْتِفَاءِ اسْمِ الزَّوْجِ حَقِيقَةً فَيَنْتَفِي كَوْنُهَا مِنْ نِسَائِنَا.
وَقِيلَ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْ الْبَائِنَةِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ تَعْلِيقُ طَلَاقٍ بَائِنٍ عَلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِلَا قُرْبَانٍ، وَالْمُطَلَّقَةُ الْبَائِنَةُ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ بَائِنٌ مُنْجَزٌ وَلَا مُعَلَّقٌ: يَعْنِي إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَهَا فَوَجَدَ الشَّرْطَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ الْبَائِنِ يَلْحَقُ، وَهَذَا الْحَصْرُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا صَحَّ الْإِيلَاءُ مِنْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ وَنِسَائِنَا.
وَالْحَقُّ أَنَّ مَبْنَى عَدَمِ لُحُوقِ الْبَائِنَةِ هُوَ مَبْنَى عَدَمِ الْإِيلَاءِ مِنْهَا وَهُوَ عَدَمُ الزَّوْجِيَّةِ فَالْإِسْنَادُ إلَيْهِ أَوْلَى، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَخَلُّفَ الْعِلَّةِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ نَقْضٌ إلَّا لِمَانِعٍ، فَالْحَقُّ أَنَّ الظُّلْمَ حِكْمَةٌ وَنَفْسُ الْإِيلَاءِ هُوَ الْعِلَّةُ فَلَا
الْإِيلَاءِ مَنْ تَكُونُ مِنْ نِسَائِنَا بِالنَّصِّ، فَلَوْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ
(وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَلَا مُظَاهِرًا) لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مَخْرَجِهِ وَقَعَ بَاطِلًا لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بَعْدَ ذَلِكَ (وَإِنْ قَرِبَهَا كَفَّرَ) لِتَحَقُّقِ الْحِنْثِ إذْ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ فِي حَقِّهِ
(وَمُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ) لِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ أَجَلًا لِلْبَيْنُونَةِ فَتَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ.
(وَإِنْ كَانَ الْمُولِي مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ صَغِيرَةً لَا تُجَامَعُ أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصِلَ
يَلْزَمُ وُجُودُهُ دَائِمًا
(قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي مَخْرَجِهِ وَقَعَ بَاطِلًا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ) وَهِيَ كَوْنُهَا مِنْ نِسَائِنَا فِي الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ، قَالَ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مَحِلًّا وَقْتَ التَّكَلُّمِ بِالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ أَوْ وَقْتَ وُجُودِ شَرْطِهِمَا لَمَا عُرِفَ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ، فَإِذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَقَعَ صَحِيحًا، وَكَذَا إنَّ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ إلَّا عَقِيبَ التَّزَوُّجِ بِهَا لِأَنَّهَا إذْ ذَاكَ تَصِيرُ مِحْلَالًا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ لَمَّا كَانَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ اسْتَدْعَى انْعِقَادُهُ قِيَامَ حِلِّ وَطْئِهَا (قَوْلُهُ إذَا الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ فِي حَقِّهِ) أَيْ فِي حَقِّ الْوَطْءِ لِأَنَّ انْعِقَادَ الْيَمِينِ يَعْتَمِدُ التَّصَوُّرَ حِسًّا لَا شَرْعًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ
(قَوْلُهُ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ) أَيْ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَسْتَوِي مُدَّةُ إيلَاءِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ.
وَالْقِيَاسُ عَلَى مُدَّةِ الْعِدَّةِ بِجَامِعِ كَوْنِهَا تَرَبَّصُ هُوَ أَجَلٌ لِلْبَيْنُونَةِ كَالْعِدَّةِ مَدْفُوعٌ، فَإِنَّ الْبَيْنُونَةَ لَا تَحْصُلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَأَيْضًا تَرَبَّصُ الْعِدَّةِ لِلْخَطَرِ وَتَعَرُّفُ الْفَرَاغِ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي تَرَبُّصِ الْإِيلَاءِ. وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِوَاءُ لِعُمُومِ نَصِّ الْإِيلَاءِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ مِنْ نِسَائِنَا، وَلِأَنَّ ضَرْبَهَا إيلَاءٌ لِعُذْرِ الزَّوْجِ وَرِفْقًا جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ تَعَالَى مِنْ عَدَمِ الْمُعَاجَلَةِ بِالْعُقُوبَةِ، فَأُخِّرَتْ عُقُوبَتُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِظُلْمِهِ إلَى انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْمُولِي مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ) لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ عَدَمِ الْعُذْرِ لِلْمَرَضِ أَوْ لِلْجُبِّ، كَمَا أَنَّهُ فِي حَقِّهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَانِعِ مَرْضَهَا أَوْ الرَّتْقَ أَوْ الْقَرْنَ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ مَنَعَ إيلَاءَ الْمَجْبُوبِ، وَمِنْ الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِمَاعُ فَلَا ظُلْمَ. وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَلِأَنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ فِيهِ إبْطَالُ حُكْمِ النَّصِّ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: لَوْ عَجَزَ عَنْ جِمَاعِهَا لِرَتْقِهَا أَوْ قَرَنِهَا أَوْ صِغَرِهَا أَوْ بِالْجُبِّ أَوْ الْعُنَّةِ أَوْ كَانَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ لِكَوْنِهَا مُمْتَنِعَةً أَوْ كَانَتْ فِي مَكَان لَا يَعْرِفُهُ وَهِيَ نَاشِزَةٌ أَوْ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ حَالَ الْقَاضِي
إلَيْهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَفَيْؤُهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ فِئْت إلَيْهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ سَقَطَ الْإِيلَاءُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا فَيْءَ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ حِنْثًا. وَلَنَا أَنَّهُ آذَاهَا بِذِكْرِ الْمَنْعِ فَيَكُونُ إرْضَاؤُهَا
بَيْنَهُمَا لِشَهَادَةِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَفَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ بِأَنْ يَقُولَ فِئْت إلَيْهَا أَوْ رَجَعْت عَمَّا قُلْت أَوْ رَاجَعْتهَا أَوْ ارْتَجَعْتهَا أَوْ أَبْطَلَتْ إيلَاءَهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْحَبْسِ صُحِّحَ الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ بِسَبَبِهِ فِي الْبَدَائِعِ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ آلَى وَهِيَ مَجْنُونَةٌ أَوْ وَهُوَ مَحْبُوسٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إلَّا أَنَّ السُّلْطَانَ يَمْنَعُهُ أَوْ الْعَدُوُّ لَا يَكُونُ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ جَوَابُ الرِّوَايَةِ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي. وَوَفَّقَ بِحَمْلِ مَا فِي الْكَافِي وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى السِّجْنِ بِأَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُجَامِعُهَا وَمَنْعُ السُّلْطَانِ وَالْعَدُوِّ نَادِرٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْحَبْسِ بِحَقٍّ لَا يَعْتَبِرُ فِي الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ وَبِظُلْمٍ يَعْتَبِرُ، وَهَلْ يَكْفِي الرِّضَا بِالْقَلْبِ مِنْ الْمَرِيضِ؟ قِيلَ نَعَمْ حَتَّى إنَّ صَدَّقَتْهُ كَانَ فَيْئًا، وَقِيلَ لَا وَهُوَ أَوْجَهُ. ثُمَّ هَذَا إنْ كَانَ عَاجِزًا مِنْ وَقْتِ الْإِيلَاءِ إلَى أَنْ تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حَتَّى لَوْ آلَى مِنْهَا وَهُوَ قَادِرٌ فَمَكَثَ قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا ثُمَّ عَرَضَ لَهُ الْعَجْزُ بِمَرَضٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ جُبٍّ أَوْ أَسْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ عَاجِزًا حِينَ آلَى وَزَالَ الْعَجْزُ فِي الْمُدَّةِ لَمْ يَصِحَّ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ خِلَافًا لَزُفَرَ فِي غَيْرِ الْأَخِيرَةِ فَإِنَّ الْعَجْزَ ثَابِتٌ وَهُوَ الْمَدَارُ.
قُلْنَا لَمَّا تَمَكَّنَ وَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ الْإِضْرَارُ فَلَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِإِيفَاءِ حَقِّهَا بِالْجِمَاعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْعَبَ الْعَجْزُ الْمُدَّةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِيهَا فَكَانَ ظُلْمُهُ فِي الْإِيلَاءِ بِأَذَى اللِّسَانِ فَفَيْؤُهُ الَّذِي هُوَ تَوْبَتُهُ بِتَطْيِيبِ قَلْبِهَا بِهِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ، وَلَوْ آلَى إيلَاءً مُؤَبَّدًا وَهُوَ مَرِيضٌ فَبَانَتْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ثُمَّ صَحَّ وَتَزَوَّجَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ فَفَاءَ بِلِسَانِهِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَصَحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وُجِدَ مِنْهُ وَهُوَ مَرِيضٌ وَعَادَ حُكْمُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَفِي زَمَانِ الصِّحَّةِ هِيَ مُبَانَةٌ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ فَلَا يَعُودُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِيهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ ذَلِكَ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَا تَبِينُ، وَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ شَرْعِيًّا بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا وَإِلَى وَقْتِ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَالْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مَانِعٌ مِنْ الْجِمَاعِ شَرْعًا فَثَبَتَ الْعَجْزُ فَكَانَ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ وَهُمْ اعْتَبَرُوا الْعَجْزَ الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ بِاخْتِيَارِهِ بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ فِيمَا لَزِمَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ تَخْفِيفًا (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا فَيْءَ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ حِنْثًا) وَضَعْفُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ شِمَّةٌ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الْجِمَاعِ فَكَيْفَ يَحْنَثُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِنْ
بِالْوَعْدِ بِاللِّسَانِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الظُّلْمُ لَا يُجَازَى بِالطَّلَاقِ (وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ بَطَلَ ذَلِكَ الْفَيْءُ وَصَارَ فَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ) لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْحَلِفِ.
(وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ)، فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْكَذِبَ فَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ
أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ حِنْثًا لِأَنَّ الْفَيْءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجِمَاعِ، فَلَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ بِالْجِمَاعِ فَكَانَ حِنْثًا لَزِمَ صَرِيحُ الْمُصَادَرَةِ وَالنَّصُّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا} لَا يُوجِبُ تَعَيُّنَ كَوْنِ الْفَيْءِ لَا الْجِمَاعَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِنْ رَجَعُوا عَنْ عَزْمِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الظُّلْمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِرْضَائِهَا بِالْجِمَاعِ وَبِإِرْضَائِهَا بِالْقَوْلِ، وَوَعَدَ الْجِمَاعَ عِنْدَ عَجْزِهِ وَهِيَ مُشَاهِدَةٌ لِعَجْزِهِ ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ مَا قَالَاهُ. وَالْحَقُّ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ كَقَوْلِنَا: وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ لِتَحَقُّقِ الْحِنْثِ لِأَنَّ يَمِينَهُ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّ الْحِنْثِ وَإِنْ بَطَلَتْ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ (قَوْلُهُ وَصَارَ فَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ) حَتَّى لَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا فَرْعُ تَمَامِهَا وَلَمْ تَتِمَّ حَتَّى قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْجِمَاعُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْبَدَلِ فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْخَلَفِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا رَأَى الْمَاءَ
(قَوْلُهُ سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ) هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَهُوَ جَوَابُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ عَلَى الْمُجْمَلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ أَنَّ الْحَرَامَ ثَلَاثَةٌ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ يَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولَةِ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه التَّوَقُّفُ، وَفِيهِ نَحْوَ أَحَدَ عَشَرَ مَذْهَبًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ) إذْ حَقِيقَتُهُ وَصْفُهَا بِالْحُرْمَةِ وَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِالْحِلِّ
لِأَنَّهُ يَمِينٌ ظَاهِرًا (وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الطَّلَاقَ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الثَّلَاثَ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِنَايَاتِ (وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ بِظِهَارٍ لِانْعِدَامِ التَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَهُوَ الرُّكْنُ فِيهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحُرْمَةَ وَفِي الظِّهَارِ نَوْعُ حُرْمَةٍ وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ الْمُقَيَّدَ (وَإِنْ قَالَ أَرَدْت التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ أُرِدْ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا)
فَكَانَ كَذِبًا، وَعَنْ هَذَا قَالَ مَسْرُوقُ وَالشُّعَبِيُّ فِي التَّحْرِيمِ إنَّهُ كَتَحْرِيمِ قَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَأَوْرَدَ لَوْ كَانَ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لَانْصَرَفَ إلَيْهِ بِلَا نِيَّةٍ لَكِنَّكُمْ تَقُولُونَ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْيَمِينِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ أُولَى فَلَا تُنَالُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْيَمِينُ الْحَقِيقَةُ الثَّانِيَةُ الثَّابِتَةُ بِوَاسِطَةِ الِاشْتِهَارِ. وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، قَالَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، بَلْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَمِينٌ ظَاهِرًا، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلَى أَنْ قَالَ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي نِيَّتِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَالْفَتْوَى كَمَا سَنَذْكُرُ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَلْوَانِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَكِنَّ الْفَتْوَى عَلَى الْعُرْفِ الْحَادِثِ.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الثَّلَاثَ) وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ إلَّا فِي الْأَمَةِ خِلَافًا لَزُفَرَ وَالزُّهْرِيِّ، وَمَرَّ فِي الْكِنَايَاتِ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِ الْحَالَةِ حَالَةُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ أَوْ لَا.
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً ثُمَّ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى ثِنْتَيْنِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ فَكَمُلَتْ الثَّلَاثُ (قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَلَيْسَ مَذْكُورًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَا الطَّحَاوِيُّ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَنْهُمَا مِنْ النَّوَادِرِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحْرِمَةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ.
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ ظِهَارٌ إذَا نَوَى بِهِ الظِّهَارَ عَلَى مَا عُرِفَ النَّقْلُ بِهِ عَنْهُ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحُرْمَةَ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْحُرْمَةَ أَعَمُّ مِنْ الْحُرْمَةِ الَّتِي هِيَ ظِهَارٌ أَوْ لَا، وَالْأَعَمُّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّاتُ، فَنِيَّةُ الظِّهَارِ نِيَّةُ مُحْتَمَلِ كَلَامِهِ لَا نِيَّةَ خِلَافِ ظَاهِرِهِ فَيُصَدَّقُ قَضَاءً (قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ أَرَدْت التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ أُرِدْ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا) وَنَصَّ فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ قَالَ فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ يَمِينًا وَيَنْصَرِفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ مَنْ قَالَ: تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ بِلَا نِيَّةٍ فَتَبَيَّنَ وَصَحَّحَ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
وَسُئِلَ نَجْمُ الدِّينِ عَنْ امْرَأَةٍ قَالَتْ لِزَوْجِهَا حَلَالُ اللَّهِ عَلَيْك حَرَامٌ فَقَالَ نَعَمْ تَحْرُمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا؟ قَالَ نَعَمْ وَكَذَلِكَ حَلَالُ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله إذَا نَوَى امْرَأَتَهُ حَتَّى دَخَلَتْ لَا يَخْرُجُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَنْ الْيَمِينِ فَيَحْنَثُ بِأَيِّ ذَلِكَ وُجِدَ، فَإِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ حَنِثَ وَانْقَضَى حُكْمُ يَمِينِهِ حَتَّى لَوْ قَرِبَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَنَاوَلَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ مِمَّا يَسْتَوْفِيهِ وَاحِدٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَهُ، وَكَذَا لَا يَدْخُلُ اللِّبَاسُ
لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ إنَّمَا هُوَ يَمِينٌ عِنْدَنَا وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَصْرِفُ لَفَظَّةَ التَّحْرِيمِ إلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِحُكْمِ الْعُرْفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
إلَّا بِالنِّيَّةِ.
وَإِذَا دَخَلَ لَا يَخْرُجُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، وَلَوْ نَوَى الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَهُوَ كَمَا نَوَى، وَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ فِي نِسَائِهِ وَالْيَمِينَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ طَلَاقٌ وَيَمِينٌ (قَوْلُهُ وَمِنْ الْمَشَايِخِ) هُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ لِمَا ظَهَرَ مِنْ الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ تَزَوَّجْتُك فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَتَزَوَّجَهَا تَطْلُقُ، وَلِهَذَا لَا يَحْلِفُ بِهِ إلَّا الرِّجَالُ، وَلَوْ قَالَتْ هِيَ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ كَانَ يَمِينًا وَإِنْ لَمْ تَنْوِ، فَلَوْ مَكَّنَتْهُ حَنِثَتْ وَكَفَّرَتْ وَصَارَ كَمَا إذَا تَلَفَّظَ بِطَلَاقِهَا غَيْرُ نَاوٍ تَطْلُقُ لِلصَّرَاحَةِ وَالْعُرْفُ هُوَ الْمُوجِبُ لِثُبُوتِ الصَّرَاحَةِ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: لَوْ نَوَى غَيْرَ الطَّلَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ بَلْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ: لَا أَقُولُ لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لَكِنْ يُجْعَلُ نَاوِيًا عُرْفًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُك عَلَيَّ أَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَيَّ أَوْ أَنْتِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ أَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَيَّ أَوْ أَنَا عَلَيْكِ حَرَامٌ أَوْ مُحَرَّمٌ أَوْ حَرَّمْت نَفْسِي عَلَيْك. وَيُشْتَرَطُ قَوْلُهُ عَلَيْك فِي تَحْرِيمِ نَفْسِهِ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْهُ لَا تَطْلُقُ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ، بِخِلَافِ نَفْسِهَا وَقَوْلُهُ أَنْتِ مَعِي فِي الْحَرَامِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَمَّا إنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ: إنْ كَانَ لَهُ وَاحِدَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعٌ طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَطْلِيقَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَعَلَى فَتْوَى الْأُوزْجَنْدِيِّ وَالْإِمَامِ مَسْعُودٍ الْكَشَانِيِّ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَعَلَيْهِ الْبَيَانُ.
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْخُلَاصَةُ: هُوَ الْأَشْبَهُ. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَشْبَهَ مَا فِي الْفَتَاوَى لِأَنَّ قَوْلَهُ حَلَالُ اللَّهِ أَوْ حَلَالُ الْمُسْلِمِينَ يَعُمُّ كُلَّ زَوْجَةٍ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ عُرْفٌ فِي الطَّلَاقِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ هُنَّ طَوَالِقُ لِأَنَّ حَلَالَ اللَّهِ شَمِلَهُنَّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، وَحَيْثُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَعَ بَائِنًا. وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ لِامْرِئٍ آخَرَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَفَعَلَ أَحَدُهُمَا حَتَّى وَقَعَ طَلَاقٌ بَائِنٌ ثُمَّ فَعَلَ الْآخَرُ.
قَالَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ: يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ كَمَا لَوْ قَالَ مُعَلِّقًا دُونَ الْأَوَّلِ.
[فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْإِيلَاءِ]
لَوْ قَالَ لَا قَرِبْتُك مَا دُمْت امْرَأَتِي فَأَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَصِرْ مُولِيًا وَيَقْرَبُهَا بِلَا حِنْثٍ. وَلَوْ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي صَحَّ الْإِيلَاءُ خِلَافًا لَزُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ بِنَذْرِ ذَبْحِ الْوَلَدِ ذَبْحُ شَاةٍ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَ زُفَرَ. وَمَالِكٌ يُوجِبُ فِيهِ نَحْرَ جَزُورٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْأَوْجُهُ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ. وَلَوْ جُنَّ الْمُولِي وَوَطِئَهَا انْحَلَّتْ وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ.
وَلَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ الْأَرْبَعِ
(بَابُ الْخُلْعِ)
وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّهِنَّ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِنَّ جَمِيعًا، قَالَ زُفَرُ: لَا يَكُونُ مُولِيًا مَا لَمْ يَطَأْ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ، لِأَنَّ الْحِنْثَ إنَّمَا يَقَعُ إذَا وَطِئَ الْكُلَّ، فَقُرْبَانُ الثَّلَاثِ يُمْكِنُهُ بِغَيْرِ حِنْثٍ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ بَلْ مِنْ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ قَرِبْت ثَلَاثًا مِنْكُنَّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ الرَّابِعَةَ. قُلْنَا: قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ وَطْءُ جَمِيعِهِنَّ لَا يَتَحَقَّقُ الْحِنْثُ، وَإِذَا وُجِدَ يُضَافُ الْحِنْثُ إلَى وَطْءِ كُلِّهِنَّ لَا إلَى الرَّابِعَةِ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَمِينٌ مُعَلَّقَةٌ فَلَا تَنْعَقِدُ مَا لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا. وَلَوْ قَالَ لَهُنَّ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُنَّ جَعَلْنَاهُ مُولِيًا مِنْ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ زُفَرُ: مُولٍ مِنْ الْأَرْبَعِ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْ إحْدَاهُنَّ بَانَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعَيِّنَهَا، وَعِنْدَهُ بِنَّ كُلُّهُنَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ إحْدَاكُنَّ وَوَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ سَوَاءٌ. وَلَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا فَكَذَا هَذَا.
قُلْنَا إحْدَاكُنَّ لَا تَعُمُّ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةً، وَلِذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ إحْدَاهُنَّ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، وَأَمَّا وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَنَكِرَةٌ مَنْفِيَّةٌ فَتَعُمُّ، وَلِذَا صَحَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ وَاحِدَةٌ وَإِلَيْهِ الْبَيَانُ، وَلَوْ بَيَّنَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ إحْدَاهُنَّ بِمَجِيءِ الْغَدِ وَبَيَّنَ قَبْلَ الْغَدِ، وَإِذَا بَيَّنَ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَتَعَيَّنَتْ الْمُبَانَةُ ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَبِينُ الْأُخْرَى، وَكَذَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ، وَقَالَا: تَبِينُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ مَا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَمَّا زَالَتْ مُزَاحَمَةُ الْأُولَى بِالْبَيَانِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى بِالْإِيلَاءِ كَمَا لَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا.
وَلَهُ أَنَّهُ آلَى مِنْ إحْدَاهُمَا لَا مِنْهُمَا، وَإِحْدَى هُنَا لَيْسَتْ نَكِرَةً حَتَّى تَعُمَّ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ وَتَعَيَّنَتْ فَلَا تَبِينُ الْأُخْرَى. وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَ أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَيَحْنَثُ بِوَطْئِهَا. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا لَا يَحْنَثُ إلَّا بِوَطْئِهِمَا، وَالْفَرْقُ أَنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ اسْمِهِ تَعَالَى لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِوَطْئِهِمَا. وَفِي قَوْلِهِ أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ صَارَ إيلَاءً بِاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّحْرِيمِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَوْ آلَى ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا يَكُونُ مُولِيًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ إيلَاؤُهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْفَيْءِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ لَهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْفَيْءَ، وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ لَهَا لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفَيْءَ فِي حَالَةٍ لَا يَمْلِكُهُ فِيهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ.
(بَابُ الْخُلْعِ)
هُوَ لُغَةً: النَّزْعُ خَلَعَ ثَوْبَهُ وَنَعْلَهُ، وَمِنْهُ خَالَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا إذَا افْتَدَتْ مِنْهُ بِمَالٍ، وَخَالَعَهَا وَتَخَالَعَا صِيغَ مِنْهَا الْمُفَاعَلَةُ مُلَاحَظَةً لِمُلَابَسَةِ كُلٍّ الْآخَرَ كَالثَّوْبِ، قَالَ تَعَالَى {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} وَفِي الشَّرْعِ: أَخْذُهُ الْمَالِ بِإِزَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَالْأَوْلَى قَوْلُ بَعْضِهِمْ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ لِاتِّحَادِ جِنْسِهِ مَعَ الْمَفْهُومِ -
(وَإِذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ وَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ يَخْلَعُهَا بِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَقَعَ بِالْخُلْعِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَزِمَهَا الْمَالُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ»
اللُّغَوِيِّ. وَالْفَرْقُ بِخُصُوصِ الْمُتَعَلِّقِ وَالْقَيْدِ الزَّائِدِ وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِبَدَلٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ قَوْلِنَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ فِيهِ وَبِبَدَلٍ فِيمَا يَلِيهِ، فَالصَّحِيحُ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِبَدَلٍ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ لَيْسَ هُوَ الْخُلْعُ بَلْ فِي حُكْمِهِ مِنْ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ لَا مُطْلَقًا وَإِلَّا لَجَرَى فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ فَسْخٌ وَفِي سُقُوطِ الْمَهْرِ لَوْ كَانَ الْمَالُ الْمُسَمَّى غَيْرَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ.
وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ بِالْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ النَّزْعَ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ مُتَعَلَّقِهِ أَمْرًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا كَقَيْدِ النِّكَاحِ بِمُقَابَلَةِ شَيْءٍ أَوَّلًا لَمْ يُبْعِدْ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ النَّقْلُ كَمَا غَلَطَ مَنْ جَعَلَ أُصُولَ الْفِقْهِ غَيْرَ مَنْقُولٍ لِانْدِرَاجِ حَقِيقَتِهِ فِي مُطْلَقِ مُسَمَّى الْأُصُولِ لُغَةً لِأَنَّ تَخْصِيصَ الِاسْمِ بِالْأَخَصِّ بَعْدَ كَوْنِهِ لِلْأَعَمِّ الصَّادِقِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ نَقْلٌ بِلَا شَكٍّ. وَشَرْطُهُ شَرْطُ الطَّلَاقِ. وَحُكْمُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَنَا.
وَصِفَتُهُ أَنَّهُ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ مُعَاوَضَةٌ مِنْ جَانِبِهَا فَتُرَاعَى أَحْكَامُ الْيَمِينِ مِنْ جَانِبِهِ وَأَحْكَامُ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جَانِبِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ يَمِينٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَسَتَأْتِي ثَمَرَةُ الْخِلَافِ (قَوْلُهُ إذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ) أَيْ تَخَاصَمَا (وَخَافَا) أَيْ عَلِمَا كَقَوْلِهِ:
وَلَا تَدْفِنُنِي فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي
…
أَخَافُ إذَا مَا مِتَّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا
أَيْ أَعْلَمُ. وَحُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى مَا حَدَّدَهُ مِنْ الْمَوَاجِبِ الَّتِي أَمَرَ أَنْ لَا تَتَجَاوَزَ، وَهَذَا الشَّرْطُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ إذْ الْبَاعِثُ عَلَى الِاخْتِلَاعِ غَالِبًا ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرُ الْمَفْهُومِ وَهُوَ مُشَاقَّتُهُمَا كَذَا قِيلَ.
وَقَدْ يُقَالُ: جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ الْإِبَاحَةُ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ: وَإِبَاحَةُ الْأَخْذِ مِنْهَا مَشْرُوطَةٌ بِمُشَاقَّتِهَا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ شَرْطًا فِي ذَلِكَ (قَوْلُهُ فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَقَعَ بِالْخُلْعِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَزِمَهَا الْمَالُ) هَذَا حُكْمُ الْخُلْعِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَذَهَبَ الْمَزْنِيُّ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا، وَقِيدَتْ الظَّاهِرِيَّةُ صِحَّتَهُ بِمَا إذَا كَرِهَتْهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَخَافَ أَنْ لَا يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا أَوْ أَنْ لَا تُوَفِّيَهُ حَقَّهُ وَمَنَعَتْهُ إذَا كَرِهَهَا هُوَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ.
وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَقَعُ بِالْخُلْعِ طَلَاقٌ بَلْ هُوَ فَسْخٌ بِشَرْطِ عَدَمِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لَا يَنْقُصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَقَعُ وَيَكُونُ رَجْعِيًّا، فَإِنْ رَاجَعَهَا رَدَّ الْبَدَلَ الَّذِي أَخَذَهُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: فَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ ذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِ الْمَزْنِيِّ إنَّ قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نُسِخَ حُكْمُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِتَأَخُّرِ هَذِهِ وَعَدَمِ إمْكَانِ الْجَمْعِ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ، وَكَذَا الثَّانِي، وَلِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ اسْتِبْدَالَ غَيْرِهَا مَكَانَهَا، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى مُطْلَقَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لَهَا مُطْلَقًا؟ نَعَمْ لَوْ أَرَادَ بِالنَّسْخِ تَقَدُّمَ حُكْمِهَا عَلَى الْمُطْلَقَةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ: أَعْنِي صُورَةَ إرَادَةِ الزَّوْجِ الِاسْتِبْدَالَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نُشُوزٍ مِنْهَا كَانَ حَسَنًا.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذَا الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَهُوَ حِينَئِذٍ وَجْهُ مَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيمِ الْخَاصِّ مُطْلَقًا. فَالْجَوَابُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عِنْدَنَا.
لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: يَتَعَارَضَانِ كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ حِينَئِذٍ وُجُوبُ التَّرْجِيحِ إذَا أَمْكَنَ، وَالتَّرْجِيحُ يَثْبُتُ لِلْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُبِيحِ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ وَهُوَ هُنَا فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ هَذَا الْخَاصُّ هُنَا بِحُكْمِ الْمُعَارَضَةِ لَا بِحُكْمِ التَّخْصِيصِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قَدَّمْنَا فِيهِ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا فِي ذَلِكَ الْفَرْدِ كَانَ لِثُبُوتِ الِاحْتِيَاطِ بِسَبَبِ كَوْنِ حُكْمِ الْعَامِّ مَنْعًا وَالْخَاصُّ يَخْرُجُ مِنْهُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ كَمَا فِي «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ» مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» وَإِيجَابًا كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» مَعَ قَوْلِهِ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَإِلَّا فَنَفْسُ كَوْنِهِ عَامًّا لَا يَقْتَضِي التَّقَدُّمَ لَعَيْنِ مَفْهُومِهِ، بَلْ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ، بَلْ الْجَوَابُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِهَا وَهُوَ عَدَمُ حَلِّ الْأَخْذِ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلَهُ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ: يَعْنِي كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ الْمُنْتَهِضَةِ سَبَبًا لِلْعِقَابِ.
وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي جَوَابِهِمْ: تَأْوِيلُ الْآيَةِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لَا فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْمَالِ وَتَمَلُّكِهِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَثْبُتُ مَعَ مُعَارَضَةِ مُوجِبِهَا، فَإِنَّ الْمُعَارَضَةَ تَنْفِي الْقَطْعِيَّةَ لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ نَسْخِهَا بِالْمُعَارِضِ، لَكِنَّهُ أَرَادَ مَا ذَكَرْنَا، وَسَيَأْتِي مَا هُوَ الْحَقُّ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجْهُ قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَا رَوَى عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخُلْعُ فُرْقَةٌ وَلَيْسَتْ بِطَلَاقٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ: لَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا، قَالُوا: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَفِي آخِرِهَا وَالْخُلْعُ بَيْنَهُمَا. وَرَوَى نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رُبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ ابْنِ عَفْرَاءَ تُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَجَاءَ عَمُّهَا إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ إنَّ ابْنَةَ مُعَوِّذٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْيَوْمَ أَفَتَنْتَقِلُ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لِتَنْتَقِلْ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَبَلٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عُثْمَانُ خَيْرُنَا وَأَعْلَمُنَا، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ رُبَيِّعَ وَعَمَّهَا صَحَابِيَّانِ، قَالُوا بِذَلِكَ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِالْآيَةِ، قَالَ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} إلَى أَنْ قَالَ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثُمَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قَالَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا: يَعْنِي الثَّالِثَةَ الْمُفَادَ شَرْعِيَّتُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنْ التَّقْرِيرِ فِي فَصْلٍ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ فَيَكُونُ الِافْتِدَاءُ غَيْرَ طَلَاقٍ، وَإِلَّا كَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا وَالثَّانِي مُنْتَفٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يَقْبَلُ الْفَسْخَ. وَقَدْ تَحَقَّقَ فَسْخُهُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فِي الِافْتِدَاءِ. قُلْنَا: أَمَّا هَذَا الْأَخِيرُ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ مُجَوَّزٌ لِكَوْنِهِ فَسْخًا لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْوَاقِعِ فِي الْوَاقِعِ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ فَلَا يُفِيدُ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَبِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ التَّرْكِيبِ يُفِيدُ بُعْدَ غَايَةِ التَّنَزُّلِ أَنَّ الِافْتِدَاءَ فُرْقَةٌ لَيْسَ غَيْرُ.
فَإِنَّ حَاصِلَ الثَّابِتِ بِهِ كَوْنُهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا أَفَادَ شَرْعِيَّةَ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ نَصَّ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ هُوَ جَوَازُ دَفْعِهَا الْبَدَلِ تَخَلُّصًا مِنْ قَيْدِ النِّكَاحِ وَأَخَذَهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكَوْنِهِ غَيْرُ طَلَاقٍ أَوْ طَلَاقًا هُوَ الثَّالِثَةُ أَوَّلًا فَتَعَيَّنَ أَخْذُهَا مِنْ خَارِجٍ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا أَوْجُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ بَيَّنَ الثَّالِثَةَ بَعُوضٍ وَبِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْجَوَابَ إلَيْهِ كَمَا سَمِعْت، وَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَشْرَعَ الْخُلْعُ إلَّا بَعْدَ ثِنْتَيْنِ، بَلْ إنَّمَا نَصَّ عَلَى شَرْعِيَّةِ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ حُكْمًا آخَرَ هُوَ جَوَازُ الِافْتِدَاءِ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ عَنْ عُثْمَانَ فَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَيْسَ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ قَالَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا تُنْكَحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً.
وَأَصْلُ هَذَا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ» فَسَمَّى الْحَيْضَةَ عِدَّةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. ثُمَّ رَأَيْنَاهُ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ فِي خُلْعِ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بِأَنَّهَا طَلْقَةٌ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» فَقَوْلُ عُثْمَانَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا: يَعْنِي الْعِدَّةَ الْمَعْهُودَةَ لِلْمُطَلَّقَاتِ، وَلِلشَّارِعِ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ، فَهَذَا يُفِيدُك بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَدَمَ التَّلَازُمِ بَيْنَ عَدَمِ الْعِدَّةِ وَكَوْنِهِ فَسْخًا، عَلَى أَنَّ الَّذِي تَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ هَذَا هُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رُبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ جَاءَتْ هِيَ وَعَمُّهَا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فِي زَمَانِ عُثْمَانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عِدَّتُهَا أَوْ عِدَّتُكِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ.
وَقَالَ: بَلَغَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْن يَسَارٍ وَابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ. وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ اتَّصَفَ بِاسْمِ الصَّحَابِيِّ يَتَّبِعُ أَقْضِيَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآيَ الْأَحْكَامِ وَعِلْمَ الْمُتَأَخِّرِ وَالْمُتَقَدِّمِ وَصَارَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ بَلْ يُقَلِّدُ بَعْضَهُمْ مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ، وَظَاهِرُ حَالِ رُبَيِّعَ وَعَمِّهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهُمَا قَدْ اسْتَفْتَيَا عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُمَا مَا قَالَ فَاعْتَقَدَاهُ، فَلَيْسَ فِي الْمَعْنَى إلَّا قَوْلُ صَحَابِيِّينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَوْلُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ التَّلَازُمُ بَيْنَ نَفْيِ الْعِدَّةِ وَكَوْنِهِ فَسْخًا وَهُوَ مُنْتَفٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ أُمِّ بَكْرَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَارْتَفَعَا إلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه فَأَجَازَ ذَلِكَ وَقَالَ: هِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونِي سَمَّيْت شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّيْت.
وَلَا نَعْرِفُهُ فِيهِ إلَّا أَنَّ جُمْهَانَ
لَمْ يَعْرِفْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَرَدَّ الْحَدِيثَ لِذَلِكَ، وَهُوَ جُمْهَانُ أَبُو يَعْلَى، وَأَبُو يَعْلَى مَوْلَى الْأَسْلَمِيِّينَ، وَيُقَالُ مَوْلَى يَعْقُوبَ الْقِبْطِيِّ يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَابِعِيًّا. رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ بَكْرَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ.
وَرَوَى عَنْهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: هُوَ جَدُّ جَدَّةِ عَلِيِّ بْن الْمَدِينِيِّ فَهِيَ ابْنَةُ عَبَّاسِ بْنِ جُمْهَانَ، رَوَى لَهُ ابْنُ مَاجَهْ حَدِيثًا وَاحِدًا فِي الصَّوْمِ عَنْ
وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ حَتَّى صَارَ مِنْ الْكِنَايَاتِ، وَالْوَاقِعُ بِالْكِنَايَةِ بَائِنٌ
أَبِي هُرَيْرَةَ «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» فَلِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِنَقْلِ مَذْهَبِنَا عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم، ثُمَّ يُعَارِضُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ، بَلْ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَا تَكُونُ طَلْقَةً بَائِنَةً إلَّا فِي فِدْيَةٍ أَوْ إيلَاءٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا وَتَقَدَّمَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ عُثْمَانَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً» وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكِبَارُ التَّابِعِينَ قَلَّ أَنْ يُرْسِلُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ وَإِنْ اتَّفَقَ غَيْرُهُ نَادِرًا فَعَنْ ثِقَةٍ، هَكَذَا تَتَبَّعْت مَرَاسِيلَهُ، وَبِهِ يَقْوَى ظَنُّ حُجِّيَّةِ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «الْخُلْعُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ» وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَعَلَّهُ بِعَبَّادِ بْنِ كَثِيرِ الثَّقَفِيِّ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً» وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الشَّأْنِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالضَّعْفِ إنَّمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَعَ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الصِّحَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ الضَّعْفِ فِي الظَّاهِرِ.
وَهَاهُنَا نَظَرٌ عَلَى أُصُولِنَا، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَوَى حَدِيثَ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ بِأَنَّهُ فَسْخٌ، وَعَمَلُ الرَّاوِي عِنْدَنَا بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ رُجُوعُهُ كَمَا قَالُوا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّ ثَابِتًا طَلَّقَهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَبْقَى مِنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ الْخُلْعُ، بَلْ يَصِيرُ طَلَاقًا عَلَى مَالٍ، فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذَلِكَ: الْخُلْعُ فَسْخُ كَلَامٍ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَحِينَئِذٍ مَا يَأْتِي مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّاوِي لَهُ خُلْعًا حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ أَوَّلُ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ يَعْنِي أَوَّلَ طَلَاقٍ بِمَالٍ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم طَلِّقْهَا امْتَثَلَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم فَطَلَّقَ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْخُلْعُ عَلَى الطَّلَاقِ بِمَالٍ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ مَا قُلْنَاهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَرْفُوعِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يُقَاوِمُهُ النَّقْلُ التَّقْدِيرِيُّ، وَلَوْ تَرَكْنَا الْكُلَّ يَتَعَارَضُ وَرَجَعْنَا إلَى النَّظَرِ فِي الْمَعْنَى أَفَادَ مَا قُلْنَاهُ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْخُلْعُ (مِنْ الْكِنَايَاتِ) حَتَّى لَوْ قَالَ خَلَعْتُك يَنْوِي الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ عِنْدَنَا، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُلْعِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْكِنَايَاتِ أَنَّهَا عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ بِالرُّجْعَى فَلَمْ يَنْخَلِعْ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِذِكْرِ الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْ حَالِهِ، وَأَيْضًا هَذِهِ فُرْقَةٌ بَعْدَ تَمَامِ النِّكَاحِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ كَوْنِهَا طَلَاقًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا عَهِدَ وَاجِبٌ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ وَلَمْ يَثْبُتْ كَمَا أَرَيْنَاك.
وَالْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ قَبْلَ تَمَامِهِ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ خِيَارٌ إذَا بَلَغَتْ وَعَتَقَتْ وَخِيَارُ الْمُولِي فَكَانَ ذَلِكَ امْتِنَاعًا عَنْ إتْمَامِهِ مَعْنًى، وَأَيْضًا مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّهُ وَارِدٌ
إلَّا أَنْ ذِكْرَ الْمَالِ أَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ هُنَا، وَلِأَنَّهَا لَا تُسْلِمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا وَذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ.
(وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عِوَضًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} إلَى أَنْ قَالَ {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَلِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَزِيدُ فِي وَحْشَتِهَا بِأَخْذِ الْمَالِ
عَلَى الْحُرَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبِضْعِ فَيَنْتَفِي هَذَا الْمِلْكُ فِي حَقِّ الْفَسْخِ، وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَمْ أَرَهُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فَإِنَّهُ تَعَالَى شَرَعَهُ مَشْرُوطًا لِخَوْفِ الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ إذْ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ وَهَذَا فَرْعُ التَّرَافُعِ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ خِطَابُ (فَلَا تَأْخُذُوا) لِلْأَزْوَاجِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْرَبٍ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ خِطَابَانِ يَتْلُو أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَالْمُخَاطَبُونَ بِأَحَدِهِمَا غَيْرُهُمْ بِالْآخِرِ.
وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ مِنْ الْمُوَطَّإِ يُفِيدُ أَنَّ الْخُلْعَ وَقَعَ دُونَ عِلْمِ عُثْمَانَ رضي الله عنه بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَكَذَا ابْنُ عُمَرَ حِينَ سَمِعَ بِهِ فَأَفَادَ عَدَمُ فَهْمِهِمَا ذَلِكَ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ إذْنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ تَمْكِينِهِمْ مِنْ الْخُلْعِ إذَا خَافُوا عَلَيْهِمَا عَدَمَ الْقِيَامِ بِالْمَوَاجِبِ فِيمَا إذَا ارْتَفَعُوا إلَيْهِمْ لَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّرَافُعِ إلَيْهِمْ، وَعَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمَفْهُومِ يَمْنَعُونَهُمْ عِنْدَ عَدَمِ هَذَا الْخَوْفِ بِالْقَوْلِ وَالْفَتْوَى، وَتَبَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَيْسَ مُبَاحًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَفِيهِ وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسَ بِهِ لَمْ تَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» لَا بِالْحُكْمِ بَعْدَ النَّفَاذِ وَالصِّحَّةِ إذَا وَقَعَ.
وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ إنَّهُ رَجْعِيٌّ فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ مَا لَا حَاصِلَ لَهُ، وَلَا غُبَارَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا بَذَلَتْ الْمَالَ لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى شَرَعَ الِافْتِدَاءَ لِذَلِكَ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ يَحْصُلْ الْغَرَضُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجَلِهِ وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَالزَّوْجُ قَدْ مَلَكَ الْمَالَ حُكْمًا لِصِحَّةِ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَهَا حُكْمًا لَهَا تَحْقِيقًا لَهَا كَمَا فِي جَانِبِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ) اسْتِدْرَاكٌ مِمَّا يُتَوَهَّمُ لُزُومُهُ عَلَى قَوْلِهِ إنَّهُ كِنَايَةٌ مِنْ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إذَا أَنْكَرَهَا يَصْدُقُ قَضَاءً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، قَالُوا: لَا يَصْدُقُ فِي لَفْظِ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْمُبَارَأَةِ وَالْبَيْعِ فِي عَدَمِ النِّيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَالِ بِأَنْ يَقُولَ بَارَأْتُك عَلَى أَلْفٍ أَوْ بِعْت نَفْسَك أَوْ طَلَاقَك عَلَى أَلْفٍ وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَصْدُقُ فِي إنْكَارِهَا قَضَاءً فِي الْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ لَا فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا صَرِيحَانِ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي.
فَأَجَابَ بِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ يُغْنِي عَنْهَا إذْ هُوَ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ: عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِسَبَبِهِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ)
(وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا) وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ طَابَ الْفَضْلُ أَيْضًا لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا. وَوَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ «أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا»
كَرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} نَهَى عَنْ الْأَخْذِ مِنْهَا عِنْدَ عَدَمِ نُشُوزِهَا وَكَوْنِهِ مِنْهُ.
وَتَقَدَّمَ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ لِلْمُعَارِضَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا مُعَارَضَةَ فِي التَّحْرِيمِ، فَإِنَّ إطْلَاقَ نَفْيِ الْجُنَاحِ فِي آيَةِ الْمُطَلَّقَةِ مُقَيَّدًا بِالْمُشَاقَّةِ فَإِنَّ الْآيَةَ هَكَذَا (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وَالنَّهْيُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مُقَيَّدٌ بِانْفِرَادِهِ بِالنُّشُوزِ فَلَا يَتَلَاقَيَانِ فَلَا تَعَارَضَ فِي حُرْمَةِ الْأَخْذِ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا بِالْعُمُومَاتِ الْقَطْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ مَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَفِي إمْسَاكِهَا لَا لِرَغْبَةٍ بَلْ إضْرَارًا وَتَضْيِيقًا لِيَقْتَطِعَ مَالَهَا فِي مُقَابِلَةِ خَلَاصِهَا مِنْ الشِّدَّةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا مَعَهُ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}
…
…
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ مَالِهَا كَذَلِكَ فَيَكُونُ حَرَامًا إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ جَازَ فِي الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آخِرًا: أَيْ يَحْكُمُ بِصِحَّةِ التَّمَلُّكِ وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ.
وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَلَوْنَاهُ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (شَيْئَانِ الْجَوَازُ حُكْمًا) يَعْنِي الصِّحَّةَ وَالنَّفَاذَ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ مُشَبَّهًا بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ قَالَ فِيهَا جَازَ فِي الْقَضَاءِ (وَالْإِبَاحَةُ وَقَدْ تَرَكَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} الْآيَةُ فَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي: أَيْ الْجَوَازِ فِي الْقَضَاءِ. لَا يُقَالُ: الْجَوَازُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَيَتَلَازَمَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ فَلَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ، وَمَعْنَى الْجَوَازِ مِنْ جَازَ: أَيْ مَرَّ.
وَبَعُدَ فَهُوَ النَّافِذُ شَرْعًا: أَيْ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ الْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَعَ الْحِلِّ أَوْ الْحُرْمَةِ كَمَا فِي كُلِّ نَهْيٍ عَنْ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَقُمْ فِيهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لِعَيْنِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتِ النِّدَاءِ وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ فَلَا تَلَازُمَ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَالْأَخْذُ حَرَامٌ فِي حَالِ عَدَمِ نُشُوزِهَا وَإِنْ كَانَ بِرِضَاهَا، وَلَوْ فَعَلَ كَانَ أَخْذُهُ سَبَبًا لِلتَّمَلُّكِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فِيمَا قُلْنَا حَيْثُ يَمْلِكُ بِسَبَبٍ مَمْنُوعٍ.
لَا يُقَالُ: النَّهْيُ هُنَا عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ فَيُعْدَمُ وُجُودُهُ شَرْعًا فَيُخْرِجُهُ عَنْ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا مُفِيدًا لِحُكْمِ الْمِلْكِ كَالنَّهْيِ عَنْ الزِّنَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ لَا لَعَيْنِهِ وَهُنَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِزِيَادَةِ الْإِيحَاشِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا تُرِكَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ يَلْزَمُ انْتِفَاءُ النَّفَاذِ شَرْعًا وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى النَّفَاذِ لَيْسَ إلَّا دَلَالَةٌ الْتِزَامِيَّةٌ لِلْإِبَاحَةِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ الْمُطَابِقِيَّةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، إذْ هِيَ الْمَعْنَى الْمُطَابِقِيِّ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ النَّفَاذُ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الْإِبَاحَةُ ارْتَفَعَتْ بِلَازِمِهَا إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ آخَرُ عَلَى ثُبُوتِ النَّفَاذِ شَرْعًا وَهُوَ مَعْدُومٌ، وَعَلَى هَذَا يَظْهَرُ قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ (قَوْلُهُ لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا) أَيْ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} يَعْنِي بِطَرِيقِ دَلَالَتِهِ لَا عِبَارَتِهِ، فَإِنَّ عِبَارَتَهُ رَفْعُ الْجُنَاحِ عِنْدَ مُشَاقَّتِهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي مُشَاقَّتِهِمَا مُشَاقَّتَهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا افْتَدَتْ بِهِ مُطْلَقًا فِيمَا فِيهِ مُشَاقَّةٌ مِنْهُ فَأَخْذُهُ ذَلِكَ فِيمَا لَا مُشَاقَّةَ مِنْهُ فِيهِ أَوْلَى (قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي امْرَأَةِ ثَابِتٍ إلَخْ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ
وَقَدْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا (وَلَوْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ) وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ وَالنُّشُوزُ مِنْهُ لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَلَوْنَا شَيْئَانِ الْجَوَازُ حُكْمًا وَالْإِبَاحَةُ، وَقَدْ تُرِكَ الْعَمَلُ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ فَبَقِيَ مَعْمُولًا فِي الْبَاقِي.
مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ رُوِيَتْ مُرْسَلَةٌ وَمُسْنَدَةٌ.
فَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ كُلُّهُمْ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَقْرَبُ الْأَسَانِيدِ سَنَدُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو زَوْجَهَا، فَقَالَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصْدَقَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، قَالَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ كَذَلِكَ، وَقَالَ: وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْوَلِيدُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُرْسَلُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ «أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ بْنِ شَمَّاسٍ كَانَتْ عِنْدَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَكَانَ أَصْدَقَهَا حَدِيقَةً فَكَرِهَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَعْطَاكِ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا وَلَكِنْ حَدِيقَتُهُ، قَالَتْ نَعَمْ، فَأَخَذَهَا وَخَلَّى سَبِيلَهَا» اهـ.
قَالَ سَمِعَهُ أَبُو الزُّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
(وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَهَا الْمَالُ) لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا، وَالْمَرْأَةُ تَمْلِكُ الْتِزَامَ الْمَالِ لِوِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَمِلْكِ النِّكَاحِ مِمَّا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا
قَالَ «لَا يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ الْمُخْتَلِعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادُ» وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَسَمَّاهَا فِيهِ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ، وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسَمَّاهَا حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، وَزَادَ فِيهِ: وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا بِانْفِرَادِهِ، وَعِنْدَ غَيْرِنَا إذَا اُعْتُضِدَ بِمُرْسَلٍ آخَرَ يُرْسِلُهُ مَنْ رَوَى عَنْ غَيْرِ رِجَالِ الْأَوَّلِ أَوْ بِمُسْنَدٍ كَانَ حُجَّةً.
وَقَدْ اُعْتُضِدَ هُنَا بِهِمَا جَمِيعًا وَظَهَرَ لَك الْخِلَافُ فِي اسْمِ الْمَرْأَةِ جَمِيلَةَ أَوْ حَبِيبَةَ أَوْ زَيْنَبَ، وَفِي اسْمِ أَبِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ أَوْ سَلُولَ أَوْ سَهْلٍ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
فَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُفَيْلٍ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ تَمْلِكُهُ فَخُوصِمَ فِي ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَجَازَهُ وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ عِقَاصِ رَأْسِهَا فَمَا دُونَهُ. وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ جَاءَتْهُ مَوْلَاةٌ لِامْرَأَتِهِ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَهَا وَمِنْ كُلِّ ثَوْبٍ حَتَّى نَقَبَتْهَا. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه رُفِعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ نَشَزَتْ عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا.
ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: لَا يَأْخُذُ مِنْهَا فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا. وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ عِمْرَانَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا.
وَقَالَ طَاوُسٌ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا. وَأَوْرَدَ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يُعَارِضَ الْكِتَابَ وَهَذَا مُعَارِضٌ قَوْلَهُ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أُجِيبَ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ عُورِضَ بِنَصٍّ آخَرَ مِثْلِهِ خَرَجَ عَنْ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْحُكْمِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنْ كَانَ مُعَارِضًا لِنَصٍّ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِآخَرَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارَضَةَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ فَجَازَ التَّمَسُّكُ بِهِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَحَدِ النَّصَّيْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَخْذِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُقَيَّدٌ بِنُشُوزِهِ وَحْدِهِ وَإِطْلَاقُ الْأَخْذِ مِنْهَا قُيِّدَ بِنُشُوزِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا تَعَارُضَ فَلَا تَخْصِيصَ، لِأَنَّ مَوْرِدَ الْعَامِ غَيْرُ صَادِقٍ عَلَى مَوْرِدِ الْخَاصِّ لِيَكُونَ خِلَافَ حُكْمِهِ فِي بَعْضِ مُتَنَاوِلَاتِهِ تَخْصِيصًا. لَا يُقَالُ: أَخْذُ الزِّيَادَةِ أَيْضًا غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ الْمُطَلَّقَةَ لِأَنَّهَا فِي نُشُوزِهِمَا وَنُشُوزُهَا وَحْدَهَا لَيْسَ نُشُوزَهُمَا. لِأَنَّا نَقُولُ:
تَثْبُتُ إبَاحَةُ أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي نُشُوزِهَا وَحْدَهَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى كَمَا بَيَّنَّا، وَعَلَى هَذَا فَيَظْهَرُ كَوْنُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَوْجَهَ. نَعَمْ يَكُونُ أَخْذُ الزِّيَادَةِ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَيَكُونُ مَحْمَلُ مَنْعِهِ صلى الله عليه وسلم ثَابِتًا مِنْ أَنْ يَزْدَادَ الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى وَطَرِيقُ الْقُرْبِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا إلَخْ) صُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ
كَالْقِصَاصِ (وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا) لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فَتَمْلِكُ هِيَ الْآخَرَ وَهِيَ النَّفْسُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ.
قَالَ (وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ مِثْلَ أَنْ يُخَالِعَ الْمُسْلِمُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ وَالْفُرْقَةُ بَائِنَةٌ، وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الطَّلَاقِ كَانَ رَجْعِيًّا) فَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِلتَّعْلِيقِ بِالْقَبُولِ وَافْتِرَاقُهُمَا فِي الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْعِوَضُ كَانَ الْعَامِلُ فِي الْأَوَّلِ لَفْظُ الْخُلْعِ وَهُوَ كِنَايَةٌ، وَفِي الثَّانِي الصَّرِيحُ وَهُوَ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لِلزَّوْجِ شَيْءٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا حَتَّى تَصِيرَ غَارَّةٌ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى لِلْإِسْلَامِ وَلَا إلَى إيجَابِ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِالْتِزَامِ،
أَوْ بِأَلْفٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَسَيَأْتِي، وَقَوْلُهُ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ: أَيْ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَزِمَهَا الْمَالُ فَيُطَالِبُهَا بِهِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً اخْتَلَعَتْ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا حَتَّى تُبَاعَ فِيهِ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا تُطَالَبُ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى جَعْلِ عَلَى لِلشَّرْطِ وَاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الْقَبُولَ لَا الْأَدَاءَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا وَالْمُعَيَّنُ لِذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي مَقَامِ الْمُعَاوَضَةِ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْقَبُولِ لَا الْأَدَاءِ، وَإِلَى هُنَا يَتِمُّ التَّقْرِيرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ.
وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ قَوْلَهُ: وَلَوْ قُلْنَا بِتَعْلِيقَةِ بِالْأَدَاءِ كَانَتْ كَلِمَةُ (عَلَى) لِلشَّرْطِ الْمَحْضِ، وَهِيَ إنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ: يَعْنِي أَنَّ تَعْلِيقَهُ بِالْأَدَاءِ يَخْرُجُ إلَى أَنَّ الْمَعْنَى إنْ أَدَّيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ الشَّرْطُ الْمَحْضُ وَهُوَ مُضِرٌّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لِاسْتِلْزَامِهِ تَعْلِيقَ الْبَيْعِ عَلَى أَدَاءِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ أَمَّا الْخُلْعُ فَلَيْسَ مَحْضُ مُعَاوَضَةٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّهُ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِهِ أَوْ الْجَانِبَيْنِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مُحْتَاجًا إلَيْهَا فِي التَّقْرِيرِ لِاسْتِغْنَاءِ الدَّلِيلِ عَنْ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْوُقُوعِ بِقَبُولِهَا بِحَيْثُ يَنْزِلُ بِمُجَرَّدٍ هُوَ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّحْقِيقُ أَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ فَلَا، فَلِذَا اُخْتُلِفَ فِيمَا إذَا قَالَ خَلَعْت نَفْسَك مِنِّي بِكَذَا فَقَالَتْ قَبِلْت قِيلَ يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: يَنْوِي الزَّوْجُ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ دُونَ السَّوْمِ يَصِحُّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى (قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّهَا لَا تُسْلِمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا (قَوْلُهُ وَهِيَ النَّفْسُ) أَنَّثَ ضَمِيرَ الْآخَرِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِتَأْنِيثِ اسْمِهِ الْآخَرِ: أَعْنِي النَّفْسَ
(قَوْلُهُ وَإِنْ بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْفُرْقَةِ عِوَضًا غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ
بِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَ عَلَى خَلٍّ بِعَيْنِهِ فَظَهَرَ أَنَّهُ خَمْرٌ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا فَصَارَ مَغْرُورًا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ عَلَى خَمْرٍ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ مُتَقَوِّمٌ وَمَا رَضِيَ بِزَوَالِهِ مَجَّانًا،
حَتَّى بَطَلَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوقِعًا بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَفِي الْخُلْعِ يَقَعُ بَائِنًا، وَفِي الطَّلَاقِ يَقَعُ رَجْعِيًّا إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا وَهِيَ دُونَ الثَّلَاثِ، وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ التَّقْيِيدَ بِهِمَا لِاشْتِهَارِ الْحَالِ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَطَلَاقِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَفِيهِمَا مَعًا لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِلزَّوْجِ.
وَجْهُ الْحُكْمِ الشَّامِلِ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ فِي الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَلِذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الطَّلَاقِ إجْمَاعًا وَإِبَاحَةُ الِافْتِدَاءِ لَيْسَ وَضْعًا لِتَقَوُّمِهِ شَرْعًا وَإِلَّا لَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ وَلَوْ بِالنَّوْعِ كَمَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِذَا سَمَّى غَيْرَ الْمُتَقَوِّمِ فِي غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ كَانَ رَاضِيًا بِسُقُوطِهِ مَجَّانًا.
وَجْهُ الِافْتِرَاقِ أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ مِنْ الْكِنَايَاتِ الَّتِي لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى قَطْعِ الْوَصْلَةِ لِأَنَّهُ مِنْ خَلَعَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ وَالْقَمِيصَ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْكِنَايَاتِ عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا، كَمَا أَفَادَ حَقِيقَتَهُ، مِنْهَا قَطْعُ الْوَصْلَةِ كَانَ الْوَاقِعُ بِهِ بَائِنًا وَمَا لَا فَرَجْعِيٌّ، وَلَفْظُ الْخُلْعِ مِنْ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ لَفْظِ اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ عَلَى مَا سَلَف فَإِنَّمَا يَقَعُ بِهَا رَجْعِيٌّ، وَلَفْظُ الطَّلَاقِ صَرِيحٌ لَا يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، وَلَوْلَا ثُبُوتُ هَذَا الِاعْتِبَارِ عِنْدَنَا فِي الْكِنَايَاتِ لَقُلْنَا بِالرُّجْعَى فِيهَا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ يُخَالِفُنَا فِي هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْكِنَايَاتِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِيهَا، وَقَالَ هُنَا إنَّ الْوَاقِعَ بَائِنٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ فِيهِ رَدُّ مَهْرِ مِثْلِهَا قِيَاسًا عَلَى بُطْلَانِ الْعِوَضِ فِي الْمَهْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مَعَ الْفَارِقِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الْبِضْعَ مُتَقَوِّمًا حَالَةَ الدُّخُولِ، حَتَّى لَوْ سَكَتَا عَنْ الْمَهْرِ لَزِمَتْ قِيمَتُهُ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُتَقَوِّمًا حَالَةَ الْخُرُوجِ لَمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ بُطْلَانِ الْعِوَضِ لُزُومُ الْقِيمَةِ.
وَفِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ خَلَعَهَا عَلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ فَخَمْرٌ وَمَالٌ صَحَّ وَلَا يَجِبُ لَهُ إلَّا الْمَالُ قِيلَ هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ صَحِيحٌ. وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: خَالَعَهَا عَلَى عَبْدِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا تَسْتَحِقُّهُ بِحَالٍ، وَعُرِفَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ اقْتِصَارَهُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَيْنُونَةَ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَ عَلَى خَلٍّ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَا هُوَ مَالٌ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَصِيرُ مَغْرُورًا) فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُرَدُّ مَهْرَهَا، وَعِنْدَهُمَا مِثْلُ كَيْلِ الْخَمْرِ خَلًّا وَسَطًا كَمَا فِي الصَّدَاقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْمَهْرِ، وَلَوْ عَلِمَ الزَّوْجُ بِكَوْنِهِ خَمْرًا لَا شَيْءَ لَهُ.
(وَقَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ عَلَى خَمْرٍ) أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مَالٌ لَكِنَّهُ سَاقِطُ التَّقَوُّمِ. وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا لَوْ كَاتَبَ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ حِينَئِذٍ بَاطِلَةٌ، حَتَّى لَوْ أَدَّى الْمَيِّتَةَ أَوْ الدَّمَ لَا يَعْتِقُ وَهَاهُنَا فَاسِدَةٌ، فَلَوْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ (لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ مُتَقَوِّمٌ) وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَدَلِ الْعِتْقِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَثَمَنِهِ ابْتِدَاءً (وَمَا رَضِيَ بِزَوَالِهِ مَجَّانًا) لِأَنَّهُ لَوْ رَضِيَ لَنَجِزَ عِتْقُهُ ابْتِدَاءً فَتَسْمِيَةُ مَالِ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ فِي الْمُتَقَوِّمِ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ
أَمَّا مِلْكُ الْبِضْعِ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبِضْعَ فِي حَالَةِ الدُّخُولِ مُتَقَوِّمٌ، وَالْفِقْهُ أَنَّهُ شَرِيفٌ فَلَمْ يَشْرَعْ تَمَلُّكَهُ إلَّا بِعِوَضٍ إظْهَارًا لِشَرَفِهِ، فَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَنَفْسُهُ شَرَفٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْمَالِ.
قَالَ (وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ) لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا لِلْمُتَقَوِّمِ
بِلَا عِوَضٍ، وَالْعِتْقُ لَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَيَنْزِلُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، وَلَا إيجَابُ الْمُسَمَّى لِفَسَادِهِ وَلَا وُقُوعُهُ بِلَا بَدَلٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا احْتَبَسَ عِنْدَهُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَهُوَ قِيمَةُ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ الْبَدَلُ فِي مَوْضِعِ لُزُومِهِ تَجِبُ قِيمَةُ الْمُبْدَلِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ عَنَى بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْخُرُوجِ أَوْ حَالَةَ الْبَقَاءِ لُزُومَ قِيمَتِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ شَرْعًا فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ عَنَى إمْكَانَ الِاعْتِيَاضِ فَالْبِضْعُ كَذَلِكَ حَالَةَ الْخُرُوجِ، فَلَا يُفِيدُ هَذَا الْفَرْقُ فِي الرُّجُوعِ بَيْنَهُمَا فِي تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَالْجَوَابُ الْمُرَادُ أَمْرٌ ثَالِثٌ وَهُوَ كَوْنُهُ لَهُ قِيمَةٌ فِي الْوَاقِعِ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَوَّمَ أَوَّلًا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَلَيْسَ هَذَا فِي الْبِضْعِ حَالَةَ الْخُرُوجِ (قَوْلُهُ وَالْفِقْهُ فِيهِ) أَيْ فِي لُزُومِ تَقَوُّمِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ دُونَ الْخُرُوجِ (أَنَّهُ) أَيْ الْبِضْعَ (شَرِيفٌ فَلَمْ يُشْرَعْ تَمْلِكُهُ إلَّا بِعِوَضٍ، فَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَنَفْسُهُ شَرَفٌ) أَيْ يَحْصُلُ بِهِ شَرَفُ الْبِضْعِ لِلتَّخَلُّصِ بِهِ مِنْ الْمَمْلُوكِيَّةِ (فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْمَالِ) إذَا لَمْ يَجِبْ إلَّا هَذَا الْغَرَضُ وَهُوَ حَاصِلٌ هُنَا بِدُونِهِ
(قَوْلُهُ وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ) وَلَا يَنْعَكِسُ كُلِّيًّا، فَالصَّادِقُ بَعْضُ مَا جَازَ بَدَلَ خُلْعٍ جَازَ كَوْنُهُ مَهْرًا وَالْبَعْضُ لَا كَالْأَقَلِّ مِنْ الْعَشَرَةِ وَمَا فِي يَدِهَا، وَمَا فِي بَطْنِ غَنَمِهَا وَمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا يَجُوزُ وَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَلَا يَجُوزُ مَهْرًا بَلْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ مَالًا فِي الْحَالِ بَلْ فِي الْمَآلِ فَكَانَ تَعْلِيقًا بِالِانْفِصَالِ مِنْ الْبَطْنِ، وَأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَهُوَ الطَّلَاقُ هُنَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، فَكَذَا الْآخَرُ: أَعْنِي الْمَالَ، وَلَا يَقْبَلُهُ مَا يُقَابِلُ الْمَالَ هُنَاكَ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْآخَرُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بُطُونِهَا شَيْءٌ حَالَةَ الْخُلْعِ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَمَا حَدَثَ فِي الْبَطْنِ بَعْدَ الْخُلْعِ لَهَا لَا لَهُ لِأَنَّهَا غَيْرُ غَارَّةٍ، إذْ مَا فِي الْبَطْنِ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ مَالًا إذَا ظَهَرَ لِجَوَازِ كَوْنِهِ رِيحًا أَوْ مَيِّتَةً فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ.
وَيَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ مَعَ جَهَالَةٍ مُسْتَدْرَكَةٍ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ لَا الْفَاحِشَةِ كَالْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ وَالْمَيْسَرَةِ، وَحَيْثُ لَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ يَجِبُ الْمَالُ حَالًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إسْقَاطًا حَتَّى جَازَ تَعْلِيقُهُ وَخُلُوُّهُ مِنْ الْعِوَضِ بِالْكُلِّيَّةِ وَكَانَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُحُ جَازَ الْمَجْهُولُ وَإِلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ الْمُسْتَدْرَكِ الْجَهَالَةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهَا وَرُكُوبِ دَابَّتِهَا وَخِدْمَتِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْزِمُ خَلْوَتَهُ
أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ عِوَضًا لِغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ.
(فَإِنْ قَالَتْ لَهُ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي فَخَالَعَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا) لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرُّهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ (وَإِنْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ مَالٍ فَخَالَعَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ رَدَّتْ عَلَيْهِ مَهْرَهَا) لِأَنَّهَا لَمَّا سَمَّتْ مَالًا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ إلَّا بِعِوَضٍ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى وَقِيمَتِهِ لِلْجَهَالَةِ وَلَا إلَى قِيمَةِ الْبِضْعِ: أَعْنِي مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ حَالَةَ الْخُرُوجِ فَتَعَيَّنَ إيجَابُ مَا قَامَ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ
دَفْعًا لِلضَّرَرِ
عَنْهُ
بِهَا أَوْ خِدْمَةِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ هَذِهِ تَجُوزُ مَهْرًا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: قَالَتْ طَلِّقْنِي عَلَى أَنْ أُؤَخِّرَ مَا لِي عَلَيْك فَطَلَّقَهَا، فَإِنْ كَانَ لِلتَّأْخِيرِ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ صَحَّ بِهِ التَّأْخِيرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَصِحُّ، وَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا عَلَى أَنْ تُبَرِّئَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ الَّتِي كَفَلَ بِهَا لَهَا عَنْ فُلَانٍ فَالطَّلَاقُ بَائِنٌ انْتَهَى، كَأَنَّهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِيهِ مَالٌ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهَا بِهِ لَا تَسْقُطُ بَلْ تَتَأَخَّرُ، بِخِلَافِ الثَّانِي لِتَحَقُّقِ سُقُوطِ الْمَالِ أَوْ مُطَالَبَتِهَا إيَّاهُ بِهِ (قَوْلُهُ أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ عِوَضًا لِغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ) وَهُوَ الْبِضْعُ حَالَةَ الْخُرُوجِ، بِخِلَافِهِ حَالَةَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ مُتَقَوِّمٌ.
وَعَنْ هَذَا جَازَ تَزْوِيجُ الْأَبِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ عَلَى مَالِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَالِهَا. وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَلَوْ اخْتَلَعَتْ الْمَرِيضَةُ يَعْتَبِرُ مِنْ الثُّلُثِ فَيَكُونُ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا وَمَنْ بَدَلِ الْخُلْعِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْإِرْثِ وَالثُّلُثِ إذَا مَاتَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَهُ بَدَلُ الْخُلْعِ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ) لِأَنَّ مَا فِي يَدِهَا قَدْ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهُ فَكَانَ بِذَلِكَ رَاضِيًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا أَوْ كَانَ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهَا عَلَى مَا فِي بَيْتِي أَوْ مَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ حَالَ قَوْلِهَا فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ، وَلَوْ قَالَتْ عَلَى مَا فِي بَيْتِي مِنْ مَتَاعٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَالٌ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِهَا لِلْغُرُورِ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (لَا وَجْهَ إلَّا إيجَابُ الْمُسَمَّى) أَيْ مَا سَمَّتْهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ الْمَالُ (وَقِيمَتُهُ لِلْجَهَالَةِ) قِيلَ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهَا مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ وَأَقَلُّهُ دِرْهَمٌ لِمَا
(وَلَوْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَفَعَلَ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَعَلَيْهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْجَمْعَ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَكَلِمَةُ مِنْ هَاهُنَا لِلصِّلَةِ دُونَ التَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلُّ بِدُونِهِ.
عُرِفَ فِي الْإِقْرَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ رحمه الله.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَهَالَةَ تُوجِبُ الْفَسَادَ، وَلِأَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ مَا هُوَ مَالٌ دِرْهَمًا مَمْنُوعٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْجَمْعَ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ) فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي قَوْلِهَا دِرْهَمٌ ظَاهِرٌ، أَمَّا فِي الْمُحَلَّى فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهَا دِرْهَمٌ لِبُطْلَانِ الْجَمْعِيَّةِ بِاللَّامِ إلَى الْجِنْسِيَّةِ وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْفَرْدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهَا دِرْهَمٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الْعَهْدِيَّةِ، فَأَمَّا إنْ أَمْكَنَ اُعْتُبِرَ كَوْنُهُ الْمُرَادُ وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا فَإِنَّ قَوْلَهَا عَلَى مَا فِي يَدِي أَفَادَ كَوْنَ الْمُسَمَّى مَظْرُوفًا بِيَدِهَا وَهُوَ عَامٌ يَصْدُقُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا، فَصَارَ بِالدَّرَاهِمِ عَهْدٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ لَفْظَةِ مَا وَهُوَ مُبْهَمٌ وَلَفْظَةُ مِنْ وَقَعَتْ بَيَانًا وَمَدْخُولُهَا وَهُوَ الدَّرَاهِمُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِخُصُوصِ الْمَظْرُوفِ فَصَارَ كَلَفْظِ الذَّكَرِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} لِلْعَهْدِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُهُ فِي كَوْنِ مَدْخُولِ اللَّامِ هُنَا وَاقِعًا بَيَانًا لِلْمَعْهُودِ بِخِلَافِهِ فِي وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى لِأَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ مَا فِيهِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ لِلْبَيْعَةِ إنَّمَا هُوَ الذَّكَرُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْجِنْسِ إلَّا عِنْدَ إمْكَانِ الِاسْتِغْرَاقِ لَا عِنْدَ عَدَمِهِ وَلِذَا يَكُونُ لِلْجِنْسِ. لَا أَشْتَرِي الْعَبِيدَ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ دُونَ لَأَشْتَرِيَنَّ الْعَبِيدَ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ فَيَحْنَثُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ وَاحِدٍ بِالْأَوَّلِ وَلَا يَبَرُّ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فِي الثَّانِي بَلْ بِشِرَاءِ ثَلَاثَةٍ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا صِلَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ؛ أَلَا تَرَى إلَى صِدْقِ ضَابِطِهَا وَهُوَ صَلَاحِيَّةُ وَضْعِ الَّذِي مَوْضِعِهَا مَوْصُولًا بِمَدْخُولِهَا حَالَ كَوْنِهِ خَبَرَ
(فَإِنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى عَبْدٍ لَهَا آبِقٍ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ مِنْ ضَمَانِهِ لَمْ تَبْرَأْ وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إنْ قَدَرَتْ وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ إنْ عَجَزَتْ) لِأَنَّهُ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ فَيَقْتَضِي سَلَامَةَ الْعِوَضِ، وَاشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ عَنْهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَبْطُلُ إلَّا أَنَّ الْخُلْعَ
الْمُبْتَدَإِ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُ الْمُبْهَمِ هَكَذَا مَا فِي يَدِي الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} لِصِدْقِ الرِّجْسِ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي لَفْظِ الصِّلَةِ اصْطِلَاحٌ، وَمَا قِيلَ إنَّ تُعَيُّنَّ الثَّلَاثَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ لِأَنَّ الْبِضْعَ مُحْتَرَمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدٍ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ.
دُفِعَ بِأَنَّهُ فَرْعُ تَقَوُّمِ الْبِضْعِ فِي الْخُرُوجِ وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الْمَالُ مِنْ قَوْلِهَا عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ وَكَانَ الْبِضْعُ مُحْتَرَمًا فَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِبَدَلِ إسْقَاطِ الْمِلْكِ عَنْهُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ، وَالدِّرْهَمُ الْوَاحِدُ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ الْجِنْسُ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ الْجَمْعُ غَيْرُ ذِي خَطَرٍ وَلِذَا لَمْ يَقْطَعْ الْعُضْوَ بِهِ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ ذُو خَطَرٍ وَهُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْجِنْسِ كَالْفَرْدِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ حَمْلًا لَا دَلَالَةً بِالْمُعَيَّنِ الْمَذْكُورِ، كَمَا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَرْدِ بِمُعَيَّنٍ لِكَوْنِهِ الْمُتَيَقِّنَ عِنْدَ عَدَمِ مَا يُعَيِّنُ غَيْرَهُ
(قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ) يَعْنِي إنْ وَجَدَتْهُ سَلَّمَتْهُ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا (قَوْلُهُ وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إلَخْ) هَذَا فَرْعُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ فِي الْخُلْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ غَيْرِ مَالٍ، فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْقِيمَةِ فَتُدْفَعُ.
وَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ صَحَّتْ وَوَجَبَ تَسْلِيمُهُ إنْ رَضِيَ سَيِّدُهُ وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ، وَهَذَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّجُ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ وَحُكْمُهُ كَذَلِكَ فَالْخُلْعُ عَلَيْهِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُشَاحَحَةِ فَالْعَجْزُ يُفْضِي إلَيْهَا وَهُوَ لَمْ يَشْرَعْ إلَّا لِقَطْعِهَا فَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْآبِقِ فِيهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا خَالَعَتْهُ عَلَى دَابَّةٍ وَعَلَى أَنْ تُزَوَّجَهُ امْرَأَةً وَتُمْهِرَهَا عَنْهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ لَا التَّسْمِيَةُ فَيَرْجِعُ بِمَهْرِهَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُتَفَاحِشَةٌ لِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ شَيْءٍ مُسَمًّى بِعَيْنِهِ وَلَا قِيمَتُهُ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ أَوْ قِيمَتُهُ.
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ كَتَسْمِيَةِ عَبْدٍ وَسَطٍ، فَإِذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ أَوْجَبَتْ تَسْلِيمَ الْمُسَمَّى فَاشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ عَنْ ضَمَانِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْبَدَلِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ حُكْمِهِ فَيَبْطُلُ هَذَا الشَّرْطُ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَيْبِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ
لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَعَلَى هَذَا النِّكَاحِ
(وَإِذَا قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ) لِأَنَّهَا لَمَّا طَلَبَتْ الثَّلَاثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ طَلَبَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ
كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ يُوجِبُ سَلَامَتَهُ كَمَا يُوجِبُ أَصْلَهُ لِأَنَّ وُجُوبَ سَلَامَتِهِ تَبَعٌ لِوُجُوبِهِ فَوُجُوبُ أَصْلِهِ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، ثُمَّ يَجِبُ كَوْنُهُ سَلِيمًا لِأَنَّ وُجُوبَ مُطْلَقِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي كَمَالَهُ، لِأَنَّ الْمَعِيبَ فَائِتٌ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْعَيْبُ، فَاشْتِرَاطُ نَفْيِهِ اشْتِرَاطُ نَفْيِ نَفْسِ مُقْتَضَاهُ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مَعِيبًا لِأَنَّهُ إثْبَاتُهُ، ثُمَّ إسْقَاطُ بَعْضِ الْحُقُوقِ التَّابِعِ وُجُوبُهَا لِوُجُوبِهِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِإِثْبَاتِ مُقْتَضَاهُ.
أَوْ نَقُولُ: السَّلَامَةُ إنَّمَا هِيَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ عَدَمُهَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ لَا غَيْرُهُ، بِخِلَافِ أَصْلِ الْبَدَلِ فَإِنَّهُ حُكْمُ كُلِّ عَقْدٍ مُطْلَقًا. وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ، وَلَوْ كَانَ مَاتَ قَبْلَ الْخُلْعِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْهُ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَاسْتَحَقَّ لَزِمَهَا قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِتَسْلِيمِهِ ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَيَجِبُ فِي صُورَةِ مَا إذَا كَانَ مَاتَ قَبْلَ الْخُلْعِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَلِمَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَجِبَ لَهُ شَيْءٌ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْخَلِّ الْمُعَيَّنِ إذَا ظَهَرَ خَمْرًا وَهُوَ يَعْلَمُ.
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ: وَإِنْ اخْتَلَعَتْ بِعَبْدٍ حَلَالِ الدَّمِ فَقُتِلَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهِ كَالِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ فَقُطِعَ عِنْدَ الزَّوْجِ رَدَّهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ
(قَوْلُهُ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً) أَيْ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ قَامَ فَطَلَّقَهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ (قَوْلُهُ فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ مَالِكٍ تَقَعُ بِالْأَلْفِ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ تَقَعُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالدَّعْوَى مَوْقُوفَةٌ عَلَى إثْبَاتِ التَّلَازُمِ بَيْنَ طَلَبِهَا الثَّلَاثِ بِأَلْفٍ وَطَلَبِ الْوَاحِدَةِ بِثُلُثِهِ فَأَثْبَتَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ الْبَاءَ تَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ بِاتِّفَاقٍ، وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوِّضِ بِالضَّرُورَةِ وَإِلَّا لَخَلَا بَعْضُهُ عَنْهُ فَيَكُونُ بَعْضُهُ بِلَا عِوَضٍ، لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنْ لَا تَبَرُّعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، لَكِنْ لَازَمَ هَذَا جَعْلُ كُلِّ طَلْقَةٍ بِمُقَابَلَةِ ثُلُثِ الْأَلْفِ، وَالْمَطْلُوبُ وَهُوَ طَلَبُ كُلِّ طَلْقَةٍ بِثُلُثِهِ لَازِمُهُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْعِلْمُ مُحِيطًا بِالِانْقِسَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ طَلَبُ الْجُمْلَةِ بِعِوَضٍ طَلَبَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، لَكِنْ يَبْقَى فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ طَلَبُ الطَّلْقَةِ بِحِصَّتِهَا حَالَ كَوْنِهَا مَعَ الطَّلْقَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ لَا مُنْفَرِدَةً، فَإِيقَاعُهُ الْوَاحِدَةَ فَقَطْ إيقَاعُ غَيْرِ الْمَسْئُولِ فَيَقَعُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَهُوَ وَجْهُ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَلِذَا رَتَّبَ فِي الْكَافِي الدَّعْوَى عَلَى اللَّازِمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ جَعْلُهَا كُلَّ طَلْقَةٍ بِثُلُثِهَا، وَجَعْلُهُ نَظِيرَ مَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ بِعْ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ الثَّلَاثَةَ بِأَلْفٍ فَبَاعَ أَحَدَهُمْ بِثُلُثِهَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَحْصِيلُ بَعْضِ الْمَقْصُودِ، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ مَقْصُودَهَا الْأَصْلِيَّ مِلْكُهَا نَفْسُهَا بِقَطْعِ مِلْكِهِ، غَيْرِ أَنَّهَا ذَكَرَتْ إحْدَى صُورَتِي ذَلِكَ وَهُوَ الثَّلَاثُ بَعْدَ عِلْمِهَا بِحِصَّةِ كُلٍّ مِنْهَا فَإِبَانَتُهَا بِوَاحِدَةٍ تَحْصِيلُ أَصْلِ الْمَقْصُودِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى فَهُوَ أَوْلَى بِجَوَازِهِ بِحِصَّتِهَا، بِخِلَافِ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي قَوْلِهِ بِعْتُك هَذِهِ الْأَعْبُدَ الثَّلَاثَةَ بِأَلْفٍ كُلَّ وَاحِدٍ بِثُلُثِهَا فَقَبِلَ فِي وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لِمَانِعٍ وَهُوَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَإِنَّهُ ضَرَرٌ عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ عَادَةَ التُّجَّارِ ضَمُّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فِي الصَّفْقَةِ لِيُرَوِّجُوا الرَّدِيءَ، فَالْقَبُولُ
وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ (وَإِنْ قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ. وَقَالَا هِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ) لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى بِمَنْزِلَةِ الْبَاءِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، حَتَّى إنَّ قَوْلَهُمْ احْمِلْ هَذَا الطَّعَامَ بِدِرْهَمٍ أَوْ عَلَى دِرْهَمٍ سَوَاءٌ.
وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلشَّرْطِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ كَانَ شَرْطًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لِلُّزُومِ حَقِيقَةً، وَاسْتُعِيرَ لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْجَزَاءَ، وَإِذْ كَانَ لِلشَّرْطِ فَالْمَشْرُوطُ لَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الشَّرْطِ،
فِي
بَعْضِهَا إلْحَاقُ الضَّرَرِ
بِهِ.
وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ فِي وَاحِدَةٍ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ رَاضٍ بِالْبَيْنُونَةِ مُقَابِلًا بِثُلُثِ الْأَلْفِ حَيْثُ كَانَ الْإِيقَاعُ مِنْهُ، وَفِي هَذِهِ لَمْ يَرْضَ بِهَا إلَّا وَأَنْ يَكُونَ بِإِزَائِهَا أَلْفٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ الْإِيجَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا. وَلَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْهُ بِإِزَاءِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ. وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ: لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، وَلَوْ قَبِلَتْ الثَّلَاثَ بِالْأَلْفِ لَمْ يَقَعْ. وَفِي الْخُلَاصَةِ قُبَيْلِ الْفَصْلِ الرَّابِعِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي أَرْبَعًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَهِيَ بِالْأَلْفِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَبِثُلُثِ الْأَلْفِ (قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ لِلُّزُومِ حَقِيقَةٍ وَاسْتُعِيرَ لِلشَّرْطِ) يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ كَلِمَةَ (عَلَى) لِلشَّرْطِ مُرَادُهُ مَجَازًا.
وَفِي النِّهَايَةِ: لَا يَتِمُّ تَعْلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا عَلَى تَعْلِيلِ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ ادَّعَى أَنَّهَا لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُسْتَعَارَةً لِلشَّرْطِ، لَهُمَا أَنْ يَقُولَا لِمَ صَارَتْ تِلْكَ الِاسْتِعَارَةُ أَوْلَى مِنْ اسْتِعَارَتِهَا لِمَعْنَى الْبَاءِ، بَلْ اسْتِعَارَتُهَا لِمَعْنَى الْبَاءِ أَوْلَى لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْإِلْزَامُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْإِلْصَاقِ وَاللُّزُومِ أَكْثَرُ مِنْهَا بَيْنَ الْإِلْزَامِ وَالشَّرْطِ. ثُمَّ نَقَلَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهَا لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً وَهُوَ مُمْكِنٌ هُنَا إذْ الطَّلَاقُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِيهِ إذْ لَا يَعْدِلُ إلَى الْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِ الْحَقِيقَةِ.
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا حَقِيقَةٌ لِلِاسْتِعْلَاءِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْأَجْسَامِ الْمَحْسُوسَةِ كَقُمْتُ عَلَى السَّطْحِ وَالْعَتَبَةِ وَجَلَسْت عَلَى
بِخِلَافِ الْبَاءِ لِأَنَّهُ لِلْعِوَضِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ كَانَ مُبْتَدَأً فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ (وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّ الزَّوْجَ مَا رَضِيَ بِالْبَيْنُونَةِ إلَّا لِتُسْلِمَ لَهُ الْأَلْفَ كُلَّهَا، بِخِلَافِ قَوْلِهَا طَلَّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ لِأَنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ بِالْبَيْنُونَةِ بِأَلْفٍ كَانَتْ بِبَعْضِهَا أَرْضَى (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ
الْأَرْضِ وَالْبِسَاطِ وَمَسَحْت عَلَى رَأْسِي، وَهُوَ مَحْمَلُ إطْلَاقِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَوْنِهَا لِلِاسْتِعْلَاءِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ هِيَ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَى اللُّزُومِ الصَّادِقِ فِي ضِمْنِ مَا يَجِبُ فِيهِ الشَّرْطُ الْمَحْضُ نَحْوَ قَوْلِهِ {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} أَيْ بِشَرْطِ ذَلِكَ، وَنَحْوَهُ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ، وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَبِعْنِي هَذَا عَلَى أَلْفٍ وَاحْمِلْهُ عَلَى دِرْهَمٍ، وَالْعُرْفِيَّةُ كَأَفْعَلُ كَذَا عَلَى أَنْ أَنْصُرَك أَوْ أُعْطِيَك أَوْ أَشْفَعَ لَك عِنْدَ فُلَانٍ، وَالْمَحَلُّ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَحْضِ وَالِاعْتِيَاضِ بِهِ وَلَا مُرَجِّحَ، وَكَوْنُ مَدْخُولِهَا مَالًا لَا يُرَجِّحُ مَعْنَى الِاعْتِيَاضِ فَإِنَّ الْمَالَ يَصِحُّ جَعْلُهُ شَرْطًا مَحْضًا حَتَّى لَا تَنْقَسِمُ أَجْزَاؤُهُ عَلَى أَجْزَاءِ مُقَابِلِهِ، كَمَا لَوْ قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنِي ثَلَاثًا فَلَكَ أَلْفٌ حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الطَّلْقَاتِ مُقَابَلًا بِشَيْءٍ بَلْ الْمَجْمُوعُ يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَجْمُوعِ، كَمَا يَصِحُّ جَعْلُهُ عِوَضًا مُنْقَسِمًا كَمَا فِي بِأَلْفٍ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْطِ لَا، إذْ الشَّرْطُ لَا تَتَوَزَّعُ أَجْزَاؤُهُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَشْرُوطِ، بَلْ مَجْمُوعُهُ مَجْعُولُ عَلَامَةٍ عَلَى نُزُولِ كُلِّهِ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ لُزُومِ ثُلُثِ الْأَلْفِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ وَلَا يُحْتَاطُ فِي اللُّزُومِ إذْ الْأَصْلُ فَرَاغُ الذِّمَّةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ اشْتِغَالُهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ لَفْظًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الِاسْتِعْلَاءِ وَاللُّزُومِ، وَكَوْنُهُ لَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عِنْدَ إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الْمُشْتَرَكَاتِ لَا يَنْفِيهِ، إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لِلُزُومِ الْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِأَحَدِ الْمَفْهُومِينَ وَهُوَ خُصُوصُ الْمَادَّةِ أَعْنِي كَوْنَ مَدْخُولِهَا جِسْمًا مَحْسُوسًا أَوْ غَيْرَهُ، وَكَوْنُ الْمَجَازِ خَيْرًا مِنْ الِاشْتِرَاكِ هُوَ عِنْدَ التَّرَدُّدِ.
أَمَّا عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ التَّبَادُرُ بِمُجَرَّدِ الْإِطْلَاقِ فَلَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ وَاقِعٌ وَلَيْسَ إلَّا لِدَلِيلِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ دَعْوَى أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ هُوَ الِاسْتِعْلَاءُ وَالْمَجَازِيَّ اللُّزُومُ، لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ قَوْلَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يُرَجِّحُهُ لِأَنَّ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ هُمْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَأَحَدٌ مِنْ الْكُلِّ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْوَاضِعِ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ كَذَا، بَلْ لَيْسَ حُكْمُهُمْ بِهِ إلَّا بِنَاءً عَلَى مَا رَأَوْهُ مُتَبَادِرًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِأَهْلِ اللِّسَانِ، وَنَحْنُ أَوْجَدْنَاك تُبَادِرُ اللُّزُومَ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ كَمَا يَتَبَادَرُ الِاسْتِعْلَاءُ فِي الْآخَرِ.
هَذَا وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى كَوْنِهِ فِي اللُّزُومِ مَجَازًا لَمْ يَضُرَّنَا فِي الْمَطْلُوبِ فَنَقُولُ: لَمَّا تَعَذَّرَتْ الْحَقِيقَةُ: أَعْنِي الِاسْتِعْلَاءَ كَانَ فِي الْمَجَازِيِّ: أَعْنِي اللُّزُومَ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مَعْنًى كُلِّيٌّ صَادِقٌ مَعَ مَا يَجِبُ فِيهِ الشَّرْطِيَّةُ وَمَا يَجِبُ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ إلَى آخِرِ مَا قُلْنَاهُ بِعَيْنِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ) تَقَدَّمَ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ ابْتِدَائِهَا وَابْتِدَائِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، إلَى قَوْلِهِ: وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ) لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ
مَعْنَى قَوْلِهِ بِأَلْفٍ بِعِوَضِ أَلْفٍ يَجِبُ لِي عَلَيْك، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى أَلْفٍ عَلَى شَرْطِ أَلْفٍ يَكُونُ لِي عَلَيْك، وَالْعِوَضُ لَا يَجِبُ بِدُونِ قَبُولِهِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ لِمَا قُلْنَا.
(وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَتْ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَ عَتَقَ الْعَبْدُ وَطَلُقَتْ الْمَرْأَةُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)
أَوْ خَلَعْتُك أَوْ بَارَأْتُك أَوْ طَلَّقْتُك بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ يَقَعُ عَلَى الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِهَا وَهُوَ يَمِينٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَإِضَافَتُهُ، وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْبُلُوغِ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ غَائِبَةً لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْمَالِ، وَهُوَ مِنْ جِهَتِهَا مُبَادَلَةٌ فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا وَإِضَافَتُهَا، وَيَصِحُّ رُجُوعُهَا قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَيَبْطُلُ بِقِيَامِهَا.
أَمَّا تَعْلِيقُهُ بِالْقَبُولِ فَلِأَنَّ الْبَاءَ لِلْمُعَاوَضَةِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْقَبُولِ، وَكَذَا عَلَى عِنْدَهُمَا فَلَا إشْكَالَ، وَعِنْدَهُ هِيَ لِلشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ فِعْلِهِ فَهُوَ إمَّا الْقَبُولُ أَوْ الْأَدَاءُ، وَيَتَعَيَّنُ الْقَبُولُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ قَصْدُ الْمُعَاوَضَةِ. فَإِنْ قُلْت: فَلِمَ لَمْ تُعْتَبَرْ جِهَةُ الْمُعَاوَضَةِ فِي قَوْلِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً عَلَى قَوْلِهِ وَكَانَ يَجِبُ ثُلُثُهَا.
فَالْجَوَابُ: صَلَاحِيَّةُ هَذَا الْقَدْرِ لِكَوْنِهِ قَرِينَةً مُعَيَّنَةً لِلشَّرْطِ أَنَّهُ الْقَبُولُ أَوْ الْأَدَاءُ بَعْدَ لُزُومِ إرَادَةِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَلْزِمُ لُزُومَ جَعْلِهِ مُوجِبًا لِأَصْلِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ لُزُومُهُ، بَلْ قَالُوا مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا تَعَلَّقَ بِالْقَبُولِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي جَوَابِ الرِّوَايَةِ مِنْ كُتُبِ مُحَمَّدٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ إذَا أَعْطَيْتنِي أَوْ إذَا جِئْتنِي بِأَلْفٍ فَلَا تَطْلُقُ حَتَّى تُعْطِيَهُ لِلتَّصْرِيحِ بِجَعْلِ الْإِعْطَاءِ شَرْطًا بِخِلَافِهِ مَعَ عَلَى، حَتَّى إنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى الزَّوْجِ دَيْنٌ لَهَا وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ فِي مِثْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ (عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي) دُونَ إنْ أَعْطَيْتنِي إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا بِأَلْفٍ لَهَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مِنْك كَذَا، وَيُرَادُ قَبُولُهُ فِي الْعُرْفِ، قَالَ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَيْ حَتَّى يَقْبَلُوا، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ بِقَبُولِهَا يَنْتَهِي الْحَرْبُ مَعَهُمْ، هَذَا ثُمَّ فِي قَوْلِهِ إنْ أَعْطَيْتنِي يَشْتَرِطُ الْإِعْطَاءُ فِي الْمَجْلِسِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَفِي قَوْلِهِ إذَا أَوْ مَتَى أَعْطَيْتنِي لَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْطَاءِ فِي الْمَجْلِسِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ مُلَاحَظٌ وَإِنْ ذُكِرَ بِصَرِيحِ الشَّرْطِ، وَسَنَذْكُرُ نَحْوَهُ مِنْ مُخْتَصَرِ الْحَاكِمِ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ اشْتِرَاطُ مَجْلِسِهَا فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مِنْ جَانِبِهَا حَتَّى صَحَّ رُجُوعُهَا إذَا ابْتَدَأَ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا وَلَا إضَافَتُهَا وَالْمُبَادَلَاتُ تَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِذَا لَمْ تُجِبْ حَتَّى قَامَتْ لَمْ يُعْتَبَرْ قَبُولُهَا إذْ ذَاكَ وَفِي جَانِبِهِ هُوَ يَمِينٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
[فَرْعٌ]
قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَقَبِلَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ إلَّا بَعْدَ التَّزَوُّجِ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ، وَغَيْرُهُ جَعَلَ هَذَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: إذَا قَبِلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ. وَالْحَقُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ خَلَعَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ فَيَشْتَرِطُ الْقَبُولَ بَعْدَهُ
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ أَوْ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ) أَوْ قَالَتْ هِيَ أَوْ الْعَبْدُ طَلِّقْنِي أَوْ أَعْتِقْنِي وَلَك أَلْفٌ فَفِي ابْتِدَائِهِ
وَكَذَا إذَا لَمْ يَقْبَلَا (وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَلْفُ إذَا قَبِلَ) وَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ. لَهُمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ وَلَك دِرْهَمٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ بِدِرْهَمٍ. وَلَهُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ فَلَا تَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، إذْ الْأَصْلُ فِيهَا الِاسْتِقْلَالُ وَلَا دَلَالَةَ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ يَنْفَكَّانِ عَنْ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ
يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِمَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ قَبِلَا أَوْ رَدَّا.
وَفِي الثَّانِي يَقَعُ إذَا أَجَابَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَقَالَا: لَا يَقَعُ شَيْءٌ مَا لَمْ يَقْبَلَا، فَإِذَا قَبِلَا وَقَعَ وَلَزِمَهُمَا الْمَالُ لَهُمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقَعُ لِقَصْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى إنَّ قَوْلَهُ لِلْخَيَّاطِ خِطْهُ وَلَك دِرْهَمٌ وَلِلْحَمَّالِ احْمِلْهُ وَلَك دِرْهَمٌ يُفِيدُهَا، وَيَلْزَمُ الْمُسَمَّى الْمَعْلُومُ بِإِرَادَةِ تَسَبُّبِ الْخِيَاطَةِ وَالْحَمْلِ لَكِنَّهُ تُرِكَ لِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِإِرَادَتِهِ. وَطَرِيقُهُ إفَادَةُ اللَّفْظِ لِذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ، فَعِنْدَهُ الْحَاصِلُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ خِطْهُ فِي حَالِ وُجُوبِ الْأَلْفِ لِي عَلَيْك أَوْ لَك عَلَيَّ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْحَالُ إلَّا بِقَبُولِهِ، فَعِنْدَهُ يَثْبُتُ شَرْطُ الطَّلَاقِ إذْ الْأَحْوَالُ شُرُوطٌ فَيَقَعُ عَقِيبَهُ وَلَزِمَ الْمَالُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِالْمُعَاوَضَةِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا. قُلْنَا: الْخُلْعُ أَيْضًا مُعَاوَضَةٌ.
وَلَهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَيْك وَقَوْلَهُمَا وَلَك أَلْفٌ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهَا فَلَا يَعْتَبِرُ فِيهَا مَا اُعْتُبِرَ فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْقُيُودِ، وَلِذَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَضَرَّتُك طَالِقٌ تَطْلُقُ الضَّرَّةُ لِلْحَالِ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ مُشَارَكَتَهَا فِيهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِالدُّخُولِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَعَبْدِي حُرٌّ وَإِنْ كَانَ تَامًّا إلَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ التَّعْلِيقِ قَاصِرٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ لَا يَصْلُحُ خَبَرًا لَهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الضَّرَّةِ لِأَنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ وَضَرَّتَك إنْ كَانَ غَرَضُهُ التَّعْلِيقَ لِأَنَّ خَبَرَ الْأَوَّلِ يَصْلُحُ خَبَرًا لَهُ، وَلَا دَلَالَةَ هُنَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِمَا الْمَالُ، وَمَعَ عَدَمِ اللُّزُومِ فَالْكِرَامُ يَأْبُونَ قَبُولَ بَدَلِهِمَا أَشَدَّ الْإِبَاءِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا مُعَاوَضَةً فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِلْخَيَّاطِ خِطْهُ مُقْتَصِرًا لَزِمَ إذَا خَاطَهُ أُجْرَةٌ الْمِثْلِ فَوَجَبَ بَقَاءُ الْوَاوِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْعَطْفُ فَيَكُونُ الزَّوْجُ بَعْدَ الْإِيقَاعِ عَطَفَ أُخْرَى هِيَ دَعْوَى
وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُوجَدَانِ دُونَهُ.
(وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَبِلَتْ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ، وَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ، فَإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الثَّلَاثِ بَطَلَ، وَإِنْ لَمْ تَرُدَّ طَلُقَتْ وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَا: الْخِيَارُ بَاطِلٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ) لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ لَا لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ، وَالتَّصَرُّفَانِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ وَمِنْ جَانِبِهَا شَرْطُهَا.
مَالٍ عَلَيْهِمَا ابْتِدَاءً. وَفِي قَوْلِهِمَا وَلَك أَلْفٌ إيجَابُ صِلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ وَعْدًا مِنْهُمَا، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَيَبْقَى الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ فِيهِمَا بِلَا بَدَلٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ، لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ حُكْمًا مُعْتَبَرًا إلَّا بِآخِرِهِ، إذْ لَا مَعْنَى لِأَمْرِهِ بِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، وَالْقَرِينَةُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَا تَبْلُغُ هَذَا فَيَصِيرُ بِهِ تَعْلِيقًا لِلْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ فَيَتَوَقَّفُ الْوُقُوعُ عَلَيْهِ، أَمَّا هَذَا فَأَوَّلُ الْكَلَامِ مُفِيدٌ بِدُونِ آخِرِهِ مِنْهُ ظَاهِرًا، وَكَذَا مِنْهَا لِأَنَّهُ الْتِمَاسٌ صَحِيحٌ كَثِيرًا مَا يُفْرِدُ ذِكْرُهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَضْمُونِ آخِرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَعْلَهُمْ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ يَسْتَلْزِمُ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فِي الْأُصُولِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ، وَحِينَئِذٍ إنْ ادَّعَى أَنَّهَا حَقِيقَةً فِيهِ تَبَادَرَ إلَيْهِ الْمَنْعُ فَيَحْتَاجُ فِي تَرْجِيحِهِ عَلَى الْحَالِ إلَى دَلِيلٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ احْتِمَالَ الْوَاوِ لِلْحَالِ وَالِاسْتِئْنَافِ حَاصِلٌ، وَبِأَحَدِهِمَا يَلْزَمُ الْمَالُ وَبِالْآخَرِ لَا فَلَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ، عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَ جُمْلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَائِيَّةً، وَكَذَا أَنْتَ حُرٌّ، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّهَا خَبَرِيَّةٌ، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ عِنْدَهُ شَرْعًا بِالتَّطْلِيقِ الثَّابِتِ ضَرُورَةً فَارْجِعْ إلَيْهِ
(قَوْلُهُ فَقَبِلَتْ) أَيْ الطَّلَاقَ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ الْتِزَامِ الْمَالِ وَالْخِيَارِ (فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ) فَبِمُجَرَّدِ قَبُولِهَا ذَلِكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ (وَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ) فَلَا يَقَعُ بِقَبُولِهَا حَتَّى تَسْقُطَ الْخِيَارَ أَوْ تَمْضِيَ الْأَيَّامُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ وَلَزِمَهَا الْمَالُ (فَإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الْأَيَّامِ يَبْطُلُ) الطَّلَاقُ وَلُزُومُ الْمَالِ (وَهَذَا) التَّفْصِيلُ كُلُّهُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعِبَارَةَ الْجَيِّدَةَ أَنْ يُقَالَ فَإِنْ رَدَّتْ اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَتْ لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ، وَعِبَارَةُ قَاضِي خَانْ: فَإِنْ رَدَّتْ الطَّلَاقَ (وَقَالَا: الْخِيَارُ فِي الْوَجْهَيْنِ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بِمُجَرَّدِ قَبُولِهَا) وَعَلَيْهَا الْمَالُ (وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ إلَّا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ (لَا لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ وَالتَّصَرُّفَانِ): أَعْنِي إيجَابَهُ وَقَبُولَهَا (لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) أَيْ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْهَا (لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ) إذْ حَاصِلُهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْمَالِ (وَفِي جَانِبِهَا شَرْطُهُ) أَيْ شَرْطُ هَذِهِ الْيَمِينِ بِتَأْوِيلِ الْحَلِفِ، فَإِذَا قَبِلَتْ كَانَ ذَلِكَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى يَصِحَّ رُجُوعُهَا، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، أَمَّا فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ حَتَّى لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ، وَلَا خِيَارَ فِي الْأَيْمَانِ، وَجَانِبُ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ مِثْلُ جَانِبِهَا فِي الطَّلَاقِ.
وُجُودُ الشَّرْطِ، وَشَرْطُ الْيَمِينِ إذَا وُجِدَتْ لَا يَتَصَوَّرُ فَسْخُهَا فَتَعَذَّرَ فَسْخُهَا، وَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلَ الْخِيَارِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ لِمَا مَرَّ فَيَبْطُلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِذَا بَطَلَ انْبَرَمَ مَا شُرِطَ فِيهِ (وَلَهُ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ) يَعْنِي مُعَاوَضَةً (وَلِذَا صَحَّ رُجُوعُهَا) عَنْهُ إذَا ابْتَدَأَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ هُوَ (وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ) بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَنَا، حَتَّى لَوْ قَامَتْ فَقَبِلَ هُوَ أَوْ قَامَتْ ثُمَّ قَبِلَتْ فِيمَا إذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِي لَا يَصِحُّ، وَلَوْ ذَكَرْته بِصَرِيحِ الشَّرْطِ.
فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ إذَا قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَإِنْ فَعَلَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَعْدَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ (وَفِي جَانِبِهِ يَمِينٌ) كَمَا قَالَا (حَتَّى لَا يَصِحَّ رُجُوعُهُ) بَعْدَ قَوْلِهِ أَنْتِ أَوْ هِيَ طَالِقٌ عَلَى كَذَا أَوْ بِكَذَا (وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ) فَلَا يَبْطُلُ إلَّا أَنْ يَنْقَضِيَ مَجْلِسُ خِطَابِهَا أَوْ مَجْلِسُ بُلُوغِهَا الْخَبَرُ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَإِضَافَتُهُ، حَتَّى لَوْ قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفٍ أَوْ فَقَدْ طَلَّقْتُك عَلَى أَلْفٍ وَقَبِلَتْ فِي الْغَدِ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَقَعَ وَلَزِمَهَا الْمَالُ، وَلَا يَصِحُّ قَبُولُهَا قَبْلَ الْغَدِ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِيجَابِ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ قَبْلِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ قَبْلَ الْإِيجَابِ (وَلَا خِيَارَ فِي الْأَيْمَانِ) فَبَطَلَ خِيَارُهُ، وَيَصِحُّ فِي الْبَيْعِ فَيَصِحُّ خِيَارُهَا، وَكَوْنُهُ شَرْطُ يَمِينِهِ لَا يَبْطُلُ حَقِيقَتَهُ فِي نَفْسِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ بِعْتُك هَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ يَكُونُ نَفْسُ الْبَيْعِ شَرْطَ يَمِينِهِ حَتَّى يَعْتِقَ بِوُجُودِهِ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ كَوْنُهُ مُعَاوَضَةً مُسْتَلْزِمَةً لِحُكْمِهَا مِنْ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْخِيَارِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ خِيَارٌ فِي الطَّلَاقِ لَا مُعَاوَضَةٌ. فَإِنَّ قِيلَ: ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا أَثْبَتْنَاهُ هُنَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْبَيْعِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْغَبْنُ فِي النُّفُوسِ أَضَرُّ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّرَوِّي فِيهِ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَفُوتُهَا هَذَا الِازْدِوَاجُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ لَهَا أَبَدًا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَقِفُ عَلَيْهِ كُلُّ لُغَوِيٍّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِشَرْعِيَّتِهِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ (قَوْلُهُ وَجَانِبُ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ) أَيْ عَلَى مَالٍ (كَجَانِبِهَا فِي الطَّلَاقِ) فَيَصِحُّ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَّقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلِي فَقَالَتْ قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ: قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْمَالِ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِهِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرْطِ لِصِحَّتِهِ بِدُونِهِ، أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ فَإِنْكَارُهُ الْقَبُولَ رُجُوعٌ مِنْهُ.
فَرْعٌ]
مِنْ صُوَرِ تَعْلِيقِ الْخُلْعِ أَنْ يَقُولَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ خَلَعْتُك عَلَى أَلْفٍ فَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَفَعَلَتْ صَحَّ الْخُلْعُ، ذَكَرَهُ فِي عَلَامَةِ السِّينِ مِنْ التَّجْنِيسِ، لِأَنَّ التَّعْلِيقَ مِنْ الزَّوْجِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ قَبُولَهَا قَبْلَ الشَّرْطِ.
وَفِي الْوَجِيزِ: إذَا قَالَ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفٍ وَإِذَا جَاءَ غَدٌ إلَخْ كَانَ الْقَبُولُ إلَيْهَا بَعْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ وَقُدُومِ فُلَانٍ
(قَوْلُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ. وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ قَوْلَهُ طَلَّقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ إقْرَارٌ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ لَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إذْ هُوَ لَازِمُ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا لَازِمُهُ، وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ هَذَا مِنْهُ وَمِنْهَا اخْتِلَافٌ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ وَهِيَ تَدَّعِيهِ لَتُثْبِتَ الطَّلَاقَ وَهُوَ مُنْكِرٌ غَيْرُ مُنَاقِضٍ إذْ لَمْ يَقْتَضِ إنْكَارُهُ الْقَبُولَ رُجُوعَهُ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ، وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ بِعْتُك فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي إذْ الْبَيْعُ لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ، فَإِنْكَارُهُ قَبُولَهُ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ، حَتَّى لَوْ كَانَ قَالَ لَهَا بِعْتُك طَلَاقَك أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلِي فَقَالَتْ بَلْ قَبِلْت كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، وَقَوْلُهُ لِعَبْدِهِ أَعْتَقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلْ وَبِعْتُك أَمْسِ نَفْسَك بِأَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الزَّوْجِ لَهَا.
وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَخَوَاتٌ فِي كُتُبِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ: قَالَ لَهَا قَدْ طَلَّقْتُك وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ فَقَالَتْ إنَّمَا سَأَلْتُك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقْتَنِي وَاحِدَةً فَلَكَ ثُلُثُهَا الْقَوْلُ لِلْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْجُعَلِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْخُلْعِ، أَوْ قَالَتْ اُخْتُلِعَتْ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ، أَمَّا إذَا اتَّفَقَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ طَلَّقْتنِي وَاحِدَةً وَقَالَ هُوَ ثَلَاثًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنْ كَانَا فِي الْمَجْلِسِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَجْلِسِ سُؤَالِهَا الثَّلَاثِ بِأَلْفٍ كَانَ لَهُ الْأَلْفُ، فَغَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مُوقِعًا الْبَاقِيَ فِي الْمَجْلِسِ فَيَكُونُ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لَزِمَهَا الثَّلَاثُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ مِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ إلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَإِنْ قَالَتْ سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقْتنِي وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ لَك: يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ هُوَ بَلْ سَأَلْتِنِي وَاحِدَةً عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقْتُكِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه.
وَإِنْ قَالَتْ سَأَلْتُك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقْتنِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَاحِدَةً وَالْبَاقِيَ فِي غَيْرِهِ
قَالَ (وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ كِلَاهُمَا يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسْقُطُ فِيهِمَا إلَّا مَا سَمَّيَاهُ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي الْخُلْعِ وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُبَارَأَةِ.
فَقَالَ بَلْ الثَّلَاثُ فِيهِ فَالْقَوْلُ لَهَا. وَإِنْ قَالَتْ سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي أَنَا وَضَرَّتِي عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقْتنِي وَحْدِي وَقَالَ طَلَّقْتهَا مَعَك وَقَدْ افْتَرَقَا عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَالْقَوْلُ لَهَا وَعَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ وَالْأُخْرَى طَالِقٌ بِإِقْرَارِهِ، وَكَذَا إنْ قَالَتْ فَلَمْ تُطَلِّقْنِي وَلَا هِيَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَمَسْأَلَةُ خُلْعِ الثِّنْتَيْنِ بِسُؤَالٍ وَاحِدٍ تَنْبِيهٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَلَعَ امْرَأَتَيْهِ عَلَى أَلْفٍ كَانَتْ مُنْقَسِمَةً عَلَى قَدْرِ مَا تَزَوَّجَهُمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ حَتَّى لَوْ سَأَلَتَاهُ طَلَاقَهُمَا عَلَى أَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا لَزِمَ الْمُطَلَّقَةَ حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ عَلَى قَدْرِ مَا تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ طَلَّقَ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَيْضًا لَزِمَهَا حِصَّتُهَا لَا أَنَّ الْأَلْفَ تَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ.
وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَمَا افْتَرَقُوا فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الْخُلْعَ وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ أَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْجُعْلِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْخُلْعِ وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةٌ فَشَهِدَ أَحَدُ شَاهِدِيهِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ جَازَ شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَلْفٍ، وَإِنْ ادَّعَى أَلْفًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِإِقْرَارِهِ، وَكَذَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْجُعْلِ أَيْضًا، الْكُلُّ مِنْ مُخْتَصَرِ الْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ لِكَلَامِ مُحَمَّدٍ رحمه الله.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ فَالْقَوْلُ لَهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَتَحَالَفَانِ
(قَوْلُهُ وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ وَتَرْكُ الْهَمْزَةِ خَطَأٌ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَارَأْتُك عَلَى أَلْفٍ وَتَقْبَلَ، وَقَوْلُهُ (يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ إلَى آخِرِهِ) مُقَيَّدٌ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ إذَا كَانَتْ مَفْرُوضَةً، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ لَا تَقَعُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، بَلْ لِلْمُخْتَلِعَةِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى إلَّا إنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَتَسْقُطُ دُونَ السُّكْنَى لِأَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ، وَإِطْلَاقُ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ سَوَاءٌ سَمَّيَا شَيْئًا فِي الْخُلْعِ أَوْ لَا
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يُعْتَبَرُ الْمَشْرُوطُ لَا غَيْرُهُ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُمَا إمَّا أَنْ لَا يُسَمِّيَا شَيْئًا بِأَنْ يَقُولَ خَالَعْتكِ فَقَبِلْت وَلَمْ يَذْكُرَا شَيْئًا أَوْ سَمَّيَا الْمَهْرَ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ مَالًا آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا شَيْئًا فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا لَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ الْمَهْرِ حَتَّى تَأْخُذَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا.
وَالثَّانِيَةُ يَبْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْهُ وَعَنْ دَيْنٍ آخَرَ سِوَاهُ. وَالثَّالِثَةُ يَبْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْمَهْرِ لَا غَيْرُ. فَلَا يُطَالَبُ بِهِ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ مَقْبُوضًا كَانَ أَوْ لَا حَتَّى لَا تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِهِ إنْ كَانَ مَقْبُوضًا كُلَّهُ، وَالْخُلْعُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالَ مَذْكُورٌ عُرْفًا بِالْخُلْعِ فَحَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَزِمَ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الِانْخِلَاعُ مِنْهُ.
وَإِنْ سَمَّيَا الْمَهْرَ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَيْسَ مَقْبُوضًا سَقَطَ عَنْهُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا رَجَعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا فَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِهِ وَبِقَدْرِ نِصْفِهِ كُلِّهِ بِالشَّرْطِ وَنِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَلْفًا رَجَعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ بِالْمَقْبُوضِ فَقَطْ لِأَنَّ الْمَهْرَ اسْمٌ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ نِصْفُ الْمُسَمَّى قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّهُ بِالشَّرْطِ وَرَدُّ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا قَبَضَتْ مَالًا تَسْتَحِقُّهُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّهُ، كَذَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ.
قِيلَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ إلَّا النِّصْفُ بِالشَّرْطِ وَيَسْقُطَ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ، كَمَا إذَا خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ آخَرَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَبَضَتْ كُلَّ الْمَهْرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْهُ وَسَيَأْتِي، وَكَمَا إذَا سَمَّيَا بَعْضَ الْمَهْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ وَيَسْقُطُ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ، وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ كُلُّ الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الْمَهْرَ اسْمٌ لِمَا صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ فِي الْعَقْدِ غَيْرُ أَنَّهُ سَقَطَ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاشْتِرَاطُ الْمَهْرِ لَهُ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَى تَمَامِهِ، فَإِذَا كَانَتْ قَبَضَتْهُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِكُلِّهِ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَفِي الْقِيَاسِ يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ قَدْرَهُ بِالشَّرْطِ وَهِيَ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا بِقَدْرِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالزَّائِدِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ لِمَا أَنَّ الْمَهْرَ اسْمٌ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَجِبُ لَهَا ذَلِكَ. وَيَجِبُ لَهُ مِثْلُهُ عَلَيْهَا بِالشَّرْطِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، وَإِنْ سَمَّيَا بَعْضَ الْمَهْرِ بِأَنْ خَالَعَهَا عَلَى عُشْرِهِ مَثَلًا وَالْمَهْرُ أَلْفٌ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَكُلُّهُ مَقْبُوضٌ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِائَةٍ بِالشَّرْطِ وَسَلَّمَ الْبَاقِيَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ سَقَطَ عَنْهُ كُلُّهُ مِائَةٌ بِالشَّرْطِ وَالْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكُلُّهُ مَقْبُوضٌ فَفِي الْقِيَاسِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِسِتِّمِائَةٍ بِالشَّرْطِ وَخَمْسِمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخَمْسِينَ لِأَنَّهُ عُشْرُ مَهْرِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَرِئَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْبَاقِي بِحُكْمِ لَفْظِ الْخُلْعِ، وَعَلَى مَا بَحَثْنَاهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِمِائَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا سَقَطَ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا عُشْرُهُ بَدَلُ الْخُلْعِ وَالنِّصْفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ. وَإِنْ سَمَّيَا مَالًا آخَرَ غَيْرَ الْمَهْرِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ فَلَهُ الْمُسَمَّى لَيْسَ غَيْرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَلَهُ الْمُسَمَّى وَسَقَطَ عَنْهُ الْمَهْرُ بِحُكْمِ الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ فَلَهُ الْمُسَمَّى وَسَلَّمَ لَهَا مَا قَبَضَتْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَلَهُ الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْمَهْرُ بِحُكْمِ الْخُلْعِ.
إذَا عَرَفْت هَذَا جِئْنَا إلَى الْخِلَافِيَّةِ (وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ) وَأَثَرُ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ قَيَّدْنَاهُ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ أَمَّا الْخُلْعُ فَمُقْتَضَاهُ الِانْخِلَاعُ وَقَدْ حَصَلَ فِي نَقْضِ النِّكَاحِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى انْقِطَاعِ الْأَحْكَامِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ يُنَبِّئُ عَنْ الْفَصْلِ وَمِنْهُ خَلَعَ النَّعْلَ وَخَلَعَ الْعَمَلَ وَهُوَ مُطْلَقٌ كَالْمُبَارَأَةِ فَيُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ وَحُقُوقِهِ.
الْمُعَاوَضَةِ لَيْسَ إلَّا فِي وُجُوبِ الْمُسَمَّى لَا فِي إسْقَاطِ غَيْرِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَلِذَا لَا يَسْقُطُ دَيْنٌ آخَرُ وَلَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ النَّفَقَةَ أَضْعَفُ مِنْ الْمَهْرِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ مِنْ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِي الْبَرَاءَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ) فِي كُلِّ دَيْنٍ إلَّا أَنَّا (قَيَّدْنَاهُ بِالْوَاجِبِ بِالنِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ) فَإِنَّ الْغَرَضَ الْمُبَارَأَةُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ، أَمَّا الْخُلْعُ فَإِنَّمَا يَقْتَضِي فَصْلًا وَانْخِلَاعًا، وَحَقِيقَتُهُ تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ غَيْرُ مُتَوَقِّفَةٍ عَلَى سُقُوطِ الْمَهْرِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّ الْخُلْعَ صَلَّحَ وَضْعًا شَرْعًا لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ الْكَائِنَةِ بِسَبَبِ النُّشُوزِ الْكَائِنِ بِسَبَبِ الْوَصْلَةِ الْقَائِمَةِ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ، فَتَمَامُ تَحَقُّقِ مَقْصُودِهِ بِجَعْلِهِ مُسْقِطًا لِمَا وَجَبَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَصْلَةِ فَيَسْقُطُ الْمَهْرُ وَإِلَّا عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ لِأَنَّ لَفْظَهُ وَلَفْظَ الْمُبَارَأَةِ يُفِيدُ إطْلَاقَهُمَا ذَلِكَ فِي الْمُبَارَأَةِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَلَفْظُ الْخُلْعِ يُفِيدُ انْخِلَاعَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ دُونَ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ إذَا انْخَلَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِأَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ انْخَلَعَ الْآخَرُ كَذَلِكَ، وَثُبُوتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِسُقُوطِ مُطَالَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِمُوَاجِبِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ.
عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ كَالْخُلْعِ يَسْقُطُ بِهِ مَا يَسْقُطُ بِالْخُلْعِ، وَبِخِلَافِ دَيْنٍ آخَرَ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْخُلْعِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ وَصِلَةِ النِّكَاحِ لَا مُطْلَقًا، وَبِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَاجِبِ النِّكَاحِ، بَلْ يَحْدُثُ وُجُوبُ تَعَلُّقِهَا بَعْدَهُ حَتَّى لَوْ شَرَطَا سُقُوطَهَا فِي الْخُلْعِ سَقَطَتْ بِاعْتِبَارِ مَا تَسْتَحِقُّهُ وَقْتَ الْخُلْعِ، وَالْبَاقِي سَقَطَ تَبَعًا فِي ضِمْنِ الْخُلْعِ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَسْقُطْهَا حَتَّى انْخَلَعَتْ ثُمَّ أَسْقَطَتْ لَا تَسْقُطُ لِإِسْقَاطِهَا حِينَئِذٍ قَصْدًا لِمَا لَمْ يَجِبْ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخِلَافِ ذَلِكَ الْإِسْقَاطِ الضِّمْنِيِّ، وَأَمَّا السُّكْنَى فَلَمَّا كَانَتْ فِي غَيْرِ بَيْتِ الطَّلَاقِ مَعْصِيَةٌ لَا يَصِحُّ إسْقَاطُهَا بِحَالٍ إلَّا إنْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ مَئُونَةِ السُّكْنَى بِأَنْ كَانَتْ سَاكِنَةً فِي بَيْتِ نَفْسِهَا، أَوْ أَنَّهَا تُعْطَى الْأُجْرَة مِنْ مَالِهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ حِينَئِذٍ الْتِزَامُهَا ذَلِكَ.
وَفِي الْقُنْيَةِ: الْإِبْرَاءُ وُجِدَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّفَقَةِ فَيَصِحُّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عِنْدَهُ. قِيلَ مَا سَبَقَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقُنْيَةِ يَبْطُلُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، لَكِنْ فِي الْيَنَابِيعِ: لَوْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أَبْرَأَتْهُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْخُلْعِ صَحَّ، قَالَ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ انْتَهَى. بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ مِنْهَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنْ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا يَصِحُّ.
هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَالثَّانِي يُوجِبُ كَوْنَ لَفْظِ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا مُسْقِطًا لَهُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ انْطِلَاقَهَا: أَيْ الْمَرْأَةِ، وَانْطِلَاقُهَا عَنْ الزَّوْجِ يُوجِبُ مِثْلَهُ فِي حَقِّهِ، وَتَحَقُّقُ حَقِيقَةِ انْطِلَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ عَلَى الْكَمَالِ يَقْطَعُ مُطَالَبَةَ كُلٍّ الْآخَرَ بِمُوَاجِبِ النِّكَاحِ كَمَا قُلْنَا فِي الْخُلْعِ بِعَيْنِهِ. فَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ تَرْجِيحُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَالْتِزَامُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ أَيْضًا يَسْقُطُ الْمَهْرُ كَالْخُلْعِ وَإِلَّا فَالْحَالُ مَا عَلِمَتْ.
وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: أَيْ بِأَنْ قَالَ بِعْتُك نَفْسَك بِأَلْفٍ فَقَالَتْ اشْتَرَيْت اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه كَالْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةُ أَوَّلًا؟ وَصَحَّحَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّهُ كَالْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ، وَتَرْجِيحُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يَزْدَادُ عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ يُنَبِّئُ عَنْ الْفَصْلِ فَالْفَصْلُ وُجِدَ عَلَى مِقْدَارٍ رَضِيَا بِهِ فَكَيْفَ يَسْقُطُ غَيْرُهُ ذُهُولٌ عَنْ التَّحْقِيقِ، فَإِنَّهُ إذَا أَنْبَأَ عَنْ الِانْفِصَالِ فِي مُتَعَلِّقَاتِ النِّكَاحِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَسْقُطَ مُطَالَبَةُ كُلٍّ الْآخَرَ بِالْمَهْرِ ثُمَّ وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى إثْبَاتِهِ بِمَالٍ فَقَدْ وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى إثْبَاتِ سُقُوطِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ بِذَلِكَ الْمَالِ فَيَثْبُتُ بِمُقْتَضَاهُ مَعَ ذَلِكَ الْمَالِ بِالضَّرُورَةِ.
[تَنْبِيهٌ]
لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ بِخُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ بِمَالٍ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا، ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَكَذَا الْأَمَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَيَسْقُطُ وَتُبَاعُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ، وَفِيمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا تُطَالَبُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فِي الْإِذْنِ يُؤَدِّيَانِ مِنْ كَسْبِهِمَا.
[فُرُوعٌ]
إذَا شَرَطَا بَدَلًا لِلْخُلْعِ الْبَرَاءَةَ مِنْ نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَهِيَ مَئُونَةُ الرَّضَاعِ إنْ وَقَّتَا لِذَلِكَ وَقْتًا كَسَنَةٍ مَثَلًا صَحَّ وَلَزِمَ وَإِلَّا لَا يَصِحُّ. وَفِي الْمُنْتَقَى: إنْ كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا صَحَّ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ وَتُرْضِعُ حَوْلَيْنِ اهـ. بِخِلَافِ الْفَطِيمِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: امْرَأَةٌ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى مَهْرِهَا وَنَفَقَةِ عِدَّتِهَا وَعَلَى أَنْ تُمْسِكَ وَلَدَهَا مِنْهُ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ عَشْرًا بِنَفَقَتِهِ صَحَّ الْخُلْعُ وَيَجِبُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا: يَعْنِي قَدْرَ النَّفَقَةِ، وَهَذَا لِمَا عَلِمْت أَنَّ الْجَهَالَةَ غَيْرَ الْمُتَفَاحِشَةِ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْخُلْعِ، فَإِنْ تَرَكْته عَلَى زَوْجِهَا وَهَرَبَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ النَّفَقَةِ مِنْهَا، وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِكِسْوَةِ الصَّبِيِّ إلَّا إنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ مَجْهُولَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا أَوْ فَطِيمًا، وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى دَرَاهِمَ ثُمَّ اسْتَأْجَرَهَا بِبَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى إرْضَاعِ الرَّضِيعِ جَازَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا بِهِ عَلَى إمْسَاكِ الْفَطِيمِ بِنَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ لَا يَجُوزُ وَفِي الْمُحِيطِ: ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالِهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ وَبِرَضَاعِ وَلَدِهِ الَّذِي هِيَ حَامِلٌ بِهِ إذَا وَلَدَتْهُ إلَى سَنَتَيْنِ جَازَ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ تَرُدُّ قِيمَةَ الرَّضَاعِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ سَنَةٍ تَرُدُّ قِيمَةَ رَضَاعِ سَنَةٍ، وَكَذَا إذَا مَاتَتْ هِيَ عَلَيْهَا قِيمَتُهُ انْتَهَى.
وَلَوْ كَانَتْ قَالَتْ عَشْرَ سِنِينَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ رَضَاعِ سَنَتَيْنِ وَنَفَقَةُ بَاقِي السِّنِينَ إلَّا أَنْ قَالَتْ عِنْدَ الْخُلْعِ إنْ مَاتَ أَوْ مِتَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيَّ فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطَتْ قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ. وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ تُمْسِكَهُ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ صَحَّ فِي الْأُنْثَى
قَالَ (وَمَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِمَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا) لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ إذْ الْبُضْعُ فِي حَالَةِ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خَلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنْ الثُّلُثِ وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَالَهَا، ثُمَّ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي رِوَايَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَقَعُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ قَبُولِهِ فَيَعْتَبِرُ بِالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ
لَا الْغُلَامِ، وَإِذَا تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ وَلَا يَتْرُكُهُ عِنْدَهَا، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ الْوَلَدِ، وَيَنْظُرُ إلَى مِثْلِ إمْسَاكِ الْوَلَدِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا.
وَلَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى إرْضَاعِهِ ثُمَّ صَالَحَتْ الزَّوْجَ عَلَى شَيْءٍ يَصِحُّ، وَلَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى نَفَقَةِ وَلَدِهِ عَشْرًا وَهِيَ مُعْسِرَةٌ فَطَالَبَتْهُ بِنَفَقَتِهِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَمَا شُرِطَ حَقٌّ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ لَا عَلَى مَا أَفْتَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ سُقُوطِ النَّفَقَةِ، وَلَوْ خَالَعَهَا بِمَالِهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ وَقَعَ وَوَجَبَ عَلَيْهَا رَدُّ الْمَهْرِ، وَمِثْلُهُ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدِهَا الَّذِي لَهَا عِنْدَهُ أَوْ مَتَاعِهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ وَقَعَ عَلَى مَهْرِهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ سَقَطَ.
وَإِنْ قَبَضَتْهُ رَدَّتْهُ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ وَلَوْ خَالَعَهَا بِمَهْرِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ وَقَعَ بَائِنًا مَجَّانًا، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا بِمَهْرِهَا فَقَبِلَتْ وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا وَقَعَ رَجْعِيًّا مَجَّانًا.
(قَوْلُهُ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا) يَحْتَمِلُ عَدَمَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِسُؤَالِ الْأَبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ بَدَلَ الْخُلْعِ فَصَارَ كَأَنَّ الزَّوْجَ خَاطِبُ الْبِنْتِ بِالْخُلْعِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، وَيَحْتَمِلُ عَدَمَ لُزُومِ الْمَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ وُقُوعُهُ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ، إذْ الْبُضْعُ حَالَةَ الْخُرُوجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ، فَإِعْطَاءُ الْمُتَقَوِّمِ مِنْ مَالِهَا بَعُوضٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّبَرُّعِ بِمَالِهَا (قَوْلُهُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ) فَلَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ عَلَيْهِ وَلَزِمَ الْمَهْرُ فِي مَالِ الِابْنِ لِأَنَّهُ أَعْطَى الْمُتَقَوِّمَ مِنْ مَالِهِ بِمُتَقَوِّمٍ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَعْتَبِرُ خَلْعُ الْمَرِيضَةِ) مُتَّصِلٌ بِكَوْنِ الْبِضْعِ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ حَالَةَ الْخُرُوجِ، وَقَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ الْوَاجِبَ لِلزَّوْجِ إنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ وَمِنْ بَدَلِ الْخُلْعِ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْإِرْثِ وَالثُّلُثِ إذَا مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَهُ بَدَلُ الْخُلْعِ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ (قَوْلُهُ وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ إلَخْ) مُتَّصِلٌ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ (قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى
(وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ وَالْأَلْفُ عَلَى الْأَبِ) لِأَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى.
وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِقَبُولِ الْأَبِ وَقَدْ وَجَدَ الشَّرْطَ وَمَا ذَكَرَ فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ أَنَّ الْأَبَ لَمَّا لَمْ يَضْمَنْ الْمَالَ صَارَ كَأَنَّهُ خَاطِبُ الصَّغِيرَةِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْخُلْعَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْأَيْمَانُ لَا تُجْرَى فِيهَا النِّيَابَةُ فَالْمُلَازَمَةُ الْأُولَى مَمْنُوعَةٌ، وَكَوْنُ الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَبِ يَمِينًا غَيْرَ صَحِيحٍ، بَلْ مُجَرَّدُ الشَّرْطِ وَشَرْطُ الْيَمِينِ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، هَذَا إذَا قَبِلَ الْأَبُ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَهِيَ عَاقِلَةٌ تَعْقِلُ أَنَّ النِّكَاحَ جَالِبٌ وَالْخُلْعَ سَالِبٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ.
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: طَلَّقَهَا بِمَهْرِهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ عَاقِلَةٌ فَقَبِلَتْ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَلَا يَبْرَأُ. وَإِنْ قَبِلَ أَبُوهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ.
رَوَى هِشَامُ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يَقَعُ، وَرَوَى الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَلَوْ بَلَغَتْ فَأَجَازَتْ جَازَ (قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ) أَيْ الْأَبَ ضَامِنٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ الضَّمَانِ هُنَا الْتِزَامُ الْمَالِ لَا الْكَفَالَةِ عَنْ الصَّغِيرَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهَا (فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ) سَوَاءٌ خَلَعَهَا الْأَبُ عَلَى مَهْرِهَا وَضَمِنَهُ أَوْ أَلَفَّ مَثَلًا (فَيَجِبُ الْأَلْفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ فَعَلَى الْأَبِ) وَأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِالْإِقْرَاضِ وَالْإِيدَاعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِبْضَاعِ (أَوْلَى) بِخِلَافِ بَدَلِ الْعِتْقِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ
وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ (وَإِنْ شَرَطَ الْأَلْفَ عَلَيْهَا تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ (وَلَا يَجِبُ الْمَالُ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ فَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ عَنْهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ (وَكَذَا إنْ خَالَعَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ الْمَهْرَ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا، فَإِنْ قَبِلَتْ طَلُقَتْ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ) وَإِنْ قَبِلَ الْأَبُ عَنْهَا فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ
لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا وَهُوَ إثْبَاتُ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ الْقُوَّةُ عَنْ ذَلِكَ الْإِسْقَاطِ، بِخِلَافِ إسْقَاطِ الْمِلْكِ فِي الْخُلْعِ لَا يَحْصُلُ عَنْهُ لِلْمَرْأَةِ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا قَبْلَ فَصَارَ الْأَجْنَبِيُّ وَالْأَبُ مِثْلَهَا فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا شَيْءٌ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ حَصَلَ مَا ذَكَرْنَا لَهُ، وَالْعِوَضُ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ الْمُعَوَّضُ فَصَارَ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَالْخُلْعَ لَا يُفْسِدُ بِهَا (وَلَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي وِلَايَةِ الْأَبِ) فَإِذَا بَلَغَتْ تَأْخُذُ نِصْفَ الصَّدَاقِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكُلُّهُ إنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنْ الزَّوْجِ وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْأَبِ الضَّامِنِ أَوْ تَرْجِعُ هِيَ عَلَى الْأَبِ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ عَيْنًا أَخَذَتْهُ مِنْ الزَّوْجِ كُلِّهِ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَنِصْفَهُ إنْ كَانَ قَبْلَهُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ الضَّامِنِ قِيمَتَهُ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ شَرَطَ) أَيْ لَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ الْأَلْفَ عَلَيْهَا (تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ) بِأَنْ تَكُونَ مُمَيِّزَةً وَهِيَ أَهْلِيَّةُ الْمَرْأَةِ لِقَبُولِ بَدَلِ الْخُلْعِ إنْ شَرَطَ بِأَنْ تَعْرِفَ أَنَّ النِّكَاحَ جَالِبٌ وَالْخُلْعَ سَالِبٌ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُوبِ الشَّرْطِ وَهُوَ قَبُولُهَا، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ إذْ الْبَيْنُونَةُ بِالْخُلْعِ تَعْتَمِدُ الْقَبُولَ دُونَ لُزُومَ الْمَالِ؛ أَلَا يَرَى إلَى بَيْنُونَتِهَا بِدُونِهِ فِيمَا إذَا سَمَّتْ خَمْرًا وَنَحْوَهُ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ بِدُونِهِ عَنْهَا فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ إذْ تَتَخَلَّصُ فِي عُهْدَتِهِ بِلَا مَالٍ وَلِذَا صَحَّ مِنْهَا فَصَارَ كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَفِي أُخْرَى لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَبُولَهَا شَرْطُ الْيَمِينِ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا إنْ خَالَعَهَا) أَيْ خَالَعَ الصَّغِيرَةَ الزَّوْجُ عَلَى مَهْرِهَا وَلَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا إنْ كَانَتْ عَلَى مَا قُلْنَا آنِفًا فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْأَبُ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ مَا لَمْ يَضْمَنْهُ، فَإِنْ ضَمِنَهُ صَحَّ وَوَقَعَ
(وَإِنْ ضَمِنَ الْأَبُ الْمَهْرَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَلُقَتْ) لِوُجُودِ قَبُولِهِ وَهُوَ الشَّرْطُ وَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ،
الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ. وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ الصَّغِيرَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا قَبِلَتْ الْخُلْعَ مِنْ زَوْجِهَا صَحَّ الْخُلْعُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَلْزَمُ الْمَالُ. هَذَا، ثُمَّ قِيلَ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى مَالٍ مِثْلِ مَهْرِهَا، أَمَّا عَلَى مَهْرِهَا فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَبَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِ مِلْكِهَا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، وَلَا يَعْتَبِرُ ضَمَانُهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى مَهْرِهَا كَالْخُلْعِ عَلَى مَالٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ مِثْلَهُ لَا عَيْنَهُ وَضَمَانُ الْأَبِ إيَّاهُ صَحِيحٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَ مَهْرُهَا أَلْفًا وَالْخُلْعُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَزِمَ خَمْسُمِائَةٍ، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ إذَا اخْتَلَعَتْ عَلَى مَهْرِهَا وَهُوَ أَلْفٌ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفٌ بِالشَّرْطِ وَهِيَ وَجَبَ لَهَا خَمْسُمِائَةٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا بِقَدْرِهِ فَبَقِيَ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ لَهُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَبْلَ الْقَبْضِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ يُرَادُ بِهِ عُرْفًا مَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ فَيَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ وَبَعْدَ قَبْضِهِ يَجِبُ لَهُ خَمْسُمِائَةٍ بِالشَّرْطِ وَتَبْرَأُ عَنْ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْخُلْعِ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَقْسَامَ كُلَّهَا. وَإِذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَقُولَ: إذَا خَلَعَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَهُوَ أَلْفٌ لَا كَمَا قَالَ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُهَا أَلْفٌ فَإِنَّهُ إذَا خَالَعَهَا كَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ الْخُلْعِ عَلَى مَالٍ آخَرَ غَيْرِ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَهْرِ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ، وَالْحُكْمُ فِيهِ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ الْمُسَمَّى لَهُ سُقُوطُ الْمَهْرِ عَنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا، وَسَلَامَتُهُ لَهَا إنْ كَانَ مَقْبُوضًا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي التَّقْسِيمِ، وَإِذْ قَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي خُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ نُبْذَةٍ مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا خَاطَبَ الزَّوْجَ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَ الْبَدَلَ إلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ ضَمَانَهُ لَهُ أَوْ مِلْكَهُ إيَّاهُ أَوْ يُرْسِلُهُ أَوْ يُضِيفُهُ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَذَلِكَ بِأَنْ قَالَ اخْلَعْهَا عَلَى عَبْدِي هَذَا أَوْ أَلْفِيِّ هَذِهِ أَوْ عَلَى أَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ فَفَعَلَ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ وَالْمُسَمَّى عَلَيْهِ، فَإِنْ اسْتَحَقَّ لَزِمَ قِيمَتُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَلُ لَا مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَلَا إلَى قَبُولِهِ، بَلْ يَكْفِي الْأَمْرُ مِنْهُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْخُلْعِ كَمَا فِي النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اخْتَلَعْتِ نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ فَعَلْت قِيلَ لَا يَصِحُّ بِلَا قَبُولِ الزَّوْجِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ دُونَ السَّوْمِ.
فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَسَيِّدِ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ لِعَبْدٍ أَوْ حُرٍّ فَإِنَّهُ إذَا خَلَعَهَا مِنْ الزَّوْجِ
وَأَصْلُهُ فِي الْكَبِيرَةِ إذَا اخْتَلَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى أَلْفٍ وَمَهْرُهَا أَلْفٌ فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ
عَلَى عَبْدِهِ فَاسْتَحَقَّ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بَلْ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْأَمَةِ حَتَّى تُبَاعَ فِيهِ لِظُهُورِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَبُولَ الْخُلْعِ هُنَا وُجِدَ مِنْهَا حُكْمًا بِسَبَبِ وِلَايَةِ السَّيِّدِ عَلَيْهَا فَكَانَ قَبُولُهُ كَقَبُولِهَا فَكَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّ السَّيِّدَ الْتَزَمَ خُصُوصَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا فَاتَ عَادَ إلَيْهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَتُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهَا. وَإِذَا بِيعَتْ إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ بُدِئَ بِهِ لِأَنَّ دَيْنَ الْخُلْعِ أَضْعَفُ، أَمَّا لَوْ خَلَعَهَا عَلَى رَقَبَتِهَا وَهِيَ تَحْتَ عَبْدٍ صَحَّ، فَلَوْ ضَمِنَ الْمَوْلَى الدَّرَكَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَالْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمَوْلَى لِالْتِزَامِهِ دُونَهَا لَا قَبْلَ الْعِتْقِ وَلَا بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْبَدَلِ لَا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَمْ يُضِفْ إلَى أَحَدٍ، فَإِنْ قَبِلَتْ لَزِمَهَا تَسْلِيمُهُ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ عَجَزَتْ، وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى غَيْرِهِ بِأَنْ قَالَ عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ اُعْتُبِرَ قَبُولُ فُلَانٍ لِأَنَّ الْبَدَلَ أُضِيفَ إلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِرَبِّ الْعَبْدِ خَلَعْت امْرَأَتِي عَلَى عَبْدِك لِأَنَّ الْعَبْدَ أُضِيفَ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ لَهَا خَالَعْتكِ عَلَى عَبْدِ فُلَانٍ أَوْ قَالَتْ هِيَ اخْلَعْنِي عَلَى دَارِ فُلَانٍ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِهَا لِأَنَّ الْخَطَّابَ جَرَى مَعَهَا فَكَانَتْ هِيَ الدَّاخِلَةُ فِي الْعَقْدِ.
وَلَوْ قَالَتْ اخْلَعْنِي عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّ فُلَانًا ضَامِنٌ فَأَجَابَ فَالْخُلْعُ مَعَهَا لِأَنَّهَا الْعَاقِدَةُ وَتَوَقَّفَ ضَمَانُ فُلَانٍ عَلَى قَبُولِهِ. وَلَوْ وَكَّلَتْ مَنْ يَخْلَعُهَا بِأَلْفٍ فَفَعَلَ فَالْمَالُ عَلَيْهَا دُونَ الْوَكِيلِ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْخُلْعِ تَرْجِعُ إلَى مَنْ عُقِدَ لَهُ لَا إلَى الْوَكِيلِ، وَلَوْ ضَمِنَهُ الْوَكِيلُ لَزِمَهُ، وَإِنْ أَدَّى يَرْجِعُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْخُلْعَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَفَائِدَةُ أَمْرِهَا بِهِ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إذَا ضَمِنَ فَأَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا إذَا ضَمِنَ بِأَمْرِهِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْأَمْرِ جَوَازُ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَبْدِ كَالْخُلْعِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا.
[فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ]
الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا سَلَفَ وَبِهِ قَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَمَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَا يَلْحَقُهَا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا الطَّلَاقُ فِي قَوْلِهِ نِسَائِي طَوَالِقُ عِنْدَهُمْ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا الْكِنَايَاتُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الرَّجْعِيِّ مِثْلُ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رحمه الله. لَهُمْ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْمُخْتَلِعَةُ لَا يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَنَا مَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ فِي الْأَمَالِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَحَدِيثُهُمْ لَا أَصْلَ لَهُ، ذَكَرَهُ سِبْطُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي إيثَارِ الْإِنْصَافِ: امْرَأَةٌ قَالَتْ خَلَعْت نَفْسِي مِنْك بِأَلْفٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٌ فَقَالَ الزَّوْجُ رَضِيت أَوْ أَجَزْت كَانَ ثَلَاثًا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ.
وَلَوْ خَلَعَ أَمَتَهُ عَلَى رَقَبَتِهَا وَزَوْجُهَا عَبْدٌ أَوْ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ صَحَّ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مِلْكُهَا أَيْ مِلْكُهَا الزَّوْجِ بِهِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ، وَمَتَى بَطَلَ النِّكَاحُ بَطَلَ
زَائِدَةٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ عَادَةً حَاصِلُ مَا يَلْزَمُهَا.
الْخُلْعُ لَكِنَّهُ يَقَعُ طَلَاقٌ بَائِنٌ لِأَنَّهُ بَطَلَ الْبَدَلُ وَبَقِيَ لَفْظُ الْخُلْعِ وَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ تَحْتَ حُرٍّ أَمَتَانِ دَخَلَ بِهِمَا فَخَلَعَهُمَا سَيِّدُهُمَا عَلَى رَقَبَةِ الصُّغْرَى فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ عَلَى الْكُبْرَى وَبَطَلَ الْخُلْعُ فِي الَّتِي خَلَعَ عَلَى رَقَبَتِهَا وَهِيَ الصُّغْرَى لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ الْخُلْعِ عَلَى الْكُبْرَى لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يُقَارِنْ مِلْكَ الزَّوْجِ فِيهَا لَا فِي الصُّغْرَى، لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَقِّهَا يُقَارِنُ مِلْكَ الزَّوْجِ بَعْضَ رَقَبَتِهَا فَتُقْسِمُ الصُّغْرَى عَلَى مَهْرَيْهِمَا لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بَدَلًا عَنْ طَلَاقِهِمَا، فَمَا أَصَابَ مَهْرَ الْكُبْرَى فَهُوَ لِلزَّوْجِ، وَمَا أَصَابَ الصُّغْرَى بَقِيَ لِلْمَوْلَى، وَلَوْ خَلَعَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى رَقَبَةِ الْأُخْرَى طَلُقَتَا مَجَّانًا لِأَنَّ مِلْكَ رَقَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُقَارِنُ طَلَاقَهَا فَصَحَّ الْخُلْعُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَلَا يُسْلِمُ لِلزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ.
امْرَأَةٌ لَهَا ابْنَا عَمٍّ وَهُمَا وَارِثَاهَا تَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ خَلَعَتْ بِمَهْرِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهَا وَلَا مَالَ لَهَا فِي غَيْرِهِ وَمَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ فَالْمَهْرُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَعْتَبِرُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا يَصِحُّ ذِكْرُ الْبَدَلِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ فَبَقِيَ لَفْظُ الْخُلْعِ فَتَبَيَّنَ وَيَرِثَانِ بِالْقَرَابَةِ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا عَلَى مَهْرِهَا وَمَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ فَلَهُ النِّصْفُ بِمِيرَاثِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ.
[قَاعِدَةٌ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ] الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ طَلَاقَيْنِ وَذَكَرَ عَقِيبَهُمَا مَالًا يَكُونُ مُقَابَلًا بِهِمَا إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِصَرْفِ الْبَدَلِ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ إلَّا إذَا وَصَفَ الْأَوَّلَ بِمَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ فَيَكُونُ الْمَالُ حِينَئِذٍ مُقَابَلًا بِالثَّانِي وَوَصْفُهُ بِالْمُنَافِي كَالتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ الثَّانِي وَأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْمَرْأَةِ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَلْتَزِمُهُ لِتَمْلِكَ نَفْسَهَا، فَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَاحِدَةً وَغَدًا أُخْرَى بِأَلْفٍ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنَّك طَالِقٌ غَدًا بِأَلْفٍ، أَوْ قَالَ الْيَوْمَ وَاحِدَةً وَغَدًا أُخْرَى رَجْعِيَّةً بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِخَمْسِمِائَةٍ فِي الْحَالِ وَغَدًا أُخْرَى بِغَيْرِ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يَعُودَ مِلْكُهُ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَطْلِيقَةٍ مُنْجِزَةٍ وَتَطْلِيقَةٍ مُضَافَةٍ إلَى الْغَدِ وَذَكَرَ عَقِيبَهُمَا مَالًا فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ مَكَانَ الْبَدَلِ اسْتِثْنَاءً يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا فَيَقَعُ الْيَوْمَ وَاحِدَةً بِخَمْسِمِائَةٍ، فَإِذَا جَاءَ غَدٌ تَقَعُ أُخْرَى لِوُجُودِ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْمَالِ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ وَلَمْ تَحْصُلْ لِحُصُولِهَا بِالْأُولَى، حَتَّى لَوْ نَكَحَهَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ ثُمَّ جَاءَ الْغَدُ تَقَعُ أُخْرَى بِخَمْسِمِائَةٍ لِوُجُودِ شَرْطِ وُجُوبِ الْمَالِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً أَوْ بِغَيْرِ شَيْءٍ عَلَى أَنَّك طَالِقٌ غَدًا أُخْرَى بِأَلْفٍ يَقَعُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةٌ مَجَّانًا وَغَدًا أُخْرَى بِأَلْفٍ لِتَعَذُّرِ الصَّرْفِ إلَيْهِمَا لِأَنَّهُ وَصَفَ الْأُولَى بِمَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمَالِ إلَّا أَنَّ فِي قَوْلِهِ بَائِنَةً يُشْتَرَطُ التَّزَوُّجُ لِوُجُوبِ الْمَالِ بِالثَّانِي.
وَلَوْ قَالَ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ يَقَعُ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ وَاحِدَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ وَفِي الطُّهْرِ الثَّانِي أُخْرَى مَجَّانًا لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى، وَلَا يَجِبُ بِالثَّانِيَةِ الْمَالُ إلَّا إذَا نَكَحَهَا قَبْلَ الطُّهْرِ الثَّانِي فَحِينَئِذٍ تَقَعُ أُخْرَى بِثُلُثِ الْأَلْفِ وَفِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[فُرُوعٌ]
لَوْ خَالَعَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَبْرَأُ كُلٌّ عَنْ صَاحِبِهِ. وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهُ: هَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرٌ فَعَلَيْهَا رَدُّ مَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِأَنَّ الْمَالَ مَذْكُورٌ عُرْفًا بِذَكَرِ الْخُلْعِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لَا يَبْرَأُ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَا يَبْرَأُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَمَئُونَةِ السُّكْنَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إلَّا إذَا شَرَطَا فِي الْخُلْعِ، نَقَلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ وَكَذَا ذَكَرَهُ السُّغْدِيُّ: أَعْنِي رَدَّهَا الْمَهْرِ. وَذَكَرَ فِي الْوَجِيزِ فِيمَا إذَا قَالَ اخْتَلِعِي وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ فَقَالَتْ اُخْتُلِعَتْ عَنْ خُوَاهَرْ زَادَهُ أَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقٌ بَائِنٌ وَلَا يَكُونُ خُلْعًا كَأَنَّهُ. قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك بَائِنًا فَقَالَتْ طَلَّقْت، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ عَلَى مَا حَكَى عَنْهُ مِنْ رَدِّهَا مَا سَاقَهُ إلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ إذَا كَانَ مَقْبُوضًا إذْ لَمْ يَجْعَلْ كَأَنَّهُ قَالَ طَلَّقْتُك بَائِنًا فَهَذَا مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
ذَكَرَ فِي التَّجْنِيسِ: إذَا قَالَ اخْتَلِعِي فَقَالَتْ اُخْتُلِعَتْ تَطْلُقُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ اشْتَرَيْت لَا تَطْلُقُ بِأَنَّ قَوْلَهُ اخْتَلِعِي أَمْرٌ بِالطَّلَاقِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْمَرْأَةُ تَمْلِكُ الطَّلَاقَ بِأَمْرِ الزَّوْجِ، بِخِلَافِ اشْتَرِي نَفْسَك لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْخُلْعِ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مُقَدَّرًا، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِأَنْ قَالَ بِمَهْرِك وَنَفَقَةِ عِدَّتِك وَقَالَتْ اشْتَرَيْت صَحَّ عَلَى رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، يُرِيدُ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي بِكَذَا فَقَالَتْ اشْتَرَيْت لَا يَقَعُ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْت، وَكَذَا الرِّوَايَتَانِ فِيمَا إذَا قَالَ اخْتَلِعِي مِنِّي بِكَذَا وَذَكَرَ مَالًا مُقَدَّرًا فَقَالَتْ اخْتَلَعْتُ.
فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ: لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ خَلَعْت، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ: يَصِحُّ وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ الْمَهْرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ فَبِحَمْلِ سُقُوطِ الْمَهْرِ وَجَعْلِهِ بَدَلًا فِيمَا إذَا لَمْ يُنَوِّبْهُ كَوْنَهُ خُلْعًا بِغَيْرِ مَالٍ وَحِمْلِ كَوْنِهِ طَلَاقًا بَائِنًا بِلَا مَالٍ عَلَى مَا إذَا نَوَى بِهِ كَوْنَهُ بِلَا مَالٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْخُلْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْفُرْقَةِ بَعُوضٍ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إلَّا بِمُوجِبٍ، فَإِذَا لَمْ يُسَمِّيَا مَالًا انْصَرَفَ إلَى الْمَهْرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ خِلَافَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الْمُنْتَقَى.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا قَالَ لَهَا اخْتَلِعِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ خَلَعْتُ نَفْسِي لَا يَكُونُ خُلْعًا إلَّا عَلَى مَالٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِغَيْرِ مَالٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَلَعْتُك وَخَالَعْتُك، فَإِذَا قَالَ خَالَعْتكِ يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ الْمَهْرِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ هَذَا الْحُكْمُ إلَّا إذَا تَصَادَقَا عَلَى عَدَمِ النِّيَّةِ، وَمِمَّا يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى مُجَرَّدِ الطَّلَاقِ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِ الْمَالِ كَمَا إذَا قَالَ اخْتَلِعِي مِنِّي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ بِلَا مَالٍ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْمَالِ، نَقَلَهُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْفَضْلِيِّ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مَا فِيهِ الْمَالُ لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْلَعْ امْرَأَتِي لَمْ يَمْلِكْ خَلْعَهَا بِلَا عِوَضٍ وَلَمْ يَجْعَلْ كَقَوْلِهِ طَلِّقْهَا بَائِنًا. وَلَوْ قَالَ اخْتَلِعِي عَلَى مَالٍ أَوْ بِمَا شِئْت وَلَمْ يُقَدِّرْهُ فَقَالَتْ اخْتَلَعْتُ عَلَى أَلْفٍ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ خَلَعْتُك أَوْ نَحْوَ أَجَزْت، فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ الزَّوْجُ اخْلَعِي نَفْسَك مِنِّي بِأَلْفٍ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ حَيْثُ يَتِمُّ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّعْوِيضَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ، فَلَوْ صَحَّ صَارَ الْوَاحِدُ مُسْتَزِيدًا مُسْتَنْقِصًا وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الثَّانِيَةِ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِمُضَادَّةِ الْحُقُوقِ، وَحُقُوقُ الْخُلْعِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ.
إذَا لَقَّنَهَا اخْتَلَعْتُ مِنْك بِالْمَهْرِ وَنَفَقَةِ الْعِدَّةِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ مَعْنَاهُ، أَوْ لَقَّنَهَا أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ قِيلَ يَصِحُّ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ كَالتَّوْكِيلِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِعِلْمِ الْوَكِيلِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا لَكِنَّهُ إسْقَاطٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَصَارَ شِبْهُ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ وَكُلُّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ.
وَهَذِهِ صُورَةٌ كَثِيرًا مَا تَقَعُ قَالَ أَبْرِئِينِي مِنْ كُلِّ حَقٍّ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ فَقَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ كُلِّ حَقٍّ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ فَقَالَ فِي فَوْرِهِ طَلَّقْتُك وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا يَقَعُ بَائِنًا لِأَنَّهُ بِعِوَضٍ، وَإِذَا اخْتَلَعَتْ بِكُلِّ حَقٍّ لَهَا عَلَيْهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهَا حَقًّا حَالَ الْخُلْعِ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ تَسْمِيَةَ كُلِّ حَقٍّ لَهَا عَلَيْهِ وَكُلُّ حَقٍّ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ صَحِيحَةٌ وَيَنْصَرِفُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلَى الْقَائِمِ لَهَا إذْ ذَاكَ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُصَحِّحُ هَذَا لِلْجَهَالَةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا عُمُومٌ لَا إجْمَالٌ.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا عَلَى أَلْفٍ أُخْرَى ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى مَهْرِهَا لَمْ يَبْرَأْ الزَّوْجُ إلَّا مِنْ الثَّانِي دُونَ الْمَهْرِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ إلَى آخَرَ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَكِيلٌ لِامْرَأَتِهِ فِي خَلْعِهَا فَخَلَعَهَا عَلَى أَلْفٍ فَأَنْكَرَتْ التَّوْكِيلَ، فَإِنْ كَانَ ضَمِنَ الْمَالَ لِلزَّوْجِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَعَلَيْهِ الْبَدَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الزَّوْجُ عَلَى أَنَّهَا وَكَّلَتْهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ ذَلِكَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْخُلْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى قَبُولِهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ بَاعَ مِنْهُ تَطْلِيقَةً بِأَلْفٍ قَالَ الصَّفَّارُ يَقَعُ الطَّلَاقُ ضَمِنَ لَهُ الْمَهْرَ أَوْ لَا لِأَنَّ لَفْظَةَ الشِّرَاءِ لَفَظَّةُ الضَّمَانِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافِ: هَذَا وَالْخُلْعُ سَوَاءٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ الرِّسَالَةَ عَنْ امْرَأَةِ الرَّجُلِ إلَيْهِ فِي أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يُمْسِكَهَا فَقَالَ الزَّوْجُ لَا أُمْسِكُهَا بَلْ أُطَلِّقُهَا فَقَالَ الرَّسُولُ أَبْرَأْتُك مِنْ جَمِيعِ مَا لَهَا عَلَيْك فَطَلَّقَهَا فَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ الْإِبْرَاءَ وَالرَّسُولُ يَدَّعِيهِ.
فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ رِسَالَتَهَا أَوْ وَكَالَتَهَا إيَّاهُ لِذَلِكَ وَقَعَ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَالَ أَبْرَأْتُك مِنْ حَقِّهَا عَلَيْك عَلَى أَنْ تُطَلِّقَهَا فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْمَهْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَهَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا، وَهَذِهِ فِي أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الْخُلْعِ الْمُشَاقَّةُ وَجَبَ ذِكْرُ أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ فِيهِ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ عز وجل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ضَمِيرُ يُرِيدَا لِلْحَكَمَيْنِ وَضَمِيرُ بَيْنِهِمَا لِلزَّوْجَيْنِ، وَقِيلَ لِلْحَكَمَيْنِ أَيْضًا، وَقِيلَ الضَّمِيرَانِ لِلزَّوْجَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِيهِمَا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَخْبَرُ بِبَاطِنِ أَمْرِهِمَا وَأَشْفَقُ عَلَيْهِمَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِيهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْ أَهْلِيهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ. وَقُلْنَا: الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ الَّذِي قُلْنَاهُ صَارِفٌ عَنْ تَعْيِينِ كَوْنِ الْمُرَادِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَوْلُ الْحَكَمَيْنِ نَافِذٌ فِي الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ بِتَوْكِيلِهِمَا عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَوْلُهُمَا فِي ذَلِكَ نَافِذٌ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. قُلْنَا: لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُطَلِّقَ وَلَا يُبْرِئَ مِنْ مَالِهِمَا فَكَيْفَ يَفْعَلُ ذَلِكَ نَائِبُهُ. وَفِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلرَّازِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يَعِظُهَا الزَّوْجُ، فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا، فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا. فَإِنْ انْتَهَتْ وَإِلَّا رَفَعَ أَمْرَهَا إلَى السُّلْطَانِ فَيَبْعَثُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَظْلَمُ رَدَّهُ إلَى السُّلْطَانِ فَأَخَذَ فَوْقَ يَدِهِ كَالْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَالْفَصْلَ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ ادَّعَى النُّشُوزَ وَادَّعَتْ هِيَ ظُلْمَهُ وَتَقْصِيرَهُ فِي حَقِّهَا يَفْعَلُ الْحَاكِمُ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَجْمَعَا وَلَا أَنْ يُفَرِّقَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا، وَمَا زَعَمَ إسْمَاعِيلُ الْمَالِكِيُّ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَعْرِفُوا أَمْرَ الْحَكَمَيْنِ إخْبَارٌ بِالنَّفْيِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَالْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ حِفْظُ اللِّسَانِ، وَمَا قَالَ إنَّ الْوَكِيلَ لَا يُسَمَّى حَكَمًا مَمْنُوعٌ بَلْ الْوَكَالَةُ تُؤَكِّدُ مَعْنَى الْحُكْمِيَّةِ لِقَبُولِ قَوْلِهِمَا عَلَيْهِمَا وَالْحَكَمَانِ يَمْضِيَانِ أَمْرَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِذَا قَصَدَا الْحَقَّ وَفَّقَهُمَا اللَّهُ عز وجل لِلصَّوَابِ إذْ هُمَا مُوَكَّلَانِ لِلْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ فَعَلَيْهِمَا الِاجْتِهَادُ وَطَلَبُ الْخَيْرِ لَهُمَا، وَكُلُّ مَا وَرَدَّ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ فِعْلَ الْحَكَمَيْنِ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى رِضَاهُمَا إذْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُمَا أَنْ يُطَلِّقَا امْرَأَةَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا أَنْ يَدْفَعَا مَالًا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ قَضَاءِ دَيْنِهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ وَلَا
بَابُ الظِّهَارِ
لِلزَّوْجِ فِي مَالِهَا، قَالَ تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ» وَالْحَكَمَانِ إنَّمَا بُعِثَا لِلصُّلْحِ، وَلِيَعْلَمَا ظُلْمَ الظَّالِمِ مِنْهُمَا فَيُنْكِرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ أَعْلَمَا الْحَاكِمَ لِيَدْفَعَ ظُلْمَهُ، فَالْحَكَمَانِ شَاهِدَانِ فِي حَالٍ وَمُصْلِحَانِ فِي حَالِ إذَا فُوِّضَ الْأَمْرُ إلَيْهِمَا.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُمَا يُفَرِّقَانِ وَيَخْلَعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه شَاهِدًا فِي ذَلِكَ.
(بَابُ الظِّهَارِ) مُنَاسَبَتُهُ بِالْخُلْعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكُونُ عَنْ النُّشُوزِ ظَاهِرًا، وَقَدَّمَ الْخُلْعَ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ فِي بَابِ التَّحْرِيمِ إذْ هُوَ تَحْرِيمٌ بِقَطْعِ النِّكَاحِ وَهَذَا مَعَ بَقَائِهِ.
وَالظِّهَارُ لُغَةً مَصْدَرُ ظَاهَرَ وَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الظَّهْرِ فَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ تَرْجِعُ إلَى الظَّهْرِ مَعْنًى وَلَفْظًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، فَيُقَالُ ظَاهَرْت: أَيْ قَابَلْت ظَهْرَك بِظَهْرِهِ حَقِيقَةً، وَإِذَا غَايَظْتَهُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ تُدَابِرْهُ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُغَايَظَةَ تَقْتَضِي هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ، وَظَاهَرْته إذَا نَصَرْته بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُقَالُ قَوَّى ظَهْرَهُ إذَا نَصَرَهُ، وَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَأَظْهَرَ وَتَظَاهَرَ وَاظَّاهَرَ وَظَهَّرَ وَتَظَهَّرَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَظَاهَرَ بَيْنَ ثَوْبَيْنِ إذَا لَبِسَ أَحَدَهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ عَلَى اعْتِبَارِ جَعْلِ مَا يَلِي بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ ظَهْرًا لِلثَّوْبِ، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ كَوْنُ لَفْظِ الظَّهْرِ فِي بَعْضِ هَذِهِ التَّرَاكِيبِ مَجَازًا، وَكَوْنُهُ مَجَازًا لَا يَمْنَعُ الِاشْتِقَاقَ مِنْهُ وَيَكُونُ الْمُشْتَقُّ مَجَازًا أَيْضًا، وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِمَنْ مَعَ أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّبْعِيدِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا وَهُوَ مُبْعَدٌ ثُمَّ قِيلَ: الظَّهْرُ هُنَا مَجَازٌ عَنْ الْبَطْنِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْكَبُ الْبَطْنَ فَكَظَهْرِ أُمِّي: أَيْ كَبَطْنِهَا بِعَلَاقَةِ الْمُجَاوَرَةِ وَلِأَنَّهُ عَمُودُهُ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَا هُوَ الصَّارِفُ عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ النِّكَاتِ. وَقِيلَ خَصَّ الظَّهْرَ لِأَنَّ إتْيَانَ الْمَرْأَةِ مِنْ ظَهْرِهَا كَانَ حَرَامًا، فَإِتْيَانُ أُمِّهِ مِنْ ظَهْرِهَا أَحَرَمُ فَكَثُرَ التَّغْلِيظُ. وَفِي الشَّرْعِ: هُوَ تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا شَائِعٍ أَوْ مُعَبَّرٍ بِهِ عَنْ الْكُلِّ بِمَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَوْ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ، وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ قَيَّدَ الِاتِّفَاقَ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ فُلَانَةَ، وَفُلَانَةُ أُمُّ مَنْ زَنَى بِهَا أَوْ بِنْتُهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَسَنَذْكُرُ مَا هُوَ التَّحْقِيقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ الْعُضْوِ الظَّهْرَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِاسْمِ الظِّهَارِ تَغْلِيبًا لِلظَّهْرِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَصْلَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ وَشَرْطُهُ فِي الْمَرْأَةِ كَوْنُهَا زَوْجَةً، وَفِي الرَّجُلِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَرُكْنُهُ لِلَّفْظِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذَلِكَ التَّشْبِيهِ، وَحُكْمُهُ حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيه إلَى وُجُودِ الْكَفَّارَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ وُجُوبِهَا فَقَالَ فِي الْمَنَافِعِ: تَجِبُ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ لِأَنَّ الظِّهَارَ كَبِيرَةٌ فَلَا يَصِحُّ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ الْمُغَلَّبُ فِيهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَلَا يَكُونُ الْمَحْظُورُ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ فَعَلَّقَ وُجُوبَهَا بِهِمَا لِيَخِفَّ مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْعَوْدِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ فَيَكُونُ دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَيَصِحُّ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ. وَقِيلَ سَبَبُ وُجُوبِهَا الْعَوْدُ، وَالظِّهَارُ شَرْطٌ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَحْتَمِلُهُمَا وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إلَى آخِرِهِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُ تَرْتِيبِهَا عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى الْأَخِيرِ، لَكِنْ إذَا أَمْكَنَ الْبَسَاطَةُ صِيرَ إلَيْهَا لِأَنَّهَا الْأَصْلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّرْكِيبِ، فَلِذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ سَبَبُ وُجُوبِهَا الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالظِّهَارُ شَرْطٌ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الْعَوْدِ فِي الْآيَةِ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ لَا شَرْطِهِ، وَالْكَفَّارَةُ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الظِّهَارِ لَا الْعَزْمِ وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى إبَاحَةِ الْوَطْءِ بِنَاءً عَلَى إرَادَةِ الْمُضَافِ فِي الْآيَةِ: أَيْ يَعُودُونَ لِضِدِّ مَا قَالُوا أَوْ لِتَدَارُكِهِ نَزَلَ الْقَوْلُ مَنْزِلَةَ الْمَقُولِ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إرَادَةِ ظَاهِرِهَا وَهُوَ تَكْرَارُ نَفْسِ الظِّهَارِ كَمَا قَالَ دَاوُد لِلْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ يَرْوُونَهُمَا فَإِنَّ ظَاهِرَهُمَا عَدَمُ تَعَلُّقِهِمَا بِتَكَرُّرِهِ وَيُرَدُّ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ لَا تَتَقَرَّرُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ، حَتَّى لَوْ أَبَانَهَا أَوْ مَاتَتْ بَعْدَ الْعَزْمِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَا بِالظِّهَارِ وَلَا بِالْعَوْدِ، إذْ لَوْ وَجَبَتْ لَمَا سَقَطَتْ بَلْ مُوجِبُ الظِّهَارِ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ، فَإِذَا أَرَادَ رَفْعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي رَفْعِهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ النَّافِلَةَ يَجِبُ عَلَيْك إنْ صَلَّيْتهَا أَنْ تُقَدِّمَ الْوُضُوءَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله هُوَ سُكُوتُهُ بَعْدَ ظِهَارِهِ قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا.
وَرُدَّ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ الْحُرْمَةِ وَالْجِنَايَةِ، وَالظِّهَارُ لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ لِيَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا جِنَايَةً، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عَنْ طَلَاقِهَا لِيَسْعَى فِي أَمْرِ الْكَفَّارَةِ وَتَحْصِيلِهَا أَوْ لِلتَّرَوِّي فِي طَلَاقِهَا أَوْ التَّكْفِيرِ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُهُ بَعْدَ الظِّهَارِ جِنَايَةً فَلَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَا تُرْفَعُ إلَّا بِكَفَّارَةٍ لَا بِمِلْكٍ وَلَا بِزَوْجٍ ثَانٍ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ ثَلَاثًا فَعَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ أَوْ كَانَتْ أَمَةً وَمَلَكَهَا بَعْدَ مَا ظَاهَرَ مِنْهَا لَا يَحِلُّ قُرْبَانُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ فِيهِمَا، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تُطَالِبَهُ بِالْوَطْءِ وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى التَّكْفِيرِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا بِحَبْسٍ، فَإِنْ أَبَى ضَرَبَهُ وَلَا يَضْرِبُ فِي الدِّينِيِّ، وَلَوْ قَالَ قَدْ كَفَّرْت صَدَقَ مَا لَمْ يُعْرَفْ بِالْكَذِبِ وَأَلْفَاظُهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ وَسَتَأْتِي.
وَسَبَبُ نُزُولِ شَرْعِيَّتِهِ «قِصَّةُ خَوْلَةَ أَوْ خُوَيْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، فَجِئْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْكُو إلَيْهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَادِلُنِي فِيهِ وَيَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ
(وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا مَسُّهَا وَلَا تَقْبِيلُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ ظِهَارِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} إلَى أَنْ قَالَ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} . وَالْظَ هَارُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَرَّرَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ وَنَقَلَ حُكْمَهُ إلَى تَحْرِيمٍ مُوَقَّتٍ بِالْكَفَّارَةِ غَيْرِ مُزِيلٍ لِلنِّكَاحِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} إلَى الْغَرَضِ، فَقَالَ: يُعْتِقُ رَقَبَةً، فَقُلْتُ لَا يَجِدُ، فَقَالَ: يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: فَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قُلْتُ: مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ، قَالَ: فَإِنِّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتِ، قَالَ: فَاذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ» قَالَ: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقِيلَ هُوَ مِكْيَالٌ يَسَعُ ثَلَاثِينَ صَاعًا، قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا أَصَحُّ، وَفِي الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ أُخَرُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ
(قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يُقَبِّلَهَا إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ لِلشَّفَقَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ أَنْتِ عِنْدِي أَوْ مَعِي، وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا مِنْك مُظَاهِرٌ وَقَدْ ظَاهَرْت مِنْك، وَمَتَى أَلْحَقَ لَفْظَ الْمَشِيئَةِ لَا يَثْبُتُ، فَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَالْمَشِيئَةُ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ بِالظِّهَارِ ثُمَّ ارْتِفَاعُهُ بِالْكَفَّارَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الظِّهَارُ (جِنَايَةٌ) كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ
لِكَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا فَيُنَاسِبُ الْمُجَازَاةَ عَلَيْهَا بِالْحُرْمَةِ، وَارْتِفَاعُهَا بِالْكَفَّارَةِ. ثُمَّ الْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ كَيْ لَا يَقَعَ فِيهِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُمَا، فَلَوْ حَرُمَ الدَّوَاعِي يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ وَلَا كَذَلِكَ الظِّهَارُ وَالْإِحْرَامُ.
لِكَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا) بِالنَّصِّ فَيُنَاسِبُ الْمُجَازَاةَ عَلَى هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِالْحُرْمَةِ وَارْتِفَاعُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ) تُفِيدُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ إذْ طَرِيقُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ، وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ، وَثَبَتَ مِنْ الشَّرْعِ خِلَافُهُ فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ، «فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ إحْدَى نِسَائِهِ وَهُوَ صَائِمٌ» .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَتَّزِرَ فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ» فَوَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ حِكْمَةِ الْفَرْقِ شَرْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ لِيَنْظُرَ هَلْ الظِّهَارُ مِنْ قَبِيلِ مَا يَقْتَضِي الْفَرْقُ تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي فِيهِ كَمَا قُلْنَا نَحْنُ وَمَالِكٌ؟
وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ نَصًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ، أَوْ تَحْلِيلُهَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلِهِمَا الْآخَرِ فَنَظَرْنَا فَعَقَلْنَا كَوْنَ حِكْمَتِهِ لُزُومَ الْحَرَجِ لَوْ حُرِّمَتْ الدَّوَاعِي فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِمَا وَوُقُوعِ ضِدِّهِمَا مِنْ الْفِطْرِ وَالطُّهْرِ فَعَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِهِمَا يَلْزَمُ الْحَرَجُ بِمَنْعِ الدَّوَاعِي، وَعَنْ كَثْرَةِ وُقُوعِ الضِّدَّيْنِ الظَّاهِرَيْنِ فِي كَثْرَةِ وُجُودِ الْجِمَاع يَنْتَفِي لُزُومُ شَرْعِ الزَّاجِرِ الْمَبَالِغ فَلَا يَحْرُمُ الدَّوَاعِي بِخِلَافِ الظِّهَارِ وَالِاسْتِبْرَاءِ وَالْإِحْرَامِ لَا تَكْثُرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ شَخْصٍ فَاسْتَمَرَّ عَلَى الْأَصْلِ، وَتَقَدَّمَ لَهُ فِي الِاعْتِكَافِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّوْمِ فِي حُرْمَةِ الدَّوَاعِي فِيهِ لَا فِي الصَّوْمِ بِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورُ الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْهُ رُكْنُهُ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى دَوَاعِيهِ، وَقُرِّرَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْفَرْقَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ، وَالتَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِالنَّهْيِ لَمَّا كَانَ الثَّانِي أَقْوَى بِسَبَبِ أَنَّ النَّهْيَ تَنَاوَلَهُ مَقْصُودًا فَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي، بِخِلَافِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَهْيٌ أَصْلًا بَلْ طَلَبُ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ عَدَمَ ذَلِكَ فَحَرُمَ ذَلِكَ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى تَفْوِيتِ الْمَطْلُوبِ لَا مَقْصُودًا فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ. فَافْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْجِمَاعِ فِيهَا بِالنَّهْيِ، قَالَ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ نَفْيٌ مُسْتَعَارٌ لِلنَّهْيِ
(فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ الْكَفَّارَةِ الْأُولَى وَلَا يَعُودُ حَتَّى يُكَفِّرَ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِلَّذِي وَاقَعَ فِي ظِهَارِهِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا لَنَبَّهَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ (وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ)
لِتَأْكِيدِهِ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «أَلَا لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ» وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَخِيرَيْنِ {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} وَلَمَّا كَانَ هَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ حُرْمَةِ الدَّوَاعِي لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالْكَفَّارَةِ قَبْلَ التَّمَاسِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ وَاقِعٌ بَدَلًا مِنْ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ فَيَحْرُمُ الْجِمَاعُ لِتَفْوِيتِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ قَبْلَ التَّمَاسِّ مَعَ أَنَّهُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الدَّوَاعِي فِي الْحَيْضِ لِأَنَّ (اعْتَزِلُوا) هُوَ نَفْسُ مَعْنَى النَّهْيِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَمْ يَمْثُلُوا لِلنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ إلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَذَرُوا الْبَيْعَ}
وَلِمَ يُسَمُّوهُ إلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ النَّهْيَ لِلنَّفْسِ طَلَبُ التَّرْكِ عَدَلَ إلَى مَا ذُكِرَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الدَّوَاعِيَ مَنْصُوصٌ عَلَى مَنْعِهَا فِي الظِّهَارِ، وَالْمَذْكُورُ فِي وَجْهِ الْفَرْقِ إنَّمَا هُوَ حِكْمَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الظِّهَارِ وَمَا ذُكِرَ، أَمَّا كَوْنُهَا مَنْصُوصًا عَلَى مَنْعِهَا فَإِنَّهُ قَوْله تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} لَا مُوجِبَ فِيهِ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ لِإِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ، وَيَحْرُمُ الْجِمَاعُ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ التَّمَاسِّ، فَكُلٌّ مِنْ الْقُبْلَةِ وَالْمَسِّ وَالْجِمَاعِ أَفْرَادُ التَّمَاسِّ فَيَحْرُمُ الْكُلُّ بِالنَّصِّ، وَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ الْمُخَالِفِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَفِي لَفْظٍ: بَيَاضَ سَاقَيْهَا، قَالَ: فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ» وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ «فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَنَفَى كَوْنَ هَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحًا رَدَّهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِأَنَّهُ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورٌ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ إلَى آخِرِ السَّنَدِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «فِي الْمُظَاهِرِ يُوَاقِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ قَالَ: كَفَّارَةً وَاحِدَةً» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَأَمَّا ذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ فِي الْحَدِيثِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَلَفْظُهُ: قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ يُظَاهِرُ ثُمَّ يَمَسُّهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ يَكُفُّ عَنْهَا حَتَّى يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ وَيُكَفِّرَ، ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت (قَوْلُهُ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا لَنَبَّهَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ مَقَامُ الْبَيَانِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَذْكُورَ تَمَامُ حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَلَا تَجِبُ كَفَّارَتَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَبِيصَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، وَلَا ثَلَاث كَفَّارَاتٍ كَمَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ.
(قَوْلُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ) أَيْ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي (لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ) أَوْ الْإِيلَاءَ أَوْ قَالَ لَمْ أَنْوِ شَيْئًا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ، وَإِنَّمَا إلَيْهِ اتِّبَاعُ الْمَشْرُوعِ لَا تَغْيِيرُهُ، وَهَذَا يَعُمُّ مَا قُلْنَا، وَمَا فِي الْكِتَابِ يَخُصُّ قَصْدَ
لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ
(وَإِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَفَخْذِهَا أَوْ كَفَرْجِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ) لِأَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي عُضْوٍ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ (وَكَذَا إذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ مَحَارِمِهِ مِثْلَ أُخْتِهِ أَوْ عَمَّتِهِ أَوْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ)
الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ أَرَدْت بِهِ الْخَيْرَ عَنْ الْمَاضِي كِذْبًا لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا فِي التُّحْفَةِ. وَلَوْ قِيلَ الْمَنْسُوخُ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ طَلَاقًا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ صِحَّةِ إرَادَتِهِ بِهِ احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ وَيَصْلُحُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا إلَيْهِ اتِّبَاعِ الْمَشْرُوعِ لَا تَغْيِيرُهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَهُوَ كَلَفْظِ أَنْتِ طَالِقٌ جُعِلَ شَرْعًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ غَيْرُهُ فَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي التُّحْفَةِ.
(قَوْلُهُ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ) اللَّامُ فِيهِمَا لِلْعَهْدِ: أَيْ الْمُحَلَّلَةُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِالْمُحَرَّمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَنَّهُمَا الْمَعْهُودَتَانِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِهِمَا (قَوْلُهُ وَهَذَا الْمَعْنَى) يَعْنِي تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ (يَتَحَقَّقُ فِي التَّشْبِيهِ بِعُضْوٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ) عَلَى التَّأْبِيدِ لَمَّا كَانَ الظِّهَارُ كَلَامًا تَشْبِيهِيًّا مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُشَبَّهَةِ وَالْمُشَبَّهِ بِهَا وَجَبَ إعْطَاءُ ضَابِطِهِمَا؛ فَفِي الْمُشَبَّهَةِ أَنْ تُذْكَرَ هِيَ أَوْ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْهَا أَوْ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جُمْلَتِهَا كَالرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ وَالْفَرْجِ وَالْوَجْهِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ التَّعْبِيرِ بِهَذِهِ عَنْ الْكُلِّ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّصْفُ وَالثُّلُثُ فِي الْأَوَّلِ، وَفِي الْمُشَبَّهِ بِهَا أَنْ تُذْكَرَ هِيَ أَوْ عُضْوٌ مِنْهَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَّا أَنَّ مَعَ ذِكْرِهَا يَنْوِي كَمَا سَيَأْتِي.
إذَا عَرَفْت هَذَا فَعِبَارَتُهُ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا إلَى قَوْلِهِ مِثْلُ أُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَيْسَتْ جَيِّدَةً لِأَنَّ ظَاهِرَهَا حُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى هَؤُلَاءِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى إذَا شَبَّهَهَا بِجُزْءٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ، فَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ أَوْ رَأْسُك أَوْ وَجْهُك أَوْ رَقَبَتُك أَوْ فَرْجُك أَوْ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك أَوْ سُدُسُك كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ خَالَتِي أَوْ أُمِّ زَوْجَتِي أَوْ كَفَرْجِهَا أَوْ بَطْنِهَا أَوْ فَخْذِهَا أَوْ أَلْيَتِهَا كَانَ مُظَاهِرًا، وَلَوْ قَالَ يَدُك أَوْ رِجْلُك أَوْ شَعْرُك أَوْ ظُفُرُك أَوْ سِنُّك أَوْ بَطْنُك أَوْ فَخْذُك أَوْ جَنْبُك أَوْ ظَهْرُك كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فَرْجِهَا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِانْتِفَائِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ أَوْ رَأْسُك إلَى آخِرِ مَا قُلْنَا كَيَدِ أُمِّي أَوْ جَنْبِهَا إلَخْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا لِانْتِفَائِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَمَسُّهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ يَدُك أَوْ رِجْلُك إلَخْ عَلَيَّ كَيَدِهَا أَوْ كَرِجْلِهَا إلَخْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا لِانْتِفَائِهِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ، وَإِذَا أُحْكِمَتْ مُلَاحَظَةُ الْأَصْلَيْنِ
لِأَنَّهُنَّ فِي التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ كَالْأُمِّ (وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ رَأْسُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فَرْجُك أَوْ وَجْهُك أَوْ رَقَبَتُك أَوْ نِصْفُك أَوْ ثُلُثُك أَوْ بَدَنُك) لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الشَّائِعِ ثُمَّ يَتَعَدَّى كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ
أَخْرَجَتْ فُرُوعًا كَثِيرَةً عَنْ تَفْرِيقِ مَا جَمَعْنَاهُ مِثْلُ فَرْجُك كَفَرْجِ أُمِّي فَرْجُك كَفَخْذِ أُمِّي يَكُونُ ظِهَارًا بَطْنُك كَفَرْجِهَا لَا يَكُونُ ظِهَارًا.
وَوَجْهُ الِاعْتِبَارِ فِي الْمُشَبَّهَةِ بِكَوْنِ الْعُضْوِ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَالْجُزْءُ الشَّائِعُ مَا أَحَالَ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَةَ هُنَا كَالْمُطَلَّقَةِ هُنَاكَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ، وَفِي الْمُشَبَّهِ بِهَا بِكَوْنِ الْعُضْوِ مِمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَةِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ إلَخْ وَقَدْ تَمَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُنَّ) أَيْ أُخْتُهُ وَعَمَّتُهُ وَأُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعِ فِي التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ كَالْأُمِّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ عَمَّتِك أَوْ أُخْتِك لِأَنَّ حُرْمَتَهُمَا لَيْسَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ بَلْ مُوَقَّتَةٌ بِانْقِطَاعِ عِصْمَتِهِ لَهَا. ثُمَّ الْمُرَادُ تَأَبُّدُ الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَوْ قَالَ كَظَهْرِ مَجُوسِيَّةٍ لَا يَكُونُ ظِهَارًا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَامِعِ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ بِاعْتِبَارِ دَوَامِ الْوَصْفِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ إسْلَامِهَا، بِخِلَافِ الْأُمِّيَّةِ وَالْأُخْتِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا.
لَا يُقَالُ: يُرَدُّ عَلَى اشْتِرَاطِ تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ مَا لَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ هَذِهِ يَنْوِي الظِّهَارَ فَهُوَ مُظَاهِرٌ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَعْدَ التَّكْفِيرِ مَعَ أَنَّ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الظِّهَارِ فِي هَذِهِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِ قَوْلِهِ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِمَنْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ، فَالظِّهَارُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ وَجْهِ الشَّبَهِ الْمُرَادِ لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِ التَّشْبِيهِ بِهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةُ رَجُلٍ آخَرَ ظَاهَرَ زَوْجُهَا مِنْهَا فَقَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ فُلَانَةَ يَنْوِي ذَلِكَ صَحَّ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَفِي التُّحْفَةِ: لَوْ شَبَّهَ بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَهِيَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ فِي حَالَةٍ أُخْرَى مِثْلُ أُخْتِ امْرَأَتِهِ وَمِثْلُ امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ مُرْتَدَّةٍ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْأُمِّ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ هَذِهِ كِنَايَاتٌ فَلَا تَكُونُ ظِهَارًا وَلَا إيلَاءٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَبَعْدَ اشْتِرَاطِ تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا؟ شَرَطَهُ فِي النِّهَايَةِ لِتَخْرُجَ أُمُّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتُهَا لِأَنَّهُ لَوْ شَبَّهَهَا بِهِمَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا وَعَزَاهُ إلَى شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، لَكِنَّ الْخِلَافَ مَنْقُولٌ فِي هَذِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُظَاهِرًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَوْ قَضَى بِحِلِّهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْفُذُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُظَاهِرًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِحِلِّ نِكَاحِهَا وَعَدَمِهِ، فَظَهَرَ مِمَّا نَقَلْنَا أَنَّ مَبْنَى ثُبُوتِ الْخِلَافِ فِي الظِّهَارِ وَعَدَمَهُ لَيْسَ كَوْنُ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَوَّلًا، بَلْ كَوْنُهَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ أَوَّلًا، وَعَدَمُ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ لِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ الْغَيْرِ الْمُحْتَمَلِ لِلتَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ نَصٍّ آخَرَ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ وَإِنْ كَانَتْ الْمُعَارَضَةُ ثَابِتَةً فِي الْوَاقِعِ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ فِي كَوْنِ الْمَحِلِّ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَفِي نَفَاذِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِخِلَافِهِ، وَلِذَا فَرَّقَ فِي الْمُحِيطِ بِوُجُودِ النَّصِّ عَلَى الْحُرْمَةِ بِالْوَطْءِ وَعَدَمِهِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِبِنْتِهَا لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْوَطْءَ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَحُرْمَةَ الدَّوَاعِي غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا.
وَفِي الدِّرَايَةِ: فِي كَظَهْرِ أُخْتِي مِنْ لَبَنِ الْفَحْلِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ مَعَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، كَأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ
(وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي يَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ) لِيَنْكَشِفَ حُكْمُهُ (فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْكَرَامَةَ فَهُوَ كَمَا قَالَ) لِأَنَّ التَّكْرِيمَ بِالتَّشْبِيهِ فَاشٍ فِي الْكَلَامِ (وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِجَمِيعِهَا، وَفِيهِ تَشْبِيهٌ بِالْعُضْوِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ (وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْأُمِّ فِي الْحُرْمَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِاحْتِمَالِ الْحَمْلِ عَلَى الْكَرَامَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَكُونُ ظِهَارًا لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِعُضْوٍ مِنْهَا لَمَّا كَانَ ظِهَارًا فَالتَّشْبِيهُ بِجَمِيعِهَا أَوْلَى. وَإِنْ عَنَى بِهِ التَّحْرِيمَ لَا غَيْرُ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ إيلَاءٌ لِيَكُونَ الثَّابِتُ بِهِ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ.
فِيهَا مَعَ أَنَّ فِي حُرْمَتِهَا عُمُومَ نَصِّ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ» لَكِنَّ ذَلِكَ خُصَّ مِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الرَّضَاعِ.
وَالثَّانِي: إنَّمَا يُفِيدُ ثُبُوتَ أختية بِنْتِ الْفَحْلِ مِنْ غَيْرِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ بِالِالْتِزَامِ، وَمِثْلُهُ مَا رَأَيْت لَوْ شَبَّهَهَا بِامْرَأَتِهِ الْمُلَاعَنِ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ مَعَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى تَأَبُّدَ حُرْمَتِهَا لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ. أَمَّا إنْ أَرَادَ مَنْ أَرْضَعَهُمَا نَفْسُ الْفَحْلِ بِأَنْ نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَلَا إشْكَالَ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي إطْلَاقِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا أختية هُنَاكَ أَصْلًا. وَمِمَّا يَشْكُلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الدِّرَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْقُدُورِيِّ رحمه الله: زَنَى أَبُوهُ بِامْرَأَةٍ أَوْ ابْنُهُ فَشَبَّهَهَا بِأُمِّهَا أَوْ ابْنَتِهَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَلَا يَنْفُذُ عِنْدَهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِحِلِّهَا لَهُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا وَيَنْفُذُ حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ غَايَةَ أُمِّ مَزْنِيَّةِ الْأَبِ وَالِابْنِ أَنْ تَكُونَ كَأُمِّ زَوْجَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ، وَلَا تَحْرُمُ أُمُّ زَوْجَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ وَلَا أُمُّ زَوْجَةِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ، فَلَيْسَ التَّشْبِيهُ هُنَا بِمُحَرَّمَةٍ، وَلَوْ شَبَّهَ بِظَهْرِ أَبِيهِ أَوْ قَرِيبِهِ أَوْ بِظَهْرِ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِفَرْجِ أَبِيهِ أَوْ قَرِيبِهِ قَالَ فِي الْمُحِيطِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا لِأَنَّ فَرْجَهُمَا فِي الْحُرْمَةِ كَفَرْجِ أُمِّهِ. وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ رحمه الله: الْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ مُظَاهَرَةً مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ. وَفِي الدِّرَايَةِ: لَوْ قَالَتْ هِيَ أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي أَوْ أَنَا عَلَيْك كَظَهْرِ أُمِّك لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ عِنْدَنَا. وَفِي الْمَبْسُوطِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: هُوَ ظِهَارٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ حَكَى خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ، وَالْحَسَنُ عَلَى الْعَكْسِ، وَكَذَا فِي غَيْرِهِ. وَفِي الْيَنَابِيعِ وَالرَّوْضَةِ كَالْأَوَّلِ قَالَ: هُوَ يَمِينٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ظِهَارٌ عِنْدَ الْحَسَنِ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ أَشْرَكَ مَعَهَا أُخْرَى كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُمَا
(وَقَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي) هُنَا أَلْفَاظُ أَنْتِ أُمِّي مِثْلُ أُمِّي كَأُمِّي حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي؛ فَفِي أَنْتِ أُمِّي لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَيَنْبَغِي أَنْ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ لِأَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ تَخْتَصُّ بِهِ.
(وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي وَنَوَى ظِهَارًا أَوْ طَلَاقًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. الظِّهَارُ لِمَكَانِ التَّشْبِيهِ وَالطَّلَاقُ لِمَكَانِ التَّحْرِيمِ وَالتَّشْبِيهُ تَأْكِيدٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ،
يَكُونَ مَكْرُوهًا، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ لِزَوْجَتِهِ يَا أُخَيَّةُ مَكْرُوهٌ.
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخَيَّةُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ» وَنَحْنُ نَعْقِلُ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ هُوَ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ لَفْظِ تَشْبِيهِ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ الَّذِي هُوَ ظِهَارٌ، وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ هُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ أُمِّي أَقْوَى مِنْهُ مَعَ ذِكْرِ الْأَدَاةِ، وَلَفْظُ أُخَيَّةِ فِي يَا أُخَيَّةُ اسْتِعَارَةٌ بِلَا شَكٍّ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَفَادَ كَوْنَهُ لَيْسَ ظِهَارًا حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ حُكْمًا سِوَى الْكَرَاهَةِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ ظِهَارًا مِنْ التَّصْرِيحِ بِأَدَاةِ التَّشْبِيهِ شَرْعًا، وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا يَا بِنْتِي أَوْ يَا أُخْتِي وَنَحْوَهُ، وَفِي مِثْلِ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي يَنْوِي، فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ بَائِنًا كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَإِنْ نَوَى الْكَرَاهَةَ وَالظِّهَارَ فَكَمَا نَوَى كَمَا فِي الْكِنَايَاتِ. وَأَفَادَ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الظِّهَارِ، فَعُلِمَ أَنَّ صَرِيحَهُ يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِعُضْوٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ ظِهَارٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لِهَذَا اللَّفْظِ الظِّهَارُ لِوُجُودِ التَّشْبِيهِ بِالْبَعْضِ فِي ضِمْنِ الْكُلِّ غَيْرَ أَنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ نِيَّةُ شَيْءٍ يَصِحُّ إرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ إلَى ذَلِكَ الْمَنْوِيِّ تَصْحِيحًا لِإِرَادَتِهِ، وَجَعَلَ عَلَيَّ بِمَعْنَى عِنْدِي فِي الْكَرَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفِيدَ لِلْكَرَامَةِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَفْظُ أَنْتِ عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي، فَحِينَ لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ نِيَّةٌ عَمِلَ بِمُوجِبِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَلَهُمَا أَنْ يَمْنَعَا كَوْنَ الصَّرَاحَةِ تَثْبُتُ بِالتَّشْبِيهِ بِالْجُزْءِ حَالَ كَوْنِهِ فِي ضِمْنِ التَّشْبِيهِ بِالْكُلِّ بَلْ إذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ابْتِدَاءً، فَفِيمَا إذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِكُلِّهَا يَبْقَى مُجْمَلًا فِي حَقِّ جِهَةِ التَّشْبِيهِ، فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ مُرَادٌ مَخْصُوصٌ لَا يُحْكَمُ بِشَيْءٍ خُصُوصًا وَالْحَمْلُ عَلَى الظِّهَارِ حَمْلٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ الْمُسْلِمِ الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهَا وَلَا لَفْظٍ صَرِيحٍ فِيهَا، وَمَا أَمْكَنَ صَرْفُ تَصَرُّفَاتِهِ عَنْهَا وَجَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ التَّحْرِيمَ لَا غَيْرُ فَالْمُصَنِّفُ حَكَى فِيهِ خِلَافًا بَيْنَهُمَا وَكَذَا غَيْرُهُ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ لِأَنَّهُ بِكَافِ التَّشْبِيهِ: أَيْ أَدَاتِهِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي مِثْلِ أُمِّي وَكَأُمِّي جَمِيعًا وَاحِدٌ مُخْتَصٌّ بِالظِّهَارِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَقَدْ نَوَى مَا لَا يُنَافِيه فَإِنَّ الْحُرْمَةَ مُوجِبُ الظِّهَارَ فَيَثْبُتُ الْمَنْوِيُّ فِي ضِمْنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي الْكَلَامِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ كَوْنِهِ الْمَعْنَى الْوَضْعِيِّ عِنْدَ التَّشْبِيهِ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى الثَّابِتُ بِهِ لَا يَتَعَدَّى بِهِ الْمَنْوِيَّ وَتَحْرِيمُهَا مُطْلَقًا بِلَا ظِهَارٍ وَلَا طَلَاقٍ هُوَ الْإِيلَاءُ
وَالْوَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا
(وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً لَمْ يَكُنْ إلَّا ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ عَلَى مَا نَوَى) لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ جَمِيعًا
وَلِأَنَّ الْإِيلَاءُ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَأُمُورٍ أُخَرَ، أَمَّا السَّبَبُ وَهُوَ الظِّهَارُ نَفْسُهُ فَكَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْإِيلَاءُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَمِينٌ لَيْسَ مَعْصِيَةً بَلْ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ يَقْتَرِنُ بِهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَالْكَفَّارَةُ فِيهِ أَغْلَظُ حَيْثُ قُدِّرَ الْإِطْعَامُ بِسِتِّينَ مِسْكِينًا أَوْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا، وَالْأُمُورُ الْأُخَرُ هِيَ أَنَّ حُرْمَتَهَا فِي الْإِيلَاءِ لَا تَثْبُتُ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَالشَّرْعُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَحْنَثَ وَيَطَأَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ثُمَّ يُكَفِّرُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَعَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ عَادَتْ بِلَا إيلَاءٍ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بَلْ فِي حَقِّ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ إذَا وَطِئَ وَكَانَ الْإِيلَاءُ مُؤَبَّدًا، وَفِي الظِّهَارِ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي ثُمَّ لَا يَحِلُّ مِنْهَا شَيْءٌ آخَرُ حَتَّى يُكَفِّرَ أَوَّلًا، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ تَعُودُ بِالظِّهَارِ وَلَا تَحِلُّ مَا لَمْ يُكَفِّرْ، وَكَذَا لَوْ مَلَكَهَا بِأَنْ كَانَتْ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ لَا تَحِلُّ مَا لَمْ يُكَفِّرْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ حِينَئِذٍ ظِهَارٌ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ مُؤَكَّدٌ بِالتَّشْبِيهِ
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ بَلْ فِي مُجَرَّدِ أَنْتِ كَأُمِّي.
وَفِي أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي فَإِنَّمَا لَهُ مُحْتَمَلَانِ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ لَا الْبِرُّ لِتَصْرِيحِهِ بِالْحُرْمَةِ، فَأَيُّهُمَا أَرَادَ ثَبَتَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إيلَاءٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ، وَهَاهُنَا يُتَّجَهُ الْمَذْكُورُ آنِفًا عَنْ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي كَوْنِهِ ظِهَارًا لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ مُؤَكَّدٌ بِالتَّشْبِيهِ (قَوْلُهُ وَالْوَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا) يَعْنِي فِيمَا قَبْلَهَا: يَعْنِي قَوْلَهُ مِنْ جِهَةِ أَبِي يُوسُفَ لِيَكُونَ الثَّابِتُ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ، وَمِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ مَا ذَكَرْنَا.
وَفِي أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي خِلَافٌ، فَعِنْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا سَوَاءٌ نَوَى طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا (وَقَالَا: هُوَ عَلَى مَا نَوَى) ظِهَارًا أَوْ طَلَاقًا أَوْ إيلَاءً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَظِهَارٌ (لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ) فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ الْإِيلَاءَ يَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ كَظَهْرِ أُمِّي تَأْكِيدًا لَهُ لَا مُغَيِّرًا (غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا) مَعَهُ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا بِأَنْتِ حَرَامٌ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الظِّهَارِ بَعْدَهُ بِكَظَهْرِ أُمِّي (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ) فَقِيلَ لَا بِلَفْظِ حَرَامٌ إذْ لَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ بَلْ كُلُّ لَفْظٍ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْهُ فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنْ الْمُبَانَةِ.
وَقِيلَ بَلْ الظِّهَارُ يَقَعُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِهِ بِنِيَّتِهِ، كَمَا إذْ قَالَ مَنْ لَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِزَيْنَبِ زَيْنَبُ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت الْأُخْرَى يَقَعُ عَلَيْهِمَا فِي الْأُخْرَى بِاعْتِرَافِهِ فِي الْمَعْرُوفَةِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ فِيهِ فِي صَرْفِ النِّيَّةِ عَنْهَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فِيمَا إذَا قَالَ عَنَيْت الطَّلَاقَ عِنْدَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَضَاءِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَالْوَاقِعُ
وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ، ثُمَّ هُوَ مُحْكَمٌ فَيُرَدُّ التَّحْرِيمُ إلَيْهِ.
قَالَ (وَلَا يَكُونُ الظِّهَارُ إلَّا مِنْ الزَّوْجَةِ، حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ نِسَائِهِمْ} وَلِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْأَمَةِ تَابِعٌ فَلَا تُلْحَقُ بِالْمَنْكُوحَةِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مَنْقُولٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا طَلَاقَ فِي الْمَمْلُوكَةِ.
مَا نَوَى.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَلَوْ نَوَى الْإِيلَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إيلَاءً وَظِهَارًا بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ التَّنَافِي (قَوْلُهُ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ: أَيْ لَفْظُ كَظَهْرِ أُمِّي صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ مُحْكَمٌ فِيهِ، وَلَفْظُ حَرَامٌ مُحْتَمَلٌ فَيُرَدّ إلَيْهِ إذَا قُرِنَ مَعَهُ
(قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ) مَوْطُوءَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَوْطُوءَةٍ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ فِي الْأَمَةِ مُطْلَقًا، وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ فِي الْمَوْطُوءَةِ.
لَنَا أَنَّ النَّصَّ يَتَنَاوَلُ نِسَاءَنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ نِسَائِهِمْ} وَالْأَمَةُ وَإِنْ صَحَّ إطْلَاقُ لَفْظِ نِسَائِنَا عَلَيْهَا لُغَةً لَكِنَّ صِحَّةَ الْإِطْلَاقِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ إضَافَةِ النِّسَاءِ إلَى رَجُلٍ أَوْ رِجَالٍ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعَ الزَّوْجَاتِ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ هَؤُلَاءِ جَوَارِيه لَا نِسَاؤُهُ، وَحُرْمَةُ بِنْتِ الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ لَيْسَ لِأَنَّ أُمَّهَا مِنْ نِسَائِنَا مُرَادَةٌ بِالنَّصِّ بَلْ لِأَنَّهَا بِنْتُ مَوْطُوءَةٍ وَطْئًا حَلَالًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَبِلَا هَذَا الْقَيْدِ عِنْدَنَا، عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِالنِّسَاءِ هُنَاكَ مَا تَصِحُّ بِهِ الْإِضَافَةُ حَتَّى يَشْمَلَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وَهُنَّ الزَّوْجَاتُ، وَالْمَجَازِيُّ: أَعْنِي الْإِمَاءَ بِعُمُومِ الْمَجَازِ لَأَمْكَنَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْإِمَاءِ كَثُبُوتِهِ فِي الزَّوْجَاتِ.
أَمَّا هُنَا فَلَا اتِّفَاقَ وَلَا لُزُومَ عِنْدَنَا أَيْضًا لِيَثْبُتَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، لِأَنَّ الْإِمَاءَ لَسْنَ فِي مَعْنَى الزَّوْجَاتِ، لِأَنَّ الْحِلَّ فِيهِنَّ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ الْعَقْدِ وَلَا مِنْ الْمِلْكِ حَتَّى يَثْبُتَ مَعَ عَدَمِهِ فِي الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُوَاضَعَةِ، بِخِلَافِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُوجِبَ هَذَا التَّشْبِيهُ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ سِوَى التَّوْبَةِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِيهِ فِي حَقِّ مَنْ لَهَا حَقٌّ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ فِيهِ فَيَبْقَى فِي حَقِّهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا
(فَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ أَمْرِهَا ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَجَازَتْ النِّكَاحَ فَالظِّهَارُ بَاطِلٌ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي التَّشْبِيهِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ، وَالظِّهَارُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ، بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.
(وَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا) لِأَنَّهُ أَضَافَ الظِّهَارَ إلَيْهِنَّ فَصَارَ كَمَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ (وَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةُ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْكَفَّارَةُ لِإِنْهَاءِ الْحُرْمَةِ فَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا، بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ذِكْرُ الِاسْمِ.
فَنُقِلَ عَنْهُ إلَى تَحْرِيمٍ مُغَيَّا بِالْكَفَّارَةِ وَلَا طَلَاقَ فِي الْأَمَةِ، وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ بِشَيْءٍ لِلْمُتَأَمِّلِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي التَّشْبِيهِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ) وَالتَّشْبِيهُ إنَّمَا انْعَقَدَ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ الْمُغَيَّا حِينَ كَانَ كَذِبًا مَحْضًا فَلَا يَتَوَقَّفُ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ فَلْيَتَوَقَّفْ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ نِكَاحُهَا عَلَى الْإِجَازَةِ، فَإِنْ أَجَازَتْ ظَهْرَ أَنَّهُ كَانَ التَّشْبِيهَ الْمُمْتَنِعَ.
أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَالظِّهَارُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ بِتَوَقُّفِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ حَلَالٌ وَالظِّهَارُ حَرَامٌ فَتَنَافَيَا، بِخِلَافِ الْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ فَلَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَثْبُتُ الظِّهَارُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ، بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ مِنْ غَاصِبِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ: يَعْنِي يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ حَتَّى أَنْ يُعْتِقَ إذَا شَاءَ فَيَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِهِ وَيَنْفُذُ بِنَفَاذِهِ وَلَا يَثْبُتُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ قَالَهُ لَزِمَهُ حُكْمُهُ، فَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ بَيْعَ الْغَاصِبِ عَتَقَ
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا) بِلَا خِلَافٍ (لِأَنَّهُ أَضَافَ الظِّهَارَ إلَيْهِنَّ) فَكَانَ كَإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهِنَّ يُطَلَّقْنَ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ؛ فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِنَّ: أَيْ كُلُّ مَنْ أَرَادَ وَطْأَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ كَفَّارَةٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَعُرْوَةُ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ اعْتَبَرُوهُ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيلَاءِ
فَصْل فِي الْكَفَّارَة
قُلْنَا الْكَفَّارَةُ لِوَضْعِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِهِنَّ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ الْعَظِيمِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ذِكْرُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَرَّرَ الظِّهَارُ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ حَيْثُ تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِهِ إلَّا إنْ نَوَى بِمَا بَعْدَ الْأَوَّلِ الْأَوَّلَ تَأْكِيدًا فَيُصَدَّقُ قَضَاءً فِيهِمَا لَا كَمَا قِيلَ فِي الْمَجْلِسِ لَا الْمَجَالِسِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَوْرَدَ: لَمَّا ثَبَتَ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ حُرْمَةٌ مُوَقَّتَةٌ فَكَيْفَ تَتَكَرَّرُ الْحُرْمَةُ بِتَكْرَارِ الظِّهَارِ وَمَا هُوَ إلَّا تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ. أُجِيبَ بِالْأَوَّلِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْمُوَقَّتَةُ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْحِلِّ فَيَصِحُّ الظِّهَارُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَلَا مُنَافَاةَ فِي اجْتِمَاعِ أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ كَالْخَمْرِ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ لِعَيْنِهَا وَلِصَوْمِهِ وَلِيَمِينِهِ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ سُؤَالَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ أَنْ يُثْبِتَ بِكُلِّ سَبَبٍ حُرْمَةً كَمَا الْتَزَمَ فِي أَسْبَابِ الْحَدَثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَاتِ.
[فُرُوعٌ] لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ كَالْإِيلَاءِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْبَرَامِكَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لَنَا وَ {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنَّا، وَإِلْحَاقُهُ بِالْقِيَاسِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ جِنَايَةٌ حُكْمُهَا تَحْرِيمٌ يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ، وَشِرْكُ الْكَافِرِ يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ أَثَرِ الْجِنَايَةِ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ حَتَّى اُشْتُرِطَتْ النِّيَّةُ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْ الْكَافِرِ فَيَبْقَى تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَهُوَ غَيْرُ حُكْمِهِ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا عَلَى رَأْيِكُمْ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِلْكِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِلْغَاءِ قَيْدِ الْإِيمَانِ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ النَّصِّ فَيَكُونُ خِلَافَ الْكَفَّارَةِ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ كَإِلْغَائِهِ فِي {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} وَمَا أُجِيبَ مِنْ أَنَّهَا عِبَادَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عُقُوبَةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ يُقَالُ عَلَيْهِ إنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ اتِّفَاقًا فَلَزِمَ كَوْنُهَا عِبَادَةً. وَمَا دَفَعَ بِهِ مِنْ أَنَّ افْتِقَارَهَا إلَيْهَا كَافْتِقَارِ الْكِنَايَاتِ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ عِبَادَةً مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ بِلَا جَامِعٍ، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْكِنَايَاتِ إلَيْهَا لِيَتَعَيَّنَ بِهِ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَاتِ وَهُوَ الطَّلَاقُ عَنْ غَيْرِهِ، وَافْتِقَارُ الْكَفَّارَةِ لِتَقَعَ عِبَادَةً وَإِلَّا فَلِمَاذَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ أَجَازَ إيلَاءَ الْكَافِرِ خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ أَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ أَمْرَانِ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِتَقْدِيرِ الْبَرِّ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ الِاسْمِ الْكَرِيمِ وَيَصُونُونَهُ فَيَنْعَقِدُ مِنْهُمْ نَظَرًا إلَى ذَلِكَ وَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِتَقْدِيرِ الْحِنْثِ، فَلَوْ فُرِضَ مِنْهُمْ الْحِنْثُ بِالْوَطْءِ انْتَفَى حُكْمُ الْبَرِّ وَتَعَذَّرَ التَّكْفِيرُ
وَلَوْ ظَاهَرَ وَاسْتَثْنَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا ثُمَّ كَفَّرَ إنْ كَفَّرَ فِي يَوْمِ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ ظَاهَرَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا صَحَّ تَقْيِيدُهُ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَوْ عَلَّقَ الظِّهَارَ بِشَرْطٍ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي الْعِدَّةِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى مَا سَلَفَ. وَيَصِحُّ بِشَرْطِ النِّكَاحِ، فَإِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَتَزَوَّجَهَا لَزِمَهُ حُكْمُ الظِّهَارِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فِي رَجَبَ وَرَمَضَانَ وَكَفَّرَ فِي رَجَبَ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا، وَلَوْ ظَاهَرَ فَجُنَّ ثُمَّ أَفَاقَ فَهُوَ عَلَى حُكْمِ الظِّهَارِ وَلَا يَكُونُ عَائِدًا بِالْإِفَاقَةِ خِلَافًا لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ.
(فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ)
قَالَ (وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ عِتْقُ رَقَبَةٍ) فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْكَفَّارَةَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. قَالَ (وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَسِيسِ) وَهَذَا فِي الْإِعْتَاقِ، وَالصَّوْمُ ظَاهِرٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي الْإِطْعَامِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ مَنْهِيَّةٌ لِلْحُرْمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا عَلَى الْوَطْءِ لِيَكُونَ الْوَطْءُ حَلَالًا قَالَ (وَتَجْزِي فِي الْعِتْقِ الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ) لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى هَؤُلَاءِ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّاتِ الْمَرْقُوقِ الْمَمْلُوكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ،
قَوْلُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ) أَيْ إعْتَاقُهَا، فَإِنَّهُ لَوْ وَرِثَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ فَنَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ مُقَارِنًا لِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ لَا يَجْزِيه عَنْهَا (قَوْلُهُ وَكَذَا فِي الْإِطْعَامِ) يَعْنِي يَجِبُ كَوْنُهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ كَأَخَوَيْهِ، وَالنَّصُّ لَا يُوجِبُ بِلَفْظِهِ ذَلِكَ فِيهِ فَعَلَّلَهُ وَأَلْحَقَهُ بِهِمَا. وَحَاصِلُهُ عَقْلِيَّةٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مَنْهِيَّةٌ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى إيجَادِهِمَا قَبْلَ التَّمَاسِّ، وَهَذَا كَفَّارَةُ مِثْلِهِمَا فَيَجِبُ كَوْنُهُ قَبْلَ التَّمَاسِّ، وَمَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحِ مِنْ «قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي وَاقَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ اعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ» مُطْلَقٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَيَجِبُ إجْرَاؤُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ. لَا يُقَالُ هَذَا كُلُّهُ يَتَرَاءَى أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى إطْلَاقِ النَّصِّ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ التَّحْرِيرَ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَقَالَ
وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي الْكَافِرَةِ وَيَقُولُ: الْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى عَدُوِّ اللَّهِ كَالزَّكَاةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ، وَقَصْدُهُ مِنْ الْإِعْتَاقِ التَّمَكُّنُ مِنْ الطَّاعَةِ ثُمَّ مُقَارَفَتُهُ الْمَعْصِيَةَ يُحَالُ بِهِ إلَى سُوءِ اخْتِيَارِهِ
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} .
ثُمَّ أَعَادَ الْقَيْدَ الْمَذْكُورَ مَعَ الصِّيَامِ فَقَالَ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ثُمَّ أَطْلَقَ الْإِطْعَامَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} فَلَوْ أُرِيدَ التَّقْيِيدُ فِي الْإِطْعَامِ لَذُكِرَ كَمَا ذُكِرَ فِيهِمَا بَلْ تَخْصِيصُهُ بِالْإِطْلَاقِ بَعْدَمَا نَصَّ عَلَى تَكْرِيرِ الْقَيْدِ مَعَ التَّخْصِيصِ غَيْرُ مُكْتَفًى بِهِ لِتَقْيِيدِهِ فِي التَّحْرِيرِ قَرِينَةً عَلَى قَصْدِ الْإِطْلَاقِ فِيهِ، وَمَا قِيلَ ذَكَرَهُ مَرَّتَيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى إرَادَةِ تَكَرُّرِهِ مُطْلَقًا إذْ هُوَ دُفِعَ لِتَوَهُّمِهَا اخْتِصَاصَهُ بِالْخَصْلَةِ الْأُولَى لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مَعَهَا وَلِتَوَهُّمِ اخْتِصَاصِهِ بِالْأَخِيرَةِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مَعَهَا وَلِلتَّطْوِيلِ لَوْ أَعَادَ مَعَهَا بَعْدَهُمَا فَكَلَامُهُ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قَوَانِينِ الِاسْتِدْلَالِ بَلْ هُوَ تَحْسِينٌ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَخْصِيصَهُ بِالْإِطْلَاقِ بَعْدَ تَكْرِيرِ الْقَيْدِ مَعَ أَخَوَيْهِ ظَاهِرٌ فِي إرَادَةِ انْفِرَادِهِ عَنْهُمَا بِمَعْنَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوَاعِدِ إلَّا إنْ تَحَقَّقَ فِيهِ إجْمَاعٌ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ.
وَالثَّابِتُ فِيهِ الْآنَ قَوْلَانِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. لِأَنَّا نَقُولُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ افْتِرَاضُ الْإِطْعَامِ شَرْطًا لِحِلِّ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا مُطْلَقًا وَقَدْ جَرَيْنَا عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَمْ نُقَيِّدْ اشْتِرَاطَهُ لِلْحِلِّ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَيَكُونُ زِيَادَةً بَلْ أَوْجَبْنَا ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْإِلْحَاقِ بِالْخَصْلَتَيْنِ فِي وُجُوبِ التَّقْدِيمِ لَا فِي اشْتِرَاطِهِ لِلْحِلِّ، وَالْأَصْلُ وَإِنْ كَانَ الِافْتِرَاضُ فَالْمُتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ مِنْهُ الْوُجُوبُ. لَا يُقَالُ حِينَئِذٍ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَصْفُ الَّذِي زَادَ بِهِ الْفَرْضُ عَلَى الْوُجُوبِ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْإِيجَابُ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ثُبُوتُهُ قَطْعِيًّا سُمِّيَ فَرْضًا، وَلَيْسَ كَيْفِيَّةُ الثُّبُوتِ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْحُكْمِ بَلْ جُزْءَ مَفْهُومِ لَفْظِ الْفَرْضِ تَأَمَّلْ، وَعَمَّا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ لِلْحِلِّ وَاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَرُبَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الصَّوْمِ يَسْتَأْنِفُ، وَلَوْ قَرُبَهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَا يَسْتَأْنِفُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الصِّيَامَ بِكَوْنِهِ قَبْلَ التَّمَاسِّ وَأَطْلَقَ فِي الْإِطْعَامِ، وَلَا يُحْمَلُ الْإِطْعَامُ عَلَى الصِّيَامِ لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْحَادِثَةُ.
(قَوْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) مُتَّصِلٌ بِالْمَرْقُوقَةِ فَلِذَا لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرَهُ لَا يَجْزِيه عَنْهَا، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا وَعَنْ ذَلِكَ يَصِحُّ إعْتَاقُ الرَّضِيعِ لِصِدْقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ الْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى) الْمَشْهُورُ بِنَاءُ الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوْ لَا؟ فَعِنْدَهُ نَعَمْ وَعِنْدَنَا لَا، إلَّا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ ذَلِكَ لُزُومًا عَقْلِيًّا، إذْ الشَّيْءُ لَا يَكُونُ نَفْسَهُ مَطْلُوبًا إدْخَالُهُ فِي الْوُجُودِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا كَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَرَدَ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِالتَّتَابُعِ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِمِثْلِهَا وَلِلْكَلَامِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ فَمِنْ غَيْرِ هَذَا، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى أَصْلِهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي كَفَّارَةِ الْأَمْرِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْقَتْلُ ثُبُوتُ مِثْلِهِ فِيمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ لِيَكُونَ التَّقْيِيدُ فِيهِ بَيَانًا فِي الْمُطْلَقِ. وَتَقْرِيرُ مَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَهِيَ الْإِعْتَاقُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى عَدُوِّ اللَّهِ، إذْ الْإِعْتَاقُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَتَحَقَّقُ أَثَرُهُ لَهُ وَهُوَ الْعِتْقُ كَالزَّكَاةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ
(وَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ وَلَا الْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ) لِأَنَّ الْفَائِتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الْبَصَرُ أَوْ الْبَطْشُ أَوْ الْمَشْيُ وَهُوَ الْمَانِعُ، أَمَّا إذَا اخْتَلَّتْ الْمَنْفَعَةُ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ، حَتَّى يُجَوِّزَ الْعَوْرَاءَ وَمَقْطُوعَةَ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَإِحْدَى الرِّجْلَيْنِ مِنْ خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَا فَاتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ بَلْ اخْتَلَّتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا مَقْطُوعَتَيْنِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِفَوَاتِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ إذْ هُوَ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ، وَيَجُوزُ الْأَصَمُّ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ، لِأَنَّ الْفَائِتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْفَعَةِ بَاقٍ، فَإِنَّهُ إذَا صِيحَ عَلَيْهِ سَمِعَ حَتَّى لَوْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا بِأَنْ وُلِدَ أَصَمَّ وَهُوَ الْأَخْرَسُ لَا يَجْزِيه (وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعُ إبْهَامَيْ الْيَدَيْنِ) لِأَنَّ قُوَّةَ الْبَطْشِ بِهِمَا فَبِفَوَاتِهِمَا يَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ (وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ) لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعَقْلِ
إطْلَاقَ النَّصِّ إلَّا إذَا كَانَ مَانِعًا عَقْلِيًّا مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِحْسَانِ وَالتَّمْلِيكِ تَصَدُّقًا عَلَى الْكَافِرِ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ» وَالِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْلَا أَنَّ مَقْصُودَ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَحْصُلُ بِذَلِكَ لَمْ تُشَرَّعْ أَصْلًا، وَلَا يَزِيدُ الْفَرْضُ عَلَى كَوْنِهِ قُرْبَةً إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ، وَلَا يَظْهَرُ لِوَصْفِ الْمَأْمُورِيَّةِ أَثَرٌ فِي مُنَافَاةِ كَوْنِ مَحَلِّهِ كَافِرًا بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَلَوْلَا النَّصُّ الَّذِي يَخُصُّ الزَّكَاةَ لَقُلْنَا بِجَوَازِ دَفْعِهَا لِفُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ يَحْصُلُ لَا بِخُصُوصِ مَحَلِّ فِعْلِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يُعْتِقُهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ بِالْإِسْلَامِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ تَخْلِيصِهِ مِنْ رَقَبَةِ الرِّقِّ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ افْتِرَاقُهُ هُوَ الْكُفْرُ لِسُوءِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَظَهَرَ ثُبُوتُ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِعْتَاقِهِ. هَذَا وَيَدْخُلُ فِي الْكَافِرَةِ الْمُرْتَدُّ وَالْمُرْتَدَّةُ، وَلَا خِلَافَ فِي إعْتَاقِ الْمُرْتَدَّةِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، وَإِعْتَاقُ الْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِعْتَاقُ الْمُسْتَأْمَنِ يَجْزِيه.
(قَوْلُهُ وَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ إلَخْ) الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ كَامِلَ الرِّقِّ مَقْرُونًا
فَكَانَ فَائِتَ الْمَنَافِعِ (وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يَجْزِيه) لِأَنَّ الِاخْتِلَالَ غَيْرُ مَانِعٍ، وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْحُرِّيَّةَ بِجِهَةٍ فَكَانَ الرِّقُّ فِيهِمَا نَاقِصًا، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ الَّذِي أَدَّى بَعْضَ الْمَالِ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ يَكُونُ بِبَدَلٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْزِيه لِقِيَامِ الرِّقِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِهَذَا تَقْبَلُ الْكِتَابَةُ الِانْفِسَاخَ، بِخِلَافِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَالتَّدْبِيرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الِانْفِسَاخَ، فَإِنْ أَعْتَقَ مُكَاتَبًا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا جَازَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. لَهُ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْحُرِّيَّةَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ فَأَشْبَهَ الْمُدَبَّرَ. وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ
بِالنِّيَّةِ، وَجِنْسُ مَا يَبْتَغِي مِنْ الْمَنَافِعِ بِلَا بَدَلٍ، فَظَهَرَ أَنَّ اخْتِلَالَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا يَضُرُّ وَلَا ثُبُوتُ الْعَيْبِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْجِنْسِ الْمَنْفَعَةَ تَصِيرُ الرَّقَبَةُ فَائِتَةً مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ نُقْصَانِهَا، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فَوَاتَ الزِّينَةِ عَلَى الْكَمَالِ مَعَ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوهُ فِي الدِّيَاتِ فَأُلْزِمُوا بِقَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ تَمَامَ الدِّيَةِ، وَجَوَّزُوا هُنَا عِتْقَ مَقْطُوعِهِمَا إذَا كَانَ السَّمْعُ بَاقِيًا، وَمِثْلُهُ فِيمَنْ حُلِقَتْ لِحْيَتُهُ فَلَمْ تَنْبُتْ لِفَسَادِ الْمَنْبَتِ، وَمَا عَلَّلُوا بِهِ فِي جَعْلِ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ مِنْ الْفَائِتِ مَنْفَعَةَ النَّسْلِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمَمَالِيكِ يُعَلَّلُ بِهِ فِي فَوَاتِ الزِّينَةِ عَلَى الْكَمَالِ، لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمَرْقُوقُ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ بَلْ الْحُرُّ، فَعَنْ هَذَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالدِّيَةِ فِيهِ، وَتَجُوزُ الرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ وَالْعَوْرَاءُ وَالْعَمْشَاءُ وَالْغَشْوَاءُ وَالْبَرْصَاءُ وَالرَّمْدَاءُ وَالْخُنْثَى، لَا مَقْطُوعُ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ إحْدَى كُلٍّ مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَجُوزُ مِنْ خِلَافٍ.
أَمَّا مَقْطُوعُ إبْهَامَيْ الْيَدَيْنِ فَلِمَا فِي الْكِتَابِ، وَمِثْلُهُ مَقْطُوعُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ غَيْرَ الْإِبْهَامَيْنِ مِنْ كُلِّ يَدٍ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ كَالْكُلِّ وَيَجُوزُ مَقْطُوعُ إصْبَعَيْنِ غَيْرَ الْإِبْهَامِ مِنْ كُلِّ يَدٍ لَا سَاقِطُ الْأَسْنَانِ الْعَاجِزُ عَنْ الْأَكْلِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ الْمُطْبَقُ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ كُلَّهَا فِي حَقِّهِ فَائِتَةٌ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا إنَّمَا هُوَ بِالْعَقْلِ وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَيَجْزِي عِتْقُهُ أَطْلَقَهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُرَادُ إذَا أَعْتَقَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَفِي الْأَصَمِّ رِوَايَتَانِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَمَحْمَلُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ: الْأَصَمُّ الَّذِي وُلِدَ أَصَمَّ وَهُوَ الْأَخْرَسُ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَمَحْمَلُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الَّذِي إذَا صِيحَ عَلَيْهِ يَسْمَعُ.
وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ قُضِيَ بِدَمِهِ عَنْ ظِهَارِهِ ثُمَّ عَفَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ.
وَفِي التَّجْنِيسِ: مِنْ عَلَامَةِ عُيُونِ الْمَسَائِلِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مَرِيضًا عَنْ ظِهَارِهِ إنْ كَانَ يُرْجَى وَيُخَافُ عَلَيْهِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرْجَى لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ مَعْنَى هَذَا وَقَدْ مَنَعَ فَوَاتَ لُزُومِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِقَطْعِ الْإِبْهَامَيْنِ بَلْ اللَّازِمُ اخْتِلَالُهَا وَلَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَوَجَبَ بِقَطْعِهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ، لَكِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَعْتَبِرْهُمَا إلَّا كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَصَابِعِ، وَأَيْضًا رَتَّبَ عَلَى الدَّلِيلِ نَتِيجَةً لَا يَسْتَلْزِمُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ فَوَاتَ قُوَّةِ الْبَطْشِ لَيْسَتْ لَازِمَةً وَلَا عَنْهُ فَوَاتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَلْ ضَعْفُهَا (وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ) وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا لَا الَّذِي أَدَّى بَعْضَ الْكِتَابَةِ وَالشَّافِعِيُّ مَنَعَهُ، وَأَلْحَقَ الْمُكَاتَبَ بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِجَامِعِ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ فَأَشْبَهَ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ فَنَقَصَ الرِّقُّ فِيهِ كَمَا نَقَصَ فِيهِمَا بَلْ هُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ فِي حُرٍّ عَتَقَ مُدَبَّرَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ، وَلَا يَعْتِقُ مُكَاتَبَهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَدَلَّ أَنَّهُ أَنْقَصُ رِقًّا مِنْهُمَا وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُكُمْ الْكِتَابَةُ إنَّمَا
دِرْهَمٌ " وَالْكِتَابَةُ لَا تُنَافِيه فَإِنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ بِعِوَضٍ فَيَلْزَمُ مِنْ جَانِبِهِ، وَلَوْ كَانَ مَانِعًا يَنْفَسِخُ مُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ إذْ هُوَ يَحْتَمِلُهُ، إلَّا أَنَّهُ تَسْلَمُ لَهُ الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ
اقْتَضَتْ فَكَّ الْحَجْرِ لَا غَيْرَ كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَاسْتَبَدَّ الْمَوْلَى بِفَسْخِهَا كَالْمَنْعِ مِنْ التِّجَارَةِ.
وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لَنَا فِي الْمُدَبَّرِ، فَإِنَّ عِنْدَهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَإِعْتَاقُهُ جَائِزٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَنَا، وَفِي أُمِّ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهِ الْإِثْبَاتِ لِنَفْسِهِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْق بِجِهَةٍ تَقْبَلُ الْفَسْخَ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِهَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الرِّقِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَهُوَ الْحَاصِلُ هُنَا، فَإِنَّ حَاصِلَ الْكِتَابَةِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، وَلَوْ عُلِّقَ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ لَمْ يَلْزَمْ نُقْصَانُ الرِّقِّ فَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ سَائِرَ التَّعْلِيقَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِخِلَافِ هَذَا، وَلَوْلَا ثُبُوتُ النَّصِّ الْمُفِيدِ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لَمْ يَتَبَيَّنْ نُقْصَانُ الرِّقِّ فِيهِمَا لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِيهِمَا أَيْضًا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ.
وَلَوْ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ لَمَا تُصَوِّرَ فَسْخُهُ وَإِعَادَتُهُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ نُقْصَانَ الرِّقِّ بِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِقَدْرِهِ وَثُبُوتِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ كَثُبُوتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا مَا يُقَالُ حَقُّ الْعِتْقِ كَحَقِيقَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي حَقِّهِمَا بِجِهَةٍ لَازِمَةٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْكِتَابَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ فَكَّ الْحَجْرِ فِي الْمَكَاسِبِ، وَذَا لَا يُمْكِنُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ إذْ الْمَكَاسِبُ غَيْرُ الرَّقَبَةِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْءٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
الْمُرَادُ بِهِ كَامِلٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالرِّقِّ، وَإِنَّمَا يَسْتَبِدُّ الْمَوْلَى بِفَسْخِهِ لِأَنَّهُ بِبَدَلٍ فَانْعَقَدَ لَازِمًا عَلَى الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ فُكَّ بِلَا بَدَلٍ وَعَدَمُ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ فِي كُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، لَكِنَّ نُقْصَانَ الْمِلْكِ لَا يَسْتَلْزِمُ نُقْصَانَ الرِّقِّ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمِلْكِ أَعَمُّ مِنْ مَحَلِّ الرِّقِّ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيمَا لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الرِّقِّ فِيهِ كَالْأَمْتِعَةِ، وَالْحَيَوَانِ غَيْرَ الْآدَمِيِّ، فَفِي الْعَبْدِ رِقٌّ فِي رَقَبَتِهِ وَمِلْكٌ يُحَاذِيه فِيهَا وَيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا مِنْ مَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ وَالْكِتَابَةُ أَوْجَبَتْ الْفَكَّ فِي حَقِّ مَا يَزِيدُ عَلَى الرَّقَبَةِ وَهُوَ مَحَلُّ الْمِلْكِ لَا الرِّقِّ فَنَقَصَ بِهَا الْمِلْكُ لَا الرِّقُّ، وَلَكِنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الرِّقَّ لِأَنَّهُ لَوْ دَارَ مَعَ الْمِلْكِ ثَبَتَ فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ أَيْضًا فَكَانَ حِينَئِذٍ كَشَرْعِ السَّائِبَةِ وَلَا مُوجِبَ لِنُقْصَانِهِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمُزَحْزِحِ.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يُسَلِّمَ لَهُ الْأَكْسَابَ إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ عِتْقُهُ حَيْثُ وَقَعَ إنَّمَا يَقَعُ شَرْعًا بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ عَيَّنَ السَّيِّدُ جِهَةَ التَّكْفِيرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ لَهُ الْأَكْسَابَ وَالْأَوْلَادَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ أَجَابَ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمُكَاتَبِ وَاحِدٌ
بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ، أَوْ لِأَنَّ الْفَسْخَ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ
(وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَنْوِي بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ جَازَ عَنْهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِيك فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ مُوسِرٌ وَضَمِنَ قِيمَةَ بَاقِيه لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا
وَالْإِعْتَاقُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى تَخْتَلِفُ جِهَاتُهُ، فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُكَاتَبِ جَعَلَ هَذَا ذَلِكَ الْعِتْقَ لِكَوْنِهِ مُتَّحِدًا، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى جُعِلَ إعْتَاقًا بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا وَهَبَتْ الصَّدَاقَ لِلزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَجَعَلَ هِبَتَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الزَّوْجِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، وَفِي حَقِّهَا يُجْعَلُ تَمْلِيكًا بِهِبَةٍ مُبْتَدَأَةٍ، وَحَقِيقَةُ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا إذَا حَصَلَ عَيْنُ الْمَقْصُودِ فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، فَفِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ نَفْسُ حَقِّهِ لَيْسَ إلَّا بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَقَدْ حَصَلَ فَلَا يُبَالَى بِكَوْنِهِ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ هُنَا عَيْنُ حَقِّ الْمُكَاتَبِ لَيْسَ إلَّا عِتْقُهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَقَدْ حَصَلَ عَيْنُهُ.
الثَّانِي: انْفِسَاخُ الْكِتَابَةِ ضَرُورِيٌّ، إذْ هُوَ ضَرُورَةُ تَصْحِيحِ عِتْقِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ عَاقِلٍ مُسْلِمٍ فِيمَا فِيهِ مَانِعٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ جَوَازِ التَّحْرِيرِ لِلتَّكْفِيرِ لَا فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الرِّضَا فِيهِمَا فَيُعْتَقُ فِي حَقِّهِمَا مُكَاتَبًا فَتُسَلَّمُ لَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَتَقَ مُكَاتَبًا كَوْنُ عِتْقِهِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَإِلَّا لَتَقَرَّرَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ إذْ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْبَدَلِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَنْوِي بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ جَازَ عَنْهَا) هَذَا فِي الشِّرَاءِ، أَمَّا لَوْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا فَنَوَى الْكَفَّارَةَ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ صَحَّ.
الْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بِصُنْعٍ مِنْهُ إنْ نَوَى عِنْدَ صُنْعِهِ أَنْ يَكُونَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَنَوَى كَوْنَ الْعِتْقِ وَقْتَ دُخُولِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ نَوَاهُ وَقْتَ الْيَمِينِ جَازَ
(قَوْلُهُ وَضَمِنَ قِيمَةَ بَاقِيه) يَعْنِي أَعْتَقَ ذَلِكَ الْبَاقِي أَيْضًا (لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) بِنَاءً عَلَى تَجْزِيءِ الْإِعْتَاقِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِعْتَاقُ نِصْفِهِ إعْتَاقُ كُلِّهِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَيَمْلِكُهُ فَصَارَ مُعْتِقًا كُلَّهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِلْكُهُ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ،
لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالضَّمَانِ فَصَارَ مُعْتِقًا كُلَّ الْعَبْدِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِلْكُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ يَنْتَقِصُ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ الْكَفَّارَةَ
(فَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه عَنْهَا جَازَ) لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِكَلَامَيْنِ وَالنُّقْصَانُ مُتَمَكِّنٌ عَلَى مِلْكِهِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَانِعٍ، كَمَنْ أَضْجَعَ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَصَابَ السِّكِّينُ عَيْنَهَا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ النُّقْصَانَ تَمَكَّنَ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ
وَلَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا فَيَكُونُ عِتْقًا بِبَدَلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْبَدَلُ حَاصِلًا لِلْمُعْتِقِ بَلْ هُوَ لِلشَّرِيكِ الْمَقْصُودِ أَنَّهُ لَزِمَ الْعَبْدَ بَدَلٌ فِي مُقَابَلَةِ تَحْرِيرِ رَقَبَتِهِ.
وَعِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَإِنَّمَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَنِصْفُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ رَقَبَةً وَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لِتَعَذُّرِ اسْتِدَامَةِ الرِّقِّ فِيهِ فَصَارَ كَأُمِّ الْوَلَدِ بَلْ أَشَدَّ لِأَنَّ عِتْقَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ هَذَا، وَهَذَا النُّقْصَانُ وَقَعَ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ ثُمَّ بِالضَّمَانِ مَلَكَهُ نَاقِصًا، وَمِثْلُهُ يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ كَالتَّدْبِيرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا إلَّا شَيْئًا مِنْهُ،
بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَإِنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَهُ ثُمَّ نِصْفَهُ بَعْدَ كَوْنِ الْكُلِّ عَلَى مِلْكِهِ فَتَمَكَّنَ النُّقْصَانُ عَلَى مِلْكِهِ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ فَيَجُوزُ، كَمَنْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا أُضْحِيَّةً فَأَصَابَتْ السِّكِّينُ عَيْنَهَا فَاعْوَرَّتْ
فَإِنْ قِيلَ: الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ نَصِيبَ السَّاكِتِ مِلْكٌ لَلْمُعْتِق زَمَانَ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ إذْ ذَاكَ لَا نُقْصَانَ فِيهِ.
قُلْنَا: الْمِلْكُ إنَّمَا يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا فِي حَقِّ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ لَهُ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَيَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي نَصِيبِ السَّاكِتِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا وَالْكَفَّارَةُ غَيْرُهُمَا فَلَمْ تَجُزْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعَيُّبَ ضَرُورَةَ إقَامَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ كَالتَّعَيُّبِ بِصُنْعِهِ مُخْتَارًا، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ عَيْنَ الشَّاةِ مُخْتَارًا عِنْدَ الذَّبْحِ نَقُولُ لَا يَجْزِيه، فَكَانَ الْمُشْتَرِكُ أَوْلَى بِالْإِجْزَاءِ مِنْ الْعَبْدِ الْمُخْتَصِّ.
لِأَنَّ مَالِكَ
وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْإِعْتَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِعْتَاقُ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ فَلَا يَكُونُ إعْتَاقًا بِكَلَامَيْنِ.
(وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَشَرْطُ الْإِعْتَاقِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ بِالنَّصِّ، وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ حَصَلَ بَعْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا إعْتَاقُ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ فَحَصَلَ الْكُلُّ قَبْلَ الْمَسِيسِ.
(وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ
النِّصْفِ لَا يَقْدِرُ عَلَى عِتْقِهِ إلَّا بِطَرِيقِ عِتْقِ نِصْفِهِ فَحَالُهُ أَشْبَهُ بِذَابِحِ الشَّاةِ مِنْ مَالِكِهِ عَلَى الْكَمَالِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي عَدَمِ مَانِعِيَّتِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْوَاجِبِ إلَّا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمَا أَطْلَقَ لَهُ الْعِتْقَ بِمَرَّةٍ وَبِمَرَّاتٍ كَانَ لَازِمُهُ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ النَّقْصُ بِسَبَبِهِ مُطْلَقًا لَا يُمْنَعُ.
وَعَنْ هَذَا بَحَثَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِجْزَاءُ فِي الصُّورَتَيْنِ، فَإِنَّ النَّقْصَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا حَصَلَ بِسَبَبِ الْعِتْقِ كَالثَّانِي، وَالْعَمْدُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ نُقْصَانٌ حُكْمِيٌّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِالضَّمَانِ يَسْتَنِدُ فَيَظْهَرُ مِلْكُهُ فِي الْكُلِّ عِنْدَ إعْتَاقِ النِّصْفِ فَيَكُونُ كَالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَسْتَنِدُ فِي حَقِّ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ لَهُ دُونَ الْكَفَّارَةِ بِأَنَّ النَّقْصَ لَمَّا كَانَ حُكْمِيًّا فَسَوَاءٌ وُجِدَ فِي مِلْكِهِ بَيْنَ إعْتَاقِ نِصْفِهِ وَإِعْتَاقِ بَاقِيه أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بَيْنَ الْإِعْتَاقَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُنَافِي كَمَالَ الرُّقْيَةِ مُنِعَ مُطْلَقًا.
وَجَوَابُهُ أَنَّ مُنَافَاةَ الْكَمَالِ لَا تَسْتَلْزِمُ مُنَافَاةَ الْإِجْزَاءِ إلَّا إذَا كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ أُهْدِرَ لِحُصُولِهِ بِسَبَبِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَضَمِنَهُ كَانَ مُشْتَرِيًا النَّاقِصَ رِقًّا مَعْنَى فَمُعْتِقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ فِي مِلْكِهِ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِهْدَارُ دُونَ الشِّرَاءِ مَعْنَى لِنَاقِصِ الرِّقِّ ثُمَّ إعْتَاقُهُ، فَحَيْثُ أُهْدِرَ كَانَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَهُ وَبَعْضَ النِّصْفِ الْآخَرِ ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيه، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ النُّقْصَانِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مُضَافًا إلَى الْكَفَّارَةِ لِعَدَمِ مِلْكِهِ لِذَلِكَ النِّصْفِ فَبَطَلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْكَفَّارَةِ
(قَوْلُهُ وَإِعْتَاقُ النِّصْفِ حَصَلَ بَعْدَهُ) فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ إعْتَاقٍ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ كَانَ إعْتَاقَ عَبْدٍ كَامِلٍ فَهُوَ بَعْدَ الْمَسِيسِ، فَلَوْ كَانَ وُقُوعُهُ بَعْدَ الْمَسِيسِ مَانِعًا مِنْ الْإِجْزَاءِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ بَعْدَهُ أَيْضًا.
قُلْنَا إنَّمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ الثَّانِي، وَبَطَلَ إعْتَاقُ ذَلِكَ النِّصْفِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لِلْحِلِّ مُطْلَقًا إعْتَاقُ كُلِّ الرَّقَبَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَمْ يُوجَدْ فَتَقَرَّرَ الْإِثْمُ بِذَلِكَ الْمَسِيسِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ اعْتِبَارُ ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْ الشَّرْطِ حَتَّى يَكْفِيَ مَعَهُ عِتْقُ النِّصْفِ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ حِينَئِذٍ لَيْسَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَيْسَ هُوَ الشَّرْطُ فَتَبْقَى الْحُرْمَةُ بَعْدَ الْمَجْمُوعِ كَمَا كَانَتْ إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَهُوَ عِتْقُ مَجْمُوعٍ بِجَمِيعِ رَقَبَةٍ
(قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ إلَخْ) فِي الْخِزَانَةِ: لَا يَصُومُ مَنْ لَهُ خَادِمٌ، بِخِلَافِ الْمَسْكَنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ: يَجُوزُ الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِ الْخَادِمِ
فَكَفَّارَتُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا شَهْرُ رَمَضَانَ وَلَا يَوْمُ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمُ النَّحْرِ وَلَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ) أَمَّا التَّتَابُعُ فَلِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَشَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَقَعُ عَنْ الظِّهَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ الْكَامِلِ.
(فَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرَيْنِ لَيْلًا عَامِدًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا اسْتَأْنَفَ الصَّوْمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَسْتَأْنِفُ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ، إذْ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ وَهُوَ الشَّرْطُ، وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطًا فَفِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ تَقْدِيمُ الْبَعْضِ وَفِيمَا قُلْتُمْ تَأْخِيرُ الْكُلِّ عَنْهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَأَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْهُ ضَرُورَةً بِالنَّصِّ،
وَاعْتَبَرَاهُ بِالْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلْعَطَشِ. وَالْفَرْقُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَاءَ مَأْمُورٌ بِإِمْسَاكِهِ لِعَطَشِهِ وَاسْتِعْمَالُهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْخَادِمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَسْكَنَ.
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ لِبَاسِهِ وَلِبَاسِ أَهْلِهِ، بِخِلَافِ الْخَادِمِ. وَفِي الْإِسْبِيجَابِيِّ: يُعْتَبَرُ الْإِعْسَارُ وَالْيَسَارُ وَقْتَ التَّكْفِيرِ: أَيْ الْأَدَاءِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أَحْمَدُ وَالظَّاهِرِيَّةُ: وَقْتَ الْوُجُوبِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ كَالْقَوْلَيْنِ. وَثَالِثُهَا يُعْتَبَرُ أَغْلَظَ الْحَالَيْنِ (قَوْلُهُ فَكَفَّارَتُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ) إنْ صَامَهُمَا بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتَا ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَإِنْ صَامَهُمَا بِغَيْرِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ صَبِيحَةَ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ
(قَوْلُهُ فَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا) كَوْنُهَا الْمُظَاهَرَ مِنْهَا قَيْدٌ فِي لُزُومِ الِاسْتِقْبَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، فَإِنَّهُ لَوْ جَامَعَ زَوْجَتَهُ الْأُخْرَى نَاسِيًا لَا يَسْتَأْنِفُ عِنْدَهُ أَيْضًا، كَمَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ لِلصَّوْمِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ التَّتَابُعُ وَلَا يَنْقَطِعُ بِالنِّسْيَانِ بِالنَّصِّ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ، بِخِلَافِ حُرْمَةِ جِمَاعِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلصَّوْمِ بَلْ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ وَتَقَدُّمُهَا عَلَى الْمَسِيسِ شَرْطُ حِلِّهَا، فَبِالْجِمَاعِ نَاسِيًا فِي أَثْنَائِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُتَقَدِّمُ فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ عِتْقِ نِصْفِ
وَهَذَا الشَّرْطُ يَنْعَدِمُ بِهِ فَيَسْتَأْنِفُ (وَإِنْ أَفْطَرَ مِنْهَا يَوْمًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَأْنَفَ) لِفَوَاتِ التَّتَابُعِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ عَادَةً.
الْعَبْدِ لِصِدْقِ كَوْنِ الْمَجْمُوع قَبْلَ التَّمَاسِّ، وَكَوْنُ السَّبَبِ النِّسْيَانُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ هَذَا الْوَاقِعِ وَعَدَمِ إفْسَادِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَتَقْيِيدُهُ لَيْلًا بِكَوْنِهِ عَامِدًا لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ جِمَاعُهَا لَيْلًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا سَوَاءٌ.
لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي وَطْءٍ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْهَا بِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ لَزِمَ الِاسْتِقْبَالُ) بِخِلَافِ مَا لَوْ أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ لِلْحَيْضِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوْ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ حَيْثُ لَا تَسْتَأْنِفُ وَتُصَلِّ قَضَاءَهَا بَعْدَ الْحَيْضِ. وَلَوْ أَفْطَرَتْ يَوْمًا قَبْلَ الْقَضَاءِ لَزِمَهَا الِاسْتِئْنَافُ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا أَيَّامُ الْحَيْضِ عَادَةً وَوُجُودُ شَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا أَيَّامُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ ثَابِتٌ عَادَةً كَشَهْرَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا نِفَاسُهَا فَلِذَا لَوْ نَفِسَتْ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ وَالْقَتْلِ اسْتَقْبَلَتْ؛ كَمَا لَوْ
(وَإِنْ ظَاهَرَ الْعَبْدُ لَمْ يَجُزْ فِي الْكَفَّارَةِ إلَّا الصَّوْمُ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ (وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ لَمْ يَجْزِهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا بِتَمْلِيكِهِ.
(وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْمُظَاهِرُ الصِّيَامَ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (وَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَسَهْلِ بْنِ صَخْرٍ:
حَاضَتْ فِي خِلَالِ صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهَا تَسْتَقْبِلُ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا حَيْضَ فِيهَا
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا بِتَمْلِيكِهِ) أَوْقَعَهُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ أَطْعَمَ الْمَوْلَى عَنْهُ أَوْ أَعْتَقَ، فَأَفَادَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَلَكَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ أَوْ يُطْعِمَ لِيَكُونَ هُوَ الْمُكَفِّرُ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ الِاخْتِيَارِ فِي أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ أَمَرَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَهُ ثُمَّ إعْتَاقُهُ عَنْهُ وَإِطْعَامُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنْ صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ إلَّا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لِأَنَّهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الزَّوْجَةِ
(قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ) أَيْ لِمَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ أَوْ كِبَرٍ (قَوْلُهُ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ غَيْرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَلَوْ دَفَعَ مَنْصُوصًا عَنْ مَنْصُوصٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ الْمَدْفُوعُ الْكَمِّيَّةَ الْمُقَدَّرَةَ مِنْهُ شَرْعًا. مِثَالُهُ دَفَعَ نِصْفَ صَاعِ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ الْبُرِّ أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعِ بُرٍّ عَنْ صَاعِ تَمْرٍ وَقِيمَتُهُ تَبْلُغُهُ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ كَانَ التَّمْرُ صَاعًا دَفَعَهُ عَنْ نِصْفِ صَاعِ بُرٍّ جَازَ. وَهَذَا لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَاهُ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي الِاعْتِبَارِ لَزِمَ إبْطَالُ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صِنْفٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، ثُمَّ إذَا فَعَلَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ لِلَّذِينَ أَعْطَاهُمْ الْقَدْرَ الْمُقَدَّرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ الَّذِي دَفَعَهُ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ اسْتَأْنَفَ فِي غَيْرِهِمْ.
لَا يُقَالُ: لَوْ كَسَا عَشْرَةَ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ثَوْبًا وَاحِدًا عَنْ الْإِطْعَامِ جَازَ عَنْهُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمْ قَدْرَ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ.
قُلْنَا: الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْكِسْوَةُ لَا الثَّوْبُ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالثَّوْبِ، فَلَمَّا لَمْ يُصِبْ كَلَا ثَوْبٍ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْمَنْصُوصَةِ: أَعْنِي الْكِسْوَةَ أَصْلًا لَا أَنَّهُ فَاعِلٌ لَهَا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ عَنْ مَنْصُوصٍ آخَرَ، إذْ لَا كِسْوَةَ إلَّا بِثَوْبٍ يَصِيرُ بِهِ مُكْتَسِيًا فَيَكُونُ فَاعِلًا غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ عَنْ الْمَنْصُوصِ (قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَسَهْلِ بْنِ صَخْرٍ) وَصَوَابُهُ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ، وَالْحَدِيثُ غَرِيبٌ عَنْهُمَا.
وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ثَلَاثِينَ صَاعًا، قَالَ: لَا أَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُعِينَنِي، فَأَعَانَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةَ عَشَرَ
«لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَفْعُ حَاجَةِ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَيُعْتَبَرُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَوْلُهُ أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ مَذْهَبُنَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ
(فَإِنْ أَعْطَى مَنًّا مِنْ بُرٍّ وَمَنَوَيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ جَازَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إذْ الْجِنْسُ مُتَّحِدٌ (وَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ ظِهَارِهِ فَفَعَلَ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ اسْتِقْرَاضٌ مَعْنًى وَالْفَقِيرُ قَابِضٌ لَهُ
صَاعًا، وَأَعَانَهُ النَّاسُ حَتَّى بَلَغَ» انْتَهَى. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ كَانَ بُرًّا لِأَنَّ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ يَجْزِي مِنْهُ صَاعٌ.
وَقَدَّمْنَا عَنْ أَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فِي حَدِيثِ «أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ، قَالَتْ امْرَأَتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: أَحْسَنْتِ» قَالَ فِيهِ: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَالْعَرَقُ مِكْتَلٌ يَسَعُ ثَلَاثِينَ صَاعًا
، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سِتِّينَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مُعَاوَنَتِهَا أَيْضًا بِعَرَقٍ آخَرَ فِي الْكَفَّارَةِ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: الْعَرَقُ زِنْبِيلٌ يَأْخُذُ عُشْرُ صَاعًا، وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ فِي أَنَّهُ كَانَ الْمُخْرَجُ تَمْرًا أَوْ بُرًّا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ قَالَ «فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا وَحْشِيَّيْنِ مَا أَمْلِكُ لَنَا طَعَامًا، قَالَ: فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَهَا» الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَيَكْفِي مَا أَثْبَتْنَاهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْبُرِّ نِصْفُ صَاعٍ، إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ فِي كَمْيَّةِ الْمُخْرَجِ فِي الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ) وَهُوَ جِنْسُ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ، بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ مَعَ الْإِطْعَامِ، وَبِخِلَافِ إعْتَاقِهِ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْجِنْسَ وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا لَكِنْ امْتَنَعَ الْإِجْزَاءُ فِيهِ لِمَانِعٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَنِصْفَا رَقَبَتَيْنِ لَيْسَا رَقَبَةً، بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةَ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ فِيهَا لَا يَمْنَعُ الْأُضْحِيَّةَ مِنْ حَيْثُ هُوَ اشْتِرَاكٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ جَوَازِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْبَدَنَةِ شَرْعًا
أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَتَحَقَّقَ تَمَلُّكُهُ ثُمَّ تَمْلِيكُهُ
(فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ قَلِيلًا كَانَ مَا أَكَلُوا أَوْ كَثِيرًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا التَّمْلِيكُ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّمْلِيكَ أَدْفَعُ لِلْحَاجَةِ فَلَا يَنُوبُ مَنَابَهُ الْإِبَاحَةُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ الْإِطْعَامُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطُّعْمِ وَفِي الْإِبَاحَةِ ذَلِكَ كَمَا فِي التَّمْلِيكِ، أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الزَّكَاةِ الْإِيتَاءُ وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْأَدَاءُ وَهُمَا لِلتَّمْلِيكِ حَقِيقَةً (وَلَوْ كَانَ فِيمَنْ عَشَّاهُمْ صَبِيٌّ فَطِيمٌ لَا يُجْزِئُهُ)
قَوْلُهُ فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ بِخُبْزٍ غَيْرِ مَأْدُومٍ إنْ كَانَ خُبْزَ بُرٍّ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْيَمِينِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْفِدْيَةِ سَوَاءٌ كَانَتَا غَدَاءً وَعَشَاءً أَوْ غَدَاءَيْنِ أَوْ عَشَاءَيْنِ بَعْدَ اتِّحَادِ السِّتِّينَ، فَلَوْ غَدَّى سِتِّينَ وَعَشَّى آخَرِينَ لَمْ يَجُزْ، وَالْمُعْتَبَرُ الْإِشْبَاعُ.
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: لَوْ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ عَشَرَةٍ أَرْبَعَةَ أَرْغِفَةٍ أَوْ ثَلَاثَةً فَشَبِعُوا أَجْزَأَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ إلَّا صَاعًا أَوْ نِصْفَ صَاعٍ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ شَبْعَانَ اخْتَلَفُوا، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ وَجَدَ إطْعَامَ عَشْرَةٍ وَقَدْ شَبِعُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ إشْبَاعُهُمْ وَهُوَ لَمْ يُشْبِعْهُمْ بَلْ أَشْبَعَ التِّسْعَةَ (قَوْلُهُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطُّعْمِ) الطُّعْمُ بِالضَّمِّ الطَّعَامُ.
لَا يُقَالُ: الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ التَّمْلِيكِ، فَلَوْ كَانَ الْحَقِيقَةُ مَا ذَكَرْتُمْ كَانَ لَفْظُ الْإِطْعَامِ مُشْتَرَكًا مُعَمَّمًا أَوْ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
لِأَنَّا نَقُولُ بِجَوَازِ التَّمْلِيكِ عِنْدَنَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَالدَّلَالَةُ لَا تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ كَمَا فِي حُرْمَةِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ مَعَ التَّأْفِيفِ، كَذَا هَذَا، فَلَمَّا نَصَّ عَلَى دَفْعِ حَاجَةِ الْأَكْلِ فَالتَّمْلِيكُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِدَفْعِ كُلِّ الْحَاجَاتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْأَكْلُ
لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي كَامِلًا، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِدَامِ فِي خُبْزِ الشَّعِيرِ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِيفَاءُ إلَى الشِّبَعِ، وَفِي خُبْزِ الْحِنْطَةِ لَا يُشْتَرَطُ الْإِدَامُ.
(وَإِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْزِهِ إلَّا عَنْ يَوْمِهِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَالْحَاجَةُ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَالدَّفْعُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا فِي الْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَأَمَّا التَّمْلِيكُ مِنْ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِدَفَعَاتٍ، فَقَدْ قِيلَ لَا يُجْزِئُهُ، وَقَدْ قِيلَ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّمْلِيكِ تَتَجَدَّدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ،
أَجْوَزُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ دَافِعٌ لِحَاجَةِ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ لَا يَجْزِيه، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَبِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ فِي مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَا يَصِيرُ هُوَ سِتِّينَ فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مُبْطِلًا لِمُقْتَضَى النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ، وَأَصْحَابُنَا أَشَدُّ مُوَافَقَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ وَلِذَا قَالُوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ عَنْ قَرِيبٍ وَهِيَ مَا إذَا مَلَّكَ مِسْكِينًا وَاحِدًا وَظِيفَةَ سِتِّينَ بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ الْمَدْفُوعُ كُلُّهُ عَنْ وَظِيفَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا إذَا رَمَى الْجَمَرَاتِ السَّبْعَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ تُحْتَسَبُ عَنْ رَمْيَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ أَنَّ تَفْرِيقَ الدَّفْعِ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَدْلُولٌ الْتِزَامِيٌّ لِعَدَدِ الْمَسَاكِينِ سِتِّينَ، فَالنَّصُّ عَلَى الْعَدَدِ أَوْلَى لِأَنَّهُ الْمُسْتَلْزِمُ، وَغَايَةُ مَا يُعْطِيه كَلَامُهُمْ أَنَّ بِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ يَتَكَرَّرُ الْمِسْكِينُ حُكْمًا فَكَانَ تَعَدُّدًا حُكْمًا، وَتَمَامُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُرَادٌ بِهِ الْأَعَمُّ مِنْ السِّتِّينَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مَجَازٌ فَلَا مَصِيرَ إلَيْهِ إلَّا بِمُوجِبٍ.
فَإِنْ قُلْت: الْمَعْنَى الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ اللَّفْظُ مَجَازًا وَيَنْدَرِجُ فِيهِ التَّعَدُّدُ الْحُكْمِيُّ مَا هُوَ؟ قُلْت: هُوَ الْحَاجَةُ بِكَوْنِ سِتِّينَ مِسْكِينًا مَجَازًا عَنْ سِتِّينَ حَاجَةٍ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا حَاجَاتِ سِتِّينَ أَوْ حَاجَاتِ وَاحِدٍ إذَا تَحَقَّقَ تَكَرُّرُهَا، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ إنَّمَا هُوَ عَدَدٌ وَمَعْدُودُهُ ذَوَاتُ الْمَسَاكِينِ مَعَ عَقْلِيَّة أَنَّ الْعَدَد مِمَّا يُقْصَدُ لِمَا فِي تَعْمِيمِ الْجَمِيعِ مِنْ بَرَكَةِ الْجَمَاعَةِ وَشُمُولِ الْمَنْفَعَةِ وَاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالدُّعَاءِ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ يَوْمِهِ
بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ.
(وَإِنْ قَرُبَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَمْ يَسْتَأْنِفْ) لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَرَطَ فِي الْإِطْعَامِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الْمَسِيسِ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ أَوْ الصَّوْمِ فَيَقَعَانِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، وَالْمَنْعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا يَعْدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ فِي نَفْسِهِ.
يَعْنِي إذَا دَفَعَ سِتِّينَ مَرَّةً لِوَاحِدٍ فِي يَوْمِ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهُ قَبْلَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ بِتَجَدُّدِ الْيَوْمِ الثَّانِي فَكَانَ إطْعَامُ الطَّاعِمِ.
أَمَّا لَوْ كَانَتْ الْمَرَّاتُ تَمْلِيكَاتٍ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قِيلَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا إلَّا عَنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحِيطِ لِأَنَّ الْمُجَوَّزَ سَدُّ الْخَلَّةِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ حَاجَةُ الطُّعْمِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِصَرْفِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَالصَّرْفُ إلَيْهِ بَعْدَهُ فِي يَوْمِهِ إطْعَامُ الطَّاعِمِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ إطْعَامًا حَقِيقَةً، وَكَالدَّفْعِ إلَى الْغَنِيِّ بِخِلَافِ الدَّفْعِ فِي كَفَّارَةٍ أُخْرَى وَدَفَعَ غَيْرَهُ مِنْ كَفَّارَةِ مِثْلِهَا لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ كَالْهَالِكِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَسَا مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشْرَةَ أَثْوَابٍ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَجُوزُ لِتَفَرُّقِ الدَّفْعِ مَعَ عَدَمِ تَجَدُّدِ الْحَاجَة إلَى الثَّوْبِ بِتَجَدُّدِ الْيَوْمِ. قُلْنَا: تَجَدُّدُ الْحَاجَةِ إلَى الثَّوْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ فِي الثَّوْبِ بِغَيْرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَأُقِيمَ مُضِيُّ الزَّمَانِ مَقَامَهَا لِأَنَّهَا بِهِ تَتَجَدَّدُ، وَأَدْنَى ذَلِكَ يَوْمٌ لِجِنْسِ الْحَاجَاتِ وَمَا دُونَهُ سَاعَاتٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا.
وَقِيلَ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ وَفَرَغَ مِنْ ذَلِكَ نُظِرَ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَالْحَاجَةُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ فَكَانَ الْمَدْفُوعُ أَوَّلًا هَالِكًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَدْفُوعِ ثَانِيًا كَمَا هُوَ هَالِكٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَافِعٍ آخَرَ وَكَفَّارَةٍ أُخْرَى، وَحِينَئِذٍ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ زَمَانٍ آخَرَ لِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إذْ الْحَالُ قِيَامُهَا، وَرُبَّمَا يُشْعِرُ اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى تَوْجِيهِ هَذَا الْقَوْلِ بِاخْتِيَارِهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَحْوَطُ.
وَنُكْتَةُ جَوَابِهِ مَنْعُ كَوْنِ التَّمْلِيكِ لِمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْإِطْعَامِ اُعْتُبِرَ ذَاتُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ بَلْ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إطْعَامٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الشَّيْءِ اُعْتُبِرَتْ فِيهِ أَحْكَامُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَأَمَّا مَا نَعْتَقِدُهُ فَعَدَمُ جَوَازِ التَّمْلِيكِ كَالْإِطْعَامِ لِوَاحِدٍ وَلَوْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ مُصَادَمَةِ النَّصِّ بِالْمَعْنَى مَعَ أَنَّهُ مَعْنًى مُعَارَضٌ بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَرُبَ الَّتِي إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْإِطْعَامِ عَلَى الْمَسِيسِ، فَإِنْ قَرُبَهَا فِي خِلَالِهِ لَمْ يَسْتَأْنِفْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَنَحْنُ لَا نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنْ كَانَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَا فِي حُكْمَيْنِ، وَالْوُجُوبُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا لِتَوَهُّمِ وُقُوعِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ التَّمَاسِّ. بَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ الصِّيَامِ فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ أَوْ قَبْلَهُ لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، فَلَوْ جُوِّزَ لِلْعَاجِزِ عَنْهُمَا الْقُرْبَانُ قَبْلَ الْإِطْعَامِ ثُمَّ اتَّفَقَ قُدْرَتُهُ فَلَزِمَ التَّكْفِيرُ بِهِ لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ بَعْدَ التَّمَاسِّ وَالْمُفْضِي إلَى الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ حَالَ قِيَامِ الْعَجْزِ بِالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْكِبَرِ وَالْمَرَضِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ أَمْرٌ مَوْهُومٌ، وَبِاعْتِبَارِ الْأُمُورِ الْمَوْهُومَةِ لَا تُثْبِتُ الْأَحْكَامَ ابْتِدَاءً بَلْ يَثْبُتُ الِاسْتِحْبَابُ، فَالْأَوْلَى الِاسْتِدْلَال بِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلَ الْفَصْلِ مِنْ النَّصِّ، وَلَا يُعَلَّلُ بِمَا ذُكِرَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ (قَوْلُهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ) هُوَ تَوَهُّمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ الصَّوْمِ لَا يُعْدِمُ
(وَإِذَا أَطْعَمَ عَنْ ظِهَارَيْنِ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ بُرٍّ لَمْ يَجْزِهِ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا، وَإِنْ أَطْعَمَ ذَلِكَ عَنْ إفْطَارٍ وَظِهَارٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا) لَهُ أَنَّ بِالْمُؤَدَّى وَفَاءً بِهِمَا وَالْمَصْرُوفُ إلَيْهِ مَحِلٌّ لَهُمَا فَيَقَعُ عَنْهُمَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ أَوْ فَرَّقَ فِي الدَّفْعِ. وَلَهُمَا أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ وَفِي الْجِنْسَيْنِ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِذَا لَغَتْ النِّيَّةُ وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ فَيَمْنَعُ النُّقْصَانَ دُونَ الزِّيَادَةِ فَيَقَعُ عَنْهُمَا كَمَا إذَا نَوَى أَصْلَ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ فِي الدَّفْعِ لِأَنَّهُ فِي الدَّفْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي حُكْمِ مِسْكِينٍ آخَرَ
الْمَشْرُوعِيَّةَ فَلَمْ تَنْعَدِمْ مَشْرُوعِيَّةُ الْكَفَّارَةِ بِالْإِطْعَامِ بِتَخَلُّلِ الْوَطْءِ
(قَوْلُهُ عَنْ ظِهَارَيْنِ) سَوَاءٌ كَانَا مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ امْرَأَتَيْنِ (قَوْلُهُ لَهُ إلَخْ) حَاصِلُ الْوَجْهِ أَنَّهُ وَجَدَ الْمُقْتَضِي لِلْوُقُوعِ عَنْهُمَا فَيَقَعُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُقْتَضِي لِلْإِجْزَاءِ عَنْهُمَا صَرْفُ الْكَمِّيَّةِ الَّتِي تُجْزِي عَنْ كَفَّارَتَيْنِ إلَى الْمَحِلِّ مَقْرُونًا بِنِيَّةِ كَوْنِهِ عَمَّا عَلَيْهِ وَالْكُلُّ ثَابِتٌ فَيَلْزَمُ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِجْزَاءُ.
وَالْجَوَابُ مَنْعُ وُجُودِ الْمُقْتَضِي، وَإِنَّمَا يُوجَدُ لَوْ كَانَتْ تِلْكَ النِّيَّةُ مُعْتَبَرَةً لَكِنَّهَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ لِأَنَّهَا إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لِتَمْيِيزِ بَعْضِ الْأَجْنَاسِ عَنْ بَعْضٍ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ لَا تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِهِ فَلَا تُعْتَبَرُ فَبَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الظِّهَارِ وَبِمُجَرَّدِهَا لَا يَلْزَمُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَكَوْنُ الْمَدْفُوعِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ لِأَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ لَا تَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَلْ النُّقْصَانُ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ الدَّفْعَ أَوْ كَانَا جِنْسَيْنِ. وَقَدْ يُقَالُ اعْتِبَارُهَا لِلْحَاجَةِ إلَى التَّمْيِيزِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِي أَشْخَاصِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْأَجْنَاسِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ أَحَدِ الظِّهَارَيْنِ بِعَيْنِهِ صَحَّ نِيَّةُ التَّعْيِينِ وَلَمْ تُلْغَ حَتَّى حَلَّ وَطْءُ الَّتِي عَيَّنَهَا، وَمِنْ الصُّوَرِ ظَنُّ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنْهَا فَأَعْتَقَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنْ غَيْرِهَا لَا يَجْزِيه، وَمِنْهَا نِيَّةُ كَفَّارَةِ عَمْرَةَ لَا يَجْزِيه عَنْ نِيَّةِ كَفَّارَةِ زَيْنَبَ، فَهُنَا أَيْضًا يَجِبُ أَنْ لَا يَلْغُوَ
(وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَا ظِهَارٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ لَا يَنْوِي عَنْ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا جَازَ عَنْهُمَا، وَكَذَا إذَا صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَطْعَمَ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِسْكِينًا جَازَ) لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى نِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ (وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْهُمَا رَقَبَةً وَاحِدَةً أَوْ صَامَ شَهْرَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارٍ وَقُتِلَ لَمْ يَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجْزِيه عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الْفَصْلَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَنْ كُلِّ ظِهَارٍ نِصْفَ الْعَبْدِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَمَا أَعْتَقَ عَنْهُمَا لِخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهِ. وَلَنَا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ
لِثُبُوتِ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ فِي نِيَّةِ الظِّهَارَيْنِ وَهُوَ حِلُّهُمَا مَعًا. أُجِيبَ بِمَا حَاصِلُهُ ادِّعَاءُ ثُبُوتِ الْمَانِعِ هُنَا وَهُوَ عَدَمُ سَعَةِ الْمَحَلِّ لِلْكَفَّارَتَيْنِ، فَإِنَّ مَحَلَّهُمَا فِي الْإِطْعَامِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِسْكِينًا، بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِعْتَاقِ، وَهَذَا يَصِيرُ أَصْلُ الْجَوَابِ تَسْلِيمُ وُجُوبِ الْمُقْتَضَى وَادِّعَاءُ الْمَانِعِ، وَهُوَ رُجُوعٌ وَانْقِطَاعٍ عَنْ طَرِيقِ الْأَوَّلِ إذْ قَدْ ظَهَرَ صِحَّةُ. اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. ثُمَّ قَدْ يُقَالُ عَلَيْهِ أَنَّ اعْتِبَارَ السِّتِّينَ مِائَةً وَعِشْرِينَ بِالنَّظَرِ إلَى كَفَّارَتَيْنِ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ اعْتِبَارِ الْوَاحِدِ سِتِّينَ فِي كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ وَظِيفَةَ الْوَاحِدِ مُسْتَهْلَكَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَفَّارَةٍ أُخْرَى فَهُوَ كَمُحْتَاجٍ آخَرَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا فَمَا دَفَعَ إلَّا مَعَ قِيَامِ الْحَاجَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَفَّارَةٍ أُخْرَى
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ لَمْ يَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) هَذَا إذَا كَانَتْ الرَّقَبَةُ مُؤْمِنَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً صَحَّ عَنْ الظِّهَارِ لِأَنَّ الْكَافِرَةَ لَا تَصْلُحُ كَفَّارَةً لِلْقَتْلِ فَتَعَيَّنَتْ لِلظِّهَارِ (قَوْلُهُ فِي الْفَصْلَيْنِ) هُمَا صُورَتَا اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ) وَهُوَ السِّتْرُ وَإِذْهَابُ أَثَرِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ (جِنْسٌ وَاحِدٌ) وَلِذَا حُمِلَ الْمُطْلَقُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْأُخْرَى (قَوْلُهُ لِخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهِ) فَإِنَّهُ وَقَعَ نَفْلًا إذْ لَا يَصِحُّ إعْتَاقُ نِصْفِ رَقَبَةٍ عَنْ كَفَّارَةٍ
فِي الْجِنْسِ الْمُتَّحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَتَلْغُو، وَفِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ مُفِيدَةٌ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ هَاهُنَا بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ. نَظِيرُ الْأَوَّلِ إذَا صَامَ يَوْمًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ عَنْ يَوْمَيْنِ يَجْزِيه عَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَنَظِيرُ الثَّانِي إذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّمْيِيزِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبِذَلِكَ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ إمْكَانُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ إحْدَاهُمَا لِأَنَّهُ بَعْدَمَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقَلِبُ إلَى غَيْرِهِ (قَوْله فَتَلْغُو) وَإِذَا لَغَتْ بَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الظِّهَارِ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ كَمَا لَوْ أَطْلَقَهَا فِي الِابْتِدَاءِ (قَوْلُهُ وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ إلَخْ) لَمَّا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاتِّحَادِهِ أَجْوِبَةُ الْمَسَائِلِ أَفَادَ مَا بِهِ اخْتِلَافٌ وَالِاتِّحَادُ، فَمَا اخْتَلَفَ سَبَبُهُ فَهُوَ الْمُخْتَلِفُ، وَمَا لَا فَالْمُتَّحِدُ، وَالصَّلَوَاتُ كُلُّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُخْتَلِفِ حَتَّى الظُّهْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ لِاخْتِلَافِ السَّبَبَيْنِ: أَعْنِي الْوَقْتَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا حُكْمًا لِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِجَمْعِهِمَا بَلْ بِالدُّلُوكِ وَهُوَ مِنْ يَوْمِ غَيْرِهِ مِنْ آخَرَ، بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِشُهُودِ الشَّهْرِ وَهُوَ وَاحِدٌ جَامِعٌ لِلْأَيَّامِ كُلِّهَا بِلِيَالِيهَا، فَكُلُّ يَوْمٍ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِصَوْمِهِ فَكَذَا شُهُودُ الشَّهْرِ، فَاجْتَمَعَ فِي وُجُوبِ صَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبَانِ: شُهُودُ الشَّهْرِ، وَخُصُوصُ الْيَوْمِ. فَبِاعْتِبَارِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ لَا يَحْتَاجُ فِي نِيَّةِ قَضَائِهِ إلَى تَعْيِينِ يَوْمِ السَّبْتِ مَثَلًا أَوْ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَشَرْطٌ فِي الصَّلَوَاتِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ يَوْمَيْ الظُّهْرَيْنِ يَنْوِي أَوَّلَ ظُهْرٍ عَلَيْهِ أَوْ آخِرَ ظُهْرٍ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَاقِطَ التَّرْتِيبِ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا شَرْطُ التَّعْيِينِ فِي الْيَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ فَيَنْوِي عَمَّا عَلَيَّ مِنْ الرَّمَضَانِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ مُطْلَقًا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِصَوْمِهِمَا بِزَمَانٍ بِجَمْعِهِمَا.
وَلَوْ نَوَى ظُهْرًا وَعَصْرًا أَوْ ظُهْرًا وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَمْ يَكُنْ شَارِعًا فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا لِلتَّنَافِي وَعَدَمِ الرُّجْحَانِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى ظُهْرًا وَنَفْلًا حَيْثُ يَقَعُ عَنْ الظُّهْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَرْجِيحًا بِالْأَقْوَى، وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَصْلًا لِلتَّنَافِي، وَلَوْ نَوَى صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالنَّفَلِ أَوْ الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ أَوْ الْحَجَّ الْمَنْذُورَ وَالتَّطَوُّعَ يَكُونُ تَطَوُّعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ النِّيَّتَيْنِ لَمَّا
بَابُ اللِّعَانِ
قَالَ (إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا
بَطَلَتَا بِالتَّعَارُضِ بَقِيَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ وَبِهَا يَصِحُّ النَّفَلُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقَعُ عَنْ الْأَقْوَى لِأَنَّ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فَلَغَتْ فَبَقِيَ نِيَّةُ الْقَضَاءِ. وَلَوْ نَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَالتَّطَوُّعَ فَهُوَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ اتِّفَاقًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَتْ الْجِهَتَانِ بِالتَّعَارُضِ بَقِيَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ وَبِهِ تَتَأَدَّى حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ نَوَى الْقَضَاءَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِتَدَافُعِ النِّيَّتَيْنِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ صَامَ مُطْلَقًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ أَقْوَى لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْقَضَاءُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَنَوَاهُ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَنَّهُ عَنْ النَّذْرِ لِأَنَّهُ نَفْلٌ فِي أَصْلِهِ، وَقَدَّمْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، وَذَكَرْنَا إلْزَامَ مُحَمَّدٍ شُرُوعَهُ فِي النَّفْلِ فِي صُورَةِ نِيَّةِ الظُّهْرِ وَالنَّفَلِ فَارْجِعْ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ هَذَا رِوَايَةً عَنْهُ فِيهِ. هَذَا وَمِمَّا يُعَكِّرُ عَلَى الْأَصْلِ الْمُمَهِّدِ مَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُنْتَقَى: لَوْ تَصَدَّقَ عَنْ يَمِينٍ وَظِهَارٍ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا اسْتِحْسَانًا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(بَابُ اللِّعَانِ)
هُوَ مَصْدَرُ لَاعَنَ سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسِيٌّ، وَالْقِيَاسُ الْمُلَاعَنَةُ، وَكَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ يَجْعَلُونَ الْفِعَالَ وَالْمُفَاعَلَةَ مَصْدَرَيْنِ قِيَاسِيَّيْنِ لِفَاعِلٍ وَهُوَ مِنْ اللَّعْنِ وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، يُقَالُ مِنْهُ الْتَعَنَ: أَيْ لَعَنَ نَفْسَهُ، وَلَاعَنَ إذَا فَاعَلَ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ رَجُلٌ لَعْنَةٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ كَثِيرَ اللَّعْنِ لِغَيْرِهِ، وَبِسُكُونِهَا إذَا لَعَنَهُ النَّاسُ كَثِيرًا. قَالَ:
وَالضَّيْفُ أُكْرِمُهُ فَإِنَّ مَبِيتَهُ
…
حَقٌّ وَلَا تَكُ لَعْنَةً لِلنُّزُلِ
وَفِي الْفِقْهِ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يَجْرِي بَيْن الزَّوْجَيْنِ مِنْ الشَّهَادَاتِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَعْرُوفَةِ، سُمِّيَ ذَلِكَ بِهِ لِوُجُودِ لَفْظِ اللَّعْنِ فِي الْخَامِسَةِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ وَلَمْ يُسَمَّ بِاسْمِ الْغَضَبِ، وَهُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِيهِ لِأَنَّهُ فِي كَلَامِهَا وَذَلِكَ فِي كَلَامِهِ وَهُوَ أَسْبَقُ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ
وَشَرْطُهُ قِيَامُ النِّكَاحِ وَمَا سَيُذْكَرُ. وَسَبَبُهُ قَذْفُهُ زَوْجَتَهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ. وَرُكْنُهُ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ. وَحُكْمُهُ حُرْمَتُهَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَأَهْلُهُ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ. (قَوْلُهُ إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا) بِأَنْ يَقُولَ أَنْتِ زَانِيَةٌ أَوْ رَأَيْتُك تَزْنِينَ أَوْ يَا زَانِيَةُ، هَذَا مَذْهَبُ
وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْمَرْأَةُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا وَطَالَبَتْهُ بِمُوجِبِ الْقَذْفِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ)
الْجُمْهُورِ، وَفِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَجِبُ بِقَوْلِهِ يَا زَانِيَةُ بَلْ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.
وَاسْتُضْعِفَ بِأَنَّ الْكُلَّ رَمَى بِالزِّنَا وَهُوَ السَّبَبُ فَلَا فَرْقَ (قَوْلُهُ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ) أَيْ مِنْ أَهْلِ أَدَائِهَا عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ، وَلَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ. وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَجْرِي بَيْنَ الْأَعْمَيَيْنِ وَالْفَاسِقَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا أَدَاءَ لَهُمَا.
وَدَفَعَ بِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِلْفِسْقِ وَلِعَدَمِ تَمْيِيزِ الْأَعْمَى بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَهُنَا هُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَامْرَأَتِهِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّ الْأَعْمَى لَا يُلَاعِنُ (قَوْلُهُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا) فَلَوْ كَانَتْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِأَنْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ وَدَخَلَ بِهَا فِيهِ أَوْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ أَوْ زَنَتْ فِي عُمُرِهَا وَلَوْ مَرَّةً أَوْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا بِشُبْهَةٍ وَلَوْ مَرَّةً لَا يَجْرِي اللِّعَانُ. وَأَوْرَدَ مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْمَرْأَةِ بِكَوْنِهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا وَهُوَ شَرْطٌ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ لَا يَجْرِي اللِّعَانُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا.
وَأَجَابَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّهِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْصَانِهَا حَتَّى يَقَعَ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ، وَعِنْدَ عَدَمِ إحْصَانِهَا قَذْفُهَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا شَيْئًا لَا حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا اللِّعَانِ، أَمَّا قَذْفُ الرَّجُلِ عِنْدَ عَدَمِ إحْصَانِهِ فَمُوجِبُ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ فَلَمْ يُخِلَّ قَذْفُهُ عِنْدَ عَدَمِ إحْصَانِهِ عَنْ مُوجِبٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَهُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ إذْ الْحَدُّ أَصْلُ اللِّعَانِ فَكَانَ فِي مَعْنَى اللِّعَانِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ، وَكَوْنُهُ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ كَالزَّانِي لَا يُخِلُّ بِهَذَا الشَّرْطِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْجِنْسِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى
لِأَنَّ اللِّعَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْفَاسِقَيْنِ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِيهَا لِتَثْبُتَ عِفَّتُهَا لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ عَفِيفًا عَنْ الزِّنَا، فَكَذَا اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ قَذْفِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ أَنْ تُطَالِبَ الْمَرْأَةُ بِمُوجَبِ الْقَذْفِ وَهُوَ الْحَدُّ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِذَلِكَ فَلَا يُتَصَوَّرُ اللِّعَانُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ هَذَا الْمَعْنَى فَلِأَيِّ مَعْنًى يَمْتَنِعُ اهـ.
الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْمَقْذُوفَةُ دُونَهُ فَاخْتُصَّتْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمَقْذُوفٍ وَهُوَ شَاهِدٌ فَاشْتُرِطَتْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ دُونَ كَوْنِهِ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ (قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ) أَيْ إنَّ الْأَصْلَ فِي اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا، وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا مَعَ ذَلِكَ عَفِيفَةً مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ، فَلِذَلِكَ اشْتَرَطْنَا أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ: أَيْ قَذْفِهِ لَهَا فَلِذَلِكَ اشْتَرَطْنَا كَوْنَهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا وَمَقَامُ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا إنْ كَانَ صَادِقًا (قَوْلُهُ عِنْدَنَا) قُيِّدَ بِهَذَا الظَّرْفِ لِيُفِيدَ الْخِلَافَ.
فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ اللِّعَانُ أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالشَّهَادَاتِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُهُ فَهُوَ أَهْلٌ لَهُ عِنْدَهُ، فَيَجِبُ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلٍ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رِوَايَةٌ كَقَوْلِنَا، وَجْهُ قَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فَقَوْلِهِ تَعَالَى " بِاَللَّهِ " مُحْكَمٌ فِي الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ تَحْتَمِلُ الْيَمِينَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَشْهَدُ يَنْوِي الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا، فَحَمَلْنَا الْمُحْتَمَلَ عَلَى الْمُحْكَمِ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ فِي الشَّرْعِ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ يَمِينِهِ، وَكَذَا الْمَعْهُودُ شَرْعًا عَدَمُ تَكَرُّرِ الشَّهَادَةِ فِي مَوْضِعٍ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ فِي الْقَسَامَةِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَحَلُّهَا الْإِثْبَاتَاتِ وَالْيَمِينُ لِلنَّفْيِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَلُّقُ حَقِيقَتِهِمَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ أَحَدِهِمَا وَمَجَازِ الْآخَرِ، فَلْيَكُنْ الْمَجَازُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُوجِبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يَقْتَضِي فِي حِلِّ مَذْهَبِهِ أَنْ يُقَالَ أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِأَيْمَانٍ لَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ.
وَلَنَا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ قَوْله تَعَالَى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} أَثْبَتَ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَجَعَلَ الشُّهَدَاءَ مَجَازًا عَنْ الْحَالِفِينَ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى: وَلَمْ يَكُنْ
{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} نَصٌّ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فَقُلْنَا الرُّكْنُ هُوَ الشَّهَادَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ قَرَنَ الرُّكْنَ فِي جَانِبِهِ بِاللَّعْنِ لَوْ كَانَ كَاذِبًا وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا بِالْغَضَبِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا،
لَهُمْ حَالِفُونَ إلَّا أَنْفُسُهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ مَنْ يَحْلِفُ لَهُمْ يَحْلِفُونَ هُمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا فَرْعُ تَصَوُّرِ حَلْفِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ حَقِيقِيًّا لِلَّفْظِ الشَّهَادَةِ كَانَ هَذَا صَارِفًا عَنْهُ إلَى مَجَازِهِ فَكَيْفَ وَهُوَ مَجَازِيٌّ لَهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَانَ إمْكَانُ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى الْيَمِينِ فَكَيْفَ وَهَذَا صَارِفٌ عَنْ الْمَجَازِ وَمَا تُوُهِّمَ صَارِفًا مِمَّا ذُكِرَ غَيْرُ لَازِمٍ قَوْلُهُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ، وَتَكَرُّرُ الْأَدَاءِ لَا عَهْدَ بِهِمَا.
قُلْنَا: وَكُلٌّ مِنْ الْحَلِفِ لِغَيْرِهِ وَالْحَلِفُ لِإِيجَابِ الْحُكْمِ لَا عَهْدَ بِهِ، بَلْ الْيَمِينُ لِدَفْعِ الْحُكْمِ، فَإِنْ جَازَ لِمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالْحُكْمِ كَيْفَمَا أَرَادَ شَرْعِيَّةَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي مَحِلٍّ بِعَيْنِهِ ابْتِدَاءً جَازَ لَهُ أَيْضًا شَرْعِيَّةُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، ثُمَّ هُمَا أَقْرَبُ فِي الْقَوْلِ لِعَقْلِيَّةِ كَوْنِ التَّعَدُّدِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَرْبَعًا بَدَلًا عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ إقَامَةِ شُهُودِ الزِّنَا وَهُمْ أَرْبَعٌ وَعَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ عِنْدَ التُّهْمَةِ وَلِذَا يَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِهَا أَعْظَمُ ثُبُوتٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُشَرَّعَ عِنْدَ ضَعْفِهَا بِوَاسِطَةِ تَأْكِيدِهَا بِالْيَمِينِ وَإِلْزَامِ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ إنْ كَانَ كَاذِبًا مَعَ عَدَمِ تَرَتُّبِ مُوجِبِهَا فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ، إذْ مُوجِبُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْآخَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ هُنَا، بَلْ الثَّابِتُ عِنْدَهُمَا مَا هُوَ الثَّابِتُ بِالْأَيْمَانِ وَهُوَ انْدِفَاعُ مُوجِبِ دَعْوَى كُلٍّ عَنْ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا عِنْدَهُمَا وَلَمْ نَقُلْ بِهِمَا لِأَنَّ هَذَا الِانْدِفَاعَ لَيْسَ مُوجِبَ الشَّهَادَتَيْنِ بَلْ هُوَ مُوجِبُ تَعَارُضِهِمَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْيَمِينُ لِلنَّفْيِ إلَى آخِرِهِ فَمَحِلُّهُ مَا إذَا وَقَعَتْ فِي إنْكَارِ دَعْوَى مُدَّعٍ وَإِلَّا فَقَدْ يَحْلِفُ عَلَى إخْبَارٍ بِأَمْرِ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّهَا عَلَى صِدْقِهِ فِي الشَّهَادَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا عَلَى مَا وَقَعَتْ الشَّهَادَةُ بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ كَمَا إذَا جَمَعَ أَيْمَانًا عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ يُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ كَوْنِهَا مُؤَكِّدَةً لِلشَّهَادَةِ، إذْ لَوْ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُهُمَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُؤَكِّدًا لِلْآخَرِ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِهَا (قَوْلُهُ قَائِمَةً مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ)
إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الشَّهَادَةُ وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْصَانِهَا، وَيَجِبُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى وَلَدَهَا صَارَ قَاذِفًا لَهَا ظَاهِرًا وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْوَطْءِ مِنْ شُبْهَةٍ، كَمَا إذَا نَفَى أَجْنَبِيٌّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّسَبِ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِهِ. فَنَفْيُهُ عَنْ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ قَذْفٌ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُلْحَقُ بِهِ
أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ زَوْجَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَا مُطْلَقًا: أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ بِالزِّنَا لَا يَجْزِيه لِعَانٌ وَاحِدٌ لَهُنَّ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُلَاعِنَ كُلًّا مِنْهُنَّ عَلَى حِدَةٍ، وَلَوْ كُنَّ أَجْنَبِيَّاتٍ فَقَذَفَهُنَّ حُدَّ وَاحِدًا لَهُنَّ.
وَسَبَبُ هَذَا الِافْتِرَاقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ لِلْكُلِّ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْهُنَّ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي اللِّعَانِ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَيَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُ الْكُلِّ فِي كَلِمَةٍ (قَوْلُهُ وَيَجِبُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ) هُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وَلَدَهُ مِنْهَا أَوْ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَيَجِبُ إرَادَةُ هَذَا الْإِطْلَاقِ.
فَقَوْلُهُ فِي الْغَايَةِ أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا الْمَوْلُودِ عَلَى فِرَاشِهِ لَا يُفِيدُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ يَكُونُ قَذْفًا لَهَا كَمَا لَوْ نَفَاهُ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ فَيَكُونُ مُوجِبُهُ اللِّعَانَ لِمَا تَلَوْنَا كَذَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ (قَوْلُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ إنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهَا بِالزِّنَا يَقِينًا لِجَوَازِ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِهِ بِوَطْءٍ بِشُبْهَةٍ لَا زِنًا.
أَجَابَ بِأَنَّهُ احْتِمَالٌ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّ النَّسَبَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ مِنْ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ لَكِنَّ الْوَاقِعَ انْتِفَاءُ ثُبُوتِهِ إلَّا مِنْ هَذَا الْفِرَاشِ الْقَائِمِ. فَإِذَا نَفَاهُ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ نَفْيًا لِثُبُوتِ نَسَبِهِ مُطْلَقًا وَيَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عَنْ زِنًا فَكَانَ قَذْفًا مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهِ احْتِمَالُ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَنْ غَيْرِ زِنًا وَلَا عِبْرَةَ بِهِ.
فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ فِيمَا إذَا صَرَّحَ بِنِسْبَةِ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا بِهِ، ثُمَّ شَبَّهَهُ بِمَا إذَا نَفَى أَجْنَبِيٌّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ: يَعْنِي فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِيهِ وَهَذَا مُصَرَّحٌ، بِخِلَافِ مَا فِي الْمُحِيطِ مِنْ أَنَّهُ إذَا نَفَى الْوَلَدَ فَقَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَمْ يَقْذِفْهَا بِالزِّنَا لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهَا بِالزِّنَا يَقِينًا لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ.
وَفِي النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ جَعَلَا هَذَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ الَّذِي وَلَدْتِيهِ مِنْ زَوْجِك لَا يَصِيرُ قَاذِفًا مَا لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مِنْ الزِّنَا
وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا لِأَنَّهُ حَقُّهَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ (فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إيفَائِهِ فَيُحْبَسُ بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ
قَالَ: وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ لِضَرُورَةٍ فِي اللِّعَانِ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَبْهَا أَوْ عَزَلَ عَنْهَا عَزْلًا بَيِّنًا وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ هُوَ: يَعْنِي فَيَحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْحِقُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ يَقِينًا وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ، وَثُبُوتُهُ فَرْعُ اعْتِبَارِهِ قَاذِفًا فَاعْتُبِرَ كَذَلِكَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
وَجَوَابُ الْفَصْلَيْنِ يُخَالِفُ جَوَابَهُمَا الْمُصَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ؛ وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِهِ قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ: وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ إلَخْ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاذِفًا بِالْإِجْمَاعِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، كَمَا فِي نَفْيِ أَجْنَبِيٍّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ، وَنَقَلَهُ مِنْ الْإِيضَاحِ وَالْمَبْسُوطِ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ كَمَا فِي النِّهَايَةِ. ثُمَّ أَوْرَدَ صُورَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ مَقِيسًا لَهُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ زَوْجِك وَلَمْ يَمْنَعْهُ فِي جَوَابِهِ بَلْ ذَكَرَ فِي جَوَابِهِ الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَمُخَالِفًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ كَالْإِيضَاحِ وَالْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ، قِيلَ وَذُكِرَ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ: لَوْ قَالَ وَجَدْت مَعَهَا رَجُلًا يُجَامِعُهَا لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحِلَّ وَالْجِمَاعَ بِشُبْهَةٍ وَالنِّكَاحَ الْفَاسِدَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ هُنَا: يَعْنِي فِي نَفْيِ نَسَبِ وَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ.
أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّا جَعَلْنَاهُ كَالتَّصْرِيحِ بِالزِّنَا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا. قُلْت: وَعَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجِمَاعَ لَا يَسْتَلْزِمُ الزِّنَا، بِخِلَافِ قَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ
(قَوْلُهُ وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا) وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهُ أَيْ اللِّعَانُ حَقُّهَا لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْهَا فَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ طَلَبُهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى نَفْيِ مَنْ لَيْسَ وَلَدُهُ عَنْهُ (فَإِنْ امْتَنَعَ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ) فَيُحَدُّ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إذَا امْتَنَعَ حَدَّهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَذَا إذَا لَاعَنَ فَامْتَنَعَتْ عِنْدَهُ تُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا، وَعِنْدَنَا تُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقُهُ فَيَرْتَفِعُ سَبَبُ وُجُوبِ لِعَانِهَا وَهُوَ التَّكَاذُبُ، لِأَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا أَكْذَبَ كُلٌّ الْآخَرَ فِيمَا ادَّعَاهُ.
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ الْقَذْفَ فَهُوَ السَّبَبُ وَالتَّكَاذُبُ شَرْطٌ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ:
(وَلَوْ لَاعَنَ وَجَبَ عَلَيْهَا اللِّعَانُ) لِمَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ إلَّا أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِالزَّوْجِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي (فَإِنْ امْتَنَعَتْ حَبَسَهَا الْحَاكِمُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى إيفَائِهِ فَتُحْبَسُ فِيهِ.
(وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا
فَيَرْتَفِعُ الشَّيْنُ، وَهَذَا إذَا اعْتَرَفَ بِالْقَذْفِ، فَلَوْ أَنْكَرَ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً قُبِلَتْ وَلَزِمَهُ اللِّعَانُ. وَفِي الْجَامِعِ: لَوْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا بَعْدَ مَا عَدَلَا لَا يُقْضَى بِاللِّعَانِ وَفِي الْمَالِ يُقْضَى. بِخِلَافِ مَا لَوْ عَمِيَا أَوْ فَسَقَا أَوْ ارْتَدَّا حَيْثُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ: أَوْ تَصَدَّقَهُ فَتُحَدُّ وَهُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً فَكَيْفَ يَجِبُ بِالتَّصْدِيقِ مَرَّةً، وَهُوَ لَا يَجِبُ بِالتَّصْدِيقِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ قَصْدًا بِالذَّاتِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بَلْ فِي دَرْئِهِ فَيَنْدَفِعُ بِهِ اللِّعَانُ وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَلَوْ صَدَّقَتْهُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَهُوَ وَلَدُهُمَا، لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَنْقَطِعُ حُكْمًا لِلِّعَانِ وَلَمْ يُوجَدْ وَهُوَ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي إبْطَالِهِ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْقَذْفِ مُطْلَقًا الْحَدُّ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} إلَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَقْذُوفَةُ زَوْجَةً بِاللِّعَانِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهُ بِهِ يُحَدُّ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تُلَاعِنْ بَعْدَمَا أَوْجَبَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا اللِّعَانَ بِلِعَانِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ حُدَّتْ بِالزِّنَا، وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} قُلْنَا قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} أَيْ فَالْوَاجِبُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ فَاءَ الْجَزَاءِ يُحْذَفُ بَعْدَهَا الْمُبْتَدَأُ كَثِيرًا فَأَفَادَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَذْفِ النِّسَاءِ اللِّعَانُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا أَوْ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ ذَلِكَ الْعَامِّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ كَوْنُ الثَّابِتِ فِي قَذْفِ الزَّوْجَاتِ إنَّمَا هُوَ هَذَا فَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ عَنْ إيفَائِهِ بَلْ تُحْبَسُ لِإِيفَائِهِ كَمَا فِي كُلِّ حَقٍّ امْتَنَعَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ عَنْ إيفَائِهِ لَا يُعَاقَبُ لِيُوفِيَهُ.
وَالثَّابِتُ عِنْدَنَا أَنَّهُ بِطَرِيقِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَارَنْ الْعَامُّ وَهُوَ مُخَصَّصٌ أَوَّلٌ، وَلِلْعِلْمِ بِتَأَخُّرِهِ عَلَى مَا رَوَوْا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «قَالَ لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ ائْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحُدَّ عَلَى ظَهْرِكَ» فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُ الْمُرَادِ مِنْ الْعَذَابِ فِي الْآيَةِ الْحَدَّ لِجَوَازِ كَوْنِهِ الْحَبْسَ. وَإِذْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ هُوَ الْوَاجِبُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. قِيلَ: وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّافِعِيِّ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الزَّوْجِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا مَعَ ثَلَاثَةِ عُدُولٍ ثُمَّ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَحَدُّهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَاسِقًا. وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَمِينٌ عِنْدَهُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ الْمَالِ وَلَا لِإِسْقَاطِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَأَسْقَطَ بِهِ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ وَأَوْجَبَ بِهِ الرَّجْمَ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ الْحُدُودِ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا لِنُكُولِهَا بِامْتِنَاعِهَا عَنْ اللِّعَانِ. قُلْنَا: هُوَ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ، فَإِنَّ كَوْنَ النُّكُولِ إقْرَارًا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَنْدَفِعُ بِمَا مَعَ أَنَّهُ غَايَةُ مَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مَرَّةً، ثُمَّ إنَّ عِنْدَهُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَثَّرَتْ فِي مَنْعِ إيجَابِ الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَكَيْفَ يُوجِبُ الرَّجْمَ بِهِ وَهُوَ أَغْلَظُ الْحُدُودِ وَأَصْعَبُ إثْبَاتًا وَأَكْثَرُ شُرُوطًا. وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ: إذَا شَهِدَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فَتُحَدُّ هِيَ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَذَفَ وَجَاءَ بِثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَشَهِدُوا حُدَّ الثَّلَاثَةُ وَلَاعَنَ الزَّوْجُ
(قَوْلُهُ أَوْ كَافِرًا)
أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَقَذَفَ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اللِّعَانُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ فَيُصَارُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ، وَاللِّعَانُ خَلَفٌ عَنْهُ
(وَإِنْ)(كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ أَوْ مَحْدُودَةٌ فِي قَذْفٍ أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا) بِأَنْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ زَانِيَةً (فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ) لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ الْإِحْصَانِ فِي جَانِبِهَا وَامْتِنَاعِ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ كَمَا إذَا صَدَّقَتْهُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ»
صُورَتُهُ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَتْ هِيَ فَقَذَفَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ فَيُصَارُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} يَعْنِي الْحَدَّ، وَلَا تَحْرِيرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْحَدُّ فِي حَقِّ الْعُمُومِ، وَقَدْ جُعِلَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ بِاللِّعَانِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَّرْنَا مِنْ ثُبُوتِ نَسْخِهَا فِي قَذْفِ الزَّوْجَاتِ فَلَا يَكُونُ لِلْحَدِّ وُجُودٌ فِي قَذْفِهِنَّ لِارْتِفَاعِ الْمَنْسُوخِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فِيهِنَّ لِأَنَّهُ مَصِيرٌ إلَى غَيْرِ حُكْمِهِ. وَالدَّلِيلُ يَنْفِيه. وَالْحَقُّ فِي التَّقْرِيرِ أَنْ يُقَالَ: النَّصُّ إنَّمَا نَسَخَ حُكْمَ الْحَدِّ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْأَزْوَاجِ لَا فِي كُلِّ زَوْجٍ لِأَنَّ لَفْظَةَ النَّاسِخِ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} تُفِيدُ ذَلِكَ فَيَبْقَى الْعَامُّ مُوجِبًا حُكْمَهُ وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ) أَيْ الزَّوْجُ (مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ) وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ أَهْلِهَا إلَّا أَنَّهَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِأَنْ تَكُونَ قَدْ زَنَتْ فِي عُمُرِهَا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا، أَمَّا إذَا كَانَتْ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ تَكُونَ عَفِيفَةً مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ؛ فَقَدْ يُقَالُ امْتِنَاعُ اللِّعَانِ لِعَدَمِ شَرْطٍ مِنْ أَيْنَ يَسْتَلْزِمُ امْتِنَاعَ الْحَدِّ وَالْحَالُ أَنَّهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا فَصَارَ كَامْتِنَاعِ اللِّعَانِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَلَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا كَانَ أَهْلًا لِلِّعَانِ بِأَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ قَذْفِهِ إلَّا اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهَا امْتَنَعَ تَمَامُ الْمُوجِبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهِ بِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ فَإِنَّ حُكْمَ قَذْفِهِ لَيْسَ اللِّعَانَ بَلْ الْحَدَّ لِمَا بَيَّنَّا (قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ») أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَرْبَعَةٌ مِنْ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُمْ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ».
وَأَخْرَجَهُ
وَلَوْ كَانَا مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ امْتِنَاعَ اللِّعَانِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ إذْ هُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَأَخْرَجَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ أَيْضًا وَقَالَ وَتَابَعَهُ: يَعْنِي تَابَعَ عُثْمَانَ بْنَ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيَّ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ.
وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُمَا إمَامَانِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَرْفَعَاهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ مَوْقُوفًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عُمَارَةَ بْنَ مَطَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَضَعَّفَ رُوَاتَهُ.
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الضَّعِيفَ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ كَانَ حُجَّةً، وَهَذَا كَذَلِكَ خُصُوصًا وَقَدْ اُعْتُضِدَ بِرِوَايَةِ الْإِمَامَيْنِ إيَّاهُ مَوْقُوفًا عَلَى جَدِّ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ اللِّعَانِ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ شَهَادَاتٌ إلَى آخِرِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَا مَحْدُودَيْنِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ اللِّعَانِ بِمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ هُوَ عَبْدًا وَهِيَ مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ يُحَدُّ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّ قَذْفَ الْأَمَةِ وَالْكَافِرَةِ لَا يُوجِبُهُ، بِخِلَافِ قَذْفِ الْمَحْدُودَةِ إذَا كَانَتْ عَفِيفَةً، فَإِنَّهُ لَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ يُحَدُّ فَكَذَا الزَّوْجُ.
وَلَوْ قَذَفَ الْكَافِرَةَ أَوْ الْأَمَةَ أَجْنَبِيٌّ لَا يُحَدُّ فَكَذَا الزَّوْجُ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَا صَغِيرَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ يُلَاعِنُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ فَهُوَ أَهْلٌ لَهُ، إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا. قِيلَ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ امْتِنَاعَهُ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ كَذَلِكَ هُوَ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى الْجِهَتَانِ، فَبِاعْتِبَارِ جِهَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِيَ اللِّعَانُ فَقَطْ، وَبِاعْتِبَارِ جِهَتِهَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ فَيَتْبَعُهُ سُقُوطُ الْحَدِّ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَذْفَ يُوجَدُ أَوَّلًا مِنْهُ، وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلِّعَانِ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَالْحَدُّ إنْ لَمْ يَكُنْ، وَعَدَمُ أَهْلِيَّتِهَا مَانِعٌ وَلَا اعْتِبَارَ لِلْمَانِعِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمَانِعِيَّةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، إذْ حَقِيقَتُهُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُقْتَضَى بِالْمَنْعِ، وَلَا وُجُودَ لِمُقْتَضَى اللِّعَانِ فَلَا تُعْتَبَرُ الْمَانِعِيَّةُ مِنْ جِهَتِهَا لِلِّعَانِ. وَالْحَدُّ إنَّمَا يَسْقُطُ بِمَا مِنْ جِهَتِهَا تَبَعًا لِسُقُوطِ اللِّعَانِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ الْمُسْقِطُ الْمُسْتَتْبَعَ مِنْ جِهَتِهَا فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ وَقَدْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ
(وَصِفَةُ اللِّعَانِ أَنْ يَبْتَدِئَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِ فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ يَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا. يُشِيرُ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ثُمَّ تَشْهَدُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا. وَتَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا) وَالْأَصْلُ فِي مَا تَلَوْنَاهُ مِنْ النَّصِّ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِلَفْظَةِ الْمُوَاجَهَةِ يَقُولُ فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ الزِّنَا لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلِاحْتِمَالِ. وَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لَفْظَةَ الْمُغَايَبَةِ إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهَا الْإِشَارَةُ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ.
قَالَ (وَإِذَا الْتَعَنَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا)
قَوْلُهُ وَصِفَةُ اللِّعَانِ إلَخْ) ظَاهِرٌ فِي تَعَيُّنِهِ كَذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فَبَدَأَ بِهَا قَبْلَهُ لَا يُعْتَدُّ بِلِعَانِهَا فَتُعِيدُ بَعْدَهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَشْهَبُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي الْبَدَائِعِ: يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ عَلَيْهَا لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَالْمَرْأَةُ بِشَهَادَتِهَا تَقْدَحُ فِي شَهَادَةِ الزَّوْجِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ شَهَادَتِهِ، وَلِهَذَا يُبْتَدَأُ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعِي فِي بَابِ الدَّعْوَى، ثُمَّ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَهُ كَذَا هُنَا، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا نَفَذَتْ الْفُرْقَةُ لِأَنَّ تَفْرِيقَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ. وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى كَتَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَمُقْتَضَاهُ لُزُومُ الْإِعَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، لَكِنْ فِي الْغَايَةِ لَوْ بَدَأَ بِلِعَانِهَا فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَلَا تَجِبُ إعَادَتُهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ النَّصَّ أَعْقَبَ الرَّمْيَ بِشَهَادَةِ أَحَدِهِمْ وَشَهَادَتِهَا الدَّارِئَةِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} وَلِأَنَّ الْفَاءَ دَخَلَتْ عَلَى شَهَادَتِهِ عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَنَّهُ عَقِبَ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ لِلْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ فَانْظُرْهُ ثَمَّةَ [فُرُوعٌ]
قَذَفَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا سَقَطَ اللِّعَانُ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا ثَانِيًا وَجَبَ الْحَدُّ بِالْأَوَّلِ وَاللِّعَانُ بِالثَّانِي وَيُحَدُّ لِلْأَوَّلِ لِيَسْقُطَ اللِّعَانُ، وَلَوْ طَلَبَتْ اللِّعَانَ أَوَّلًا يُلَاعِنُ ثُمَّ يُحَدُّ، بِخِلَافِ حُدُودِ الْقَذْفِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَإِنَّهُ يَكْفِي حَدٌّ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَلَوْ قَالَ قَذَفْتُك قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك أَوْ زَنَيْت قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك فَهُوَ قَذْفٌ فِي الْحَالِ فَتُلَاعِنُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُحَدُّ. وَمَا فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ مِنْ أَنَّهُ يُلَاعِنُ فِي قَوْلِهِ زَنَيْت قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك وَيُحَدُّ فِي قَوْلِهِ قَذَفْتُك قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك أَوْجَهُ قَذَفَهَا ثُمَّ زَنَتْ أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَيَسْقُطُ اللِّعَانُ بِرِدَّتِهَا، وَلَوْ أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ لَا يَعُودُ، وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ أَبَانَهَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُحَدُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلِاحْتِمَالِ) أَيْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَضْمُرَ مُرْجِعًا لِلضَّمِيرِ الْغَائِبِ غَيْرَهَا، بِخِلَافِ الْخِطَابِ، وَتَقُولُ هِيَ أَيْضًا إنَّك لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتنِي بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقِيمَهُمَا الْقَاضِي مُتَقَابِلَيْنِ وَيَقُولَ لَهُ الْتَعِنْ (قَوْلُهُ إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ) يَعْنِي انْقَطَعَ احْتِمَالُ ضَمِيرِ الْغَائِبِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ انْقِطَاعَ الِاحْتِمَالِ مَشْرُوطٌ بِاجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا احْتِمَالَ مَعَهَا.
(قَوْلُهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ) حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي وَرِثَهُ
وَقَالَ زُفَرُ: تَقَعُ بِتَلَاعُنِهِمَا لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بِالْحَدِيثِ. وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ يُفَوِّتُ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ فَيَلْزَمُهُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ ذَلِكَ الْمُلَاعِنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا، هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، قَالَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ (وَتَكُونُ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي انْتَسَبَ إلَيْهِ كَمَا فِي الْعِنِّينِ
الْآخَرُ، وَلَوْ زَالَتْ أَهْلِيَّةُ اللِّعَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ بِأَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ أَوْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا إنْسَانًا فَحُدَّ لِلْقَذْفِ، أَوْ وُطِئَتْ هِيَ وَطْئًا حَرَامًا أَوْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جُنَّ قَبْلَ التَّفْرِيقِ حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُرْجَى عَوْدُ الْإِحْصَانِ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ آلَى مِنْهَا صَحَّ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ غَيْرَ أَنَّ وَطْأَهَا مُحَرَّمٌ كَمَا سَتَعْلَمُ، وَلَوْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْتِعَانِهِمَا ثَلَاثًا خَطَأً نَفَذَ تَفْرِيقُهُ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ زُفَرَ وَبَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ لَا يَنْفُذُ (قَوْلُهُ بِالْحَدِيثِ) يُشِيرُ بِهِ إلَى حَدِيثِ «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَعَلُّقَ عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ بِاللِّعَانِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى مُشْتَقٍّ يُفِيدُ أَنَّ مَبْدَأَ اشْتِقَاقِهِ عِلَّةٌ لَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَلْزِمًا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ.
قِيلَ وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا تُلَاعِنَ الْمَرْأَةُ أَصْلًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَالتَّمَسُّكُ بِمَرْوِيِّ زُفَرَ إنَّمَا يُفِيدُ حُرْمَتُهَا بِلِعَانِهِمَا لَا بِلِعَانِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ حَالَ اشْتِغَالِهِمَا بِاللِّعَانِ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ جُمْلَةً بَلْ عَلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التَّعَاقُبِ فَتَعَذَّرَ إرَادَتُهَا، وَأَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ إلَى حَقِيقَةِ مَا يَعْقُبُ فَرَاغَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ فَاعْتَبَرْنَاهُ وَبِهِ نَقُولُ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حُرْمَتِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُمَا لَا يَأْتَلِفَانِ بَعْدَ اللَّعْنِ فَلَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فِي ذَلِكَ بَلْ وَلَا ظَاهِرٍ، بَلْ يَجُوزُ حُدُوثُ الْأُلْفَةِ بَعْدَ غَايَةِ الْعَدَاوَةِ كَمَا يَجُوزُ بَقَاءُ الْعَدَاوَةِ، وَلَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَقْتَضِ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَلْ يُوجِبُ عَلَيْهِ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ، فَإِنَّهُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فَاتَ الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، كَمَا فِيمَا إذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ فَإِنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالتَّسْرِيحِ أَوْ التَّكْفِيرِ إلَّا أَنَّ الظُّلْمَ هُنَا لَا يَنْتَهِي بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ هُوَ الطَّلَاقُ فَيَنْحَصِرُ أَمْرُهُ فِيهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ مَنَابَهُ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ» .
وَمَا أَخْرَجَاهُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ «لَمَّا فَرَغَا مِنْ لِعَانِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا عُوَيْمِرٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . وَهُوَ الَّذِي عَنَى الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ الْمُلَاعِنِ إلَى آخِرِهِ، لَكِنَّ الصَّوَابَ مَا عَلِمْت أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ الرَّجُلُ نَفْسُهُ وَكَذَبْت بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد «وَقَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مَا صَنَعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً» . «قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ عُوَيْمِرًا حِينَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ اللِّعَانَ فُرْقَةٌ فَصَارَ كَمَنْ شَرَطَ الضَّمَانَ فِي السَّلَفِ وَهُوَ يَلْزَمُهُ شُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ، وَتَفْرِيقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ تَفْرِيقُ حُكْمٍ لَا لِفُرْقَةِ الزَّوْجِ. وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَسَهْلٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: أَيْ الْفُرْقَةُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَلِعَانِهِ قَالَ: «وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَطْلِيقَهُ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» إنَّمَا هُوَ إنْكَارُ طَلَبِ مَالِهِ مِنْهَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي، قَالَ: لَا مَالَ لَكَ، إنْ كُنْت صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» فَدَلَّ تَفْرِيقُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ.
وَقَدْ يُقَالُ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَكُونُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً لِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى يَكُونَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً عَلَيْنَا، إنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّهُ وَقَعَ لَغْوًا فَالسُّكُوتُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَفْسَدَةً حِينَئِذٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ يُفِيدُ تَقْرِيرَهُ وَأَنَّهُ الْوَاقِعُ، فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ، وُقُوعَ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ كَانَ السُّكُوتُ مُفْضِيًا إلَى الْمَفَاسِدِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَقْرِيرَ وُقُوعِهِ الْآنَ فَيَسْتَلْزِمُ فِيمَا لَوْ فُرِضَ عَدَمُ طَلَاقِهِ أَوْ تَأْخِيرُهُ الطَّلَاقَ حَتَّى اعْتَرَضَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا أَوْ تَكْذِيبُهُ نَفْسَهُ قَبْلَ طَلَاقِهِ وَطَلَاقِ الْقَاضِي حَتَّى ظَنَّ حِلَّهَا فَيُجَامِعُهَا قَبْلَ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَتَوْرِيثِ الْآخَرِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ السُّكُوتُ مَعَ الْإِفْضَاءِ إلَى مِثْلِ هَذَا، فَإِنْ دَفَعَ بِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُتَوَهَّمُ فِيهَا وُقُوعُ الْمَوْتِ يَسِيرَةٌ جِدًّا إذْ الْفَرْضُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ عِنْدَنَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ هُوَ وَالْمَوْتُ فِي مِثْلِهَا أَنْدَرُ نَادِرٍ.
قُلْنَا: وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَرْكٌ هُوَ عَلَامَةُ حُكْمٍ وَلَيْسَ هُوَ مَشْرُوعًا، وَأَيْضًا فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَعْنِي أَمْضَى ذَلِكَ الطَّلَاقَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ أَوْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ ثُمَّ هُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ رَفَضَ إمْضَاءَهُ
(وَهُوَ خَاطِبٌ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ) عِنْدَهُمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» نَصَّ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِكْذَابَ رُجُوعٌ وَالشَّهَادَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ لَا حُكْمَ لَهَا، لَا يَجْتَمِعَانِ مَا دَامَا مُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَمْ يَبْقَ التَّلَاعُنُ وَلَا حُكْمُهُ بَعْدَ الْإِكْذَابِ فَيَجْتَمِعَانِ
- صلى الله عليه وسلم الطَّلَاقَ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَفْهَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم (قَوْلُهُ وَهُوَ خَاطِبٌ إلَخْ) يَعْنِي إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ وَالتَّفْرِيقِ وَحُدَّ أَوْ لَمْ يُحَدَّ صَارَ خَاطِبَا مِنْ الْخِطْبَةِ يَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُهَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ حَلَّتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَذَا فِي الْغَايَةِ.
وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ اللِّعَانِ نَظَرَ، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا قَبْلَ الْإِكْذَابِ حُدَّ أَيْضًا، وَإِنْ أَبَانَهَا ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّ اللِّعَانَ أَثَرُهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ قَذْفَهُ وَقَعَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لِأَنَّ الْقَذْفَ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ حَدَّيْنِ، بِخِلَافِ إكْذَابِ نَفْسِهِ بَعْدَ اللِّعَانِ لِأَنَّ حَدَّهُ حِينَئِذٍ لِلْقَذْفِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كَلِمَاتُ اللِّعَانِ لَا الْقَذْفِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أُخِذَ حُكْمُهُ مِنْ اللِّعَانِ، وَلِذَا يُحَدُّ شُهُودُ الزِّنَا إذَا رَجَعُوا لِتَضَمُّنِ شَهَادَتِهِمْ نِسْبَتَهُ إلَى الزِّنَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ ثُمَّ بَانَتْ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ حُدَّ، وَكَمَا تَحِلُّ لَهُ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ بَعْدَ اللِّعَانِ كَذَلِكَ تَحِلُّ لَهُ لَوْ قَذَفَتْ شَخْصًا أَجْنَبِيًّا بَعْدَهُ فَحُدَّتْ أَوْ قَذَفَ هُوَ أَجْنَبِيًّا فَحُدَّ أَوْ زَنَتْ أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا حَتَّى خَرَجَ بِذَلِكَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ لِارْتِفَاعِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ، وَهُوَ عَلَى مَا قَالُوا أَنَّهُ كَيْ لَا يَتَكَرَّرُ اللِّعَانُ بِأَنْ يَقْذِفَهَا مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ لَمْ يُشَرَّعْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إلَّا مَرَّةً فِي الْعُمُرِ أَوْ بِخُلُوِّ الْقَذْفِ عَنْ الْمُوجِبِ فِي الدُّنْيَا، فَبِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: إذَا افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، فَيَثْبُتُ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ. وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَإِذَا كَانَتْ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ لَا تَكُونُ طَلَاقًا بَلْ فَسْخًا، وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ قَبْلَهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الزَّوْجِيَّةِ قَائِمَةً مَعَهَا كَمَا تَكُونُ بِالظِّهَارِ أَوْ زَالَتْ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ مِنْ حِينِ تَثْبُتُ تَثْبُتُ مُؤَبَّدَةً لَمْ يُتَصَوَّرْ تَوَقُّفُهَا عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي. وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْمُتَلَاعِنَانِ إذَا افْتَرَقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» وَقَدْ طَعَنَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي ثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَمَفْهُومُ شَرْطِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لِلْمُتَأَمِّلِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: «مَضَتْ السُّنَّةُ الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» . وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ
(وَلَوْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ نَفَى الْقَاضِي نَسَبَهُ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ) وَصُورَةُ اللِّعَانِ أَنْ يَأْمُرَ الْحَاكِمُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ، وَكَذَا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ (وَلَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَنَفَى الْوَلَدَ ذَكَرَ فِي اللِّعَانِ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ يَنْفِي الْقَاضِي نَسَبَ الْوَلَدِ وَيُلْحِقُهُ بِأُمِّهِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَفَى وَلَدَ امْرَأَةِ
وَابْنِ مَسْعُودٍ: «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَجْتَمِعَانِ مَا دَامَا مُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَمْ يَبْقَ التَّلَاعُنُ وَلَا حُكْمُهُ: يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِعَدَمِ الِاجْتِمَاعِ بِشَرْطِ وَصْفِيَّةِ الْمَوْضُوعِ فَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَشْرُوطَةِ، وَلَمْ يَبْقَيَا بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ مِنْ اللِّعَانِ مُتَلَاعِنَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ اللِّعَانُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا بِالْإِكْذَابِ لِنَفْسِهِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ إنْ كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَلُزُومِ الْحَدِّ.
وَحُكْمُهُ عَدَمُهُ فَقَدْ انْتَفَتْ اللَّوَازِمُ الشَّرْعِيَّةُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ مَلْزُومِهَا شَرْعًا فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ عَدَمُ حِلِّ الِاجْتِمَاعِ فَثَبَتَ نَقِيضُهُ وَهُوَ حِلُّ الِاجْتِمَاعِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَنْ بَيْنَهُمَا تَلَاعُنٌ قَائِمٌ حُكْمًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ إرَادَتَهُمَا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ التَّلَاعُنِ حَقِيقَةً مُتَعَذِّرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَثْبُتُ قِيَامُ التَّلَاعُنِ حُكْمًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ مَنْ وُجِدَ بَيْنَهُمَا تَلَاعُنٌ فِي الْخَارِجِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَجْتَمِعَانِ بَعْدَ الْإِكْذَابِ إذْ ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ وَقَطْعِ اعْتِبَارِهِ قَائِمًا شَرْعًا عِنْدَ الْإِكْذَابِ لَا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ كَوْنِهِ قَدْ تَحَقَّقَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِج، وَلَكِنْ بَقِيَ النَّظَرُ فِي أَيِّ الِاحْتِمَالَيْنِ أَرْجَحُ، وَأَظُنُّ أَنَّ الثَّانِي أَسْرَعُ إلَى الْفَهْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ لُزُومُ الْعَدَاوَةِ وَالضَّغِينَةِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الِانْتِظَامِ فَقَدَّمْنَا مَنْعَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ سَبَبُ تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ كَوْنُ أَحَدِهِمَا صَارَ مَلْعُونًا أَوْ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ فَمَا أَبْعَدَهُ عَنْ الْفِقْهُ، إذْ لَا شَكَّ فِي بَقَاءِ إسْلَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ صَنَعَ كَبِيرَةً تَصِحُّ مِنْهَا التَّوْبَةُ بِفَضْلِ ذِي الْفَضْلِ جل جلاله، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَمْنَعُ التَّنَاكُحَ
(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ نَفَى الْقَاضِي نَسَبَهُ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ) شَرْطُ هَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ فِي حَالٍ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِيهِ اللِّعَانُ؛ حَتَّى لَوْ عَلِقَ وَهِيَ كَافِرَةٌ أَوْ أَمَةٌ ثُمَّ عَتَقَتْ وَأَسْلَمَتْ فَنَفْيُ نَسَبِ وَلَدِهَا لَا يَنْتَفِي وَلَا تَلَاعُنَ لِأَنَّ انْتِفَاءَهُ إنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا حُكْمًا لِلِّعَانِ وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ نَسَبَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ فَلَا يَنْقَطِعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ لَا يُشْرَعُ اللِّعَانُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ فِي الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ وَمَنْ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ يُنْزِلُ بِالسَّحْقِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَا لِعَانَ فِي الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَجِبُ اللِّعَانُ بِهِ، وَكَذَا فِي نَفْيِهِ مِنْ وَطِئَ بِشُبْهَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِمَا الْحَدُّ وَاللِّعَانُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمَا بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: قَذَفَهَا بِنَفْيِ وَلَدِهَا فَلَمْ يَلْتَعِنَا حَتَّى قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِهِ فَحَدُّ الْأَجْنَبِيِّ يُثْبِتُ نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْ الزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ قَاذِفُهَا حُكِمَ بِكَذِبِهِ (قَوْلُهُ وَصُورَةُ اللِّعَانِ) أَيْ فِي الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم نَفَى نَسَبَ وَلَدِ امْرَأَةِ هِلَالٍ»)
هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ هِلَالٍ وَأَلْحَقَهُ بِهَا» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا اللِّعَانِ نَفْيُ الْوَلَدِ فَيُوَفِّرُ عَلَيْهِ مَقْصُودَهُ،
قِيلَ إنَّهُ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِامْرَأَةِ هِلَالٍ وَلَدٌ وَلَا قَذَفَهَا بِنَفْيِ وَلَدٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِنَسَبِ وَلَدِهَا الَّذِي أَتَتْ بِهِ فَإِنَّهَا حَمَلَتْ مِنْ الْوَطْءِ الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ، وَالْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُمَا وَتَتَّفِقُ.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَرَأَى ذَلِكَ بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ فَلَمْ يَهِجْهُ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ غَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي جِئْتُ أَهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ عِنْدَهُمْ رَجُلًا، فَرَأَيْت بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} الْآيَةَ فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: أَبْشِرْ يَا هِلَالُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، قَالَ هِلَالٌ: قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي سبحانه وتعالى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلُوا إلَيْهَا فَجَاءَتْ، فَتَلَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْآيَةَ وَذَكَّرَهُمَا وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَقَالَ هِلَالٌ: وَاَللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ كَذَبْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا فَشَهِدَ هِلَالٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعِقَابَ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي اللَّهُ عَلَيْهَا فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، ثُمَّ قِيلَ لَهَا اشْهَدِي، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ. فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهَا اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعِقَابَ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا،، وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ وَلَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا عَلَيْهِ سُكْنَى وَلَا قُوتٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أَوْ أُرَيْصِحَ أُثَيْبِجَ نَاتِئَ الْأَلْيَتَيْنِ حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالٍ. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ إلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ وَلَدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ، هَذِهِ فِي لَفْظِ أَبِي دَاوُد. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:«سَائِرُ الْيَوْمِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي» . وَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ. قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اُنْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطًا قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، قَالَ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ» . فَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا وَقَطَعَ نَسَبَ الْوَلَدِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ. وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَكَانَتْ حُبْلَى.» وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا أَيْضًا. وَقَالَ زَوْجُهَا: مَا قَرُبْتهَا مُنْذُ
فَيَتَضَمَّنُهُ الْقَضَاءُ بِالتَّفْرِيقِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِي يُفَرِّقُ وَيَقُولُ: قَدْ أَلْزَمْته أُمَّهُ وَأَخْرَجْته مِنْ نَسَبِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ (فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ حَدَّهُ الْقَاضِي) لِإِقْرَارِهِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ
عِفَارِ النَّخْلِ، وَعِفَارُ النَّخْلِ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُسْقَى بَعْدَ الْإِبَارِ بِشَهْرَيْنِ، «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنِ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَكْرُوهِ».
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ عُوَيْمِرٍ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: شَهِدَ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَجْلَانِيُّ وَقَدْ رَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ وَأَنْكَرَ حَمْلَهَا فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَامِلٌ، فَرَأَيْتُهُمَا يَتَلَاعَنَانِ قَائِمَيْنِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ وَلَدَتْ فَأُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْمَرْأَةِ وَجَاءَتْ بِهِ أَشْبَهَ النَّاسِ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ عُوَيْمِرٌ قَدْ لَامَهُ قَوْمُهُ وَقَالُوا امْرَأَةٌ لَا نَعْلَمُ فِيهِ إلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا جَاءَ الشَّبَهُ بِشَرِيكٍ عَذَرَهُ النَّاسُ، وَعَاشَ الْمَوْلُودُ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ، وَعَاشَتْ أُمُّهُ بَعْدَهُ يَسِيرًا، وَصَارَ شَرِيكٌ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ بِحَالِ سُوءٍ» . قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي غَيْرُ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ عُوَيْمِرًا مِنْ فُسَّاقِ الْحَدِيثِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَلَمْ يَحُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُوَيْمِرًا فِي قَذْفِهِ شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ. وَشَهِدَ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ وَشَرِيكُ ابْنُ سَحْمَاءَ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَفِي هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ عَاشَ سَنَتَيْنِ وَمَاتَ وَنَسَبُهُ مَا نُسِبَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ إلَى شَرِيكٍ إلَيْهِ أَيْضًا فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ. قِيلَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا فِي «قِصَّةِ هِلَالٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنْ فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِاَلَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَفِي هَذَا أَنَّ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ خِلَافُهُ وَهَذَا تَعَارُضٌ (قَوْلُهُ فَيَتَضَمَّنُهُ الْقَضَاءُ إلَخْ) أَيْ يَثْبُتُ قَطْعُ النَّسَبِ فِي ضِمْنِ الْقَضَاءِ بِالتَّفْرِيقِ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِي يُفَرِّقُ إلَخْ) أَيْ لَا يَثْبُتُ قَطْعُ النَّسَبِ ضِمْنًا لِلتَّفْرِيقِ، لِأَنَّهُ: أَيْ التَّفْرِيقُ بِاللِّعَانِ (قَوْلُهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ) أَيْ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ اللِّعَانِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ وَلَا يَنْقَطِعُ نَسَبُ ذَلِكَ الْوَلَدِ، وَلَوْ نَفَى نَسَبَ أُمِّ الْوَلَدِ انْتَفَى الْوَلَدُ وَلَا لِعَانَ وَلَا تَفْرِيقَ بِهِ (قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ) حَتَّى لَوْ لَمْ يَقُلْهُ لَا يَنْتَفِي النَّسَبُ عَنْهُ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا صَحِيحٌ، وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ عَنْ مَالٍ فَادَّعَى الْمُلَاعِنُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيُحَدُّ، فَلَوْ كَانَ قَدْ تَرَكَ وَلَدًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْأَبِ وَوَرِثَهُ الْأَبُ لِاحْتِيَاجِ الْحَيِّ إلَى النَّسَبِ، وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَلَهَا ابْنٌ فَأَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا. وَقِيلَ الْخِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ. لَهُ أَنَّ الِابْنَ يُعَيَّرُ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ أُمِّهِ كَأَبِيهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ثُبُوتِ نَسَبِهَا (قَوْلُهُ فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ) أَيْ بَعْدَ اللِّعَانِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ
(وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا) وَهَذَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلِّعَانِ فَارْتَفَعَ حُكْمُهُ الْمَنُوطُ بِهِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ (وَكَذَلِكَ إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا فَحُدَّ بِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (وَكَذَا إذَا زَنَتْ فَحُدَّتْ) لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ مِنْ جَانِبِهَا
(وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا،
(قَوْلُهُ وَهَذَا عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى مَا سَبَقَ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا إلَخْ) عَلَى وِزَانِ مَا قَدَّمْنَا فِي زَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ بِمُجَرَّدِ الزِّنَا (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا زَنَتْ فَحُدَّتْ) قِيلَ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهَا إذَا حُدَّتْ كَانَ حَدُّهَا الرَّجْمَ فَلَا يُتَصَوَّرُ حِلُّهَا لِلزَّوْجِ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَنْ تَزْنِيَ تَخْرُجُ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَلِذَا أَطْلَقْنَا فِيمَا قَدَّمْنَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ بِمَعْنَى نَسَبَتْ غَيْرَهَا لِلزِّنَا وَهُوَ مَعْنَى الْقَذْفِ، فَيَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ تَوَقُّفُ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ عَلَى حَدِّهَا لِأَنَّهُ حَدُّ الْقَذْفِ؛ وَتَوْجِيهُ تَخْفِيفِهَا أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ وَاللِّعَانُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ زَنَتْ فَحُدَّتْ، فَإِنَّ حَدَّهَا حِينَئِذٍ الْجَلْدُ لَا الرَّجْمُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ زَوَالَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ بِطُرُوِّ الْفِسْقِ مَثَلًا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ مَا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي عَنْهَا فِي حَالِ قِيَامِ الْعَدَالَةِ فَلَا يَجِبُ بُطْلَانُ ذَلِكَ اللِّعَانِ السَّابِقِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ الْأَهْلِيَّةِ لِيَبْطُلَ أَثَرُهُ مِنْ الْحُرْمَةِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ) قَذْفًا مُقْتَصَرًا (فَلَا لِعَانَ) وَكَذَا لَوْ أَسْنَدَ الْقَذْفَ وَهِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا فِي الْحَالِ بِأَنْ قَالَ زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَبِيَّةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ وَجُنُونُهَا مَعْهُودٌ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا فِي الْحَالِ لِأَنَّ فِعْلَهَا لَا يُوصَفُ بِالزِّنَا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ زَنَيْت وَأَنْتِ ذِمِّيَّةٌ أَوْ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَعُمُرُهَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ) أَيْ اللِّعَانُ يَتَعَلَّقُ بِالصَّرِيحِ
فَكَذَا لَا يُلَاعِنُ الزَّوْجُ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ (وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا) لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ (وَقَذْفُ الْأَخْرَسِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللِّعَانُ) لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالصَّرِيحِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ الشُّبْهَةِ وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِهَا
(وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ لَيْسَ حَمْلُك مِنِّي فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِقِيَامِ الْحَمْلِ فَلَمْ يَصِرْ قَاذِفًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: اللِّعَانُ يَجِبُ بِنَفْيِ الْحَمْلِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِقِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَهُ فَيَتَحَقَّقُ الْقَذْفُ. قُلْنَا: إذَا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا فِي الْحَالِ يَصِيرُ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ بِك حَمْلٌ فَلَيْسَ مِنِّي. وَالْقَذْفُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ (وَإِنْ قَالَ لَهَا زَنَيْت وَهَذَا الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا تَلَاعَنَا) لِوُجُودِ الْقَذْفِ حَيْثُ ذَكَرَ الزِّنَا صَرِيحًا (وَلَمْ يَنْفِ الْقَاضِي الْحَمْلَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْفِيه لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَفَى الْوَلَدَ عَنْ هِلَالٍ وَقَدْ قَذَفَهَا حَامِلًا.
كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ حَتَّى يَخْتَصَّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ قَالَ أَحْلِفُ مَكَانَ أَشْهَدُ لَا يَجُوزُ وَلَا شَهَادَةَ لِلْأَخْرَسِ فِي الْأَمْوَالِ فَهَاهُنَا أَوْلَى.
وَكَذَا إذَا كَانَتْ خَرْسَاءَ لَا لِعَانَ لِأَنَّ قَذْفَهَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تُصَدِّقُهُ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ (قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٌ وَالظَّاهِرِيَّةُ فَيُلَاعِنُ بِالْإِشَارَةِ عِنْدَهُمْ اعْتَبَرُوهُ بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَصِحَّةِ بَيْعِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ. وَقَالُوا: إنَّ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ أَصَمَتَتْ، فَقِيلَ لَهَا لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا فَأَشَارَتْ: أَيْ نَعَمْ فَرَأَوْا أَنَّهَا وَصِيَّةٌ. قُلْنَا: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَجْوِيزُ الْوَصِيَّةِ مِمَّنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ بِالْإِشَارَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ حَدِّهِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ اللِّعَانُ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَعْرَى عَنْ الشُّبْهَةِ وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَهَا
(قَوْلُهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ، وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: اللِّعَانُ يَجِبُ إلَخْ) يَعْنِي وَقْتَ الْوَضْعِ إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْقَذْفِ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَ الْقَذْفِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُلَاعِنُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِحَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ قَذْفُهَا حَامِلًا عَلَى مَا تُفِيدُهُ الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (قَوْلُهُ يَصِيرُ كَالْمُعَلَّقِ) كَأَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَلَدٌ فَهُوَ مِنْ الزِّنَا، وَلَوْ قَالَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ فَكَذَا مَا بِمَعْنَاهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةَ الْمُعَلَّقِ إذْ بِالْوِلَادَةِ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ قَذْفًا مُنَجَّزًا لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ التَّعْلِيقِ إذْ فِي كُلِّ مَوْقُوفٍ شُبْهَةُ التَّعْلِيقِ إذْ لَا يُعْرَفُ حُكْمُهُ إلَّا بِعَاقِبَتِهِ فَهُوَ كَالشَّرْطِ فِي حَقِّنَا، وَشُبْهَةُ التَّعْلِيقِ كَحَقِيقَتِهِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَبِثُبُوتِ الشُّبْهَةِ امْتَنَعَ لِعَانُهَا حَامِلًا عِنْدَنَا لِأَنَّ الْحَمْلَ وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَرَدِّ الْمَبِيعَةِ بِهِ وَالْإِرْثِ لَهُ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ وَلَهُ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهِلَالٌ لَمْ يَكُنْ قَذَفَهَا بِنَفْيِ الْحَمْلِ بَلْ بِالزِّنَا، قَالَ: وَجَدْت شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِهَا يَزْنِي بِهَا.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «اُنْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا» إلَى
وَلَنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِتَمَكُّنِ الِاحْتِمَالِ قَبْلَهُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ قِيَامَ الْحَبَلِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ
(وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ وَلَدَ امْرَأَتِهِ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ أَوْ فِي الْحَالَةِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّهْنِئَةَ وَتُبْتَاعُ آلَةُ الْوِلَادَةِ صَحَّ
آخِرِ مَا قَدَّمْنَا فَانْظُرْهُ كَانَ إمَّا لِعِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِحَمْلِهَا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَوْ لِأَنَّ اللِّعَانَ تَأَخَّرَ حَتَّى ظَهَرَ الْحَمْلُ، وَكَذَا أَنْكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِعَانَ هِلَالٍ بِالْحَمْلِ قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَلَى أَنَّ كَوْنَ لِعَانِهِمَا كَانَ قَبْلَ الْوَضْعِ مُعَارَضًا، فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وَضْعِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ «فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِاَلَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا» فَلَا يُسْتَدَلُّ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لِأَنَّ التَّعَارُضَ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْحَمْلِ إلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِلِاحْتِمَالِ قَبْلَهَا، إذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ نَفْخًا أَوْ مَاءً.
وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِي عَنْ بَعْضِ خَوَاصِّهَا أَنَّهَا ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ وَاسْتَمَرَّ إلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَشْكُكْنَ فِيهِ حَتَّى تَهَيَّأْنَ لَهُ بِتَهْيِئَةِ ثِيَابِ الْمَوْلُودِ ثُمَّ أَصَابَهَا طَلْقٌ وَجَلَسَتْ الدَّايَةُ تَحْتَهَا وَلَمْ تَزَلْ تَعْصِرُ الْعَصْرَةَ بَعْدَ الْعَصْرَةِ وَفِي كُلِّ عَصْرَةٍ تَجِدُ مَاءً حَتَّى قَامَتْ فَارِغَةً مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ.
وَأَمَّا تَوْرِيثُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ وَلَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَيَثْبُتَانِ لِلْوَلَدِ لَا لِلْحَمْلِ. وَأَمَّا الْعِتْقُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَعِتْقُهُ مُعَلَّقٌ مَعْنًى. وَأَمَّا رَدُّ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ بِالْحَمْلِ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ ظَاهِرٌ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ بِالشُّبْهَةِ. وَفِي الْبَدَائِعِ: لَا يَقْطَعُ نَسَبَ الْحَمْلِ قَبْلَ وَضْعِهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْحَابِ.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَثْبُتُ لِلْوَلَدِ لَا لِلْحَمْلِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ بِالِانْفِصَالِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ، بِخِلَافِ الرَّدِّ بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْحَمْلَ ظَاهِرٌ وَاحْتِمَالُ الرِّيحِ شُبْهَةٌ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ بِالشُّبْهَةِ، وَيَمْتَنِعُ اللِّعَانُ بِهَا لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْحُدُودِ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَى الْعَيْبِ
(قَوْلُهُ وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ) الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ شَرْطِ اعْتِبَارِ صِحَّةِ نَفْيِ الْوَلَدِ، وَلَهُ
نَفْيُهُ وَلَاعَنَ بِهِ وَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَاعَنَ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ نَفْيُهُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ) لِأَنَّ النَّفْيَ يَصِحُّ فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ وَلَا يَصِحُّ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَفَصَلْنَا بَيْنَهُمَا بِمُدَّةِ النِّفَاسِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْوِلَادَةِ. وَلَهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ لِأَنَّ الزَّمَانَ لِلتَّأَمُّلِ وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ فَاعْتَبَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَبُولُهُ التَّهْنِئَةَ أَوْ سُكُوتُهُ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ أَوْ ابْتِيَاعُهُ مَتَاعَ الْوِلَادَةِ أَوْ مُضِيُّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَنْ النَّفْيِ. وَلَوْ كَانَ غَائِبًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلَادَةِ ثُمَّ قَدِمَ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْأَصْلَيْنِ.
شَرْطَانِ مُتَّفِقٌ وَمُخْتَلِفٌ، فَالْمُتَّفِقُ أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّهْنِئَةَ أَوْ لَا يَسْكُتَ عِنْدَهَا، وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي اُعْتُبِرَ فِيهَا السُّكُوتُ رِضًا، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا مَنْظُومَةً فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ إذَا هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ لَا يَكُونُ سُكُوتُهُ قَبُولًا، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ، لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ غَيْرُ ثَابِتِ النَّسَبِ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، فَالْحَاجَةُ إلَى الدَّعْوَةِ وَالسُّكُوتُ لَيْسَ دَعْوَةً، وَنَسَبُ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ ثَابِتٌ مِنْهُ فَسُكُوتُهُ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي النَّفْيِ، وَالْمُخْتَلِفُ فِيهِ أَنْ يَقَعَ.
أَعْنِي النَّفْيَ فِي زَمَانِ التَّهْنِئَةِ عَادَةً وَابْتِيَاعُ آلَةِ الْوِلَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَهُ إنْ كَانَ لَمْ يَقْبَلْ تَهْنِئَةً لَا يَنْتَفِي إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا عَلَى مَا سَيُذْكَرُ، ثُمَّ لَمْ يُعَيَّنْ لَهَا مِقْدَارٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيرَهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ سَبْعَةً لِأَنَّهَا أَيَّامُ التَّهْنِئَةِ.
وَضَعَّفَهُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ. وَعِنْدَهُمَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ لِأَنَّهَا أَثَرُ الْوِلَادَةِ. وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ النَّفْيُ إلَّا عَلَى فَوْرِ الْوِلَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ تَأْخِيرِهِ مُدَّةً يَقَعُ فِيهَا التَّأَمُّلُ لِأَنَّ النَّفْيَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَيْ لَا يَقَعَ فِي نَفْيِ وَلَدِهِ أَوْ اسْتِلْحَاقِ غَيْرِ وَلَدِهِ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّةَ إذَا طَالَتْ لَا يَجُوزُ النَّفْيُ فَجَعَلَا الْقَصِيرَةَ مُدَّةَ النِّفَاسِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْوِلَادَةِ، وَلِذَا أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ ثَابِتَةٌ فِيهَا مِنْ عَدَمِ حِلِّ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْقُرْبَانِ فَكَأَنَّهُمَا فَوْرَ الْوِلَادَةِ.
وَقَالَ: لَا مَعْنَى لِتَعْيِينِ مُدَّةٍ أَصْلًا لِأَنَّهَا لِلتَّأَمُّلِ، وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَالْأَحْوَالُ أَيْضًا تَخْتَلِفُ فِي إفَادَتِهِ، فَاعْتَبَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَبُولُ التَّهْنِئَةِ وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ مِثْلَ أَحْسَنَ اللَّهُ بَارَكَ اللَّهُ جَزَاك اللَّهُ رَزَقَك مِثْلَهُ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى دُعَاءِ الْمُهَنِّئِ أَوْ سُكُوتُهُ عِنْدَ تَهْنِئَتِهِ أَوْ ابْتِيَاعُهُ مَتَاعَ الْوِلَادَةِ أَوْ مُضِيُّ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ اعْتِبَارَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا قَبْلَهُ لِجَوَازِ النَّفْيِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ التَّعْيِينِ فَيُنَافِيه قَوْلُهُ لَا مَعْنَى لِلتَّعْيِينِ أَصْلًا انْتَهَى (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا) مَا تَقَدَّمَ كَانَ إذَا كَانَ حَاضِرًا، فَلَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلَادَةِ تُعْتَبَرُ
قَالَ (وَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَنَفَى الْأَوَّلَ وَاعْتَرَفَ بِالثَّانِي يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا) لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ (وَحُدَّ الزَّوْجُ) لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِدَعْوَى الثَّانِي، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِي يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَاعَنَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ بِنَفْيِ الثَّانِي وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعِفَّةِ سَابِقٌ عَلَى الْقَذْفِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إنَّهَا عَفِيفَةٌ ثُمَّ قَالَ هِيَ زَانِيَةٌ، وَفِي ذَلِكَ التَّلَاعُنُ كَذَا هَذَا.
الْمُدَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْأَصْلَيْنِ بَعْدَ قُدُومِهِ عِنْدَهُمَا قَدْرَ مُدَّةِ النِّفَاسِ، وَعِنْدَهُ قَدْرَ مُدَّةِ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنْ قَدِمَ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْفِصَالِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيه إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيه أَصْلًا، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بَعْدَمَا صَارَ شَيْخًا وَهُوَ قَبِيحٌ، فَلَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ فَلَهُ نَفْيُهُ إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ لِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ وَيُلَاعِنُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ نَفَاهُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ بَلَغَهُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا وَيُقْطَعُ نَسَبُهُ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُمَا تَوْءَمَانِ) هُمَا اللَّذَانِ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ (قَوْلُهُ وَحُدَّ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِدَعْوَى الثَّانِي) وَعَلَى هَذَا فِي أَوْلَادٍ ثَلَاثَةٍ أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَنَفَى الثَّانِي (قَوْلُهُ وَالْإِقْرَارُ بِالْعِفَّةِ) وَهُوَ مَا يَتَضَمَّنُهُ الِاعْتِرَافُ بِالْأَوَّلِ (سَابِقٌ عَلَى الْقَذْفِ) بِنَفْيِ الثَّانِي حَقِيقَةً (فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هِيَ عَفِيفَةٌ) ثُمَّ قَذَفَهَا. لَا يُقَالُ: ثُبُوتُ نَسَبِ الْأَوَّلِ مُعْتَبَرٌ بَاقٍ بَعْدَ نَفْيِ الثَّانِي، فَبِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ شَرْعًا يَكُونُ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ بَعْدَ نَفْيِ الثَّانِي وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ.
لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَقِيقَةُ انْقِطَاعُهُ وَثُبُوتُهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، وَالْحَدُّ لَا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ هُنَا مُتَعَيِّنًا لَا الْحُكْمِيِّ. هَذَا وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ فِي الْكِتَابِ وَالْإِقْرَارُ بِالْعِفَّةِ سَابِقٌ إلَخْ هُوَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ مُقَدَّرًا وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ اللَّفْظِ.
[فُرُوعٌ]
لَوْ نَفَاهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ قُتِلَ قَبْلَ اللِّعَانِ لَزِمَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُ الْمَيِّتِ لِانْتِهَائِهِ بِالْمَوْتِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فَلَا يَنْتَفِي الْحَيُّ لِأَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ، وَيُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْقَذْفِ، وَاللِّعَانُ يَنْفَكُّ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِقَطْعِ الْفِرَاشِ، وَيَثْبُتُ النَّفْيُ تَبَعًا لَهُ إنْ أَمْكَنَ، وَلَا يُلَاعِنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْقَذْفَ أَوْجَبَ لِعَانًا يَقْطَعُ النَّسَبُ عَلَى خِلَافِ مَا وَجَبَ
وَلَوْ وَلَدَتْ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ لَزِمَ الْوَلَدَانِ لِأَنَّ الْقَاطِعَ وَهُوَ اللِّعَانُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الثَّانِي، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُهُ الْآنَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْكُوحَةٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ نَسَبِ الْأَوَّلِ وَاللِّعَانُ مَاضٍ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ انْتِفَائِهِ. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُمَا وَلَدَايَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ لِثُبُوتِ نَسَبِهِمَا، وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا لِعَدَمِ إكْذَابِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ كَذَبْت عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لِلتَّصْرِيحِ بِالرُّجُوعِ. وَلَوْ قَالَا لَيْسَا ابْنَيَّ كَانَا ابْنَيْهِ وَلَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْقَاضِي نَفَى أَحَدَهُمَا وَذَلِكَ نَفْيٌ لِلتَّوْأَمَيْنِ فَلَيْسَا وَلَدَيْهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهَا مُطْلَقًا بَلْ مِنْ وَجْهٍ.
وَفِي النَّوَادِرِ: ذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي امْرَأَةٍ جَاءَتْ بِثَلَاثَةِ أَوْلَادٍ فَأَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَنَفَى الثَّانِي يُلَاعِنُ وَهُمْ بَنُوهُ، وَلَوْ نَفَى الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ وَأَقَرَّ بِالثَّانِي يُحَدُّ وَهُمْ بَنُوهُ. وَكَذَا فِي وَلَدٍ وَاحِدٍ إذَا أَقَرَّ بِهِ وَنَفَاهُ ثُمَّ
بَابُ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ
(وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ سَنَةً، فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا وَإِلَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ)
أَقَرَّ بِهِ يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِثُبُوتِ نَسَبِ بَعْضِ الْحَمْلِ إقْرَارٌ بِالْكُلِّ، كَمَنْ قَالَ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ مِنِّي.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ إذَا قُطِعَ نَسَبُهُ مِنْ الْأَبِ وَأُلْحِقَ بِالْأُمِّ لَا يُعْمَلُ الْقَطْعُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ بَلْ فِي بَعْضِهَا، فَيَبْقَى النَّسَبُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَعَدَمِ اللُّحُوقِ بِالْغَيْرِ حَتَّى لَا يَجُوزَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَلَا صَرْفُ زَكَاةِ مَالِهِ إلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَبِ بِقَتْلِهِ. وَإِنْ كَانَ لِابْنِ الْمُلَاعِنَةِ ابْنٌ وَلِلزَّوْجِ بِنْتٌ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى لَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِتِلْكَ الْبِنْتِ.
وَلَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ هَذَا الْوَلَدُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلَدُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَبْقَى فِي حَقِّ النَّفَقَةِ وَالْإِرْثِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ. وَهُوَ مُشْكِلٌ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي مِمَّنْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَادَّعَاهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُلَاعِنِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ وَهُوَ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ وَوَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ ثُبُوتِهِ مِنْ الْمُلَاعِنِ وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ أُمِّهِ لَا يُنَافِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ)
لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْأَصِحَّاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ أَعْقَبَهَا بِذِكْرِ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِمَّنْ بِهِ مَرَضٌ لَهُ نِسْبَةٌ إلَى النِّكَاحِ، وَالْعِنِّينُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ مَعَ قِيَامِ الْآلَةِ، مِنْ عُنَّ إذَا حُبِسَ فِي الْعُنَّةِ وَهِيَ حَظِيرَةُ الْإِبِلِ، أَوْ مِنْ عَنَّ إذَا عَرَضَ لِأَنَّ ذَكَرَهُ يَعِنُّ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَا يَقْصِدُهُ لِاسْتِرْخَائِهِ، وَجَمْعُ الْعِنِّينِ عُنُنٌ، وَيُقَالُ عِنِّينٌ بَيِّنُ التَّعَنُّنِ وَلَا يُقَالُ بَيِّنُ الْعُنَّةِ، وَلَوْ كَانَ يَصِلُ إلَى الثَّيِّبِ لَا الْبِكْرِ لِضَعْفِ الْآلَةِ أَوْ إلَى بَعْضِ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ لِسِحْرٍ أَوْ لَكِبَرِ سِنٍّ فَهُوَ عِنِّينٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي حَقِّهَا.
وَمَا عَنْ الْهِنْدُوَانِيُّ يُؤْتَى بِطَسْتٍ فِيهِ مَاءٌ بَارِدٌ فَيَجْلِسُ فِيهِ الْعِنِّينُ، فَإِنْ نَقَصَ ذَكَرُهُ وَانْزَوَى عُلِمَ أَنَّهُ لَا عُنَّةَ بِهِ وَإِلَّا عُلِمَ أَنَّهُ عِنِّينٌ، لَوْ اُعْتُبِرَ عِلْمٌ فَلَا يُؤَجَّلُ سَنَةً لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ إلَّا لِيُعْرَفَ أَنَّهُ عِنِّينٌ عَلَى مَا قَالُوا وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ إنْ أُجِّلَ مَعَ ذَلِكَ لَكِنَّ التَّأْجِيلَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ.
وَفِي الْمُحِيطِ: آلَتُهُ قَصِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُهَا إلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا جِدًّا كَالزِّرِّ فَحُكْمُهُ كَالْمَجْبُوبِ (قَوْلُهُ أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ سَنَةً) أَيْ مِنْ وَقْتِ الْخُصُومَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَأْجِيلُ
هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَهَا فِي الْوَطْءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ لِعِلَّةٍ مُعْتَرَضَةٍ، وَيَحْتَمِلُ لِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَقَدَّرْنَاهَا بِالسَّنَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ.
فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُصَلِّ إلَيْهَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَجْزَ بِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فَفَاتَ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا
غَيْرِ الْحَاكِمِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَلَوْ عُزِلَ بَعْدَمَا أَجَّلَهُ بَنَى الْمُتَوَلِّي عَلَى التَّأْجِيلِ الْأَوَّلِ (قَوْلُهُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ) أَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ فَلَهَا طُرُقٌ: فَمِنْهَا طَرِيقُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي الْعِنِّينِ أَنْ يُؤَجَّلَ سَنَةً، قَالَ مَعْمَرٌ: وَبَلَغَنِي أَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ يَوْمِ يُخَاصِمُ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ أَنْ يُؤَجِّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ يُرْفَعُ إلَيْهِ الْحَدِيثُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِ أَنَّ عُمَرَ أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً، زَادَ فِي لَفْظِ وَقَالَ: إنْ أَتَاهَا وَإِلَّا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا وَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَصِلُ إلَيْهَا فَأَجَّلَهُ حَوْلًا، فَلَمَّا انْقَضَى حَوْلٌ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا عُمَرُ وَجَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدَيْهِمَا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْهُ: يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ سَنَةً، فَإِنْ جَامَعَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ قَالُوا: يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ سَنَةً (قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ) أَيْ مَعْرِفَةٍ لِكَوْنِ الِامْتِنَاعِ لِعِلَّةٍ مُعْتَرِضَةٍ أَوْ آفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَقَدَّرْنَاهَا بِالسَّنَةِ لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ عِلَّةٍ مُعْتَرِضَةٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهَا مِنْ غَلَبَةِ حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ أَوْ رُطُوبَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ، وَالسَّنَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَكُلُّ فَصْلٍ بِأَحَدِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ، فَالصَّيْفُ حَارٌّ يَابِسٌ، وَالْخَرِيفُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَهُوَ أَرْدَأُ الْفُصُولِ، وَالشِّتَاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ، وَالرَّبِيعُ حَارٌّ رَطْبٌ، فَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ تَمَّ عِلَاجُهُ فِي الْفَصْلِ الْمُضَادِّ لَهُ فِيهِ، أَوْ مِنْ كَيْفِيَّتَيْنِ فَيَتِمُّ فِي مَجْمُوعِ فَصْلَيْنِ مُضَادَّيْنِ فَكَانَتْ السَّنَةُ تَمَامَ مَا يُتَعَرَّفُ بِهِ الْحَالُ.
(قَوْلُهُ فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ بِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ) وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ مُوجِبَ التَّفْرِيقِ كَوْنُهُ مِنْ عِلَّةٍ أَصْلِيَّةٍ
وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا لِأَنَّ التَّفْرِيقَ حَقُّهَا
وَالسَّنَةُ ضُرِبَتْ لِتَعْرِيفِهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْوُصُولِ إلَيْهَا سَنَةً كَوْنُ ذَلِكَ لِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فِي الْخِلْقَةِ، إذْ الْمَرَضُ قَدْ يَمْتَدُّ سَنَةً، وَأَيْضًا مِمَّا لَهُ حُكْمُ الْعِنِّينِ الْمَسْحُورِ، وَمُقْتَضَى السِّحْرِ مِمَّا قَدْ يَمْتَدُّ السِّنِينَ وَبِمُضِيِّ السَّنَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْآفَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِغَرَضِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَصِلُ إلَى غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ.
فَالْحَقُّ أَنَّ التَّفْرِيقَ مَنُوطٌ إمَّا بِغَلَبَةِ ظَنِّ عَدَمِ زَوَالِهِ لِزَمَانَتِهِ أَوْ لِلْأَصْلِيَّةِ، وَمُضِيُّ السَّنَةِ مَعَ عَدَمِ الْوُصُولِ مُوجِبٌ لِذَلِكَ، أَوْ هُوَ عَدَمُ إيفَاءِ حَقِّهَا فَقَطْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، وَالسَّنَةُ جُعِلَتْ غَايَةً فِي الصَّبْرِ وَإِبْلَاءَ الْعُذْرِ شَرْعًا، حَتَّى لَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بَعْدَ انْقِضَائِهَا قُرْبُ زَوَالِهِ وَقَالَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ أَجِّلْنِي يَوْمًا لَا يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهَا، فَلَوْ رَضِيَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ كَانَ لَهَا ذَلِكَ وَيَبْطُلُ الْأَجَلُ لِأَنَّ السَّنَةَ غَايَةٌ فِي إبْلَاءِ الْعُذْرِ. وَقَالَ لَبِيدٌ لِابْنَتَيْهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ:
تَمَنَّى ابْنَتَايَ أَنْ يَعِيشَ أَبُوهُمَا
…
وَهَلْ أَنَا إلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرَ
فَقُومَا وَقُولَا بِاَلَّذِي قَدْ عَلِمْتُمَا
…
وَلَا تَخْمُشَا وَجْهًا وَلَا تَحْلِقَا الشَّعْرَ
إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا
…
وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ
(قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا) هَذَا إذَا كَانَتْ حُرَّةً غَيْرَ رَتْقَاءَ، فَإِنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْفُرْقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَالطَّلَبُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِسَيِّدِهَا. وَهُوَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْإِذْنِ فِي الْعَزْلِ. وَقِيلَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَقَدْ مَرَّتْ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي طَلَبِ الْفُرْقَةِ بِتَأْخِيرِ الْمُرَافَعَةِ قَبْلَ الْأَجَلِ وَلَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ بَعْدَ التَّأْجِيلِ مَهْمَا أُخِّرَتْ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّجْرِبَةِ وَتَرَجِّي الْوُصُولِ لَا بِالرِّضَا بِالْمُقَامِ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهَا بِالشَّكِّ، وَلَوْ وَجَدَتْ كَبِيرَةٌ زَوْجَهَا الصَّغِيرَ عِنِّينًا يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ لِأَنَّ لِلصِّبَا أَثَرًا فِي عَدَمِ الشَّهْوَةِ. قَالَ قَاضِي خَانْ: الْغُلَامُ الَّذِي بَلَغَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً إذَا لَمْ يُصَلِّ إلَى امْرَأَتِهِ وَيَصِلُ إلَى غَيْرِهَا يُؤَجَّلُ.
وَلَوْ وَجَدَتْ زَوْجَهَا الْمَجْنُونَ عِنِّينًا فَخَاصَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ يُؤَجَّلُ لِسَنَةٍ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُعْدِمُ الشَّهْوَةَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَجْبُوبًا وَطَلَبَتْ الْفُرْقَةَ مِمَّنْ يُخَاصِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي انْتِظَارِ بُلُوغِهِ فَيُجْعَلُ وَلِيُّهُ خَصْمًا وَإِلَّا نَصَّبَ الْقَاضِي عَنْهُ خَصْمًا وَفَرَّقَ لِلْحَالِ.
وَلَوْ جَاءَ الْوَلِيُّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بِبَيِّنَةٍ عَلَى رِضَاهَا بِعُنَّتِهِ وَجَبِّهِ أَوْ عَلَى عِلْمِهَا بِحَالِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَزِمَ النِّكَاحُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ طَلَبَ يَمِينَهَا عَلَى ذَلِكَ تَحْلِفُ، فَإِنْ نَكَلَتْ لَمْ يُفَرَّقْ وَإِلَّا فُرِّقَ، وَلَوْ وُكِّلَتْ الْكَبِيرَةُ بِالتَّفْرِيقِ وَغَابَتْ هَلْ يُفَرِّقُ بِطَلَبِ الْوَكِيلِ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْجَبِّ فَادَّعَتْهُ فَأَنْكَرَهُ يُرِيهِ رَجُلًا، فَإِنْ أَمْكَنَ عِلْمُهُ بِهِ بِالْجَسِّ مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ لَا يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِذَلِكَ إلَّا بِكَشْفِهَا لِلضَّرُورَةِ.
وَلَوْ جَاءَتْ امْرَأَةُ الْمَجْبُوبِ بِوَلَدٍ بَعْدَ الْفُرْقَةِ إلَى سَنَتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَلَا يَبْطُلُ التَّفْرِيقُ، بِخِلَافِهِ فِي الْعِنِّينِ حَيْثُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَيَبْطُلُ التَّفْرِيقُ. ذَكَرَهُ فِي الْغَايَةِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِتَفْرِيقِهِ وَهُوَ بَائِنٌ فَكَيْفَ يَبْطُلُ بَعْدَ وُقُوعِهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا لَا يَبْطُلُ التَّفْرِيقُ انْتَهَى.
لَكِنَّ وَجْهَ التَّفْرِقَةِ يُبْعِدُ هَذَا الْبَحْثَ، وَهُوَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْعُنَّةِ وَالْجَبِّ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الْمَجْبُوبِ وَهُوَ مَجْبُوبٌ، بِخِلَافِ
(وَتِلْكَ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي أُضِيفَ إلَى الزَّوْجِ فَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ فَسْخٌ لَكِنَّ النِّكَاحَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا تَقَعُ بَائِنَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَا لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَائِنَةً تَعُودُ مُعَلَّقَةً بِالْمُرَاجَعَةِ.
(وَلَهَا كَمَالُ مَهْرِهَا إنْ كَانَ خَلَا بِهَا) فَإِنَّ خَلْوَةَ الْعِنِّينِ صَحِيحَةٌ (وَيَجِبُ الْعِدَّةُ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلِ هَذَا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا (وَلَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْوُصُولِ إلَيْهَا
ثُبُوتِهِ مِنْ الْعِنِّينِ فَإِنَّ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ يَثْبُتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِنِّينٍ فَيَظْهَرُ بُطْلَانُ مَعْنَى الْفُرْقَةِ، بِخِلَافِ إقْرَارِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ بِالْوَطْءِ لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ بَلْ هِيَ بِهِ مُنَاقِضَةٌ فَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِالْفُرْقَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةُ الْعِنِّينِ أَوْ الْمَجْبُوبِ صَغِيرَةً لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بَلْ يَنْتَظِرُ بُلُوغَهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَرْضَى بِهِ إذَا بَلَغَتْ، وَإِذَا رَضِيَتْ قَبْلَ التَّأْجِيلِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا سَقَطَ حَقُّهَا وَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفُرْقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ يُجَامِعُ وَلَا يُنْزِلُ لِجَفَافِ مَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ الْفُرْقَةِ (قَوْلُهُ وَتِلْكَ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: فُسِخَ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَتِهَا، وَقَاسَ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى الْفُرْقَةِ بِالْجَبِّ. قُلْنَا: بَلْ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ حِينَ عَجَزَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا امْتَنَعَ كَانَ ظَالِمًا فَنَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فِيهِ فَيُضَافُ فِعْلُهُ إلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْجَبِّ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِهِ عِنْدَنَا أَيْضًا طَلَاقٌ.
(قَوْلُهُ لَكِنَّ النِّكَاحَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْدَنَا) أَيْ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ التَّامَّ النَّافِذَ اللَّازِمَ لِأَنَّهُ النِّكَاحُ الْمُطْلَقُ فَخَرَجَ الْفَاسِدُ وَالْمَوْقُوفُ وَالْفَسْخُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَخِيَارُ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ فَسْخٌ قَبْلَ التَّمَامِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِتْمَامِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ فُرْقَةٌ بَعْدَ التَّمَامِ فَلَا يَقْبَلُهَا كَمَا لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ لِلْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ خَلْوَةَ الْعِنِّينِ صَحِيحَةٌ، إذْ لَا وُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْعُنَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْوَطْءِ اخْتِيَارًا تَعَنُّتًا فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَةِ وَلَا يَحِلُّ تَرْكُ وَطْئِهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّهَا رَضِيَتْ حَيْثُ نَكَحَتْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ؛ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بِهِ أُخْرَى عَالِمَةً بِحَالِهِ فَفِي الْأَصْلِ كَذَلِكَ يَكُونُ رِضًا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَقِيلَ: لَا يَكُونُ رِضًا لِجَوَازِ تَأْمِيلِهَا بُرْأَهُ. وَدُفِعَ بِأَنَّهُ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فَالظَّاهِرُ لُزُومُهُ وَزَمَانَتُهُ فَتَكُونُ بِالتَّزَوُّجِ بِهِ رَاضِيَةً بِالْعَيْبِ.
(قَوْلُهُ هَذَا) أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ بِالْفُرْقَةِ أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ سَنَةً ثُمَّ بَعْدَهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إذَا اعْتَرَفَ الزَّوْجُ بِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَيْهَا فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَإِنْ تَصَادَفَا أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا فِي نِكَاحٍ قَبْلَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا لِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَلَمْ يُصَلِّ إلَيْهَا لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفُرْقَةِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَادَّعَى الْوُصُولَ
فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ حَقِّ الْفُرْقَةِ وَالْأَصْلُ هُوَ السَّلَامَةُ فِي الْجِبِلَّةِ (ثُمَّ إنْ حَلَفَ بَطَلَ حَقُّهَا، وَإِنْ نَكَلَ يُؤَجَّلُ سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ أُجِّلَ سَنَةً) لِظُهُورِ كَذِبِهِ (وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الزَّوْجُ، فَإِنْ حَلَفَ لَا حَقَّ لَهَا، وَإِنْ نَكَلَ يُؤَجَّلُ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبًا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ إنْ طَلَبَتْ) لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْجِيلِ (وَالْخَصِيُّ يُؤَجَّلُ كَمَا يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ) لِأَنَّ وَطْأَهُ مَرْجُوٌّ
وَقَالَتْ: لَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ وَإِنْ نَكَلَ أُجِّلَ سَنَةً) سَوَاءٌ جُعِلَ النُّكُولُ إقْرَارًا أَوْ بَذْلًا فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَيْهَا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا) يَعْنِي إذَا نَكَلَ وَكَانَتْ بِكْرًا وَقْتَ النِّكَاحِ لَا يُسْتَحْلَفُ بَلْ تَرَاهَا النِّسَاءُ، (فَإِنْ قُلْنَ): هِيَ بِكْرٌ أُجِّلَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى الِاسْتِحْلَافِ وَالنُّكُولِ لِتَيَقُّنِ كَذِبِهِ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ قُلْنَ: خَرَجَ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى مِنْ إرَاءَتِهَا لِامْرَأَتَيْنِ ثُمَّ جَعَلَهُمَا جَمْعًا وَإِلَّا فَالْوَاحِدَةُ الْعَدْلَةُ تَكْفِي نَصَّ عَلَى الْعَدَالَةِ فِي كَافِي الْحَاكِمِ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ أَنَّهَا بِكْرٌ أَنْ تُدْفَعَ فِي فَرْجِهَا أَصْغَرُ بَيْضَةٍ لِلدَّجَاجِ، فَإِنْ دَخَلَتْ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ فَهِيَ ثَيِّبٌ وَإِلَّا فَبِكْرٌ؛ أَوْ تُكْسَرُ وَتُسْكَبُ فِي فَرْجِهَا، فَإِنْ دَخَلَ فَثَيِّبٌ وَإِلَّا فَبِكْرٌ، وَقِيلَ إنْ أَمْكَنَهَا أَنْ تَبُولَ عَلَى الْجِدَارِ فَبِكْرٌ وَإِلَّا فَثَيِّبٌ، وَإِنْ قُلْنَ ثَيِّبٌ تَثْبُتُ الثُّيُوبَةُ وَلَا يَثْبُتُ وُصُولُهُ إلَيْهَا لِأَنَّ الْبَكَارَةَ قَدْ تَزُولُ بِغَيْرِهِ كَوَثْبَةٍ وَنَحْوِهَا؛ غَيْرَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ لَوْ قَالَتْ زَالَتْ الْبَكَارَةُ بِأُصْبُعِهِ وَنَحْوِهِ فَيُحَلَّفُ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا، فَإِنْ حَلَفَ تَقَرَّرَ النِّكَاحُ وَإِنْ نَكَلَ أَجَّلَهُ سَنَةً ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا، ثُمَّ إذَا أُجِّلَ وَمَضَتْ السَّنَةُ فَاخْتَلَفَا فِي الْوُصُولِ فِي السَّنَةِ فَعَلَى مَا إذَا اخْتَلَفَا قَبْلَ التَّأْجِيلِ، إنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرْنَ إلَيْهَا، فَإِنْ قُلْنَ: بِكْرٌ خُيِّرَتْ لِلْحَالِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفُرْقَةِ، وَإِنْ قُلْنَ: ثَيِّبٌ حُلِّفَ فَإِنْ نَكَلَ خُيِّرَتْ وَإِنْ حَلَفَ اسْتَقَرَّ النِّكَاحُ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فِي الْأَصْلِ فَاخْتَلَفَا قَبْلَ التَّأْجِيلِ أَوْ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَقَرَّ النِّكَاحُ، وَلَوْ نَكَلَ أُجِّلَ وَخُيِّرَتْ بَعْدَهُ، وَفِي مَوْضِعٍ تُخَيَّرُ يُعْتَبَرُ الْمَجْلِسُ كَتَخْيِيرِ الزَّوْجِ، فَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا أَوْ أَقَامَهَا أَعْوِنَةُ الْقَاضِي وَلَوْ مُكْرَهَةً لَزِمَ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهَا اخْتِيَارُ نَفْسِهَا قَبْلَ أَنْ تُقَامَ، وَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَإِنْ أَبَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ. وَقِيلَ: تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهَا وَلَا تَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْجِيلِ) لِأَنَّهُ لِتَوَقُّعِ الْوُقُوعِ وَلَا تَوَقُّعَ لِفَقْدِ الْآلَةِ، بِخِلَافِ الْخَصِيِّ لِأَنَّ آلَتَهُ قَائِمَةٌ، وَإِنَّمَا سُلَّتْ خُصْيَتَاهُ أَوْ وُجِئَ، وَالْمَوْجُوءُ الَّذِي رُضَّ خُصْيَتَاهُ.
(وَإِذَا أُجِّلَ الْعِنِّينُ سَنَةً وَقَالَ قَدْ جَامَعْتُهَا وَأَنْكَرَتْ نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ. فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ بِكْرٌ خُيِّرَتْ) لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ وَهِيَ الْبَكَارَةُ (وَإِنْ قُلْنَ: هِيَ ثَيِّبٌ حَلَفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ نَكَلَ خُيِّرَتْ) لِتَأَيُّدِهَا بِالنُّكُولِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا تُخَيَّرُ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فِي الْأَصْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ (فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ خِيَارٌ) لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِبُطْلَانِ حَقِّهَا
وَفِي التَّأْجِيلِ تُعْتَبَرُ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ هُوَ الصَّحِيحُ
قَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْمَاشِيَةِ: إنَّهُ تُمْرَسُ الْخُصْيَتَانِ وَهُوَ صَغِيرٌ مَرْسًا شَدِيدًا ثُمَّ يُحْبَسَانِ إلَى فَوْقٍ إلَى أَنْ يَرْتَفِعَا إلَى ظَهْرِهِ فَلَا يَعُودَانِ، وَيَكُونُ نَشِيطًا كَثِيرَ الْجِمَاعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْبِلُ، فَالتَّوَقُّعُ وَاقِعٌ فَيُؤَجَّلُ كَالْعِنِّينِ (قَوْلُهُ وَإِذَا أُجِّلَ الْعِنِّينُ سَنَةً فَقَالَ إلَخْ) قَدْ وَصَلْنَا هَذَا الِاخْتِلَافَ الْكَائِنَ بَعْدَ التَّأْجِيلِ بِالِاخْتِلَافِ قَبْلَهُ فَلَا نُعِيدُهُ.
[فَرْعٌ]
الْخُنْثَى إذَا كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا وَإِلَّا أُجِّلَ كَالْعِنِّينِ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ. وَكُلُّ مَنْ تَزَوَّجَتْ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ: أَعْنِي الْمَجْبُوبَ وَالْخَصِيَّ وَالْعِنِّينَ وَهِيَ عَالِمَةٌ بِحَالِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِهِ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفُرْقَةِ.
(قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) صَحَّحَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْوَاقِعَاتِ احْتِرَازًا عَمَّا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَقَاضِي خَانَ وَظَهِيرُ الدِّينِ مِنْ اعْتِبَارِهَا شَمْسِيَّةً، وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا ضُرِبَتْ السَّنَةُ إلَّا لِلتَّوَصُّلِ إلَى صَلَاحِ الطَّبْعِ وَرَفْعِ الْمَانِعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُوَافِقَ طَبْعُهُ مُدَّةَ زِيَادَةِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ عَلَى الْقَمَرِيَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ رضي الله عنه وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ اسْمُ السَّنَةِ قَوْلًا وَأَهْلُ الشَّرْعِ إنَّمَا يَتَعَارَفُونَ الْأَشْهُرَ وَالسِّنِينَ بِالْأَهِلَّةِ، فَإِذَا أُطْلِقَ السَّنَةُ انْصَرَفَ إلَى ذَلِكَ مَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِخِلَافِهِ، ثُمَّ زِيَادَةُ الشَّمْسِيَّةِ قِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ: السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَجُزْءٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الْيَوْمِ، وَالْقَمَرِيَّةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ كَذَا رَأَيْت فِي نُسْخَةٍ. وَرَأَيْت فِي أُخْرَى عَنْهُ فِي الشَّمْسِيَّةِ زِيَادَةُ رُبُعِ يَوْمٍ مَعَ مَا ذَكَرْنَا.
وَقِيلَ: الْقَمَرِيَّةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا وَخُمُسُ يَوْمٍ وَسُدُسُهُ، وَالشَّمْسِيَّةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَرُبُعُ يَوْمٍ إلَّا جُزْءًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ جُزْءٍ مِنْ يَوْمٍ، وَفَضَلَ مَا بَيْنَهُمَا عَشْرَةُ أَيَّامٍ وَثُلُثٌ وَرُبُعُ عُشْرِ يَوْمٍ بِالتَّقْرِيبِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُحْدَثٌ. وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ أَنْ يُؤَجِّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ تُرْفَعُ الدَّعْوَى إلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُ الرَّاوِي عَنْ عُمَرَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي أَتَتْ إلَيْهِ فَأَجَّلَهُ حَوْلًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِي السَّنَةِ، وَالْحَوْلُ لَمْ يَرِدْ حِينَئِذٍ إلَّا مَا بِالْأَهِلَّةِ هَذَا الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَأَهْلُ الشَّرْعِ، عَلَى أَنَّ الْحَوْلَ
وَيُحْتَسَبُ بِأَيَّامِ الْحَيْضِ وَبِشَهْرِ رَمَضَانَ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَرَضِهِ وَمَرَضِهَا لِأَنَّ السَّنَةَ قَدْ تَخْلُو عَنْهُ.
(وَإِذَا كَانَ بِالزَّوْجَةِ عَيْبٌ فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُرَدُّ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ: الْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالْجُنُونُ وَالرَّتْقُ وَالْقَرْنُ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ حِسًّا أَوْ طَبْعًا
لَمْ يُعْرَفْ بِعُرْفٍ آخَرَ بَلْ اسْمُ السَّنَةِ هُوَ الَّذِي تَوَارَدَ عَلَيْهِ الْعُرْفَانِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَتُعْتَبَرُ بِأَيَّامِ الْحَيْضِ) أَيْ تُحْتَسَبُ مِنْ السَّنَةِ لِوُجُودِهَا فِي السَّنَةِ يَقِينًا وَعَادَةً.
(قَوْلُهُ وَلَا تُحْتَسَبُ بِمَرَضِهِ وَمَرَضِهَا) هَكَذَا مُطْلَقًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا مَرِضَ أَحَدُهُمَا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِمَاعَ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَمْ يُحْتَسَبْ وَعَوَّضَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْوَطْءِ فِيهِ بِاللَّيْلِ لَا بِالنَّهَارِ وَذَلِكَ نِصْفُهُ، فَكَذَا النِّصْفُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَهَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّ مَا فَوْقَ الشَّهْرِ كَذَلِكَ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ إنَّ مُدَّةَ الْكَثْرَةِ سَنَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَكْثَرُ السَّنَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ مَرِضَ فِي السَّنَةِ يُؤَجَّلُ مِقْدَارَ مَرَضِهِ، قِيلَ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، فَإِنْ حَجَّ أَوْ غَابَ هُوَ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَجْزَ جَاءَ بِفِعْلِهِ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مَعَهُ أَوْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ وَالْغَيْبَةَ، وَلَوْ كَانَ مُحْرِمًا وَقْتَ الْخُصُومَةِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤَجَّلُ بَعْدَ إحْرَامِهِ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّتْ هِيَ أَوْ غَابَتْ لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَجْزَ مِنْ قِبَلِهَا فَكَانَ عُذْرًا فَيُعَوَّضُ، فَإِنْ حُبِسَ الزَّوْجُ وَلَوْ بِمَهْرِهَا وَامْتَنَعَتْ مِنْ الْمَجِيءِ إلَى السِّجْنِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ وَكَانَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ فِيهِ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا فِيهِ لَمْ يُحْتَسَبْ، وَلَوْ رَافَعَتْهُ وَهُوَ مُظَاهِرٌ مِنْهَا تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ الْمُرَافَعَةِ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا أَمْهَلَهُ شَهْرَيْ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ أَجَّلَهُ فَيَتِمُّ تَأْجِيلُهُ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ، وَلَوْ ظَاهَرَ بَعْدَ التَّأْجِيلِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ بِالزَّوْجَةِ عَيْبٌ) إلَخْ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ
وَالطَّبْعُ مُؤَيَّدٌ بِالشَّرْعِ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ»
لِوَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِعَيْبٍ فِي الْآخَرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي زِيَادٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: إنَّهُ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ بِعَيْبٍ فِي الْمَرْأَةِ وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ بِعَيْبٍ فِيهِ مِنْ الثَّلَاثَةِ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لِكُلٍّ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلِلزَّوْجِ الْفَسْخُ إذَا كَانَتْ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ أَيْضًا، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي خَمْسَةِ عُيُوبٍ وَلَهَا فِي ثَلَاثَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَتُرَدُّ بِجَمِيعِ الْعُيُوبِ، وَكَذَا مِنْ الْجُنُونِ الْعَارِضِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالْجُنُونِ مَشْهُورَاتٌ، وَالْفِعْلُ مِنْ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَيُقَالُ: جُذِمَ وَجُنَّ إذَا أُصِيبَ بِالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ فَهُوَ مَجْذُومٌ وَمَجْنُونٌ، وَلَا يُقَالُ أَجْذَمَ وَلَا أَجَنَّ وَلَا مَجَنَ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَفْعُولِينَ مِنْ أَفْعَلَ جَاءَتْ عَلَى مَفْعُولٍ دُونَ مُفْعَلٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ: مَجْنُونٌ وَمَحْزُونٌ مِنْ أَحْزَنَهُ اللَّهُ وَمَحْبُوبٌ مِنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ. وَجَاءَ عَلَى الْقِيَاسِ فِي الثَّالِثِ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ:
وَلَقَدْ نَزَلْتَ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ
…
مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحِبِّ
الْمُكْرِمِ وَالْفِعْلُ مِنْ الْبَرَصِ بَرِصَ فَهُوَ أَبْرَصُ وَأَبْرَصَهُ اللَّهُ.
وَالرَّتْقُ الِالْتِحَامُ، وَالرَّتْقَاءُ هِيَ الْمُلْتَحِمَةُ. وَالْقَرْنُ فِي الْفَرْجِ إمَّا غُدَّةٌ غَلِيظَةٌ أَوْ عَظْمٌ يَمْنَعُ سُلُوكَ الذَّكَرِ. لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله وَمَنْ مَعَهُ النَّصُّ فِي بَعْضِهَا وَقِيَاسَانِ فِي بَعْضِهَا، وَثَلَاثَةُ أَقْيِسَةٍ فِي بَعْضِهَا. أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَدَّ بِالْعَيْبِ، قَالَ لِلَّتِي رَأَى بِكَشْحِهَا وَضَحًا أَوْ بَيَاضًا الْحَقِي بِأَهْلِكِ» فَصَارَ الْبَرَصُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَيُلْحَقُ بِهِ الْجُذَامُ وَالْجُنُونُ بِجَامِعِ أَنَّهُ يَنْفِرُ مِنْهُ الطَّبْعُ، وَهَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ كَوْنُهُ مُنَافِرًا لِلطَّبْعِ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي جِنْسِ الْعِلَلِ وَهُوَ الْمُبَاعَدَةُ وَالْفِرَارُ فَإِنَّهُ جِنْسُ الْفَسْخِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ» وَيُجْعَلُ الْجُذَامُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ الْفِرَارَ يَثْبُتُ بِفَسْخِ نِكَاحِهِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ» وَيُقَاسُ النِّكَاحُ عَلَى الْبَيْعِ فِي أَنَّهُ يُفْسَخُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ، هَكَذَا عُيُوبٌ يُفْسَخُ بِهَا الْبَيْعُ فَيُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ. وَقِيَاسًا عَلَى الْمَجْبُوبِ بِجَامِعِ الْمَنَافِعِ الْحِسِّيِّ فِيمَا بِهِ فَوَاتُ مَقْصُودِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا.
قُلْنَا: أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَمِيلِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْلَمُ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَلَدٌ اسْمُهُ زَيْدٌ، وَلَوْ سَلِمَ جَازَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا. فَإِنَّ لَفْظَ الْحَقِي بِأَهْلِك مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَأَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى إبَاحَةِ الْقُرْبِ مِنْهُ وَيُثَابُ بِخِدْمَتِهِ وَتَمْرِيضِهِ وَعَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَتَخَلَّفَ فِيهِ جُزْءُ الْمُقْتَضِي أَوْ شَرْطُهُ، فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ بِفَسْخِ الْعَيْبِ مَعَ وُقُوعِهِ فِي عَقْدِ مُبَادَلَةٍ تَجْرِي فِيهِ الْمُشَاحَحَةُ وَالْمُضَايَقَةُ بِسَبَبِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ الْمَالَ وَهَذَا شَرْطُ عَمَلِهِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالَ فِيهِ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَإِنَّمَا شُرِعَ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْمَحَلِّ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ لَوَازِمُهُمَا حَتَّى
وَلَنَا أَنَّ فَوْتَ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا بِالْمَوْتِ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فَاخْتِلَالُهُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الثَّمَرَاتِ وَالْمُسْتَحَقُّ هُوَ التَّمَكُّنُ وَهُوَ حَاصِلٌ.
(وَإِذَا كَانَ بِالزَّوْجِ جُنُونٌ أَوْ بَرَصٌ أَوْ جُذَامٌ فَلَا خِيَارَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَهَا الْخِيَارُ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، بِخِلَافِ جَانِبِهِ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ بِالطَّلَاقِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخِيَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْجُبّ وَالْعُنَّةُ لِأَنَّهُمَا يُخِلَّانِ بِالْمَقْصُودِ الْمَشْرُوعِ لَهُ النِّكَاحُ، وَهَذِهِ الْعُيُوبُ غَيْرُ مُخِلَّةٍ بِهِ فَافْتَرَقَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
أَجَزْنَاهُ عَلَى عَبْدٍ وَفَرَسٍ غَيْرِ مَوْصُوفَيْنِ وَصُحِّحَ مَعَ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْمَرْأَةِ أَصْلًا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عِنْدَهُ، ثُمَّ إذَا رَأَى عِنْدَنَا الْمَبِيعَ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارٌ لِلرَّدِّ بِلَا عَيْبٍ، وَفِي النِّكَاحِ لَوْ شَرَطَ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَالْعُذْرَةِ وَالْجَمَالِ وَالرَّشَاقَةِ وَصِغَرِ السِّنِّ فَظَهَرَتْ ثَيِّبًا عَجُوزًا شَوْهَاءَ ذَاتَ شِقٍّ مَائِلٍ وَلُعَابٍ سَائِلٍ وَأَنْفٍ هَائِلٍ وَعَقْلٍ زَائِلٍ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِهِ، وَفِي الْبَيْعِ يُفْسَخُ بِدُونِ ذَلِكَ، وَلَوْ هَزْلًا بِالْبَيْعِ لَمْ يَنْفُذْ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْهَزْلِ بِهِ فَكَذَلِكَ بِالْعِلَّةِ مُقْتَضِيَةٌ.
وَعَنْ الْقِيَاسِ الثَّالِثِ بِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ امْتِنَاعُ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِجَوَازِ أَنْ يَطَأَ مَنْ هِيَ كَذَلِكَ وَيَتَوَصَّلَ بِالشَّقِّ وَالْقَطْعِ وَالْكَسْرِ غَايَةَ مَا فِيهِ نَفْرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ، وَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ الْفَسْخَ اتِّفَاقًا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِهِ فِي ذَاتِ الْقُرُوحِ الْفَاحِشَةِ وَالْبَخَرِ الزَّائِدِ حِينَئِذٍ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّ وُجُودَ ذَلِكَ فِيهِ يُعَطِّلُ عَلَيْهَا الْمَقْصُودَ لِلْوَجْهِ الْأَخِيرِ بِخِلَافِهِ هُوَ إذَا وَجَدَهَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ، وَوَجْهُ دَفْعِهِ وَدَفْعِ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَمَنْ مَعَهُ انْتَظَمَهُ دَفْعُ أَقْيِسَةِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ مَعَهُ.
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ فَوَاتَ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ) فَاخْتِلَالُهُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَوْلَى أَنْ لَا يُوجِبَ الْفَسْخَ، وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ النِّكَاحَ مُؤَقَّتٌ بِحَيَاتِهِمَا.
(قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ هَذِهِ الْعُيُوبِ لَا تُوجِبُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الثَّمَرَاتِ فَلَا تُرَاعَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى الْكَمَالِ وَالْمُسْتَحَقُّ التَّمَكُّنُ: أَيْ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ لِمَا قُلْنَا.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُمَا مُخِلَّانِ بِالْمَقْصُودِ) فَإِنْ قِيلَ: جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الِاسْتِيفَاءَ لِلْوَطْءِ
بَابُ الْعِدَّةِ
مِنْ الثَّمَرَاتِ فَلَا يَجِبُ الْخِيَارُ بِفَوَاتِهِ وَهُنَا جَعَلَهُ الْمَقْصُودَ الْمَشْرُوعَ لَهُ النِّكَاحُ حَتَّى يَتَخَيَّرْنَ فِي الْفَسْخِ بِالْجَبِّ وَهَذَا تَدَافَعَ. أُجِيبُ بِأَنَّ الْوَطْءَ لَهُ جِهَتَانِ: جِهَةُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ النِّكَاحُ وَهُوَ التَّوَالُدُ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ، وَجِهَةُ كَوْنِهِ ثَمَرَةً حَيْثُ يَصِحُّ نِكَاحُهُ الرَّضِيعَةَ وَالْآيِسَةَ، فَلَوْ كَانَ مَقْصُودًا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ هَؤُلَاءِ كَمَا لَمْ يَجُزْ اسْتِئْجَارُ الْجَحْشِ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ فَاعْتَبَرْنَا جِهَةَ الثَّمَرَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ بِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ جَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ مِنْ أَنَّ إزَالَةَ قَيْدِ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ لَا الْفَسْخِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إزَالَتِهِ بِهِ وَمِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِهَا، وَجِهَةُ الْمَقْصُودِيَّةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِهِ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّلَاقِ وَلَا الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِهِ، وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ مُطَّرِدٌ لَا يَخْتَلِفُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(بَابُ الْعِدَّةِ)
لَمَّا تَرَتَّبَتْ الْعِدَّةُ فِي الْوُجُودِ عَلَى فُرْقَةِ النِّكَاحِ شَرْعًا أَوْرَدَهَا عَقِيبَ وُجُوهِ الْفُرْقَةِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَالْخُلْعِ
(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا أَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَهِيَ حُرَّةٌ مِمَّنْ تَحِيضُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
وَاللِّعَانِ وَأَحْكَامِ الْعِنِّينِ. وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الْإِحْصَاءُ، عَدَّدْت الشَّيْءَ عِدَّةً أَحْصَيْته إحْصَاءً، وَتُقَالُ أَيْضًا عَلَى الْمَعْدُودِ. وَفِي الشَّرْعِ: تَرَبُّصٌ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ عِنْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ الْمُتَأَكِّدِ بِالدُّخُولِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ الْخَلْوَةِ وَالْمَوْتِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ وَشُبْهَتِهِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى النِّكَاحِ، وَالتَّرَبُّصُ الِانْتِظَارُ: أَيْ انْتِظَارُ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ بِالتَّزَوُّجِ، فَحَقِيقَتُهُ تَرْكٌ لَزِمَ شَرْعًا لِلتَّزَوُّجِ وَالزِّينَةِ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ شَرْعًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَهَا النِّكَاحُ أَوْ شُبْهَتُهُ، وَزَوَالُ ذَلِكَ شَرْطٌ، فَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِنَا عِدَّةَ الطَّلَاقِ إلَى الشَّرْطِ، وَلَمْ يَخُصَّ الزَّوَالَ بِالنِّكَاحِ فَعَمَّ الشُّبْهَةَ. قَالُوا: وَرُكْنُهَا حُرُمَاتٌ تَثْبُتُ عِنْدَ الْفُرْقَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْكَفُّ عَنْهَا، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ إذَا وَجَبَتَا مِنْ رَجُلَيْنِ تَتَدَاخَلَانِ وَتَنْقَضِيَانِ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي التَّعْرِيفِ: هِيَ لُزُومُ التَّرَبُّصِ لِيَصِحَّ كَوْنُ رُكْنِهَا حُرُمَاتٍ لِأَنَّهَا لُزُومَاتٌ، وَإِلَّا فَالتَّرَبُّصُ فِعْلُهَا، وَالْحُرُمَاتُ أَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ نَفْسُهُ فِعْلًا، وَعَلَى هَذَا فَمَا قِيلَ فِي حُكْمِهَا: إنَّهُ حُرْمَةُ نِكَاحِهَا غَيْرَهُ عَلَيْهَا وَحُرْمَةُ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٌ سِوَاهَا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ الَّتِي تَثْبُتُ عِنْدَ الْفُرْقَةِ رُكْنُهَا بِالْفَرْضِ، وَحُرْمَةَ تَزَوُّجِهَا بِغَيْرِهِ مِنْ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ. نَعَمْ حُرْمَةُ تَزَوُّجِهِ بِأُخْتِهَا لَا يَكُونُ مِنْ الْعِدَّةِ فَهُوَ حُكْمُ عِدَّتِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَعْنَى كَوْنِهِ هُوَ أَيْضًا فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِدَّةِ وُجُوبُ الِانْتِظَارِ بِالتَّزَوُّجِ إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَهُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي الْعِدَّةِ أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّ اسْمَ الْعِدَّةِ اصْطِلَاحًا خُصَّ بِتَرَبُّصِهَا لَا بِتَرَبُّصِهِ، وَلَزِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ لَا يُقَالَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَسَنُوَضِّحُهُ.
(قَوْلُهُ إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا) وَلَيْسَ رَجْعِيًّا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَشَمَلَ طَلَاقَ الْخُلْعِ وَاللِّعَانِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ. قِيلَ: هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهَا فَسْخٌ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْخُلْعِ مِنْ الْمَنْقُولِ، إذْ لَا يُعْقَلُ كَوْنُ الْفَسْخِ مُؤَثِّرًا فِي نُقْصَانِ الْعِدَّةِ وَلِذَا وَجَبَتْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ فِي الْفَسْخِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَغَيْرِهِ، وَخِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عِدَّةُ الْمُلَاعِنَةِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ (قَوْلُهُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِمَّنْ تَحِيضُ) يَعْنِي مِمَّنْ تَحَقَّقَ حَيْضُهَا وَلَمْ تَبْلُغْ الْإِيَاسَ سَوَاءٌ كَانَتْ تَحِيضُ أَوْ لَا، حَتَّى لَوْ بَلَغَتْ فَرَأَتْ الدَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ انْقَطَعَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تُنْقَضْ عِدَّتُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أَوْ تَدْخُلَ الْإِيَاسَ فَتَعْتَدَّ بِالْأَشْهُرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ تَرَ شَيْئًا أَوْ رَأَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ.
(قَوْلُهُ أَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ) مِثْلَ الِانْفِسَاخِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَمِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ وَالرِّدَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَالِافْتِرَاقِ عَنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ.
(قَوْلُهُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ) مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ رُكْنِ الْعِدَّةِ كَوْنُ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ؛ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَتَعَلَّقُ فِي مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَنْتَصِبَ لِأَنَّهُ ظَرْفُ زَمَانٍ مُعْرَبٌ وَاقِعٌ خَبَرًا عَنْ اسْمِ مَعْنَى
وَالْفُرْقَةُ إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَهِيَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فِي الْفُرْقَةِ الطَّارِئَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا.
وَالْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَطْهَارُ وَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا إذْ هُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَلَا يَنْتَظِمُهُمَا جُمْلَةُ لِلِاشْتِرَاكِ
نَحْوَ السَّفَرُ غَدًا، لَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْإِطْلَاقُ الْمَجَازِيُّ: أَعْنِي إطْلَاقَ الْعِدَّةِ عَلَى نَفْسِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ سَبَبَ الْعِدَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْهُ تَأَكُّدُهُ بِالدُّخُولِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ الْمُصَنِّفُ لِشُهْرَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا تَجِبُ فِيهِ الْعِدَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} .
(قَوْلُهُ وَالْفُرْقَةُ إذَا كَانَتْ إلَخْ) لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ بِلَا طَلَاقٍ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الطَّلَاقَ أَلْحَقَهُ بِالْجَامِعِ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَهَا فِي مَحَلِّ النَّصِّ وَهُوَ الطَّلَاقُ لِتُعْرَفَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ وَجَعَلَهُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ حَيْثُ قَالَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ: يَعْنِي يَتَبَادَرُ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ بِوُجُوبِ تَرْكِهَا النِّكَاحَ إلَى أَنْ تَحِيضَ عِنْدَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَنَّهُ لِذَلِكَ، ثُمَّ كَوْنُهَا تَجِبُ لِلتَّعَرُّفِ لَا يَنْفِي أَنْ تَجِبَ لِغَيْرِهِ أَيْضًا، وَقَدْ أَفَادَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي أَنَّهَا أَيْضًا تَجِبُ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ بِإِظْهَارِ الْأَسَفِ عَلَيْهِ، فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا فِي مَوَاضِعِ وُجُوبِ الْأَقْرَاءِ وَقَدْ يَنْفَرِدُ الثَّانِي كَمَا فِي صُوَرِ الْأَشْهُرِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ وَهُوَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُؤْسَفُ عَلَيْهِ إذْ لَا إلْفَ وَلَا مَوَدَّةَ فِيهِ.
(قَوْلُهُ وَالْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَطْهَارُ) وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ مَالِكٍ، وَنُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَوْلُنَا: هُوَ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْعَبَادِلَةِ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَزَادَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مَعْبَدًا الْجُهَنِيَّ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ قَوْلُ الْعَبَادِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَتَعَارَضَ عَنْهُ النَّقْلُ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ، وَثَبَتَهُ عَنْهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ، فَعَارَضَ رِوَايَتَهُمْ عَنْ زَيْدٍ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنَانِ بْنُ حَيِيٍّ وَالْبَصْرِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَشَرِيكٌ الْقَاضِي وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَرَبِيعَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَإِسْحَاقُ وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَحْمَدُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى الْخَيَّاطُ الْمَدَنِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ قَالَ: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ إنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُمْ إذَا كَانَتْ الْحَيْضُ لَا الطُّهْرُ، إلَّا إذَا كَانَ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، فَأَمَّا الطُّهْرُ فَيُحْتَسَبُ بِهِ فَيَلْزَمُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالشُّرُوعِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَالطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي قَوْلُهُمْ.
(قَوْلُهُ إذْ هُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ) اسْتِدْلَالٌ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ مِنْ
وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَيْضِ أَوْلَى، إمَّا عَمَلًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَطْهَارِ وَالطَّلَاقُ يُوقَعُ فِي طُهْرٍ لَمْ يُبْقِ جَمْعًا، أَوْ لِأَنَّهُ مُعَرِّفٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، أَوْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَعِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ» فَيَلْتَحِقُ بَيَانًا بِهِ
(وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الْآيَةَ
عَدَمِ التَّجَوُّزِ بِاسْمِ الضِّدِّ فِي الضِّدِّ، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ مُعَرِّفَاتِ الِاشْتِرَاكِ كَوْنَ الْمَفْهُومِينَ مُتَضَادَّيْنِ. وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْأَدَبِ فَيَجُوزُ لِغَرَضِ تَمْلِيحٍ أَوْ تَهَكُّمٍ كَمَا يُقَالُ لِلْجَبَانِ أَسَدٌ أَوْ تَفَاؤُلٌ كَالْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى إلَّا أَنَّهَا بِمَعْزِلٍ مِنْ إفَادَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا. وَأَمَّا فِي خُصُوصِ هَذَا الْمَقَامِ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعَمَّمْ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْ الْمَفْهُومَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ الِانْتِظَامِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَلَوْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِتَضَادِّ الْمَفْهُومَيْنِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا كَانَ أَحْسَنَ.
لَا يُقَالُ: اسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الِاشْتِرَاكِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مُتَعَدِّدٍ اشْتِرَاكُهُ لَفْظًا لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ وَالتَّشْكِيكِ. لَا يُقَالُ: لَيْسَ مَحَلُّ النِّزَاعِ كَمَا ذَكَرْت لِلتَّضَادِّ. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا وَافَقَ مَنْ جَعَلَ تَعْمِيمَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَنْعِ تَعْمِيمِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ التَّضَادِّ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ كُلٌّ مِنْ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَتَعْتَدُّ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَثَلَاثِ حِيَضٍ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُهُمَا فِي زَمَنِ أَحَدِهِمَا.
(قَوْلُهُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَيْضِ أَوْلَى) ادَّعَى الْحَقِيقَةَ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ وَاقْتَصَرَ عَلَى دَلِيلِ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ لِعَدَمِ دَلِيلٍ مُعْتَمَدٍ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: الْقُرْءُ بِمَعْنَى الطُّهْرِ هُوَ الَّذِي يُجْمَعُ عَلَى قُرُوءٍ، وَأَمَّا بِمَعْنَى الْحَيْضِ فَإِنَّمَا يُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَكَوْنُهُ وَقَعَ فِي شِعْرِ الْأَعْشَى كَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ:
أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمٌ غَزْوَةً
…
تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
(وَكَذَا الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ) بِآخِرِ الْآيَةِ.
(وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ وَالْحَيْضَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فَكُمِّلَتْ فَصَارَتْ حَيْضَتَيْنِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ: لَوْ اسْتَطَعْتُ لَجَعَلْتهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا
مُورِثَةٌ مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ
…
لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
أَيْ مِنْ أَطْهَارِهِنَّ لِلشُّغْلِ بِالْغَزْوِ عَنْهُنَّ لَا يُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَيْهِ.
وَكَذَا الِاسْتِشْهَادُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكَ» لَا يُوجِبُهُ.
فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ «فَانْظُرِي فَإِذَا أَتَاكِ قُرْؤُكِ فَلَا تُصَلِّي، فَإِذَا مَرَّ قُرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي وَصَلِّي» وَقَالَ الرَّاجِزُ:
يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ وَضَبٍّ فَارِضٍ
…
لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ
يُرِيدُ كَحَيْضِ الْحَائِضِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ عَدَاوَتَهُ تَجْتَمِعَ فَتَهِيجُ كَدَمِ الْحَائِضِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي بَيْتِ الْأَعْشَى: إنَّ الْمُرَادَ نَفْسَ الزَّمَانِ: أَيْ زَمَانِ الطُّهْرِ، فَإِنَّ الْقُرْءَ يُقَالُ لِلزَّمَانِ لُغَةً كَثِيرًا، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» يَعْنِي بِالْأَمْرِ قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِيهِ بِمَعْنَى فِي وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَيَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمُ الْعِدَّةِ عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ مُقَارَنَةٌ لَهُ لِاقْتِضَائِهِ وُقُوعَهُ فِي وَقْتِ الْعِدَّةِ وَقِرَاءَةُ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَنْفِيهِ إذْ أَفَادَتْ أَنَّ اللَّامَ فِيهِ مُفِيدَةٌ مَعْنَى اسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِنَّ وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُحَقَّقٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ يُقَالُ فِي التَّارِيخِ بِإِجْمَاعِ الْعَرَبِيَّةِ خَرَجَ لِثَلَاثٍ بَقَيْنَ وَنَحْوُهُ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَ ابْنَ عُمَرَ بِذَلِكَ، وَمَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحِيَضُ فَلَمْ يُفْهَمْ أَنَّهَا الْأَطْهَارُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ عَنْهُ مِنْ خِلَافِ مَا نَقَلُوهُ عَنْهُ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَتَمَسُّكُهُمْ بِتَأْنِيثِ الْعَدَدِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وَهُوَ يَقْتَضِي تَذْكِيرَ الْمَعْدُودِ وَالطُّهْرُ هُوَ الْمُذَكَّرُ لَا الْحَيْضُ، فَلَوْ أُرِيدَ الْحَيْضُ لَقِيلَ: ثَلَاثَ قُرُوءٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ لَهُ اسْمَانِ مُذَكَّرٌ كَالْبُرِّ وَالْحِنْطَةِ وَلَا تَأْنِيثَ حَقِيقِيَّ يُؤَنَّثُ عَدَدُهُ إذَا أُضِيفَ إلَى اللَّفْظِ الْمُذَكَّرِ وَيُذَكَّرُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمُؤَنَّثِ، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ إذَا كَانَ الْمَعْدُودُ مُؤَنَّثًا وَاللَّفْظُ مُذَكَّرًا أَوْ بِالْعَكْسِ فَوَجْهَانِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ لِلدَّمِ اسْمَيْنِ مُذَكَّرًا وَهُوَ الْقُرْءُ وَمُؤَنَّثًا وَهُوَ الْحَيْضُ فَحِينَ أُضِيفَ إلَى الْمُذَكَّرِ أُنِّثَ، وَكَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ فَإِنَّ الدَّمَ مُذَكَّرٌ وَالْقُرْءَ مُذَكَّرٌ فَيُؤَنَّثُ عَدَدُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ قَوْلُهُ (عَمَلًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ): أَيْ الْعَدَدِ فَإِنَّهُ جَمْعٌ مَعْنًى لَا صِيغَةً، أَوْ يُرِيدُ الْجَمْعَ الصِّيغِيَّ الْمَقْرُونَ بِالْعَدَدِ تَنْصِيصًا عَلَى الْمُرَادِ بِكَمِّيَّتِهِ: أَعْنِي لَفْظَ قُرُوءٍ الْمُقَيَّدَةَ بِثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ احْتِمَالُ أَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرَ الْكَمِّيَّةِ الْعَدَدِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَوْ كَانَتْ مِنْ كَمِّيَّاتِ الْجُمُوعِ، فَكَيْفَ بِالْكَمِّيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ حَقِيقَةَ الْجَمْعِ وَهِيَ اللَّازِمَةُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْأَطْهَارِ حَيْثُ يَصِيرُ طُهْرَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ إذَا وَقَعَ فِي الطُّهْرِ وَإِلَّا لَزِمَ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، إذْ كُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الطُّهْرُ قَالَ: تُحْتَسَبُ بِالطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ وَهُوَ نَقْصٌ عَنْ التَّقْدِيرِ الْقَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ وَالثُّبُوتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ عَلَى الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ لَا يُحْتَسَبُ بِتِلْكَ
(وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ) لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئُ فَأَمْكَنَ تَنْصِيفُهُ عَمَلًا بِالرِّقِّ.
(وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
الْحَيْضَةِ فَتَكْمُلُ الثَّلَاثُ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ وَزِيَادَةٌ تُثْبِتُ ضَرُورَةَ التَّكْمِيلِ وَهُوَ جَائِزٌ، إذْ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَى حَقِيقَةِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ إلَّا بِهَا، بِخِلَافِ طُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ حَقِيقَتُهُ أَصْلًا.
لَا يُقَالُ: قَدْ أُرِيدَ بِالْعَدَدِ غَيْرَ كَمِّيَّتِهِ الْمُفَادَةِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} لِأَنَّا نَقُولُ: لَمْ يُرَدْ بِالْعَدَدِ عَدَدٌ آخَرُ مُبَايِنٌ لَهُ بَلْ مُجَرَّدُ التَّكْثِيرِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَنْ يُرَادَ بِسَبْعِينَ مَثَلًا ثَمَانُونَ أَوْ مِائَةٌ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ أَيْ الْحَيْضَ هُوَ الْمُعَرِّفُ بِالذَّاتِ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، بِخِلَافِ الطُّهْرِ لِأَنَّهُ وَإِنْ دَلَّ فَبِوَاسِطَةِ الْحَيْضِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفِيدُ لِعَدَمِ انْسِدَادِ فَمِ الرَّحِمِ بِالْحَبَلِ إذْ لَوْ انْسَدَّ بِهِ لَمْ تَحِضْ عَادَةً، وَلِذَا نَصَّ عليه الصلاة والسلام أَنَّ مُفِيدَ الْبَرَاءَةِ الْحَيْضُ حَيْثُ قَالَ فِي السَّبَايَا «حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ» وَلَمْ يَقُلْ بِطُهْرٍ.
الثَّالِثُ هُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ تَخْرِيجُهُ. وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أَبِي طَلْحَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: يَنْكِحُ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ وَيُطَلِّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ فَشَهْرَيْنِ أَوْ شَهْرًا وَنِصْفًا. وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُخَالِفُ الْحُرَّةَ فِيمَا بِهِ الِاعْتِدَادُ بَلْ فِي الْكَمِّيَّةِ فَيَلْتَحِقُ قَوْله تَعَالَى {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} لِلْإِجْمَالِ الْكَائِنِ بِالِاشْتِرَاكِ بَيَانًا لَهُ.
وَمِنْ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْرَاءِ أَصْلٌ وَالْأَشْهُرُ خَلَفٌ عَنْهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَلَمَّا عَلَّقَ سبحانه وتعالى الْمَصِيرَ إلَيْهِ بِعَدَمِ الْحَيْضِ دَلَّ أَنَّ الْحَيْضَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَقْرَاءِ فِي الْآيَةِ وَكَوْنُهُ يَنْعَدِمُ الطُّهْرُ بِعَدَمِ الْحَيْضِ، فَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْحَيْضِ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الطُّهْرِ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ الظُّهُورُ، إذْ الظَّاهِرُ تَعْلِيقُ الْمَصِيرِ إلَى الْخَلْفِ بِعَدَمِ عَيْنِ مَا شُرِعَ أَصْلًا لَا بِعَدَمِ شَيْءٍ آخَرَ يَسْتَلْزِمُهُ، فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْقُرُوءِ، فَلَمَّا جَاءَ قَوْله تَعَالَى بِلَفْظِ الْحَيْضِ مَكَانَهُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ عُلِمَ أَنَّهُ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ هُوَ.
[فَرْعٌ]
تَنْقَضِي عِدَّةُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالثَّلَاثِ بِالْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ بِأَنْ وَطِئَهَا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ عَالِمًا بِحُرْمَتِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى الشُّبْهَةَ أَوْ كَانَ مُنْكِرًا إطْلَاقَهَا فَإِنَّهَا تَسْتَقْبِلُ الْعِدَّةَ، وَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا حَتَّى لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ هَذِهِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ وَيَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ) لِصِغَرٍ بِأَنْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْحَيْضِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، وَأَقَلُّهُ تِسْعٌ عَلَى الْمُخْتَارِ، أَوْ كِبَرٍ بِأَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْإِيَاسِ وَانْقَطَعَ حَيْضُهَا فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْقُرُوءِ قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا عِدَّةَ الَّتِي تَحِيضُ فَاَلَّتِي لَا تَحِيضُ لَا نَدْرِي مَا عِدَّتُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: إنْ ارْتَبْتُمْ فِي عِدَّةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ فَلَمْ تَعْلَمُوهَا فَإِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ إنْ ارْتَبْتُمْ فِي الدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْإِيَاسِ أَهُوَ حَيْضٌ أَوْ فَسَادٌ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَكَذَا الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ بِآخَرَ الْآيَةَ: يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} يَعْنِي الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ بِالْحَيْضِ بَلْ بِالسِّنِّ بِأَنْ بَلَغَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَلَى
(وَعِدَّةُ الْأَمَةِ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ) لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ.
(وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا) لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
قَوْلِهِمَا وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَلَمْ تَحِضْ إذَا طَلُقَتْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ أَيْضًا، ثُمَّ إنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ اعْتَدَّتْ بِأَشْهُرٍ هِلَالِيَّةٍ اتِّفَاقًا، وَإِنْ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ اُعْتُبِرَ كُلُّهَا بِالْأَيَّامِ فَلَا تَنْقَضِي إلَّا بِتِسْعِينَ يَوْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُكَمَّلُ الْأَوَّلُ ثَلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ وَالشَّهْرَانِ الْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ عَدَمِ التَّحْرِيرِ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الَّتِي لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فِي الِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} الْآيَةَ، ثُمَّ خَصَّ الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ بِآخِرِهَا حَيْثُ قَالَ: وَكَذَلِكَ الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ بِآخِرِ الْآيَةِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ آخِرَهَا: أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} هُوَ الْمُفِيدُ لِلِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ الَّتِي لَمْ تَحِضْ لِصِغَرٍ كَمَا أَنَّهُ الْمُفِيدُ لِلِاعْتِدَادِ بِهَا فِي الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ كَانَ طُهْرُهَا أَصْلِيًّا فَعِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ سَوَاءٌ بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ، وَإِنْ اسْتَمَرَّتْ لَا تَحِيضُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ هِيَ مُرَاهِقَةٌ أَوْ لَمْ تَبْلُغْ إلَى سِنٍّ يُحْكَمُ بِالْبُلُوغِ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ أَنَّهُ تِسْعٌ أَوْ سَبْعٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ بَلْ يُوقَفُ حَالُهَا حَتَّى يَظْهَرَ هَلْ حَبِلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَطْءِ أَمْ لَا، فَإِنْ ظَهَرَ حَبَلُهَا اعْتَدَّتْ بِالْوَضْعِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَبِالْأَشْهُرِ. وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ تُحْتَسَبَ بِالْأَشْهُرِ الَّتِي وَقَفَتْ لِيَظْهَرَ حَبَلُهَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِعَدَمِ الْحَبَلِ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْهُرِ كَانَتْ هِيَ الْعِدَّةُ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا لَمْ تَدْرِ وَجْهَ عِدَّتِهَا حَتَّى انْقَضَتْ.
وَلَوْ حَاضَتْ الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَالْمُرَاهِقَةُ فِي أَثْنَاءِ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ اسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ.
هَذَا وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ الْمُسْتَحَاضَةُ الَّتِي نَسِيَتْ عَادَتَهَا، وَهُوَ مِمَّا يُلْغِزُ فَيُقَالُ: مُطَلَّقَةٌ شَابَّةٌ تَرَى مَا يَصْلُحُ حَيْضًا فِي كُلِّ شَهْرٍ وَعِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ، لَكِنْ فِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ عِدَّتُهَا إلَّا بِالْحَيْضِ، لَكِنْ لَمَّا نَسِيَتْ عَادَتَهَا جَازَ كَوْنُهَا أَوَّلَ كُلِّ شَهْرٍ أَوْ آخِرَهُ، فَإِذَا قُدِّرَتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بِيَقِينٍ، بِخِلَافِ الَّتِي لَمْ تَنْسَ فَإِنَّهَا تُرَدُّ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا، فَجَازَ كَوْنُ عَادَتِهَا أَوَّلَ الشَّهْرِ فَتَخْرُجُ مِنْ الْعِدَّةِ فِي خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ مِنْ الثَّالِثِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إطْلَاقَهُمْ فِي الِانْقِضَاءِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ النَّاسِيَةِ لِعَادَتِهَا لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا أَوَّلَ الشَّهْرِ، أَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ قَدْرُ مَا يَصِحُّ حَيْضَةً يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ غَيْرُ بَاقِي هَذَا الشَّهْرِ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ. وَيَجِبُ فِي الَّتِي بَلَغَتْ مُسْتَحَاضَةً مِثْلَ الْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي ضَلَّتْ عَادَتَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْوُجُوبِ عَلَى هَذِهِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بَلْ يَقُولُونَ تَعْتَدُّ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا هِيَ لَا تُخَاطَبُ بِالِاعْتِدَادِ، وَلَكِنَّ الْوَلِيَّ يُخَاطِبُ بِأَنْ لَا يُزَوِّجَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْعِدَّةِ مَعَ أَنَّ الْعِدَّةَ مُجَرَّدُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَثُبُوتُهَا فِي حَقِّهَا لَا يُؤَدِّي إلَى تَوْجِيهِ خِطَابِ الشَّرْعِ عَلَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَرَاهَا الْحُرُمَاتِ أَوْ التَّرَبُّصَ الْوَاجِبَ. فَإِنْ قُلْت: وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُضِيَّ الْمُدَّةِ أَلَيْسَ أَنَّ فِيهَا يَجِبُ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خِطَابُ نَهْيِ التَّزَوُّجِ بِالْوَلِيِّ فَجَعَلَهَا الْمُدَّةَ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءُ قَوْلِ الْأَوَّلِ يُخَاطَبُ الْوَلِيُّ بِأَنْ لَا يُزَوِّجَهَا. فَالْجَوَابُ لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّا إذَا قُلْنَا بِأَنَّهَا الْمُدَّةُ فَالثَّابِتُ فِيهَا عَدَمُ صِحَّةِ التَّزَوُّجِ لَا خِطَابُ أَحَدٍ بَلْ وَضَعَ الشَّارِعُ عَدَمَ الصِّحَّةِ لَوْ فَعَلَ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا) يَعْنِي الْمُطَلَّقَةَ فَعِدَّتُهَا بِالْوَضْعِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَأَطْلَقَ فَيَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ الثَّابِتَ النَّسَبِ وَغَيْرَهُ، فَلَوْ طَلَّقَ كَبِيرٌ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْعَقْدِ فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِالْحَيْضِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الصَّغِيرِ.
وَفِي الْمُنْتَقَى: إذَا خَرَجَ مِنْ الْوَلَدِ نِصْفُ الْبَدَنِ مِنْ قِبَلِ الرِّجْلَيْنِ سِوَى الرِّجْلَيْنِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الرَّأْسِ سِوَى الرَّأْسِ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَالْبَدَنُ مِنْ الْمَنْكِبَيْنِ إلَى الْأَلْيَتَيْنِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: كُلُّ مَنْ حَبِلَتْ فِي عِدَّتِهَا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا حَبِلَتْ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ) أَيْ الْمُطَلَّقَةُ أَمَةً فَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِهِ وَالْحَيْضَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَمُلَتْ وَثُبُوتُ الزِّيَادَةِ لِضَرُورَةِ التَّكْمِيلِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ الْوَاجِبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا (قَوْلُهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ
) أَيْ إلَى أَنَّ تَكْمِيلَ الثَّانِيَةِ ضَرُورَةٌ بِقَوْلِهِ لَوْ اسْتَطَعْت إلَى آخِرِهِ.
أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: لَوْ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَجْعَلَهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا فَعَلْتُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوْ جَعَلْتُهَا شَهْرًا وَنِصْفًا فَسَكَتَ عُمَرُ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِبَاقِي سَنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُ عُمَرَ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ لِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي ذَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَالْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ أَيِسَ مِنْهَا، فَمَشُورَةُ الرَّجُلِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ فَأَمْكَنَ تَنْصِيفُهُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي الطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ كَالْأَمَةِ.
(قَوْلُهُ وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ) سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَا مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً أَوْ آيِسَةً وَزَوْجُهَا عَبْدٌ أَوْ حُرٌّ حَاضَتْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ لَمْ تَحِضْ وَلَمْ يَظْهَرْ حَبَلُهَا.
وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ عِدَّتُهَا عَزِيمَةُ عَامٍ، وَرُخْصَةُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ} الْآيَةَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَسْخِهَا بِآيَةِ الْأَشْهُرِ: أَعْنِي مَا كَانَ مِنْ وُجُوبِ الْإِيصَاءِ وَالْإِيقَافِ إلَى الْحَوْلِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ جَازَ أَخْذًا مِنْ تَذْكِيرِ الْعَدَدِ: أَعْنِي الْعَشْرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» فَيَجِبُ كَوْنُ الْمَعْدُودِ اللَّيَالِيَ وَإِلَّا لَأَنَّثَهُ. قُلْنَا: الِاسْتِعْمَالُ فِي مِثْلِهِ مِنْ ذِكْرِ عِدَّةِ اللَّيَالِي يُدْخِلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ عَلَى مَا عُرِفَ بِالتَّارِيخِ حَيْثُ يُكْتَبُ بِاللَّيَالِيِ فَيُقَالُ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مَثَلًا وَيُرَادُ كَوْنُ عِدَّةِ الْأَيَّامِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَشَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: مِنْ وَقْتِ عِلْمِهَا، حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي سَفَرٍ فَلَمْ يَبْلُغْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَهُ رضي الله عنه: لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهَا مِنْ حِينِ عَلِمَتْ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْإِحْدَادَ وَلَا يُمْكِنُهَا إقَامَتُهُ إلَّا بِالْمُعْلَمِ.
قُلْنَا: قُصَارَاهُ أَنْ تَكُونَ كَالْعَالِمَةِ وَلَمْ تُحِدَّ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ تَخْرُجُ اتِّفَاقًا مِنْ الْعِدَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْهَا عَدَمُ التَّزَوُّجِ وَقَدْ وُجِدَ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ لِمَا سَيُذْكَرُ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَحَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ.
وَوُجُوبُهَا عَلَى الْكِتَابِيَّةِ تَحْتَ الْمُسْلِمِ يُؤَيِّدُهُ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ) أَيْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً كَالْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَارَكَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ إذَا كَانَتْ حَامِلًا كَذَلِكَ لِإِطْلَاقِ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ الْوَضْعِ وَالْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُوجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} يُوجِبُهَا عَلَيْهَا فَيُجْمَعُ احْتِيَاطًا. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ اخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ تَنْفَسُ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إذَا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا فَقَدْ حَلَّتْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي: يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ، فَأَرْسَلُوا كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهَا قَالَتْ:«وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ، لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى يُرِيدُ بِالْقُصْرَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ وَالطُّولَى الْبَقَرَةُ. وَالْمُبَاهَلَةُ الْمُلَاعَنَةُ. كَانُوا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا بَهْلَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِ مِنَّا. وَقِيلَ هِيَ مَشْرُوعَةٌ فِي زَمَانِنَا. وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْمُلَاعَنَةِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْته لَأُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ: مَنْ شَاءَ حَالَفْته.
وَأَسْنَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَوْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؟ فَقَالَ: هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا» وَفِيهِ الْمُثَنَّى بْنُ صَبَاحٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
وَقَوْلُ عُمَرَ رَوَاهُ فِي الْمَوْطَأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَالَ: إذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَقَدْ حَلَّتْ، فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ وَلَمْ يُدْفَنْ بَعْدَ حَلَّتْ. وَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةِ فَسَأَلَهَا عَنْ حَدِيثِهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لَلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاك مُتَجَمِّلَةً لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ، وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحَةٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي أَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إنْ بَدَا لِي» . وَكُلَّمَا كَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْوَضْعِ لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ إلَّا بِوَضْعِ الْكُلِّ، فَلَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا وَفِي بَطْنِهَا آخَرُ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا وَقَوْلُهَا أَفْتَانِي أَنِّي قَدْ حَلَلْت حِينَ وَضَعْت يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: لَا تَحِلُّ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ نِفَاسِهَا، كَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ
(وَإِذَا وَرِثَتْ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ فَعِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا، أَمَّا إذَا كَانَ رَجْعِيًّا فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِالْإِجْمَاعِ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ انْقَطَعَ قَبْلَ الْمَوْتِ بِالطَّلَاقِ وَلَزِمَتْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ إذَا زَالَ النِّكَاحُ فِي الْوَفَاةِ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ لَا فِي حَقِّ تَغَيُّرِ الْعِدَّةِ، بِخِلَافِ الرَّجْعِيِّ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ يُجْعَلُ بَاقِيًا فِي حَقِّ الْعِدَّةِ
قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا قَالَ لَهَا: انْكِحِي مَنْ شِئْت. رَتَّبَ الْإِحْلَالَ عَلَى التَّعَلِّي فَيَتَرَاءَى تَوَقُّفُهُ عَلَى الطُّهْرِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، لَكِنْ مَا ذَكَرْنَا صَرِيحٌ فِي ثُبُوتِ الْحِلِّ بِالْوَضْعِ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْأَشْهُرِ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْمُدَّةِ ظَهَرَ فَسَادُ النِّكَاحِ وَلَحِقَ بِالْمَيْتِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا وَرِثَتْ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ) يَتَعَلَّقُ بِالْمُطَلَّقَةِ: أَيْ وَرِثَتْ الَّتِي طَلُقَتْ فِي الْمَرَضِ بِأَنْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا بِحَيْثُ صَارَ فَارًّا وَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ (فَعِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ) أَيْ الْأَبْعَدُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَثَلَاثِ حِيَضٍ. فَلَوْ تَرَبَّصَتْ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَلَمْ تَسْتَكْمِلْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا. وَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَلَمْ تَمْضِ لَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ بِأَنْ امْتَدَّ طُهْرُهَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَمْضِيَ. وَإِنْ مَكَثَتْ سِنِينَ مَا لَمْ تَدْخُلْ سِنَّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ. إذَا عَرَفْتَ هَذَا فَمَنْ فَسَّرَ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ بِأَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ مُقَصِّرٍ، إذْ لَا يَصْدُقُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ أَبْعَدَ مِنْ الثَّلَاثِ حِيَضٍ، وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَتَرَبَّصَ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي صُوَرٍ إحْدَاهَا: هَذِهِ. وَالثَّانِيَةُ: إذَا قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ بَائِنٌ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ الِاعْتِدَادُ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ وَلَوْ بَيَّنَ فِي إحْدَاهُمَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ. وَالثَّالِثَةُ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ زَوْجُهَا وَسَيِّدُهَا وَلَمْ يُدْرَ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَعُلِمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَسَنُفَصِّلُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، أَمَّا إذَا طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فَعِدَّتُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ فِي صِحَّتِهِ وَدَخَلَتْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَتَرِثُ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ لَا تَنْتَقِلُ وَلَا تَرِثُ بِالِاتِّفَاقِ.
(قَوْلُهُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ انْقَطَعَ قَبْلَ الْمَوْتِ بِالْبَائِنِ وَلَزِمَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ حُكْمًا لَهُ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ إذَا انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَدًّا لِقَصْدِهِ السَّيِّئِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِبَقَائِهِ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْعِدَّةُ، بِخِلَافِ الرَّجْعِيِّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ
احْتِيَاطًا فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ حَتَّى وَرِثَتْهُ امْرَأَةٌ فَعِدَّتُهَا عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ. وَقِيلَ عِدَّتُهَا بِالْحَيْضِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ النِّكَاحَ حِينَئِذٍ مَا اُعْتُبِرَ بَاقِيًا إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَرِثُ مِنْ الْكَافِرِ (فَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ) لِقِيَامِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (وَإِنْ أَعْتَقَتْ وَهِيَ مَبْتُوتَةٌ أَوْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَمْ تَنْتَقِلْ عِدَّتُهَا
وَإِنَّمَا انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ فَتَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِيهِ.
(قَوْلُهُ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ بِالْوَفَاةِ حَقِيقَةً وَبِالْمَوْتِ حُكْمًا؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِفَرْضِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَبَانَهَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَبِاعْتِبَارِهِ يَجِبُ عِدَّةُ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَاعْتِبَارُ قِيَامِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّ تَوْرِيثَهَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَلَازِمُهُ لُزُومُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَيَلْزَمُ تَوْرِيثَهَا الِاعْتِدَادُ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ فَتَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، لَكِنْ بَقِيَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ اعْتِبَارَهُ قَائِمًا لِرَدِّ قَصْدِهِ عَدَمَ تَوْرِيثِهَا عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ الْعِدَّةِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِرْثَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالْعِدَّةُ تَثْبُتُ بِهِ، فَإِذَا بَقِيَ النِّكَاحُ شَرْعًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ فَلَأَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ الْعِدَّةِ أَوْلَى مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِلَازِمِهِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ احْتِيَاطًا.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مَقِيسٍ عَلَيْهِ مُقَدَّرٍ لِأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ زَوْجُ الْمُسْلِمَةِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ تَرِثُ زَوْجَتُهُ الْمُسْلِمَةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بَلْ الْحَيْضُ لِأَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ كَانَ بِالرِّدَّةِ لَا بِالْوَفَاةِ. فَكَذَا هُنَا زَوَالُهُ بِالطَّلَاقِ لَا بِالْمَوْتِ فَلَا تَجِبُ عِدَّةُ الْمَوْتِ، فَأَجَابَ بِمَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ أَوَّلًا فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بَلْ تَلْزَمُهَا إلَيْهِ أَشَارَ الْكَرْخِيُّ، وَمَا ذَكَرْت مِنْ مَذْهَبِك فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَيَلْزَمُهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُدَّةِ وَالْحِيَضِ فَلَا يَصِحُّ بِهِ الْإِلْزَامُ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لُزُومَ الْحِيَضِ اتِّفَاقِيٌّ فَالْفَرْقُ أَنَّ تَوْرِيثَهَا وَهُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ النِّكَاحُ شَرْعٌ قَائِمًا إلَى الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ كَذَلِكَ لَمْ تَرِثْ إذْ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ الْكَافِرُ فَيَلْزَمُ الْعِلْمُ بِاعْتِبَارِ اسْتِنَادِ الْإِرْثِ إلَى وَقْتِ حُدُوثِ الرِّدَّةِ اعْتِبَارًا لِلرِّدَّةِ مَوْتًا حُكْمًا وَقَدْ تَحَقَّقَ هَذَا الْمَوْتُ وَهُمَا مُسْلِمَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ زَالَ بِهِ إسْلَامُهُ وَبِذَلِكَ السَّبَبِ لَزِمَهَا الْعِدَّةُ بِالْحِيَضِ فَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ.
(قَوْلُهُ فَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ فَتُكْمِلُ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) أَيْ بَعْدَ الطَّلَاقِ
إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ) لِزَوَالِ النِّكَاحِ بِالْبَيْنُونَةِ أَوْ الْمَوْتِ.
(وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً فَاعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ انْتَقَضَ مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ) وَمَعْنَاهُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ عَلَى الْعَادَةِ لِأَنَّ عَوْدَهَا يُبْطِلُ الْإِيَاسَ هُوَ الصَّحِيحُ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَلْفًا وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ تَحَقُّقُ الْيَأْسِ وَذَلِكَ بِاسْتِدَامَةِ الْعَجْزِ إلَى الْمَمَاتِ كَالْفِدْيَةِ
الرَّجْعِيِّ، فَلَمَّا أَعْتَقَتْ وَالْحَالُ قِيَامُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمُلَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، وَالْعِدَّةُ فِي الْمِلْكِ الْكَامِلِ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا بِعِدَّةِ الْحَرَائِرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ، كَذَا فِي الْكَافِي.
وَوَضَعَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لَفْظَ الطَّلَاقِ مَكَانَ لَفْظِ الْعِدَّةِ فَقَالَ: وَالطَّلَاقُ فِي الْمِلْكِ الْكَامِلِ يُوجِبُ عِدَّةَ الْحَرَائِرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَحْدُثْ فِي الْمِلْكِ الْكَامِلِ بَلْ طَرَأَ كَمَالُ الْمِلْكِ بَعْدَهُ بِالْعِتْقِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ لِبَقَائِهِ الْحُكْمِيِّ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ وَهُوَ مُمْكِنٌ لَوْ كَانَتْ إجْمَاعِيَّةً لَكِنْ هِيَ خِلَافِيَّةٌ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَظْهَرِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تُكْمِلُ عِدَّتَهَا فِي الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ.
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ تُكْمِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ اعْتِبَارِ بَقَائِهِ كَابْتِدَائِهِ. وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ تَمَّ سَبَبُ عِدَّةِ الْإِمَاءِ، وَشَرْطُهَا وَهُوَ وُرُودُ الطَّلَاقِ عَلَى أَمَةٍ عَقِيبَ نِكَاحٍ مُتَأَكِّدٍ، فَلَوْ وَجَبَتْ عِدَّةُ الْحَرَائِرِ كَانَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى السَّبَبِ. وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ مَنَعَ تَأْثِيرَ سَبَبِ الْعِدَّةِ فِي كَمِّيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَالنِّكَاحُ سَبَبٌ لِلْعِدَّةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ فَقَطْ لَا بِقَيْدِ كَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ، إذْ لَا يُعْقَلُ تَأْثِيرُ النِّكَاحِ فِي خُصُوصِ كَمِّيَّةٍ بَلْ فِي مُطْلَقِ التَّرَبُّصِ تَعَرُّفًا وَتَأَسُّفًا، وَتَقْدِيرُ الْكَمِّيَّةِ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى سَنَذْكُرُهَا فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَحِينَئِذٍ سَلِمَ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ لِلِانْتِقَالِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَقَدْ صَوَّرَ الِانْتِقَالَ إلَى جَمِيعِ كَمِّيَّاتِ الْعِدَّةِ الْبَسِيطَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. صُورَتُهَا: أَمَةٌ صَغِيرَةٌ مَنْكُوحَةٌ طَلُقَتْ رَجْعِيًّا فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ، فَلَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهَا انْتَقَلَتْ إلَى حَيْضَتَيْنِ. فَلَوْ أَعْتَقَتْ قَبْلَ مُضِيِّهِمَا صَارَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَلَوْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا انْتَقَلَتْ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً فَاعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ) يُمْكِنُ كَوْنُ كَانَ تَامَّةً: يَعْنِي إذَا وُجِدَتْ امْرَأَةٌ آيِسَةٌ فَاعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ.
(قَوْلُهُ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ) بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ أَوْ فِي خِلَالِهَا (اُنْتُقِضَ مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا) وَظَهَرَ فَسَادُ نِكَاحِهَا الْكَائِنِ بَعْدَ تِلْكَ الْعِدَّةِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَبِلَتْ مِنْ الزَّوْجِ الْآخَرِ اُنْتُقِضَتْ عِدَّتُهَا وَفَسَدَ نِكَاحُهَا صَرَّحُوا بِهِ، وَيَنْدَرِجُ فِي إطْلَاقِ الِانْتِقَاضِ وَهُوَ لَازِمٌ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ عَوْدَهَا يُبْطِلُ الْإِيَاسَ هُوَ الصَّحِيحُ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَلْفًا) وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ شَرْطُ الْخَلْفِيَّةِ: أَيْ خَلْفِيَّةِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ عَنْ الْحِيَضِ تَحَقَّقَ الْإِيَاسُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} الْآيَةَ، وَالْإِيَاسُ لَا يَتَحَقَّقُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلَّا بِاسْتِدَامَةِ الْعَجْزِ إلَى الْمَمَاتِ كَالْفِدْيَةِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي، فَإِذَا ظَهَرَ الدَّمُ ظَهَرَ عَدَمُ الْخَلْفِيَّةِ فَظَهَرَ عَدَمُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الدَّمِ حَيْضًا، وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ مُجَرَّدِ وُجُودِهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ دَمًا فَاسِدًا فَلِذَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ عَلَى الْعَادَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ ذَلِكَ الْمُعْتَادِ، وَعَوْدُ الْعَادَةِ يُبْطِلُ الْإِيَاسَ ثُمَّ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ هَذَا بِأَنْ تَرَاهُ سَائِلًا كَثِيرًا جَعَلَهُ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا رَأَتْ بَلَّةً يَسِيرَةً وَنَحْوَهَا، وَقَيَّدُوهُ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ أَحْمَرَ أَوْ أَسْوَدَ، فَلَوْ كَانَ أَصْفَرَ أَوْ أَخْضَرَ أَوْ تَرْبِيَةً لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ فَقَالَ مَعْنَاهُ: إذَا رَأَتْهُ عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا قَبْلَ الْإِيَاسِ أَصْفَرَ فَرَأَتْهُ كَذَلِكَ أَوْ عَلَقًا فَرَأَتْهُ كَذَلِكَ كَانَ حَيْضًا مُظْهِرًا عَدَمَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ، ثُمَّ أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ انْتِقَاضَ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِئْنَافَ، فَاقْتَضَى ثُبُوتَ ذَلِكَ سَوَاءٌ قُلْنَا بِتَقْدِيرِ الْإِيَاسِ بِمُدَّةٍ أَوْ لَا. وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةٍ لَا تَقْدِيرَ فِيهِ، وَإِيَاسُهَا عَلَى هَذِهِ أَنْ تَبْلُغَ مِنْ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ هَذَا الْمَبْلَغَ وَانْقَطَعَ الدَّمُ حُكِمَ بِإِيَاسِهَا، فَإِنْ رَأَتْ بَعْدُ دَمًا يَكُونُ حَيْضًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَيَبْطُلُ الِاعْتِدَادُ بِتِلْكَ الْأَشْهُرِ وَيَظْهَرُ فَسَادُ النِّكَاحِ.
وَيُمْكِنُ كَوْنُ الْمُرَادِ بِمِثْلِهَا فِيمَا ذُكِرَ الْمُمَاثَلَةَ فِي تَرْكِيبِ الْبَدَنِ وَالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يُقَدَّرُ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، وَفِي الْمَنَافِعِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ فِي الرُّومِيَّاتِ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَفِي غَيْرِهِنَّ بِسِتِّينَ وَعَنْهُ بِسَبْعِينَ، وَبِهِ قَالَ الصَّفَّارُ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَوْ حَاضَتْ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ تَصِيرُ سِتِّينَ سَنَةً وَتَعْتَدُّ، وَلَوْ كَانَتْ عَادَةُ أُمِّهَا وَأَخَوَاتِهَا انْقِطَاعَهُ قَبْلَ السِّتِّينَ تَأْخُذُ بِعَادَتِهِنَّ وَبَعْدَ السِّتِّينَ لَا تَأْخُذُ بِعَادَتِهِنَّ.
وَقَالَ الْأَقْطَعُ: فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا كَالدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا يَحِيضُ مِثْلُهَا. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْقَاضِي بِالْإِيَاسِ، وَكَذَا الْعِبَارَةُ الْقَائِلَةُ إذَا بَلَغَتْ الْمُقَدَّرَ: يَعْنِي وَانْقَطَعَ حَيْضُهَا حُكِمَ بِإِيَاسِهَا، فَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بُلُوغِ الْمُقَدَّرِ مَعَ الِانْقِطَاعِ يُحْكَمُ بِهِ شَرْعًا. وَقِيلَ يَكُونُ حَيْضًا وَيَبْطُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ وَيَظْهَرُ فَسَادُ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْإِيَاسِ بَعْدَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ إذَا لَمْ تَرَ الدَّمَ بِالِاجْتِهَادِ وَالدَّمُ حَيْضٌ بِالنَّصِّ، فَإِذَا رَأَتْهُ فَقَدْ وُجِدَ النَّصُّ، بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ فَيَبْطُلُ، كَذَا نَقَلَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ يُفِيدُ كَوْنَ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ عَلَى رِوَايَةِ التَّقْدِيرِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِهِ فَلَا خِلَافَ فِي الِانْتِقَاضِ.
وَفِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْإِسْبِيجَابِيِّ عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ التَّقْدِيرِ. قَالُوا: وَلَوْ اعْتَدَّتْ بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ لَا تُبْطِلُ الْأَشْهُرَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، فَثَبَتَ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَفِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ مَا يُفِيدُ أَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَاضِ إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالْإِيَاسِ، وَيُقَيَّدُ الِانْتِقَاضُ بِعَدَمِ حُكْمِهِ بِهِ. فَفِي الْخُلَاصَةِ نَقَلَ مِنْ نَوَادِرِ الصَّلَاةِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ إذَا رَأَتْ الدَّمَ مُدَّةَ الْحَيْضِ فَهُوَ حَيْضٌ. ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ ابْنِ مُقَاتِلٍ إنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُحْكَمْ بِإِيَاسِهَا، أَمَّا إذَا انْقَطَعَ وَحُكِمَ بِإِيَاسِهَا وَهِيَ ابْنَةُ سَبْعِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهُ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا. وَقَالَ بَعْدَهُ بِخُطُوطٍ: وَطَرِيقُ الْقَضَاءِ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَسَادَ النِّكَاحِ بِسَبَبِ قِيَامِ الْعِدَّةِ فَيَقْضِي الْقَاضِي بِجَوَازِهِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ. قَالَ: وَكَانَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ يُفْتِي بِأَنَّهَا لَوْ رَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ دَمًا يَكُونُ حَيْضًا، وَيُفْتِي بِبُطْلَانِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ إنْ كَانَتْ رَأَتْ الدَّمَ قَبْلَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ، وَإِنْ كَانَتْ رَأَتْهُ بَعْدَ تَمَامِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ لَا تَبْطُلُ الْأَنْكِحَةُ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَوْ لَمْ يَقْضِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ صَرِيحًا مَبْنِيًّا عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ أَنَّ الْآيِسَةَ إذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ وَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ
فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي.
(وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتْ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ) تَحَرُّزًا عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ.
يَكُونُ النِّكَاحُ فَاسِدًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ رحمهم الله، إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ النِّكَاحِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ لَا يَكُونُ النِّكَاحُ فَاسِدًا. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ جَائِزًا وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ. وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ: الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ. انْتَهَى.
فَتَحَصَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ عَلَى التَّقْدِيرِ وَعَدَمِهِ، وَهِيَ تُنْتَقَضُ إذَا رَأَتْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ وَبَعْدَهَا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ قَدْرَ أَقَلِّ مُدَّةِ الْإِيَاسِ أَوْ لَا حُكِمَ بِالْإِيَاسِ أَوْ لَا، وَهُوَ ظَاهِرُ مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ مِنْ التَّصْوِيرِ وَالتَّعْلِيلِ لَا تُنْتَقَضُ مُطْلَقًا، تُنْتَقَضُ كَذَلِكَ إذَا رَأَتْهُ قَبْلَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَلَا يَبْطُلُ فَلَا تُنْتَقَضُ الْأَنْكِحَةُ قَضَى بِالْإِيَاسِ أَوْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّهِيدِ تُنْتَقَضُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَضَى بِإِيَاسِهَا كَمَا قُلْنَا: لَا تُنْتَقَضُ إنْ كَانَ حَكَمَ بِإِيَاسِهَا، وَهُوَ بِأَنْ يُدَّعَى فَسَادُ النِّكَاحِ فَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ وَبِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَتُنْتَقَضُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَكَمَ بِالْإِيَاسِ. وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْمُصَحَّحُ فِي النَّوَازِلِ اُنْتُقِضَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا تَعْتَدُّ إلَّا بِالْحَيْضِ لَا الْمَاضِي، فَلَا تَفْسُدُ الْأَنْكِحَةُ الْمُبَاشَرَةُ عَنْ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ قَوْلٍ يُخَالِفُ إطْلَاقَ الِانْتِقَاضِ مُطْلَقًا كَانَ أَوْ مُفَصَّلًا، وَمَبْنَى مُخْتَارِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ تَحَقُّقِ الْإِيَاسِ لِخَلْفِيَّةِ الْأَشْهُرِ بِالنَّصِّ، وَإِنْ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِدَامَةِ الِانْقِطَاعِ إلَى الْمَمَاتِ، وَلَا شَكَّ فِي الْأَوَّلِ، لَكِنَّ كَوْنَ تَحَقُّقِهِ مَوْقُوفًا عَلَى اسْتِدَامَةِ الِانْقِطَاعِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ دَلِيلًا سِوَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ لَفْظِ الْيَأْسِ أَنَّهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ مَقُولَةِ الْإِدْرَاكِ فَإِنَّهُ لَيْسَ إلَّا اعْتِقَادَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَقَعُ أَبَدًا؛ أَمَّا أَنَّهُ يَسْتَدْعِي كَوْنَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ عِلْمًا حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُ خِلَافِ مُتَعَلَّقِهِ فَلَا، وَلِذَا قَدْ يَتَحَقَّقُ الْيَأْسُ مِنْ الشَّيْءِ ثُمَّ يُوجَدُ، وَكَثِيرًا مَا يُقَالُ فِي الْوَقَائِعِ كُنْتُ آيَسْت مِنْ كَذَا ثُمَّ وَجَدْتُهُ. فَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي سَبَبًا لَهُ، وَكَوْنُهُ بِأَنْ يَنْعَدِمَ الْحَيْضُ وَيَمْتَدَّ وَيَنْتَفِيَ مَخَايِلُ وُجُودِهِ فِي بَاقِي الْعُمُرِ لِكِبَرِ السِّنِّ كَافٍ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَأَتْهُ بَعْدَ الْإِيَاسِ لَا يُنْتَقَضُ مَا مَضَى، وَلَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ الْمُبَاشِرُ عَنْ اعْتِدَادٍ بِالْأَشْهُرِ لِوُقُوعِهِ مُعْتَبَرًا لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَيَبْقَى النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُنْتَقَضُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَلَا تَعْتَدُّ إلَّا بِالْحَيْضِ فَيَكُونُ هَذَا مَا صَحَّحَهُ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ، أَوْ لَا يُنْتَقَضُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أَيْضًا كَقَوْلِ الصَّفَّارِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى النَّظَرِ فِيمَا يَتَرَجَّحُ فِي هَذَا الْمَرْئِيِّ بَعْدَ الْإِيَاسِ أَهُوَ حَيْضٌ أَمْ دَمٌ فَاسِدٌ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْقَضَاءِ بِالْإِيَاسِ وَعَدَمِهِ، إذْ الْقَضَاءُ لَا يَرْفَعُ وُجُودَ الْمَحْسُوسَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي الِاخْتِلَافَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يُنْتَقَضُ مَا مَضَى لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِيَاسُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الِانْقِطَاعُ فِي سِنِّهِ وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ ارْتِفَاعُ الْحَيْضِ وَهُوَ الْخَمْسُ وَالْخَمْسُونَ وَعَدَمُ مَخَايِلِ كَوْنِهِ امْتِدَادًا لِلطُّهْرِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا الْحَيْضُ لِتَحَقُّقِ الدَّمِ الْمُعْتَادِ خَارِجًا مِنْ الْفَرْجِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفَسَادِ بَلْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْإِيَاسَ لَا يُنَافِيهِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِيَاسُ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْحَيْضُ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْعَجْزِ الْمُسْتَدَامِ شَرْطًا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي فَلَا يُسْتَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْإِيَاسِ إذْ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُمَا تَثْبُتُ شَرْعًا، وَالْمَسْأَلَةُ نَصِّيَّةٌ لَا قِيَاسِيَّةٌ، نَصَّ تَعَالَى عَلَى تَعْلِيقِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ عِنْدَ الْإِيَاسِ وَقَدْ وُجِدَ فَثَبَتَ الِاعْتِدَادُ بِهَا بِالنَّصِّ ثُمَّ زَالَ الْإِيَاسُ فَثَبَتَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَقْرَاءِ بِالنَّصِّ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتْ) بِأَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْإِيَاسِ عِنْدَ الْحَيْضَتَيْنِ وَانْقَطَعَ، أَوْ انْقَطَعَ عِنْدَهُمَا فِي سِنٍّ لَمْ تَحِضْ فِيهِ أُمُّهَا وَأَخَوَاتُهَا عَلَى مَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ.
وَقَوْلُهُ (تَحَرُّزًا عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ) هَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمُفِيدُ لِكَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بِالشُّهُورِ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَاءَ يَتَيَمَّمُ وَيَبْنِي، وَكَذَا لَوْ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاتِهِ
(وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ عِدَّتُهُمَا الْحَيْضُ فِي الْفُرْقَةِ وَالْمَوْتِ) لِأَنَّهَا لِلتَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَا لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ، وَالْحَيْضُ هُوَ الْمُعَرِّفُ.
بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ ثُمَّ عَجَزَ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ بِالْإِيمَاءِ وَهُمَا بَدَلَانِ.
أُجِيبُ بِالْمَنْعِ فَلَيْسَ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ بَدَلًا مِنْهَا بِالْوُضُوءِ بَلْ التُّرَابُ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ وَالطَّهَارَةُ بِهِ خَلَفٌ عَنْهَا بِالْمَاءِ، وَالْجَمْعُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ فِي رَفْعِ حَدَثٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ كَذَلِكَ بَلْ رَفْعُ الْحَدَثِ الْأَوَّلِ بِالْمَاءِ وَرَفْعُ الثَّانِي بِالتُّرَابِ، وَلَا الْإِيمَاءُ خَلَفٌ عَنْ الْأَرْكَانِ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِيهَا وَزِيَادَةٌ، وَلَكِنْ سَقَطَ عَنْهُ بَعْضُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ وَبَقِيَ الْبَعْضُ عَلَى حَالِهِ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ خَلْفًا عَنْ الْكُلِّ لِوُجُودِهِ مَعَهُ فَيَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ خَلْفًا عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا تَكُونُ الْخَلَفِيَّةُ بِشَيْءٍ آخَرَ.
(قَوْلُهُ وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا) وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَنِكَاحُ امْرَأَةِ الْغَيْرِ وَلَا عِلْمَ لِلزَّوْجِ الثَّانِي بِأَنَّهَا مُتَزَوِّجَةٌ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالدُّخُولِ حَتَّى لَا يَحْرُمَ عَلَى الزَّوْجِ وَطْؤُهَا لِأَنَّهُ زِنًا، وَإِذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ حَلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا، وَبِهِ يُفْتَى، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ. وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْحِلِّ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا، وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ كَاَلَّتِي زُفَّتْ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا وَالْمَوْجُودَةُ لَيْلًا عَلَى فِرَاشِهِ إذَا اُدُّعِيَ الِاشْتِبَاهُ.
(قَوْلُهُ عِدَّتُهُمَا الْحَيْضُ فِي الْفُرْقَةِ) الْكَائِنَةُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أَوْ عَزَمَ الْوَاطِئُ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا (وَالْمَوْتِ) أَيْ مَوْتِ الْوَاطِئِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} وَمُطْلَقُ اسْمِ الزَّوْجِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُتَزَوِّجِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَالْعِدَّةُ فِي حَقِّهِمَا لِلتَّعْرِيفِ لَا لِإِظْهَارِ خَطَرِ النِّكَاحِ بِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَى زَوَالِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فَتُعْرَفُ الْبَرَاءَةُ فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ فَلِذَا وَجَبَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَلَمْ يُكْتَفَ بِوَاحِدَةٍ كَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الصَّحِيحِ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ التَّعَرُّفُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ، وَحَيْضُ الْحَامِلِ مِمَّا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَلَا يَقْوَى ظَنُّ الْفَرَاغِ بِمَرَّةٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ حَيْضًا مَعَ الْحَمْلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، أَوْ اسْتِحَاضَةً مَعَهُ عِنْدَنَا، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْعَادَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَكَرَّرَ فِي الْأَشْهُرِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ تَجْوِيزُ الْحَمْلِ مَعَهُ لِضَعْفِ تَجْوِيزِ مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ كَثِيرًا
(وَإِذَا مَاتَ مَوْلَى أُمِّ الْوَلَدِ عَنْهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ)
بِالْحَيْضِ أَوْ الِاسْتِحَاضَةِ مَعَ الْحَمْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُخَالَفَتِهَا قَلِيلًا وَهُوَ ثُبُوتُ الْحَمْلِ مَعَ الدَّمِ مَرَّةً، بِخِلَافِ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّ التَّعَرُّفَ مَقْصُودٌ فِيهِ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ بِاسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ مِنْ الْمَرْأَةِ فَعَرَفْنَا بِذَلِكَ أَنَّ فِيهِ شَائِبَةَ التَّعَبُّدِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ مَوْلَى أُمِّ الْوَلَدِ عَنْهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ) فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ: يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَلَا تَحْتَ زَوْجٍ وَلَا فِي عِدَّتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فِي الْأَوَّلِ. وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ الْمَوْلَى لِعَدَمِ ظُهُورِ فِرَاشِ الْمَوْلَى.
وَلَوْ مَاتَ زَوْجُهَا وَمَوْلَاهَا وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَوَّلُ، فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا أَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ يَوْمٍ إلَى شَهْرَيْنِ وَأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، أَوْ لَا يَعْلَمُ كَمْ بَيْنَهُمَا، فَفِي الْأَوَّلِ تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَوْتُ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَلَا عِدَّةَ مِنْهُ لِأَنَّهَا ذَاتُ بَعْلٍ، ثُمَّ مَوْتُ الزَّوْجِ بَعْدَهُ وَهِيَ حُرَّةٌ مُوجِبٌ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الزَّوْجِ أَوَّلًا لَزِمَهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ مَوْتُ الْمَوْلَى قَبْلَ تَمَامِ عِدَّتِهَا مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِدَّةِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَلَا لِتَغَيُّرِهَا لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِفُرْقَةِ الرَّجْعِيِّ فَتَيَقَّنَّا بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى وَدَارَتْ فِي الزَّوْجِ بَيْنَ كَوْنِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَشَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ فَلَزِمَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَفِي الثَّانِي يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ بِأَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ: يَعْنِي تَجْمَعُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَثَلَاثِ حِيَضٍ، لِأَنَّ السَّيِّدَ إنْ كَانَ مَاتَ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَاتَ أَوَّلًا فَعِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ مَوْتُ السَّيِّدِ بَعْدَهَا يُوجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ لِأَنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الزَّوْجِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ عِدَّتِهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ عِدَّتِهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ وَثَلَاثُ حِيَضٍ، فَلَمَّا لَمْ يَعْلَمْ الْوَاقِعَ كَانَ الِاحْتِيَاطُ بِأَنْ تَعْتَدَّ بِأَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهَا، وَفِي الثَّالِثِ كَذَلِكَ عِنْدَهُمَا لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْوَاقِعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَقَطْ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَيْضُ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لِلْمَوْلَى وَهُوَ ظُهُورُ فِرَاشِهِ لَمْ يُوجَدْ، وَالِاحْتِيَاطُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ لِأَنَّهُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَقَوْلُهُمْ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَقَوْلُنَا قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ.
وَعِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ وَتَتَزَوَّجُ إنْ شَاءَتْ إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَعِنْدَ غَيْرِنَا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قِيَاسِيَّةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَعِتْقِهِ كُلٌّ مِنْ أَمْرَيْنِ: زَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَزَوَالِ الْفِرَاشِ. فَقَاسُوا عَلَى الْأَوَّلِ هَكَذَا تَرَبُّصٌ
لِأَنَّهَا تَجِبُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَشَابَهَتْ الِاسْتِبْرَاءَ. وَلَنَا أَنَّهَا وَجَبَتْ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ فَأَشْبَهَ عِدَّةَ النِّكَاحِ ثُمَّ إمَامُنَا فِيهِ عُمَرُ فَإِنَّهُ قَالَ: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثُ حِيَضٍ
يَجِبُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَيُقَدَّرُ بِحَيْضَةٍ كَالِاسْتِبْرَاءِ. وَقُلْنَا: تَرَبُّصٌ يَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ فَيُقَدَّرُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَالتَّرَبُّصِ فِي الطَّلَاقِ، وَهَذَا أَرْجَحُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا، فَالْقِيَاسُ الْمُوجِبُ لِلْأَكْثَرِ وَاجِبُ الِاعْتِبَارِ عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا فِي إيجَابِ الزَّائِدِ عَلَى الْحَيْضَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الزَّائِدِ عَلَى الْحَيْضَةِ لَيْسَ مُقْتَضَى قِيَاسِ الِاسْتِبْرَاءِ بَلْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ لَيْسَ إلَّا تَعْدِيَةَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّرَبُّصِ حَيْضَةً فَقَطْ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الزَّائِدِ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنَّهُ مُقْتَضَاهُ، فَإِنَّ أَثَرَ الْعِلَّةِ فِيهِ وَفِي كُلِّ قِيَاسٍ إنَّمَا هُوَ فِي تَعْدِيَةِ حُكْمِ الْأَصْلِ لَا فِي غَيْرِهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، ثُمَّ لَا يَجِبُ ذَلِكَ الْغَيْرُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِهِ.
فَإِذَا عَلِمْت هَذَا فَإِيجَابُ الزَّائِدِ عَلَى الْحَيْضَةِ يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ الَّذِي عَيَّنَّاهُ، وَلَا يَقْتَضِي نَفْيَهُ مَا عَيَّنُوهُ فَيَسْلَمُ إيجَابُهُ عَنْ الْمُعَارِضِ. وَعَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ فَالْمُعَارَضَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَ كُلِّ قِيَاسَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبُ أَحَدِهِمَا بَعْضَ مُوجِبِ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ التَّعَرُّضُ لِغَيْرِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، فَإِذَا كَانَ فِي الْفَرْعِ جَامِعَانِ بِلَا مَانِعٍ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي فِيهِ حُكْمًا وُجُودِيًّا وَالْآخَرُ غَيْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاءُ حُكْمِ الْآخَرِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ الْقِيَاسُ وَالتَّعْلِيلُ لِنَفْيِ حُكْمٍ، فَإِنَّ النَّفْيَ حِينَئِذٍ مُقْتَضَاهُ، وَفِيهِ كَلَامٌ فِي الْأُصُولِ وَمَنْ اخْتَارَهُ شَرَطَ كَوْنَ الْعِلَّةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا. وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُؤْثِرُ شَيْئًا، وَمَا وَقَعَ فِي الْفِقْهِ بِمَا ظَاهِرُهُ التَّعْلِيلُ بِهِ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي عَدَمِ الْخَمْسِ فِي مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَنَحْوِهِ فَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ مِنْ الشَّرْعِ مَا اُعْتُبِرَ مَنُوطًا بِهِ الْخَمْسُ إلَّا ذَلِكَ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فَيَنْتَفِي الْخَمْسُ: أَيْ يَبْقَى عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنَّهُ إلْحَاقٌ بِجَامِعٍ مُؤْثِرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُوجِبُ أَحَدِهِمَا بَعْضَ مُوجِبِ الْآخَرِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْجَامِعَيْنِ مُتَظَافَرَانِ عَلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِإِثْبَاتِ أَمْرٍ آخَرَ لَيْسَ نَفْيُهُ مُقْتَضَى الْآخَرِ.
(قَوْلُهُ وَإِمَامُنَا فِيهِ عُمَرُ رضي الله عنه) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ: أَمَرَ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا عَتَقَتْ أَنْ تَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَكَتَبَ إلَيَّ عُمَرَ فَكَتَبَ بِحُسْنِ رَأْيِهِ، فَأَمَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْوَفَاةِ كَذَلِكَ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ فِي الْعِتْقِ مِنْ شَخْصٍ قَوْلُهُ بِهِ فِي الْوَفَاةِ، أَلَا يُرَى إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ بِهَا فِي الْعِتْقِ.
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ عَنْ قَبِيصَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَبِيصَةُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَمْرِو فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ ضَائِرٍ إذَا كَانَ قَبِيصَةُ ثِقَةً.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: ثَلَاثٌ حِيَضٍ إذَا مَاتَ عَنْهَا: يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ. وَأَخْرَجَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ، فَعَلَى هَذَا تَعَارَضَ النَّقْلُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالْحَارِثُ ضَعِيفٌ، إلَّا أَنَّ غَالِبَ نَقْلِ الْمَذَاهِبِ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِهِ، وَالْمُتَحَقِّقُ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ السَّلَفِ
(وَلَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) كَمَا فِي النِّكَاحِ.
(وَإِذَا مَاتَ الصَّغِيرُ عَنْ امْرَأَتِهِ وَبِهَا حَبَلٌ فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَيْسَ بِثَابِتِ النَّسَبِ مِنْهُ فَصَارَ كَالْحَادِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَهُمَا إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلِأَنَّهَا
وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى اخْتِلَافِ الرَّأْيِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَرْجِيحَ مَا يُوَافِقُ رَأْيَنَا.
(قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ الصَّبِيُّ عَنْ امْرَأَتِهِ وَبِهَا حَبَلٌ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا مَاتَ وَظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ اتِّفَاقًا ثُمَّ مُعَرِّفُ ذَلِكَ أَنْ تَضَعَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَوْتِهِ فِي الْأَصَحِّ، فَإِذَا وَضَعَتْهُ كَذَلِكَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَوْتِهِ فَأَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ مَحْكُومًا بِقِيَامِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ بَلْ بِحُدُوثِهِ بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْعِدَّةِ بِالْوَضْعِ عِنْدَهُمَا بَلْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ اتِّفَاقًا. وَقِيلَ: الْمَحْكُومُ بِحُدُوثِهِ أَنْ تَلِدَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ مَوْتِهِ وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ الِانْقِضَاءُ بِالْوَضْعِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لِلْحُدُوثِ بِأَكْثَرَ سَنَتَيْنِ أَوْ بِسَنَتَيْنِ كَوَامِلَ لَيْسَ إلَّا لِلِاحْتِيَاطِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَلَا يُمْكِنُ ثُبُوتُهُ فِي الصَّبِيِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَأْخِيرِ الْحُكْمِ بِالْحُدُوثِ إلَى السَّنَتَيْنِ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ) وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذْ لَمْ يُحْكَ فِي الظَّاهِرِ خِلَافٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ وَلَا جَامِعُ كَلَامِهِ الْحَاكِمُ، وَقَوْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا يَعْنِي الِاعْتِدَادَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ اسْتِحْسَانٌ مِنْ عُلَمَائِنَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عِدَّتَهَا بِالشُّهُورِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ انْتَهَى. وَإِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمُطَلَّقَةِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ تَعْتَدُّ بِوَضْعِهِ مَعَ أَنَّهُ مَنْفِيُّ النَّسَبِ وَمَحْكُومٌ بِحُدُوثِهِ فَكَيْفَ يَقُولُ فِي الْمَحْكُومِ بِقِيَامِهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ لَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِهِ فَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ يَجِبُ كَوْنُ ذَلِكَ الصَّغِيرِ غَيْرَ مُرَاهِقٍ. أَمَّا الْمُرَاهِقُ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْعَقْدِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا طَلَّقَ الْكَبِيرُ امْرَأَتَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ غَيْرِ سِقْطٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا حَامِلًا مِنْ الزِّنَا وَلَا يَعْلَمُ الْحَالَ ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَعْتَدُّ بِالْوَضْعِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُمْ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا وَلَا يَعْلَمُ لِصِحَّةِ كَوْنِهِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَقْدَ عَلَى الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُصَحِّحْهُ لَكِنْ يَجِبُ مِنْ الْوَطْءِ فِيهِ الْعِدَّةَ لِأَنَّهُ شُبْهَةٌ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا بِالْوَضْعِ أَوْ بِالْأَشْهُرِ.
وَحَاصِلُ مُتَمَسِّكِهِمْ الْقِيَاسُ عَلَى الْحَادِثِ بَعْدَ مَوْتِ الصَّغِيرِ، هَكَذَا حُمِلَ مَنْفِيُّ النَّسَبِ فَلَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِهِ كَالْحَمْلِ الْحَادِثِ بَعْدَ مَوْتِ الصَّغِيرِ (وَلَهُمَا إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ (وَلِأَنَّهَا) أَيْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فِي حَقِّ الْحَامِلِ وَقْتَ
مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةِ وَضْعِ الْحَمْلِ فِي أُولَاتِ الْأَحْمَالِ قَصُرَتْ الْمُدَّةُ أَوْ طَالَتْ لَا لِلتَّعَرُّفِ عَنْ فَرَاغِ الرَّحِمِ لِشَرْعِهَا بِالْأَشْهُرِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَاءِ، لَكِنْ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي الصَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَمْلُ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ الْحَادِثِ
الْمَوْتِ (مُقَدَّرَةٌ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فِي أُولَاتِ الْأَحْمَالِ لَا لِلتَّعَرُّفِ عَلَى فَرَاغِ الرَّحِمِ لَشَرَعَهَا) أَيْ لَشَرَعَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ (بِالْأَشْهُرِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَاءِ لَكِنْ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ. وَهَذَا الْمَعْنَى) وَهُوَ قَضَاءُ حَقِّ النِّكَاحِ (يَتَحَقَّقُ فِي الصَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَمْلُ مِنْهُ) كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَبِيرِ وَالنَّسَبُ مِنْهُ. وَتَلْخِيصُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ قِيَاسُ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ الْحَامِلِ وَقْتَ مَوْتِهِ بِغَيْرِ ثَابِتِ النَّسَبِ عَلَى زَوْجَةِ الْكَبِيرِ الْحَامِلِ وَقْتَ مَوْتِهِ بِثَابِتِ النَّسَبِ فِي حُكْمٍ هُوَ الِاعْتِدَادُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ بِجَامِعِ أَنَّهُ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ إظْهَارًا لِخَطَرِهِ مُتَعَرِّضًا فِيهِ لِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَهُوَ وَصْفُ ثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ، وَدَلِيلُ الْإِلْغَاءِ شَرْعُ الْأَشْهُرِ مَعَ تَحَقُّقِ الْأَقْرَاءِ، وَبِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ لَيْسَ إلَّا نَفْيَ الْحُكْمِ لِنَفْيِ الْعِلَّةِ الْمُسَاوِيَةِ وَهِيَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ الْمُعْتَبَرُ عِلَّةً مُسَاوِيَةً لِلِاعْتِدَادِ بِالْوَضْعِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْخِلَافِيَّةِ فَيَنْتَفِي الِاعْتِدَادُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ كَمَا انْتَفَى فِي الْحَامِلِ بِحَادِثٍ بَعْدَ مَوْتِ الصَّبِيِّ وَنَحْنُ مَنَعْنَا عِلِّيَّتَهُ فَضْلًا عَنْ مُسَاوَاتِهِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الِاعْتِدَادِ بِالْوَضْعِ لَيْسَ إلَّا لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ مَمْنُوعٌ بَلْ لِذَلِكَ وَلْيَثْبُتْ الْفَرَاغُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ النِّكَاحِ. وَقَدَّمْنَا أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ، فَالْأَوْلَى عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِلنَّفْيِ وَيَكْفِي كَوْنُ الْعِدَّةِ مُطْلَقًا لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَمْرٌ لِلْأَعَمِّ ثَبَتَ لِكُلِّ خُصُوصِيَّاتِهِ فَيَثْبُتُ كَوْنُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِلنَّفْيِ أَيْضًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اسْتَبْعَدْنَا بِهَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ: أَعْنِي الْمُطَلَّقَةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَلِي الْوَضْعَ فَيَرْجِعُ بِنَفَقَتِهَا إنْ كَانَتْ تَعَجَّلَتْهَا إضَافَةً لِلْحَادِثِ وَهُوَ الْحَمْلُ الْحَادِثُ إلَى أَقْرَبِ زَمَانِهِ.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْحَمْلِ الْحَادِثِ) شَرَعَ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ فِي الصُّورَةِ وَبَيْنَ مَحَلِّ الْخِلَافِ،
لِأَنَّهُ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِحُدُوثِ الْحَمْلِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا وَجَبَتْ وَجَبَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةِ الْحَمْلِ فَافْتَرَقَا.
وَلَا يَلْزَمُ امْرَأَةُ الْكَبِيرِ إذَا حَدَثَ لَهَا الْحَبَلُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْهُ فَكَانَ كَالْقَائِمِ عِنْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا (وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ) لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا مَاءَ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْعُلُوقُ، وَالنِّكَاحُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَوْضِعِ التَّصَوُّرِ.
(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَمْ تَعْتَدَّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّلَاقُ) لِأَنَّ الْعِدَّةَ مُقَدَّرَةٌ، بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَوَامِلَ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا.
(وَإِذَا وُطِئَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِشُبْهَةٍ فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ أُخْرَى وَتَدَاخَلَتْ الْعِدَّتَانِ، وَيَكُونُ مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْحَيْضِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الْعِدَّةَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كَانَ الْحَمْلُ ثَابِتًا حَالَ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ مُطْلَقًا يَخُصُّ بِالْعَقْلِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ حَالَ الْمَوْتِ حَالُ زَوَالِ النِّكَاحِ وَعِنْدَهُ يَتِمُّ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَثْبُتَ الْعِدَّةُ إذْ ذَاكَ. وَالْفَرْضُ أَنْ لَا حَمْلَ حِينَئِذٍ لِيَثْبُتَ بِالْوَضْعِ فَكَانَ اعْتِبَارُ قِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعَدَمِهِ لِلِاعْتِدَادِ بِالْوَضْعِ أَوْ بِالْأَشْهُرِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْعَقْلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَعِنْدَ عَدَمِهِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعِدَّةَ تَثْبُتُ لَا يَتَوَقَّفُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالْأَشْهُرِ، وَبِهَذَا لَزِمَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ بِأُولَاتِ الْأَحْمَالِ الْأَحْمَالُ حَالَةَ الْفُرْقَةِ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَلْزَمُ امْرَأَةُ الْكَبِيرِ إذَا حَدَثَ بِهَا حَبَلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ) بِأَنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مَعَ حُدُوثِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَيْثُ تَعْتَدُّ بِالْوَضْعِ لَا بِالْأَشْهُرِ مَعَ فَرْضِ حُدُوثِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَأَجَابَ بِمَنْعِ الْحُكْمِ بِحُدُوثِهِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ شَرْعًا وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِقِيَامِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَصْلُ التَّوَافُقُ بَيْنَ الْحُكْمِيِّ وَالْوَاقِعُ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ قَائِمًا عِنْدَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا حَتَّى لَوْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بِحُدُوثِهِ كَانَ الْحُكْمُ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَشْهُرِ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ لَا مَعْنَى لِلْإِيرَادِ الْمُجَابِ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ أَصْلًا.
(قَوْلُهُ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْحَادِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا مَاءَ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْعُلُوقُ.
وَقَوْلُهُ وَالنِّكَاحُ يَقُومُ مَقَامَهُ: أَيْ مَقَامَ الْعُلُوقِ فِي مَوْضِعِ التَّصَوُّرِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ تَقْدِيرًا إذَا أَمْكَنَ تَصَوُّرُهُ تَحْقِيقًا.
(قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ ثَلَاثُ حِيَضٍ كَوَامِلَ) لِأَنَّهُ مُسَمَّى الِاسْمِ فِي ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ»
(قَوْلُهُ وَإِذَا وُطِئَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِشُبْهَةٍ) مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ الزَّوْجِ، وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاطِئُ الْمُطَلِّقُ
مُحْتَسَبًا مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ الْأُولَى وَلَمْ تُكْمِلْ الثَّانِيَةَ فَعَلَيْهَا تَمَامُ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ) وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَتَدَاخَلَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِبَادَةُ فَإِنَّهَا عِبَادَةُ كَفٍّ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ فَلَا تَتَدَاخَلَانِ كَالصَّوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ
وَالْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ يَتَحَقَّقُ بِصُوَرٍ. مِنْهَا الَّتِي زُفَّتْ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، وَالْمَوْطُوءَةُ لِلزَّوْجِ بَعْدَ الثَّلَاثِ فِي الْعِدَّةِ بِنِكَاحٍ قَبْلَ نِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ أَوْ فِي الْعِدَّةِ إذَا قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، وَاَلَّتِي طَلَّقَهَا بِالْكِنَايَةِ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ فَوَطِئَهَا آخَرُ بِشُبْهَةٍ، أَوْ فِي عِصْمَةٍ فَوَطِئَهَا آخَرُ بِشُبْهَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ، فَفِي هَذِهِ تَجِبُ عِدَّتَانِ وَيَتَدَاخَلَانِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَعَدَمُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رحمهم الله.
وَمَا فِي الْغَايَةِ مِنْ أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمُطَلَّقَةِ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي الْفِعْلِ وَالشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ لَا يُثْبِتُ النَّسَبَ بِالْوَطْءِ، وَإِنْ قَالَ ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لَا تَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ سَيَأْتِي دَفْعُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ مَعْنَى التَّدَاخُلِ جَعْلُ الْمَرْئِيِّ عَنْهُمَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ وُطِئَتْ بَعْدَ حَيْضَةٍ مِنْ الْعِدَّةِ الْأُولَى فَعَلَيْهَا حَيْضَتَانِ تَمَامُهَا وَتُحْتَسَبُ بِهِمَا مِنْ عِدَّةِ الثَّانِي، وَلِلْآخَرِ أَنْ يَخْطُبَهَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ وَلَا يَخْطُبُهَا غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا إذَا شَاءَ لَا يُقِرُّ بِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْآخَرِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَائِنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ الثَّانِي حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْعِدَّتَانِ بِالشُّهُورِ، قَالُوا: وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْعِدَّةِ مَاذَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الْحُرُمَاتِ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِذَا وَجَبَ كَفٌّ عَنْهَا فِي مُدَّةٍ بِسَبَبٍ وَكَفٌّ عَنْهَا كَذَلِكَ بِسَبَبٍ آخَرَ لَا يَتَدَاخَلَانِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَفَّ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ لَا تَتَدَاخَلُ، إنَّمَا التَّدَاخُلُ لَائِقٌ بِالْعُقُوبَاتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفُّ عَنْ الشَّهْوَتَيْنِ فِي يَوْمٍ بِسَبَبٍ ثُمَّ وَجَبَ مِثْلُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَعِنْدَنَا أَنَّ الرُّكْنَ نَفْسَ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ الْكَائِنَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَيُمْكِنُ اجْتِمَاعُ حُرُمَاتٍ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَالْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَى عَدَمِ شُرْبِهَا نَهَارًا لِلصَّائِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَنْقَضِي بِدُونِ عِلْمِهَا وَمَعَ تَرْكِهَا الْكَفَّ، وَنَحْنُ نَسْتَأْنِفُ الْكَلَامَ وَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ تَمَامِ سَبَبِ الْعِدَّةِ أُمُورٌ: هِيَ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ وَحُرْمَةُ الزِّينَةِ وَحُرْمَةُ التَّزَوُّجِ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ تَنْتَهِي هَذِهِ الْحُرُمَاتُ بِانْتِهَائِهَا، وَوُجُوبُ التَّرَبُّصِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَيْضًا الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} مَعَ أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ لَازِمًا لِلْحُرْمَةِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ وَمُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ لَيْسَ إلَّا فِعْلَ الْمُكَلَّفِ، وَالتَّرَبُّصُ وَإِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ فَهُوَ
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَرُّفُ عَنْ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَقَدْ حَصَلَ بِالْوَاحِدَةِ فَتَتَدَاخَلَانِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَنْقَضِي بِدُونِ عِلْمِهَا وَمَعَ تَرْكِهَا الْكَفَّ.
مِنْ أَفْعَالِ النَّفْسِ، فَإِنْ أَرَدْنَا تَعْيِينَهُ لَمْ نَرَ أَنْسَبَ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ تَرَكَ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَتَرْكُ الشَّيْءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِ كَفِّ النَّفْسِ عَنْهُ أَوْ حَبْسِهَا.
فَمَنْ ظَنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْكَفِّ وَالتَّرْكِ بَعُدَ عَنْ التَّحْقِيقِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حَاصِلُ {يَتَرَبَّصْنَ} نَهْيًا عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْكَفَّ عَنْهَا كَمَا جَعَلُوا قَوْله تَعَالَى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} نَهْيًا عَنْهُ فَالثَّابِتُ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ لُزُومَ الْكَفِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَرْأَةِ إلَّا عِنْدَ عِلْمِهَا بِالسَّبَبِ، إذْ التَّكْلِيفُ بِالْمَقْدُورِ وَلَا قُدْرَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ فَيُحْكَمُ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِ بِالسَّبَبِ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الْقَائِلَةُ: إنَّ الْحُكْمَ الْمُقَيَّدَ بِمُدَّةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا لَزِمَ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالطَّلَاقِ حَتَّى تَمَّتْ الْعِدَّةُ خَرَجَتْ عَنْ الْعِدَّةِ غَيْرَ آثِمَةٍ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّهَا لَمْ يَكُنْ حُكْمَ الْخِطَابِ، بَلْ غَايَتُهُ أَصْلُ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِالسَّبَبِ وَلَا طَلَبَ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ عَلَى مَا عُرِفَ، أَوْ عَلِمْت ثُمَّ لَمْ تَكُفَّ: أَيْ لَمْ تَتَرَبَّصْ عَنْ الْخُرُوجِ وَالنِّكَاحِ حَتَّى انْتَهَتْ إلَى حَدِّ الزِّنَا إلَى أَنْ تَمَّتْ الْمُدَّةُ خَرَجَتْ عَنْ الْعِدَّةِ آثِمَةً فَلَا يَكُونُ انْقِضَاؤُهَا بِلَا عِلْمِهَا وَمَعَ تَرْكِهَا الْكَفَّ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، بَلْ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ تَحَقُّقُهَا فِي حَقِّ مَنْ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنْهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونَةِ وَالصَّغِيرَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ تَحَقُّقَ الْعِدَّةِ فِي الشَّرْعِ بِالْأَصَالَةِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَرُّفِ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَلِإِظْهَارِ خَطَرِ النِّكَاحِ وَالْبُضْعِ فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا فِي ذَاتِ الْأَقْرَاءِ وَقَدْ لَا كَمَا فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ وَهُوَ كَفُّ الْقَادِرَةِ الْمُخْتَارَةِ نَفْسَهَا عَنْ مُتَعَلِّقَاتِ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِدَّةَ تُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ، أَمَّا عَلَى التَّرَبُّصِ فَفِي قَوْلِنَا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ وَنَحْوِهِ
(وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ وَتَحْتَسِبُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ الْحَيْضِ فِيهَا) تَحْقِيقًا لِلتَّدَاخُلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَأَمَّا عَلَى نَفْسِ الْمُدَّةِ فَفِي نَحْوِ قَوْلِنَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَمَا سَنَذْكُرُ أَيْضًا، وَأَمَّا عَلَى نَفْسِ الْحُرُمَاتِ فَبِفَرْضِ دَعْوَانَا أَنَّهَا الرُّكْنُ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي بَيَانِ أَنَّ مُسَمَّى لَفْظِ الْعِدَّةِ فِي الشَّرْعِ مَاذَا؟ فَاَلَّذِي يُفِيدُهُ حَقِيقَةُ نَظْمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} أَنَّهُ نَفْسُ الْمُدَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ الْحُرُمَاتُ فِيهَا وَتَقَيَّدَتْ بِهَا لَا الْحُرُمَاتُ الثَّابِتَةُ فِيهَا وَلَا وُجُوبُ الْكَفِّ وَلَا التَّرَبُّصُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ} إنَّمَا يُفِيدُ لُزُومَ التَّرَبُّصِ لَا أَنَّهُ مُسَمَّى لَفْظِ الْعِدَّةِ، وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ كُلًّا مِنْ الْأُمُورِ ثَابِتٌ عِنْدَ تَمَامِ السَّبَبِ وَالْكَلَامُ الْآنَ لَيْسَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} فَالْأَجَلُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ الْمُدَّةِ لِتَأْخِيرِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ مُضِيِّهِ كَالْمُطَالَبَةِ فِي الدَّيْنِ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِمُضِيِّ هَذَا الْأَجَلِ حِلُّ النِّكَاحِ وَالْخُرُوجِ فَيَكُونُ الثَّابِتُ قَبْلَهُ حُرْمَتُهُمَا، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ أَيْضًا إلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الثُّبُوتِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ الرُّكْنَ كَمَا قُلْنَا فِي التَّرَبُّصِ، وَأَمَّا وَصْفُ الْعِدَّةِ بِالْوُجُوبِ فِي قَوْلِنَا الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ وَوَجَبَتْ فَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فِعْلٌ كَالتَّرَبُّصِ وَالْكَفِّ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ الْمَفْهُومَ الْحَقِيقِيَّ إلَّا ظَاهِرًا، وَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ.
فَتَلَخَّصَ أَنَّهُ يَجِبُ كَوْنُ مُسَمَّى الْعِدَّةِ الْمُدَّةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي تَعَلَّقَتْ فِيهَا الْحُرُمَاتُ عِنْدَ الْكُلِّ.
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ بِنَاءُ الْخِلَافِ فِي تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ عَلَى كَوْنِ رُكْنِ الْعِدَّةِ الْكَفَّ أَوْ الْحُرُمَاتِ، بَلْ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا الْمُدَّةُ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حِينَئِذٍ تَعَلَّقَتْ فِيهَا حُرُمَاتٌ يَجِبُ لَهَا كَفُّ النَّفْسِ عَنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا. فَتَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ يَسْتَلْزِمُ تَدَاخُلَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ فِيمَا لَا أَنَّ تَدَاخُلَهَا تَدَاخُلُهَا وَاللَّازِمُ مُتَّحِدٌ حِينَئِذٍ وَهُوَ امْتِنَاعُ تَدَاخُلِ الْعِبَادَاتِ سَوَاءٌ جَاءَ لَازِمًا لِتَدَاخُلِ الْعِدَّةِ أَوْ كَانَ عَيْنَ تَدَاخُلِهَا فَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَنْ كَوْنِ الْمَبْنِيِّ مَا هُوَ. وَالدَّفْعُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْكَفَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَجِبْ تَحَقُّقُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ بَلْ مُطْلَقًا، إذْ لَا دَلِيلَ يُوجِبُ كَوْنَهُ وَجَبَ إيجَادَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بَلْ الدَّلِيلُ قَامَ عَلَى عَدَمِهِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ لَوْ وَقَعَ الْكَفُّ مِنْهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ بَلْ اتِّفَاقًا أَوْ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ لَمْ يُحْكَمْ بِكَوْنِهَا آثِمَةً مَعَ أَنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْعِبَادَةُ لِعَدَمِ نِيَّةِ الِاحْتِسَابِ لِلَّهِ تَعَالَى فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ. نَعَمْ هُوَ لَهُ عَرْضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ عِبَادَةً، فَإِنَّ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا كَفَّتْ نَفْسَهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَغَيْرِهِ مَعَ فُرُوغِ النَّفْسِ لِذَلِكَ احْتِسَابًا لِلَّهِ وَقَصْدًا لِطَاعَتِهِ وَقَعَ ذَلِكَ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَا أَنَّهُ يَجِبُ إيقَاعُهُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا.
(قَوْلُهُ وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ وَتَحْتَسِبُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ الْحَيْضِ فِيهَا)
(وَابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ وَفِي الْوَفَاةِ عَقِيبَ الْوَفَاةِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْوَفَاةِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا) لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ الطَّلَاقُ أَوْ الْوَفَاةُ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ، وَمَشَايِخُنَا يُفْتُونَ فِي الطَّلَاقِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ.
فَلَوْ لَمْ تَرَ فِيهَا دَمًا يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ الْأَشْهُرِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ.
(قَوْلُهُ وَابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ) لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ الطَّلَاقُ تَسَاهُلٌ، فَقَدْ قَدَّمُوا أَنَّ سَبَبَهَا النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ شَرْطٌ وَأَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِنَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ إلَى الشَّرْطِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِأَنَّ عِنْدَ الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ يَتِمُّ السَّبَبُ فَيَسْتَعْقِبُهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَيَكُونُ مَبْدَأُ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِالضَّرُورَةِ.
(قَوْلُهُ وَمَشَايِخُنَا يُفْتُونَ فِي الطَّلَاقِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ) بِأَنْ يَتَوَاضَعَا عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَصِحَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لَهَا بِالدَّيْنِ أَوْ يَتَوَاضَعَا عَلَيْهِ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا.
وَإِذَا كَانَ مُخَالَفَةُ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى بِهِ مَحَلَّ التُّهْمَةِ وَالنَّاسُ الَّذِينَ هُمْ مَظَانُّهَا، وَلِذَا فَصَّلَ السُّغْدِيُّ حَيْثُ قَالَ: مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي أُسْنِدَ الطَّلَاقُ إلَيْهِ، أَمَّا إذَا كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ فَالْكَذِبُ فِي كَلَامِهِمَا ظَاهِرٌ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي الْإِسْنَادِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَعَلَى هَذَا إذَا فَارَقَهَا زَمَانًا ثُمَّ قَالَ لَهَا كُنْتُ طَلَّقْتُك مُنْذُ كَذَا وَهِيَ لَا تَعْلَمُ بِذَلِكَ يُصَدَّقُ وَتُعْتَبَرُ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى لِاعْتِرَافِهَا بِالسُّقُوطِ، وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا، وَعُرِفَ أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِقْرَارِ يُفِيدُ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُتَقَدِّمَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ قَامَتْ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالْإِقْرَارِ، وَأَنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ إنَّمَا هُوَ إذَا صَدَّقَتْهُ، أَمَّا إذَا كَذَّبَتْهُ فِي الْإِسْنَادِ فَلَا، وَكَذَا إذَا قَالَتْ لَا أَدْرِي، فَالْحُكْمُ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ عَلَى قَوْلِ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْإِسْنَادِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَمَشَايِخُنَا مَشَايِخُ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ وَاقْتِصَارُ النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ غَيْرُ جَيِّدٍ ثُمَّ فِيهِ تَرْكٌ لِشَرْحِ الْكِتَابِ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَأَتَاهَا مَوْتُهُ أَوْ طَلَاقُهُ لِمُدَّةٍ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ فَلَا عِدَّةَ وَإِذَا شَكَّتْ فِي الْعِدَّةِ اعْتَدَّتْ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي تَسْتَيْقِنُ فِيهِ بِمَوْتِهِ.
وَلَوْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا إنْ ضَرَبَهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الضَّرْبَ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ فَالْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ أَوْ مِنْ وَقْتِ الضَّرْبِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ وَقْتِ الضَّرْبِ.
وَلَوْ طَلَّقَهَا
(وَالْعِدَّةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَقِيبَ التَّفْرِيقِ أَوْ عَزْمِ الْوَاطِئِ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا) وَقَالَ زُفَرُ: مِنْ آخِرِ الْوَطَآتِ لِأَنَّ الْوَطْءَ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ وُجِدَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ لِاسْتِنَادِ الْكُلِّ إلَى حُكْمِ عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا يُكْتَفَى فِي الْكُلِّ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ، فَقِيلَ: الْمُتَارَكَةُ أَوْ الْعَزْمُ لَا تُثْبِتُ الْعِدَّةَ مَعَ جَوَازِ وُجُودِ غَيْرِهِ وَلِأَنَّ التَّمَكُّنَ عَلَى وَجْهِ الشُّبْهَةِ
وَأَنْكَرَ فَأُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ فَقُضِيَ بِالطَّلَاقِ فَالْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَا الْقَضَاءِ.
(قَوْلُهُ أَوْ عَزْمِ الْوَاطِئِ) بِأَنْ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ تَرَكَ الْوَطْءَ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، أَمَّا آخِرُ الْوَطَآتِ لَا يُعْلَمُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ آخَرَ بَعْدَهُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَالنِّصَابُ الْمُتَارَكَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَرَكْتُكِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَتَرَكْتُهَا وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهَا أَمَّا عَدَمُ الْمَجِيءِ فَلَا إذْ الْغَيْبَةُ لَا تَكُونُ مُتَارَكَةً لِأَنَّهُ لَوْ عَادَ يَعُودُ وَلَوْ أَنْكَرَ نِكَاحَهَا لَا يَكُونُ مُتَارَكَةً.
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ وُجِدَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ) لِاسْتِنَادِ الْكُلِّ أَيْ كُلِّ الْوَطَآتِ (إلَى حُكْمِ عَقْدٍ وَاحِدٍ) وَهُوَ شُبْهَةُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَلِهَذَا أَيْ لِاعْتِبَارِ الْكُلِّ وَاحِدًا يُكْتَفَى بِمَهْرٍ وَاحِدٍ فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ تَعَدَّدَتْ الْمُهُورُ بِتَعَدُّدِ الْوَطْءِ لِمَا عُرِفَ فَقَبْلَ الْمُتَارَكَةِ أَوْ الْعَزْمِ لَا تَثْبُتُ كُلُّ الْوَطَآتِ لِجَوَازِ غَيْرِهِ فَلَا تَثْبُتُ الْعِدَّةُ لَكِنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِ زُفَرَ أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ أَيَّ وَطْءٍ كَانَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ ثَلَاثَ حِيَضٍ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ آخِرَ الْوَطَآتِ وَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. عَادَ هَذَا التَّقْدِيرُ فَنَقُولُ: إنْ تَرَكَهَا حَتَّى حَاضَتْ ثَلَاثًا إلَخْ وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَةً بَعْدَ وَطْئِهِ ثُمَّ قَالَ: عَزَمْتُ عَلَى تَرْكِهِ اُحْتُسِبَ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ عِنْدَهُ مِنْ الْعِدَّةِ فَتَتَزَوَّجُ بَعْدَ حَيْضَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَعِنْدَنَا لَا تُحْتَسَبُ بِهَا (وَلِأَنَّ التَّمَكُّنَ) مِنْ الْوَطْءِ (عَلَى وَجْهِ الشُّبْهَةِ) بِسَبَبِ ذَلِكَ
أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ لِخَفَائِهِ وَمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
(وَإِذَا قَالَتْ الْمُعْتَدَّةُ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ الْيَمِينِ) لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ وَقَدْ اُتُّهِمَتْ بِالْكَذِبِ فَتَحْلِفُ كَالْمُودِعِ.
(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَعَلَيْهِ إتْمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى) لِأَنَّ هَذَا طَلَاقٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا يُوجِبُ كَمَالَ الْمَهْرِ وَلَا اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ، وَإِكْمَالُ الْعِدَّةِ الْأُولَى إنَّمَا يَجِبُ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حَالَ
الْعَقْدِ (أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ لِخَفَاءِ الْوَطْءِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ) أَيْ فِي غَيْرِ الْوَاطِئِ وَهُوَ حِلُّهَا لِلْأَزْوَاجِ وَالْخَفِيُّ لَا يَعْرِفُ الْحُكْمَ وَإِذَا أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ لَا تَثْبُتُ الْعِدَّةُ مَا دَامَ التَّمَكُّنُ عَلَى وَجْهِ الشُّبْهَةِ قَائِمًا وَلَا يَنْقَطِعُ التَّمَكُّنُ كَذَلِكَ إلَّا بِالتَّفْرِيقِ أَوْ الْمُتَارَكَةِ صَرِيحًا فَلَا تَثْبُتُ الْعِدَّةُ إلَّا عِنْدَهُمَا وَاخْتَارَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ قَوْلَ زُفَرَ.
وَمُقْتَضَى مَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الْوَجْهُ أَنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ عَالِمَةً بِأَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَ وَطْئِهِ كَانَ صَحِيحًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا بَعْدَ التَّرْكِ فِي الْقَضَاءِ
(قَوْلُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الْيَمِينِ) لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ هَذَا مَا إذَا كَذَّبَهَا مَعَ كَوْنِ الْمُدَّةِ تَحْتَمِلُ انْقِضَاءَهَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ شَهْرَانِ عِنْدَهُ وَتِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَحْتَمِلْهُ الْمُدَّةُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا أَصْلًا.
(قَوْلُهُ كَالْمُودَعِ) إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْهَلَاكَ وَأَنْكَرَ الْمُودَعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الرَّدِّ مَعَ أَنَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ إذَا كَذَّبَهُ. وَعَكْسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ الزَّوْجُ: أَخْبَرَتْنِي بِأَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ فَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةٍ لَا تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا قَوْلُهَا إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ مِنْ إسْقَاطِ سِقْطٍ مُسْتَبِينِ الْخَلْقِ فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَلَوْ كَانَ فِي مُدَّةٍ تَحْتَمِلُهُ فَكَذَّبَتْهُ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ) الْمَدْخُولَ بِهَا (طَلَاقًا بَائِنًا دُونَ الثَّلَاثِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ مَهْرٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) وَقَالَ زُفَرُ نِصْفُ الْمَهْرِ أَوْ الْمُتْعَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ سُمِّيَ فِيهِ شَيْءٌ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ وَلَا تُكْمِلُ الْعِدَّةَ الْأُولَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا نِصْفُهُ أَوْ الْمُتْعَةُ وَعَلَيْهَا إتْمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى. لِزُفَرِ أَنَّ الْعِدَّةَ الْأُولَى بَطَلَتْ بِالتَّزَوُّجِ وَلَا تَجِبُ عِدَّةٌ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي وَلَا كَمَالُ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ إكْمَالَ الْعِدَّةِ الْأُولَى وَجَبَ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُهُ حَالَ
التَّزَوُّجِ الثَّانِي، فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي ظَهَرَ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا. وَلَهُمَا أَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً بِالْوَطْأَةِ الْأُولَى وَبَقِيَ أَثَرُهُ وَهُوَ الْعِدَّةُ، فَإِذَا جَدَّدَ النِّكَاحَ وَهِيَ مَقْبُوضَةٌ نَابَ ذَلِكَ الْقَبْضُ عَنْ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ فِي هَذَا النِّكَاحِ كَالْغَاصِبِ يَشْتَرِي الْمَغْصُوبَ الَّذِي فِي يَدِهِ يَصِيرُ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ،
التَّزَوُّجِ الثَّانِي فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالطَّلَاقِ ظَهَرَ حُكْمُهُ.
(قَوْلُهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ) أَيْ زَوْجَتَهُ الَّتِي هِيَ أُمُّ وَلَدِهِ إذَا كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِالشِّرَاءِ وَلَمْ تَظْهَرْ الْعِدَّةُ حَتَّى حَلَّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ثُمَّ بِالْعِتْقِ تَظْهَرُ غَيْرَ أَنَّ هُنَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ أُخْرَى لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ أَعْتَقَتْ وَتَدَاخَلَتْ الْعِدَّتَانِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ إلَى أَنْ تَذْهَبَ عِدَّةُ النِّكَاحِ وَهِيَ حَيْضَتَانِ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهَا عِدَّةُ النِّكَاحِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْحَيْضَةِ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا عِدَّةُ أُمِّ وَلَدٍ أَعْتَقَتْ، وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَلَهَا وَلَدٌ مِنْهُ أَوْ لَا وَلَدَ لَهَا مِنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ تَبْطُلُ فِي حَقِّهِ بِالشِّرَاءِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ وَطْؤُهَا فَإِذَا زَالَ بِالْعِتْقِ تَظْهَرُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهَا تَمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا بِالطَّلَاقِ السَّابِقِ، وَمَا قَالَهُ زُفَرُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِهِمَا وَهُوَ عَدَمُ اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا مِنْ يَوْمِهِ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ مِنْ غَيْرِ عِدَّةٍ مِنْ الطَّلَاقِ، وَفِي ذَلِكَ اشْتِبَاهُ النَّسَبِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَطْءَ قَبْضٌ وَهِيَ مَقْبُوضَةٌ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً بِالْوَطْأَةِ الْأُولَى، وَبَقِيَ أَثَرُ هَذَا الْقَبْضِ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ إذْ هِيَ أَثَرُهُ، فَإِذَا جُدِّدَ النِّكَاحُ وَالْحَالُ قِيَامُ قَبْضِهَا نَابَ قَبْضُهَا الْقَائِمِ مَقَامَ اسْتِحْدَاثِ قَبْضٍ آخَرَ فَكَانَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَابِضًا كَالْغَاصِبِ إذَا اشْتَرَى الْمَغْصُوبَ وَهُوَ فِي يَدِهِ بِالْغَصْبِ نَابَ ذَلِكَ الْقَبْضُ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَأْنَفِ وَلَا يُقَالُ: وَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَمْلِكَ الرَّجْعَةَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الصَّرِيحَ بَعْدَ الدُّخُولِ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَهُوَ مُنْتَفٍ. لِأَنَّا نَقُولُ: نَحْنُ مَا جَعَلْنَا النِّكَاحَ الثَّانِيَ قَائِمًا مَقَامَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ لِلِاحْتِيَاطِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إقَامَتُهُ مَقَامَهُ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَإِلَّا كَانَ إقَامَةً فِي حَقِّ تَرْكِ الِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ، أَلَا يَرَى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ لَا يُثْبِتُهَا مَعَ أَنَّ الْخَلْوَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ؛ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إقَامَةِ النِّكَاحِ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي ذَيْنِك الْحُكْمَيْنِ إقَامَتُهُ مَقَامَهُ وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ
فَوَضَحَ بِهَذَا أَنَّهُ طَلَاقٌ بَعْدَ الدُّخُولِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْأُولَى قَدْ سَقَطَتْ بِالتَّزَوُّجِ فَلَا تَعُودُ، وَالثَّانِيَةُ لَمْ تَجِبْ وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا.
. قَالَ (وَإِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّةَ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَكَذَا إذَا خَرَجَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً،
بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَهَذِهِ إحْدَى الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: وَهُوَ أَنَّ الدُّخُولَ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ دُخُولٌ فِي الثَّانِي أَوَّلًا.
وَثَانِيهَا لَوْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا صَحِيحًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَنْ ذَلِكَ الْفَاسِدِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا صَحِيحًا أَوَّلًا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَاسِدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرٌ وَلَا عَلَيْهَا اسْتِقْبَالُ الْعِدَّةِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا تَمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى بِالِاتِّفَاقِ. وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ فِي الْفَاسِدِ فَلَا يُجْعَلُ وَاطِئًا حُكْمًا لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ وَاطِئًا بِالْخَلْوَةِ فِي الْفَاسِدِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِهَا وَلَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ.
وَثَالِثُهَا لَوْ دَخَلَ بِهَا فِي الصِّحَّةِ وَطَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْمَرَضِ فِي عِدَّتِهَا وَطَلَّقَهَا بَائِنًا قَبْلَ الدُّخُولِ هَلْ يَكُونُ فَارًّا أَمْ لَا.
وَرَابِعُهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ كُفُؤٍ وَدَخَلَ بِهَا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِطَلَبِ الْوَلِيِّ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا هَذَا الرَّجُلُ فِي الْعِدَّةِ بِمَهْرٍ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ الثَّانِي كَامِلًا وَعِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ عِنْدَهُمَا اسْتِحْسَانًا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصْفُ الْمَهْرِ الثَّانِي وَعَلَيْهَا إتْمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى.
وَخَامِسُهَا تَزَوَّجَهَا صَغِيرَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَبَلَغَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَسَادِسُهَا تَزَوَّجَهَا صَغِيرَةً فَدَخَلَ بِهَا فَبَلَغَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَسَابِعُهَا تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا.
وَثَامِنُهَا تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا.
وَتَاسِعُهَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَعَاشِرُهَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَأَعْتَقَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّةَ) أَوْ مَاتَ عَنْهَا (فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا) فَلَوْ تَزَوَّجَهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فِي فَوْرِ طَلَاقِهَا جَازَ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ لَا تَجِبُ فِي مُعْتَقَدِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا الْمُسْلِمُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَإِنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهَا حَقُّهُ وَمُعْتَقَدُهُ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا خَرَجَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً) لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ الْمُعْتَبَرُ أَنْ تَصِيرَ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ مِنْ الْعَوْدِ إمَّا بِخُرُوجِهَا مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ مُسْتَأْمَنَةً ثُمَّ أَسْلَمَتْ أَوْ صَارَتْ ذِمِّيَّةً لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا
فَإِنْ تَزَوَّجَتْ جَازَ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَيْهَا وَعَلَى الذِّمِّيَّةِ الْعِدَّةُ) أَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَالِاخْتِلَافُ فِيهَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي نِكَاحِهِمْ مَحَارِمَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ مُعْتَقَدُهُمْ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَكَذَا بِسَبَبِ التَّبَايُنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا هَاجَرَ الرَّجُلُ وَتَرَكَهَا لِعَدَمِ التَّبْلِيغِ. وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ حَيْثُ وَجَبَتْ كَانَ فِيهَا حَقُّ بَنِي آدَمَ وَالْحَرْبِيُّ مُلْحَقٌ بِالْجَمَادِ حَتَّى كَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ
فَإِنْ تَزَوَّجَتْ جَازَ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا) وَعَنْهُ لَا يَطَؤُهَا الزَّوْجُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ، وَعَنْهُ لَا يَتَزَوَّجُهَا إلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ (وَقَالَا عَلَيْهَا) أَيْ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مُهَاجِرَةً الْعِدَّةُ (وَعَلَى الذِّمِّيَّةِ الْعِدَّةُ. أَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَالْخِلَافُ فِيهَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي نِكَاحِهِمْ مَحَارِمَهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي النِّكَاحِ) أَيْ الِاخْتِلَافِ الْمُشْبِهِ وَهُوَ عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ: وَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ إلَى آخِرِهِ، أَوْ الْمُرَادُ كُلًّا مِنْ الِاخْتِلَافَيْنِ (وَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ) لِمُسْلِمَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (لَوْ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ) غَيْرِ التَّبَايُنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمُطَاوَعَةِ وَالْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ.
(وَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَكَذَا بِسَبَبِ التَّبَايُنِ) وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْمُسْلِمَةِ لِيُتَّجَهَ خُصُوصُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَيْهِ فَهُوَ دَلِيلٌ يَخُصُّ الْخَارِجَةَ مُسْلِمَةً، وَلَوْ لَمْ يَخُصَّ بِهَا لَمْ تَظْهَرْ الْمُلَازَمَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِلٌ بِعَدَمِ الْعِدَّةِ عَنْ طَلَاقِ الذِّمِّيِّ ذِمِّيَّةً إذَا كَانُوا يَدِينُونَ ذَلِكَ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا هَاجَرَ الزَّوْجُ) مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا ثُمَّ صَارَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا (وَتَرَكَهَا) فَإِنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا هُنَاكَ إجْمَاعًا حَتَّى جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا كَمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ (لِعَدَمِ تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ) لَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالْعِدَّةِ لِمَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنَّهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَتُخَاطَبُ بِهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} بَعْدَ قَوْله تَعَالَى {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ لَا تَجُوزُ بِالظَّنِّيِّ وقَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فِي الْمُطَلَّقَاتِ، فَإِلْحَاقُ التَّبَايُنِ بِالطَّلَاقِ قِيَاسًا يُقَيِّدُهُ بِمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِالْقِيَاسِ، هَذَا وَالْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ تَعْتَدُّ كَالْمُسْلِمَةِ، وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تَجِبُ مَعَهَا الْعِدَّةُ عِنْدَ الْفُرْقَةِ كَمَا لَا يَجِبُ مَعَهَا
إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَلَا يَطَؤُهَا كَالْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
(فَصْلٌ)
الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَا يَجُوزُ لَهَا فَلَا تُقَامُ الْخَلْوَةُ مَقَامَ الْوَطْءِ، وَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِهَا بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ. وَأَمَّا الْخَلْوَةُ الْفَاسِدَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ الْوَطْءُ مَعَ الْمَانِعِ كَالْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَجِبُ الْعِدَّةُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ كَمَالُ الْمَهْرِ، وَإِنْ اعْتَرَفَا بِعَدَمِ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ وَالْوَلَدِ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي حَقِّ إبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ فِي بَابِ الْمَهْرِ وَأَنَّ هَذَا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَمُخْتَارُ غَيْرِهِمْ وُجُوبُ الْعِدَّةِ فِي كُلِّ صُوَرِ الْخَلْوَةِ، وَعِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ كَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا تُرَدُّ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا، فَإِنْ نَسِيَتْ عَادَتَهَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَا الَّتِي لَمْ تَحِضْ قَطُّ وَحَيْثُ وَجَبَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ أَوْ الْمَوْتُ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ. فَفِي الْأَوَّلِ يُعْتَبَرُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فِي الطَّلَاقِ أَوْ أَرْبَعَةٌ فِي الْوَفَاةِ بِالْأَهِلَّةِ، وَفِي الثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُعْتَبَرُ الْأَيَّامُ تِسْعِينَ فِي الطَّلَاقِ وَمِائَةً وَعِشْرِينَ فِي الْوَفَاةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ ثُمَّ تَعْتَدُّ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ وَتُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ بِالْأَيَّامِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ كَالْقَوْلَيْنِ آخِرُهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله.
(فَصْلٌ)
لَمَّا ذَكَرَ نَفْسَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا أَخَذَ يَذْكُرُ مَا يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْمُعْتَدَّاتِ فَإِنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ
قَالَ (وَعَلَى الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ بَالِغَةً مُسْلِمَةً الْحِدَادُ) أَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»
أَصْلِ وُجُوبِهَا.
(قَوْلُهُ وَعَلَى الْمَبْتُوتَةِ) يَعْنِي وَيَجِبُ بِسَبَبِ التَّزَوُّجِ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ وَأَصْلُهُ الْمَبْتُوتُ طَلَاقُهَا، تَرَكَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ابْتِدَاءً، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِسَبَبِ غَيْرِ الزَّوْجِ مِنْ الْأَقَارِبِ وَهَلْ يُبَاحُ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ: لَا يَحِلُّ الْإِحْدَادُ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا أَوْ ابْنُهَا أَوْ أَخُوهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي الزَّوْجِ خَاصَّةً، قِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ إبَاحَتِهِ لِلْمُسْلِمَاتِ عَلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَبْتُوتَاتِ يُفِيدُ نَفْيَ وُجُوبِهِ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُحِدَّ عَلَى قَرَابَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَهَا زَوْجٌ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، لِأَنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا عَلَى تَرْكِهَا إذَا امْتَنَعَتْ وَهُوَ يُرِيدُهَا. وَهَذَا الْإِحْدَادُ مُبَاحٌ لَهَا لَا وَاجِبٌ عَلَيْهَا وَبِهِ يَفُوتُ حَقُّهُ.
(قَوْلُهُ فَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إلَخْ) فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: «تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَمَسَحَتْهُ بِذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ: إنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَالْحَمِيمُ الْقَرِيبُ. وَقَدْ رُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ وَوَقَعَ فِيهِ مُفَسَّرًا هَكَذَا: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ. وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ «فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إيجَابِ الْإِحْدَادِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ نَفْيِ الْحِلِّ فَيُفِيدُ ثُبُوتَ الْحِلِّ وَلَا كَلَامَ فِيهِ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ نَفْيَ حِلِّ الْإِحْدَادِ نَفْيُ الْإِحْدَادِ فَاسْتِثْنَاؤُهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ نَفْيِهِ وَهُوَ إثْبَاتُهُ فَيَصِيرُ حَاصِلُهُ لَا إحْدَادَ إلَّا مِنْ زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ
وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَمَذْهَبُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حِدَادَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ
يُفِيدُهُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَمِنْ أَنَّ نَفْيَ حِلِّ الْإِحْدَادِ إيجَابُ الزِّينَةِ فَاسْتِثْنَاؤُهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْإِيجَابِ فَيَكُونُ إيجَابًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ لَازِمٍ، إذْ يَمْنَعُ كَوْنَ نَفْيِ حِلِّ الشَّيْءِ الْحِسِّيِّ نَفْيٌ لَهُ عَنْ الْوُجُوبِ لُغَةً أَوْ شَرْعًا لِيَتَضَمَّنَ الِاسْتِثْنَاءُ الْإِخْبَارَ بِوُجُودِهِ بَلْ نَفْيٌ لَهُ عَنْ الْحِلِّ، وَلَوْ سَلِمَ فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الشَّرْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ لِتَحَقُّقِهِ بِالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَلَا وُجُوبَ.
وَأَيْضًا اسْتِثْنَاءُ الْإِحْدَادِ مِنْ إيجَابِ الزِّينَةِ حَاصِلُهُ نَفْيُ وُجُوبِ الزِّينَةِ وَهُوَ مَعْنَى حِلِّ الْإِحْدَادِ، وَاتِّحَادُ الْجِنْسِ حَاصِلٌ مَعَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْإِحْدَادُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ عَلَى صِفَةِ الْوُجُودِ فِيهِمَا فَهُوَ كَالْأَوَّلِ، فَلِذَا قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: وَمَا فَاهُوا بِهِ بِمَا فِيهِ ثَلْجُ الْفُؤَادِ. وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَلَكِنْ يَحِلُّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَعَلَى مَنْ سِوَاهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . وَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِنَحْوِ حَدِيثِ حَفْصَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» فَإِنَّ فِيهِ تَصْرِيحًا بِالْإِخْبَارِ، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لِلْمُصَنِّفِ مَحْكُومًا بِإِرَادَةِ الْإِخْبَارِ بِوُجُودِ فِعْلِهَا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ لِظُهُورِ إرَادَتِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَلَمْ يَخْفَ أَنَّ الْإِخْبَارَ الْمُوجِبَ لِلْوُجُوبِ الْإِخْبَارُ بِصُدُورِ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ثُبُوتِهِ شَرْعًا مَثَلًا إذَا قَالَ الْحِدَادُ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ أَفَادَ الْوُجُوبَ لَا إذَا قَالَ الْحِدَادُ ثَابِتٌ شَرْعًا فَإِنَّهُ أَعَمُّ.
وَمِنْ الْأَدِلَّةِ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا إذَا ظَهَرَتْ نُبْذَةٌ مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» فَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ فِي تَفْصِيلِ مَعْنَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ، وَالنُّبْذَةُ بِضَمِّ النُّونِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ، وَالْقُسْطُ وَالْأَظْفَارُ نَوْعَانِ مِنْ الْبَخُورِ، رَخَّصَ فِيهِ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ فِي تَطْيِيبِ الْمَحَلِّ وَإِزَالَةِ كَرَاهَتِهِ.
وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَالَتْ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا - بِضَمِّ الْحَاءِ -؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُرْمَى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ» قَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدَ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ. الْحِفْشُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ فَاءٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ: الْبَيْتُ الصَّغِيرُ قَرِيبُ السَّقْفِ حَقِيرٌ وَتَفْتَضُّ بِفَاءٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ قِيلَ: أَيْ تَكْسِرُ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْعِدَّةِ بِطَائِرٍ أَوْ نَحْوِهِ تَمْسَحُ بِهِ قُبُلَهَا وَتَنْبِذُهُ، فَلَا يَكَادُ يَعِيشُ مَا تَفْتَضُّ بِهِ، فَهُوَ مِنْ فَضَّ اللَّهُ فَاهُ وَلَا فَضَّ اللَّهُ فَاك. وَقِيلَ: الِافْتِضَاضُ الْإِنْقَاءُ بِالْغُسْلِ لِيَصِيرَ كَالْفِضَّةِ فَهُوَ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَا إحْدَادَ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ لِأَنَّهُ لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ لِصَبْرِهِ عَلَى صُحْبَتِهَا إلَى الْمَوْتِ، بِخِلَافِ ابْتِدَائِهِ
وَجَبَ إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ زَوْجٍ وَفِي بُعْدِهَا إلَى مَمَاتِهِ وَقَدْ أَوْحَشَهَا بِالْإِبَانَةِ فَلَا تَأْسَفْ بِفَوْتِهِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ» . وَقَالَ «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» وَلِأَنَّهُ يَجِبُ إظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ
لِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ مُوحِشُهَا وَخُلْعِهِ لِأَنَّهَا رَاغِبَةٌ فِيهِ لِمَكَانِ سُؤَالِهَا.
قُلْنَا: فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ نَصٌّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ» ذَكَرَهُ السُّرُوجِيُّ حَدِيثًا وَاحِدًا وَعَزَاهُ لِلنَّسَائِيِّ هَكَذَا، وَلَفْظُهُ:«نَهَى الْمُعْتَدَّةَ عَنْ الْكُحْلِ وَالدُّهْنِ وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ الْحِنَّاءُ طِيبٌ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. وَأَمَّا جَعْلُهُ حَدِيثَيْنِ حَدِيثَ «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» الْمُتَقَدِّمَ، وَحَدِيثَ أَبِي دَاوُد عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أُسَيْدٍ عَنْ أُمِّهَا عَنْ مَوْلَاةٍ لَهَا «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي عِدَّتِي مِنْ وَفَاةِ أَبِي سَلَمَةَ: لَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ، قُلْتُ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ» فَمَعَ الطَّعْنِ فِي إسْنَادِهِ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ فَإِنَّهُ فِي مُعْتَدَّةٍ عَنْ وَفَاةٍ.
وَلَوْ سَلِمَ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ بِالْقِيَاسِ عَلَى عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِجَامِعِ إظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ مَا عَيَّنَّهُ الشَّافِعِيُّ مُنَاسِبٌ مُعْتَبَرٌ فِي مَحَلِّ النَّصِّ وَهُوَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمُنَاسِبُ الْمُعْتَبَرُ عَلَى الْحَصْرِ بَلْ فِي الْمَحَلِّ أَيْضًا إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْمَعَادِ وَالدُّنْيَا فَإِنَّهُ ضَابِطٌ لِلْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ لِفَوَاتِ الزَّوْجِ، وَكَوْنُ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ مِنْ مُهَيِّجَاتِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ النِّكَاحِ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَتَمْتَنِعُ دَوَاعِيهِ دَفْعًا لِمَا يُدَافِعُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ إلَى آخِرِهِ، لَكِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ ذَكَرَ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ أُخْرَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حِكْمَةٌ لِأَنَّ الْمُنْضَبِطَ فَوَاتُ مَا قُلْنَاهُ، بِخِلَافِ مَا هُوَ دَوَاعِيهِ، وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ، فَإِذَا وُجِدَ فِي مَحَلٍّ ثَبَتَ مَعَهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَفِي الْمَبْتُوتَةِ إنْ فُقِدَ التَّأَسُّفُ عَلَى الزَّوْجِ فَالْآخَرُ وَهُوَ إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ مَوْجُودٌ، وَلَوْ تَمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ إظْهَارِ التَّأَسُّفِ مُطْلَقًا لَيْسَ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فَلَا يَكُونُ الْإِحْدَادُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مَنُوطٌ بِهِ لَزِمَ كَوْنُ وُجُوبِهِ تَبَعًا لِلْعِدَّةِ بِالنَّصِّ أَوْ مَعْلُولًا بِالْآخَرِ فَقَطْ، لَكِنْ مُنِعَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِكَيْلا تَأْسَوْا}
عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةُ مُؤَنِهَا، وَالْإِبَانَةُ أَقْطَعُ لَهَا مِنْ الْمَوْتِ حَتَّى كَانَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ مَيِّتًا قَبْلَ الْإِبَانَةِ لَا بَعْدَهَا (وَالْحِدَادُ) وَيُقَالُ الْإِحْدَادُ وَهُمَا لُغَتَانِ (أَنْ تَتْرُكَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ وَالْكُحْلَ وَالدُّهْنَ الْمُطَيَّبَ وَغَيْرَ الْمُطَيَّبِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَّا مِنْ وَجَعٍ) وَالْمُعْتَدُّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إظْهَارِ التَّأَسُّفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَوَاعِي الرَّغْبَةِ فِيهَا وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ النِّكَاحِ فَتَجْتَنِبُهَا كَيْ لَا تَصِيرَ ذَرِيعَةً إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُعْتَدَّةِ فِي الِاكْتِحَالِ.
وَالدُّهْنُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ طِيبٍ وَفِيهِ زِينَةُ الشَّعْرِ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ عَنْهُ قَالَ: إلَّا مِنْ عُذْرٍ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً، وَالْمُرَادُ الدَّوَاءُ.
الْآيَةَ، الْأَسَى مَعَ الصِّيَاحِ وَالْفَرَحُ مَعَ الصِّيَاحِ، نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا (قَوْلُهُ وَالْحِدَادُ وَيُقَالُ الْإِحْدَادُ) فَمِنْ الْأَوَّلِ يُقَالُ حَدَّتْ الْمَرْأَةُ تَحُدُّ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَمِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيْضًا حِدَادٌ فَهِيَ حَادٌّ، وَمِنْ الثَّانِي يُقَالُ: أَحَدَّتْ تُحِدُّ إحْدَادًا فَهِيَ مُحِدٌّ.
(قَوْلُهُ أَنْ تَتْرُكَ الطِّيبَ) وَلَا تَحْضُرَ عَمَلَهُ وَلَا تَتَّجِرَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ إلَّا فِيهِ
(قَوْلُهُ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ وَالدُّهْنُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ طِيبٍ) إمَّا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي الْمُدْهَنِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ طِيبِ نَفْسِهِ بِهِ وَزِينَتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ لِلزَّيْلَعِيِّ مُخْرِجُ الْأَحَادِيثِ هُنَا وَهْمٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ لَفْظَةَ الدُّهْنِ عَطْفًا عَلَى الِاكْتِحَالِ فَقَالَ عَنْ الْمُصَنِّفِ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُعْتَدَّةِ فِي الِاكْتِحَالِ وَالدُّهْنِ، فَخَرَّجَ حَدِيثَ مَنْعِهِ الِاكْتِحَالَ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الدُّهْنُ فَقَرِيبٌ وَهُوَ سَهْوٌ، فَإِنَّ الدُّهْنَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ طِيبٍ فَأَلْحَقَهُ إلْحَاقًا.
(قَوْلُهُ قَالَ: إلَّا مِنْ عُذْرٍ) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً هَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ، وَذَهَبَتْ الظَّاهِرِيَّةُ إلَى
لَا الزِّينَةُ. وَلَوْ اعْتَادَتْ الدُّهْنَ فَخَافَتْ وَجَعًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا يُبَاحُ لَهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ كَالْوَاقِعِ، وَكَذَا لَيْسَ الْحَرِيرُ إذَا احْتَاجَتْ إلَيْهِ لِعُذْرٍ لَا بَأْسَ بِهِ.
(وَلَا تَخْتَضِبْ بِالْحِنَّاءِ) لَمَا رَوَيْنَا (وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِعُصْفُرٍ وَلَا بَزَعْفَرَانٍ) لِأَنَّهُ يَفُوحُ مِنْهُ رَائِحَةُ الطِّيبِ. قَالَ (وَلَا حِدَادَ عَلَى كَافِرَةٍ) لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ (وَلَا عَلَى
أَنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ وَلَوْ مِنْ وَجَعٍ وَعُذْرٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَيْثُ نَهَى نَهْيًا مُؤَكَّدًا عَنْ الْكُحْلِ الَّتِي اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْخَوْفُ عَلَى عَيْنِهَا، وَكَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا يُبَاحُ لَهَا ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أُسَيْدٍ عَنْ أُمِّهَا أَنَّ زَوْجَهَا تُوُفِّيَ وَكَانَتْ تَشْتَكِي عَيْنَهَا فَتَكْتَحِلُ بِكُحْلِ الْجَلَاءِ فَأَرْسَلَتْ مَوْلَاةً لَهَا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلَتْهَا عَنْ كُحْلِ الْجَلَاءِ فَقَالَتْ: لَا تَكْتَحِلْ مِنْهُ إلَّا مِنْ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ يَشْتَدُّ عَلَيْك فَتَكْتَحِلِي بِاللَّيْلِ وَتَمْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ ثُمَّ قَالَتْ: عِنْدَ ذَلِكَ «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَيَّ صَبْرًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ فَقُلْتُ: إنَّمَا هِيَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إلَّا بِاللَّيْلِ وَانْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّ أُمَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَتَمْتَشِطُ بِأَسْنَانِ الْمِشْطِ الْوَاسِعَةِ لَا الضَّيِّقَةِ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَأَطْلَقَهُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مُطْلَقًا، وَكَوْنُهُ بِالضَّيِّقَةِ يَحْصُلُ مَعْنَى الزِّينَةِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْهَا، وَبِالْوَاسِعَةِ يَحْصُلُ دَفْعُ الضَّرَرِ مَمْنُوعٌ بَلْ قَدْ تَحْتَاجُ لِإِخْرَاجِ الْهَوَامِّ إلَى الضَّيِّقَةِ. نَعَمْ كُلُّ مَا أَرَادَتْ بِهِ مَعْنَى الزِّينَةِ لَمْ يَحِلَّ. وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ الْبَحْتَيْنِ وَالسَّمْنِ فَمَنَعْنَاهُ نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ إلَّا لِضَرُورَةٍ لِحُصُولِ الزِّينَةِ بِهِ، وَأَجَازَهُ الْإِمَامَانِ وَالظَّاهِرِيَّةُ.
(قَوْلُهُ لِعُذْرٍ) كَالْحَكَّةِ وَالْقَمْلِ وَالْمَرَضِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُبَاحُ لَهَا الْحَرِيرُ الْأَسْوَدُ وَالْحُلِيُّ، وَالْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ النَّصِّ فِي مَنْعِ الْمَصْبُوغِ يَنْفِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِمَنْعِ الْحُلِيِّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ الْمَصْبُوغِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ إلَّا الْعَصْبَ فَشَمَلَ مَنْعَ الْأَسْوَدِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَفُوحُ إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ خَلِقًا لَا رَائِحَةَ لَهُ يَجُوزُ. وَفِي الْكَافِي قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ثَوْبٌ إلَّا الْمَصْبُوغَ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِضَرُورَةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَكِنْ لَا تَقْصِدُ الزِّينَةَ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِقَدْرِ مَا تَسْتَحْدِثُ ثَوْبًا غَيْرَهُ إمَّا بِبَيْعِهِ وَالِاسْتِخْلَافِ بِثَمَنِهِ أَوْ مِنْ مَالِهَا إنْ كَانَ لَهَا. وَرَوَى مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:«قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَلْبَسُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ وَلَا الْمُمَشَّقَةَ وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَا تَكْتَحِلُ» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد. وَالْمَشْقُ الْمَغْرَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْعَصْبَ عِنْدَنَا. وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ رَقِيقَهُ وَغَلِيظَهُ، وَمَنَعَ مَالِكٌ رَقِيقَهُ دُونَ غَلِيظِهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِ وَفِي تَفْسِيرِهِ، فِي الصِّحَاحِ: الْعَصْبُ ضَرْبٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ يُنْسَجُ أَبْيَضَ ثُمَّ يُصْبَغُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي الْمُغْنِي: الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَبْتٌ يُصْبَغُ بِهِ الثِّيَابُ، وَفُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا ثِيَابٌ مِنْ الْيَمَنِ فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، وَيُبَاحُ لَهَا لُبْسُ الْأَسْوَدِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَجَعَلَهُ الظَّاهِرِيَّةُ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَخْضَرِ.
(قَوْلُهُ وَلَا حِدَادَ عَلَى كَافِرَةٍ) لَا حِدَادَ عِنْدَنَا عَلَى كَافِرَةٍ وَلَا صَغِيرَةٍ وَلَا مَجْنُونَةٍ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِمَوْتِ الزَّوْجِ
صَغِيرَةٍ) لِأَنَّ الْخِطَابَ مَوْضُوعٌ عَنْهَا (وَعَلَى الْأَمَةِ الْإِحْدَادُ) لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ.
فَيَعُمُّ النِّسَاءَ كَالْعِدَّةِ.
قُلْنَا: يَجِبُ الْحِدَادُ عِنْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا لَوْ أَمَرَهَا الزَّوْجُ بِتَرْكِهِ لَا يَجُوزُ لَهَا تَرْكُهُ فَلَا يُخَاطَبُ هَؤُلَاءِ بِهِ، وَلِذَا شَرَطَ الْإِيمَانَ فِيهِ حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» الْحَدِيثَ. قَوْلُهُمْ كَمَا تَعُمُّ الْعِدَّةُ عَلَيْهِنَّ. قُلْنَا: الْعِدَّةُ قَدْ تُقَالُ عَلَى كَفِّ النَّفْسِ عَنْ الْحُرُمَاتِ الْخَاصَّةِ وَعَلَى نَفْسِ الْحُرُمَاتِ وَعَلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ بِتَحْقِيقِهِ، وَالْعِدَّةُ اللَّازِمَةُ لَهُنَّ بِكُلٍّ مِنْ الْمَفْهُومَيْنِ الْآخَرَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ عِنْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ يَثْبُتُ شَرْعًا عَدَمُ صِحَّةِ نِكَاحِهِنَّ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِذَا بَاشَرَهُ وَلِيُّ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ قَبْلَهَا لَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَلَا خِطَابَ لِلْعِبَادِ فِيهِ تَكْلِيفِيٌّ بَلْ هُوَ مِنْ رَبْطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ، بِخِلَافِ مَنْعِهَا عَنْ اللُّبْسِ وَالطِّيبِ فَإِنَّهُ فِعْلُهَا الْحِسِّيِّ مَحْكُومٌ بِحُرْمَتِهِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ اكْتَحَلْنَ أَوْ لَبِسْنَ الْمُزَعْفَرَ أَوْ اخْتَضَبْنَ لَا يَأْثَمْنَ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهِ. نَعَمْ قَدْ ثَبَتَ عَلَى الْكَافِرَةِ فِي الْعِدَّةِ خِطَابُ عَدَمِ التَّزَوُّجِ لِحَقِّ الزَّوْجِ، فَإِنَّ فِي الْعِدَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى جِهَتَيْنِ.
(قَوْلُهُ وَعَلَى الْأَمَةِ الْحِدَادُ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً فِي الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَكَذَا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُسْتَسْعَاةُ لِثُبُوتِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِهِ تَعَالَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَيْسَ فِي الْإِحْدَادِ فَوَاتُ حَقِّهِ فِي الِاسْتِخْدَامِ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ لَوْ لَزِمَهَا فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ ذَلِكَ، فَقُلْنَا: لَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي عِدَّتِهَا كَيْ لَا يَفُوتَ حَقُّهُ فِي اسْتِخْدَامِهَا، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِإِذْنِهِ لِفِنَاهُ، قَالَ تَعَالَى {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فَإِنْ قِيلَ: لَوْ وَجَبَ الْحِدَادُ لِعِلَّةِ فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ لَوَجَبَ بَعْدَ شِرَاءِ الْمَنْكُوحَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَمْ تَفُتْ لِقِيَامِ الْحِلِّ وَالْكِفَايَةِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى وَجْهٍ أَحَطَّ مِنْ الْحِلِّ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِلَا دَعْوَةٍ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ، وَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْأَحَطِّيَّةِ فَإِنَّ نِعْمَةَ النِّكَاحِ لَيْسَ فَوَاتُهَا مُؤَثِّرًا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْخُصُوصِيَّةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا فِيهَا مِنْ أَنَّهَا سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مَئُونَتِهَا، وَهَذَا الْقَدْرُ لَمْ يَفُتْ فَلَا مُوجِبَ لِلْحِدَادِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ إشْكَالُ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ الْأَدْنَى وَهُوَ هَذَا الْحِلُّ عَنْ الْأَعْلَى وَالتَّقَصِّي عَنْهُ بِالْتِزَامِ وُجُوبِ الْحِدَادِ عَلَى الزَّوْجَةِ الْمُشْتَرَاةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِكَوْنِهَا حَلَالًا حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا ظَهَرَ فَإِنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ عَلَيْهَا بَلْ دَلِيلُ نَفْيِهَا أَنَّهُ وُجُوبٌ
قَالَ (وَلَيْسَ فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَا فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إحْدَادٌ) لِأَنَّهَا مَا فَاتَهَا نِعْمَةُ النِّكَاحِ لِتُظْهِرَ التَّأَسُّفَ، وَالْإِبَاحَةُ أَصْلٌ.
(وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخْطَبَ الْمُعْتَدَّةُ وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ فِي الْخِطْبَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} إلَى أَنْ قَالَ {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «السِّرُّ النِّكَاحُ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: التَّعْرِيضُ أَنْ يَقُولَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنه فِي الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ: إنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ نَجْتَمِعَ.
لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّ لَهَا الزِّينَةَ وَالتَّطَيُّبَ بَعْدَ شِرَائِهَا وَالْوُجُوبُ يَسْتَتْبِعُ الْفَائِدَةَ.
(قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ وَفَاةِ سَيِّدِهَا أَوْ إعْتَاقِهَا حِدَادٌ) وَكَذَا الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ وَالْمَنْكُوحَةُ فَاسِدًا لِأَنَّهُنَّ مَا فَاتَهُنَّ نِعْمَةُ النِّكَاحِ (وَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ) أَيْ إبَاحَةُ الزِّينَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ يَزُولُ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْكُفْرِ فَهُوَ مَوْضِعُ السُّرُورِ لَا الْأَسَفِ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ ظَاهِرٌ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَوَاتُ عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ لِلْإِحْدَادِ عِلَّةً أُخْرَى وَهُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَوَاعِيَ الرَّغْبَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَقِلُّ وَهَذِهِ مَوْجُودَةٌ هُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْحِدَادُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ كَوْنَهُمَا مَمْنُوعَتَيْنِ عَنْ النِّكَاحِ حُكْمُ وُجُوبِ الْحِدَادِ لَا عِلَّتُهُ. بَلْ عِلَّتُهُ فَوَاتُ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَهُوَ يَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، كَذَا قِيلَ وَهُوَ بِالضَّعِيفِ جَدِيرٌ. وَفِي النِّهَايَةِ: تِلْكَ حِكْمَةٌ لَا عِلَّةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَوَرَانِ وُجُوبِ الْإِحْدَادِ بِفَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ لَا الْحِكْمَةِ لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِبْرَاءِ.
(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ فِي الْخِطْبَةِ) أَرَادَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إذْ التَّعْرِيضُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُطَلَّقَةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ مِنْ مَنْزِلِهَا أَصْلًا فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّعْرِيضِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ، وَلِإِفْضَائِهِ إلَى عَدَاوَةِ الْمُطَلِّقِ وَالتَّعْرِيضُ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ قَالَ:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} يَقُولُ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ أَوْ وَدِدْت أَنْ يَتَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ، وَقَالَ الْقَاسِمُ يَقُولُ: إنَّك عَلَيَّ كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيك لَرَاغِبٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إلَيْكِ خَيْرًا أَوْ نَحْوَ هَذَا.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} قَالَ يَقُولُ إنِّي فِيك لَرَاغِبٌ وَإِنَى لَأَرْجُو أَنْ نَجْتَمِعَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِالتَّزَوُّجِ وَالنِّكَاحِ، وَنَحْوَهُ إنَّك لَجَمِيلَةٌ أَوْ صَالِحَةٌ، وَلَا يُصَرِّحُ بِنِكَاحِهَا فَلَا يَقُولُ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَك أَوْ أَتَزَوَّجَك. وَسَبْكُ الْآيَةِ {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} أَيْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ لَهُنَّ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِإِرَادَةِ نِكَاحِهِنَّ {أَوْ أَكْنَنْتُمْ} أَيْ أَضْمَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فَلَمْ تَنْطِقُوا بِهِ تَعْرِيضًا وَلَا
(وَلَا يَجُوزُ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْمَبْتُوتَةِ الْخُرُوجُ مِنْ بَيْتِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَخْرُجُ نَهَارًا وَبَعْضَ اللَّيْلِ وَلَا تَبِيتُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا) أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قِيلَ الْفَاحِشَةُ نَفْسُ الْخُرُوجِ، وَقِيلَ الزِّنَا، وَيَخْرُجْنَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ نَهَارًا لِطَلَبِ الْمَعَاشِ، وَقَدْ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يَهْجُمَ اللَّيْلُ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ دَارَةٌ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا،
تَصْرِيحًا {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} فَاذْكُرُونَهُنَّ {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} أَيْ نِكَاحًا فَلَا تَقُولُوا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَك وَسُمِّيَ النِّكَاحُ سِرًّا لِأَنَّهُ سَبَبُ السِّرِّ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ فَإِنَّهُ مِمَّا يُسَرُّ، وَحَدِيثُ «السِّرُّ النِّكَاحُ» الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ غَرِيبٌ {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} وَالِاسْتِثْنَاءُ يَتَعَلَّقُ بِلَا تُوَاعِدُوهُنَّ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي السِّرِّ وَالِاسْتِدْرَاكُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحْذُوفِ الَّذِي أَبْرَزْنَا صُورَتَهُ وَهُوَ فَاذْكُرُوهُنَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَبَعْضَ اللَّيْلِ) يَخُصُّهُ مِنْ التَّعْلِيلِ قَوْلُهُ وَقَدْ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يَهْجُمَ اللَّيْلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لَا بَأْسَ أَنْ تَغِيبَ عَنْ بَيْتِهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهَا الْبَيْتُوتَةُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا، وَالْبَيْتُوتَةُ هِيَ الْكَيْنُونَةُ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ نَقَلَهُ فِي الْكَافِي، وَقَدْ مَرَّ قَبْلَهُ مَا يَنْفِي اخْتِيَارَ صِحَّتِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهَا وَعَسَى لَا تَجِدُ مَنْ يَكْفِيهَا مَئُونَتَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِنَفَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّ أَمْرَ الْمَعَاشِ يَكُونُ بِالنَّهَارِ عَادَةً دُونَ اللَّيَالِي فَأُبِيحَ الْخُرُوجُ لَهَا بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيَالِي انْتَهَى. وَيُعْرَفُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَيْضًا أَنَّهَا إذَا كَانَ لَهَا قَدْرُ كِفَايَتِهَا صَارَتْ كَالْمُطَلَّقَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِزِيَارَةٍ وَنَحْوِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَدَارَ الْحَلِّ كَوْنُ غَيْبَتِهَا بِسَبَبِ قِيَامِ شُغْلِ الْمَعِيشَةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَمَتَى انْقَضَتْ حَاجَتُهَا لَا يَحِلُّ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَرْفُ الزَّمَانِ خَارِجَ بَيْتِهَا.
(قَوْلُهُ أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} الْآيَةَ) اشْتَمَلَتْ عَلَى نَهْيِ الْأَزْوَاجِ عَنْ إخْرَاجِهِنَّ غَضَبًا عَلَيْهِنَّ وَكَرَاهَةً لِمُسَاكَنَتِهِنَّ أَوْ لِحَاجَتِهِمْ إلَى الْمَسَاكِنِ، وَعَلَى نَهْيِ الْمُطَلَّقَاتِ عَنْ الْخُرُوجِ وَنَهْيُهُنَّ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ أُوْقِعَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قِيلَ: الْفَاحِشَةُ نَفْسُ الْخُرُوجِ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقِيلَ الزِّنَا، فَيَخْرُجْنَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ قَوْلُ
حَتَّى لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا قِيلَ: إنَّهَا تَخْرُجُ نَهَارًا، وَقِيلَ لَا تَخْرُجُ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حَقٌّ عَلَيْهَا. .
(وَعَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهَا بِالسُّكْنَى حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَالْمَوْتِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إلَيْهَا هُوَ الْبَيْتُ الَّذِي تَسْكُنُهُ، وَلِهَذَا لَوْ زَارَتْ أَهْلَهَا وَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهَا فَتَعْتَدَّ فِيهِ وَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِلَّتِي قُتِلَ زَوْجُهَا «اُسْكُنِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» (وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا مِنْ دَارِ الْمَيِّتِ لَا يَكْفِيهَا فَأَخْرَجَهَا الْوَرَثَةُ مِنْ نَصِيبِهِمْ) انْتَقَلَتْ، لِأَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ بِعُذْرٍ، وَالْعِبَادَاتُ تُؤَثِّرُ فِيهَا الْأَعْذَارُ
ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَاحِشَةُ نُشُوزُهَا وَأَنْ تَكُونَ بَذِيَّةَ اللِّسَانِ عَلَى أَحْمَائِهَا.
وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِأَنَّ إلَّا أَنَّ غَايَةٌ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ غَايَةً لِنَفْسِهِ وَمَا قَالَهُ النَّخَعِيُّ أَبْدَعُ وَأَعْذَبُ فِي الْكَلَامِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْخَطَّابِيَّاتِ لَا تَزْنِ إلَّا أَنْ تَكُونَ فَاسِقًا، وَلَا تَشْتُمْ أُمَّك إلَّا أَنْ تَكُونَ قَاطِعَ رَحِمٍ وَنَحْوَهُ، وَهُوَ بَدِيعٌ بَلِيغٌ جِدًّا يَخْرُجُ إظْهَارُ عُذُوبَتِهِ عَنْ غَرَضِنَا.
(قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا قِيلَ: تَخْرُجُ نَهَارًا) لِأَنَّهَا قَدْ تَحْتَاجُ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا. وَقِيلَ: لَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَبْطَلَتْ النَّفَقَةَ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاخْتِيَارُ فِي إبْطَالِ حَقٍّ عَلَيْهَا، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَصَحَّحَهُ فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ، وَهَذَا كَمَا لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ لَا سُكْنَى لَهَا فَإِنَّ مَئُونَةَ السُّكْنَى تَبْطُلُ عَنْ الزَّوْجِ وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَكْتَرِيَ بَيْتَ الزَّوْجِ، وَأَمَّا أَنْ يَحِلَّ لَهَا الْخُرُوجُ فَلَا. وَالْحَقُّ أَنَّ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَنْظُرَ فِي خُصُوصِ الْوَقَائِعِ، فَإِنْ عَلِمَ فِي وَاقِعَةٍ عَجْزَ هَذِهِ الْمُخْتَلِعَةِ عَنْ الْمَعِيشَةِ إنْ لَمْ تَخْرُجْ أَفْتَاهَا بِالْحِلِّ وَإِنْ عَلِمَ قُدْرَتَهَا أَفْتَاهَا بِالْحُرْمَةِ.
(قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُضَافَ إلَيْهَا هُوَ الَّذِي تَسْكُنُهُ لَوْ زَارَتْ أَهْلَهَا وَالزَّوْجُ مَعَهَا أَوْ لَا فَطَلَّقَهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهَا ذَلِكَ فَتَعْتَدَّ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم) تَأْيِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ بِأَنَّ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ ثَبَتَ عَلَى وَفْقِ مَا قُلْنَا: إنَّهُ مَدْلُولُ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ «عَنْ ذَرِيعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ وَأَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إذَا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً، فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، قَالَ: اُمْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَرْسَلَ إلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ» انْتَهَى.
وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِهِ. قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ الْإِسْنَادِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا
فَصَارَ كَمَا إذَا خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا أَوْ خَافَتْ سُقُوطَ الْمَنْزِلِ أَوْ كَانَتْ فِيمَا بِأَجْرٍ وَلَا تَجِدُ مَا تُؤَدِّيهِ.
(ثُمَّ إنْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَا بُدَّ مِنْ سُتْرَةٍ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا بَأْسَ بِهِ) لِأَنَّهُ مُعْتَرَفٌ بِالْحُرْمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْهُ فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ لِأَنَّهُ عُذْرٌ، وَلَا تَخْرُجُ عَمَّا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَيَتْرُكَهَا (وَإِنْ جَعَلَا بَيْنَهُمَا امْرَأَةً ثِقَةً تَقْدِرُ عَلَى الْحَيْلُولَةِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِمَا الْمَنْزِلُ فَلْتَخْرُجْ، وَالْأَوْلَى خُرُوجُهُ).
وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ. وَهُمَا اثْنَانِ: سَعِيدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ أَشْهُرُهُمَا وَإِسْحَاقُ بْنُ سَعْدِ بْنِ كَعْبٍ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَدْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُمَا الْجَهَالَةُ انْتَهَى.
وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبٍ مَجْهُولَةٌ لَمْ يَرْوِ حَدِيثَهَا غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ دَفَعَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ إِسْحَاقَ ثِقَةٌ وَمِمَّنْ وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَزَيْنَبُ كَذَلِكَ ثِقَةٌ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَفِي تَصْحِيحِهِ تَوْثِيقُهُمَا، وَلَا يَضُرُّ الثِّقَةُ أَنْ لَا يَرْوِيَ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَأَمَّا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ» فَقَالَ فِيهِ: لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ أَبِي مَالِكٍ النَّخَعِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَمَحْبُوبُ بْنُ مُحْرِزٍ أَيْضًا ضَعِيفٌ وَعَطَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ مُخْتَلِطٌ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ أَضْعَفُهُمْ، فَلِذَلِكَ أَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِهِ.
وَذِكْرُ الْجَمْعِ أَصْوَبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مِنْ غَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
(قَوْلُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا اللُّصُوصَ إلَخْ) أَيْ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ. وَإِذَا خَرَجَتْ إلَى مَنْزِلٍ لِلْعُذْرِ صَارَ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا لِعُذْرٍ وَتَعْيِينُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إلَيْهِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّوْجِ وَفِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إلَيْهَا لِأَنَّهَا مُسْتَبِدَّةٌ فِي أَمْرِ السُّكْنَى حَتَّى أَنَّ أُجْرَةَ الْمَنْزِلِ إنْ كَانَ بِأَجْرٍ عَلَيْهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ فِيهِ إلَّا أَنْ لَا تَجِدَ الْكِرَاءَ وَتَجِدَ مَا هُوَ بِلَا كِرَاءٍ فَلَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ إلَيْهِ، وَكَذَا فِي الزَّوْجِ الْغَائِبِ، وَلَا تَخْرُجُ الْمُعْتَدَّةُ إلَى صَحْنِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا مَنَازِلُ الْأَجَانِبِ لِأَنَّهُ كَالْخُرُوجِ إلَى السِّكَّةِ، وَلِهَذَا يُقْطَعُ السَّارِقُ بِإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ مَنَازِلُ بَلْ بُيُوتٌ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى صَحْنِهَا وَلَا تَصِيرُ بِهِ خَارِجَةً عَنْ الدَّارِ وَتَبِيتُ فِي أَيِّ بَيْتٍ شَاءَتْ مِنْهَا.
(قَوْلُهُ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ سُتْرَةٍ بَيْنَهُمَا) يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ كَيْ لَا تَقَعَ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَكَذَا هَذَا فِي الْوَفَاةِ إذَا كَانَ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا. ثُمَّ لَا بَأْسَ بِالْمُسَاكَنَةِ بَعْدَ اتِّخَاذِ الْحِجَابِ اكْتِفَاءً بِالْحَائِلِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِهِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فَلَا يَقْدَمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ لِأَنَّهُ عُذْرٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَحَقَّقُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْخُرُوجَ، الْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَرْجَحُ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ، كَمَا يُقَالُ إذَا تَعَارَضَ مُحَرِّمٌ وَمُبِيحٌ تَرَجَّحَ الْمُحَرِّمُ أَوْ فَالْمُحَرِّمُ أَوْلَى، وَيُرَادُ مَا قُلْنَا، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ عَلَّلُوا أَوْلَوِيَّةَ خُرُوجِهِ بِأَنَّ مُكْثَهَا وَاجِبٌ لَا مُكْثَهُ، وَمَتَى انْتَقَلَتْ فَتَعْيِينُ الْمَكَانِ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
(وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا إلَى مَكَّةَ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِي غَيْرِ مِصْرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَجَعَتْ إلَى مِصْرِهَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِابْتِدَاءِ الْخُرُوجِ مَعْنًى بَلْ هُوَ بِنَاءٌ (وَإِنْ كَانَتْ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلِيٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ إلَى الْمَقْصِدِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُكْثَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَخْوَفُ عَلَيْهَا مِنْ الْخُرُوجِ، إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى لِيَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ. قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فِي مِصْرٍ فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ حَتَّى تَعْتَدَّ ثُمَّ تَخْرُجَ إنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا) الْمَقْصُودُ إذَا سَافَرَ بِهَا فَطَلَّقَهَا فَإِمَّا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا؛ فَفِي الرَّجْعِيِّ تَتْبَعُ زَوْجَهَا حَيْثُ مَضَى لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ مِصْرِهَا وَمَقْصِدِهَا أَقَلُّ مِنْ السَّفَرِ، فَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ إلَى الْمَقْصِدِ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مِصْرٍ أَوْ لَا مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إنْشَاءُ سَفَرٍ. وَخُرُوجُ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَا دُونَ السَّفَرِ مُبَاحٌ إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ بِمُحَرَّمٍ وَبِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى لِيَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ، كَذَا فِي الدِّرَايَةِ. وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ رَجَعَتْ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا سَفَرٌ أَوْ دُونَهُ. أَمَّا إنْ كَانَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُضِيَّ إلَى مَقْصِدِ سَفَرٍ وَالرُّجُوعَ لَيْسَ بِسَفَرٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا دُونَهَا فَتَرْجِعُ أَيْضًا لِأَنَّهَا كَمَا رَجَعَتْ تَصِيرُ مُقِيمَةً، وَإِذَا مَضَتْ تَكُونُ مُسَافِرَةً مَا لَمْ تَصِلْ إلَى الْمَقْصِدِ، فَإِذَا قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ اسْتِدَامَةِ السَّفَرِ فِي الْعِدَّةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهَا ذَلِكَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ أَوْجُهٌ.
(قَوْلُهُ وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ إلَى الْمَقْصِدِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) فَصَاعِدًا، فَإِذَا كَانَ دُونَهَا إلَى الْمَقْصِدِ لَا تَتَخَيَّرُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا الذَّهَابُ إلَى الْمَقْصِدِ.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: إنْ
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ قَبْلَ أَنْ تَعْتَدَّ) لَهُمَا أَنَّ نَفْسَ الْخُرُوجِ مُبَاحٌ دَفْعًا لِأَذَى الْغُرْبَةِ وَوَحْشَةِ الْوَحْدَةِ فَهَذَا عُذْرٌ، وَإِنَّمَا الْحُرْمَةُ لِلسَّفَرِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ بِالْمُحْرِمِ. وَلَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ أَمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ عَدَمِ الْمُحْرِمِ، فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِغَيْرِ مُحْرِمٍ وَلَيْسَ لِلْمُعْتَدَّةِ ذَلِكَ، فَلَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ إلَى السَّفَرِ بِغَيْرِ الْمُحْرِمِ فَفِي الْعِدَّةِ أَوْلَى.
شَاءَتْ رَجَعَتْ وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ: أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالٍ يَكُونُ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِي مِصْرٍ فَإِنَّهَا لَا تَتَخَيَّرُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَا. وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا وَمَقْصِدِهَا أَقَلُّ مِنْ السَّفَرِ فَتَتَخَيَّرُ وَالْأَوْلَى الرُّجُوعُ عَلَى مَا فِي الْكَافِي. وَعَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَفَرًا وَالْآخَرُ دُونَهُ فَتَخْتَارُ مَا دُونَهُ لِأَنَّهَا بِاخْتِيَارِ مُقَابِلِهِ مُنْشِئَةً سَفَرًا دُونَ اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَفَرًا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي مَفَازَةٍ أَوْ مِصْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَفَازَةٍ فَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ بِمَحْرَمٍ أَوْ لَا، لِأَنَّ مَا يُخَافُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَشَدُّ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهَا فِي الْخُرُوجِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَخْتَارَ الرُّجُوعَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرٍ لَمْ تَخْرُجْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ لِأَنَّ مَا يُخَافُ فِي السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ أَعْظَمُ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهَا فِي الْمِصْرِ فَكَانَ الْمُكْثُ فِي الْمِصْرِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ لَمْ تَخْرُجْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِدَّةِ وَقَالَا: تَخْرُجُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا. وَقَوْلُهُ الْآخَرُ أَظْهَرُ. لَهُمَا أَنَّهَا فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِمَحْرَمٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الْخُرُوجِ مُطْلَقٌ لَهَا إجْمَاعًا لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ ضَرَرِ الْغُرْبَةِ وَوَحْشَةِ الِانْفِرَادِ. وَمَتَى قُلْنَا: لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِلَا مَحْرَمٍ فَإِذَا بَطَلَ مَعْنَى السَّفَرِ بِالْمَحْرَمِ بَقِيَ مُجَرَّدُ الْخُرُوجِ وَهُوَ مُطْلَقٌ لِمَكَانِ الْغُرْبَةِ، إذْ الْغَرِيبُ يُؤْذَى وَيُهَانُ فَأَشْبَهَ الْمَفَازَةَ.
وَلَهُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِدَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِ عَدَمِ الْمَحْرَمِ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ، فَالْعِدَّةُ أَوْلَى، وَمَا دُونَ السَّفَرِ إنَّمَا أُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْعِدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْخُرُوجِ الْأَوَّلِ لَا لِأَنَّ أَصْلَ الْخُرُوجِ مُبَاحٌ وَهِيَ هُنَا مُنْشِئَةٌ لِلْخُرُوجِ بِاعْتِبَارِ السَّفَرِ فَيَتَنَاوَلُهُ التَّحْرِيمُ، وَإِذَا تَنَاوَلَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَحْرَمِ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ بِهِ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ.
وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ كَانَتْ الْجِهَتَانِ مُدَّةَ سَفَرٍ فَمَضَتْ أَوْ رَجَعَتْ وَبَلَغَتْ أَدْنَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ أَقَامَتْ فِيهِ وَاعْتَدَّتْ إنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا إنْ وَجَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
بَابُ ثُبُوتِ النَّسَبِ
(وَمَنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ ابْنُهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ) أَمَّا النَّسَبُ فَلِأَنَّهَا فِرَاشُهُ، لِأَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْعُلُوقُ قَبْلَهُ
وَمِثْلُهُ فِي الْمُحِيطِ، وَفِيهِ: الْبَدَوِيُّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَأَرَادَ نَقْلَهَا إلَى مَكَان آخَرَ، فِي الْكَلَأِ وَالْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ تَتَضَرَّرْ بِتَرْكِهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَإِنْ تَضَرَّرَتْ فَلَهُ ذَلِكَ إذْ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(بَابُ ثُبُوتِ النَّسَبِ)
أَعْقَبَهُ الْعِدَّةَ لِأَنَّهُ مِمَّا وَجَبَتْ لَهُ الْعِدَّةُ تَعَرُّفُ حَالِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ وَتَثْبُتُ مَوَاجِبُهُ وَعَدَمُهُ فَيَنْصَرِفُ كُلٌّ عَنْ الْآخَرِ فِي الْحَالِ: أَيْ فِي حَالِ مَعْرِفَةِ عَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ عِنْدَ تَمَامِ الْعِدَّةِ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ أَوْ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا) لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ (فَهُوَ ابْنُهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ) يُرِيدُ مِنْ وَقْتِ تَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ قَرَنَ الْيَوْمَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ، وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّلَ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِأَنَّهَا فِرَاشُهُ قَالَ فِي إثْبَاتِ كَوْنِهَا فِرَاشًا لِأَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ يَوْمِ النِّكَاحِ فَأَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْيَوْمِ الْوَقْتُ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ جَزَاءُ الشَّرْطِ فَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ لَا بِزَمَانٍ وَإِنْ لَطَفَ كَمَا قِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا آنٌ خَالٍ بَلْ أَوَّلُ آنَاتٍ تَعْقُبُ وُجُودَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ فِيهِ الْجَزَاءُ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى تَحَقُّقِ زَمَانٍ يَسَعُ التَّلَفُّظَ بِأَنْتِ طَالِقٍ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ ثُبُوتٌ حُكْمِيٌّ، وَإِذَنْ فَيَكُونُ الْعُلُوقُ مُقَارِنًا لِلنِّكَاحِ فَيَثْبُتُ
فِي حَالَةِ النِّكَاحِ وَالتَّصَوُّرُ ثَابِتٌ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُخَالِطُهَا فَوَافَقَ الْإِنْزَالُ النِّكَاحَ وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا حُكْمًا فَتَأَكَّدَ الْمَهْرُ بِهِ
النَّسَبُ، وَتَصَوُّرُ الْعُلُوقِ مُقَارِنًا لِلنِّكَاحِ ثَابِتٌ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُخَالِطُهَا وَطْئًا وَسَمِعَ النَّاسُ كَلَامَهُمَا فَوَافَقَ الْإِنْزَالُ النِّكَاحَ، وَالْأَحْسَنُ تَجْوِيزُ أَنَّهُمَا وُكِّلَا بِهِ فَبَاشَرَ الْوَكِيلُ وَهُمَا كَذَلِكَ فَوَافَقَ عَقْدُهُ الْإِنْزَالَ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الثُّبُوتَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفِرَاشِ وَهُوَ يَثْبُتُ مُقَارِنًا لِلنِّكَاحِ الْمُقَارِنِ لِلْعُلُوقِ فَتَعَلَّقَ وَهِيَ فِرَاشٌ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَقَدْ يُقَالُ الْفِرَاشِيَّةُ أَثَرُ النِّكَاحِ: أَعْنِي الْعَقْدَ فَيَتَعَقَّبُهُ فَيَلْزَمُ سَبْقُ الْعُلُوقِ عَلَى الْفِرَاشِ. نَعَمْ إذَا فُسِّرَ الْفِرَاشُ بِالْعَقْدِ كَمَا عَنْ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ السَّابِقَ لَهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ بِكَوْنِ الْمَرْأَةِ بِحَيْثُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْكَوْنَ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعَقْدِ، إلَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ فِي الْخَارِجِ وَكَلَامُهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ. وَتَقْرِيرُ قَاضِي خَانْ أَنَّ الْعُلُوقَ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ النِّكَاحِ مُقَارِنًا لِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَكُونُ حَاصِلًا قَبْلَ زَوَالِ الْفِرَاشِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ: يَعْنِي أَنَّ زَوَالَ الْفِرَاشِ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا مَعَهُ، لِأَنَّ زَوَالَهُ أَثَرُهُ. لَا يُقَالُ مُقْتَضَاهُ أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقَدْ عَيَّنُوا الثُّبُوتَ نَسَبُهُ أَنْ لَا يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ النِّكَاحِ وَلَا أَقَلَّ. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا لَمْ يُثْبِتُوهُ فِي الْأَقَلِّ لِأَنَّ الْعُلُوقَ حِينَئِذٍ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ قَبْلَ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا فِي الزِّيَادَةِ فَلِاحْتِمَالِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ بِمَا يَسَعُ وَطْئًا بِالْفَرْضِ فَيَجِبُ اسْتِثْنَاءُ هَذَا الْقَدْرِ وَيَجِبُ تَقْدِيرُهُ كَذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ نَفْيَهُمْ النَّسَبَ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَهُوَ سَنَتَانِ، وَلَا مُوجِبَ لِلصَّرْفِ عَنْهُ يُنَافِي الِاحْتِيَاطَ فِي إثْبَاتِهِ وَاحْتِمَالِ كَوْنِهِ حَدَثَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمٍ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ كَوْنُ الْحَمْلِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا، وَرُبَّمَا تَمْضِي دُهُورٌ لَمْ يُسْمَعْ فِيهَا وِلَادَةٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ الظَّاهِرُ عَدَمُ حُدُوثِهِ وَحُدُوثُهُ احْتِمَالٌ، فَأَيُّ احْتِيَاطٍ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إذَا نَفَيْنَاهُ لِاحْتِمَالٍ ضَعِيفٍ يَقْتَضِي نَفْيَهُ وَتَرْكُنَا ظَاهِرًا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ الِاحْتِمَالَيْنِ أَبْعَدُ؟ الِاحْتِمَالُ الَّذِي فَرَضُوهُ لِتَصَوُّرِ الْعُلُوقِ مِنْهُ لِيُثْبِتُوا النَّسَبَ وَهُوَ كَوْنُهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَطَؤُهَا وَسَمِعَ كَلَامَهُمَا النَّاسُ وَهُمَا عَلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ وَافَقَ الْإِنْزَالُ الْعَقْدَ، أَوْ احْتِمَالُ كَوْنِ الْحَمْلِ إذَا زَادَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِاسْتِبْعَادِ هَذَا الْفَرْضِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: لَا يُحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ بَلْ قِيَامُ الْفِرَاشِ كَافٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ إمْكَانُ الدُّخُولِ بَلْ النِّكَاحُ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَمَا فِي تَزَوُّجِ الْمَشْرِقِيِّ بِمَغْرِبِيَّةٍ.
وَالْحَقُّ أَنَّ التَّصَوُّرَ شَرْطٌ، وَلِذَا لَوْ جَاءَتْ امْرَأَةُ الصَّبِيِّ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَالتَّصَوُّرُ ثَابِتٌ فِي الْمَغْرِبِيَّةِ لِثُبُوتِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَالِاسْتِخْدَامَات فَيَكُونُ صَاحِبُ خُطْوَةٍ أَوْ جِنِّيًّا، وَأَمَّا لُزُومُ الْمَهْرِ كَامِلًا فَلِأَنَّهُ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا حُكْمًا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ. وَمَا قِيلَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَطْؤُهُ لِأَنَّ الْحَبَلَ قَدْ يَكُونُ بِإِدْخَالِ الْمَاءِ الْفَرْجَ دُونَ جِمَاعٍ فَنَادِرٌ، وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ هُوَ الْمُعْتَادُ. وَفِي النِّهَايَةِ وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ، أَمَّا النِّصْفُ فَلِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلِلدُّخُولِ انْتَهَى. وَعِبَارَةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي عَلَى مَا نَقَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَمَهْرٌ آخَرُ بِالدُّخُولِ، قَالَ: إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَتَأَكَّدَ ذَلِكَ الصَّدَاقُ وَاشْتَبَهَ وُجُوبُ الزِّيَادَةِ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لِلْمُتَأَمِّلِ لَا تُوجِبُ قَوْلَهُ بِلُزُومِ مَهْرٍ وَنِصْفٍ، بَلْ ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَلَا تُسَوَّغُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِذَلِكَ.
وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ وُجُوبُ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لِأَنَّ الْوَطْءَ حِينَئِذٍ فِي غَيْرِ عِصْمَةٍ وَلَا عِدَّةٍ، بَلْ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ أَوْ لِلنِّكَاحِ، فَأَقَلُّ الْأَمْرِ كَوْنُهُ قَبْلَهُ أَوْ لَا مُشْتَبِهٌ ذَلِكَ وَضَمِيرُ " بِهِ " فِي قَوْلِهِ فَتَأَكَّدَ الْمَهْرُ بِهِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصَحُّ فِي ثُبُوتِ هَذَا النَّسَبِ إمْكَانَ الدُّخُولِ وَتَصَوُّرُهُ لَيْسَ إلَّا بِمَا ذَكَرَ مِنْ تَزَوُّجِهَا حَالَ وَطْئِهَا الْمُبْتَدَإِ بِهِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَقَدْ حُكِمَ فِيهِ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ فِي صَرِيحِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ كَوْنُ مَا ذَكَرَ مُطْلَقًا وَمَنْسُوبًا وَقَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا فِي حَالِ مَا يَطَؤُهَا عَلَيْهِ مَهْرَانِ: مَهْرٌ بِالزِّنَا لِسُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّزَوُّجِ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَمَهْرٌ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ الْخَلْوَةِ وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْصِنًا مُشْكِلًا لِمُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَذْهَبِ، وَأَيْضًا الْفِعْلُ وَاحِدٌ، وَقَدْ اتَّصَفَ بِشُبْهَةِ الْحِلِّ فَيَجِبُ مَهْرٌ وَاحِدٌ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَنَسِيَ فَتَزَوَّجَهَا وَوَطِئَهَا حَيْثُ يَجِبُ مَهْرٌ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْوَطْءِ، أَمَّا هُنَا الطَّلَاقُ مَعَ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فِي فِعْلٍ مُتَّحِدٍ فَصَارَ الْفِعْلُ كُلُّهُ لَهُ شُبْهَةُ الْحِلِّ وَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ فَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ.
وَفِي شَرْحِ أَبِي الْيُسْرِ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِمَا، قَالَ: قَدْ كُنْت أَفْتَيْت بِالْوُجُوبِ عَلَى الْحَالِفِ وَهُوَ الظَّاهِرُ
(وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا) لِاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ لِجَوَازِ أَنَّهَا تَكُونُ مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ) وَثَبَتَ نَسَبُهُ لِوُجُودِ الْعُلُوقِ فِي النِّكَاحِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُلُوقَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ بَعْدَهُ فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ كَانَتْ رَجْعَةً) لِأَنَّ الْعُلُوقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ
مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَمَنْ مَالَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا، وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَرِثَهُ مَنْصُوصٌ عَنْ أَصْحَابِنَا وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالثَّلَاثِ فَلَمْ يَبْقَ بِنِكَاحٍ وَلَا عِدَّةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ لَمْ يَنْقَطِعْ النَّسَبُ.
(قَوْلُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ) وَلَوْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ (مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا) فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَائِهَا وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ بِأَنْ تَكُونَ سِتِّينَ يَوْمًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتِسْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا عَلَى قَوْلِهِمَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَظْهَرُ كَذِبُهَا، وَكَذَا هَذَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا ادَّعَتْ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ انْقِضَاءَهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ.
أَمَّا ثُبُوتُ نَسَبِ وَلَدِ الرَّجْعِيَّةِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهُمَا فَلِاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيِّ لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِزِنَاهَا أَوْ بِوَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ لِجَوَازِ كَوْنِهَا مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ بِأَنْ امْتَدَّ إلَى مَا قَبْلَ سَنَتَيْنِ مِنْ مَجِيئِهَا بِهِ أَوْ أَقَلَّ ثُمَّ وَطِئَهَا فَحَبِلَتْ، وَعَنْ هَذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ تَكُونُ زَوْجَةً بِالرَّجْعَةِ الْكَائِنَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا تَثْبُتُ رَجْعَتُهَا، فَإِنَّ الْعُلُوقَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعِصْمَةِ كَمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعِدَّةِ وَإِحَالَةُ الْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ ظَاهِرٌ آخَرُ، وَالظَّاهِرُ الْوَطْءُ فِي الْعِصْمَةِ لَا الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ، وَمَا قَضَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَرْجَحُ مِنْ إضَافَةِ الْحَادِثِ إلَى الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي الرَّجْعَةِ وَمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ أَيْضًا فِيهَا، إذْ مُعْتَادُ النَّاسِ فِي الرَّجْعَةِ أَنْ يُرَاجِعُوا بِاللَّفْظِ.
فَإِنْ قِيلَ: هُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ كَوْنُهَا
مِنْهُ لِانْتِفَاءِ الزِّنَا مِنْهَا فَيَصِيرُ بِالْوَطْءِ مُرَاجِعًا.
(وَالْمَبْتُوتَةُ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ قَائِمًا وَقْتَ الطَّلَاقِ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ قَبْلَ الْعُلُوقِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ احْتِيَاطًا، (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ لَمْ يَثْبُتْ) لِأَنَّ الْحَمْلَ حَادِثٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ لِأَنَّ وَطْأَهَا حَرَامٌ. قَالَ (إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ)
تَزَوَّجَتْ وَجَاءَتْ بِهِ مِنْ الزَّوْجِ الْآخَرِ. قُلْنَا: الْفَرْضُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَمَا لَمْ تُقِرَّ بِذَلِكَ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ تَزَوُّجُهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ فِيهِ إنْشَاءُ نِكَاحٍ وَإِبْقَاءُ الْأَوَّلِ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ.
(قَوْلُهُ وَالْمَبْتُوتَةُ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْحَمْلِ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ لَمْ يَثْبُتْ) نَسَبُهُ لِتَيَقُّنِ الْعُلُوقِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَوَطْؤُهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ حَرَامٌ. قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ الْإِيضَاحِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْأَقْطَعِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ أَيْضًا وَهِيَ قَوْلُهُ وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ فَإِنَّ فِيهَا أُلْحِقَتْ السَّنَتَانِ بِأَقَلَّ مِنْ السَّنَتَيْنِ حَتَّى إنَّهُمْ أَثْبَتُوا النَّسَبَ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ، وَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ صِحَّةَ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ إلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ لَا يَمْكُثُ الْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ الطَّلَاقِ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ إلَّا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ حَالَ قِيَامِ الْفِرَاشِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَقْرِيرِ قَاضِي خَانْ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ أَنَّهُ يُجْعَلُ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَبْلَ زَوَالِ الْفِرَاشِ.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ) اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَهُوَ مُفَرِّغٌ لِلْمُتَعَلِّقِ: أَيْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي الْحَالِ الَّتِي هِيَ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ، وَلَهُ وَجْهٌ وَهُوَ كَوْنُهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُ الْمَرْأَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْهُ وَقَدْ ادَّعَاهُ وَلَا مُعَارِضَ، وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ الِاشْتِرَاطُ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الشَّامِلِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي ضَعْفِهَا وَغَرَابَتِهَا.
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ هَذِهِ مُنَاقَضَةً لِمَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمُبَانَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ، وَنَصَّ فِي التَّبْيِينِ أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ بِالثَّلَاثِ إذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ بِشُبْهَةٍ كَانَتْ شُبْهَةُ الْفِعْلِ، وَفِيهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ ادَّعَاهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَالٍ، وَبِحَمْلِ الْمَذْكُورِ هُنَا عَلَى الْمَبْتُوتَةِ بِالْكِنَايَاتِ فَيَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ إذَا لَمْ يَدَّعِ شُبْهَةً، وَالْمَذْكُورُ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى
لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ. وَلَهُ وَجْهٌ بِأَنْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ (فَإِنْ كَانَتْ الْمَبْتُوتَةُ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
كَوْنِهِ وَطْئًا بِشُبْهَةٍ، وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ ثَلَاثٍ لَا تَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِوَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ فَكَيْفَ بِالْمُعْتَدَّةِ فَيَجِبُ الْجَمْعُ مَثَلًا بِأَنْ يُقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُصَرِّحَ بِدَعْوَى الشُّبْهَةِ الْمَقْبُولَةِ غَيْرَ مُجَرَّدِ شُبْهَةِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحُدُودِ عَدَمُ ثُبُوتِ النَّسَبِ إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَالْبَائِنَةَ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، فَجُعِلَ هَذَا حُكْمَ وَطْءِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إذَا جَاءَتْ بِهِ مُطْلَقًا فَيَثْبُتُ عِنْدَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَّا إذَا ادَّعَى الشُّبْهَةَ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُجَرَّدِ ظَنِّ الْحِلِّ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ بَلْ أَفَادَ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، غَيْرَ أَنَّ تَوْجِيهَ ذَلِكَ إمْكَانُ صِحَّتِهِ بِكَوْنِ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ سِوَاهُ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُجَرَّدِ ظَنِّ الْحِلِّ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ وِلَادَتِهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَيَجِبُ أَنْ تَرُدَّ نَفَقَتُهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ: لَا تَنْقَضِي إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ. لَهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ دُونَ الزِّنَا وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَحَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَحِينَئِذٍ أَخَذَتْ مَالًا تَسْتَحِقُّهُ لِأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فَتَرُدُّهُ. وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ هِيَ فِي الْعِدَّةِ وَلِذَا لَا تَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهِ قَبْلَ وَضْعِهِ فَكَأَنَّهَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ.
وَلَوْ جَاءَتْ الْمَبْتُوتَةُ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْآخَرُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اعْتَبَرَاهُ بِمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْآخَرُ لِأَكْثَرَ فَادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا وَيُنْقَضُ الْبَيْعُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِبَانَةِ فَيَتْبَعُهُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ. قِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ. وَلَيْسَ وَلَدُ الْجَارِيَةِ نَظِيرَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ يَجُوزُ كَوْنُهُ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ قَبْلَ بَيْعِهِ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ الثَّانِي فِي الْمَبْتُوتَةِ. وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَبَاقِيهِ لِأَكْثَرَ مِنْ السَّنَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يَكُونَ الْخَارِجُ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ نِصْفَ بَدَنِهِ، أَوْ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الرِّجْلَيْنِ أَكْثَرُ الْبَدَنِ لِأَقَلَّ وَالْبَاقِي لِأَكْثَرَ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ. وَفِي شَرْحِ التَّكْمِلَةِ: تَزَوَّجَ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَلْزَمُهُ وَلَدُهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ وَلَدُ النِّكَاحِ فِي الْأَوَّلِ، وَفِي الثَّانِي يُضَافُ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ وَطْأَهَا حَلَالٌ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الطَّلْقَةُ بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُ إلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّ وَطْأَهَا لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ الْوَلَدُ مِنْ النِّكَاحِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ طَلَّقَهَا ثُمَّ مَلَكَهَا وَأَنْ لَا يُتَصَوَّرَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنَةِ مُقَيَّدٌ بِأَحَدِ أُمُورٍ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إمَّا شَهَادَةٌ بِالْوِلَادَةِ، أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ، أَوْ حَبَلٌ ظَاهِرٌ كَمَا سَيَجِيءُ عَنْ قَرِيبٍ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ الْمَبْتُوتَةُ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا إلَخْ) قِيلَ: هُوَ مُسْتَدْرَكٌ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ دَلِيلُ أَنَّهُ يُجَامَعُ مِثْلُهَا وَمَنْعَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إلَى سَنَتَيْنِ) لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَأَشْبَهَتْ الْكَبِيرَةَ. وَلَهُمَا أَنَّ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا جِهَةً مُتَعَيِّنَةً وَهُوَ الْأَشْهُرُ فَبِمُضِيِّهَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِالِانْقِضَاءِ وَهُوَ فِي الدَّلَالَةِ فَوْقَ إقْرَارِهَا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، وَالْإِقْرَارُ يَحْتَمِلُهُ وَإِنْ كَانَتْ
أَنَّ الْحَبَلَ يَكُونُ بِلَا جِمَاعٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْبُلُوغِ، وَبَعِيدٌ أَنْ لَا تَحْتَمِلُ الْبَالِغَةُ الْجِمَاعَ. وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا طَلُقَتْ فَإِمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَمَا جَاءَتْ بِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ لِتَلْزَمَ الْعِدَّةُ بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِالدُّخُولِ لِلْحُكْمِ بِالْعُلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَأَمَّا إنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ لَمْ تُقِرَّ، فَإِنْ أَقَرَّتْ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِإِقْرَارِهَا، وَمَا جَاءَتْ بِهِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ قَبْلَهَا لِيُتَيَقَّنَ بِكَذِبِهَا، وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَائِهَا وَلَمْ تَدَّعِ حَبَلًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَثْبُتُ إلَى سَنَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَإِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا فِي الرَّجْعِيِّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي آخِرِ عِدَّتِهَا الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ فَعَلِقَتْ سَنَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ ادَّعَتْ حَبَلًا فَهِيَ كَالْكَبِيرَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا يَقْتَصِرُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْكَبِيرَةَ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِنْ طَالَ إلَى سِنِّ الْإِيَاسِ لِجَوَازِ امْتِدَادِ طُهْرِهَا وَوَطْئِهِ إيَّاهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا يَحْتَمِلُ كَوْنُهَا حَامِلًا لِفَرْضِ أَنَّهَا فِي سِنٍّ يَجُوزُ فِيهِ بُلُوغُهَا لِأَنَّهُ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ
مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِأَنَّهُ يُجْعَلُ وَاطِئًا فِي آخِرِ الْعِدَّةِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرُ ثُمَّ تَأْتِي لِأَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ سَنَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّغِيرَةُ ادَّعَتْ الْحَبَلَ فِي الْعِدَّةِ فَالْجَوَابُ فِيهَا وَفِي الْكَبِيرَةِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ بِإِقْرَارِهَا يُحْكَمُ بِبُلُوغِهَا.
(وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَا بَيْنَ الْوَفَاةِ وَبَيْنَ السَّنَتَيْنِ) وَقَالَ زُفَرُ: إذَا جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ لِتَعَيُّنِ الْجِهَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّتْ بِالِانْقِضَاءِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الصَّغِيرَةِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا جِهَةٌ أُخْرَى وَهُوَ وَضْعُ الْحَمْلِ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْحَمْلِ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَفِيهِ شَكٌّ.
(وَإِذَا اعْتَرَفَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهَا بِيَقِينٍ فَبَطَلَ الْإِقْرَارُ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ) لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ لِاحْتِمَالِ الْحُدُوثِ بَعْدَهُ،
عِدَّتِهَا فَأَشْبَهَتْ الْكَبِيرَةَ فِي احْتِمَالِ حُدُوثِ الْعُلُوقِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ إلَى سَنَتَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَاسَ مَا قَدَّمَهُ فِي الْكَبِيرَةِ الْمَبْتُوتَةِ مِنْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ أَنْ يَقُولَ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ هُنَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ لِانْقِضَاءِ عِدَّةِ الصَّغِيرَةِ جِهَةً وَاحِدَةً فِي الشَّرْعِ فَبِمُضِيِّهَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِالِانْقِضَاءِ وَهُوَ فِي الدَّلَالَةِ فَوْقَ إقْرَارِهَا بِالِانْقِضَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخِلْفَ وَعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، بِخِلَافِ إقْرَارِهَا، فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يُجْعَلَ انْقِضَاؤُهَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالِانْقِضَاءِ بَعْدَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ فَكَذَلِكَ هُنَا، فَلَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، أَمَّا إذَا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ ادَّعَتْ الْحَبَلَ فِي الْعِدَّةِ فَالْجَوَابُ فِيهَا كَالْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهَا بِالْحَبَلِ حُكِمَ بِبُلُوغِهَا.
(قَوْلُهُ وَثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مَا بَيْنَ وَفَاةِ زَوْجِهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ وَقَالَ زُفَرٌ: إذَا جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ) وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ فَوَجْهُهُ كَوَجْهِهِمَا فِي الصَّغِيرَةِ وَهُوَ أَنَّ لِعِدَّتِهَا جِهَةً وَاحِدَةً هِيَ انْقِضَاءُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَإِذَا لَمْ تُقِرَّ قَبْلَهَا بِالْحَبْلِ فَقَدْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِانْقِضَائِهَا بِهَا، فَإِذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَهَا لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ عَلَى مَا عُرِفَ وَيُمْنَعُ تَعَيُّنُ الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِّهَا بَلْ لَهَا كُلٌّ مِنْ الْجِهَتَيْنِ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْحَبَلِ فَتَسْتَمِرُّ مَا لَمْ تَعْتَرِفْ بِالْحَبَلِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا اعْتَرَفَتْ) ظَاهِرٌ وَتَقَدَّمَتْ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ إذَا أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ
وَهَذَا اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ.
(وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَلَدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِوِلَادَتِهَا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَثْبُتُ فِي الْجَمِيعِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ
سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ كَوْنَ الْحَمْلِ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُنَّ أَمِينَاتٌ شَرْعًا فِي إخْبَارِهِنَّ عَنْ عِدَّتِهِنَّ، فَإِذَا أَخْبَرْنَ لَزِمَ إلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ الْخِلَافُ قَطْعًا.
وَقَوْلُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ لِعَدَمِ التَّفْصِيلِ فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ وَوَفَاةٍ، وَمِمَّا يَشْمَلُ أَيْضًا الْآيِسَةُ إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ الرَّجْعِيِّ أَوْ الْبَائِنِ فَهِيَ كَذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ يَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فِي الْبَائِنِ وَأَكْثَرَ مِنْهَا فِي الرَّجْعِيِّ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَائِهَا مُفَسَّرًا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مُطْلَقًا فِي مُدَّةٍ تَصْلُحُ لِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ثَبَتَ النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّ مُطْلَقَ إقْرَارِهَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَقْرَاءِ لَمَّا بَطَلَ الْيَأْسُ. هَذَا وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ الْآيِسَةَ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، وَإِذَا وَلَدَتْ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا فِي الطَّلَاقِ إلَى سَنَتَيْنِ سَوَاءٌ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ تُقِرَّ، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَرْغِينَانِيِّ
(قَوْلُهُ وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَلَدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِوِلَادَتِهَا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) أَوْ يُعْلَمَ اعْتِرَافٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْوِلَادَةِ أَوْ يَكُونَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَهَادَةٍ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَشْمَلُ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَفَاةٍ وَعَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ فَيُوَافِقُ تَصْرِيحَ قَاضِي خَانْ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي الرَّجْعِيِّ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَيَّدَ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ تَطْلِيقًا بَائِنًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْوِلَادَةَ وَالْحَبَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ النَّسَبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَنَحْوَهُ فَعَلَ صَاحِبُ الْمُخْتَلِفِ حَيْثُ قَالَ: شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِمُؤَيِّدٍ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَفَاةٍ إذَا كَذَّبَهَا الْوَرَثَةُ فِي الْوِلَادَةِ وَفِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى قَيْدِ إنْكَارِ الزَّوْجِ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ إنْكَارُ الْوِلَادَةِ وَالْحَبَلِ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ عَدْلَةٍ وَيَرِثُ بِذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا عِنْدَ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ حَقًّا عَلَى الْغَيْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ قِيَاسًا عَلَى الْعَدَدِ.
وَقَوْلُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ: أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوَّلًا أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ الزَّوْجِ أَوَّلًا وَهَلْ يُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمَا؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَلَا
وَهُوَ مُلْزِمٌ لِلنَّسَبِ وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ أَنَّهُ مِنْهَا فَيَتَعَيَّنُ بِشَهَادَتِهَا كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِإِقْرَارِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَالْمُنْقَضِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ ابْتِدَاءً فَيُشْتَرَطُ كَمَالُ الْحُجَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ظَهَرَ الْحَبَلُ أَوْ صَدَرَ الِاعْتِرَافُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَالتَّعَيُّنَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهَا (فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ فِي الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ أَحَدٌ فَهُوَ ابْنُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) وَهَذَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِمْ فَيُقْبَلُ فِيهِ تَصْدِيقُهُمْ، أَمَّا فِي حَقِّ النَّسَبِ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ. قَالُوا: إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ وَلِهَذَا قِيلَ: تُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ لَا تُشْتَرَطُ لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ تَبَعٌ لِلثُّبُوتِ فِي حَقِّهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ، وَمَا ثَبَتَ تَبَعًا لَا يُرَاعَى فِيهِ الشَّرَائِطُ.
يَفْسُقُ كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَفِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَأَجْمَعَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى بِالنَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّهُ يَثْبُتُ تَعْيِينُ الْوَلَدِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَالنَّسَبُ بِقِيَامِ الْفِرَاشِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يُتَّجَهُ تَقْيِيدُ الْخِلَافِ بِالْبَائِنِ كَمَا نَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَيَكُونُ الرَّجْعِيُّ كَالْعِصْمَةِ الْقَائِمَةِ حَتَّى حَلَّ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ، وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ أَحْمَدُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى امْرَأَتَانِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ (وَهُوَ) أَيْ الْفِرَاشُ (مُلْزِمٌ لِلنَّسَبِ) فِيمَا تَأْتِي بِهِ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ (وَالْحَاجَةُ
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ) لِأَنَّ الْعُلُوقَ سَابِقٌ عَلَى
إلَى) شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ (لِتَعْيِينِ الْوَلَدِ) فَيَتَعَيَّنُ بِشَهَادَتِهَا عَلَى الْوِلَادَةِ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْجَامِعُ قِيَامُ الْفِرَاشِ (وَلَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِإِقْرَارِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ) فَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً، وَالْفِرَاشُ الْمُنْقَضِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِيَصْلُحَ مُؤَيِّدًا لِلْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ: أَعْنِي شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ مَاسَةً إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ بِكَمَالِ النِّصَابِ عَلَى وِلَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ بِفِرَاشِيَّتِهَا الْمُسْتَلْزِمَةِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ لِكَوْنِهَا فِي وَقْتٍ يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ شَرْعًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا قَبْلَ دَعْوَاهَا أَوْ صَدَرَ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ كَانَ الْفِرَاشُ قَائِمًا وَقْتَ دَعْوَاهَا الْوِلَادَةَ، لِأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ، وَقِيَامُ الْحَمْلِ ظَاهِرًا أَوْ اعْتِرَافًا، وَكَذَا قِيَامُ الْفِرَاشِ يُؤَيِّدُ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ بِهِ، وَقَوْلُهُمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مَمْنُوعٌ بَلْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا دَخَلَتْ الْمَرْأَةُ بِحَضْرَتِهِمْ بَيْتًا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهَا ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَ الْوَلَدِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَتَعَمَّدُوا النَّظَرَ بَلْ وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَدْ أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ تَسْتَلْزِمُ فِسْقَهُمْ فَلَا تُقْبَلُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَقِيقَةَ مَحَلِّ الْخِلَافِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ عَادَةً كَالْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هَلْ تَكْفِي لِلْإِثْبَاتِ أَوْ لَا بُدَّ أَنْ تَتَأَيَّدَ بِمُؤَيِّدٍ فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ.
وَلَهُمَا فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ لِأَنَّهُ جِنْسٌ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَاهُ فَتَمَامُهُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ قِيَامِ الْفِرَاشِ وَهُوَ يَدْفَعُهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِهَا مَعَ مُؤَيِّدٍ جَوَازُهَا بِدُونِهِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْحَدِيثِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا:«مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ وِلَادَاتِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ. وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا فِي الِاسْتِهْلَالِ وَامْرَأَتَانِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ» ، وَهَذَا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ مُرْسَلٌ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي مَضَتْ السُّنَّةُ إنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ الرَّفْعَ إذَا كَانَ صَحَابِيًّا وَهُوَ هُنَا لَيْسَ صَحَابِيًّا، وَحَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاسِطِيِّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ» ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْأَعْمَشِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَايِنِيُّ فَقَدْ تَظَافَرَا وَقَوِيَ مَا هُوَ حُجَّةٌ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ فَادَّعَتْ الْوِلَادَةَ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَشْهَدْ بِهَا أَحَدٌ فَهُوَ ابْنُ الْمَيِّتِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَهَذَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِمْ فَيُقْبَلُ تَصْدِيقُهُمْ فِيهِ، أَمَّا فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْمَيِّتِ لِيَظْهَرَ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً. قَالُوا: إذَا كَانُوا أَيْ الْوَرَثَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونُوا ذُكُورًا أَوْ ذُكُورًا مَعَ إنَاثٍ وَهُمْ عُدُولٌ ثَبَتَ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ فَيُشَارِكُ الْمُقِرِّينَ مِنْهُمْ وَالْمُنْكَرِينَ وَيُطَالِبُ غَرِيمَ الْمَيِّتِ بِدَيْنِهِ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ: يُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ: أَيْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ مِنْ الْوَرَثَةِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ. وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ تَبَعٌ لِلثُّبُوتِ فِي حَقِّهِمْ، وَلَا يُرَاعَى لِلتَّبَعِ شَرَائِطُهُ إذَا ثَبَتَ أَصَالَةً، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا فِي حَقِّ الْمُقِرِّينَ مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ) لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ عُلُوقٍ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهَا ثَبَتَ، وَلَا إشْكَالَ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ سَكَتَ، وَكَذَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ السِّتَّةِ بِلَا
النِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ سَكَتَ) لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ وَالْمُدَّةُ تَامَّةٌ (فَإِنْ جَحَدَ الْوِلَادَةَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ تَشْهَدُ بِالْوِلَادَةِ حَتَّى لَوْ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلَاعِنُ) لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ، وَاللِّعَانُ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وُجُودُ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِهِ (فَإِنْ وَلَدَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُك مُنْذُ أَرْبَعَةٍ وَقَالَتْ هِيَ: مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَهُوَ ابْنُهُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا فَإِنَّهَا تَلِدُ ظَاهِرًا مِنْ نِكَاحِ لَا مِنْ سِفَاحٍ
زِيَادَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَاطِئًا لَهَا فَوَافَقَ الْإِنْزَالُ النِّكَاحَ، وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَبْتُوتَةِ حَيْثُ نُفِيَ نَسَبُ مَا أَتَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مَعَ تَصْحِيحِهِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ طَلَّقَهَا حَالَ جِمَاعِهَا وَصَادَفَ الْإِنْزَالُ الطَّلَاقَ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ هُنَا لَا هُنَاكَ لِحَمْلِ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ، إذْ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ هُنَا لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ زَوْجٍ فَتَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الثُّبُوتِ هُنَاكَ لِلشَّكِّ فَلَا يَسْتَلْزِمُ نِسْبَةَ فَسَادٍ إلَيْهَا لِجَوَازِ كَوْنِ عِدَّتِهَا انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ فَعَلِقَتْ مِنْهُ.
وَحَاصِلُ هَذَا رَفْعُ الْمَانِعِ مِنْ عَدَمِ الثُّبُوتِ هُنَاكَ وَلَيْسَ بِجَوَابٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى السُّؤَالِ وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْإِمْكَانُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَعَ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ كَمَا يَثْبُتُ هُنَا، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الْوَجْهَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِيهِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْإِمْكَانُ مَعَ الِاحْتِيَاطِ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ جَحَدَ الْوِلَادَةَ) يَعْنِي فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ اتِّفَاقًا، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَعِنْدَهُ لِتَأَيُّدِهَا بِقِيَامِ الْفِرَاشِ، حَتَّى لَوْ نَفَاهُ بَعْدَ شَهَادَتِهَا لَاعَنَ وَلَا يَكُونُ هَذَا اللِّعَانُ لَزِمَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدَةِ لِيَلْزَمَ أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ اللِّعَانُ هُنَا، وَأَيْضًا يَلْزَمُ خَطَأُ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا النَّسَبُ وَأَثْبَتَ بِهَا اللِّعَانَ، بَلْ اللِّعَانُ إنَّمَا وَجَبَ بِالْقَذْفِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ نَفْيِ الْوَلَدِ لَا بِنَفْيِ الْوَلَدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَفْيُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ لُزُومِهِ وُجُودَ الْوَلَدِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ لِتَحَقُّقِهِ بِدُونِهِ، وَإِنْ اتَّفَقَ هُنَا وُقُوعُهُ فِي ضِمْنِ النَّفْيِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ وَلَدَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا)، فَقَالَ: تَزَوَّجْتُك لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَقَالَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْقَوْلُ لَهَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا وَهُوَ أَنَّهُ وَلَدٌ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ وَلَا مِنْ زَوْجٍ
وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِحْلَافَ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ.
(وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَطْلُقُ) لِأَنَّ شَهَادَتَهَا حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَلِأَنَّهَا لَمَّا قَبِلَتْ فِي الْوِلَادَةِ تَقْبَلُ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا وَهُوَ الطَّلَاقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا ادَّعَتْ الْحِنْثَ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ، وَهَذَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ ضَرُورِيَّةٌ فِي حَقِّ الْوِلَادَةِ فَلَا تَظْهَرُ فِي
تَزَوَّجَتْ بِهَذَا الزَّوْجِ فِي عِدَّتِهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ وَهُوَ إضَافَةُ الْحَادِثِ وَهُوَ النِّكَاحُ هُنَا إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ فِي ثُبُوتِ نَسَبٍ قُدِّمَ الْمُثْبِتُ لَهُ لِوُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْإِيمَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهَا مُتَأَيَّدٌ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ عَدَمُ مُبَاشَرَتِهِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ إنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ زَوْجٍ أَوْ حَبِلَتْ مِنْ زِنًا وَإِنْ صَحَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ ثُمَّ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذَا النَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَزَوُّجُهَا حَامِلًا بِثَابِتِ النَّسَبِ لِيَكُونَ إقْرَارًا بِالْفَسَادِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِلَا شُهُودٍ لِجَوَازِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زِنًا فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ كَذَّبَهُ حَيْثُ أَثْبَتَ النَّسَبَ، وَالشَّرْعُ إذَا كَذَّبَ الْإِقْرَارَ يَبْطُلُ.
(قَوْلُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ مُحَمَّدٌ (الِاسْتِحْلَافَ) أَيْ اسْتِحْلَافَهَا وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَعِنْدَهُمَا تُسْتَحْلَفُ وَعِنْدَهُ لَا تُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ)
حَقِّ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهَا (وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ طَلُقَتْ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ لَدَعْوَاهَا الْحِنْثَ، وَشَهَادَتُهَا حُجَّةٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَبَلِ إقْرَارٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِكَوْنِهَا مُؤْتَمَنَةٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي رَدِّ الْأَمَانَةِ.
وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهَا وَلَمْ يَكُنْ حَبَلُهَا ظَاهِرًا وَلَا أَقَرَّ هُوَ بِهِ (لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَلَكِنْ يَثْبُتُ النَّسَبُ. وَقَالَا تَطْلُقُ أَيْضًا لِأَنَّ شَهَادَتَهَا حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي ثُبُوتِ وِلَادَتِهَا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَإِذَا كَانَتْ حُجَّةً مَقْبُولَةً فِيهَا تُقْبَلُ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلِأَنَّهَا لَمَّا قَبِلَتْ فِي الْوِلَادَةِ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ وَجْهًا آخَرَ بَلْ هُوَ تَمَامُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَصَارَتْ كَثُبُوتِ الْأُمُومَةِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ كَانَ بِأَمَتِي هَذِهِ حَمْلٌ فَهُوَ مِنِّي، فَوَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَنْكَرَ وِلَادَتَهَا فَشَهِدَتْ بِهَا امْرَأَةٌ، وَكَثُبُوتِ اللِّعَانِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ فِيمَا إذَا جَاءَتْ زَوْجَةٌ بِوَلَدٍ فَقَالَ: لَيْسَ مِنِّي وَلَا أَدْرِي أَوَلَدْتِيهِ أَمْ لَا فَشَهِدَتْ بِالْوِلَادَةِ امْرَأَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ اللِّعَانُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا مَحْدُودًا فَيُحَدُّ لِلْقَذْفِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا ادَّعَتْ الْحِنْثَ وَزَوَالَ مِلْكِهِ الثَّابِتِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَامَّةٍ، وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ حُجَّةً كَذَلِكَ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَلَازَمَهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ فَقُبِلَتْ فِيهَا وَثَبَتَ النَّسَبُ وَأُمُومَةُ الْوَلَدِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمُهُ اللَّازِمُ شَرْعًا، أَمَّا اللِّعَانُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَذْفِ وَإِنْ اتَّفَقَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي ضِمْنِ نَفْيِ الْوَلَدِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَيْسَ حُكْمًا مُخْتَصًّا بِهِ فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ قُبِلَ فِي الْحُرْمَةِ وَلَا يَثْبُتُ تَمَجُّسُ الذَّابِحِ، وَكَقَوْلِهِ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ، فَقَالَتْ حِضْت طَلُقَتْ هِيَ وَلَمْ تَطْلُقْ فُلَانَةُ هُمَا حُكْمَانِ مُقْتَرِنَانِ. وَيُمْكِنُ جَعْلَ هَذَا إشْكَالًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ طَلَاقَهَا هِيَ زَوَالُ مِلْكِهِ وَهُوَ لَيْسَ لَازِمًا شَرْعِيًّا لِحَيْضِهَا بَلْ لَازِمُهُ الشَّرْعِيُّ حُرْمَةُ قُرْبَانِهَا فَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِهَا لَازِمُهُ الشَّرْعِيُّ وَلَازِمُهُ الْجَعْلِيُّ الْمُنْفَكُّ وَهُوَ حِنْثُهُ وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ طَلُقَتْ بِلَا شَهَادَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ لِدَعْوَاهَا الْحِنْثَ وَشَهَادَتُهَا حُجَّةٌ فِيهِ.
(وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَبَلِ إقْرَارٌ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ) لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْحُبْلَى تَلِدُ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فِي إخْبَارِهَا بِالْوِلَادَةِ حَيْثُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا حَامِلٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي رَدِّ الْأَمَانَةِ كَمَا إذَا عُلِّقَ بِحَيْضِهَا فَقَالَتْ: حِضْت، فَإِذَنْ ظَهَرَ الْفَرْقُ الدَّافِعُ لِلْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيقَ إنْ كَانَ بِمَا هُوَ مَعْلُومُ الْوُقُوعِ بَعْدَهُ وَعِلْمُهُ مِنْ جِهَتِهَا كَمَا بِحَيْضِهَا وَبِوِلَادَتِهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِحَبَلِهَا أَوْ بِظُهُورِ حَبَلِهَا كَانَ الْتِزَامًا لِتَصْدِيقِهَا عِنْدَ إخْبَارِهَا بِهِ وَاعْتِرَافًا بِأَنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ
قَالَ (وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِظِلِّ مِغْزَلٍ (وَأَقَلُّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} ثُمَّ قَالَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فَبَقِيَ لِلْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ
فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ التَّعْلِيقُ بِوِلَادَتِهَا قَبْلَ الِاعْتِرَافِ بِحَبَلِهَا سَابِقًا وَلَا ظُهُورَ لِحَبَلٍ حَالَ التَّعْلِيقِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ عِنْدَ إنْكَارِهِ إلَى الْحُجَّةِ.
(قَوْلُهُ وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَعَنْ اللَّيْثِ ثَلَاثُ سِنِينَ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ سَبْعُ سِنِينَ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِظِلِّ مِغْزَلٍ. أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ جَمِيلَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي الْحَمْلِ عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ مَا يَتَحَوَّلُ ظِلُّ عَمُودِ الْمِغْزَلِ. وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: لَا يَكُونُ الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَمِنْ جِهَتِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَفِي حَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ ظِلِّ مِغْزَلٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ هَذَا؟ هَذِهِ جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ امْرَأَةُ صِدْقٍ وَزَوْجُهَا رَجُلُ صِدْقٍ حَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ فِي اثْنَيْ عَشْرَةَ سَنَةً كُلُّ بَطْنٍ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها مِمَّا لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَحْكِيِّ عَنْ امْرَأَةِ ابْنِ عَجْلَانَ لِأَنَّهُ بَعْدَ صِحَّةِ نِسْبَتِهِ إلَى الشَّارِعِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْخَطَأُ، بِخِلَافِ الْحِكَايَةِ فَإِنَّمَا بَعْدَ صِحَّةِ نِسْبَتِهَا إلَى مَالِكٍ وَالْمَرْأَةُ يُحْتَمَلُ خَطَؤُهَا، فَإِنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ انْقَطَعَ دَمُهَا أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ بِتَمَامِهَا كَانَتْ حَامِلًا فِيهَا لِجَوَازِ أَنَّهَا امْتَدَّ طُهْرُهَا سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ حَبِلَتْ، وَوُجُودُ الْحَرَكَةِ مَثَلًا فِي الْبَطْنِ لَوْ وُجِدَ لَيْسَ قَاطِعًا فِي الْحَمْلِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ غَيْرَ الْوَلَدِ، وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا عَنْ امْرَأَةٍ أَنَّهَا وَجَدَتْ ذَلِكَ مُدَّةَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْحَرَكَةِ وَانْقِطَاعِ الدَّمِ وَكِبَرِ الْبَطْنِ وَإِدْرَاكِ الطَّلْقِ فَحِينَ جَلَسَتْ الْقَابِلَةُ تَحْتَهَا أَخَذَتْ فِي الطَّلْقِ فَكُلَّمَا طُلِقَتْ اعْتَصَرَتْ مَاءً هَكَذَا شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى أَنْ انْضَمَرَ بَطْنُهَا وَقَامَتْ عَنْ قَابِلَتِهَا عَنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ لَا يُعَارِضُ الرِّوَايَاتِ.
وَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَثْبَتَ نَسَبَ وَلَدِ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَتَيْنِ ثُمَّ قَدِمَ فَوَجَدَهَا حَامِلًا فَهَمَّ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: إنْ كَانَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَتَرَكَهَا حَتَّى وَلَدَتْ وَلَدًا قَدْ نَبَتَتْ ثَنِيَّتَاهُ يُشْبِهُ أَبَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ الرَّجُلُ قَالَ: وَلَدِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَإِنَّمَا هُوَ بِقِيَامِ الْفِرَاشِ وَدَعْوَى الرَّجُلِ نَسَبَهُ.
(قَوْلُهُ وَأَقَلُّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ) وَلَا خِلَافَ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} مَعَ تَفْسِيرِ الْفِصَالِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِكَوْنِهِ
وَالشَّافِعِيُّ يُقَدِّرُ الْأَكْثَرَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْهُ سَمَاعًا إذْ الْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ.
(وَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمِ اشْتَرَاهَا لَزِمَهُ وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ)
فِي عَامَيْنِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْفَاضِلِ لِلْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَرَّرَهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّضَاعِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَضْرُوبَةٌ بِتَمَامِهَا لِكُلٍّ مِنْ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنْقِصَ قَامَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْحَمْلُ وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ.
قُلْنَا: قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ يُرَادُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِينَ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةُ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ فَلَعَلَّهُ رَجَعَ إلَى الصَّحِيحِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ذَكَرَهُ هُنَا وَمَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْرِدُهُ لَا هُوَ فَنَقَلَ بَعْضَهُ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ عُثْمَانُ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَمَا إنَّهَا لَوْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَخَصَمَتْكُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} وَقَالَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فَلَمْ يَبْقَ لِلْحَمْلِ إلَّا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَدَرَأَ عُثْمَانُ رضي الله عنه الْحَدَّ عَنْهَا. فَالتَّمَسُّكُ بِدَرْءِ عُثْمَانَ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ أَحَدٍ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَمُفِيدٌ لِقَطْعِيَّةِ إرَادَةِ كَوْنِ الْمُدَّةِ بِمَجْمُوعِ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّتِهِ حَيْثُ سَكَتُوا وَرَتَّبُوا الْحُكْمَ بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ يَبْطُلُ تَمَسُّكُهُ فِي الرَّضَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ التَّنَاقُضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَطَلَّقَهَا) أَيْ بَعْدَ الدُّخُولِ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا قَبْلَ أَنْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا لَزِمَهُ: أَيْ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَلَفْظُ يَوْمٍ بَعْدَ مُنْذُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَقَيَّدْنَا بِبَعْدِ الدُّخُولِ وَوَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ إلَّا أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ فَارَقَهَا لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ لَهَا أَوْ بَعْدَهُ وَالطَّلَاقُ ثِنْتَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ.
(قَوْلُهُ وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَجِئْ بِهِ لِأَقَلَّ بَلْ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ
لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّ الْعُلُوقَ سَابِقٌ عَلَى الشِّرَاءِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَلَدُ الْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّهُ يُضَافُ الْحَادِثُ إلَى أَقْرَبِ وَقْتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَعْوَةٍ، وَهَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدًا بَائِنًا أَوْ خُلْعًا أَوْ رَجْعِيًّا، أَمَّا إذَا كَانَ اثْنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً غَلِيظَةً فَلَا يُضَافُ الْعُلُوقُ إلَّا إلَى مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِالشِّرَاءِ.
أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيهِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ لِلتَّيَقُّنِ بِكَوْنِ الْعُلُوقِ سَابِقًا عَلَى الشِّرَاءِ، وَوَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِلَا دَعْوَةٍ.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلَدَ الْمَمْلُوكَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَعْوَةٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا كَانَ وَاحِدَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ إذْ لَا يَظْهَرُ عِدَّتُهَا فِي حَقِّهِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّتُهُ، وَالْمَرْأَةُ مَتَى وَلَدَتْ وَالْوَطْءُ حَلَالٌ يُقْضَى بِالْعُلُوقِ مِنْ أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ شَكًّا وَأَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَاعْتِبَارُهَا فِي الْأَوَّلِ يُوجِبُ أَنَّهُ وَلَدُ الْمُعْتَدَّةِ.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُوجِبُ أَنَّهُ وَلَدُ الْمَمْلُوكَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَعْوَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ ثِنْتَيْنِ حَيْثُ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ بِهِ تَحْرُمُ الْأَمَةُ حُرْمَةً غَلِيظَةً فَلَا يَحِلُّهَا الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْمُحَرَّمَةِ حُرْمَةً غَلِيظَةً مُغَيَّاةٌ بِنِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ عَلَى مَا عُرِفَ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْعُلُوقِ مِنْ أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَيْهِمَا بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ فَقَضَيْنَا بِالْعُلُوقِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ حَمْلًا لِأَمْرِهِمَا عَلَى الصَّلَاحِ وَقَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا بِلَا دَعْوَةٍ، ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْوَاحِدَةُ رَجْعِيَّةً وَهُوَ وَلَدُ
(وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَلَدٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتْ عَلَى الْوِلَادَةِ امْرَأَةٌ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَمَنْ قَالَ لِغُلَامٍ هُوَ ابْنِي ثُمَّ مَاتَ فَجَاءَتْ أُمُّ الْغُلَامِ وَقَالَتْ أَنَا امْرَأَتُهُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَهُوَ ابْنُهُ
الْمُعْتَدَّةِ فَيَلْزَمُهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِعَشْرِ سِنِينَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَأَكْثَرَ بَعْدَ كَوْنِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا ثَبَتَ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بَعْدَ كَوْنِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الشِّرَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ ثَابِتٌ عِنْدَ عَدَمِ الطَّلَاقِ، يَعْنِي لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ كَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ لِلرَّجْعِيَّةِ ثَابِتًا.
وَلَوْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الْمَوْطُوءَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ اشْتَرَاهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيهِ الزَّوْجُ، لِأَنَّ النِّكَاحَ بَطَلَ بِالشِّرَاءِ وَصَارَتْ بِحَالٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ لَوْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ إلَّا بِدَعْوَةٍ وَالْعِتْقُ مَا زَادَهَا إلَّا بُعْدًا مِنْهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ بِلَا دَعْوَةٍ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ بَطَلَ النِّكَاحُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ لَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ لِلْمِلْكِ وَبِالْعِتْقِ ظَهَرَتْ، وَحُكْمُ مُعْتَدَّةٍ عَنْ بَائِنٍ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا تِلْكَ. وَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَهُ لِلْعِلْمِ بِثُبُوتِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ الْعَقْدِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْتِقْهَا وَلَكِنْ بَاعَهَا فَوَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُذْ بَاعَهَا؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ ادَّعَاهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي لِمَا مَرَّ أَنَّ النِّكَاحَ بَطَلَ؛ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ بِلَا تَصْدِيقٍ كَمَا قَالَ فِي الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ هُنَا لَا يَثْبُتُ بِلَا دَعْوَةٍ لِأَنَّ الْعِدَّةَ ظَهَرَتْ ثَمَّ وَلَمْ تَظْهَرْ هُنَا. وَلَوْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ مُسْلِمٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِسْلَامِ فَنَفَاهُ لَاعَنَ وَيَقْطَعُ نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَإِنْ احْتَمَلَ عُلُوقَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِهِ لَا لِعَانَ لَكِنَّ الْعُلُوقَ حَادِثٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْحَوَادِثِ مَا قُلْنَا. وَكَذَا حُرٌّ تَحْتَهُ أَمَةٌ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ لَاعَنَ وَإِنْ احْتَمَلَ الْعُلُوقُ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمْ يُنْتَقَضُ بِمَسَائِلَ: إحْدَاهَا مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِيجَابِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْهُ فَالْإِيجَابُ عَلَى إبْهَامِهِ وَلَا تَتَعَيَّنُ ضَرَّتُهَا لِلطَّلَاقِ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ. وَثَانِيَتُهَا مَا لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حَبِلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ التَّعْلِيقِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، فَكَذَا لَوْ كَانَ هَذَا فِي تَعْلِيقِ الْعَتَاقِ بِالْحَبَلِ. وَثَالِثَتُهَا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا، وَلَوْ كَانَتْ الْحَوَادِثُ تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لَثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ: أَعْنِي الْبَيَانَ وَالطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ. قُلْنَا: الْحَوَادِثُ إنَّمَا تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ إبْطَالَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالدَّلِيلِ أَوْ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْمُقْتَضَى، أَمَّا إذَا تَضَمَّنَتْ فَلَا، فَمَتَى عَوَّلْت عَلَى مَا قُلْنَا ثُمَّ اسْتَقْرَيْت الْمَسَائِلَ وَجَدْت الْأَمْرَ عَلَيْهِ، فَفِي ثُبُوتِ الطَّلَاقِ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ إبْطَالُ مَا كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ بِلَا يَقِينٍ، وَفِي الرَّجْعَةِ كَذَلِكَ مَعَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ الدَّالِ عَلَى اسْتِكْرَاهِ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ الْقَوْلِ.
(قَوْلُهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُودِ النَّسَبِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الدَّعْوَةُ، وَالْحَاجَةُ إلَى
يَرِثَانِهِ) وَفِي النَّوَادِرِ جُعِلَ هَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّ النَّسَبَ كَمَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَبِالْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةٍ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالْحُرِّيَّةِ وَبِكَوْنِهَا أُمَّ الْغُلَامِ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِذَلِكَ وَضْعًا وَعَادَةً (وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَنْتِ أُمُّ وَلَدٍ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا) لِأَنَّ ظُهُورَ الْحُرِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ حُجَّةٌ فِي دَفْعِ الرِّقِّ لَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
تَعْيِينِ الْوَلَدِ وَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ: أَيْ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، هَذَا إذَا وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَلْزَمُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَبِلَتْ بَعْدَ مَقَالَةِ الْمَوْلَى فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مُدَّعِيًا هَذَا الْوَلَدَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لَتَيَقَّنَّا بِقِيَامِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْقَوْلِ فَتَيَقَّنَّا بِالدَّعْوَى.
(قَوْلُهُ يَرِثَانِهِ إلَخْ) فَإِنْ قِيلَ: ثُبُوتُ النِّكَاحِ هُنَا اقْتِضَائِيٌّ فَيَثْبُتُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ تَصْحِيحُ النَّسَبِ دُونَ الْإِرْثِ. قُلْنَا: النِّكَاحُ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ إلَى مَا هُوَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مَلْزُومٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ ثَبَتَ بِلَازِمِهِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا بِخِلَافِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ.
(قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَأَنَّهَا أُمُّ الْوَلَدِ) وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا حُرَّةً هِيَ أُمُّ ابْنِهِ لَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَادَةً وَعُرْفًا لِأَنَّهُ الْمَوْضُوعُ لِحُصُولِ الْأَوْلَادِ دُونَ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ فَهُمَا احْتِمَالَانِ لَا يُعْتَبَرَانِ فِي مُقَابَلَةِ الظَّاهِرِ الْقَوِيِّ، وَكَذَا احْتِمَالُ كَوْنِهِ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النِّكَاحُ وَجَبَ الْحُكْمُ بِقِيَامِهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ زَوَالُهُ.
(قَوْلُهُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا) قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَلَكِنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالدُّخُولِ بِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ بِقَوْلِهِمْ.
(قَوْلُهُ لَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ) فَلَا يُقْضَى بِهِ كَالْمَفْقُودِ يُجْعَلُ حَيًّا فِي مَالِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ غَيْرُهُ مِنْهُ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ مَفْقُودٌ مِنْ أَحَدٍ.
بَابُ الْوَلَدِ مَنْ أَحَقُّ بِهِ
(وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَزَعَمَ أَبُوهُ أَنَّهُ يَنْزِعُهُ مِنِّي، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي» وَلِأَنَّ الْأُمَّ أَشْفَقُ وَأَقْدَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهَا أَنْظَرَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الصِّدِّيقُ بِقَوْلِهِ: رِيقُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ شَهْدٍ وَعَسَلٍ عِنْدَك يَا عُمَرُ، قَالَهُ حِينَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَالصَّحَابَةُ حَاضِرُونَ مُتَوَافِرُونَ
(بَابُ الْوَلَدِ مَنْ أَحَقُّ بِهِ)
لَمَّا ذَكَرَ ثُبُوتَ نَسَبِ الْوَلَدِ عَقِيبَ أَحْوَالِ الْمُعْتَدَّةِ ذَكَرَ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ الْوَلَدُ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ إلَخْ) هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي غَيْرِ مَا إذَا وَقَعَتْ بِرِدَّتِهَا لَحِقَتْ أَوْ لَا لِأَنَّهَا تُحْبَسُ وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَابَتْ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ وَمَا إذَا لَمْ تَكُنْ أَهْلًا لِلْحَضَانَةِ بِأَنْ كَانَتْ فَاسِقَةً أَوْ تَخْرُجُ كُلُّ وَقْتٍ وَتَتْرُكُ الْبِنْتَ ضَائِعَةً أَوْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً وَلَدَتْ ذَلِكَ الْوَلَدَ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوْ مُتَزَوِّجَةً بِغَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا وَأَبَتْ الْأُمُّ أَنْ تُرَبِّيَ إلَّا بِأَجْرٍ وَقَالَتْ: الْعَمَّةُ أَنَا أُرَبِّي بِغَيْرِ أَجْرٍ فَإِنَّ الْعَمَّةَ أَوْلَى هُوَ الصَّحِيحُ.
(قَوْلُهُ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ) بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً لِأَنَّ الشَّفَقَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً) فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَعَمْرٌو هَذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَإِذَا أَرَادَ بِجَدِّهِ مُحَمَّدًا كَانَ مُرْسَلًا، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُتَّصِلًا، فَمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُحْتَمِلًا لِلْإِرْسَالِ وَالِاتِّصَالِ، وَهُنَا نَصَّ عَلَى جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَحَجْرُ الْإِنْسَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَالْحِوَاءُ بِالْكَسْرِ: بَيْتٌ مِنْ الْوَبَرِ وَالْجَمْعُ الْأَحْوِيَةُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْأُمَّ أَشْفَقُ عَلَيْهِ) إبْدَاءٌ لِحِكْمَةِ خُصُوصِ هَذَا الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ أَشْفَقَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ جَزَاءً لَهَا حَقِيقَةً حَتَّى قَدْ يُقْرَضُ بِالْمِقْرَاضِ وَأَقْدَرَ عَلَى الْحَضَانَةِ لِتَبَتُّلِهَا بِمَصَالِحِهِ،
(وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ) عَلَى مَا نَذْكُرُ (وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهَا عَسَتْ تَعْجِزُ عَنْ الْحَضَانَةِ
وَالرَّجُلُ أَقْدَرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَلِذَا جُعِلَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ لَهُ مَالٌ وَجُعِلَ عِنْدَهَا. وَقَوْلُهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الصِّدِّيقُ إلَخْ يُشِيرُ إلَى مَا فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمًا، ثُمَّ فَارَقَهَا عُمَرُ رضي الله عنه فَرَكِبَ يَوْمًا إلَى قُبَاءَ فَوَجَدَ ابْنَهُ يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلَامِ فَنَازَعَتْهُ إيَّاهُ، فَأَقْبَلَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا ابْنِي، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: ابْنِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَمَا رَاجَعَهُ عُمَرُ الْكَلَامَ. وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَزَادَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه طَلَّقَ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَفْلَحْ فَتَزَوَّجَتْ فَجَاءَ عُمَرُ فَأَخَذَ ابْنَهُ، فَأَدْرَكَتْهُ شُمُوسٌ أُمُّ ابْنَةِ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيَّةُ وَهِيَ أُمُّ جَمِيلَةَ فَأَخَذَتْهُ فَتَرَافَعَا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِهَا فَأَخَذَتْهُ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ أُمَّ عَاصِمٍ ثُمَّ أَتَى عَلَيْهَا وَفِي حِجْرِهَا عَاصِمٌ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهَا فَتَجَاذَبَاهُ بَيْنَهُمَا حَتَّى بَكَى الْغُلَامُ فَانْطَلَقَا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مَسْحُهَا وَحِجْرُهَا وَرِيحُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْك حَتَّى يَشِبَّ الصَّبِيُّ فَيَخْتَارُ لِنَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ عَلَى مَا نَذْكُرُ) أَيْ فِي بَابِ النَّفَقَةِ، وَهَذَا إنْ كَانَ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَعَلَى ذِي الرَّحِمِ الْوَارِثِ عَلَى قَدْرِ الْمَوَارِيثِ (قَوْلُهُ وَلَا تُجْبَرُ) يَعْنِي إذَا طَلَبَتْ الْأُمُّ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ أَبَتْ لَا تُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ تُجْبَرُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو اللَّيْثِ وَالْهِنْدُوانِيُّ مِنْ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْوَلَدِ، قَالَ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: لَا تُجْبَرُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي لَا عَادَةَ لَهَا بِالْإِرْضَاعِ، وَتُجْبَرُ الَّتِي هِيَ مِمَّنْ تُرْضِعُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا أَوْ لَمْ يَأْخُذْ الْوَلَدُ ثَدْيَ غَيْرِهَا أُجْبِرَتْ بِلَا خِلَافٍ. وَيُجْبَرُ الْأَبُ عَلَى أَخْذِ الْوَلَدِ بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأُمِّ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَصِيَانَتَهُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَدْ تَعَاسَرَا فَكَانَتْ الْآيَةُ لِلنَّدْبِ أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى حَالَةِ الِاتِّفَاقِ وَعَدَمِ التَّعَاسُرِ وَلِأَنَّهَا عَسَى أَنْ تَعْجِزَ عَنْهُ، لَكِنَّ فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ الَّذِي هُوَ جَمَعَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ: لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ تَتْرُكَ وَلَدَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أُمِّهِ كَانَ إلَيْهَا مُحْتَاجًا هَذَا لَفْظُهُ، فَأَفَادَ أَنَّ قَوْلَ الْفَقِيهَيْنِ جَوَابُ الرِّوَايَةِ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْإِرْضَاعِ بَلْ فِي الْحَضَانَةِ. قَالَ فِي التُّحْفَةِ: ثُمَّ الْأُمُّ وَإِنْ كَانَتْ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إرْضَاعُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ، وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ تُرْضِعُهُ فَتُجْبَرُ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أُمٌّ تَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بِأَنْ كَانَتْ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْحَضَانَةِ أَوْ مُتَزَوِّجَةً بِغَيْرِ مُحَرَّمٍ أَوْ مَاتَتْ فَأُمُّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَإِنْ عَلَتْ. وَعَنْ أَحْمَدَ أُمُّ الْأَبِ أَوْلَى وَإِنْ اسْتَضْعَفَ بِأَنَّ
(فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أُمٌّ فَأُمُّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أُمِّ الْأَبِ وَإِنْ بَعُدَتْ) لِأَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ تُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّ الْأُمِّ فَأُمُّ الْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْأَخَوَاتِ) لِأَنَّهَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ، وَلِهَذَا تَحَرَّزَ مِيرَاثُهُنَّ السُّدُسُ وَلِأَنَّهَا أَوْفَرُ شَفَقَةً لِلْوِلَادِ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ جَدَّةٌ فَالْأَخَوَاتُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ) لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ الْأَبَوَيْنِ وَلِهَذَا قُدِّمْنَ فِي الْمِيرَاثِ. وَفِي رِوَايَةِ الْخَالَةِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْخَالَةُ وَالِدَةٌ» وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} أَنَّهَا كَانَتْ خَالَتَهُ (وَتُقَدَّمُ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ) لِأَنَّهَا أَشْفَقُ (ثُمَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ ثُمَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ (ثُمَّ الْخَالَاتُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ) تَرْجِيحًا لِقَرَابَةِ الْأُمِّ (وَيَنْزِلْنَ كَمَا نَزَلْنَا الْأَخَوَاتُ) مَعْنَاهُ تَرْجِيحُ ذَاتِ قَرَابَتَيْنِ ثُمَّ قَرَابَةٍ الْأُمِّ
أُمَّ الْأُمِّ تُدْلِي بِالْأُمِّ وَهِيَ الْمُقَدَّمَةُ عَلَى الْأَبِ، فَمَنْ يُدْلِي بِهَا وِلَادًا أَحَقُّ مِمَّنْ يُدْلِي بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْأُمِّ أُمٌّ فَأُمُّ الْأَبِ أَوْلَى مِمَّنْ سِوَاهَا وَإِنْ عَلَتْ.
وَعِنْدَ زُفَرَ الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْهَا. وَعَنْ مَالِكٍ الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ الْجَدَّةِ لِأَبٍ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرَ الطَّيَّارَ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ اخْتَصَمُوا فِي بِنْتِ حَمْزَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا هِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ زَيْدٌ: بِنْتُ أَخِي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: بِنْتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِخَالَتِهَا وَقَالَ: الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَقَالَ لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ «إنَّمَا الْخَالَةُ أُمٌّ» وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ «وَأَمَّا أَنْتَ يَا زَيْدُ فَأَخُونَا وَمَوْلَانَا وَالْجَارِيَةُ عِنْدَ خَالَتِهَا، فَإِنَّ الْخَالَةَ وَالِدَةٌ» قُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ تَشْبِيهٌ، فَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ فِي ثُبُوتِ الْحَضَانَةِ أَوْ غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ السِّيَاقَ أَفَادَ إرَادَةَ الْأَوَّلِ فَيَبْقَى أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فِي ثُبُوتِ أَصْلِ الْحَضَانَةِ أَوْ كَوْنِهَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ كُلِّ مَنْ سِوَاهَا، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الثَّانِي وَالْأَوَّلُ مُتَيَقِّنٌ فَيَثْبُتُ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمُ بِأَنَّهَا أَحَقُّ مِنْ أَحَدٍ بِخُصُوصِهِ أَصْلًا مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ فَيَبْقَى الْمَعْنَى الَّذِي عَنَيْنَاهُ بِلَا مُعَارِضٍ وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّةَ أُمٌّ وَلِهَذَا تَحَرَّزَ مِيرَاثُ الْأُمِّ مِنْ السُّدُسِ، وَغَلَبَةُ الشَّفَقَةِ تَتْبَعُ الْوِلَادَ ظَاهِرًا فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَدَّةً سُفْلَى وَلَا عُلْيَا فَالْأَخَوَاتُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ الْأَبَوَيْنِ وَأُولَئِكَ بَنَاتُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالشَّقِيقَةُ أَوْلَى مِنْ
(ثُمَّ الْعَمَّاتُ يَنْزِلْنَ كَذَلِكَ، وَكُلُّ مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْقُطُ حَقُّهَا) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ زَوْجَ الْأُمِّ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا يُعْطِيهِ نَزْرًا وَيَنْظُرُ إلَيْهِ شَزْرًا فَلَا نَظَرَ. قَالَ (إلَّا الْجَدَّةَ إذَا كَانَ زَوْجُهَا الْجَدُّ) لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ أَبِيهِ فَيَنْظُرُ لَهُ (وَكَذَلِكَ كُلُّ زَوْجٍ هُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ) لِقِيَامِ الشَّفَقَةِ نَظَرًا إلَى الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ (وَمَنْ سَقَطَ حَقُّهَا بِالتَّزَوُّجِ يَعُودُ إذَا ارْتَفَعَتْ الزَّوْجِيَّةُ) لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ.
(فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلصَّبِيِّ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ فَاخْتَصَمَ فِيهِ الرِّجَالُ فَأَوْلَاهُمْ أَقْرَبُهُمْ تَعْصِيبًا) لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْأَقْرَبِ وَقَدْ عُرِفَ التَّرْتِيبُ فِي مَوْضِعِهِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تُدْفَعُ إلَى عَصَبَةٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ كَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَابْنِ الْعَمِّ تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ.
غَيْرِهَا، وَاَلَّتِي لِأُمٍّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَبَعْدَ الْأُخْتِ لِأَبِ الْخَالَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ: الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِالْأُمِّ وَتِلْكَ بِالْأَبِ. وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ: الْأُخْتُ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ اعْتِبَارًا لِقُرْبِ الْقَرَابَةِ وَتَقْدِيمِ الْمُدْلِي بِالْأُمِّ عَلَى الْمُدْلِي بِالْأَبِ عِنْدَ اتِّحَادِ مَرْتَبَتِهِمَا قُرْبًا، فَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ تُدْفَعُ بَعْدَ الْأُخْتِ لِأَبٍ إلَى بِنْتِ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ، ثُمَّ إلَى بِنْتِ الْأُخْتِ لِأُمٍّ، ثُمَّ إلَى بِنْتِ الْأُخْتِ لِأَبٍ، ثُمَّ إلَى الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ، ثُمَّ إلَى الْخَالَةِ لِأُمٍّ ثُمَّ لِأَبٍ، ثُمَّ الْعَمَّاتِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، ثُمَّ إلَى خَالَةِ الْأُمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ لِأُمٍّ ثُمَّ لِأَبٍ، ثُمَّ إلَى عَمَّاتِهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَخَالَةُ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ خَالَةِ الْأَبِ عِنْدَنَا، ثُمَّ خَالَاتُ الْأَبِ وَعَمَّاتُهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ أَوْلَادَ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ مِنْ الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ، وَأَنَّ الْأُخْتَ لِأُمٍّ أَحَقُّ مِنْ وَلَدِ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنْ بَنَاتِ الْأَخِ لِأَنَّ بِنْتَ الْأُخْتِ تُدْلِي إلَى مَنْ لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ، وَأَمَّا بَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ فَبِمَعْزِلٍ عَنْ حَقِّ الْحَضَانَةِ لِأَنَّ قَرَابَتَهُنَّ لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالْمَحْرَمِيَّةِ.
(قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي» وَالنَّزْرُ الْقَلِيلُ وَالشَّزْرُ نَظَرُ الْبُغْضِ. وَلَوْ ادَّعَى الْأَبُ أَنَّ الْأُمَّ تَزَوَّجَتْ وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ لَهَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالتَّزَوُّجِ إلَّا أَنَّهَا ادَّعَتْ الطَّلَاقَ وَعَوْدَ حَقِّهَا، فَإِنْ لَمْ تُعَيِّنْ الزَّوْجَ فَالْقَوْلُ لَهَا، وَإِنْ عَيَّنَتْهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي دَعْوَى الطَّلَاقِ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ الزَّوْجُ.
(قَوْلُهُ فَاخْتَصَمَ) الْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ وَجَبَ الِانْتِزَاعُ
(وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ حَتَّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: حَتَّى يُسْتَغْنَى فَيَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ وَيَلْبَسُ وَحْدَهُ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى يَحْتَاجُ إلَى التَّأَدُّبِ وَالتَّخَلُّقِ بِآدَابِ الرِّجَالِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَالْأَبُ أَقْدَرُ عَلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّثْقِيفِ، وَالْخَصَّافُ قَدَّرَ الِاسْتِغْنَاءَ بِسَبْعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ (وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ) لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ آدَابِ النِّسَاءِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ تَحْتَاجُ إلَى التَّحْصِينِ وَالْحِفْظِ وَالْأَبُ فِيهِ أَقْوَى وَأَهْدَى. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْأَبِ إذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الصِّيَانَةِ.
مِنْ النِّسَاءِ أَخَذَهُ الرِّجَالُ، وَأَوْلَاهُمْ أَقْرَبُهُمْ تَعْصِيبًا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ، وَلِذَلِكَ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ الْحَضَانَةِ كَانَ الْأَوْلَى بِحِفْظِهِ أَقْرَبَهُمْ تَعْصِيبًا، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ: أَيْ فِي الْفَرَائِضِ، وَأَوْلَى الْعُصُبَاتِ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ الْأَخُ الشَّقِيقُ، ثُمَّ الْأَبُ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقُ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ سَفَلَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ الْعَمُّ شَقِيقٌ لِأَبٍ، ثُمَّ الْأَبُ. فَأَمَّا أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ فَيُبْدَأُ بِابْنِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ، وَلَا تُدْفَعُ الصَّغِيرَةُ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَحَارِمَ وَإِنَّمَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرَةِ عُصْبَةٌ تُدْفَعُ إلَى الْأَخِ لِأُمٍّ ثُمَّ إلَى وَلَدِهِ ثُمَّ إلَى الْعَمِّ لِأُمٍّ، ثُمَّ إلَى الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ لِأُمٍّ، لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي النِّكَاحِ. وَيُدْفَعُ الذَّكَرُ إلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعُصُبَاتِ، وَلَا تُدْفَعُ الْأُنْثَى إلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَ فِي الْمَحَارِمِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ مَنْ لَا يُؤْمَنُ عَلَى صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ لِفِسْقِهِ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الْإِمْسَاكِ، الْكُلُّ مِنْ الْكَافِي. وَإِذَا اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّو الْحَضَانَةِ فِي دَرَجَةٍ كَإِخْوَةٍ وَأَعْمَامٍ فَأَصْلَحُهُمْ أَوْلَى، فَإِنْ تَسَاوَوْا فَأَسَنُّهُمْ.
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً فَإِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ.
(قَوْلُهُ حَتَّى يَأْكُلَ إلَخْ) الَّذِي فِي الْأَصْلِ حَتَّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ النَّوَادِرِ: وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ، فَضَمَّهُ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا تَقَدَّمَ. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ رَشِيدٍ: وَيَتَوَضَّأُ وَحْدَهُ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيَحْصُلَ الِاسْتِغْنَاءُ. ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ تَمَامُ الطَّهَارَةِ بِأَنْ يُطَهِّرَ وَجْهَهُ وَحْدَهُ بِلَا مُعِينٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَمَامِ الطَّهَارَةِ.
(قَوْلُهُ وَالْخَصَّافُ رحمه الله قَدَّرَ الِاسْتِغْنَاءَ بِسَبْعِ سِنِينَ) وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، لَا مَا قِيلَ: إنَّهُ يُقَدَّرُ بِتِسْعٍ لِأَنَّ الْأَبَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَلَدُ عِنْدَهُ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ ابْنُ سَبْعٍ وَقَالَتْ ابْنُ سِتٍّ لَا يُحَلِّفُ الْقَاضِي أَحَدَهُمَا وَلَكِنْ يَنْظُرُ إنْ كَانَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَلْبَسُ وَحْدَهُ دَفَعَ وَإِلَّا فَلَا.
(قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهَا تُدْفَعُ إلَى الْأَبِ إذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ) وَهِيَ
(وَمَنْ سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَبْلُغَ حَدًّا تُشْتَهَى، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: حَتَّى تَسْتَغْنِيَ) لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا، وَلِهَذَا لَا تُؤَاجِرُهَا لِلْخِدْمَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ لِقُدْرَتِهِمَا عَلَيْهِ شَرْعًا.
قَالَ (وَالْأَمَةُ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ كَالْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ) لِأَنَّهُمَا حُرَّتَانِ أَوَانَ ثُبُوتَ الْحَقِّ (وَلَيْسَ لَهُمَا قَبْلَ الْعِتْقِ حَقٌّ فِي الْوَلَدِ لِعَجْزِهِمَا) عَنْ الْحَضَانَةِ بِالِاشْتِغَالِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى (وَالذِّمِّيَّةُ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَعْقِلْ الْأَدْيَانَ أَوْ يَخَفْ أَنْ يَأْلَفَ الْكُفْرَ)
رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْهُ. وَفِي غِيَاثِ الْمُفْتِي الِاعْتِمَادُ عَلَى رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ لِفَسَادِ الزَّمَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الشَّهْوَةِ لِيُبْنَى عَلَيْهَا أَخْذَ الْأَبِ وَثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، قَالُوا: بِنْتُ تِسْعٍ مُشْتَهَاةٌ، وَخَمْسٍ لَيْسَتْ مُشْتَهَاةً، وَسِتٍّ وَسَبْعٍ وَثَمَانٍ إنْ كَانَتْ عَبْلَةً مُشْتَهَاةٌ وَإِلَّا فَلَا.
(قَوْلُهُ وَمَنْ سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ) يَعْنِي الْجَدَّتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَالْأَبِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا) شَرْعًا، وَتَعْلِيمُ آدَابِ النِّسَاءِ مِنْ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَالْغَزْلِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِخْدَامِ (بِخِلَافِ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ لِقُدْرَتِهِمَا عَلَيْهِ شَرْعًا) وَلِذَا جَازَ أَنْ تُؤَاجِرَهَا. قَالَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ الشَّهِيدُ: فَإِنْ كَانَتْ الْبِكْرُ دَخَلَتْ فِي السِّنِّ وَاجْتَمَعَ عَقْلُهَا وَرَأْيُهَا وَأَخُوهَا مَخُوفٌ عَلَيْهَا فَلَهَا أَنْ تَنْزِلَ حَيْثُ أَحَبَّتْ فِي مَكَان لَا يُتَخَوَّفُ عَلَيْهَا.
(قَوْلُهُ وَالْأَمَةُ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ كَالْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ) وَحَالُ الْحُرَّةِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا كَانَ مَوْلَاهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ حُرًّا كَانَتْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَمِنْ مَوْلَاهُ إنْ كَانَ لَهُ مَوْلًى أَعْتَقَهُ، وَمِنْ مَوْلَاهَا إنْ كَانَ ابْنُهَا مِنْهُ قَبْلَ عِتْقِهَا، وَلَوْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَالْوَلَدُ لِمَوْلَاهَا وَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا وَلَمْ يُفَارِقْ أُمَّهُ فَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِالْوَلَدِ لَكِنْ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي. وَفِي التُّحْفَةِ: الْمُكَاتَبَةُ إنْ وَلَدَتْ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لَا حَقَّ لَهَا، وَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْكِتَابَةِ.
(قَوْلُهُ وَيَخَافُ) بِالرَّفْعِ اسْتِئْنَافًا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: أَوْ يَخَفْ
لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحْتِمَالِ الضَّرَرِ بَعْدَهُ (وَلَا خِيَارَ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُمَا الْخِيَارُ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام خَيَّرَ. وَلَنَا أَنَّهُ لِقُصُورِ عَقْلِهِ يَخْتَارُ مَنْ عِنْدَهُ الدَّعَةُ لِتَخْلِيَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّعِبِ فَلَا يَتَحَقَّقُ النَّظَرُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُخَيِّرُوا، أَمَّا الْحَدِيثُ فَقُلْنَا قَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «اللَّهُمَّ اهْدِهِ» فَوُفِّقَ لِاخْتِيَارِهِ الْأَنْظَرَ بِدُعَائِهِ عليه الصلاة والسلام، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا كَانَ بَالِغًا.
بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى يَعْقِلْ، وَتُمْنَعُ أَنْ تُغَذِّيَهُ الْخَمْرَ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَإِنْ خِيفَ ضُمَّ إلَى نَاسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَيُرْوَى بِالنَّصْبِ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى إلَى أَنْ يُخَافَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي، وَلَكِنَّ هَذَا فِي أَوْ لَا الْوَاوِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ لَا حَضَانَةَ لَهَا، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ كَقَوْلِنَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَوْلُهُ لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ دَافِعٌ لِقَوْلِهِمْ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَنْظَرَ لِلصَّغِيرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأُمِّ لِوُفُورِ شَفَقَتِهَا وَزِيَادَةِ قُدْرَتِهَا عَلَى التَّبَتُّلِ بِمُلَاحَظَتِهِ وَمَصَالِحِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ الدِّينِيِّ يَرْتَفِعُ بِمَا ذَكَرْنَا.
(قَوْلُهُ وَلَا خِيَارَ لِلْغُلَامِ) يَعْنِي إذَا بَلَغَ السِّنَّ الَّذِي يَكُونُ الْأَبُ أَحَقَّ بِهِ كَسَبْعٍ مَثَلًا أَخَذَهُ الْأَبُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِ الْغُلَامِ ذَلِكَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخَيَّرُ الْغُلَامُ فِي سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ يُخَيَّرُ فِي سَبْعٍ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا وَسَلَّمَ إلَيْهِ ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرُ فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ عَادَ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أُعِيدَ إلَيْهِ هَكَذَا أَبَدًا. قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، وَالْمَعْتُوهُ لَا يُخَيَّرُ وَيَكُونُ عِنْدَ الْأُمِّ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ) أَخْرَجَ الْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِيهِ قِصَّةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ أَنْ يُرْوَى الْحَدِيثُ حَاصِلُهَا أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا فِي وَاقِعَةٍ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثُمَّ رُوِيَ الْحَدِيثُ، وَلَفْظَهُ «سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَقَدْ نَفَعَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْتَهِمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ» وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَأَجَابَ عَنْ الْحَدِيثِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا أَنْ يُوَفَّقَ لِاخْتِيَارِ الْأَنْظَرِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاقِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْفَرَائِضِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ «أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَجَاءَا بِابْنٍ لَهُمَا صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَبَ هُنَا وَالْأُمَّ هُنَا ثُمَّ خَيَّرَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِهِ، فَذَهَبَ إلَى أَبِيهِ» وَفِي لَفْظٍ آخَرَ «أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ ابْنَتِي وَهِيَ فَطِيمٌ، وَقَالَ رَافِعٌ ابْنَتِي، فَأَقْعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأُمَّ نَاحِيَةً وَالْأَبَ نَاحِيَةً وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّةَ نَاحِيَةً وَقَالَ لَهُمَا اُدْعُوَاهَا، فَمَالَتْ الصَّبِيَّةُ إلَى أُمِّهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اهْدِهَا فَمَالَتْ إلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَسَمَّى الْبِنْتَ عُمَيْرَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ رضي الله عنه: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَمَةَ «أَنَّ أَبَوَيْنِ اخْتَصَمَا فِي وَلَدٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمَا كَافِرٌ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَجَّهَ إلَى الْكَافِرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِهِ، فَتَوَجَّهَ إلَى الْمُسْلِمِ فَقَضَى لَهُ بِهِ» قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّوَايَتَيْنِ: اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ غُلَامٌ أَوْ جَارِيَةٌ وَلَعَلَّهُمَا قَضِيَّتَانِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَبَوَيْهِ اخْتَصَمَا فِيهِ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ، وَقَالَ: فِيهِ عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ سَلَمَةَ وَأَبَاهُ وَجَدَّهُ لَا يَعْرِفُونَ، وَلَوْ صَحَّتْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ خِلَافًا لِرِوَايَةِ أَصْحَابِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ فَإِنَّهُمْ ثِقَاتٌ، وَهُوَ وَأَبُوهُ ثِقَتَانِ وَجَدُّهُ رَافِعُ بْنُ سِنَانٍ مَعْرُوفٌ، وَأَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَدُّ أَبِيهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ سِنَانٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ إذَا اخْتَارَ مَنْ اخْتَارَهُ الشَّرْعُ دَفَعَ لَهُ، لَكِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ بِتَخْيِيرِ غَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ دُعَائِهِ فَيَجِبُ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم اعْتِبَارُ مَظِنَّةِ الْأَنْظَرِيَّةِ وَهُوَ فِيمَا قُلْنَا.
ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا بِدَلِيلِ الِاسْتِقَاءِ مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَمَنْ دُونَ الْبُلُوغِ لَا يُرْسَلُ إلَى الْآبَارِ لِلِاسْتِقَاءِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ مِنْ السُّقُوطِ فِيهِ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ غَالِبًا، وَنَحْنُ نَقُولُ: إذَا بَلَغَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَيِّهِمَا أَرَادَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا فَحِينَئِذٍ يَضُمُّهُ إلَى نَفْسِهِ اعْتِبَارًا لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَى الْأَبِ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ.
أَمَّا الْجَارِيَةُ فَإِنْ بَلَغَتْ بِكْرًا ضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ بَلَغَتْ ثَيِّبًا فَلَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى إلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَأْمُونَةٍ عَلَى نَفْسِهَا لَا يَوْثُقُ بِهَا فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَيْهِ، وَكَذَا الْأَخُ، وَلِلْعَمِّ الضَّمُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا، وَإِنْ كَانَ فَحِينَئِذٍ يَضَعُهَا الْقَاضِي عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَلِهَذَا صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَمْ يُخَيِّرُوا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَمَا أَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَيَّرَ ابْنًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَاخْتَارَ أُمَّهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَيْلَ الِابْنِ إلَى أُمِّهِ وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ فَأَحَبَّ تَطْيِيبَ قَلْبِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ فَخَيَّرَهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ أَبَا بَكْرٍ الْكَلَامَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ عَدَمَ الْمُرَاجَعَةِ لَيْسَ دَلِيلًا لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إمَامًا يَجِبُ نَفَاذُ مَا يَحْكُمُ بِهِ مِنْ رَأْيِهِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا لِيُوَافِقَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ.
فَصْلٌ
(وَإِذَا أَرَادَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْأَبِ (إلَّا أَنْ تَخْرُجَ بِهِ إلَى وَطَنِهَا وَقَدْ كَانَ الزَّوْجُ تَزَوَّجَهَا فِيهِ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَقَامَ فِيهِ عُرْفًا وَشَرْعًا، قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ تَأَهَّلَ
(فَصْلٌ)
إذَا ثَبَتَ حَقُّ الْحَضَانَةِ لِلْأُمِّ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِالْوَلَدِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ كَانَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا لِأَنَّ حَقَّ السُّكْنَى لَهُ بَعْدَ إيفَاءِ مُعَجَّلِ الْمَهْرِ خُصُوصًا بَعْدَمَا خَرَجَتْ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ الْبَلْدَةِ الَّتِي تُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَيْهَا بَلَدَهَا وَقَدْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهَا أَوَّلًا، فَفِي الْأَوَّلِ لَيْسَ لِلْأَبِ مَنْعُهَا وَإِنْ بَعُدَتْ كَالْكُوفَةِ مِنْ الشَّامِّ إلَّا أَنْ تَكُونَ دَارَ حَرْبٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ حَرْبِيَّةً، وَلَوْ كَانَ كِلَاهُمَا مُسْتَأْمَنًا جَازَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَقَدَ النِّكَاحَ بِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقِيمُ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ وَجَبَ عَلَيْهَا الْمُتَابَعَةُ أَوْ تَابَعَتْهُ بِلَا وُجُوبٍ. وَإِذَا زَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ لَمْ تَجِبْ الْمُتَابَعَةُ فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَوْلَادُ غَيْبًا بِأَنْ تَزَوَّجَهَا مَثَلًا بِالْبَصْرَةِ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَخَرَجَ بِهِمْ إلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَخَاصَمَتْهُ فِيهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إلَيْهَا، فَإِنْ أَخْرَجَهُمْ بِإِذْنِهَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَجِيءَ بِهِمْ إلَيْهَا وَيُقَالُ لَهَا اذْهَبِي إلَيْهِمْ فَخُذِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَجِيءَ بِهِمْ إلَيْهَا. وَفِي الثَّانِي لَهُ مَنْعُهَا سَوَاءٌ كَانَ مِصْرَهَا وَلَمْ يَعْقِدْ فِيهِ أَوْ عَقَدَ فِيهِ وَلَيْسَ مِصْرَهَا عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ إلَّا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مِصْرٍ قَرِيبٍ، بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ الْأَبُ لِمُطَالَعَةِ الْوَلَدِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ أَوْ قَرْيَتِهِ كَذَلِكَ وَكَانَ الْعَقْدُ فِي قَرْيَةٍ لِأَنَّهُ كَالِانْتِقَالِ مِنْ حَارَةٍ إلَى حَارَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ فِي قَرْيَةٍ بَلْ مِصْرٍ فَلَيْسَ لَهَا إخْرَاجُهُ إلَى الْقَرْيَةِ الْقَرِيبَةِ، هَذَا فِيمَا بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ. أَمَّا لَوْ كَانَتْ الْأُمُّ مَاتَتْ وَصَارَتْ الْحَضَانَةُ لِلْجَدَّةِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ بِالْوَلَدِ إلَى مِصْرِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ، وَكَذَا أُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ لَا تُخْرِجُ الْوَلَدَ مِنْ الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ الْغُلَامُ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ بَيْنَ الْأَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ. وَلِنَتَكَلَّمْ عَلَى فُصُولِ الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)
بِبَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَلِهَذَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِهِ ذِمِّيًّا، وَإِنْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى مِصْرٍ غَيْرِ وَطَنِهَا وَقَدْ كَانَ التَّزَوُّجُ فِيهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَهَذَا رِوَايَةُ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَتَى وُجِدَ فِي مَكَان يُوجِبُ أَحْكَامَهُ فِيهِ كَمَا يُوجِبُ الْبَيْعُ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ حَقُّ إمْسَاكِ الْأَوْلَادِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّزَوُّجَ فِي دَارِ الْغُرْبَةِ لَيْسَ
فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذِئَابٍ، أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُقِيمِ» وَإِنِّي تَأَهَّلْت مُنْذُ قَدِمْت مَكَّةَ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى كَذَلِكَ وَلَفْظُهُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِبَلَدٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ» وَإِنَّمَا أَتْمَمْت لِأَنِّي تَزَوَّجْت بِهَا مُنْذُ قَدِمْتهَا. وَقَدْ ضُعِّفَ عِكْرِمَةُ الْأَزْدِيُّ.
(وَلِهَذَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِهِ ذِمِّيًّا) ظَاهِرُهُ أَنَّ بِالتَّزَوُّجِ يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا وَدَفَعَ فِي الْكَافِي بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُصَرَّحِ بِهِ بَلْ لَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِالتَّزَوُّجِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيًّا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْتِزَامَ الْمَقَامِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَوْدِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَرْبِيَّةِ إذَا تَزَوَّجَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَصِيرُ ذِمِّيَّةً لِعَدَمِ كَوْنِ الطَّلَاقِ فِي يَدِهَا فَيَكُونُ الْتِزَامًا وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِحَمْلِ الْحَرْبِيِّ عَلَى إرَادَةِ الشَّخْصِ الْحَرْبِيِّ فَيَصِحُّ مُرَادًا بِهِ الْحَرْبِيَّةُ وَبِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ الْتِزَامَ الْمَقَامِ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرٌ لَوْ سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي لَيْسَ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي قُوبِلَتْ مَعَ نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَلْ اتَّصَلَ قَوْلُهُ وَإِنْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ بِقَوْلِهِ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَا ذَكَرَ هُنَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَقَعَ سَهْوًا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى تَكَلُّفِ تَوْجِيهِهِ بِمَا قُلْنَا وَبِغَيْرِهِ، وَتَحْمِيلُ الْمُصَنِّفِ إيَّاهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ إنْ كَانَ التَّزَوُّجُ فَهُوَ تَزَوُّجُ الرَّجُلِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِيضَاحُ بِتَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ الْحَرْبِيَّةِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَالْحَالُ أَنَّ صَيْرُورَتَهَا كَذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّهَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْتِزَامَ الْمَقَامِ فَلَيْسَ السَّوْقُ لِإِثْبَاتِهِ.
(قَوْلُهُ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْقُدُورِيُّ وَقِيلَ الْمَبْسُوطُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُعْتَادُ الْمُصَنِّفِ، وَلَا يُسْتَفَادُ الثَّانِي لِعَدَمِ الْمَعْهُودِيَّةِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ تَخْرُجَ بِهَا إلَى وَطَنِهَا يُفِيدُ أَنَّ غَيْرَهُ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ، وَاَلَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّزَوُّجُ غَيْرُ وَطَنِهَا. وَقَوْلُهُ وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الطَّلَاقِ: أَيْ مِنْ الْأَصْلِ، وَفِي الْعَكْسِ وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَتْ الِانْتِقَالَ إلَى مِصْرِهَا وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ لَهَا الِانْتِقَالُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ.
(قَوْلُهُ كَمَا يُوجِبُ الْبَيْعُ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ) أَيْ إذَا كَانَ
الْتِزَامًا لِلْمُكْثِ فِيهِ عُرْفًا، وَهَذَا أَصَحُّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: الْوَطَنُ وَوُجُودُ النِّكَاحِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ تَفَاوُتٌ، أَمَّا إذَا تَقَارَبَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ لِلْوَالِدِ أَنْ يُطَالِعَ وَلَدَهُ وَيَبِيتَ فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْقَرْيَتَيْنِ، وَلَوْ انْتَقَلَتْ مِنْ قَرْيَةِ الْمِصْرِ إلَى الْمِصْرِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ حَيْثُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ بِالْأَبِ، وَفِي عَكْسِهِ ضَرَرٌ بِالصَّغِيرِ لِتَخَلُّقِهِ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ السَّوَادِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.
الْمَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ فِي الْفَتَاوَى: مَنْ بَاعَ شَعِيرًا وَالشَّعِيرُ فِي الْقَرْيَةِ وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ فِي مَكَانِهِ لَا فِي مَكَانِ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَسَلَّمَهُ فِي مَكَانِهِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَلَوْ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فَكَذَا حَقُّ إمْسَاكِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ مِنْ ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ الثَّمَرَاتِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ اعْتِبَارًا لِلثَّمَرَاتِ بِالْأَحْكَامِ مِنْ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ.
(قَوْلُهُ تَفَاوُتٌ) أَيْ بُعْدٌ، وَفِي عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ الْمِصْرِ إلَى الْقَرْيَةِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَرْيَةُ قَرِيبَةً إلَّا إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهَا وَهِيَ قَرْيَتُهَا فَحِينَئِذٍ لَهَا ذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. وَفِي شَرْحِ الْبَقَّالِيِّ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ بِحَالٍ وَقَعَ الْعَقْدُ هُنَاكَ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ. ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي الَّذِي هُوَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ: إذَا كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي رُسْتَاقَ وَلَهُ قُرًى مُتَفَرِّقَةٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِهِمْ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ فَلَهَا ذَلِكَ، إنْ كَانَتْ الْقُرَى قَرِيبَةً يَنْظُرُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَبِيهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ يَوْمِهِ. وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُخْرِجُهُ مِنْ مِصْرٍ جَامِعٍ إلَى قُرًى، إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْهَا فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْقُرَى. وَفِيهِ أَيْضًا: وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ لِوَلَدِهَا وَتَبِيعَ وَإِنْ كَانَتْ أَحَقَّ بِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ النَّفَقَةِ
قَالَ (النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا وَسُكْنَاهَا) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} وقَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ
(بَابُ النَّفَقَةِ)
النَّفَقَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ النُّفُوقِ: وَهُوَ الْهَلَاكُ، نَفَقَتْ الدَّابَّةُ نُفُوقًا هَلَكَتْ، أَوْ مِنْ النِّفَاقِ وَهُوَ الرَّوَاجُ، نَفَقَتْ السِّلْعَةُ نِفَاقًا رَاجَتْ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ كُلَّ مَا فَاؤُهُ نُونٌ وَعَيْنُهُ فَاءٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخُرُوجِ وَالذَّهَابِ مِثْلُ نَفَقَ وَنَفَرَ وَنَفَخَ وَنَفَسَ وَنَفِيَ وَنَفِدَ. وَفِي الشَّرْعِ الْإِدْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا بِهِ بَقَاؤُهُ ثُمَّ نَفَقَةُ الْغَيْرِ تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ بِأَسْبَابِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ، فَبَدَأَ بِالزَّوْجَاتِ إذْ هِيَ الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ النَّفَقَةِ لِلْوَلَدِ لِأَنَّهُ فَرَّعَهَا، ثُمَّ بِالسَّبَبِ الْأَبْعَدِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} مَرْجِعُ الضَّمِيرِ لِلْوَالِدَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُنَّ، قِيلَ
فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ مَقْصُودٍ لِغَيْرِهِ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ: أَصَّلَهُ الْقَاضِي وَالْعَامِلُ فِي الصَّدَقَاتِ. وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ لَا فَصْلَ فِيهَا فَتَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ (وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُهُمَا جَمِيعًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ:
هِيَ الزَّوْجَاتُ، وَقِيلَ هِيَ الْمُطَلَّقَاتُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَالَ تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} وَقَالَ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ " أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ " وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي ضِمْنِ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي الْحَجِّ «فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إلَّا مَا آخُذُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ» وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الْبَابِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ. وَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رحمه الله مِنْ قَوْلِهِ: مَا رَأَيْت أَحَدًا جُبِرَ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدٍ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
(قَوْلُهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ مَقْصُودٍ لِغَيْرِهِ) أَيْ لِمَنْفَعَةٍ تَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ الرَّهْنُ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ حَبْسِهِ لَيْسَتْ مُتَمَحِّضَةً لَلْمُرْتَهِنِ بَلْ مُشْتَرَكَةً، وَخَرَجَ الْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا حَتَّى لَوْ تَعَجَّلَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ فَاسِدٌ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَخَذَتْ، أَمَّا لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِلَا فَرْضِ الْقَاضِي فَلَا يَرْجِعُ. وَفِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ اُتُّهِمَ بِامْرَأَةٍ فَظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ فَزُوِّجَتْ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْحَبَلَ مِنْهُ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحٌ فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا تَسْتَحِقُّهَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ وَطْئِهَا، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ مِنْهُ تَجِبُ النَّفَقَةُ بِالِاتِّفَاقِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْكُلِّ وَحَلَّ وَطْؤُهَا وَتَقَدَّمَ أَصْلُهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ أَصْلُهُ الْعَامِلُ فِي الصَّدَقَاتِ) وَالْمُفْتِي وَالْوَالِي وَالْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ إذَا سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ إذَا قَامُوا بِدَفْعِ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ وَالنِّسَاءُ مَحْبُوسَاتٌ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ فَتَجِبُ نَفَقَتُهُنَّ عَلَيْهِمْ مُسْلِمَاتٍ كُنَّ أَوْ لَا وَلَوْ غَنِيَّاتٍ. وَقَوْلُهُ إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ لَيْسَ شَرْطًا لَازِمًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ الزَّوْجُ انْتِقَالَهَا، فَإِنْ طَلَبَهُ فَامْتَنَعَتْ لِحَقٍّ لَهَا كَمَهْرِهَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ حَقٍّ حِينَئِذٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا لِنُشُوزِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تُزَفَّ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَاخْتَارَهَا الْقُدُورِيُّ وَلَيْسَ الْفَتْوَى عَلَيْهِ. وَقَوْلُ الْأَقْطَعِ الشَّيْخِ أَبِي نَصْرٍ فِي شَرْحِهِ: إنَّ تَسْلِيمَهَا نَفْسَهَا شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ مَنْظُورٌ فِيهِ، ثُمَّ قَرَّرَهُ عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْقُلْهَا إلَى بَيْتِهِ وَلَمْ تَمْتَنِعْ هِيَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَلَكِنَّهُ رَضِيَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ حَيْثُ تَرَكَ النَّقْلَةَ فَلَا يَسْقُطُ
وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخَصَّافِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ تَجِبُ نَفَقَةُ الْيَسَارِ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَنَفَقَةُ الْإِعْسَارِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً وَالزَّوْجُ مُوسِرًا فَنَفَقَتُهَا دُونَ نَفَقَةِ الْمُوسِرَاتِ وَفَوْقَ نَفَقَةِ الْمُعْسِرَاتِ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} وَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ «خُذِي مِنْ مَالِ زَوْجِكِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» اعْتَبَرَ حَالَهَا
حَقُّهَا.
(قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ الْخَصَّافِ وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَقَالَ بِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ وَنَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رحمه الله وَقَالَ فِي التُّحْفَةِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْيَسَارِ فِي يَسَارِهِمَا وَالْإِعْسَارِ فِي إعْسَارِهِمَا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الِاخْتِلَافِ كَمَا إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَهُوَ مُعْسِرٌ فَعَلَى مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ نَفَقَةٌ فَوْقَ نَفَقَةِ الْمُعْسِرَةِ وَدُونَ نَفَقَةِ الْمُوسِرَةِ وَكَذَا فِي عَكْسِهِ، وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ نَفَقَةُ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً لَمَا تَزَوَّجَتْ مُعْسِرًا فَقَدْ رَضِيَتْ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ، وَفِي الثَّانِي نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ تَمَامَ الْأَقْسَامِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ تَفْسِيرُ قَوْلِ الْخَصَّافِ، بَلْ تَرَكَ مَا إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَالزَّوْجُ مُعْسِرٌ وَكَأَنَّهُ لِاتِّحَادِ جَوَابِهِ بِجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ مُعْسِرَةً وَهُوَ مُوسِرٌ.
وَكَانَ الْأَوْلَى حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا وَاقْتَصَرَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِمَذْهَبِ الْخَصَّافِ عَلَى حَدِيثِ هِنْدٍ وَقَالَ فِيهِ اُعْتُبِرَ حَالُهَا وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَصْلُحُ رَدًّا لِاعْتِبَارِ حَالِهِ فَقَطْ: يَعْنِي إذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ حَالِهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَطَلَ قَوْلُكُمْ يَعْتَبِرُ فَقَطْ. ثُمَّ اعْتِبَارُ حَالِهِ ثَابِتٌ لَا بُدَّ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ الْقَائِلُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ وَالْقَائِلُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِمَا. وَيُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدِيثَ هِنْدٍ خَبَرٌ وَاحِدٌ وقَوْله تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} مُطْلَقٌ فِي اعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَالِ الْمُوسِرِ مُعْسِرَةً كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ لَا وَالْمُعْسِرَةُ مُعْسِرَةً كَانَتْ أَوْ لَا، فَاعْتِبَارُ حَالِهِمَا زِيَادَةٌ مُوجِبَةٌ لِتَغْيِيرِ حُكْمِ النَّصِّ، إذْ تُوجَبُ الزِّيَادَةُ فِي مَوْضِعٍ يَقْتَضِي النَّصُّ فِيهِ عَدَمَهَا، وَعَدَمُهَا فِي مَوْضِعٍ يَقْتَضِي فِيهِ وُجُودَهَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ دَفْعَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا النَّصُّ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ: إنَّهُ مُخَاطَبٌ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْمُفَادَ بِالنَّصِّ اعْتِبَارُ حَالِهِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمُعْسِرَ لَا يُنْفِقُ فَوْقَ وُسْعِهِ وَهُوَ لَا يَنْفِي اعْتِبَارَ حَالِهَا
وَهُوَ الْفِقْهُ فَإِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ، وَالْفَقِيرَةُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى كِفَايَةِ الْمُوسِرَاتِ فَلَا مَعْنَى لِلزِّيَادَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِ النَّصِّ أَنَّهُ يُخَاطِبُ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَالْبَاقِي دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ الْوَسَطُ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ عَلَى الْمُوسِرِ مُدَّانِ وَعَلَى الْمُعْسِرِ مُدٌّ وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفُ مُدٍّ،
فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ لَهَا، وَالْحَدِيثُ أَفَادَهُ فَلَا زِيَادَةَ عَلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ تَكْلِيفَهُ بِإِخْرَاجِ قَدْرَ حَالِهِ، وَالْحَدِيثُ أَفَادَ اعْتِبَارَ حَالِهَا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ لَا الْمُخْرِجِ فَيَجْتَمِعَانِ بِأَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَهُوَ مُعْسِرًا وَيَخْرُجُ قَدْرَ حَالِهِ فَبِالضَّرُورَةِ يَبْقَى الْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ عِلْمُهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ مُوسِرًا فَلَمْ يَنُصَّ عَلَى حَالِهِ وَأَطْلَقَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ كِفَايَتَهَا، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ اعْتِبَارُ حَالِهَا فَإِنَّ الْكِفَايَةَ تَخْتَلِفُ، ثُمَّ هَذَا الْبَحْثُ يُتَّجَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْله تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} فَلَا لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي نَفْسِ الْوَاجِبِ الْمُفَادِ بِلَفْظٍ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ فِي الْمُتْعَةِ لَا فِي النَّفَقَةِ، وَيَدَّعِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْلُوكًا بِهَا مَسْلَكَ الْكِسْوَةِ بَلْ هِيَ بَدَلُ نِصْفِ الْمَهْرِ، أَوْ أَنَّ قَوْلَهُ {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} الْآيَةَ يُقَيِّدُهُ بِالْقُدْرَتَيْنِ: أَيْ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ مَعَ قَدْرِهَا وَكَذَا الْآخَرُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ لَا يَدْفَعَ لِلْفَائِقَةِ مَا يَدْفَعُ لِلْفَقِيرَةِ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ الْوَاجِبُ) أَيْ الْوَسَطُ هُوَ الْوَاجِبُ بَعْدَ اعْتِبَارِ حَالِهِمَا. وَقَدْ يُقَامُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ تَفْسِيرِ قَوْلِ
لِأَنَّ مَا وَجَبَ كِفَايَةً لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا فِي نَفْسِهِ.
(وَإِنْ امْتَنَعَتْ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا مَهْرَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ) لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِحَقٍّ فَكَانَ فَوْتُ الِاحْتِبَاسِ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهِ فَيُجْعَلُ كَلَا فَائِتٍ.
(وَإِنْ نَشَزَتْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ) لِأَنَّ
الْخَصَّافِ رحمه الله بَلْ فِي أَوْسَاطِ الْحَالِ وَفِي اخْتِلَافِهِمَا بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فَوْقَ الْإِعْسَارِ وَدُونَ نَفَقَةِ الْيَسَارِ وَهَذَا وَسَطٌ. وَأَمَّا فِي يَسَارِهِمَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَجِبُ نَفَقَةٌ هِيَ وَسَطٌ فِي الْيَسَارِ، وَأَمَّا فِي إعْسَارِهِمَا فَيَجِبُ أَيْضًا نَفَقَةُ وَسَطٍ فِي الْإِعْسَارِ وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ إذَا فَرَضَ أَنَّ إعْسَارَهُمَا غَايَةٌ فِي الْإِعْسَارِ فَإِنَّمَا تَجِبُ الْغَايَةُ فِيهِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ حَالِهِ أَوْ حَالِهِمَا لَا يُوجِبُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكَ» مَا يُقَابِلُ الْمُنْكَرَ فَيَسْتَقِيمُ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي مُتَوَسِّطَةِ الْحَالِ أَنَّ كِفَايَتَهَا دُونَ كِفَايَةِ الْفَائِقَةِ فَيَجِبُ ذَلِكَ لِيَسَارِهِ وَعِنْدَ غَايَةِ إعْسَارِهَا وَإِعْسَارِهِ الْمَعْرُوفِ دُونَ التَّوَسُّطِ فِيهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي اعْتِبَارَ الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا فَرَضَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَبِاعْتِبَارِ الْحَالِ مِنْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَكَمَا يُفْرَضُ لَهَا قَدْرُ الْكِفَايَةِ مِنْ الطَّعَامِ كَذَلِكَ مِنْ الْإِدَامِ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ لَا يُؤْكَلُ إلَّا مَأْدُومًا.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ مَا وَجَبَ كِفَايَةً لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا فِي نَفْسِهِ) لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّبَائِعِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ وَبِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكُلُّ جَوَابٍ عُرِفَ مِنْ اعْتِبَارِ حَالِهِ أَوْ حَالِهِمَا فِي النَّفَقَةِ فَفِي الْكِسْوَةِ مِثْلُهُ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْعُسْرَةِ، كَذَا فِي الْأَصْلِ. وَأَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا إنَّهُ قَادِرٌ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ. وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ قَالَ: يَنْظُرُ إلَى زِيِّهِ إلَّا فِي الْعَلَوِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهَا فَسَأَلَتْ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ يَسَارِهِ فِي السِّرِّ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي، وَإِنْ فَعَلَهُ فَأَتَاهُ عَنْهُ أَنَّهُ مُوسِرٌ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِ إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ عَدْلَانِ أَنَّهُمَا عَلِمَا ذَلِكَ وَيَكُونَانِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدَيْنِ: فَإِنْ أَخْبَرَاهُ مِنْ وَرَاءِ وَرَاءٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَوْلِهِمَا، فَإِنْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُوسِرٌ فَأَقَامَ الزَّوْجُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ أَخَذَ بِبَيِّنَتِهَا وَفَرَضَ عَلَيْهِ نَفَقَةَ الْمُوسِرِ، كَذَا فِي كَافِي الْحَاكِمِ
(قَوْلُهُ حَتَّى تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ)
فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ مِنْهَا، وَإِنْ عَادَتْ جَاءَ الِاحْتِبَاسُ فَتَجِبُ النَّفَقَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ التَّمْكِينِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَائِمٌ وَالزَّوْجُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ كَرْهًا.
(وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الِاسْتِمْتَاعِ لِمَعْنًى فِيهَا، وَالِاحْتِبَاسُ الْمُوجِبُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مَقْصُودٍ مُسْتَحَقٌّ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ الْمَرِيضَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ.
يُفِيدُ أَنَّ النُّشُوزَ الْمُسْتَعْقِبَ لِسُقُوطِ النَّفَقَةِ مَأْخُوذٌ فِيهِ خُرُوجُهَا عَنْ مَنْزِلِهِ، وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهِ عَدَمُ مُوَافَقَتِهَا عَلَى الْمَجِيءِ إلَى الْمَنْزِلِ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا أَوْ امْتَنَعَتْ عَنْ أَنْ تَجِيءَ إلَى مَنْزِلِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ إيفَائِهِ مُعَجَّلَ مَهْرِهَا أَوْ عَدَمِ تَمْكِينِهَا إيَّاهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي مَنْزِلِهَا الْمَمْلُوكِ لَهَا الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُ مَعَهُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ يَكْتَرِيَ لَهَا مَنْزِلًا، فَإِنْ كَانَتْ سَأَلَتْهُ فِي ذَلِكَ لِتَنْتَفِعَ بِمِلْكِهَا فَأَبَى فَمَنَعَتْهُ الدُّخُولَ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: وَقَالَتْ إنَّمَا خَرَجْت لِأَنَّك سَاكِنٌ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ لَا تَكُونُ نَاشِزَةً. وَفِي الْفَتَاوَى لِلنَّسَفِيِّ: لَوْ كَانَ بِسَمَرْقَنْدَ وَهِيَ بِنَسَفَ فَبَعَثَ إلَيْهَا أَجْنَبِيًّا لِيَحْمِلَهَا إلَيْهِ فَأَبَتْ لِعَدَمِ الْمَحْرَمِ لَهَا النَّفَقَةُ.
(قَوْلُهُ لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا) أَيْ لَا تُوطَأُ. وَصَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْوَطْءُ، وَبِهِ قَيَّدَ الْحَاكِمُ قَالَ: لَا نَفَقَةَ لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُجَامِعُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ إلَى حَالَةٍ تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ أَوْ الْأَبِ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا، فَقِيلَ أَقَلُّهَا سَبْعُ سِنِينَ، وَقَالَ الْعَتَّابِيُّ: اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا تِسْعُ سِنِينَ. وَالْحَقُّ عَدَمُ التَّقْدِيرِ، فَإِنَّ احْتِمَالَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِنْيَةِ، وَعَلَى قَوْلِنَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ. وَفِي قَوْلٍ لَهُ: تَجِبُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَهْدِ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالظَّاهِرِيَّةِ. قُلْنَا: أَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ لِلْوَالِدَاتِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الصَّغَائِرُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} فَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ: يَعْنِي عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا، فَثُبُوتُ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا خَارِجٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالزَّوْجَاتِ فِيهَا كَانَ الْمُرَادُ بَعْضَهُنَّ، أَلَا تَرَى أَنْ لَيْسَ كُلُّ زَوْجَةٍ تَسْتَحِقُّهَا كَالنَّاشِزَةِ فَيَعْمَلُ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يُعَيِّنُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِيهِ «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» فَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِيهِ النِّسَاءُ اللَّاتِي حَلَّتْ فُرُوجُهُنَّ، وَنَقُولُ: لَا يَحِلُّ فَرْجُ مَنْ لَا تُطِيقُ الْجِمَاعَ فَإِنَّهُ إهْلَاكٌ أَوْ طَرِيقُهُ. وَلَوْ سَلَّمَ فَالْإِنْفَاقُ عَلَى أَنَّ عُمُومَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَإِنَّ النَّاشِزَةَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَاكَ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الزَّوْجَةَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَاسْتِحْقَاقُهَا النَّفَقَةَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ الْوَارِدِ عَلَيْهَا عَلَى قُصُورِهِ إلْحَاقًا لِلْمَالِكِ الْقَاصِرِ بِالْمِلْكِ الْكَامِلِ فِي الْمَرْقُوقَةِ،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ الْمِلْكِ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْمَمْلُوكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ الْمِلْكِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْعِوَضَانِ عَنْ مُعَوَّضٍ وَاحِدٍ فَلَهَا الْمَهْرُ دُونَ النَّفَقَةِ.
أَوْلِاحْتِبَاسِهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ التَّزْوِيجِ: أَعْنِي الْوَطْءَ أَوْ دَوَاعِيَهُ، أَوْ لِاحْتِبَاسِهَا مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ إيجَابَهَا بِسَبَبِ مِلْكٍ كَامِلٍ لَا يَسْتَلْزِمُ إيجَابَهَا بِسَبَبِ مِلْكٍ نَاقِصٍ، إذْ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ إيجَابُهَا فِي الْكَامِلِ لِمَعْنًى تَضَمَّنَهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّاقِصِ فَتَجِبُ فِيهِ لِذَلِكَ الْمُشْتَرِكُ لَا لِلْمِلْكِ، وَلَوْ عَيَّنَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِكَ لَكَانَ احْتِبَاسُهَا عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَسَنُورِدُهَا وَجْهًا وَجْهًا، وَأَيْضًا عِوَضُ الْمِلْكِ هُنَا الْمَهْرُ فَلَا تَكُونُ النَّفَقَةُ أَيْضًا عِوَضًا وَإِلَّا اجْتَمَعَ عَنْ الْمُعَوَّضِ الْوَاحِدِ عِوَضَانِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعِوَضِ الْوَاحِدِ مَجْمُوعَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَبْدٍ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُعَوِّضٌ يَثْبُتُ جُمْلَةً وَهُوَ تَمَامُ الْعِلَّةِ لِعِوَضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ عِوَضِهِ يَثْبُتُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَذَلِكَ الْمَهْرُ دُونَ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ لَزِمَ جَهَالَةً أَيْ الْعِوَضَيْنِ فَإِنَّمَا تَجِبُ بِحَادِثٍ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ نَظَرًا إلَى بَقَائِهِ وَهَذَا طَرِيقُ الْمُصَنِّفِ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ النَّفَقَةُ فِي الْمَرْقُوقَةِ أَيْضًا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ لِمَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ ذَلِكَ الْمِلْكِ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ الْوَطْءُ إنْ أَمْكَنَ لَا لِلْمِلْكِ وَهَذَا حَقٌّ؟ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلْآبِقِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَلَا يَجُوزُ الْأَخِيرُ لِانْتِقَاضِهِ بِالنَّاشِزَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْعِلَّةُ لِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَمَنْ تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي عَقِيبَ إبْطَالِ الْأَقْسَامِ لِئَلَّا يَكُونَ مُبَرَّأً، فَلَمَّا أَثْبَتْنَا الْمُنَاسَبَةَ بِظُهُورِ الْأَثَرِ لَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ السَّبْرِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إثْبَاتٌ عَلَيْهِ مَا عَيَّنَّاهُ بِظُهُورِ أَثَرِهِ وَإِبْطَالِ مَا عَيَّنُوهُ.
هَذَا وَقَدْ نُقِضَ بِالرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ وَاَلَّتِي أَصَابَهَا مَرَضٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ وَالْكَبِيرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا لِكِبَرِهَا فَإِنَّ لَهُنَّ النَّفَقَةَ وَلَا احْتِبَاسَ لِلْوَطْءِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إيجَابِ النَّفَقَةِ احْتِبَاسٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الزَّوْجُ انْتِفَاعًا مَقْصُودًا بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْجِمَاعُ أَوْ الدَّوَاعِي وَالِانْتِفَاعُ مِنْ حَيْثُ الدَّوَاعِي مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ بِأَنْ يُجَامِعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُجَامِعُ مِثْلَهَا فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مُشْتَهَاةً أَصْلًا فَلَا تُجَامَعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ حَتَّى إنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَسْتَنْكِرُ جِمَاعَ الرَّضِيعَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ فِي الْعَجُوزِ وَالْمَرِيضَةِ. قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً مُشْتَهَاةً يُمْكِنُ جِمَاعُهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ تَجِبُ النَّفَقَةُ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَهَذَا عَلَى مَنْ قَيَّدَ الصَّغِيرَةَ بِكَوْنِهَا لَا تُشْتَهَى لِلْجِمَاعِ فَرْضُ مُحَالٍ، لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِحَيْثُ تُشْتَهَى لِلْجِمَاعِ لَا تَكُونُ مُشْتَهَاةً لِلْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. نَعَمْ هُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَنَا الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا هَلْ مَعْنَاهُ لَا تُشْتَهَى لِلْوَطْءِ أَوْ لَا تُطِيقُ الْوَطْءَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْمُلَازَمَةُ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِنْ ثَبَتَ التَّلَازُمُ بَيْنَ عَدَمِ الْإِطَاقَةِ وَعَدَمِ الِاشْتِهَاءِ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ فَرْضٌ صَحِيحٌ. وَالظَّاهِرُ التَّلَازُمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ضَمُّ الْإِطَاقَةِ مُطْلَقًا وَلَا مِنْ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُطِيقُ الْوَطْءَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تُشْتَهَى لِلْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَهِيَ مُطِيقَةٌ لِلْجِمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ تُطِقْهُ مِنْ
(وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ وَهِيَ كَبِيرَةٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِهِ فَصَارَ كَالْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ.
(وَإِذَا حُبِسَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَيْنٍ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ مِنْهَا بِالْمُمَاطَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا بِأَنْ كَانَتْ عَاجِزَةً فَلَيْسَ مِنْهُ، وَكَذَا إذَا غَصَبَهَا رَجُلٌ كُرْهًا فَذَهَبَ بِهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ، وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ لَيْسَ مِنْهُ لِيُجْعَلَ بَاقِيًا تَقْدِيرًا،
خُصُوصِ زَوْجٍ مَثَلًا فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَمَنْ لَا فَلَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ. وَفِي خِزَانَةِ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ: عَشْرٌ مِنْ النِّسَاءِ لَا نَفَقَةَ لَهُنَّ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، وَالنَّاشِزَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ، وَإِذَا اغْتَصَبَهَا ظَالِمٌ فَذَهَبَ بِهَا، وَالْمَحْبُوسَةُ فِي دَيْنٍ، وَالْمُسَافِرَةُ بِحَجٍّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجُهَا، وَالْأَمَةُ إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا مَوْلَاهَا، وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا، وَالْمُرْتَدَّةُ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْمَرْأَةُ إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ بِشَهْوَةٍ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا إلَخْ) ذَكَرَ حُكْمَ الْعَجْزِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مُنْفَرِدًا وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ لَا يُطِيقَانِ، وَلَوْ اعْتَبَرَ جَانِبَهُ تَجِبُ، وَلَوْ اعْتَبَرَ جَانِبَهَا لَا تَجِبُ، وَفِي الذَّخِيرَةِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِ كَالْمَعْدُومِ فَالْمَنْعُ مِنْ جِهَتِهَا قَائِمٌ وَمَعَهُ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: إذَا تَزَوَّجَ الْمَجْبُوبُ صَغِيرَةً لَا تَصْلُحُ لِلْجِمَاعِ لَا يَفْرِضُ لَهَا نَفَقَةً، وَلَا يَخْفَى إمْكَانُ عَكْسِ الْكَلَامِ فَيُقَالُ: يُجْعَلُ الْمَنْعُ مِنْ جِهَتِهَا كَالْمَعْدُومِ فَتَجِبُ إلَى آخِرِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ إلَّا لِتَسْلِيمِهَا لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا الْمَقْصُودَةِ بِذَلِكَ التَّسْلِيمِ فَيَدُورُ وُجُوبُهَا مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا فَلَا تَجِبُ فِي الصَّغِيرَيْنِ وَتَجِبُ فِي الْكَبِيرَةِ تَحْتَ الصَّغِيرِ.
(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَهَا النَّفَقَةُ) أَيْ فِي صُورَتَيْ حَبْسِهَا وَغَصْبِهَا لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ جِهَتِهَا، وَاخْتَارَهُ السُّغْدِيُّ وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَنْ احْتِبَاسِهِ إيَّاهَا، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا فَاتَ الِاحْتِبَاسُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ جُعِلَ بَاقِيًا تَقْدِيرًا فَتَجِبُ مَعَ فَوَاتِهِ، فَإِذَا كَانَ لَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يَكُنْ تَقْدِيرًا قَائِمًا فَفَاتَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ الْمُوجِبُ لَيْسَ غَيْرُ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَنْعَدِمُ الْحُكْمُ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ غَصَبَ الْعَيْنَ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجَرِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ الْآجِرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حُبِسَ هُوَ ظُلْمًا أَوْ فِي حَقٍّ يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ أَوْ لَا يَقْدِرُ أَوْ هَرَبَ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ أَسْلَمَتْ وَأَبَى هُوَ الْإِسْلَامَ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَكَذَا كُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِحَقٍّ لَا تُسْقِطُ النَّفَقَةَ كَالْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَوْ بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ حَيْثُ يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ لِفَوَاتِهِ مِنْ جِهَتِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَمُّدٌ
وَكَذَا إذَا حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ لِأَنَّ فَوْتَ الِاحْتِبَاسِ مِنْهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ لِأَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ عُذْرٌ، وَلَكِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَافَرَ مَعَهَا الزَّوْجُ تَجِبُ النَّفَقَةُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَائِمٌ لِقِيَامِهِ عَلَيْهَا وَتَجِبُ نَفَقَةُ الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ، وَلَا يَجِبُ الْكِرَاءُ لِمَا قُلْنَا (فَإِنْ مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ فَلَهَا النَّفَقَةُ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا كَانَ مَرَضًا يَمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ لِفَوْتِ الِاحْتِبَاسِ لِلِاسْتِمْتَاعِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الِاحْتِبَاسَ قَائِمٌ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِهَا وَيَمَسُّهَا وَتَحْفَظُ الْبَيْتَ، وَالْمَانِعُ بِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ مَرِضَتْ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ، وَلَوْ مَرِضَتْ ثُمَّ سَلَّمَتْ لَا تَجِبُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يَصِحَّ قَالُوا هَذَا حَسَنٌ. وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إلَيْهِ.
فِيهِ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا إلَخْ) أَيْ لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّتْ مَعَ الزَّوْجِ فَإِنَّ لَهَا النَّفَقَةُ اتِّفَاقًا.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ عُذْرٌ) قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَتِهَا وَالِاحْتِبَاسُ الْفَائِتُ إنَّمَا يُجْعَلُ بَاقِيًا تَقْدِيرًا إذَا كَانَ الْفَوَاتُ مِنْ جِهَتِهِ، ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَالْوَاجِبُ نَفَقَةُ الْحَضَرِ بِأَنْ يَعْتَبِرَ مَا كَانَ قِيمَةَ الطَّعَامِ فِي الْحَضَرِ فَيَجِبُ دُونَ نَفَقَةِ السَّفَرِ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِحَقِّهَا بِإِزَاءِ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لَهَا فَلَا تَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ كَالْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تَسْتَحِقُّ الْمُدَاوَاةَ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا) أَيْ مِنْ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَضَرِ هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ.
(قَوْلُهُ وَيَمَسُّهَا) أَيْ وَيَمَسُّهَا اسْتِمْتَاعًا وَيَدْخُلُ فِي مَسِّهَا كَذَلِكَ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالْقُبْلَةِ وَغَيْرِهِمَا فَكَانَ الِاحْتِبَاسُ الْمُوجِبُ قَائِمًا، وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِحُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِالدَّوَاعِي وَالِاسْتِئْنَاسِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ قَالُوا هَذَا حَسَنٌ. وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا صَحِيحَةً ثُمَّ طَرَأَ الْمَرَضُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ إشَارَةَ الْكِتَابِ هَذِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فِي مَنْزِلِهِ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ مُخْتَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلَيْسَ الْفَتْوَى عَلَيْهِ، بَلْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ تَعْلِيقُهَا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ مَا لَمْ يَقَعْ نُشُوزٌ فَالْمُسْتَحْسِنُونَ لِهَذَا التَّفْصِيلِ هُمْ الْمُخْتَارُونَ لِتِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهَذِهِ فَرْعِيَّتُهَا، وَالْمُخْتَارُ وُجُوبُ النَّفَقَةِ لِتَحَقُّقِ الِاحْتِبَاسِ لِاسْتِيفَاءِ مَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ الِاسْتِئْنَاسِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالدَّوَاعِي وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. قَالَ فِي الْأَصْلِ: نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ مَرِضَتْ أَوْ جُنَّتْ أَوْ أَصَابَهَا بَلَاءٌ يَمْنَعُ عَنْ الْجِمَاعِ أَوْ كَبِرَ حَتَّى لَا يُسْتَطَاعَ جِمَاعُهَا. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إذَا كَبِرَتْ وَلَا تُطِيقُ الْجِمَاعَ أَوْ بِهَا رَتْقٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أَوْ قَرْنٌ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ. وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: قَالُوا إذَا مَرِضَتْ مَرَضًا لَا يُمَكِّنُ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَ مَرَضًا يُمَكِّنُ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِنَوْعِ انْتِفَاعٍ لَا تَسْقُطُ وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْأَوَّلِ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً
(قَالَ: وَيُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ إذَا كَانَ مُوسِرًا وَنَفَقَةُ خَادِمِهَا) الْمُرَادُ بِهَذَا بَيَانُ نَفَقَةِ الْخَادِمِ، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَتُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَ مُوسِرًا نَفَقَةُ خَادِمِهَا.
وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ لَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ تَجِبُ. وَفِي الْأَقْضِيَةِ: لَوْ كَانَتْ مُحْرِمَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ تَجِبُ.
وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: سَوَاءٌ أَصَابَتْهَا هَذِهِ الْعَوَارِضُ بَعْدَمَا انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ أَوْ قَبْلَهُ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً نَفْسَهَا، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا نَفَقَةَ لِلرَّتْقَاءِ وَالْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقُلَهَا، وَإِنْ انْتَقَلَتْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ يَرُدُّهَا إلَى أَهْلِهَا، أَمَّا إذَا نَقَلَهَا هُوَ إلَى بَيْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لَا يَرُدُّهَا إلَى أَهْلِهَا انْتَهَى، كُلُّهُ مِنْ الْخُلَاصَةِ. وَبِهِ يَظْهَرُ لَك مَا حَكَمْنَا بِهِ فِيمَنْ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الَّتِي مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِهِ إذَا تَطَاوَلَ مَرَضُهَا تُعْتَبَرُ كَالرَّتْقَاءِ فِيهَا.
(قَوْلُهُ وَتُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ. . . إلَخْ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا بَيَانُ نَفَقَةِ الْخَادِمِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ عَنْ تَكْرَارِ نَفَقَتِهَا وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ أَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَصْلًا لِيَحْتَاجَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْهُ فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ إلَّا بَيَانُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَبَيَانُ وُجُوبِهَا وَوُجُوبُهَا لَيْسَ نَفْسَ بَيَانِ جَوَازِ الْفَرْضِ لِلْقَاضِي وَلَا جَوَازُهُ لَهُ وَلَا هُوَ مَلْزُومُهُ فَإِنَّ الْفَرْضَ قَدْ يَتَخَلَّفُ مَعَ قِيَامِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ بِدَلِيلِ مَا فِي الْأَقْضِيَةِ. الرَّجُلُ إذَا كَانَ صَاحِبَ مَائِدَةٍ وَطَعَامٍ كَثِيرٍ تَتَمَكَّنُ هِيَ مِنْ التَّنَاوُلِ قَدْرَ كِفَايَتِهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِفَرْضِ النَّفَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ تُفْرَضُ إذَا طُلِبَتْ فَأَفَادَ مَا قُلْنَا، ثُمَّ إذَا فُرِضَ فَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَلِي الْإِنْفَاقَ إلَّا إذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي مَطْلُهُ فَحِينَئِذٍ تُفْرَضُ النَّفَقَةُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ يُعْطِ حَبَسَهُ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَقَيَّدَ الْيَسَارُ أَثَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ نَفَقَتِهَا وَنَفَقَةِ الْخَادِمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَنْتَفِي الْفَرْضُ لَكِنْ بِانْتِفَاءِ فَرْضِ نَفَقَةِ الْخَادِمِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي الْفَرْضِ الْأَصْلَحُ وَالْأَيْسَرُ، فَفِي الْمُحْتَرِفِ يَوْمًا يَوْمًا: أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ نَفَقَةَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعْجِيلِ نَفَقَةِ شَهْرٍ مَثَلًا دُفْعَةً، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهَا مُعَجِّلًا، وَيُعْطِيَهَا كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ الْمَسَاءِ عَنْ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي ذَلِكَ الْمَسَاءَ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ الصَّرْفِ فِي حَاجَتِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا يُفْرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ، أَوْ مِنْ الدَّهَّاقِينَ فَنَفَقَةُ سَنَةٍ بِسَنَةٍ، أَوْ مِنْ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ لَا يَنْقَضِي عَمَلُهُمْ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْأُسْبُوعِ كَذَلِكَ. وَلَوْ فُرِضَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ حَالِهِ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إعْطَاءِ الزَّائِدِ، وَفِي الْأَقْضِيَةِ يُفْرَضُ الْإِدَامُ أَيْضًا أَعْلَاهُ اللَّحْمُ وَأَدْنَاهُ الزَّيْتُ وَأَوْسَطُهُ اللَّبَنُ، وَقِيلَ فِي الْفَقِيرَةِ: لَا يُفْرَضُ الْإِدَامُ إلَّا إذَا كَانَ خُبْزَ شَعِيرٍ، وَالْحَقُّ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِهِمْ، وَيُعْتَبَرُ فِيمَا عَلَى الزَّوْجِ الْحَطَبُ وَالصَّابُونُ وَالْأُشْنَانُ وَالدُّهْنُ لِلِاسْتِصْبَاحِ وَغَيْرِهِ وَثَمَنُ مَاءِ الْوُضُوءِ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً تَسْتَأْجِرُ مَنْ يَنْقُلَهُ وَلَا تَنْقُلُهُ بِنَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً فَإِمَّا أَنْ يَنْقُلَهُ الزَّوْجُ لَهَا أَوْ يَدَعَهَا تَنْقُلُ بِنَفْسِهَا، وَثَمَنُ مَاءِ الِاغْتِسَالِ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْفَتَاوَى لِأَنَّهُ مَئُونَةُ الْجِمَاعِ، وَفِي كِتَابِ رَزِينٍ جَعَلَهُ عَلَيْهَا، وَفَصَلَ فِي مَاءِ الطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا أَوْ أَقَلَّ فَعَلَيْهِ، وَأُجْرَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِغَيْرِ اسْتِئْجَارٍ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَئُونَةُ الْجِمَاعِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَيْهَا كَأُجْرَةِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ كِفَايَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِهَا إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ (وَلَا يُفْرَضُ لِأَكْثَرَ مِنْ نَفَقَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
الطَّبِيبِ.
وَفِي الْمُحِيطِ: إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَالَ: اُحْسُبُوا لَهَا مِنْهُ نَفَقَتَهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ حَيْثُ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاصَّاهُ. وَتُفْرَضُ الْكِسْوَةُ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا وَبَنَى بِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهَا الْكِسْوَةَ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِهَا قَبْلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَالْكِسْوَةُ كَالنَّفَقَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْفَعَ إلَى الْقَاضِي لِيَأْمُرَهَا بِلُبْسِ الثَّوْبِ. لِأَنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ، وَإِذَا فُرِضَ لَهَا كِسْوَةُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَتَخَرَّقَتْ قَبْلَ مُضِيِّهَا إنْ لَبِسَتْ لُبْسًا مُعْتَادًا تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكْفِهَا فَتُجَدِّدُ لِتُبَيِّنَ خَطَأَهُ فِي التَّقْدِيرِ، وَإِنْ تَخَرَّقَتْ لِخَرْقِ اسْتِعْمَالِهَا لَا يُفْرَضُ لَهَا أُخْرَى، وَلَوْ سُرِقَتْ الْكِسْوَةُ أَوْ هَلَكَتْ النَّفَقَةُ لَا يُفْرَضُ لَهَا أُخْرَى بِخِلَافِ الْمَحَارِمِ، وَلَوْ لَمْ تَلْبَسْ حَتَّى مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ تُفْرَضُ لَهَا أُخْرَى بِخِلَافِ الْمَحَارِمِ، كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ. وَلَوْ كَانَتْ تَلْبَسُ يَوْمًا وَتَتْرُكُ يَوْمًا تَوْفِيرًا يُجَدِّدُ لَهَا الْكِسْوَةَ إذَا فَرَغَ الْفَصْلُ، وَلَوْ لَبِسَتْ دَائِمًا وَلَمْ تَتَخَرَّقْ لَمْ يُجَدِّدْ لَهَا إذَا فَرَغَ الْفَصْلُ، وَلَوْ فَرَضَ لَهَا دَرَاهِمَ فَبَقِيَتْ كُلُّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الشَّهْرِ الْآخَرِ أَيْضًا يُفْرَضُ وَفِي الْمَحَارِمِ لَا يُفْرَضُ. وَفِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ يُفْرَضُ قَمِيصٌ وَمُقَنِّعَةٌ وَمِلْحَفَةٌ. وَتُزَادُ فِي الشِّتَاءِ سَرَاوِيلَ وَجُبَّةً بِاعْتِبَارِ عُسْرَتِهِ وَيَسْرَتِهِ. ذَكَرَ الْخَصَّافُ السَّرَاوِيلَ فِي كِسْوَةِ الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ أَصْلًا. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَمْ يُوجِبْ مُحَمَّدٌ الْإِزَارَ لِأَنَّهُ لِلْخُرُوجِ وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبُوا لَهَا الْمُكَعَّبَ وَالْخُفَّ انْتَهَى.
وَقِيلَ اخْتِلَافُ عُرْفٍ وَالْعُرْفُ إيجَابُ السَّرَاوِيلِ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ لِلُبْسِهِ فِي الْبَيْتِ، فَالْقَاضِي يَنْظُرُ إلَى عُرْفِ كُلِّ قَوْمٍ فَيَفْرِضُ بِالْعُرْفِ، فَعَلَى الْمُعْسِرِ قَالَ مُحَمَّدٌ: دِرْعٌ يَهُودِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ زَطِّيَةٌ وَخِمَارٌ سَابُورِيٌّ أَرْخَصُ مَا يَكُونُ مِمَّا يُدْفِئُهَا فِي الشِّتَاءِ، وَعَلَى الْمُوسِرِ دِرْعٌ يَهُودِيٌّ أَوْ هَرَوِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ دِينَوَرِيَّةٌ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمُ وَكِسَاءٌ أَذْرَبِيجَانِيُّ، وَلَهَا فِي الصَّيْفِ دِرْعٌ سَابُورِيٌّ وَمِلْحَفَةُ كَتَّانٍ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمُ، فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ الدِّرْعَ وَالْخِصَافَ وَالْقَمِيصَ وَهُمَا سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّ الْقَمِيصَ يَكُونُ مُجَيَّبًا مِنْ قِبَلِ الْكَتِفِ وَالدِّرْعَ مِنْ قِبَلِ الصَّدْرِ، وَيَجِبُ لَهَا فِي الشِّتَاءِ اللِّحَافُ وَفِرَاشُ النَّوْمِ، وَفِي كِسْوَةِ الْخَادِمِ ذَكَرُوا الْإِزَارَ وَالْخُفَّ وَالْمُكَعَّبَ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ هَذَا فِي دِيَارِهِمْ بِحُكْمِ الْعُرْفِ، أَمَّا فِي دِيَارِنَا يُفْرَضُ الْمُكَعَّبُ وَيُفْرَضُ مَا تَنَامُ عَلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا فِرَاشٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا يَكْتَفِي بِفِرَاشٍ وَاحِدٍ لَهُمَا، لِأَنَّهَا قَدْ تَنْفَرِدُ فِي الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ، وَفِي الْأَثَرِ:" فِرَاشٌ لَك وَفِرَاشٌ لِأَهْلِك وَفِرَاشٌ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ ". وَإِذَا أَرْسَلَ ثَوْبًا فَاخْتَلَفَا فَقَالَتْ هَدِيَّةٌ وَقَالَ مِنْ الْكِسْوَةِ فَالْقَوْلُ لَهُ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الْآخَرِ أَوْ عَلَى نَفْسِ مُدَّعَاهُ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْقَضَاءِ، وَكَذَا فِي دَرَاهِمَ فَقَالَتْ هَدِيَّةٌ وَقَالَ: نَفَقَةٌ أَوْ قَالَ مِنْ الْمَهْرِ وَقَالَتْ نَفَقَةٌ، وَكَذَا فِي جَمِيعِ قَضَاءِ الدُّيُونِ إذَا كَانَتْ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ.
(قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ كِفَايَتَهَا إلَخْ) ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ ثُمَّ هَلْ يُرَادُ بِالْخَادِمِ مَمْلُوكُهَا أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَمْلُوكُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَا تَسْتَحِقُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ مَنْ يَخْدُمُهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: لَوْ كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَمَةً لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ وَنَفَقَةُ الْخَادِمِ لِبَنَاتِ الْأَشْرَافِ، وَيُوَافِقُهُ مَا قَيَّدَ بِهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ كَلَامَ الْخَصَّافِ حَيْثُ قَالَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: فَرَضَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدَّقِيقِ وَالدُّهْنِ وَاللَّحْمِ وَالْإِدَامِ فَقَالَتْ: لَا أَخْبِزُ وَلَا أَعْجِنُ وَلَا أُعَالِجُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَكْفِيهَا عَمَلَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْفَقِيهُ: هَذَا إذَا كَانَ بِهَا عِلَّةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا، فَإِنْ
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُفْرَضُ لِخَادِمَيْنِ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَصَالِحِ الدَّاخِلِ وَإِلَى الْآخَرِ لِمَصَالِحِ الْخَارِجِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْوَاحِدَ يَقُومُ بِالْأَمْرَيْنِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى اثْنَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّى كِفَايَتَهَا بِنَفْسِهِ كَانَ كَافِيًا، فَكَذَا إذَا أَقَامَ الْوَاحِدُ مَقَامَ نَفْسِهِ، وَقَالُوا: إنَّ الزَّوْجَ الْمُوسِرَ يَلْزَمُهُ مِنْ نَفَقَةِ الْخَادِمِ مَا يَلْزَمُ الْمُعْسِرُ مِنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ وَهُوَ أَدْنَى الْكِفَايَةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ إذَا كَانَ مُوسِرًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ عِنْدَ إعْسَارِهِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُعْسِرِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ وَهِيَ قَدْ تَكْتَفِي بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا.
(وَمَنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَيُقَالُ لَهَا اسْتَدِينِي عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفَرَّقُ،
كَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا وَتَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِمَنْ يَفْعَلُهُ. وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا تُجْبَرُ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ تَطْبُخْ لَا يُعْطِيهَا الْإِدَامَ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا دِيَانَةً، وَلَا يُجْبِرُهَا الْقَاضِي عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِخَادِمَيْنِ) وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، وَوَجْهُ الدَّفْعِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّى) أَيْ الزَّوْجُ كِفَايَتَهَا بِنَفْسِهِ خِدْمَةً كَانَ كَافِيًا قَدْ يُمْنَعُ هَذَا عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَقْضِيَةِ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَنَا أَخْدُمُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُقْبَلُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إذَا كَانَتْ فَائِقَةً فِي الْغِنَى زُفَّتْ إلَيْهِ مَعَ خَدَمٍ كَثِيرٍ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ الْكُلِّ عَلَيْهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ وَاخْتَارَهَا الطَّحَاوِيُّ.
(قَوْلُهُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله) وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهَا خَادِمٌ يُفْرَضُ لَهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَكْتَفِ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَيُفْرَضُ وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا بِحَيْثُ تَكْتَفِي بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا الْخَادِمُ لِزِيَادَةِ التَّنَعُّمِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا حَالَةُ الْيَسَارِ لِأَنَّ الْمُعْسِرَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَدْنَى الْكِفَايَةِ فَقَطْ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ لُزُومِ اعْتِبَارِ حَالِهِمَا، وَأَنَّهُ عِنْدَ إعْسَارِهِ دُونَهَا يُنْفِقُ بِقَدْرِ حَالِهِ وَالْبَاقِي دَيْنٌ عَلَيْهِ وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ تَجِبُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ خَادِمٌ لَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَتُهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لِدَفْعِ حَاجَتِهَا وَحَاجَتُهَا إلَى نَفَقَةِ الْخَادِمِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَصَارَ كَالْقَاضِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ لَا يَسْتَحِقُّ كِفَايَةَ الْخَادِمِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَالْغَازِي إذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِلَا فَرَسٍ وَأَغْنَى غِنَاءَ الْفَارِسِ لَا يُسْهِمُ لَهُ سَهْمَ الْفَرَسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَوْلَادٌ لَا يَكْفِيهِمْ خَادِمٌ وَاحِدٌ فَرَضَ عَلَيْهِ لِخَادِمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ اتِّفَاقًا. وَفِي التَّجْنِيسِ: امْرَأَةٌ لَهَا مَمَالِيكُ قَالَتْ لِزَوْجِهَا أَنْفِقْ عَلَيْهِمْ مِنْ مَهْرِي فَأَنْفَقَ فَقَالَتْ: لَا أَجْعَلُهَا مِنْ الْمَهْرِ لِأَنَّك اسْتَخْدَمْتهمْ، فَمَا أَنْفَقَ بِالْمَعْرُوفِ مَحْسُوبٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ بِأَمْرِهَا.
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ إلَخْ) بِقَوْلِنَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَابْنُ يَسَارٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالظَّاهِرِيَّةُ؛ وَمَعْنَى الِاسْتِدَانَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ الطَّعَامَ عَلَى أَنْ
لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّفَقَةِ أَقْوَى.
يُؤَدِّيَ الزَّوْجُ ثَمَنَهُ. وَقَالَ الْخَصَّافُ: الشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ لِيَقْضِيَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ كَقَوْلِنَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ الْعَجْزُ عَنْ الْكِسْوَةِ وَالْعَجْزُ عَنْ الْمَسْكَنِ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ فَسْخٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ طَلَاقٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مَعَ الْيُسْرِ لَمْ يُفَرَّقْ، وَيَبِيعُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَيَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالَهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَلَا يَفْسَخُ، وَعَنْ هَذَا مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا، أَمَّا إذَا غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ يَخْلُفْ لَهَا نَفَقَةً فَرَفَعَتْ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فَكَتَبَ الْقَاضِي إلَى عَالِمٍ يَرَى التَّفْرِيقَ بِالْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ؟ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ السُّغْدِيُّ: نَعَمْ إذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ النَّفَقَةِ. قَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: فِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يُعْرَفُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا فَيَكُونُ هَذَا تَرْكَ الْإِنْفَاقِ لَا الْعَجْزَ عَنْهُ، فَإِنْ رَفَعَ هَذَا الْقَضَاءَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَمْضَاهُ جَازَ قَضَاؤُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ لَيْسَ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَثْبُتْ ذِكْرُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ فُصُولِ الْإِمَامِ الْأُسْرُوشَنِيِّ فَتَكُونُ الشُّهُودُ عَلِمَتْ مَجَازَهُ مُجَازَفَتَهُمْ فَلَا يَقْضِي بِهَا كَمَا ذَكَرَهُ ظَهِيرُ الدِّينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَسْخَ إذَا غَابَ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً يُمْكِنُ بِغَيْرِ طَرِيقِ إثْبَاتِ عَجْزِهِ بِمَعْنَى فَقْرِهِ لِيَجِيءَ مَا قَالَ وَهُوَ أَنْ تَتَعَذَّرَ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: إذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا بِغَيْبَتِهِ ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ. قَالَ فِي الْحِلْيَةِ: وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ فَلَا يَلْزَمُ مَجِيءُ مَا قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَجَزَ إلَخْ) اسْتَدَلُّوا بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، فَقِيلَ مَنْ أَعُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: امْرَأَتُكَ تَقُولُ أَطْعِمْنِي وَإِلَّا فَارِقْنِي، خَادِمُكَ يَقُولُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَلَدُكَ يَقُولُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَتْرُكُنِي» هَكَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ النَّسَائِيّ وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعِيدٌ وَمُحَمَّدٌ ثِقَتَانِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فُرُوخٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْمَرْأَةُ تَقُولُ لِزَوْجِهَا أَطْعِمْنِي أَوْ طَلِّقْنِي» الْحَدِيثَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أَحْمَدَ السِّمَاكُ وَعَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَزَّانُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْبَارُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت سُنَّةٌ؟ قَالَ سُنَّةٌ. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَغَايَتِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدٍ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِهَا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَالْقِيَاسُ عَلَى الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْبَدَنَ يَبْقَى بِلَا وَطْءٍ وَلَا يَبْقَى بِلَا قُوتٍ، وَأَيْضًا مَنْفَعَةُ الْجِمَاعِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا؛ فَإِذَا
وَلَنَا أَنَّ حَقَّهُ يَبْطُلُ وَحَقَّهَا يَتَأَخَّرُ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى فِي الضَّرَرِ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَصِيرُ دَيْنًا بِفَرْضِ الْقَاضِي فَتَسْتَوْفِي الزَّمَانَ الثَّانِي، وَفَوْتُ الْمَالِ وَهُوَ تَابِعٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ التَّنَاسُلُ. وَفَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ مَعَ الْفَرْضِ أَنْ يُمَكِّنَهَا
ثَبَتَ فِي الْمُشْتَرَكِ جَوَازُ الْفَسْخِ لِعَدَمِهِ فَفِي الْمُخْتَصِّ بِهَا أَوْلَى، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَرْقُوقِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ إذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهِ.
(قَوْلُهُ وَلَنَا) الْمَنْقُولُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَغَايَةُ النَّفَقَةِ أَنْ تَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَقَدْ أَعْسَرَ بِهَا الزَّوْجُ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مَأْمُورَةً بِالْإِنْظَارِ بِالنَّصِّ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ فِي إلْزَامِ الْفَسْخِ إبْطَالَ حَقِّهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَفِي إلْزَامِ الْإِنْظَارِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ تَأْخِيرَ حَقِّهَا دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا كَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى، وَبِهِ فَارَقَ الْجَبَّ وَالْعُنَّةَ وَالْمَمْلُوكَ لِأَنَّ حَقَّ الْجِمَاعِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا نَفَقَةَ الْمَمْلُوكِ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الْمَالِكِ، وَيَخُصُّ الْمَمْلُوكُ أَنَّ فِي إلْزَامِ بَيْعِهِ إبْطَالَ حَقِّ السَّيِّدِ إلَى خَلْفٍ هُوَ الثَّمَنُ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهِ كَانَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِينَ فِي إلْزَامِهِ بَيْعَهُ، إذْ فِيهِ تَخْلِيصُ الْمَمْلُوكِ مِنْ عَذَابِ الْجُوعِ وَحُصُولِ بَدَلِهِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ لِلسَّيِّدِ، بِخِلَافِ إلْزَامِ الْفُرْقَةِ فَإِنَّهُ إبْطَالُ حَقِّهِ بِلَا بَدَلٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا لَمْ يَعْتِقْهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ سُنَّةٌ فَلَعَلَّهُ لَا يُرِيدُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ إطْلَاقُ مِثْلِ ذَلِكَ غَيْرَ مُرِيدٍ بِهِ ذَلِكَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ الْمَرْأَةُ فِي الْأَرْشِ كَالرَّجُلِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَحَالُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ. قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ إصْبَعَ امْرَأَةٍ؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: فَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ، قَالَ: عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثًا، قَالَ: ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعًا مِنْ أَصَابِعِهَا، قَالَ: عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ، قُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ لَمَّا كَثُرَ أَلَمُهَا وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا قَلَّ أَرْشُهَا. قَالَ: إنَّهُ السُّنَّةُ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَسَمَّى قَوْلَهُ سُنَّةً فَيَكُونُ مَا قَالَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ كَقَوْلِنَا فَاضْطَرَبَ الْمَرْوِيُّ مِنْهُ فَبَطَلَ ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ رَفْعَهُ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ
إحَالَةَ الْغَرِيمِ عَلَى الزَّوْجِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الِاسْتِدَانَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ.
(وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لَهَا بِنَفَقَةِ الْإِعْسَارِ ثُمَّ أَيْسَرَ فَخَاصَمَتْهُ تَمَّمَ لَهَا نَفَقَةَ الْمُوسِرِ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَمَا قَضَى بِهِ
غِنًى» وَفِي لَفْظٍ: «مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ إمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ الْوَلَدُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدَعُنِي» قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَا هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِلَا شُبْهَةٍ، ثُمَّ لَيْسَ فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَلْزَمُ بِالطَّلَاقِ، وَكَيْف وَهُوَ كَلَامٌ عَامٌّ مِنْهُ لَا يَخُصُّ الْمُعْسِرَ وَلَا الْمُوسِرَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا لَمْ يُطْعَمْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْفِرَاقِ بَلْ يُحْبَسُ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَيْنًا وَهُوَ الِاتِّفَاقُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ كَانَ مَعْنَاهُ الْإِرْشَادَ إلَى مَا يَنْبَغِي مِمَّا يُدْفَعُ بِهِ ضَرَرُ الدُّنْيَا، مِثْلُ {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يُبْدَأَ بِنَفَقَةِ الْعِيَالِ وَإِلَّا قَالُوا لَك مِثْلَ ذَلِكَ وَشَوَّشُوا عَلَيْك إذَا اسْتَهْلَكْت النَّفَقَةَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ مِثْلَهُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِثْلَ مَا يَلِيهِ مِنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بَلْ مِثْلَ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَرِوَايَتِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ.
(قَوْلُهُ إحَالَةُ الْغَرِيمِ عَلَى الزَّوْجِ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ وَفِي التُّحْفَةِ: فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ دَيْنَهُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ الْمَرْأَةِ وَبِدُونِهِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِدَانَةِ لَيْسَ لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بَلْ عَلَيْهَا وَهِيَ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ إيجَابُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ مِنْهَا وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الصَّحِيحِ بِخِلَافِ الْقَضَاءِ وَحْدَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ: الْمَرْأَةُ الْمُعْسِرَةُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا مُعْسِرًا وَلَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ مُوسِرًا وَأَخٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَيُؤْمَرُ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ وَيُحْبَسُ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ إنْ امْتَنَعَ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعْرُوفِ. قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ: تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْإِدَانَةَ لِنَفَقَتِهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَهِيَ مُعْسِرَةٌ تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلَا الزَّوْجُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لِلْمُعْسِرِ أَوْلَادٌ صِغَارٌ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَفَقَتِهِمْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ لَوْلَا الْأَبُ كَالْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَبِ.
(قَوْلُهُ تَمَّمَ لَهَا نَفَقَةَ الْيَسَارِ) هَكَذَا مَشَى عَلَيْهِ أَيْضًا صَاحِبُ الْكَنْزِ بَعْدَ اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ شَارِحُهُ بِأَنَّهُ نَوْعُ تَنَاقُضٍ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلَ الْبَابِ قَوْلُ الْخَصَّافِ ثُمَّ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ، وَلَوْ كَانَ فَرَضَ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَحَالِهَا مِقْدَارًا ثُمَّ غَلَا السِّعْرُ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِأَنْ يَزِيدَ فِي الْفَرْضِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى قَلْبِهِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْقُصَ.
(قَوْلُهُ وَمَا قَضَى بِهِ
تَقْدِيرٌ لِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ، فَإِذَا تَبَدَّلَ حَالُهُ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِتَمَامِ حَقِّهَا.
(وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ لَمْ يُنْفِقْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا وَطَالَبَتْهُ بِذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ لَوْ صَالَحَتْ الزَّوْجَ عَلَى مِقْدَارٍ فِيهَا فَيَقْضِي لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى) لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَلَيْسَتْ بِعِوَضٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَلَا يُسْتَحْكَمُ الْوُجُوبُ فِيهَا إلَّا بِالْقَضَاءِ كَالْهِبَةِ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بِمُؤَكَّدٍ وَهُوَ الْقَبْضُ وَالصُّلْحُ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ وِلَايَةِ الْقَاضِي، بِخِلَافِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ.
تَقْدِيرٌ لِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَتَقَرَّرُ حُكْمُ الْقَاضِي فِيهَا بِخُصُوصِ مِقْدَارٍ، وَلِأَنَّهُ كَانَ بِشَرْطِ الْإِعْسَارِ وَعَلَى تَقْدِيرِهِ وَقَدْ زَالَ فَيَزُولُ بِزَوَالِهِ.
(قَوْلُهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا) بِأَنْ غَابَ عَنْهَا أَوْ كَانَ حَاضِرًا وَامْتَنَعَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِفَرْضٍ أَوْ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى مِقْدَارٍ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا إذَا لَمْ يُعْطِهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ إلَّا إنْ كَانَتْ أَكَلَتْ مَعَهُ بَعْدَ الْفَرْضِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمُضِيِّ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْأَصَحِّ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهَا صِلَةٌ) أَيْ مِنْ وَجْهٍ (قَوْلُهُ وَلَيْسَتْ بِعِوَضٍ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هِيَ عِوَضٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ احْتِبَاسٌ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَإِصْلَاحِ أَمْرِ الْمَعِيشَةِ وَالِاسْتِئْنَاسِ هِيَ عِوَضٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ الشَّرْعِ وَأُمُورٍ مُشْتَرَكَةٍ كَإِعْفَافِ كُلِّ الْآخَرِ وَتَحْصِينِهِ عَنْ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ النَّسَبِ وَتَحْصِيلِ الْوَلَدِ لِيُقِيمَ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ صِلَةٌ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي فَلَا تَمْلِكُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلِاعْتِبَارِ أَنَّهَا عِوَضٌ قُلْنَا تَثْبُتُ إذَا قَضَى بِهَا أَوْ اصْطَلَحَا لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَعْلَى مِنْ وِلَايَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَلِاعْتِبَارِ أَنَّهَا صِلَةٌ قُلْنَا تَسْقُطُ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا اصْطِلَاحٍ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَذُكِرَ فِي الْغَايَةِ مَعْزُوًّا إلَى الذَّخِيرَةِ أَنَّ نَفَقَةَ مَا دُونَ الشَّهْرِ لَا تَسْقُطُ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، إذْ لَوْ سَقَطَتْ بِمُضِيٍّ يَسِيرٍ مِنْ الزَّمَانِ لَمَا تَمَكَّنَتْ مِنْ الْأَخْذِ أَصْلًا وَهَذَا حَقٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْوَجْهُ.
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَلَا يُسْتَحْكَمُ الْوُجُوبُ فِيهَا إلَّا بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا حَمَلْنَا كَلَامَهُ فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ أَنَّهُ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ مُتَرَتِّبٌ عَلَى تَرَدُّدِهَا بَيْنَ الصِّلَةِ الْمَحْضَةِ وَالْعِوَضِ الْمَحْضِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ، وَمَنْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُنْكِرُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُكَذَّبَةً شَرْعًا وَكَذَا الزَّوْجُ وَإِلَّا فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَار وَفَتْحِ بَابِ
(وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَمَضَى شُهُورٌ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ) وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الزَّوْجَةُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْهِبَةِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تَصِيرُ دَيْنًا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عِنْدَهُ فَصَارَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَجَوَابُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ.
(وَإِنْ)(أَسْلَفَهَا نَفَقَةَ السَّنَةِ) أَيْ عَجَّلَهَا (ثُمَّ مَاتَ) (لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهَا شَيْءٌ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله، يُحْتَسَبُ لَهَا
الْفَسَادِ خُصُوصًا عِنْدَ اضْطِرَارِهَا لِلنَّفَقَةِ مَعَ حَبْسِهَا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَمَضَى شُهُورٌ سَقَطَتْ) هَذَا تَقْيِيدٌ لِعَدَمِ السُّقُوطِ بِالْقَضَاءِ بِحَالَةِ حَيَاتِهِمَا وَأَطْلَقَهُ فَشَمَلَ مَا إذَا كَانَ الْقَاضِي أَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهَا فَوَافَقَ قَوْلَ الْخَصَّافِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَمْرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ تَامَّةٌ عَلَيْهِ عِنْدَ رَفْعِ قَضِيَّتِهَا لَهُ وَهُوَ الْقَاضِي فَكَانَ كَاسْتِدَانَتِهِ: أَيْ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ فَلَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ سُقُوطُهَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ بِالطَّلَاقِ وَالصَّحِيحُ لَا تَسْقُطُ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَالصِّلَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ إنَّهُ اسْتَحْكَمَ هَذَا الدَّيْنَ بِحُكْمِ الْقَاضِي وَجَعَلْتُمُوهُ مُؤَكَّدًا لِلِاسْتِحْقَاقِ كَالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى الْوُجُوبُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ بِالْقَضَاءِ لَا يَبْطُلُ مَعْنَى الصِّلَةِ بَلْ يُوجِبُ تَأَكُّدَ هَذِهِ الصِّلَةِ فَتَصِيرُ الصِّلَةُ كَغَيْرِ الصِّلَةِ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الصِّلَةِ بَاقِيًا أَثَّرَ الْمَوْتُ فِي سُقُوطِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْأَهْلِيَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ أَقْوَى فِي إبْطَالِهِ الصِّلَةَ فَيَحْتَاجُ لِلِاسْتِحْكَامِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَى زِيَادَةٍ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِدَانَةِ، وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ تَبْطُلْ الْأَهْلِيَّةُ فَيُسْتَحْكَمُ بِمُجَرَّدِ التَّأَكُّدِ بِالْقَضَاءِ بِهَا. .
[فَرْعٌ]
إبْرَاءُ الزَّوْجَةِ مِنْ النَّفَقَةِ هَلْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ؟ إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَفْرُوضَةٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي فَرَضَهَا كُلَّ شَهْرٍ كَذَا وَكَذَا صَحَّ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَةِ سَنَةٍ لَا يَبْرَأُ إلَّا مِنْ شَهْرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَرَضَ لَهَا كُلَّ سَنَةٍ كَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَرَضَ كَذَا كُلَّ شَهْرٍ فَإِنَّمَا فَرَضَ مَهْمَا يَتَجَدَّدُ الشَّهْرُ فَمَا لَمْ يَتَجَدَّدْ لَمْ يَتَجَدَّدْ الْفَرْضُ، وَمَا لَمْ يَتَجَدَّدْ الْفَرْضُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ الشَّهْرِ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ
نَفَقَةُ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلزَّوْجِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْكِسْوَةُ لِأَنَّهَا اسْتَعْجَلَتْ عِوَضًا عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ بِالِاحْتِبَاسِ، وَقَدْ بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْمَوْتِ فَيَبْطُلُ الْعِوَضُ بِقَدْرِهِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَعَطَاءِ الْمُقَاتَلَةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ صِلَةٌ وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَلَا رُجُوعَ فِي الصِّلَاتِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِانْتِهَاءِ حُكْمِهَا كَمَا فِي الْهِبَةِ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ لَا يُسْتَرَدُّ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهَا إذَا قَبَضَتْ نَفَقَةَ الشَّهْرِ أَوْ مَا دُونَهُ لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْحَالِ.
(وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً فَنَفَقَتُهَا دَيْنٌ عَلَيْهِ يُبَاعُ فِيهَا) وَمَعْنَاهُ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَقَدْ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ كَدَيْنِ التِّجَارَةِ فِي الْعَبْدِ التَّاجِرِ، وَلَهُ أَنْ يَفْدِيَ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي النَّفَقَةِ لَا فِي عَيْنِ الرَّقَبَةِ، فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ سَقَطَتْ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ
عَنْهَا. وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ بَعْدَمَا مَضَى أَشْهُرٌ عَمَّا مَضَى وَعَمَّا يَسْتَقْبِلُ بَرِئَ عَمَّا مَضَى وَعَنْ شَهْرٍ (قَوْلُهُ وَمَا بَقِيَ لِلزَّوْجِ) فَتَرُدُّهُ، وَكَذَا تَرُدُّ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ وَلَا تَرُدُّ قِيمَةَ الْهَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَالْمَوْتُ وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ، وَفِي نَفَقَةِ الْمُطَلَّقَةِ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ تَرُدُّ، وَقِيلَ لَا تَسْتَرِدُّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَائِمَةٌ فِي مَوْتِهِ كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ.
(قَوْلُهُ وَلَا رُجُوعَ فِي الصِّلَاتِ بَعْدَ الْمَوْتِ) بِخِلَافِ الْقَاضِي وَنَحْوِهِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ، وَالنَّظَرُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَيُعْطِي لِمَنْ يَلِي بَعْدَهُ مِنْ الْقُضَاةِ.
(قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْهُ: لَا تَرُدُّ نَفَقَةَ الشَّهْرِ وَمَا دُونَهُ، فَلِهَذَا وَضَعَهَا فِي السُّنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا خِلَافٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَلِذَا لَوْ قَبَضَتْ نَفَقَةَ أَشْهُرٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَالْبَاقِي شَهْرٌ فَأَقَلُّ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ. وَفِي الذَّخِيرَةِ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ كَنَفَقَةِ النِّكَاحِ، فَلَوْ فَرَضَ لَهَا نَفَقَةً فِيهَا فَلَمْ تَقْبِضْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ. وَهَلْ يُقَاسُ عَلَى الْمَوْتِ؟ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: فِيهِ كَلَامٌ. وَفِي الْخُلَاصَةِ مِنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى عَنْ الْحُلْوَانِيِّ قَالَ: الْمُخْتَارُ عِنْدِي لَا تَسْقُطُ. .
(قَوْلُهُ فَنَفَقَتُهَا دَيْنٌ عَلَيْهِ) أَيْ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهَا فَيُبَاعُ فِيهَا، فَإِذَا اشْتَرَاهُ مَنْ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ثُمَّ عَلِمَ فَرَضِيَ ظَهَرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَرَّةً أُخْرَى يُبَاعُ ثَانِيًا، وَكَذَا حَالُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَهَلُمَّ جَرًّا. وَلَا يُبَاعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إلَّا فِي دَيْنِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا تَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ تَجَدُّدِ الزَّمَانِ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي حَقِّ السَّيِّدِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَيْنٌ حَادِثٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِحَالِهِ أَوْ عَلِمَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَرْضَ فَلَهُ رَدُّهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ اطَّلَعَ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ إذَنْ الْمَوْلَى) لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا مَهْرَ لِعَدَمِ الصِّحَّةِ، وَدَخَلَ بِهَا طُولِبَ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْفَرْضِ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ وَالْمَهْرُ وَلَا يُطَالَبْ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَوْ كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ وَلَدَ أُمِّ وَلَدٍ وَلَا يُبَاعُ بِالنَّفَقَةِ بِعَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ يُبَاعُ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَبِلَ النَّقْلَ، هَذَا وَلَا نَفَقَةَ تَجِبُ لِوَلَدِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ لِأَنَّ أُمَّهُ إنْ كَانَتْ أَمَةً فَالْوَلَدُ عَبْدٌ لِمَوْلَاهَا فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى، وَإِنْ
فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ صِلَةٌ.
(وَإِنْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً فَبَوَّأَهَا مَوْلَاهَا مَعَهُ مَنْزِلًا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ) لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ الِاحْتِبَاسُ (وَإِنْ لَمْ يُبَوِّئْهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِعَدَمِ الِاحْتِبَاسِ، وَالتَّبْوِئَةُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَلَا يَسْتَخْدِمَهَا، وَلَوْ اسْتَخْدَمَهَا بَعْدَ التَّبْوِئَةِ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ فَاتَ الِاحْتِبَاسُ، وَالتَّبْوِئَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ، وَلَوْ خَدَمَتْهُ الْجَارِيَةُ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَخْدِمْهَا لِيَكُونَ اسْتِرْدَادًا، وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْأَمَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
كَانَتْ حُرَّةً فَوَلَدُهُ حُرٌّ، وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى مَمْلُوكٍ وَلَا عَلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّ وَلَدَهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ امْرَأَتُهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِذَا كَانَتْ امْرَأَةُ الْمُكَاتَبِ مُكَاتَبَةً وَهُمَا لِمَوْلًى وَاحِدٍ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأُمِّ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي كِتَابَتِهَا حَتَّى كَانَ كَسْبُ الْوَلَدِ لَهَا، وَكَذَا أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إلَى قِيمَتِهِ لِأَنَّهَا خَلْفُهُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ تُبْطِلُ الْمَوْتَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْقِيمَةُ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الرَّقَبَةِ فِي دَيْنٍ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً) قَيْدُ الْحُرِّ اتِّفَاقِيٌّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ قَبْلَ التَّبْوِئَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذَّكَرِ لِيَعْلَمَ النَّفْيَ فِي الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ إذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْحُرِّ الَّذِي هُوَ أَدْخَلُ فِي أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى مَا ذَكَرَ.
(قَوْلُهُ لِعَدَمِ الِاحْتِبَاسِ) أَيْ مِنْ الزَّوْجِ وَالْمَنْعِ مِنْ السَّيِّدِ، وَإِنْ كَانَ لِحَقِّهِ لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْمُوجِبُ وَهُوَ احْتِبَاسُ الزَّوْجِ وَلَا مُوجِبَ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ مَنْعِهَا لِنَفْسِهَا لِحَقِّهَا كَالْمَهْرِ فَإِنَّ فَوَاتَ الِاحْتِبَاسِ الْمُوجِبِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَيَجْعَلُ ثَابِتًا وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَالتَّبْوِئَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ) فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَقَّ الِاسْتِخْدَامِ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا بَوَّأَهَا فَقَدْ تَرَكَ حَقَّهُ مَا دَامَ لَمْ يَسْتَرِدَّهَا، وَاسْتِرْدَادُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ رُجُوعًا فِيمَا أَسْقَطَ بَلْ طَلَبَ حَقَّهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ أَوْ الْحَالِ وَلَهُ ذَلِكَ وَلِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُبَوِّئَهَا ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا ثُمَّ يُبَوِّئُهَا ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا وَهَلُمَّ جَرًّا، فَكُلَّمَا اسْتَرَدَّهَا سَقَطَتْ، فَإِذَا رَجَعَ فَبَوَّأَهَا وَجَبَتْ، وَلَوْ خَدَمَتْ الْمَوْلَى أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ اسْتِخْدَامٍ وَاسْتِرْدَادٍ لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا لِأَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ التَّبْوِئَةُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ الِاسْتِرْدَادِ.
(قَوْلُهُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا) أَيْ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ بِشَرْطِ التَّبْوِئَةِ (كَالْأَمَةِ)
فَصْلٌ
(وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي دَارٍ مُفْرَدَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ إلَّا أَنْ تَخْتَارَ ذَلِكَ) لِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ كِفَايَتِهَا فَتَجِبُ لَهَا كَالنَّفَقَةِ، وَقَدْ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَقْرُونًا بِالنَّفَقَةِ، وَإِذَا وَجَبَ حَقًّا لَهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ غَيْرَهَا فِيهِ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَأْمَنُ عَلَى مَتَاعِهَا، وَيَمْنَعُهَا ذَلِكَ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَمِنْ الِاسْتِمْتَاعِ، إلَّا أَنْ تَخْتَارَ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِانْتِقَاصِ حَقِّهَا (وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مَعَهَا) لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَسْكَنَهَا فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ مُفْرَدٍ وَلَهُ غَلْقٌ كَفَاهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ.
(وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ وَالِدَيْهَا وَوَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَأَهْلَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا)
وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا الْمُكَاتَبَةَ لِأَنَّهَا فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى كَالْحُرَّةِ لِاخْتِصَاصِهَا لِنَفْسِهَا وَمَنَافِعِهَا بِحُكْمِ عَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ
(فَصْلٌ)
(قَوْلُهُ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ) وَأَمَّا أَمَتُهُ فَقِيلَ أَيْضًا لَا يُسْكِنُهَا مَعَهَا إلَّا بِرِضَاهَا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِخْدَامِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِذَا أَفْرَدَهَا فِي بَيْتٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا بِحَضْرَتِهَا كَمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ بِحَضْرَتِهَا وَلَا بِحَضْرَةِ الضَّرَّةِ (قَوْلُهُ مَقْرُونًا بِالنَّفَقَةِ) فِي قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} فَإِنَّ الْمُرَادَ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالسُّكْنَى بِالْمِلْكِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ الْعَارِيَّةِ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا (وَقَوْلُهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مَعَهَا) قِيلَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا لَا يَفْهَمُ الْجِمَاعَ فَلَهُ إسْكَانُهُ مَعَهَا (قَوْلُهُ وَلَوْ أَسْكَنَهَا فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ مُفْرَدٍ وَلَهُ غَلْقٌ كَفَاهَا) اقْتَصَرَ عَلَى الْغَلْقِ أَفَادَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْخَلَاءُ مُشْتَرَكًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ غَلْقٌ يَخُصُّهُ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمَسْكَنٍ آخَرَ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِالْخَوْفِ عَلَى الْمَتَاعِ وَعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ قَدْ زَالَ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ كَوْنَ الْخَلَاءِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِ الْأَجَانِبِ، وَاَلَّذِي فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ: وَلَوْ كَانَتْ فِي الدَّارِ بُيُوتٌ وَأَبَتْ أَنْ تَسْكُنَ مَعَ ضَرَّتِهَا أَوْ مَعَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ إنْ أَخْلَى لَهَا بَيْتًا وَجَعَلَ لَهُ
لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مِلْكُهُ فَلَهُ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ مِلْكِهِ (وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا وَكَلَامِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ اخْتَارُوا) لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الدُّخُولِ وَالْكَلَامِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْقَرَارِ وَالدَّوَامِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ فِي اللِّبَاثِ وَتَطْوِيلِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَلَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَحَارِمِ التَّقْدِيرُ بِسَنَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
مَرَافِقَ وَغَلْقًا عَلَى حِدَةٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ بَيْتًا، وَلَوْ شَكَتْ أَنَّهُ يَضُرُّ بِهَا أَوْ يُؤْذِيهَا إنْ عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ زَجَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ سَأَلَ مِنْ جِيرَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِهَا أَوْ كَانُوا يَمِيلُونَ إلَيْهِ أَسْكَنَهَا بَيْنَ قَوْمٍ أَخْيَارٍ يَعْتَمِدُ الْقَاضِي عَلَى خَبَرِهِمْ.
(قَوْلُهُ لِمَا فِيهِ) أَيْ الْمَنْعُ مِنْ الْمُكَالَمَةِ (مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ) فِي الصَّحِيحِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» ، وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الرَّحِمُ شِجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ، قَالَ اللَّهُ: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ» وَالشِّجْنَةُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَضَمِّهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَرَابَةٌ مُشْتَبِكَةٌ كَاشْتِبَاكِ الْعُرُوقِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَعْنِي بِالشِّجْنَةِ الْوَصْلَةَ (قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَلَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ) ظَاهِرُ الْخُلَاصَةِ أَنَّ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ يَتَّصِلُ بِكُلٍّ مِنْ خُرُوجِهَا وَدُخُولِهِمَا فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْفَتَاوَى: لِلزَّوْجِ أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ عَلَى أَرْبَعِ خِصَالٍ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَرْبَعِ تَرْكُ الزِّينَةِ وَالزَّوْجُ يُرِيدُهَا وَتَرْكُ الْإِجَابَةِ إذَا دَعَاهَا إلَى فِرَاشِهِ وَتَرْكُ الصَّلَاةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْغُسْلُ وَالْخُرُوجُ مِنْ الْبَيْتِ أَمَّا مَا لَا تُمْنَعُ مِنْ زِيَارَةِ الْأَبَوَيْنِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَفِي زِيَارَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَحَارِمِ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَبُوهَا أَوْ قَرِيبُهَا أَنْ يَجِيءَ إلَيْهَا عَلَى هَذَا الْجُمُعَةِ وَالسَّنَةِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ مُقَاتِلٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمَحْرَمَ مِنْ الزِّيَارَةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِأَنْ لَا يَقْدِرَا عَلَى إتْيَانِهَا، فَإِنْ كَانَا يَقْدِرَانِ عَلَى إتْيَانِهَا لَا تَذْهَبُ وَهُوَ حَسَنٌ، فَإِنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ لَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مَعَ الْأَبِ الْخُرُوجُ وَقَدْ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ فَتُمْنَعُ، وَقَدْ اخْتَارَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِمَا، وَقَدْ أَشَارَ إلَى نَقْلِهِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ، وَالْحَقُّ الْأَخْذُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ الْأَبَوَانِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْت، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي زِيَارَتِهِمَا فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ عَلَى قَدْرٍ مُتَعَارَفٍ، أَمَّا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ فِي كَثْرَةِ الْخُرُوجِ فَتْحُ بَابِ الْفِتْنَةِ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ شَابَّةً وَالزَّوْجُ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ، بِخِلَافِ خُرُوجِ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ أَيْسَرُ، وَلَوْ كَانَ أَبُوهَا زَمِنًا مَثَلًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى خِدْمَتِهَا وَالزَّوْجُ يَمْنَعُهَا مِنْ تَعَاهُدِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُغْضِبَهُ مُسْلِمًا كَانَ الْأَبُ أَوْ كَافِرًا.
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: فَإِنْ كَانَتْ قَابِلَةً أَوْ غَسَّالَةً أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ أَوْ لِآخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ تَخْرُجُ بِالْإِذْنِ وَبِغَيْرِ الْإِذْنِ، وَالْحَجُّ عَلَى هَذَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ زِيَارَةِ الْأَجَانِبِ وَعِيَادَتِهِمْ وَالْوَلِيمَةِ لَا يَأْذَنُ لَهَا وَلَا تَخْرُجُ وَلَوْ أَذِنَ وَخَرَجَتْ كَانَا عَاصِيَيْنِ وَتُمْنَعُ مِنْ الْحَمَّامِ، فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَتْ لَهَا نَازِلَةٌ إنْ سَأَلَ الزَّوْجُ مَنْ الْعَالِمُ وَأَخْبَرَهَا بِذَلِكَ لَا يَسَعُهَا الْخُرُوجُ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ السُّؤَالِ يَسَعُهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا نَازِلَةٌ وَلَكِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ لِتَتَعَلَّمَ مَسْأَلَةً مِنْ مَسَائِلِ الْوُضُوءِ
(وَإِذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَهُ مَالٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَعْتَرِفُ بِهِ وَبِالزَّوْجِيَّةِ فَرَضَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ نَفَقَةَ زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَوَالِدَيْهِ، وَكَذَا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالزَّوْجِيَّةِ الْوَدِيعَةِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ حَقَّهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا هَاهُنَا
وَالصَّلَاةِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ يَحْفَظُ الْمَسَائِلَ وَيُذَاكِرُ مَعَهَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْفَظُ الْأَوْلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَحْيَانًا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسَعُهَا الْخُرُوجُ مَا لَمْ يَقَعْ لَهَا نَازِلَةٌ.
وَفِي الْفَتَاوَى فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ: الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ مَهْرَهَا لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي حَوَائِجِهَا وَتَزُورَ الْأَقَارِبَ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ، فَإِنْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ، وَلَا تُسَافِرُ مَعَ عَبْدِهَا خَصِيًّا كَانَ أَوْ فَحْلًا، وَكَذَا أَبُوهَا الْمَجُوسِيُّ وَالْمَحْرَمُ غَيْرُ الْمُرَاهِقِ، بِخِلَافِ الْمُرَاهِقِ وَحْدَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ اثْنَتَا عَشَرَ سَنَةً، وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا لِامْرَأَةٍ، وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إلَى مَا لَا يَكُونُ دَاعِيَةً إلَى نَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} وَقَوْلُ الْفَقِيهِ: وَتُمْنَعُ مِنْ الْحَمَّامِ خَالَفَهُ فِيهِ قَاضِي خَانْ.
قَالَ فِي فَصْلِ الْحَمَّامِ مِنْ فَتَاوَاهُ: دُخُولُ الْحَمَّامِ مَشْرُوعٌ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا خِلَافًا لِمَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ. رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْحَمَّامَ وَتَنَوَّرَ» ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ دَخَلَ حَمَّامَ حِمْصٍ، لَكِنْ إنَّمَا يُبَاحُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إنْسَانٌ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ انْتَهَى. وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي مَنْعِهِنَّ مِنْ دُخُولِهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُنَّ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفَقِيهِ مِنْهَا فِي النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ» وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «الْحَمَّامُ حَرَامٌ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَرَدَّ اسْتِثْنَاءَ النُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إلَّا بِالْإِزَارِ، وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ» وَفِي سَنَدِهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْإِفْرِيقِيُّ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الثِّقَاتِ، قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وَكَانَ يُقَوِّي أَمْرَهُ وَيَقُولُ: وَمُقَارِبُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَرَوَى عَيَّاشٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعِينٍ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ أَيُحْتَجُّ بِهِ: يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ، فَقَالَ نَعَمْ.
(قَوْلُهُ يَعْتَرِفُ بِهِ وَبِالزَّوْجِيَّةِ) فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ قَوْلُهُ وَبِالنَّسَبِ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِرَافِ قَوْلَهُ فَرَضَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ نَفَقَةَ زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَوَالِدَيْهِ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ) أَيْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَحَدَهُمَا احْتَاجَ فِي الْقَضَاءِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ إلَى إقْرَارِ مَنْ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ دُونَ الْبَيِّنَةِ (قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا هُنَا) فَإِنَّهُ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهَا مِمَّا فِي يَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَذَلِكَ
فَإِنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ فِيهِ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا الْمَرْأَةُ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ حُقُوقِ الْغَائِبِ،
لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهَا مِمَّا فِي يَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَيْنًا إلَّا اعْتِرَافُهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ فِيهِ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا يَثْبُتُ بِالِاعْتِرَافِ، وَلَا سِيَّمَا مُرَكَّبٌ مِنْ لَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ وَمَنْفِيِّهَا وَهُوَ سِيَّ وَمَعْنَاهُ الْمَثَلُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِيَّاكُمْ وَحَيَّةَ بَطْنِ وَادِ
…
هَمُوسُ النَّابِ لَيْسَ لَكُمْ بِسِيِّ
أَيْ بِمِثْلٍ وَلَا شَبِيهٍ، وَهُوَ وَاحِدُ سِيَّانِ مِنْ قَوْلِك هُمَا سِيَّانِ، وَأَصْلُهُ سِوَى قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا بَعْدَ كَسْرَةٍ أَوْ لِاجْتِمَاعِهَا مَعَ الْيَاءِ وَسَبْقِ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَإِنْ جَرَرْت مَا بَعْدَ مَا كَزَيْدٍ مَثَلًا فِي قَوْلِك أَكْرَمَنِي الْقَوْمُ لَا سِيَّمَا زَيْدٍ فَهُوَ عَلَى أَنَّ سِيًّا مُضَافٌ إلَى زَيْدٍ وَمَا زَائِدٌ مُقْحَمٌ كَقَوْلِهِ:
كُلُّ مَا حَيٍّ وَإِنْ أَمَرُوا
…
وَارِدُو الْحَوْضِ الَّذِي وَرَدُوا
وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى أَنَّ سِيًّا يُضَافُ إلَى مَا وَهُوَ مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا مِثْلَ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ، وَجَازَ كَوْنُهُ مُضَافًا مَعَ أَنَّ اسْمَ لَا يَجِبُ كَوْنُهُ نَكِرَةً لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مِثْلِ، وَمِثْلُ لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ وَخَبَرُ لَا مَحْذُوفٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ خُرُوجٌ عَنْ الْأَصْلِ فِي الْجَرِّ، بِالزِّيَادَةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ، وَفِي الرَّفْعِ بِحَذْفِ صَدْرِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ، وَهُوَ إنَّمَا يُقَاسُ إذَا طَالَتْ الصِّلَةُ. وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ الْجَرَّ عَلَى الرَّفْعِ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَا أَوْسَعُ مِنْ حَذْفِ الْمُبْتَدَأ مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْمَوْقِعِ، وَقَدْ يُقَالُ زِيَادَةُ مَا فِي نَفْسِهِ كَثِيرٌ وَلَكِنْ بَيْنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ مَمْنُوعٌ فَتَكَافَآ، وَأَمَّا نَصْبُ مَا بَعْدَ مَا فَقَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ صَاحِبُ الْغُرَّةِ: لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا، وَعَنْ هَذَا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ مُعْطٍ فِي فُصُولِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى بِلَا سِيَّمَا سِوَى الْجَرِّ وَالرَّفْعِ، وَذَكَرَ بَيْتَ امْرِئِ الْقِيسِ:
أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَك مِنْهُنَّ صَالِحٌ
…
وَلَا سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ
بِالْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّصْبَ، لَكِنْ قَدْ رُوِيَ النَّصْبُ فِيهِ أَيْضًا فَقِيلَ عَلَى الظَّرْفِ، وَقِيلَ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ، وَقِيلَ مَجْمُوعُ لَا سِيَّمَا بِمَنْزِلَةِ إلَّا، وَمَعْنَى الْإِخْرَاجِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إلَّا فِيهَا هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِإِثْبَاتِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، فَإِذَا قُلْت أَكْرَمَنِي الْقَوْمُ لَا سِيَّمَا زَيْدٍ فَقَدْ: أَثْبَتَ لَهُ أَبْلَغَ مِنْ إكْرَامِهِمْ وَقَدْ جَاءَ تَخْفِيفُهَا بِحَذْفِ إحْدَى الْيَاءَيْنِ
وَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ تَعَدَّى إلَى الْغَائِبِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مُضَارَبَةً، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الدَّيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا، أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ لَا تُفْرَضُ النَّفَقَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيْعِ، وَلَا يُبَاعُ مَالُ الْغَائِبِ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَلِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْحَاضِرِ وَكَذَا عَلَى الْغَائِب، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْضِي عَلَى الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ امْتِنَاعَهُ لَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ امْتِنَاعَهُ.
قَالَ (وَيَأْخُذُ مِنْهَا كَفِيلًا بِهَا) نَظَرًا لِلْغَائِبِ لِأَنَّهَا رُبَّمَا اسْتَوْفَتْ النَّفَقَةَ أَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ إذَا قَسَمَ بَيْنَ وَرَثَةٍ حُضُورٍ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا آخَرَ حَيْثُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْكَفِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولٌ وَهَاهُنَا مَعْلُومٌ وَهُوَ الزَّوْجُ
فَقِيلَ الْأُولَى لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ الْمُتَحَرِّكِ فَكَانَ حَذْفُهُ أَوْلَى، وَقِيلَ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا لَامٌ وَالْإِعْلَالُ فِي اللَّامِ أَوْلَى.
(قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ) بِإِقْرَارِهِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهَا مِمَّا فِي يَدِهِ (تَعَدَّى إلَى الْغَائِبِ) ضَرُورَةً. أَوْرَدَ عَلَيْهِ طَلَبَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ جَاءَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِمُودِعِ أَوْ بِمَدْيُونٍ لِلْغَائِبِ مُعَرِّفٍ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدَّفْعِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْبَعُ النَّظَرَ لِلْغَائِبِ، فَفِي الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ نَظَرٌ لَهُ بِإِبْقَاءِ مِلْكِهِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وَإِبْقَاءِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ: أَعْنِي قَرَابَةَ الْوِلَادِ وَلَيْسَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ قَضَاءٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ (قَوْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْحَاضِرِ) حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ وَعِنْدَهُ أَمْوَالٌ غَيْرُ الْأَثْمَانِ لَا يَبِيعُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بَلْ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبِيعَ هُوَ وَيَقْضِي، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَبَسَهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَيْهِ حَجْرٌ عَلَيْهِ وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، وَعِنْدَهُمَا
وَيُحَلِّفُهَا بِاَللَّهِ مَا أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ نَظَرًا لِلْغَائِبِ.
قَالَ (وَلَا يَقْضِي بِنَفَقَةٍ فِي مَالٍ غَائِبٍ إلَّا لِهَؤُلَاءِ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ وَاجِبَةٌ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ، أَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ الْمَحَارِمِ فَنَفَقَتُهُمْ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ لَمْ يَخْلُفْ مَالًا فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ لِيَفْرِضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهَا عَلَى الْغَائِبِ وَيَأْمُرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَقْضِي فِيهِ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهَا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغَائِبِ، فَإِنَّهُ لَوْ حَضَرَ وَصَدَّقَهَا فَقَدْ أَخَذَتْ حَقَّهَا، وَإِنْ جَحَدَ يَحْلِفُ، فَإِنْ نَكَلَ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّهَا، وَإِنْ عَجَزَتْ يَضْمَنُ الْكَفِيلُ أَوْ الْمَرْأَةُ، وَعَمَلُ الْقُضَاةِ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَهُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ،
يَبِيعُ عَلَى الْحَاضِرِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْبَيْعِ.
(قَوْلُهُ وَيُحَلِّفُهَا بِاَللَّهِ مَا أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ) ثُمَّ إذَا جَاءَ الْغَائِبُ فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ فِي إعْطَاءِ النَّفَقَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَازَ الْقَضَاءُ بِالدَّفْعِ كَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مِنْ مَالِهِ شَرْعًا أَصْلُهُ حَدِيثُ هِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ الْمُتَقَدِّمِ. وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَوْ كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ فِي بَيْتِهِ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ الزَّوْجِيَّةَ أَطْلَقَ الْأَخْذَ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا قَضَاءً بَلْ إيفَاءً، وَالْإِيفَاءُ لَا يُمْتَنَعُ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ، أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ غَابَ وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَطَلَبَ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الْقَاضِي الْإِيفَاءَ مِنْهُ أَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ إلَّا لِهَؤُلَاءِ) وَهُمْ الزَّوْجَةُ وَالْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ الصَّغِيرُ، وَيُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ الْأَوْلَادُ الْكِبَارُ الْإِنَاثُ وَالذُّكُورُ الْكِبَارُ الزَّمْنَى وَنَحْوَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَالصِّغَارِ لِلْعَجْزِ عَنْ الْكَسْبِ.
(قَوْلُهُ فَنَفَقَتُهُمْ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَضَاءِ) لَا شَكَّ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ بِدَلِيلِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَتَّى كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ دِيَانَةً، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ فَقَدْ يُمْتَنَعُ تَمَسُّكًا بِقَوْلِ مَنْ يَرَى أَنْ لَا تَجِبَ النَّفَقَةُ فَلَا يُعَيَّنُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْوُجُوبِ إلَّا الْقَضَاءُ بِهِ فَيَنْتَفِي تَأْوِيلُهُ وَيَتَقَرَّرُ فِي ذِمَّتِهِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ. وَفِي الْكَافِي: لَوْ أَنْفَقَ الْمَدْيُونُ أَوْ الْمُودِعُ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ضَمِنَ الْمُودِعُ وَلَا يَبْرَأُ الْمَدْيُونُ وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا فَلَمْ يَذْكُرْهَا.
(فَصْلٌ)
(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا رَجْعِيًّا كَانَ أَوْ بَائِنًا)
عَلَيْهِ، وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ الْوَدِيعَةُ فَالْقَاضِي يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَنَظَرَ لِلْغَائِبِ فَإِنَّ الدَّيْنَ مَحْفُوظٌ لَا يَحْتَمِلُ الْهَلَاكَ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ.
(قَوْلُهُ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا) مِنْهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا: إذَا جَحَدَ الْمَدْيُونُ أَوْ الْمُودَعُ الزَّوْجِيَّةَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّهَا تَدَّعِي حَقًّا فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبٍ فَكَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ السَّبَبِ، كَمَنْ ادَّعَى بَيْتًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ لَهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ النِّكَاحَ عَلَى الْغَائِبِ وَمَنْ عِنْدَهُ الْمَالُ لَيْسَ خَصْمًا فِيهِ. وَمِنْهَا مَا قَالَ بِهِ زُفَرُ رحمه الله مِنْ سَمَاعِ بَيِّنَتِهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لِيَفْرِضَ لَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ وَيَأْمُرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا، وَقَوْلُ زُفَرَ فِي ذَلِكَ مُتَقَرِّرٌ، وَنَقَلَ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَقَوَّى عَمَلَ الْقُضَاةِ
لِحَاجَةِ
النَّاسِ إلَى ذَلِكَ.
[فُرُوعٌ]
فِي الْفَتَاوَى: امْرَأَةٌ قَالَتْ: إنَّ زَوْجِي يُطِيلُ الْغَيْبَةَ عَنِّي فَطَلَبَتْ كَفِيلًا بِالنَّفَقَةِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: آخُذُ كَفِيلًا بِنَفَقَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمْكُثُ فِي السَّفَرِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ أَخَذَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْكَفِيلَ بِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا: لَوْ كَفَلَ بِنَفَقَتِهَا مَا عَاشَتْ أَوْ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ مَا بَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا صَحَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ عَلَى شَهْرٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ ضَمِنَ لَهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، وَلَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَفَلَ بِنَفَقَةِ عِدَّتِهَا كُلَّ شَهْرٍ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ إلَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا، أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَهُ قَائِمٌ لَا سِيَّمَا عِنْدَنَا فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ، وَأَمَّا الْبَائِنُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ مَا رُوِيَ «عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَفْرِضْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً» وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِانْعِدَامِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} الْآيَةَ. وَلَنَا أَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ احْتِبَاسٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالِاحْتِبَاسُ قَائِمٌ فِي حَقِّ حُكْمٍ مَقْصُودٍ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْوَلَدُ إذْ الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ لِصِيَانَةِ الْوَلَدِ
قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ) وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُخْتَلِعَةُ إذْ لَا بَيْنُونَةَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ (إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا) فَإِنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدَهُ، وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَوَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ سَبِيلٍ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَنَكَحَتْهُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ».
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَقَالَ فِيهِ «لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى» وَرَوَاهُ أَيْضًا وَقَالَ فِيهِ «إنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ خَرَجَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَأَرْسَلَ إلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ تَطْلِيقِهَا» وَعَلَى هَذَا فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الثَّلَاثِ عَلَى أَنَّهُ أَوْقَعَ وَاحِدَةً هِيَ تَمَامُ الثَّلَاثِ، وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بِنَفَقَةٍ فَسَخِطَتْهَا فَقَالَا: وَاَللَّهِ لَيْسَ لَك نَفَقَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ لَهُ، قَوْلَهُمَا فَقَالَ:«لَا نَفَقَةَ لَكِ» زَادَ أَبُو دَاوُد فِي هَذَا بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ عَقِيبَ قَوْلِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ «وَلَا نَفَقَةَ لَكِ: إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا» وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ نَسَبَهُ إلَى مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْحَقَّ مَا عَلِمْت.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ
فَتَجِبُ النَّفَقَةُ وَلِهَذَا كَانَ لَهَا السُّكْنَى بِالْإِجْمَاعِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا. وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَدَّهُ عُمَرُ رضي الله عنه، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَرَدَّهُ أَيْضًا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم.
(وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا) لِأَنَّ احْتِبَاسَهَا لَيْسَ لِحَقِّ الزَّوْجِ بَلْ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِنَّ التَّرَبُّصَ عِبَادَةٌ مِنْهَا.
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ، فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ» الْحَدِيثَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَدَمُ طَعْنِ السَّلَفِ فِيهِ وَعَدَمُ الِاضْطِرَابِ وَعَدَمُ مُعَارِضٍ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَالْمُتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضِدُّ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَمَّا طَعْنُ السَّلَفِ فَقَدْ طَعَنَ عَلَيْهَا فِيهِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ سَنَذْكُرُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمْ الطَّعْنُ بِسَبَبِ كَوْنِ الرَّاوِي امْرَأَةً وَلَا كَوْنِ الرَّاوِي أَعْرَابِيًّا، فَقَدْ قَبِلُوا حَدِيثَ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا فِي هَذَا الْخَبَرِ، بِخِلَافِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّهَا تُعْرَفُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَبِخَبَرِ الدَّجَّالِ حَفِظَتْهُ مَعَ طُولِهِ وَوَعَتْهُ وَأَدَّتْهُ، ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ لَهَا مِنْ الْفِقْهِ مَا أَفَادَ عِلْمًا وَجَلَالَةَ قَدْرٍ؛ وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَ إلَيْهَا قَبِيصَةَ بْنَ أَبِي ذُؤَيْبٍ يَسْأَلُهَا عَنْ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَتْهُ بِهِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا مِنْ امْرَأَةٍ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُ مَرْوَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. إلَى قَوْله تَعَالَى {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَكَيْفَ تَقُولُونَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا؟ " وَقَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ وَحْدَهُ وَهُوَ أَعْرَابِيٌّ، فَجَزَمْنَا أَنَّ رَدَّ عُمَرَ وَغَيْرَهُ لِخَبَرِهَا لَيْسَ إلَّا لِمَا عَلِمُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخَالِفًا لَهُ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ السَّلَفِ إلَى أَنْ رَوَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها هَذَا الْخَبَرَ مَعَ أَنَّ عُمَرَ رَدَّهُ، وَصَرَّحَ بِالرِّوَايَةِ، بِخِلَافِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْت مَعَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نَفَقَةً، فَأَخَذَ الْأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصًا فَحَصَبَهُ بِهِ وَقَالَ: وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا. قَالَ عُمَرُ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} » فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى. وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا رَفْعٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَ قَائِلُهُ عُمَرَ رضي الله عنه.
وَفِيمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ زِيَادَةُ قَوْلِهِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى» وَقُصَارَى مَا هُنَا أَنْ تُعَارَضَ رِوَايَتُهَا بِرِوَايَتِهِ، فَأَيُّ الرِّوَايَتَيْنِ يَجِبُ تَقْدِيمُهَا؟ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ قَالَ " مَا كُنَّا نُغَيِّرُ فِي دِينِنَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ " فَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الدِّينُ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فَيَنْزِلُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ مِنْ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ. وَالثِّقَةُ إذَا شَذَّ لَا يُقْبَلُ مَا شَذَّ فِيهِ، وَيُصَرِّحُ بِهَذَا مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ مَرْوَانَ: سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ إذْ ذَاكَ هُمْ الصَّحَابَةُ، فَهَذَا فِي الْمَعْنَى حِكَايَةُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَوَصَفَهُ بِالْعِصْمَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرَيْ إلَى فُلَانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَلْبَتَّةَ، فَخَرَجَتْ فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِي إلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ فَقَالَتْ: أَمَا إنَّهُ لَا خَيْرَ لَهَا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا غَايَةُ الْإِنْكَارِ حَيْثُ نَفَتْ الْخَبَرَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْهُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ: أَعْلَمَ بِأَحْوَالِ النِّسَاءِ فَقَدْ كُنَّ يَأْتِينَ إلَى مَنْزِلِهَا وَيَسْتَفْتِينَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَكَثُرَ وَتَكَرَّرَ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى: تَعْنِي فِي قَوْلِهَا: لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هَارُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ أَحْسِبُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: إنَّمَا أَخْرَجَك هَذَا اللِّسَانُ: يَعْنِي أَنَّهَا اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا وَكَثُرَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ فَأَخْرَجَهَا عليه الصلاة والسلام لِذَلِكَ. وَيُفِيدُ ثُبُوتُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَدْ احْتَجَّ بِهِ وَهُوَ مَعَاصِرُ عَائِشَةَ، وَأَعْظَمُ مُتَتَبِّعٍ لِأَقْوَالِ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ حِفْظًا وَدِرَاسَةً، وَلَوْلَا أَنَّهُ عَلِمَهُ عَنْهَا مَا قَالَهُ، وَذَلِكَ مَا فِي أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَدَفَعْت إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقُلْت: فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ طَلُقَتْ فَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتْ النَّاسَ كَانَتْ لِسَنَةٍ فَوَضَعَتْ عَلَى يَدِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَنْصِبِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسُبَ إلَى صَحَابِيَّةٍ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَكَذَا هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسْتَنَدُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ حَيْثُ قَالَ: خُرُوجُ فَاطِمَةَ إنَّمَا كَانَ عَنْ سُوءِ الْخُلُقِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْهُ. وَمِمَّنْ رَدَّهُ زَوْجُهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ عَنْ أَبِي هُرْمُزَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَقُولُ: كَانَ أُسَامَةُ إذَا ذَكَرَتْ فَاطِمَةُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: يَعْنِي مِنْ انْتِقَالِهَا فِي عِدَّتِهَا رَمَاهَا بِمَا فِي يَدِهِ انْتَهَى. هَذَا مَعَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَعْرَفَ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَقَلَهَا عَنْهُ إلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى بَنَى بِهَا، فَهَذَا لَمْ يَكُنْ قَطْعًا إلَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ مِنْهَا، أَوْ لِعِلْمِهِ بِخُصُوصِ سَبَبِ جَوَازِ انْتِقَالِهَا مِنْ اللَّسَنِ أَوْ خِيفَةَ الْمَكَانِ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَمْ يَظْفَرْ الْمُخَرِّجُ رحمه الله بِحَدِيثِ أُسَامَةَ فَاسْتَغْرَبَهُ وَاَللَّهُ الْمُيَسِّرُ.
وَقَالَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ قَالَ: فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ تُحَدِّثُ مِنْ خُرُوجِهَا قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ. وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما قَالَا: " الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ ".
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ حَرْبِ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى» قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَا ذُكِرَ فِيهِ السَّمَاعُ، أَوْ كَانَ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ. وَحَرْبُ بْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ أَيْضًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالْأَشْبَهُ وَقْفُهُ عَلَى جَابِرٍ، وَهَذَا بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَوْهِينِ رَفْعِهِ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ جَابِرًا عَلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ، وَقَدْ تَمَّ بِمَا ذَكَرْنَا بَيَانَ الْمُعَارِضِ وَالطَّعْنِ.
وَأَمَّا بَيَانُ الِاضْطِرَابِ فَقَدْ سُمِعْت فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَهُوَ غَائِبٌ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثُمَّ سَافَرَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَتْهُ. وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ذَهَبَ فِي نَفَرٍ فَسَأَلُوهُ صلى الله عليه وسلم، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سُمِّيَ الزَّوْجُ أَبَا عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَبَا حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِضَعْفِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ. وَمِمَّنْ رَدَّ الْحَدِيثَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَمِنْ التَّابِعِينَ مَعَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ شُرَيْحُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ. وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْعُذْرُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ إنَّمَا أَسْقَطَ تِلْكَ السُّكْنَى وَالْحَالُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: لَا نَفَقَةَ لَك وَلَا سُكْنَى، قُلْنَا: لَيْسَ عَلَيْنَا أَوَّلًا أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ الْعُذْرِ عَمَّا رَوَتْ، بَلْ يَكْفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَلِمَرْوِيِّ عُمَرَ فِي تَرْكِهِ كَائِنًا هُوَ فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ، إلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذَلِكَ حَسَنٌ حَمْلًا لِمَرْوِيِّهَا عَلَى الصِّحَّةِ. وَنَقُولُ: فِيهِ أَنَّ عَدَمَ السُّكْنَى كَانَ لِمَا سَمِعَتْ. وَأَمَّا عَدَمُ النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَى الشَّعِيرِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إلَيْهَا فَطَالَبَتْ هِيَ أَهْلَهُ عَلَى مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ «أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ الْحَدِيثَ. فَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم لَهَا لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى» عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُفْ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ، وَلَيْسَ يَجِبُ لَك عَلَى أَهْلِهِ شَيْءٌ فَلَا نَفَقَةَ لَك عَلَى أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ، فَلَمْ تَفْهَمْ هِيَ الْغَرَضَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَتْ تَرْوِي نَفْيَ النَّفَقَةِ مُطْلَقًا فَوَقَعَ إنْكَارُ النَّاسِ عَلَيْهَا، ثُمَّ إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ مَا نَظَرَتْ فِيهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ لَهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ: وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَبِهِ جَاءَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُفَسِّرَةً لَهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْبَوَائِنِ بِدَلِيلِ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى عَقِيبَهُ {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلَوْ كَانَتْ الْآيَةُ فِي غَيْرِ الْمُطَلَّقَاتِ أَوْ فِي الرَّجْعِيَّاتِ كَانَ التَّقْدِيرُ: أَسْكِنُوا الزَّوْجَاتِ وَالرَّجْعِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ. وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِجَعْلِ غَايَةِ إيجَابِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا الْوَضْعَ.
فَإِنَّ النَّفَقَةَ وَاجِبَةٌ لَهَا مُطْلَقًا حَمْلًا كَانَتْ أَوْ لَا، وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَوْ لَا، بِخِلَافِهِ مَا إذَا كَانَتْ فِي الْبَوَائِنِ فَإِنَّ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ دَفْعُ تَوَهُّمِ عَدَمِ النَّفَقَةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ الْحَامِلِ فِي تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْلِ لِطُولِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى
أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى التَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَيْسَ بِمُرَاعًى فِيهِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ فِيهَا الْحَيْضُ فَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَلَا مِلْكَ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ (وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ الرِّدَّةِ وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِأَنَّهَا صَارَتْ حَابِسَةً نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَتْ كَمَا إذَا كَانَتْ نَاشِزَةً، بِخِلَافِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ وُجِدَ التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ الْمَهْرِ بِالْوَطْءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ كَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ كَمَا إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ.
(وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ مَكَّنَتْ ابْنَ زَوْجِهَا) مِنْ نَفْسِهَا (فَلَهَا النَّفَقَةُ) مَعْنَاهُ: مَكَّنَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ،
ثَلَاثِ حِيَضٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وقَوْله تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يَرْجِعُ إلَى الرَّجْعِيَّاتِ مِنْهُنَّ، وَذِكْرُ حُكْمٍ خَاصٍّ بِبَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الصَّدْرُ لَا يُبْطِلُ عُمُومَ الصَّدْرِ.
(قَوْلُهُ أَلَا يَرَى أَنَّ مَعْنَى التَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَيْسَ مُرَاعًى فِيهَا) اسْتِيضَاحٌ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ عِبَادَةٌ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ مَا لَمْ يَظْهَرْ حَمْلٌ، وَكَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيُعَارِضُ ذَلِكَ انْقِضَاؤُهَا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِمَوْتِهِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ. وَأَنْتَ إذَا أَنْعَمْت النَّظَرَ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ فِي مَسْأَلَةِ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ ظَهَرَ لَك جَوَابُ هَذَا فَارْجِعْ إلَيْهِ وَأَتْقِنْهُ.
(قَوْلُهُ وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ بِمَعْصِيَةٍ) احْتَرَزَ بِهِ عَمَّا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ مُطْلَقًا وَعَمَّا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِهَا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّ لَهَا النَّفَقَةَ فِيهِمَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إمَّا مِنْ قِبَلِهِ أَوْ قِبَلِهَا، فَفِي الْأَوَّلِ لَهَا النَّفَقَةُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِثْلَ الْفُرْقَةِ بِطَلَاقِهِ أَوْ لِعَانِهِ أَوْ عُنَّتِهِ أَوْجَبِّهِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ، وَيُشْكِلُ عَلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ لِلْمُلَاعَنَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ اللِّعَانِ فِي الْحَدِيثِ «مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْعَلْ لَهَا بَيْتًا وَلَا قُوتًا عَلَيْهِ» أَوْ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ الْفُرْقَةِ بِتَقْبِيلِهِ بِنْتَ زَوْجَتِهِ، أَوْ إيلَائِهِ مَعَ عَدَمِ فَيْئِهِ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، أَوْ إبَائِهِ الْإِسْلَامَ إذَا أَسْلَمَتْ هِيَ، أَوْ ارْتَدَّ هُوَ فَعُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَلَمْ يُسْلِمْ لِأَنَّ بِمَعْصِيَتِهِ لَا تُحْرَمُ هِيَ النَّفَقَةَ وَأَمَّا الثَّانِي فَإِمَّا بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ تَمْكِينِهَا ابْنَ الزَّوْجِ أَوْ إبَائِهَا إذَا أَسْلَمَ هُوَ وَهِيَ وَثَنِيَّةٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٌ وَرِدَّتُهَا فَلَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ لِأَنَّهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ حَابِسَةٌ نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَانَتْ كَالنَّاشِزَةِ، وَإِمَّا بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِثْلَ الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَوَطْءِ ابْنِ الزَّوْجِ لَهَا مُكْرَهَةً تَجِبُ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ لَهَا أَوْ عُذِرَتْ شَرْعًا فِيهِ، وَلَهَا السُّكْنَى فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِأَنَّ الْقَرَارَ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ حَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا يَسْقُطُ بِمَعْصِيَتِهَا، أَمَّا النَّفَقَةُ فَحَقٌّ لَهَا فَتُجَازَى بِسُقُوطِهِ بِمَعْصِيَتِهَا.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ) يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا وَإِنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا بِمَعْصِيَةٍ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْمُوجِبُ لَهُ وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا فَتَقَرَّرَ الْحَقُّ لَهَا فِيهِ قَبْلَ طُرُوُّ الْمَعْصِيَةِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا) لَا لِعَيْنِ الرِّدَّةِ هُنَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَجِئْ بِسَبَبِهَا فَهِيَ وَتَمْكِينِهَا ابْنِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ
لِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَثْبُتُ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ وَلَا عَمَلَ فِيهَا لِلرِّدَّةِ وَالتَّمْكِينِ، إلَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ، وَلَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ، وَالْمُمَكَّنَةُ لَا تُحْبَسُ فَلِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ.
سَوَاءٌ فَكَمَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِالتَّمْكِينِ هُنَا لَا تَسْقُطُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ بِالرِّدَّةِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ فِي هَذِهِ الرِّدَّةِ إذَا أُخْرِجَتْ وَحُبِسَتْ إذْ لَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ، أَوْ إذَا لَحِقَتْ حَتَّى لَوْ لَمْ تَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ تَخْرُجْ بَعْدَ هَذِهِ الرِّدَّةِ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ، وَلَوْ حُبِسَتْ أَوْ لَحِقَتْ فَعَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَجَعَتْ إلَى بَيْتِهَا عَادَ اسْتِحْقَاقُهَا لِلنَّفَقَةِ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ عَادَتْ إلَى بَيْتِهَا مُسْلِمَةً أَوْ مُرْتَدَّةً عَادَتْ نَفَقَتُهَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ اللِّحَاقِ، يُخَالِفُهُ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ: لَوْ عَادَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، وَوَفَّقَ بِحَمْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ عَلَى مَا إذَا حَكَمَ بِلَحَاقِهَا، وَمَا فِي الذَّخِيرَةِ عَلَى مَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالرِّدَّةِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ وَعَادَتْ إلَى مَنْزِلِهِ لَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ لِأَنَّهَا الْمُفَوِّتَةُ لِمِلْكِ النِّكَاحِ وَهُوَ لَا يَعُودُ بِعَوْدِهَا إلَى الْمَنْزِلِ مُسْلِمَةً، وَلَوْ كَانَ تَمْكِينُهَا وَرِدَّتُهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ كَانَا قَبْلَ الطَّلَاقِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ فِي الرَّجْعِيِّ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ كَانَتْ لَهَا نَفَقَةٌ يَوْمَ طَلُقَتْ ثُمَّ صَارَتْ إلَى حَالٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا فَلَهَا أَنْ تَعُودَ وَتَأْخُذَ النَّفَقَةَ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا يَوْمَ طَلُقَتْ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ بَعْدَهُ، فَلَوْ طَلَّقَ الْأَمَةَ بَائِنًا وَكَانَتْ مُبَوَّأَةً مَعَهُ بَيْتًا فَأَخْرَجَهَا الْمَوْلَى إلَى خِدْمَتِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، فَإِنْ أَعَادَهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ تَأْخُذُ النَّفَقَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى فَطَلُقَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ وَتَأْخُذَ نَفَقَتَهَا لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ كَانَتْ نَاشِزَةً يَوْمَ الطَّلَاقِ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْمَنْزِلِ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَعُودُ نَفَقَتُهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّفَقَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً إلَّا أَنَّهَا مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْ حَقٍّ وَاجِبٍ لَهَا فَلَهَا أَنْ تَعُودَ فَتَأْخُذَهُ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى لَفْظِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ.
وَلَوْ تَطَاوَلَتْ الْعِدَّةُ كَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ تَدْخُلْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَوْ صَالَحَ الْمُعْتَدَّةَ عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ جَازَ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْحَيْضِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَمْتَدَّ الطُّهْرُ بِهَا، وَإِذَا لَمْ تُطَالِبْ بِالنَّفَقَةِ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ سَقَطَتْ كَاَلَّتِي فِي الْعِصْمَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً. وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ النَّفَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهِيَ زَوْجَةٌ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْهَا فِي عَقْدِ الْخُلْعِ صَحَّ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِي الْخُلْعِ إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ اسْتِيفَاءٌ وَالِاسْتِيفَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ يَجُوزُ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُطَلَّقَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَعَ يَمِينِهَا إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ.
وَلَوْ كَانَتْ ادَّعَتْ حَبَلًا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا إلَى سَنَتَيْنِ، فَإِنْ قَالَتْ بَعْدَهُمَا كُنْت اعْتَقَدْته حَبَلًا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ إيَّاهُ وَأَنَا حَائِلٌ لَمْ أَحِضْ وَقَالَ بَلْ ادَّعَيْت الْحَبَلَ كَذِبًا وَظَهَرَ كَذِبُك فَلَا نَفَقَةَ لَك لَا يَلْتَفِتُ الْقَاضِي إلَى قَوْلِهِ وَيَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أَوْ تَدْخُلَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ الْفَضْلِيُّ: لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِذَلِكَ بَلْ يُوقَفُ حَالُهَا لِاحْتِمَالِ حَبَلِهَا فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، كَذَا ذَكَرَ هَذَا الْفَرْعَ بَعْضُهُمْ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إلَّا
فَصْلٌ
(وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ
لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ كَمَا لَا يُشَارِكُهُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ)
إذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ فَرَاغُ رَحِمِهَا هَذَا فِي الْمُحِيطِ اهـ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ وَهُوَ حَسَنٌ. وَفِيهَا: رَجُلٌ غَابَ فَتَزَوَّجَتْ امْرَأَتُهُ بِآخَرَ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي فَحَضَرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي وَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الثَّانِي، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي عِدَّةِ الثَّانِي لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَلَا عَلَى الثَّانِي مَا دَامَتْ فِي عِدَّةِ الثَّانِي، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّةُ الثَّانِي تَجِبُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ، كَذَا فِي الْأَقْضِيَةِ. وَفِي الْفَتَاوَى قَالَ: تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا تَزَوَّجَتْ فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ، أَمَّا إذَا خَرَجَتْ فَلَا.
(فَصْلٌ)
(قَوْلُهُ وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ) قَيَّدَ بِالصِّغَرِ فَخَرَجَ الْبَالِغُ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ الْأَبُ إمَّا غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ، وَالْأَوْلَادُ إمَّا صِغَارٌ أَوْ كِبَارٌ، فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ غَنِيًّا وَالْأَوْلَادُ كِبَارًا، فَإِمَّا إنَاثٌ أَوْ ذُكُورٌ، فَالْإِنَاثُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُنَّ إلَى أَنْ يَتَزَوَّجْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ مَالٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُنَّ فِي عَمَلٍ وَلَا خِدْمَةٍ وَإِنْ كَانَ لَهُنَّ قُدْرَةٌ، وَإِذَا طَلُقَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا عَادَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْأَبِ، وَالذُّكُورُ إمَّا عَاجِزُونَ عَنْ الْكَسْبِ لِزَمَانَةٍ أَوْ عَمًى أَوْ شَلَلٍ أَوْ ذَهَابِ عَقْلٍ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْكِرَامِ لَا يَجِدُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَهُوَ عَاجِزٌ، وَكَذَا طَلَبَةُ الْعِلْمِ إذَا كَانُوا لَا يَهْتَدُونَ إلَى الْكَسْبِ نَفَقَتُهُمْ عَلَى آبَائِهِمْ؛ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: وَرَأَيْت فِي مَوْضِعٍ: هَذَا إذَا كَانَ بِهِمْ رُشْدٌ، وَقَوْلُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الصِّغَارِ، أَمَّا الْكِبَارُ فَعَلَى الظَّاهِرِ كَمَا سَيَأْتِي وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَاجِزِينَ لَا نَفَقَةَ لَهُمْ.
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْأَبُ غَنِيًّا وَهُمْ صِغَارٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَالٌ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الذَّكَرُ حَدَّ الْكَسْبِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْأُنْثَى ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُبَذِّرًا يُدْفَعُ كَسْبُ الِابْنِ إلَى أَمِينٍ كَمَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ؛ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ فَإِمَّا حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَنَفَقَتُهُمْ فِي مَالِهِمْ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَجَبَتْ عَلَى الْأَبِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِهِمْ يُنْفِقُ بِإِذْنِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ، فَلَوْ أَنْفَقَ بِلَا أَمْرِهِ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَشْهَدَ لَكِنْ أَنْفَقَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحُكْمِ رُجُوعٌ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ.
الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ فَقِيرًا، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَكِبَارًا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وَالْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ الْأَبُ
قَادِرِينَ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ نَفَقَتَهُ هُوَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا أَغْنِيَاءَ فَكَذَلِكَ أَيْضًا.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ وَهُمْ صِغَارٌ أَوْ كِبَارٌ عَاجِزُونَ وَالْأَبُ أَيْضًا عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ، فَالْخَصَّافُ قَالَ: يَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ نَفَقَتُهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ اكْتَسَبَ، فَإِنْ امْتَنَعَ عَنْ الْكَسْبِ حُبِسَ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ وَإِنْ عَلَا فِي دَيْنِ وَلَدٍ لَهُ وَإِنْ سَفُلَ إلَّا فِي النَّفَقَةِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ إتْلَافُ النَّفْسِ وَلَا يَحِلُّ لِلْأَبِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ عَدَا الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ بِسَيْفٍ بِحَيْثُ لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إلَّا بِقَتْلِهِ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وَإِذَا لَمْ يَفِ كَسْبُهُ بِحَاجَتِهِمْ أَوْ لَمْ يَكْتَسِبْ لِعَدَمِ تَيَسُّرِ الْكَسْبِ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ الْقَرِيبُ وَرَجَعَ عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ. وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ مَالٌ وَالْجَدُّ أَوْ الْأُمُّ أَوْ الْخَالُ أَوْ الْعَمُّ مُوسِرٌ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الصَّغِيرِ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ، وَكَذَا يُجْبَرُ الْأَبْعَدُ إذَا غَابَ الْأَقْرَبُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أُمٌّ مُوسِرَةٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهَا، وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ إلَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ فِي الْأَوَّلِ، وَمَا نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ عَدَمِ الرُّجُوعِ فِيهِ نَظَرٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَأُمٌّ مُوسِرَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عَلَى الْجَدِّ وَحْدَهُ لِجَعْلِهِ كَالْأَبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَفِي نَفَقَاتِ الشَّهِيدِ: خَلَعَ امْرَأَتَهُ وَغَابَ عَنْهَا فَطَالَبَتْ عَمَّهُمْ فَعَلَى الْعَمِّ ثُلُثَا نَفَقَتِهِمْ وَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ يَرْجِعَانِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا إذَا كَانَتْ الْغَيْبَةُ مُنْقَطِعَةً.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْأَبِ رِزْقَ الْوَالِدَاتِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَوْلُودِ لَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِلَّةِ الْإِيجَابِ عَلَيْهِ. وَهُوَ الْوِلَادُ لَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِمُشْتَقٍّ يُفِيدُ كَوْنَ مَبْدَإِ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً لَهُ، فَإِذَا وَجَبَ نَفَقَةُ غَيْرِهِ بِسَبَبِهِ فَوُجُوبُ نَفَقَةِ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَحِينَ ثَبَتَتْ نَفَقَتُهُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى تَبَيَّنَ أَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَةِ هِيَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالرَّضَاعِ، حَتَّى إنَّ اللَّبَنَ الَّذِي هُوَ مَئُونَتُهُ إنَّمَا يَسْتَحِيلُ لَبَنًا مِنْ غِذَائِهَا، فَإِيجَابُ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ إيجَابُ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، إذْ لَيْسَتْ النَّفَقَةُ سِوَى إخْرَاجِ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ لِكِفَايَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ مِنْ نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ شَخْصٍ آخَرَ بَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْكِسْوَةُ وَالسُّكْنَى. فِي الْخُلَاصَةِ. قَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ النَّفَقَةِ فَقَالَ هِيَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالسُّكْنَى وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ
(فَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ رَضِيعًا فَلَيْسَ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُرْضِعَهُ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكِفَايَةَ عَلَى الْأَبِ وَأُجْرَةَ الرَّضَاعِ كَالنَّفَقَةِ وَلِأَنَّهَا عَسَاهَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ لِعُذْرٍ بِهَا فَلَا مَعْنَى لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} بِإِلْزَامِهَا الْإِرْضَاعَ مَعَ كَرَاهَتِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ يُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُهُ، أَمَّا إذَا كَانَ لَا تُوجَدُ مَنْ تُرْضِعُهُ تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَى الْإِرْضَاعِ صِيَانَةً لِلصَّبِيِّ عَنْ الضَّيَاعِ.
قَالَ (وَيَسْتَأْجِرُ الْأَبُ مَنْ تُرْضِعُهُ عِنْدَهَا) أَمَّا اسْتِئْجَارُ الْأَبِ فَلِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ عِنْدَهَا مَعْنَاهُ إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَهَا.
(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا) لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دِيَانَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} إلَّا أَنَّهَا عُذِرَتْ لِاحْتِمَالِ عَجْزِهَا، فَإِذَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ ظَهَرَتْ قُدْرَتُهَا فَكَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَازَ اسْتِئْجَارُهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ. وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ بَاقٍ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ.
(وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِإِرْضَاعِ ابْنٍ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ)
فَكَانَ كَنَفْسِهِ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ أَنْ تُرْضِعَهُ) يَعْنِي فِي الْحُكْمِ إذَا امْتَنَعَتْ وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْقَيْدِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ.
(قَوْلُهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْحُكْمِ) أَيْ عَدَمُ الْجَبْرِ بَيَانُ الْحُكْمِ قَضَاءً بِمَعْنَى أَنَّهَا إذَا امْطتَنَعَتْ لَا يُجْبِرُهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا دِيَانَةً، وَكَذَا غَسْلُ الثِّيَابِ وَالطَّبْخُ وَالْخَبْزُ وَكَنْسُ الْبَيْتِ وَاجِبٌ عَلَيْهَا دِيَانَةً، وَلَا يُجْبِرُهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَتْ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ.
(قَوْلُهُ وَذَلِكَ) أَيْ عَدَمُ الْجَبْرِ إذَا وَجَدَ مَنْ تُرْضِعُهُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ يَقْبَلْ هُوَ ثَدْيَ غَيْرِهَا أُجْبِرَتْ عَلَى إرْضَاعِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الضَّيَاعِ. وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ لَا تُجْبَرُ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يَتَغَذَّى بِالدُّهْنِ وَالشَّرَابِ فَلَا يُؤَدِّي تَرْكُ إجْبَارِهَا إلَى التَّلَفِ، وَإِلَى الْأَوَّلِ مَالَ الْقُدُورِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَهُوَ الْأَصْوَبُ، لِأَنَّ قَصْرَ الرَّضِيعِ الَّذِي لَمْ يَأْنَسْ الطَّعَامَ عَلَى الدُّهْنِ وَالشَّرَابِ سَبَبُ تَمْرِيضِهِ وَمَوْتِهِ.
(قَوْلُهُ مَعْنَاهُ إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَجْرَ لَهَا) أَيْ التَّرْبِيَةَ لَهَا بِحَقِّ الْحَضَانَةِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ اخْتِيَارِ الْفَقِيهَيْنِ الْهِنْدُوَانِيُّ وَالسَّمَرْقَنْدِيّ أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ، وَفِي كَلَامِ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ مَا يُفِيدُهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ الْمُرْضِعَةَ أَنْ تَمْكُثَ فِي بَيْتِ الْأُمِّ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ، بَلْ لَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى مَنْزِلِهَا فِيمَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ تَحْمِلَ الصَّبِيَّ مَعَهَا إلَيْهِ أَوْ تَقُولَ: أَخْرِجُوهُ فَتَرْضِعَهُ عِنْدَ فِنَاءِ الدَّارِ ثُمَّ تُدْخِلُ الصَّبِيَّ إلَى أُمِّهِ.
(قَوْلُهُ وَجْهُ الْأُولَى) لَمَّا كَانَ التَّشْبِيهُ لَا يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ وَجْهِ الشَّبَهِ لَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَهَذَا يَعْنِي عَدَمَ الِاسْتِئْجَارِ فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَإِلَّا لَوْ اُعْتُبِرَ عُمُومُ الشَّبَهِ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا فِي الْحُكْمِ وَالْوَجْهِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا يَكُونُ تَأْخِيرُ ذِكْرِ وَجْهِهِ لِلْإِيمَاءِ إلَّا أَنَّهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ، وَكَذَا ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْقُدُورِيِّ الْمُعْتَدَّةَ فِي قَوْلِهِ أَوْ مُعْتَدَّتَهُ وَإِنْ كَانَ مُقَابِلُهُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، إذْ مِنْ عَادَتِهِ تَأْخِيرُ وَجْهِ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ هُوَ قِيَامُ نَفْسِ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ النَّفَقَةُ وَامْتَنَعَ
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا (وَإِنْ)(انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَاسْتَأْجَرَهَا) يَعْنِي لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا (جَازَ) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ (فَإِنْ قَالَ الْأَبُ لَا أَسْتَأْجِرُهَا وَجَاءَ بِغَيْرِهَا فَرَضِيَتْ الْأُمُّ بِمِثْلِ أَجْرٍ الْأَجْنَبِيَّةِ أَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ) كَانَتْ هِيَ أَحَقَّ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ فَكَانَ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فِي الدَّفْعِ إلَيْهَا (وَإِنْ الْتَمَسَتْ زِيَادَةً لَمْ يُجْبَرْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا) دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أَيْ بِإِلْزَامِهِ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ.
(وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي دِينِهِ، كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ خَالَفَتْهُ فِي دِينِهِ) أَمَّا الْوَلَدُ فَلِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا، وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ الثَّابِتِ بِهِ، وَقَدْ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرَةِ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الِاحْتِبَاسُ فَوَجَبَتْ النَّفَقَةُ.
شَهَادَتُهُ لِمُعْتَدَّتِهِ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ بَائِنٍ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا لِلْإِرْضَاعِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَاسْتَأْجَرَهَا) اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْإِرْضَاعَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الضَّرَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} وَالضَّرَرُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إرْضَاعِهِ إذَا أَلْزَمَتْ وَالْعَجْزُ مُبْطِنٌ فَأُقِيمَ امْتِنَاعُهَا عَنْهُ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا عَنْ الْإِرْضَاعِ مَعَ دَاعِيَةِ حُنُوِّ الْوَالِدَةِ ظَاهِرٌ فِي عَجْزِهَا عَنْهُ، فَلِذَا لَمْ تُجْبَرْ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَتْ، فَإِذَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ أَوْ مُعْتَدَّةٌ عَنْ رَجْعِيٍّ أَوْ مُطْلَقًا عَلَى مَا هُوَ الْأَوْجَهُ ظَهَرَ عَدَمُ عَجْزِهَا فَظَهَرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهَا وَلَا أَجْرَ يُسْتَحَقُّ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ الْوَاجِبِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَجُوزَ بَعْدَ الْعِدَّةِ أَيْضًا كَمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَالِدَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} أَعَمُّ مِنْ الْبَائِنَاتِ فَكَانَ الْإِيجَابُ عَامًّا عَلَى الْمَنْكُوحَاتِ وَالرَّجْعِيَّاتِ وَالْبَوَائِنِ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَفِيهَا وَبَعْدَهَا، وَالْمَانِعُ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ
وَفِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ، أَمَّا إذَا كَانَ فَالْأَصْلُ أَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا.
فَصْلٌ.
وَالِاسْتِئْجَارُ هُوَ الْوُجُوبُ وَهُوَ عَامٌّ فَيَعُمُّ الْمَنْعُ الْكُلَّ إذَا ظَهَرَتْ قُدْرَتُهُنَّ وَذَلِكَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْإِرْضَاعِ بِأَجْرٍ. وَغَايَةُ مَا يُقَالُ: إنَّ الْإِرْضَاعَ مِنْ نَفَقَتِهِ وَهِيَ عَلَى الْأَبِ لَا الْأُمِّ. وَيُدْفَعُ بِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ أَوْجَبَهَا الَّذِي لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ عَلَى الْأُمِّ بَعْدَ أَنْ أَوْجَبَ رِزْقَهُ لَهَا بِإِدْرَارِ الثَّدْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا سِوَى الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا إلْقَامُهُ ثَدْيَهَا، وَثُبُوتُ هَذَا الْإِيجَابِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهَا مُقَيَّدًا بِإِيجَابِ رِزْقِهَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} فَفِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْعِدَّةِ وَهُوَ قَائِمٌ بِرِزْقِهَا وَفِيمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَا يَقُومُ بِشَيْءٍ فَتَقُومُ الْأُجْرَةُ مَقَامَهُ.
(قَوْلُهُ وَفِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ مَالٌ) وَأَطْلَقَهُ فَعَمَّ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْمَالِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَقَطْ فَلِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُنْفِقَهُ عَلَيْهِ، وَكَذَا يُعْطِي مِنْهُ أَجْرَ رَضَاعِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ نَفَقَةِ أَحَدِ الْمُوسِرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ الِاحْتِبَاسُ ذَلِكَ لَهُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ إيجَابِ نَفَقَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهَا مُحْتَبِسَةٌ لِغَرَضِ الْآخَرِ فَنَفَقَتُهَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، أَمَّا الْوَلَدُ فَنَفَقَتُهُ لِلْحَاجَةِ، وَبِغِنَاهُ انْدَفَعَتْ حَاجَتُهُ فَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ كَنَفَقَةِ الْمَحَارِمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
(وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ
وَجَدَّاتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي دِينِهِ) أَمَّا الْأَبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا، وَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَلِأَنَّهُمْ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَلِهَذَا يَقُومُ الْجَدُّ مَقَامَ
(فَصْلٌ)
(قَوْلُهُ وَعَلَى الرَّجُلِ) أَيْ الْمُوسِرِ (قَوْلُهُ وَأَجْدَادُهُ) يَدْخُلُ فِيهِ الْجَدُّ لِأَبٍ وَالْجَدُّ لِأُمٍّ وَإِنْ عَلَوْا، وَفِي جَدَّاتِهِ جَدَّاتُهُ لِأَبِيهِ وَجَدَّاتُهُ لِأُمِّهِ وَإِنْ عَلَوْنَ. وَقَوْلُهُ: إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ يُوَافِقُ بِإِطْلَاقِهِ قَوْلَ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ: إذَا كَانَ الْأَبُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى نَفَقَتِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْحَلْوَانِيِّ: إنَّهُ لَا يُجْبَرُ إذَا كَانَ الْأَبُ كَسُوبًا لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي إيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَيْرِ، وَإِذَا كَانَ الِابْنُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ، فَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَسُوبًا يَجِبُ أَنْ يَكْتَسِبَ الِابْنُ وَيُنْفِقَ عَلَى الْأَبِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ مُجَرَّدُ الْفَقْرِ. قِيلَ: هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَذَى فِي إيكَالِهِ إلَى الْكَدِّ وَالتَّعَبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي التَّأْفِيفِ الْمُحَرَّمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجَةِ الْغَنِيَّةِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ احْتِبَاسِهِ إيَّاهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ مَقْصُودٍ لَهُ فَكَانَ كَاسْتِحْقَاقِ الْقَاضِي الْغَنِيِّ.
(قَوْلُهُ نَزَلَتْ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ) بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} فَفَرَضَ سُبْحَانَهُ مُصَاحَبَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَتْرُكَهُمَا مَعَ الْجُوعِ وَالْعُرَى وَيَتَقَلَّبَ هُوَ فِي النِّعَمِ إلَى أَنَّ مَحْمَلَهَا عَلَى غَيْرِ الْحَرْبِيَّيْنِ، فَأَمَّا الْآبَاءُ الْحَرْبِيُّونَ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا لَا يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} إلَى قَوْلِهِ {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آيَةِ الْأَبَوَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَتَصَادَقَانِ فِي الْأَبَوَيْنِ الْحَرْبِيَّيْنِ وَتَنْفَرِدُ آيَةُ الْمُصَاحَبَةِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِيَّيْنِ وَآيَةُ النَّهْيِ فِي غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ فَتَعَارَضَا فِي الْأَبَوَيْنِ الْحَرْبِيَّيْنِ فَقُدِّمَتْ آيَةُ النَّهْيِ لِتَقْدِيمِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُبِيحِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّهْيُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِاَلَّذِينَ تَحَقَّقَ مِنْهُمْ قِتَالٌ فِي الدِّينِ وَإِخْرَاجُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْأَبَوَيْنِ الْحَرْبِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُمَا قِتَالٌ وَلَا مُظَاهَرَةٌ عَلَى إخْرَاجٍ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمُجَرَّدِ جَامِعِ كَوْنِهِمْ حَرْبًا لِأَنَّ الْحُكْمَ عُلِّقَ بِمَجْمُوعِ مَنْ تَحَقَّقَ الْقِتَالُ وَالْإِخْرَاجُ مِنْهُ، وَأَيْضًا صَرَّحَ النَّصُّ بِعَدَمِ النَّهْيِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا أَيْضًا حَرْبِيُّونَ (قَوْلُهُ وَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَلِأَنَّهُمْ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي اللَّفْظِ:
الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلِأَنَّهُمْ سَبَّبُوا لِإِحْيَائِهِ فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِحْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَوَيْنِ. وَشُرِطَ الْفَقْرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَا مَالٍ، فَإِيجَابُ نَفَقَتِهِ فِي مَالِهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهَا فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ لِمَا تَلَوْنَا (وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إلَّا لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ) أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهَا بِالْعَقْدِ لِاحْتِبَاسِهَا لِحَقٍّ لَهُ مَقْصُودٍ، وَهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمِلَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ ثَابِتَةٌ وَجُزْءَ الْمَرْءِ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ، فَكَمَا لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ لِكُفْرِهِ لَا يُمْتَنَعُ نَفَقَةُ جُزْئِهِ إلَّا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنَيْنِ، لِأَنَّا نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ فِي حَقِّ مَنْ يُقَاتِلُنَا فِي الدِّينِ.
(وَلَا تَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ)
أَعْنِي لَفْظَ الْأَبَوَيْنِ الَّذِي هُوَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ فِيمَا إذَا قَالُوا آمَنُونَا عَلَى آبَائِنَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ دُخُولِ الْأَجْدَادِ لِعُمُومِ انْتِظَامِ اللَّفْظِ، فَإِنْ أَرَادَ إلْحَاقَهُمْ بِالْقِيَاسِ فَلَا حَاجَةَ، بَلْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّلَ بِأَنَّهُمْ مِنْ الْآبَاءِ بَلْ يُعَلَّلُ اسْتِحْقَاقُ الْأَبَوَيْنِ النَّفَقَةَ بِتَسَبُّبِهِمْ فِي وُجُودِهِ وَيُلْحَقُ بِهِمْ الْأَجْدَادُ وَيَعْتَبِرُهُ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ، وَمِنْ الْعَجَبِ عَدَمُ اعْتِبَارِهِمْ إيَّاهُ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ فِي الْأَمَانِ لِيَدْخُلَ الْأَجْدَادُ مَعَ أَنَّ الْأَمَانَ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ. وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا يَقُومُ الْجَدُّ إلَخْ قِيَامُهُ مَقَامَهُ فِي الْوِرَاثَةِ وَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ وَلَدِ الْوَلَدِ، هَذَا وَلَوْ قَالَ: إنَّهُمْ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَالِدَاتِ كَانَ أَقْرَبَ لِأَنَّ مَرْجِعَ ضَمِيرِ صَاحِبْهُمَا الْوَالِدَانِ لَا الْأَبَوَانِ.
(قَوْلُهُ أَمَّا الزَّوْجَةُ إلَخْ) عُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْدِ لِاحْتِبَاسِهَا أَنَّهُ حَيْثُ أَضَافَ إيجَابَ النَّفَقَةِ إلَى الْعَقْدِ فَهُوَ إضَافَةٌ إلَى الْعِلَّةِ الْبَعِيدَةِ وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ بِالذَّاتِ هُوَ الِاحْتِبَاسُ الْخَاصُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَا.
(قَوْلُهُ فَكَمَا لَا يُمْتَنَعُ إلَخْ) الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: فَكَمَا يُجْبَرُ عَلَى إنْفَاقِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ كُفْرِهِ وَذِمَّتِهِ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ جُزْئِهِ لِأَنَّ عَدَمَ الِامْتِنَاعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ بَلْ أَخَصُّ مِنْهُ وَهُوَ الْجَبْرُ عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ يَجْبُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى إنْفَاقِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَحَلُّ نَظَرٍ، أَمَّا فَتْوَاهُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَا أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَلَا تَجِبُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ نَفَقَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ) إظْهَارٌ لِبَعْضِ
وَكَذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَخِيهِ النَّصْرَانِيِّ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِرْثِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْعِتْقِ عِنْدَ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَرَابَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةَ بِالْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ مُوجِبَةٌ لِلصِّلَةِ، وَمَعَ الِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ آكَدُ وَدَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ أَعْلَى فِي الْقَطِيعَةِ مِنْ حِرْمَانِ النَّفَقَةِ، فَاعْتَبَرْنَا فِي الْأَعْلَى أَصْلَ الْعِلَّةِ وَفِي الْأَدْنَى الْعِلَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فَلِهَذَا افْتَرَقَا (وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ أَحَدٌ) لِأَنَّ لَهُمَا تَأْوِيلًا فِي مَالِ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ، وَلَا تَأْوِيلَ لَهُمَا فِي مَالِ غَيْرِهِ،
صُوَرِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إلَّا لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْوَلَدِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ: أَيْ نَفَقَةَ غَيْرِ الْوِلَادِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِرْثِ: يَعْنِي بِالْقَرَابَةِ، وَالْمَحْرَمِيَّةُ مُقَيَّدٌ بِالْإِرْثِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ أَنْ قَالَ سُبْحَانَهُ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
…
…
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فَعَلَّقَهُ بِهِ، وَلَا إرْثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ وَارِثًا بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ» وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ فَاعْتَبَرْنَا فِي الْأَعْلَى) وَهُوَ دَوَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ (أَصْلُ الْعِلَّةِ) وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ (وَفِي الْأَدْنَى) وَهُوَ النَّفَقَةُ (الْعِلَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ) بِالتَّوَارُثِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إبْدَاءٌ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ: يَعْنِي إنَّمَا شَرَعَ سُبْحَانَهُ إيجَابَ النَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ مُقَيَّدًا بِالْإِرْثِ وَشَرَعَ عِتْقَ الْقَرِيبِ إذَا مَلَكَ قَرِيبَهُ الْمَحْرَمَ بِلَا ذَلِكَ الْقَيْدِ لِهَذَا الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ قَطِيعَةٌ وَاسْتِمْرَارُ مِلْكِهِ رَقَبَةَ الْقَرِيبِ فَوْقَهُ فِي الْقَطِيعَةِ فَأَوْجَبَ رَفْعَهَا بِلَا مُؤَكَّدٍ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَهُ فِي الْقَطِيعَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْفَعْهُ حِينَئِذٍ إلَّا بِمُؤَكَّدٍ. وَمَا قِيلَ الضَّابِطُ عِنْدَنَا الرَّحِمُ وَالْمَحْرَمِيَّةُ وَالْإِرْثُ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ وَلَهُمْ دُونَ ابْنِ الْعَمِّ. وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ} سِوَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُ مِيرَاثٌ، وَالْخَالُ كَذَلِكَ لَا مَنْ يَثْبُتُ لَهُ مِيرَاثٌ بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي صُورَةِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ. لَا يُقَالُ: هَذَا حِينَئِذٍ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ عَلَى إخْرَاجِ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ. لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ هُوَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ وَهُوَ الْوَارِثُ وَنَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنَّ نَفْيَهُ مُضَافٌ إلَى اللَّفْظِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ لَهُمَا تَأْوِيلًا فِي مَالِ الْوَلَدِ) يُفِيدُ أَنَّهُ مَلَكَهُمَا (بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِمَا فَكَانَ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ نَفَقَتِهِمَا عَلَيْهِ، وَهِيَ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالسَّوِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا.
جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ. وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ مِلْكًا نَاجِزًا فِي مَالِهِ. قُلْنَا: نَعَمْ لَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهَا مَرْفُوعًا «إنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةٌ لَكُمْ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}، وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إذَا احْتَجْتُمْ إلَيْهَا» وَمِمَّا يَقْطَعُ بِأَنَّ مُؤَوَّلَ أَنَّهُ تَعَالَى وَرَّثَ الْأَبَ مِنْ ابْنِهِ السُّدُسَ مَعَ وَلَدِ وَلَدِهِ؛ فَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مِلْكَهُ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ مَعَ وُجُودِهِ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّفَقَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ أَثْلَاثًا عَلَى الذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ قِيَاسًا عَلَى نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَالْحَقُّ الِاسْتِوَاءُ فِيهَا لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْوِلَادِ وَهُوَ يَشْمَلُهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْوِلَادِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عُلِّقَ فِيهِ بِالْإِرْثِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الْوِلَادِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا تَوَارُثَ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُعْسِرًا وَهُمَا مُوسِرَانِ فَلَا نَفَقَةَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ وَيَجِبُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ مَعَ اعْتِبَارِهِ أَوْ لَا فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ بَيْنَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَالْحَلْوَانِيِّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: إذَا كَانَ الْأَبُ زَمِنًا وَكَسْبُ الِابْنِ لَا يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ الْأَبَ إلَيْهِ كَيْ لَا يَضِيعَ وَلَا يَخْشَى بِذَلِكَ الْهَلَاكَ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَهْلَكُ عَلَى نِصْفِ بَطْنِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُو تَعِفُّوا
وَفِي الْفَتَاوَى: يُجْبَرُ الِابْنُ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَةِ أَبِيهِ وَلَا يُجْبَرُ الْأَبُ عَلَى نَفَقَةِ
(وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَقِيرًا أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً بَالِغَةً فَقِيرَةً أَوْ كَانَ ذَكَرًا بَالِغًا فَقِيرًا زَمِنًا أَوْ أَعْمَى) لِأَنَّ الصِّلَةَ فِي الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَاجِبَةٌ دُونَ الْبَعِيدَةِ، وَالْفَاصِلُ أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ " ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْحَاجَةِ
زَوْجَةِ ابْنِهِ. وَفِي نَفَقَاتِ الْحَلْوَانِيِّ قَالَ: فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ كَمَا قُلْنَا، وَفِي رِوَايَةٍ إنَّمَا تَجِبُ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْأَبِ إذَا كَانَ الْأَبُ مَرِيضًا أَوْ بِهِ زَمَانَةٌ يَحْتَاجُ إلَى الْخِدْمَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ صَحِيحًا فَلَا. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، فَإِنَّ الِابْنَ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ يُجْبَرُ الْأَبُ عَلَى نَفَقَةِ خَادِمِهِ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْقُرْبُ بَعْدَ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ، وَلِذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ شَقِيقٌ وَبِنْتُ بِنْتٍ وَإِنْ سَفُلَتْ أَوْ ابْنُ بِنْتٍ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى بِنْتِ الْبِنْتِ وَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهُ لِأَخِيهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَمَوْلَى عَتَاقَةٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ، وَإِذَا كَانَ لِلْفَقِيهِ وَلَدٌ وَابْنُ ابْنٍ مُوسِرَانِ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، وَإِذَا كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ فَعَلَى الْبِنْتِ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا لِقُرْبِ الْبِنْتِ، فَإِذَا اسْتَوَيَا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا إلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِمُرَجِّحٍ وَهُمَا وَارِثَانِ. وَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدُ ابْنٍ وَوَلَدُ بِنْتٍ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي النَّفَقَةِ وَإِنْ كَانَ الْإِرْثُ لِوَلَدِ الِابْنِ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ ابْنَانِ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا وَالْمِيرَاثُ لِلْمُسْلِمِ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ وَوَلَدٌ فَهِيَ عَلَى الْوَلَدِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ وَيَتَرَجَّحُ الْوَلَدُ بِاعْتِبَارِ التَّأْوِيلِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، الْكُلُّ مِنْ الْمُحِيطِ.
وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ الِابْنُ هُوَ غَنِيٌّ وَلَيْسَ عَلَيَّ نَفَقَتُهُ وَقَالَ الْأَبُ أَنَا مُعْسِرٌ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ الْقَوْلَ لِلْأَبِ وَالْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الِابْنِ.
(قَوْلُهُ وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ) أَيْ وَاجِبَةٌ يُجْبَرُ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْخَبَرِ لِقَرِينَةٍ لَا مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْجَارِ وَالْمَجْرُورِ نَائِبَيْنِ عَنْ الْخَبَرِ لِوُجُوبِ تَعَلُّقِهِمَا بِالْكَوْنِ الْمُطْلَقِ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ هُنَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: عَلَى كُلِّ وَارِثٍ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ لَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ. وَجْهُهُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْإِشَارَةَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} لِنَفْيِ الْمُضَارَّةِ لَا لِإِيجَابِ النَّفَقَةِ، فَلَا يَبْقَى دَلِيلًا عَلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ لِعَدَمِ دَلِيلِهَا الشَّرْعِيِّ. قُلْنَا: نَفْيُهَا
وَالصِّغَرِ وَالْأُنُوثَةِ وَالزَّمَانَةِ وَالْعَمَى أَمَارَةُ الْحَاجَةِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ بِكَسْبِهِ. بِخِلَافِ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمَا تَعَبُ الْكَسْبِ وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا فَتَجِبُ نَفَقَتُهُمَا مَعَ قُدْرَتِهِمَا عَلَى الْكَسْبِ. قَالَ (وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ الْمِيرَاثِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ)
لَا يَخْتَصُّ بِالْوَارِثِ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ الْإِشَارَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْكَافِ فَإِنَّهَا بِحَسَبِ الْوَضْعِ لِلْبَعِيدِ دُونَ الْقَرِيبِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَهَا بِالْوَارِثِ فَقَيْدُ الْمَحْرَمِيَّةِ زِيَادَةٌ. قُلْنَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ " فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْقَاطِعِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ.
أُجِيبَ بِادِّعَاءِ شُهْرَتِهَا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِمَا فِي النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ «طَارِقٍ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ أُمَّكَ، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمَّك، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذَوِي قَرَابَتِكَ» فَهَذِهِ تُفِيدُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِلَا تَقْيِيدٍ بِالْإِرْثِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الثَّانِيَ لَا يُفِيدُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ أَصْلًا لِأَنَّهُ جَوَابُ قَوْلِ السَّائِلِ مَنْ أَبَرُّ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ سُؤَالًا عَنْ الْبِرِّ الْمَفْرُوضِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ سُؤَالًا عَنْ الْأَفْضَلِ مِنْهُ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ هَذَا مُعَارِضًا لِلنَّصِّ لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الْوَارِثِ بِالنَّصِّ لَا يَنْفِي أَنْ يَجِبَ عَلَى غَيْرِهِ فَيَثْبُتُ عَلَى غَيْرِهِ بِالْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ. عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يُلْزِمَهُمْ أَنَّ الْوَارِثَ أُرِيدَ بِهِ الْقَرِيبَ عِنْدَ مَنْ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ خُصُوصًا عَلَى رَأْيِكُمْ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَرِيبٍ وَارِثٍ لِتَوْرِيثِكُمْ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ قَوْلِكُمْ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى قَالُوا: إذَا كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ أَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى خَالِهِ وَمِيرَاثَهُ لِابْنِ عَمِّهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ قَوْلُنَا: نَقْطَعُ بِأَنَّ إيجَابَ النَّفَقَةِ لِوُجُوبِ الْوَصْلِ وَالْقَرَابَةِ الَّتِي يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا بِالنُّصُوصِ هِيَ عَلَى الْمَحْرَمِيَّةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْوَصْلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْقَرَائِبِ لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ إمَّا عَدَمُ وَصْلٍ أَوْ يُؤَدِّي إلَيْهِ.
(قَوْلُهُ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ بِكَسْبِهِ) وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْكَسْبِ تَتَحَقَّقُ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ بَعْدَ كَوْنِهِ بَالِغًا. وَلِهَذَا أَخَذَ فِي الْبَالِغِ الَّذِي تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ غَيْرِ الْوِلَادِ الزَّمَانَةَ حَيْثُ قَالُوا: وَالِابْنُ الزَّمِنُ الْبَالِغُ، وَيُصَرِّحُ بِمَا قُلْنَا مَا فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ: وَلَا يُجْبَرُ الْمُوسِرُ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ إذَا كَانَ رَجُلًا صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ إلَّا فِي الْوَلَدِ خَاصَّةً أَوْ فِي الْجَدِّ أَبِي الْأَبِ إذَا مَاتَ الْوَلَدُ فَإِنِّي أُجْبِرُ الْوَلَدَ عَلَى نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا انْتَهَى.
وَهَذَا جَوَابُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ يَشُدُّ قَوْلَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ
لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ، وَلِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ وَالْجَبْرَ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ.
قَالَ (وَتَجِبُ نَفَقَةُ الِابْنَةِ الْبَالِغَةِ وَالِابْنِ الزَّمِنِ عَلَى أَبَوَيْهِ أَثْلَاثًا عَلَى الْأَبِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الْأُمِّ الثُّلُثُ) لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَهُمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ وَالْحَسَنِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كُلُّ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} وَصَارَ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ وَمَئُونَةٌ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ فَاخْتَصَّ بِنَفَقَتِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْكَبِيرُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فِيهِ فَتُشَارِكُهُ الْأُمُّ، وَفِي غَيْرِ الْوَالِدِ يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْمِيرَاثِ حَتَّى تَكُونَ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى الْأُمِّ وَالْجَدِّ أَثْلَاثًا، وَنَفَقَةُ الْأَخِ الْمُعْسِرِ عَلَى الْأَخَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ الْمُوسِرَاتِ أَخْمَاسًا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ،
بِخِلَافِ الْحَلْوَانِيِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ) بِطَرِيقِ أَنَّهُ يُفِيدُ عَلَيْهِ مَأْخَذَ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ وُجُودِ الْعِلَّةِ عَلَى قَدْرِ وُجُودِهَا. مِثَالُهُ إذَا كَانَ لَهُ أَخٌ شَقِيقٌ أَوْ لِأَبٍ وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ لِأَبٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا عَلَى الْأَخِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الْأُخْتِ الثُّلُثُ لِأَنَّ مِيرَاثَهُمَا مِنْهُ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَا لِأُمٍّ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ كَإِرْثِهِمَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمَا أَخٌ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ أَوْ عَصَبَةٌ أُخْرَى فَالثُّلُثَانِ عَلَى الْعَاصِبِ، وَلَوْ كَانَ أَخٌ لِأَبٍ وَأَخٌ لِأُمٍّ فَالسُّدُسُ عَلَى الْأَخِ لِأُمٍّ وَخَمْسَةُ الْأَسْدَاسِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْ.
(قَوْلُهُ وَجْهُ الْفَرْقِ) أَيْ بَيْنَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الزَّمِنِ.
(قَوْلُهُ فَاخْتَصَّ بِنَفَقَتِهِ) لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ الْكَامِلَةِ صَارَ كَنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْبَالِغِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ لِيَكُونَ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ.
(قَوْلُهُ عَلَى الْأَخَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ) بِأَنْ تَكُونَ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَأُخْرَى لِأَبٍ وَأُخْرَى لِأُمٍّ أَخْمَاسًا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا عَلَى الشَّقِيقَةِ وَخُمُسٌ
غَيْر أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ فِي الْجُمْلَةِ لَا إحْرَازُهُ، فَإِنَّ الْمُعْسِرَ إذَا كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى خَالِهِ وَمِيرَاثُهُ يُحْرِزُهُ ابْنُ عَمِّهِ (وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ) لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً وَهُوَ يَسْتَحِقُّهَا عَلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ، إذْ الْمَصَالِحُ لَا تَنْتَظِمُ دُونَهَا، وَلَا يَعْمَلُ فِي مِثْلِهَا الْإِعْسَارُ. ثُمَّ الْيَسَارُ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ شَهْرًا أَوْ بِمَا يَفْضُلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ الدَّائِمِ كُلَّ يَوْمٍ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنَّمَا هُوَ الْقُدْرَةُ دُونَ النِّصَابِ فَإِنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ
عَلَى الَّتِي لِأَبٍ وَخُمُسٌ عَلَى الَّتِي لِأُمٍّ لِأَنَّ مِيرَاثَهُنَّ مِنْهُ كَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِنَّ.
(قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ) هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الَّذِي أَسْلَفْنَاهُ وَقَدَّمْنَا تَقْرِيرَهُ. وَإِيضَاحَهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْوَارِثِ غَيْرُ مُرَادَةٍ، فَإِنَّهُ لِمَنْ قَامَ بِهِ الْإِرْثُ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ وَلَا نَفَقَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَعَذَّرَتْ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ مِيرَاثٌ، وَالْخَالُ كَذَلِكَ فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِعَدَمِ الْمَحْرَمِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ خَالٌ وَعَمٌّ أَوْ عَمَّةٌ فَإِنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ عَلَى الْعَمِّ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ، وَإِحْرَازُ الْعَمِّ الْمِيرَاثَ فِي الْحَالِ لَوْ مَاتَ، فَلَوْ كَانَ الْعَمُّ مُعْسِرًا وَجَبَتْ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالِ أَثْلَاثًا عَلَى الْعَمَّةِ الثُّلُثُ وَيُجْعَلُ الْمُعْسِرُ كَالْمَيِّتِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ أَهْلِيَّةُ الْمِيرَاثِ لَا إحْرَازُهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُحْرِزُ لِلْمِيرَاثِ غَيْرَ مَحْرَمٍ وَمَعَهُ مَحْرَمٌ، أَمَّا إذَا ثَبَتَتْ مَحْرَمِيَّةُ كُلِّهِمْ وَبَعْضِهِمْ لَا يُحْرَزُ الْمِيرَاثُ فِي الْحَالِ كَالْخَالِ وَالْعَمِّ إذَا اجْتَمَعَا فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إحْرَازُ الْمِيرَاثِ فِي الْحَالِ وَتَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَمِّ، وَإِذَا اتَّفَقُوا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْإِرْثُ فِي الْحَالِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ فَقِيرًا جُعِلَ كَالْمَعْدُومِ وَوَجَبَتْ عَلَى الْبَاقِينَ عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ.
(قَوْلُهُ ثُمَّ الْيَسَارُ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ) أَيْ بِنِصَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا بِمَا يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَةِ شَهْرٍ وَالْأُخْرَى بِمَا يَفْضُلُ عَنْ كَسْبِهِ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى لَوْ كَانَ كَسْبُهُ دِرْهَمًا وَيَكْفِيهِ أَرْبَعَةُ
وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ، لَكِنَّ النِّصَابَ نِصَابُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ.
(وَإِذَا كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ قُضِيَ فِيهِ بِنَفَقَةِ أَبَوَيْهِ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ (وَإِذَا بَاعَ أَبُوهُ مَتَاعَهُ فِي نَفَقَتِهِ جَازَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ (وَإِنْ بَاعَ الْعَقَارَ لَمْ يَجُزْ) وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِانْقِطَاعِهَا بِالْبُلُوغِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ فِي حَالِ حَضْرَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ فِي دَيْنٍ لَهُ سِوَى النَّفَقَةِ،
دَوَانِقَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّانِقَانِ لِلْقَرِيبِ، وَمَحْمَلُ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى حَاجَةِ الْإِنْسَانِ إنْ كَانَ مُكْتَسِبًا وَلَا مَالَ لَهُ حَاصِلٌ اُعْتُبِرَ فَضْلُ كَسْبِهِ الْيَوْمِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَلْ كَانَ لَهُ مَالٌ اُعْتُبِرَ نَفَقَةُ شَهْرٍ فَيُنْفِقُ ذَلِكَ الشَّهْرَ، فَإِنْ صَارَ فَقِيرًا ارْتَفَعَتْ نَفَقَتُهُمْ عَنْهُ. وَمَالَ السَّرَخْسِيُّ إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْكَسْبِ فَإِنَّهُ عَلَّلَهُ بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ الْمُؤَدِّي بِتَيْسِيرِ الْأَدَاءِ وَتَيْسِيرُ الْأَدَاءِ مَوْجُودٌ إذَا كَانَ كَسْبُهُ يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ: قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَرْفَقُ وَمَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَنِهَايَةُ الْيَسَارِ لَا حَدَّ لَهَا، وَبِدَايَتُهُ النِّصَابُ فَيَتَقَدَّرُ بِهِ. وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَمَا نَقَلَ أَنَّهُ نِصَابُ الزَّكَاةِ: وَبِهِ يُفْتَى وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ نِصَابُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ.
(قَوْلُهُ وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ مُقَدَّرٌ بِالنِّصَابِ لَكِنْ لَا كَمَا يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ النُّصُبِ فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، إلَّا أَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا كَانَتْ حَقَّ الْآدَمِيِّ نَفْسِهِ تُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ كَوْنِهِ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ حَقٌّ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ الْآدَمِيِّ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى يُرَاعَى فِيهَا مِنْ التَّيْسِيرِ مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمُحْتَاجِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُطْلَقًا بَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ كَسُوبًا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَدْرُ نِصَابٍ فَاضِلٍ لِتَجِبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ. فَإِذَا أَنْفَقَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ سَقَطَتْ، وَإِنْ كَانَ كَسُوبًا يُعْتَبَرُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْوَى.
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ قَضَى فِيهِ بِنَفَقَةِ أَبَوَيْهِ) لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَقْضِي لَهُ بِالنَّفَقَةِ عِنْدَ غَيْبَةِ مَنْ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إذَا قَدَرَ بِلَا قَضَاءٍ، فَالْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ وَالزَّوْجَةُ إذَا قَدَرُوا عَلَى مَالٍ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إذَا احْتَاجُوا.
(قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ) عِنْدَ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ وَلَا يُقْضَى بِنَفَقَةٍ فِي مَالِ غَائِبٍ إلَّا لِهَؤُلَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ بَاعَ الْعَقَارَ لَمْ يَجُزْ) وَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ بَيْعُ عَقَارِ الِابْنِ إلَّا إذَا كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مُطْلَقًا.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِانْقِطَاعِهَا بِالْبُلُوغِ) وَقَرَّرَ فِي النِّهَايَةِ وَجْهَ
وَكَذَا لَا تَمْلِكُ الْأُمُّ فِي النَّفَقَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ الْحِفْظِ فِي مَالِ الْغَائِبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ ذَلِكَ فَالْأَبُ أَوْلَى لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَقَارُ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ بِنَفْسِهَا، وَبِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ مِنْ الْأَقَارِبِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ أَصْلًا فِي التَّصَرُّفِ حَالَةَ الصِّغَرِ وَلَا فِي الْحِفْظِ بَعْدَ الْكِبَرِ. إذَا جَازَ بَيْعُ الْأَبِ فَالثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ فَلَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ لِكَمَالِ الْوِلَايَةِ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِنَفَقَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ (وَإِنْ كَانَ لِلِابْنِ الْغَائِبِ مَالٌ فِي يَدِ أَبَوَيْهِ وَأَنْفَقَا مِنْهُ لَمْ يَضْمَنَا) لِأَنَّهُمَا اسْتَوْفَيَا حَقَّهُمَا لِأَنَّ نَفَقَتَهُمَا وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا مَرَّ وَقَدْ أَخَذَا جِنْسَ الْحَقِّ
الْقِيَاسِ بِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ تَنْقَطِعُ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ رَشِيدًا إلَّا فِيمَا يَبِيعُهُ تَحْصِينًا عَلَى الْغَائِبِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَيْدَ الرَّشِيدِ لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِي انْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْأَبِ. نَعَمْ إذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى مَا عُرِفَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ حَتَّى أَمْكَنَهُ أَنْ يُبَاشِرَ الْعُقُودَ الْمُوجِبَةَ لِلدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ فِي جَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَاكَ: إنَّ مَنْعَ الْمَالِ لَا يُفِيدُ مَعَ فَكِّ الْحَجْرِ لِأَنَّهُ يُتْلِفُهُ بِلِسَانِهِ بِأَنْ يُبَاشِرَ الْعُقُودَ إلَى آخِرِ مَا عُرِفَ فِي بَابِ الْحَجْرِ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا لَا تَمْلِكُ الْأُمُّ فِي نَفَقَتِهَا) مَعَ أَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلْأَبِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ، وَكَذَا لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِهِ مَعَ عُمُومِ وِلَايَتِهِ.
(قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) حَاصِلُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَبِ وَغَيْرِهِ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ حِفْظِ مَالِ الِابْنِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ، وَبَيْعُ الْعُرُوضِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، وَإِذَا مَلَكَهُ الْوَصِيُّ فَلَأَنْ يَمْلِكَهُ الْأَبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُهَا مِنْهُ، وَإِذَا جَازَ بَيْعُهُ صَارَ الْحَاصِلُ عِنْدَهُ الثَّمَنَ وَهُوَ جِنْسُ حَقِّهِ فَيَأْخُذُهُ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهُ مُحْصَنٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ بِالْبَيْعِ فَلَيْسَ لِلْأَبِ بَيْعُهُ إلَّا بِمَحْضِ الْوِلَايَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ صِغَرِ الْوَلَدِ أَوْ جُنُونِهِ، وَمُقْتَضَى هَذَا صِحَّةُ بَيْعِ الْأَبِ لِلْعُرُوضِ عَلَى الْكَبِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّيْنِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فَلَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ، لَكِنْ نَقَلَ فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ الْأَقْضِيَةِ جَوَازَ بَيْعِ
(وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي ضَمِنَ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي الْحِفْظِ لَا غَيْرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ أَمْرَهُ مُلْزِمٌ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ. وَإِذَا ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِهِ.
(وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ بِالنَّفَقَةِ فَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ) لِأَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ تَجِبُ كِفَايَةً لِلْحَاجَةِ حَتَّى لَا تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَقَدْ حَصَلَتْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ إذَا قَضَى بِهَا الْقَاضِي لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِهَا فَلَا تَسْقُطُ بِحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ فِيمَا مَضَى. قَالَ (إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَصَارَ إذْنُهُ كَأَمْرِ الْغَائِبِ فَيَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْأَبَوَيْنِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ فَإِنَّهُ أَضَافَ الْبَيْعَ إلَيْهِمَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ: وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَقْضِيَةِ أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادِ يَجْمَعُهُمَا وَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ سَوَاءٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْفَاقِ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْبَيْعَ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا.
أَمَّا بَيْعُهَا بِنَفْسِهَا فَبَعِيدٌ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالْوِلَادِ وَلَا بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ بَلْ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْحِفْظِ.
(قَوْلُهُ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي ضَمِنَ) أَيْ فِي الْقَضَاءِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ مَاتَ الْغَائِبُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ لِوَرَثَتِهِ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ غَيْرَ الْإِصْلَاحِ. وَفِي النَّوَادِرِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَان يُمْكِنُ اسْتِطْلَاعُ رَأْيِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا. وَقَالُوا فِي رُفْقَةٍ فِي سَفَرٍ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِهِمْ أَوْ مَاتَ فَأَنْفَقُوا عَلَيْهِ وَجَهَّزُوهُ مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنُونَ اسْتِحْسَانًا وَمَاتَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ خَرَجُوا إلَى الْحَجِّ وَاحِدٌ فَبَاعُوا مَا كَانَ لَهُ مَعَهُمْ. فَلَمَّا وَصَلُوا سَأَلَهُمْ مُحَمَّدٌ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ لَمْ تَكُونُوا فُقَهَاءَ، وَكَذَا بَاعَ مُحَمَّدٌ كُتُبَ تِلْمِيذٍ لَهُ مَاتَ وَأَنْفَقَ فِي تَجْهِيزِهِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ فَتَلَا قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وَقَالُوا فِي عَبْدٍ مَأْذُونٍ مَاتَ مَوْلَاهُ فِي بِلَادٍ بَعِيدَةٍ فَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالْأَمْتِعَةِ لَا يَضْمَنُ، وَكَذَا عَنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ فِي مَسْجِدٍ لَهُ أَوْقَافٌ وَلَا مُتَوَلِّيَ لَهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي جَمْعِ رِيعِهَا وَأَنْفَقَ عَلَى مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ فِيمَا يَحْتَاجُ مِنْ شِرَاءِ الزَّيْتِ وَالْحُصْرِ وَالْحَشِيشِ لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا.
(قَوْلُهُ فَظَهَرَ إلَخْ) يَعْنِي إذَا ضَمِنَهُ الْغَائِبُ ظَهَرَ مِلْكُهُ لِمَا دَفَعَهُ لِلْأَبَوَيْنِ حَالَ دَفْعِهِ لَهُمَا فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِمِلْكِهِ لَهُمَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِمَا.
(قَوْلُهُ فَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ) هَذَا إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ، فَأَمَّا إذَا قَصُرَتْ لَا تَسْقُطُ وَمَا دُونَ الشَّهْرِ قَصِيرَةٌ فَلَا تَسْقُطُ. قِيلَ وَكَيْفَ لَا تَصِيرُ الْقَصِيرَةُ دَيْنًا وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ، وَلَوْ لَمْ تَصِرْ دَيْنًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ بِالنَّفَقَةِ فَائِدَةٌ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا مَضَى سَقَطَ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ، وَمِثْلُ هَذَا قَدَّمْنَاهُ فِي غَيْرِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ نَفَقَةَ هَؤُلَاءِ تَجِبُ لِلْحَاجَةِ) وَعَنْ هَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُمْ نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً فَسُرِقَتْ أَوْ هَلَكَتْ كَانَ عَلَيْهِ أُخْرَى لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَمْ تَنْدَفِعْ بِمَا سُرِقَ، وَلَوْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ أُخْرَى حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ تِلْكَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِأَنَّهَا لِلزَّوْجَةِ لَيْسَتْ شَرْعًا لِحَاجَتِهَا بَلْ لِاحْتِبَاسِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَبِالتَّلَفِ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يَنْتِفْ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ فَلَا تَسْقُطُ) وَإِنْ كَانَ فِي نَفَقَةِ
فَصْلٌ
(وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ)
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَمَالِيكِ «إنَّهُمْ إخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ
ذَوِي الْأَرْحَامِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي زَكَاةِ الْجَامِعِ أَنَّ دَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ بَعْدَ الْقَضَاءِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَسِوَى نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قِيلَ: مَحْمَلُهُ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ مَا إذَا أَذِنَ الْقَاضِي فِي الِاسْتِدَانَةِ وَاسْتَدَانُوا حَتَّى احْتَاجُوا إلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَدِينُوا بَلْ أَكَلُوا مِنْ الصَّدَقَةِ لَا تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا، وَإِلَى هَذَا مَالَ السَّرَخْسِيُّ وَحَكَمَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْقُضَاةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَنَصَرُوهُ وَقَيَّدُوا إطْلَاقَ الْهِدَايَةِ بِهِ، وَقِيلَ: مَحْمَلُهُ مَا إذَا قَصُرَتْ الْمُدَّةُ بِأَنْ تَكُونَ شَهْرًا فَأَقَلَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
(قَوْلُهُ وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ) عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ، قِيلَ إلَّا الشَّعْبِيُّ، الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَأَنْفَقَ الْآخَرُ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي وَبِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، وَكَذَا النَّخْلُ وَالزَّرْعُ وَالْمُودِعُ وَالْمُلْتَقِطُ إذَا أَنْفَقَا عَلَى الْوَدِيعَةِ وَاللُّقَطَةِ، وَالدَّارُ الْمُشْتَرَكَةُ إذَا كَانَ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا فِي مَرَمَّتِهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَبِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ. وَفِيهَا: إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ فِي يَدِهِ أَمَةٌ أَنَّ هَذِهِ حُرَّةٌ قَبِلَ الْقَاضِي هَذِهِ الشَّهَادَةَ ادَّعَتْ الْأَمَةُ أَوْ جَحَدَتْ، وَيَضَعُهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ، وَتُفْرَضُ نَفَقَةُ الْأَمَةِ إنْ طَلَبَتْ عَلَى الَّذِي كَانَتْ فِي يَدِهِ اهـ.
وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا صَغِيرًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ لِغَيْرِهِ هَذَا عَبْدُك أَوْدَعْته عِنْدِي فَأَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ مَا أَوْدَعَهُ ثُمَّ يَقْضِي بِنَفَقَتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِرِقِّهِ وَلَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ فَيَبْقَى عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا لَا يَحْلِفُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَالْقَوْلُ لَهُ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «هُمْ إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَزَادَ فِيهِ «وَمَنْ لَمْ يُلَائِمْكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُمْ
تَعَالَى تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ» (فَإِنْ امْتَنَعَ وَكَانَ لَهُمَا كَسْبٌ اكْتَسَبَا وَأَنْفَقَا) لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ حَتَّى يَبْقَى الْمَمْلُوكُ حَيًّا وَيَبْقَى فِيهِ مِلْكُ الْمَالِكِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا كَسْبٌ) بِأَنْ كَانَ عَبْدًا زَمِنًا أَوْ جَارِيَةً لَا يُؤَاجَرُ مِثْلُهَا (أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى بَيْعِهِمَا) لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَفِي الْبَيْعِ إيفَاءُ حَقِّهِمَا وَإِبْقَاءُ حَقِّ الْمَوْلَى بِالْخُلْفِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فَكَانَ تَأْخِيرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فَكَانَ إبْطَالًا، وَبِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ» وَفِيهِ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَفِيهِ إضَاعَتُهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُجْبَرُ، وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ» وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ آخِرُ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْمُرَادُ مِنْ جِنْسِ مَا تَأْكُلُونَ وَتَلْبَسُونَ لَا مِثْلِهِ، فَإِذَا أَلْبَسَهُ مِنْ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَهُوَ يَلْبَسُ مِنْهُمَا الْفَائِقُ كَفَى، بِخِلَافِ إلْبَاسِهِ نَحْوَ الْجُوَالِقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يَتَوَارَثْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ مِثْلَهُمْ إلَّا الْأَفْرَادُ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ امْتَنَعَ وَكَانَ لَهُمَا كَسْبٌ اكْتَسَبَا وَأَنْفَقَا) عَلَى أَنْفُسِهِمَا. حَتَّى لَوْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ إلَّا إذَا نَهَاهُ عَنْ الْكَسْبِ، أَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ فَلَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ إذَا أَبَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ بِأَنْ كَانَ عَبْدًا زَمِنًا) يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ صَحِيحًا إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ بِصِنَاعَةٍ لَا يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ كَحَمْلِ شَيْءٍ وَتَحْوِيلِ شَيْءٍ كَمُعِينِ الْبَنَّاءِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ نَقْلًا مِنْ الْكَافِي فِي نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ثُبُوتُهُ هُنَا أَوْلَى، وَكَذَا إذَا كَانَتْ جَارِيَةً لَا يُؤَاجَرُ مِثْلُهَا بِأَنْ كَانَتْ حَسَنَةً يُخْشَى مِنْ ذَلِكَ الْفِتْنَةُ أُجْبِرَ عَلَى الْإِنْفَاقِ أَوْ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ عَيْنًا إنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْكَسْبِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ عَلَى حَقِّهِ بِشَيْءٍ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا زَمِنًا سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنْهُ وَتَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَا الْعَبْدُ الصَّغِيرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ عَصَبَةً لَهُ كَابْنِ الْعَمِّ.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ إلَخْ) ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَلَيْهَا لِأَنَّ فِي الْإِجْبَارِ نَوْعَ قَضَاءٍ وَالْقَضَاءُ يَعْتَمِدُ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَيَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْمَقْضِيِّ لَهُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ، لَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ دِيَانَةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكُونُ آثِمًا مُعَاقَبًا بِحَبْسِهَا عَنْ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ. وَفِي الْحَدِيثِ «امْرَأَةٌ دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، لَا هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ. وَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا» وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ» : يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «لَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ» وَنَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَنْهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ» . وَعَنْ هَذَا مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا يَعْنِي كَالْأَمْلَاكِ مِنْ الدُّورِ وَالزُّرُوعِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ الْمَالِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ فِي الْحَيَوَانِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ رحمهم الله، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنْ يُتَصَوَّرَ فِيهِ دَعْوَى حِسْبَةٍ فَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ وَلَا بِدَعَ فِيهِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ. وَالْحَقُّ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالنَّفَقَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ مُتَطَوِّعًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَالْقَاضِي يَقُولُ لِلْآبِي إمَّا أَنْ تَبِيعَ نَصِيبَك مِنْ الدَّابَّةِ أَوْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا رِعَايَةً لِجَانِبِ الشَّرِيكِ، ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ. وَفِي الْمُحِيطِ: يُجْبَرُ صَاحِبُهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْبَرْ لَتَضَرَّرَ الشَّرِيكُ.
[فُرُوعٌ]
وَتَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ مَالِكًا كَانَ أَوْ لَا. مِثَالُهُ أَوْصَى بِعَبْدٍ لِرَجُلٍ وَخِدْمَتِهِ لِآخَرَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِدْمَةُ. وَلَوْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِإِنْسَانِ وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ الْجَارِيَةُ. وَمِثْلُهُ أَوْصَى بِدَارٍ لِرَجُلٍ وَسُكْنَاهَا لِآخَرَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى صَاحِبِ السُّكْنَى لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُ، فَإِنْ انْهَدَمَتْ فَقَالَ صَاحِبُ السُّكْنَى: أَنَا أَبْنِيهَا وَأَسْكُنُهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى حَقِّهِ إلَّا بِهِ، فَصَارَ كَصَاحِبِ الْعُلُوِّ مَعَ صَاحِبِ السُّفْلِ إذَا انْهَدَمَ السُّفْلُ وَامْتَنَعَ صَاحِبُهُ مِنْ بِنَائِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَهُ وَيَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَا غَرِمَ فِيهِ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِنَخْلٍ لِوَاحِدٍ وَبِتَمْرِهَا لِآخَرَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الثَّمَرَةِ، وَفِي التِّبْنِ وَالْحِنْطَةِ إنْ بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ شَيْءٌ فَالنَّفَقَةُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فَالتَّخْلِيصُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُمَا. وَأَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ مَا يَحْصُلُ لِكُلٍّ مِنْهَا وَإِلَّا يَلْزَمُ ضَرَرُ صَاحِبِ الْقَلِيلِ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِمْ فِي السِّمْسِمِ إذَا أَوْصَى بِدُهْنِهِ لِوَاحِدٍ وَبِشَجَرِهِ لِآخَرَ فَإِنَّ النَّفَقَةَ عَلَى مَنْ لَهُ الدُّهْنُ لِعَدِّهِ عَدَمًا وَإِنْ كَانَ قَدْ يُبَاعُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كَالْحِنْطَةِ وَالتِّبْنِ فِي دِيَارِنَا لِأَنَّ الْكَسْبَ يُبَاعُ لِعَلَفِ الْبَقَرِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَا أَقُولُ فِيمَا عَنْ مُحَمَّدٍ: ذَبَحَ شَاةً فَأَوْصَى بِلَحْمِهَا لِوَاحِدٍ وَبِجِلْدِهَا لِآخَرَ فَالتَّخْلِيصُ عَلَيْهِمَا كَالْحِنْطَةِ وَالتِّبْنِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْحَاصِلِ لَهُمَا، وَقَبْلَ الذَّبْحِ أُجْرَةُ الذَّبْحِ عَلَى صَاحِبِ اللَّحْمِ لَا الْجِلْدِ، وَنَفَقَةُ الْمَبِيعِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ قِيلَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ تَابِعَةً لِلْمَلِكِ كَالْمَرْهُونِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْبَائِعِ مَا دَامَ فِي يَدِهِ، وَيَجُوزُ وَضْعُ الضَّرِيبَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا بَلْ إنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الْعَتَاقِ
الْإِعْتَاقُ تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَلِهَذَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةُ الْأَمَةَ لِيَتَحَقَّقَ مُقَابَلَةُ الْأَعْضَاءِ بِالْأَعْضَاءِ. قَالَ (الْعِتْقُ يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ فِي مِلْكِهِ) شَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِلْمَمْلُوكِ وَالْبُلُوغِ
كِتَابُ الْعَتَاقِ
اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ فِي أَنَّهُ إسْقَاطٌ إلَّا أَنَّهُ إسْقَاطُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالطَّلَاقُ إسْقَاطُ مِلْكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَأَمَّا إسْقَاطُ مِلْكِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَيُسَمَّى إبْرَاءً وَإِسْقَاطُ مِلْكِ الْقِصَاصِ يُسَمَّى عَفْوًا فَقَدْ مُيِّزَتْ أَنْوَاعُ الْإِسْقَاطَاتِ بِأَسْمَاءِ لِيُنْسَبَ إلَيْهَا مَعَ اخْتِصَارٍ، وَتَسْرِي إضَافَةً لِلْبَعْضِ إلَى الْكُلِّ، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا وَعَلَى قَوْلِهِ بِتَأْوِيلِ الْأَوَّلِ إلَى الْكُلِّ وَيَلْزَمُ حَتَّى لَا يَقْبَلَ الْفَسْخَ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الطَّلَاقَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ عَلَى الْعِتْقِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ وَصْلًا لَهُ بِمُقَابَلِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ وَلِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مَحَلِّهِ بِشَرْطِ وُجُودِهِ فَكَانَ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ هُوَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُوجِبُ مِلْكَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الطَّلَاقِ، وَبَيَانُ مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ يُبَيِّنُ نَفْسَ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالنَّدْبِ وَالسَّرَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْإِعْتَاقِ مِنْ الْمَحَاسِنِ فَإِنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ، فَالْعِتْقُ إزَالَةُ أَثَرِ الْكُفْرِ وَهُوَ إحْيَاءٌ حُكْمِيٌّ لِأَثَرٍ حُكْمِيٍّ لِمَوْتٍ حُكْمِيٍّ. فَإِنَّ الْكَافِرَ مَيِّتٌ مَعْنًى.
فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِحَيَاتِهِ وَلَمْ يُذَقْ حَلَاوَتَهَا الْعُلْيَا فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رُوحٌ، قَالَ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ، ثُمَّ أَثَرُ ذَلِكَ الْكُفْرِ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ سَلْبُ أَهْلِيَّتِهِ لِمَا تَأَهَّلَ لَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ إنْكَاحِ الْبَنَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالشَّهَادَاتِ وَعَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَصِحَّ نِكَاحُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ، وَامْتَنَعَ أَيْضًا بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجَنَائِزِ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ صَارَ بِذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْأَمْوَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ، فَكَانَ الْعِتْقُ إحْيَاءً لَهُ مَعْنًى، وَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَانَ جَزَاؤُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ الْعِتْقُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ الْإِعْتَاقَ مِنْ نَارِ الْجَحِيمِ الَّتِي هِيَ الْهَلَاكُ الْأَكْبَرُ. قُوبِلَ إحْيَاؤُهُ مَعْنَى بِإِحْيَائِهِ مَعْنًى أَعْظَمَ إحْيَاءً كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ سَيِّدِ الْأَخْيَارِ، مِنْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَفِي لَفْظٍ «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنْ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي الْأَحْكَامِ وَالْبَاقُونَ فِي الْعِتْقِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ النَّارِ» وَزَادَ أَبُو دَاوُد «وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ إلَّا كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ يُجْزِي مَكَانَ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ» وَهَذَا يَسْتَقِلُّ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ اسْتِحْبَابِ عِتْقِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ عِتْقَهُ بِعِتْقِ الْمَرْأَتَيْنِ بِخِلَافِ عِتْقِهِ رَجُلًا.
وَالْعِتْقُ وَالْعَتَاقُ لُغَةً عِبَارَتَانِ عَنْ الْقُوَّةِ، وَمِنْهُ عَتَاقُ الطَّيْرِ لِجَوَارِحِهَا. وَعَتَقَ الْفَرْخُ إذَا قَوِيَ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَفَرَسٌ عَتِيقٌ إذَا كَانَ سَابِقًا وَذَلِكَ عَنْ قُوَّتِهِ، وَالْبَيْتُ الْعَتِيقُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ عَنْهُ مِلْكَ أَحَدٍ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ، وَقِيلَ لِلْقَدِيمِ عَتِيقٌ لِقُوَّةِ سَبْقِهِ، وَلِلْخَمْرِ إذَا تَقَادَمَتْ لِزِيَادَةِ قُوَّتِهَا لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا، وَبِاعْتِبَارِ الْقِدَمِ وَالسَّبْقِ جَاءَ بَيْتُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ:
عَلَيَّ أَلْيَةٌ عَتَقَتْ قَدِيمًا
…
وَلَيْسَ لَهَا وَإِنْ طَلَبَتْ مَرَامُ
يَعْنِي قُدِّمَتْ وَأَنَّهَا لَا تُرَامُ بِحِلٍّ، وَبَعْدَهُ:
بِأَنَّ الْغَدْرَ قَدْ عَلِمَتْ مُعَدٌّ
…
عَلَيَّ وَجَارَتِي مِنِّي حَرَامُ
الْمَعْنَى أَنَّهُ حَلَفَ مِنْ قَدِيمٍ أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ وَلَا يَزْنِي بِجَارَتِهِ، وَكَذَا تَقُولُ عَتَقَتْ إذَا سَبَقَتْ وَذَلِكَ لِفَضْلِ الْقُوَّةِ، وَالْعِتْقُ أَيْضًا يُقَالُ لِلْجَمَالِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الصِّدِّيقُ عَتِيقًا لِجَمَالِهِ، وَقِيلَ لِقَدَمِهِ فِي الْخَيْرِ.
وَقِيلَ لِعِتْقِهِ مِنْ النَّارِ، وَقِيلَ لِشَرَفِهِ فَإِنَّهُ قُوَّةٌ فِي الْحَسَبِ وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْكَرِيمِ: يَعْنِي الْحَسِيبَ. وَقِيلَ قَالَتْ أُمُّهُ لَمَّا وَضَعَتْهُ هَذَا عَتِيقٌ مِنْ الْمَوْتِ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ تَرْجِعُ إلَى زِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي مَعَانِيهَا، وَقِيلَ هُوَ اسْمُهُ الْعَلَمُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ وَضْعِهِ لَهُ الْجَمَالُ أَوْ تَفَاؤُلًا لَهُ بِالْحَسَبِ الْمُنِيفِ أَوْ بِعَدَمِ الْمَوْتِ، وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ لُغَةً الْقُوَّةُ فَالْإِعْتَاقُ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَالْعِتْقُ فِي الشَّرْعِ: خُلُوصٌ حُكْمِيٌّ يَظْهَرُ فِي الْآدَمِيِّ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ ثَابِتًا بِالرِّقِّ، وَلَا يَخْفَى ثُبُوتُ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَعَنْ هَذَا يُقَالُ: إنَّهُ الْقُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ
لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ، وَالْعَقْلِ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الْبَالِغُ: أَعْتَقْت وَأَنَا صَبِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُعْتِقُ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ وَجُنُونُهُ كَانَ ظَاهِرًا
هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْعِتْقُ الْحُرِّيَّةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ الْمُفَسَّرَ هُوَ بِهَا لُغَةً أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْبَدَنِ أَوْ مَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى آخَرَ، وَلِذَا أَطْلَقُوهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا بِاعْتِبَارِ قُوَّةٍ تَرْجِعُ إلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، إلَّا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالْحُرِّيَّةِ الطَّارِئَةِ عَلَى الرِّقِّ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمُغْرِبِ حَيْثُ قَالَ: الْعِتْقُ الْخُرُوجُ عَنْ الْمَمْلُوكِيَّةِ، فَالْإِعْتَاقُ شَرْعًا إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ وَالتَّحْرِيرُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْخُلُوصُ، يُقَال طِينٌ حَرٌّ لِلْخَالِصِ عَمَّا يَشُوبُهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ أَرْضٌ حَرَّةٌ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، وَالْكُلُّ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ.
وَالرِّقُّ فِي اللُّغَةِ الضَّعْفُ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ رَقِيقٌ وَصَوْتٌ رَقِيقٌ، وَقَدْ يُقَالُ الْعِتْقُ بِمَعْنَى الْإِعْتَاقِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفِقْهِيِّ تَجَوُّزٌ بِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاك إيَّاكَ.
وَسَبَبُهُ الْبَاعِثُ فِي الْوَاجِبِ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ وَفِي غَيْرِهِ قَصْدُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا سَبَبُهُ الْمُثْبِتُ لَهُ فَقَدْ يَكُونُ دَعْوَى النَّسَبِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْسَ الْمِلْكِ فِي الْقَرِيبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِقْرَارَ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ عَتَقَ، وَقَدْ يَكُونُ بِالدُّخُولِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا فَدَخَلَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا زَوَالُ يَدِهِ عَنْهُ بِأَنْ هَرَبَ مِنْ مَوْلَاهُ الْحَرْبِيِّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَهُوَ نَفْسُهُ رُكْنُ الْإِعْتَاقِ اللَّفْظِيِّ الْإِنْشَائِيِّ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا وَحُكْمُهُ زَوَالُ الرِّقِّ عَنْهُ وَالْمِلْكُ وَصِفَتُهُ فِي الِاخْتِيَارِيِّ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ غَالِبًا وَلَا يَلْزَمُ فِي تَحَقُّقِهِ شَرْعًا وُقُوعُهُ عِبَادَةً فَإِنَّهُ يُوجَدُ بِلَا اخْتِيَارٍ وَمِنْ الْكَافِرِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً كَالْعِتْقِ لِلشَّيْطَانِ وَالصَّنَمِ وَكَذَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ يَذْهَبُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَرْتَدُّ أَوْ يُخَافُ مِنْهُ السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ، وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ مَعَ تَحْرِيمِهِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْكَفَّارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَالْعِتْقِ لِزَيْدٍ.
وَالْقُرْبَةُ مَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ عز وجل. فَتَحْصُلُ أَنَّ الْعِتْقَ يُوصَفُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ. هَذَا وَفِي عِتْقِ الْعَبْدِ الذِّمِّيِّ مَا لَمْ يَخَفْ مَا ذَكَرْنَا أَجْرٌ لِتَمْكِينِهِ مِنْ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَغْلَى ثَمَنًا مِنْ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عِتْقُهُ أَفْضَلَ مِنْ عِتْقِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُهَا أَغْلَاهَا» بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ فَبَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ.
وَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِالْأَعْلَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ تَمْكِينُ الْمُسْلِمِ مِنْ مَقَاصِدِهِ وَتَفْرِيغِهِ. وَأَمَّا مَا يُقَالُ فِي عِتْقِ الْكَافِرِ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ رُسُوخُ الِاعْتِقَادَاتِ وَإِلْفُهَا فَلَا يَرْجِعُ عَنْهَا، وَلِذَا نُشَاهِدُ الْأَحْرَارَ بِالْأَصَالَةِ مِنْهُمْ لَا يَزْدَادُونَ إلَّا ارْتِبَاطًا بِعَقَائِدِهِمْ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَضَتْ حُرِّيَّتُهُ، نَعَمْ الْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي اسْتِحْبَابِ عِتْقِهِ تَحْصِيلُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا تَفْرِيغُهُ لِلتَّأَمُّلِ فَيُسَلَّمُ فَهُوَ احْتِمَالٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَلَا مِلْكَ لِلْمَمْلُوكِ) عَنْ هَذَا قُلْنَا إنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ
لِوُجُودِ الْإِسْنَادِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الصَّبِيُّ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ إذَا احْتَلَمْت لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِقَوْلٍ مُلْزِمٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» .
(وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَنْتِ حُرٌّ أَوْ مُعْتَقٌ أَوْ عَتِيقٌ أَوْ مُحَرَّرٌ أَوْ قَدْ حَرَّرْتُك أَوْ قَدْ أَعْتَقْتُك فَقَدْ عَتَقَ نَوَى بِهِ الْعِتْقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِيهِ.
الظَّاهِرِيَّةِ لِلْعَبْدِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ لِمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَالْمَالُ لِلْعَبْدِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَكَانَ عُمَرُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَالِهِ، قِيلَ: الْحَدِيثُ خَطَأٌ وَفِعْلُ عُمَرَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ، وَلِلْجُمْهُورِ مَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ: يَا عُمَيْرُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَك عِتْقًا هَنِيًّا فَأَخْبِرْنِي بِمَالِك، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ غُلَامَهُ فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِمَالِهِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا قَالَ الصَّبِيُّ إلَخْ) وَكَذَا إذَا قَالَ الْمَجْنُونُ إذَا أَفَقْت فَهُوَ حُرٌّ لَا يَنْعَقِدُ كَلَامُهُمَا سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ حَالَ التَّكَلُّمِ الْمُلْزِمِ فَلَمْ يَقَعْ تَعْلِيقًا مُعْتَبَرًا.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إلَخْ) رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الطَّلَاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَوْلُهُ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ لَا يَنْفُذُ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الْوَكَالَةِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحٌ فِيهِ) أَيْ الْأَلْفَاظُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ لِإِنْشَاءِ الْإِعْتَاقِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحُ الْمَوْلَى وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِتْقُ بِأَيِّ صِيغَةٍ كَانَ فِعْلًا أَوْ وَصْفًا أَوْ مَصْدَرًا، فَالْفِعْلُ نَحْوَ أَعْتَقْتُك وَحَرَّرْتُك وَأَعْتَقَك اللَّهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: بِالنِّيَّةِ وَالْوَصْفِ نَحْوَ أَنْتَ حُرٌّ مَحْرَمٌ عَتِيقٌ مُعْتَقٌ، وَلَوْ فِي النِّدَاءِ كَيَا حُرُّ يَا عَتِيقُ فَإِنَّهُ هَكَذَا حُرٌّ، وَالْمَوْلَى كَقَوْلِهِ هَذَا مَوْلَايَ أَوْ يَا مَوْلَايَ يُعْتَقُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، وَالْمَصْدَرُ الْعَتَاقُ عَلَيْك وَعِتْقُك عَلَيَّ.
وَلَوْ زَادَ قَوْلُهُ وَاجِبٌ لَمْ يُعْتَقْ لِجَوَازِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ بِكَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ. وَلَوْ قَالَ أَنْتَ عِتْقٌ أَوْ عَتَاقٌ أَوْ حُرِّيَّةٌ عَتَقَ بِالنِّيَّةِ، ذَكَرَهُ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ. فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ إصْلَاحِ ضَابِطِ الصَّرِيحِ، ثُمَّ حُكْمُ الصَّرِيحِ أَنْ يَقَعَ بِهِ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ لَا إنْ نَوَى غَيْرَهُ إلَّا فِي الْقَضَاءِ.
أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقَعُ إذَا نَوَى غَيْرَهُ، فَلَوْ قَالَ: نَوَيْت بِالْمَوْلَى النَّاصِرَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ هَازِلًا، فَإِنْ كَانَ هَازِلًا فَإِنَّهُ يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهُ وَهُوَ الْكَذِبُ هَزْلًا هَكَذَا يَقْتَضِيهِ مَا صَدَّرَ بِهِ الْحَاكِمُ كِتَابَ الْعِتْقِ مِنْ الْكَافِي مِنْ قَوْلِهِ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ شَرْعًا وَعُرْفًا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ النِّيَّةِ وَالْوَضْعِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْإِخْبَارِ فَقَدْ جُعِلَ إنْشَاءً فِي التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت بِهِ الْإِخْبَارَ الْبَاطِلَ أَوْ أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ الْعَمَلِ صُدِّقَ دِيَانَةً)
عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ لَعِبَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْهَزْلِ بِهِ.
وَذَكَرَ يَعْنِي مُحَمَّدًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ تَكَلَّمَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّرِيحِ فَكُّ الرَّقَبَةِ. وَدَفَعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ الْقَائِلِ «أَلَيْسَا سَوَاءً؟ فَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا» وَقَوْلُهُ تُصْبِحُ حُرًّا إضَافَةٌ لِلْعِتْقِ وَتَقُومُ حُرًّا وَتَقْعُدُ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرُّ النَّفْسِ عَتَقَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ فِي أَفْعَالِك وَأَخْلَاقِك لَا يُعْتَقُ، هَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةٍ وَقَالَ: أَمَّا أَنَا أَرَى أَنْ يُعْتَقَ إذَا أَرَادَ بِهِ الْحُرِّيَّةَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُعْتِقُ بِالنِّيَّةِ، قِيلَ وَالظَّاهِرُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَبِأَدْنَى تَأَمُّلٍ يَظْهَرُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا النَّقْلِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ صَرِيحٌ وَاسْتُبْعِدَ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ شَرْعًا وَعُرْفًا) عَلَى وَجْهٍ يَتَبَادَرُ بِلَا قَرِينَةٍ مَعَ الشُّهْرَةِ فِيهِ وَذَلِكَ أَمَارَةُ الْوَضْعِ فَوَافَقَ قَوْلَ الْإِيضَاحِ وَغَيْرَهُ حَيْثُ قَالُوا: الصَّرِيحُ مَا وُضِعَ لَهُ وَالْوَضْعُ يُغْنِي عَنْ النِّيَّةِ.
(قَوْلُهُ فَأَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ، أَمَّا نِيَّةُ عَدَمِهِ بِأَنْ يَنْوِيَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ فَمُعْتَبَرٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ عَلَى مَا سَيُذْكَرُ.
(قَوْلُهُ وَالْوَضْعُ) أَيْ وَضْعُ التَّرْكِيبِ لَا الْمُفْرَدِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى وَلَا الْمُرَكَّبُ حَتَّى يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي وَضْعِ الْمُرَكَّبِ بَلْ التَّرْكِيبَاتُ مَوْضُوعَةٌ وَضْعًا نَوْعِيًّا؛ مَثَلًا وَضْعُ نِسْبَةِ الْفِعْلِ الَّذِي عَيَّنَ الْوَاضِعُ صِيغَتَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُضِيِّ حَدَثِهِ إلَى شَيْءٍ لِيُفِيدَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى وَقْتِ النُّطْقِ فَجَعَلَهُ لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ وُضِعَ آخَرُ لَهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَاجَةَ قَائِمَةٌ إلَى إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي عِنْدَ النُّطْقِ وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهَا، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الشَّرْعُ وَالْعُرْفُ وَاللُّغَةُ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فَكَانَتْ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً عَلَى وَفْقِ اللُّغَةِ فِيهَا، وَهَذَا لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَيْضًا يُثْبِتُونَ هَذَا الْمَعْنَى: أَعْنِي تَحْرِيرَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، فَقَوْلُهُ فَقَدْ جُعِلَ إنْشَاءً فِي التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يُصَرِّحْ بِفَاعِلِ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الشَّارِعُ وَيُفِيدُهُ قَوْلُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِجَعَلِ الشَّارِعِ تَقْرِيرَهُ، وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ تَقْرِيرَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ مِنْ أَنَّ الطَّلَاقَ يَثْبُتُ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِإِخْبَارِهِ قَبِيلَهُ.
وَكَلَامُ الْكَافِي فِي الْعِتْقِ أَيْضًا مِثْلُهُ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَى خَبَرِيَّتِهِ لَمْ يُجْعَلْ إنْشَاءً أَصْلًا، وَعَلَى هَذَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّلَاقِ، وَلَفْظُهُ فِي الْبَيْعِ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ مُشْتَبَهًا. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَعْنَى مُتَبَادَرٌ فِي خُصُوصِ الْمَادَّةِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْخِطَابُ لِعَبْدٍ أَوْ بِالْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ بِهِ أَيْضًا، وَالْوَضْعُ يُعْهَدُ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ مُخَاطَبٍ وَمُتَكَلِّمٍ فَلَمْ يَكُنْ وَضْعًا جَدِيدًا فَلْيَكُنْ ثُبُوتُ الْعِتْقِ عِنْدَهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ بِهِ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِإِخْبَارِهِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ فِي الْكَافِي هُنَا وَهُوَ وَغَيْرُهُ فِي الطَّلَاقِ. ثُمَّ هَذَا التَّقْرِيرُ إنَّمَا يَجْرِي فِي غَيْرِ النِّدَاءِ، أَمَّا فِي النِّدَاءِ فَالتَّحْرِيرُ فِيهِ لَا يَثْبُتُ وَضْعًا بَلْ اقْتِضَاءً عَلَى مَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ. هَذَا وَيَلْحَقُ بِالصَّرِيحِ قَوْلُهُ لِعَبْدِهِ وَهَبْتُك نَفْسَك أَوْ بِعْتُك نَفْسَك مِنْك فَإِنَّهُ يُعْتَقُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذَا اللَّفْظِ إزَالَةُ مِلْكِهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَهُ لِآخَرَ
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ (وَلَا يَدِينُ قَضَاءً) لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ (وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ يُعْتَقُ) لِأَنَّهُ نِدَاءٌ بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْعِتْقِ وَهُوَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ هَذَا هُوَ حَقِيقَتُهُ فَيَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْوَصْفِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَقْضِي بِثُبُوتِهِ تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا إذَا سَمَّاهُ حُرًّا ثُمَّ نَادَاهُ يَا حُرُّ لِأَنَّ مُرَادَهُ الْإِعْلَامُ بِاسْمٍ عَلِمَهُ وَهُوَ مَا لَقَّبَهُ بِهِ. وَلَوْ نَادَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَا آزَادَ وَقَدْ لَقَّبَهُ بِالْحُرِّ قَالُوا يُعْتَقُ، وَكَذَا عَكْسُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِدَاءٍ بِاسْمٍ عَلِمَهُ فَيُعْتَبَرُ إخْبَارًا عَنْ الْوَصْفِ.
(وَكَذَا لَوْ قَالَ رَأْسُكَ حُرٌّ أَوْ وَجْهُكَ أَوْ رَقَبَتُكَ أَوْ بَدَنُكَ أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ فَرْجُك حُرٌّ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ
يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِذَا أَوْجَبَهُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ مُزِيلًا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولِهِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، أَمَّا إذَا قَالَ بِعْتُك نَفْسَك بِكَذَا فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَدِينُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ) بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ عَنَيْت أَنَّهُ كَانَ حُرًّا فِي وَقْتٍ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مِنْ السَّبْيِ دِينَ، وَإِنْ كَانَ مُوَلَّدًا لَا يَدِينُ كَذَا فِي الْغَايَةِ.
[فُرُوعٌ]
فِي الْبَدَائِعِ: دَعَا عَبْدَهُ سَالِمًا فَأَجَابَهُ آخَرُ فَقَالَ أَنْتَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَتَقَ الْمُجِيبُ. وَلَوْ قَالَ عَنِيت سَالِمًا عَتَقَا فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا يُعْتَقُ الَّذِي عَنَاهُ، وَلَوْ قَالَ يَا سَالِمُ أَنْتَ حُرٌّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ آخَرُ عَتَقَ سَالِمٌ لِأَنَّهُ لَا مُخَاطَبَ هُنَا إلَّا سَالِمٌ، وَفِيهِ قَالَ لِعَبْدٍ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ نَوَى الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَقَعَ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ مَا يُفْهَمُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ، إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً لِأَنَّهَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ تُوضَعْ لِلْمَعْنَى فَصَارَتْ كَالْكِنَايَةِ فَتَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ عَتَقَ قَضَاءً لِأَنَّهُ إذَا صَارَ حُرًّا فِي شَيْءٍ صَارَ حُرًّا فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ) هَذَا هُوَ حَقِيقَتُهُ تَكَلَّمَ فِي النِّدَاءِ فِي مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا هَذَا وَتَمَامُ عِبَارَتِهِ فِيهِ فَيَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْوَصْفِ فِيهِ وَأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ جِهَتِهِ فَيَقْضِي بِثُبُوتِهِ تَصْدِيقًا لَهُ وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ: أَيْ فِي مَسْأَلَةِ يَا ابْنِي.
ثَانِيهَا فِيمَا إذَا لَقِيَهُ حُرًّا ثُمَّ نَادَاهُ يَا آزَادَ أَوْ آزَادَ وَنَادَاهُ يَا حُرُّ أَنَّهُ يُعْتَقُ فَقَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِدَاءٍ بِاسْمٍ عَلِمَهُ فَيُعْتَبَرُ إخْبَارًا عَنْ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَانِ مَعًا يُفِيدَانِ أَنَّ عِتْقَهُ بِاعْتِبَارِ إخْبَارِهِ عَنْ ثُبُوتِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ فَيَثْبُتُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا إخْبَارَ فِي النِّدَاءِ إلَّا ضِمْنًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ يَا حُرُّ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى يَا مَنْ اتَّصَفَ بِالْحُرِّيَّةِ فَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ شَرْعًا تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ ثُبُوتَهَا اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِإِخْبَارِهِ الضِّمْنِيِّ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي نَقْلَ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ، وَأَمَّا كَلَامُهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّالِثِ وَهُوَ قَوْلُهُ يَا ابْنِي، يَا أَخِي حَيْثُ لَا يُعْتَقُ فَزَادَ فِيهِ فِي ثُبُوتِ الْإِعْتَاقِ قَيْدًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْمُنَادَى يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَالْعِتْقِ وَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ يُجْعَلُ لِمُجَرَّدِ إعْلَامِهِ بِاسْتِحْضَارِهِ، وَالْبُنُوَّةُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَالَةَ النِّدَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ خُلِقَ مِنْ مِائَةٍ كَانَ ابْنًا لَهُ قَبْلَ النِّدَاءِ لَا بِهِ.
[فَرْعٌ]
فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ قَالَ لِعَبْدِ غَيْرِهِ يَا حُرُّ اسْقِنِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ يُعْتَقُ، قِيلَ: هَذَا نَقْضٌ لِلْقَاعِدَةِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ حَالَ النِّدَاءِ بِأَنْ أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ فَأَجَازَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يُعْتَقُ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ مُرَادَهُ الْإِعْلَامُ) أَيْ إعْلَامُ الْعَبْدِ بِاسْمٍ عَلِمَهُ لِيَحْضُرَ بِنِدَائِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كَانَ عِلْمِيَّتُهُ لَهُ مَعْلُومَةً فَيَكُونُ قَصَدَ غَيْرَهُ، اسْتِحْضَارُ الذَّاتِ هُوَ الِاحْتِمَالُ دُونَ الظَّاهِرِ فَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يُرِيدَهُ فَيُعْتَقُ حِينَئِذٍ.
(قَوْلُهُ أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ فَرْجُك حُرٌّ) خَصَّ الْأَمَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِعَبْدِهِ فَرْجُك
يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَسَيَأْتِيك الِاخْتِلَافُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لَا يَقَعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
(وَلَوْ قَالَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك وَنَوَى بِهِ الْحُرِّيَّةَ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي بِعْتُك، وَيُحْتَمَلُ لِأَنِّي أَعْتَقْتُك فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا مُرَادًا إلَّا بِالنِّيَّةِ قَالَ (وَكَذَا كِنَايَاتُ الْعِتْقِ) وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ خَرَجْتِ مِنْ مِلْكِي وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ وَلَا رِقَّ لِي عَلَيْكِ وَقَدْ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ نَفْيَ السَّبِيلِ وَالْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ وَتَخْلِيَةُ السَّبِيلِ بِالْبَيْعِ أَوْ الْكِتَابَةِ كَمَا يَحْتَمِلُ بِالْعِتْقِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِأَمَتِهِ قَدْ أَطْلَقْتُك لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلَّقْتُك عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْ قَالَ لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْكِ وَنَوَى الْعِتْقَ لَمْ يُعْتَقْ)
حُرٌّ فِيهِ خِلَافٌ قِيلَ: يُعْتَقُ كَالْأَمَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَمَةِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا فَرْجُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي الْعِتْقَ لَا تُعْتَقُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَرْجِ مَعَ الرِّقِّ يَجْتَمِعَانِ، وَفِي لِسَانِكَ حُرٌّ يُعْتَقُ لِأَنَّهُ يُقَالُ هُوَ لِسَانُ الْقَوْمِ، وَفِي الدَّمِ رِوَايَتَانِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا فَرْجُك حُرٌّ عَنْ الْجِمَاعِ عَتَقَتْ، وَفِي الدُّبُرِ وَالِاسْتِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْبَدَنِ، وَفِي الْعِتْقِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَوْلَى ثُبُوتُ الْعِتْقِ فِي " ذَكَرُكَ حُرٌّ " لِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ هُوَ ذَكَرٌ مِنْ الذُّكُورِ وَفُلَانٌ فَحْلٌ ذَكَرٌ وَهُوَ ذَكَرُهُمْ.
(قَوْلُهُ وَسَيَأْتِيك الِاخْتِلَافُ فِيهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُجْزِي الْإِعْتَاقَ الْآتِيَةَ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك) شُرُوعٌ فِي الْكِنَايَاتِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ مِنْهَا مَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِهِ إذَا نَوَاهُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَاهُ، فَالْأَوَّلُ نَحْوَ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكِ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ خَرَجْتِ مِنْ مِلْكِي لَا رِقَّ لِي عَلَيْك خَلَّيْت سَبِيلَك وَلَا حَقَّ لِي عَلَيْك عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ لِأَمَتِهِ أَطْلَقْتُك أَوْ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرَّةٌ عَتَقَ فِي الْجَمِيعِ إنْ نَوَى، وَلَوْ قَالَ
لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَدِ، وَسُمِّيَ السُّلْطَانُ بِهِ لِقِيَامِ يَدِهِ وَقَدْ يَبْقَى الْمِلْكُ دُونَ الْيَدِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِأَنَّ نَفْيَهُ مُطْلَقًا بِانْتِفَاءِ الْمِلْكِ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ سَبِيلًا فَلِهَذَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ.
(وَلَوْ قَالَ هَذَا ابْنِي
أَنْتَ لِلَّهِ أَوْ جَعَلْتُك لِلَّهِ خَالِصًا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ وَإِنْ نَوَى، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ بِحُكْمِ التَّخْلِيقِ، وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يُعْتَقُ لِأَنَّ الْخُلُوصَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْعِتْقِ. وَالثَّانِي نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ بِنْتَ مِنِّي وَلِأَمَتِهِ بِنْتِ عَنِّي أَوْ حَرُمْت عَلَيَّ أَوْ أَنْتِ بَرِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ اُخْرُجِي أَوْ اُغْرُبِي أَوْ اسْتَتِرِي أَوْ تَقَنَّعِي أَوْ اذْهَبِي أَوْ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِهَا وَإِنْ نَوَاهُ، وَكَذَلِكَ طَلَّقْتُك وَكَذَا سَائِرُ صَرَائِحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتِهِ لِمَا سَنَذْكُرُ، وَكَذَا إذَا قَالَ اذْهَبْ أَوْ تَوَجَّهْ حَيْثُ شِئْت مِنْ بِلَادِ اللَّهِ لَا يُعْتَقُ وَإِنْ نَوَى، وَفِي الْمُغْنِي اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت كِنَايَةٌ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ مِثْلُ الْحُرِّ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لِلْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يُعْتَقُ إذَا نَوَى كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ مِثْلَ امْرَأَةُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ قَدْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا إنْ نَوَى الْإِيلَاءَ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَدِ) قِيلَ فِيهِ تَسَامُحٌ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ صَاحِبِ الْيَدِ، وَالسَّلْطَنَةُ الْيَدُ، لَكِنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ يُفِيدُ أَنَّهُ التَّحَقُّقُ لَا التَّسَاهُلُ وَالتَّجَوُّزُ فَإِنَّهُ قَالَ: وَسُمِّيَ السُّلْطَانُ بِهِ لِقِيَامِ يَدِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ الْأَصْلِيَّ لِلسُّلْطَانِ هُوَ الْيَدُ وَتَسْمِيَةُ غَيْرِهِ بِهِ لِاتِّصَافِهِ بِالْيَدِ كَمَا تُسَمِّي رَجُلًا بِالْفَضْلِ لِاتِّصَافِهِ بِهِ، ثُمَّ قِيلَ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْن الْحُجَّةِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْحُجَّةُ وَالْيَدُ، فَإِذَا قَالَ لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك فَإِنَّمَا نَفْيُ الْحُجَّةِ وَالْيَدِ وَنَفْيُ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَسْتَدْعِي نَفْيَ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ، بِخِلَافِ نَفْيِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ نَفْيُ الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ الْمَسْلُوكُ لَا يُرَادُ حَقِيقَةً هُنَا فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْ الْمِلْكِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ يُتَوَصَّلُ بِهِ شَرْعًا إلَى إنْقَاذِ التَّصَرُّفَاتِ، فَإِذَا صَحَّ جَهْلُهُ كِنَايَةً عَنْهُ عَتَقَ إذَا أَرَادَهُ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ فَإِنَّهُ الْيَدُ فَنَفْيُهُ نَفْيُ الْيَدِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ نَفْيَ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ، فَلَوْ جُعِلَ كِنَايَةً عَنْ الْعِتْقِ وَفِيهِ إزَالَةُ الْيَدِ وَالْمِلْكِ لَثَبَتَ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ مِمَّا وُضِعَ لَهُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَا حُجَّةَ لِي عَلَيْك.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ مَالَ أَنَّهُ يُعْتَقُ بِالنِّيَّةِ فِي لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ. وَعَنْ الْكَرْخِيِّ رحمه الله: فَنِيَ عُمْرِي وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي الْفَرْقُ بَيْنَ نَفْيِ السُّلْطَانِ وَالسَّبِيلِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِمَامِ لَا يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا إلَّا وَالْمَحَلُّ مُشْكِلٌ وَهُوَ بِهِ جَدِيرٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ الْيَدَ الْمُفَسَّرَ بِهَا السُّلْطَانُ لَيْسَ مُرَادًا بِهَا الْجَارِحَةُ الْمَحْسُوسَةُ بَلْ الْقُدْرَةُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ سُلْطَانٌ: أَيْ يَدٌ يَعْنِي الِاسْتِيلَاءَ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْكَافِي بِأَنَّ السُّلْطَانَ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِيلَاءُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَفْيُهُ نَفْيَ الِاسْتِيلَاءِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَصَحَّ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ مَا يُرَادُ بِنَفْيِ السَّبِيلِ بَلْ أَوْلَى بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَالْمَانِعُ الَّذِي عَيَّنَهُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعِتْقُ وَهُوَ لُزُومُ أَنْ يَثْبُتَ بِاللَّفْظِ أَكْثَرُ مِمَّا
وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ عَتَقَ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا؛ ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الدَّعْوَةِ بِالْمِلْكِ ثَابِتَةٌ وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ عَتَقَ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ النَّسَبُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِلتَّعَذُّرِ وَيُعْتَقُ إعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي مَجَازِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إعْمَالِهِ بِحَقِيقَتِهِ، وَوَجْهُ الْمَجَازِ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْ قَالَ هَذَا مَوْلَايَ أَوْ يَا مَوْلَايَ عَتَقَ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اسْمَ الْمَوْلَى
وُضِعَ لَهُ غَيْرُ مَانِعٍ، إذْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ أَوْسَعَ مِنْ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَجَازَاتِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ فِيهَا يَصِيرُ فَرْدًا مِنْ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، كَذَا هَذَا يَصِيرُ زَوَالُ الْيَدِ مِنْ أَفْرَادِ الْمَجَازِيِّ: أَعْنِي الْعِتْقَ أَوْ زَوَالَ الْمِلْكِ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ كَوْنُ نَفْيِ السُّلْطَانِ مِنْ الْكِنَايَاتِ.
(قَوْلُهُ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ) قِيلَ هَذَا قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ لَا مُعْتَبَرٌ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمَبْسُوطِ. وَذَكَرَ فِي الْيَنَابِيعِ الثَّبَاتُ لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَفِي النِّهَايَةِ رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِأَبِي الْفَضْلِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ بِهِ الْكَرَامَةَ وَالشَّفَقَةَ حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ يُصَدَّقُ. وَفِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: الثَّبَاتُ عَلَى ذَلِكَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ لَا الْعِتْقِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمُحِيطِ وَجَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُجْتَبَى: هَذَا لَيْسَ بِقَيْدٍ حَتَّى لَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أُوهِمْت أَوْ أَخْطَأْت يُعْتَقُ وَلَا يُصَدَّقُ وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ يُولَدُ مِثْلُهَا لِمِثْلِهِ هَذِهِ بِنْتِي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا. قَالُوا: هَذَا فِي مَعْرُوفَةِ النَّسَبِ، أَمَّا مَجْهُولَةُ النَّسَبِ إنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ. قَالَ فِي الْمُجْتَبَى عُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الثَّبَاتَ شَرْطُ الْفُرْقَةِ وَامْتِنَاعُ جَوَازِ النِّكَاحِ لَا الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الثَّبَاتَ لِثُبُوتِ النَّسَبِ لَا الْعِتْقِ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ دُونَ الْعِتْقِ عَلَى مَا سَمِعْت مِنْ التَّزَوُّجِ بِمَنْ أَقَرَّ بِبِنْتَيْهَا. وَفِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: إذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَابْنِ ابْنٍ أَوْ بِعَمٍّ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ أَنْكَرَهُ الْمَرِيضُ وَقَالَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ ثُمَّ أَوْصَى بِمَالِهِ لِرَجُلٍ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَإِنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْمَرِيضَ جَحَدَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ لَازِمًا، ثُمَّ إذَا قَالَ هَذَا ابْنِي هَلْ تَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إذَا كَانَتْ فِي مِلْكِهِ؟ قِيلَ لَا سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ مَجْهُولَ النَّسَبِ أَوْ مَعْرُوفَ النَّسَبِ، وَقِيلَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ حَتَّى لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَهُ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهَذَا أَعْدَلُ.
(قَوْلُهُ إذَا كَانَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ) يَعْنِي إذَا كَانَ مِثْلُهُ فِي السِّنِّ يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِمِثْلِ الْمُدَّعِي فِي السِّنِّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ. وَحَاصِلُهُ إذَا كَانَ سِنُّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ ابْنَهُ لَا الْمُشَاكَلَةَ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَبْيَضَ نَاصِعًا وَالْمَقُولُ لَهُ أَسْوَدُ حَالِكٌ أَوْ بِالْقَلْبِ وَسِنُّهُ يَحْتَمِلُ
وَإِنْ كَانَ يَنْتَظِمُ النَّاصِرَ وَابْنَ الْعَمِّ وَالْمُوَالَاةُ فِي الدِّينِ وَالْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ فِي الْعَتَاقَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَيَّنَ الْأَسْفَلُ فَصَارَ كَاسْمٍ خَاصٍّ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِمَمْلُوكِهِ عَادَةً وَلِلْعَبْدِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَانْتَفَى الْأَوَّلُ. وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ نَوْعُ مَجَازٍ، وَالْكَلَامُ لِلْحَقِيقَةِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْعَبْدِ تُنَافِي كَوْنَهُ مُعْتَقًا فَتَعَيَّنَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ فَالْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: هَذِهِ مَوْلَاتِي لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ الْمَوْلَى فِي الدِّينِ أَوْ الْكَذِبَ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِرَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ الْأَسْفَلُ مُرَادًا الْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ وَبِالنِّدَاءِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ يُعْتَقُ بِأَنْ قَالَ: يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ فَكَذَا النِّدَاءُ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله لَا يُعْتَقُ فِي الثَّانِي لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الْإِكْرَامَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِي. قُلْنَا: الْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَخْتَصُّ بِالْعِتْقِ
كَوْنَهُ ابْنَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ يَنْتَظِمُ النَّاصِرُ) قَالَ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} وَابْنُ الْعَمِّ كَمَا ذُكِرَ فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٍ عَنْ زَكَرِيَّا {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} .
(قَوْلُهُ فَتَعَيَّنَ الْأَسْفَلُ فَالْتَحَقَ بِالصَّرِيحِ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ شَارِحٌ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعَانٍ فَلَا يَكُونُ مَكْشُوفَ الْمُرَادِ فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَقَوْلُهُمْ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِمَمْلُوكِهِ عَادَةً مَمْنُوعٌ بَلْ تَحْصُلُ لَهُ النُّصْرَةُ بِهِمْ. عَلَى أَنَّا نَقُولُ: الصَّرِيحُ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ، وَالْمُتَكَلِّمُ يُنَادِي أَنَا عَنِيت النَّاصِرَ بِلَفْظِ الْمَوْلَى وَلَهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَهُمْ يَقُولُونَ: دَلَالَةُ الْحَالِ مِنْ كَلَامِك تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَسْفَلُ وَلَا تُعْتَبَرُ إرَادَةُ النَّاصِرِ وَنَحْوُهُ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْمُكَابَرَةِ اهـ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعَانٍ فَلَا يَكُونُ مَكْشُوفَ الْمُرَادِ إنْ أَرَادَ دَائِمًا مَنَعْنَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَنْكَشِفَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِيَّة لِاقْتِرَانِهِ بِمَا يَنْفِي غَيْرَهُ اقْتِرَانًا ظَاهِرًا كَمَا هُوَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَمَنْعُهُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِعَبْدِهِ لَا يُلَائِمُ مَا أَسْنَدَهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَحْصُلُ النُّصْرَةُ بِهِمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ لَا يَسْتَدْعِي لِلنَّصْرِ عَبْدَهُ بَلْ بَنِي عَمِّهِ وَإِنْ كَانَ الْعَبِيدُ وَالْخَدَمُ يَنْصُرُونَهُ لَكِنَّهُ يَأْنَفُ مِنْ دُعَائِهِمْ عَادَةً وَنِدَائِهِمْ لِذَلِكَ فَأَيْنَ دُعَاؤُهُ إيَّاهُمْ لِذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِمْ يَنْصُرُونَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ الصَّرِيحُ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْكِنَايَةَ فَطَغَى قَلَمُهُ فَنَقُولُ هَذَا الصَّرِيحُ وَهُوَ قَوْلُهُ أَرَدْت النَّاصِرَ بِلَفْظِ الْمَوْلَى إنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ عَمَّا هُوَ مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ فِي إرَادَتِهِ الْعَتِيقَ فَأَثْبَتَ حُكْمَهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا، وَهَذَا الصَّرِيحُ بَعْدَهُ رُجُوعٌ عَنْهُ فَلَا يَقْبَلُهُ الْقَاضِي وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى لَوْ أَرَادَ النَّاصِرَ لَمْ يُعْتَقْ فَأَيْنَ الْمُكَابَرَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا ذَهَبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِي هَذَا مَوْلَايَ إلَّا بِالنِّيَّةِ: وَأَنَّهُ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ (قَوْلُهُ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُعْتَقُ فِي الثَّانِي) وَهُوَ يَا مَوْلَايَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَبِقَوْلِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْإِكْرَامُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِيِّ أَفَادَ أَنَّهُمَا مِنْ الْكِنَايَاتِ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ ذَلِكَ نَاوِيًا لِلْعِتْقِ عَتَقَ وَهَكَذَا فِي يَا سَيِّدُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُعْتَقُ بِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، وَقِيلَ إذَا لَمْ يَنْوِ عَتَقَ فِي يَا سَيِّدِي لَا فِي يَا سَيِّدُ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِيهِمَا إلَّا بِالنِّيَّةِ.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ) وَهُوَ يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَخْتَصُّ بِالْعِتْقِ فِي الْحَالِ وَلَا
فَكَانَ إكْرَامًا مَحْضًا.
(وَلَوْ قَالَ يَا ابْنِي أَوْ يَا أَخِي لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ النِّدَاءَ لِإِعْلَامِ الْمُنَادَى إلَّا أَنَّهُ إذْ كَانَ بِوَصْفٍ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي الْمُنَادَى اسْتِحْضَارًا لَهُ بِالْوَصْفِ الْمَخْصُوصِ كَمَا فِي قَوْلِهِ يَا حُرُّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ بِوَصْفٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِلْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ دُونَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ فِيهِ لِتَعَذُّرِهِ وَالْبُنُوَّةُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا حَالَةَ النِّدَاءِ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ انْخَلَقَ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ ابْنًا لَهُ بِهَذَا النِّدَاءِ فَكَانَ لِمُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله شَاذًّا أَنَّهُ يُعْتَقُ فِيهِمَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الظَّاهِرِ. وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ فَإِنَّهُ ابْنُ أَبِيهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: يَا بُنَيَّ أَوْ يَا بُنَيَّةُ لِأَنَّهُ تَصْغِيرُ الِابْنِ وَالْبِنْتِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ وَالْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ.
(وَإِنْ قَالَ لِغُلَامٍ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ هَذَا ابْنِي عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله
بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ سَيِّدًا بِالْعِتْقِ لِسَيِّدِهِ. وَالْوَجْهُ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مُتَعَذِّرَةٌ لِفَرْضِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حُرٌّ غَيْرُ عَبْدٍ فَتَعَيَّنَ الْمَجَازُ، وَلَمْ يَلْزَمْ خُصُوصُ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ الْعِتْقُ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ مَجَازِيًّا آخَرَ هُوَ الْإِكْرَامُ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِأَحَدِهِمَا إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَقُلْنَا إذَا نَوَى بِيَا سَيِّدِي الْعِتْقُ عَتَقَ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ صُيِّرَ إلَى الْأَخَفِّ الَّذِي هُوَ الْإِكْرَامُ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ مَعَ الِاحْتِمَالِ بِلَا نِيَّةٍ، بِخِلَافِ يَا مَوْلَايَ لِأَنَّهُ بِحَقِيقَتِهِ فِي الْأَسْفَلِ يَثْبُتُ الْعِتْقُ بَعْدَ انْتِفَاءِ الْحَقَائِقِ الْآخَرُ بِالنَّافِي.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ يَا ابْنِي أَوْ يَا أَخِي لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ النِّدَاءَ لِإِعْلَامِ الْمُنَادَى بِمَطْلُوبِيَّةِ حُضُورِهِ، فَإِنْ كَانَ بِوَصْفٍ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَتِهِ تَضَمَّنَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الْوَصْفِ تَصْدِيقًا لَهُ كَمَا سَلَفَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَجَرَّدَ لِلْإِعْلَامِ وَالْبُنُوَّةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا مِنْ جِهَةِ الْعِتْقِ إلَّا تَابِعًا لَوْ تَخَلَّقَ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ وَلَا تَثْبُتُ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ، إذْ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ تَصْدِيقًا لَهُ فَيُعْتَقُ. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ يَا عَمِّي يَا خَالِي أَوْ يَا أَبِي يَا جَدًّ أَوْ يَا ابْنِي أَوْ لِجَارِيَتِهِ يَا عَمَّتِي يَا خَالَتِي أَوْ يَا أُخْتِي أَوْ لِعَبْدِهِ يَا أَخِي لَا يُعْتَقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَوَجَّهَهُ عَلَى وَجْهٍ يُدْفَعُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ النِّدَاءِ اسْتِحْضَارَ الذَّاتِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ يُوصَفُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُنَادَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ جُعِلَ مُثَبِّتًا لَهُ مَعَ النِّدَاءِ وَإِلَّا لَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا لِذَلِكَ اللَّفْظِ سَوَاءٌ خُلِقَ مِنْ مَائِهِ أَوْ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَوْ خُلِقَ
لَهُمْ أَنَّهُ كَلَامٌ مُحَالُ الْحَقِيقَةِ فَيُرَدُّ فَيَلْغُو كَقَوْلِهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ كَلَامٌ مُحَالٌ بِحَقِيقَتِهِ لَكِنَّهُ صَحِيحٌ بِمَجَازِهِ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حُرِّيَّتِهِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ فِي الْمَمْلُوكِ سَبَبٌ لِحُرِّيَّتِهِ، إمَّا إجْمَاعًا أَوْ صِلَةً لِلْقَرَابَةِ، وَإِطْلَاقُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبَّبِ مُسْتَجَازٌ فِي اللُّغَةِ تَجَوُّزًا، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُلَازِمَةٌ لِلْبُنُوَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ وَالْمُشَابَهَةُ فِي وَصْفٍ مُلَازِمٍ مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ عَلَى مَا عُرِفَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْإِلْغَاءِ، بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ فِي الْمَجَازِ فَتَعَيَّنَ الْإِلْغَاءُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ قَطَعْت يَدَك فَأَخْرَجَهُمَا صَحِيحَتَيْنِ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ مَجَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَالْتِزَامِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْمَالِ لِأَنَّ الْقَطْعَ خَطَأٌ سَبَبٌ لِوُجُوبِ مَالٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْأَرْشُ، وَأَنَّهُ يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْمَالِ فِي الْوَصْفِ
مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ إلَى آخِرِهِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ إذَا خُلِقَ مِنْ مَائِهِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِنِيَّةٍ إلَّا بِذَلِكَ التَّحْقِيقِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لَا بِاللَّفْظِ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهُ لَا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِتَصْحِيحِهِ يَجِبُ كَوْنُهُ خَبَرًا صَرِيحًا بِخِلَافِ مَا تَضَمَّنَهُ النِّدَاءُ بِالْوَصْفِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا قَدَّمْنَا تَقْرِيرَهُ فِي يَا حُرُّ مُسَاهَلَةٌ لِعَدَمِ اخْتِلَافِ الْجَوَابِ فَإِنَّ الثَّابِتَ الْحُرِّيَّةُ، فَإِنْ قَرَّرَ ثُبُوتَهَا اقْتِضَاءً لِلْخَبَرِ الضِّمْنِيِّ أَوْ إثْبَاتُهُ مِنْهُ بِلَفْظِ النِّدَاءِ بِالْوَصْفِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ شَاذَّةٌ فَلَيْسَ وَجْهُهَا إلَّا لُزُومُ الثُّبُوتِ اقْتِضَاءً لِلْخَبَرِ الضِّمْنِيِّ بِتَحَقُّقِ وَصْفِ الْأَبْنِيَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ النَّسَبِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَجْهُولَ النَّسَبِ، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لَهُ، وَعَدَمُ الْعِتْقِ إذَا كَانَ مَعْلُومَ النَّسَبِ.
(قَوْلُهُ لَهُمْ أَنْ هَذَا كَلَامٌ مُحَالٌ) أَيْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ مُحَالٌ فَيُرَدُّ فَيَلْغُو نَفْسُهُ، وَإِذَا عُدَّ لَغْوًا لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا أَصْلًا لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَجَازِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا لَغَا قَوْلُهُ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ
حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَتَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِدُونِ الْقَطْعِ، وَمَا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ فَالْقَطْعُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لَهُ، أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَخْتَلِفُ ذَاتًا وَحُكْمًا فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْهُ.
لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْعِتْقُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْمَجَازِ عِنْدَهُمَا تَصَوُّرُ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنَّ الْمَجَازِيَّ لَيْسَ مَحَلًّا، وَعِنْدَهُ لَا بَلْ الشَّرْطُ صِحَّةُ التَّرْكِيبِ لُغَةً بِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَمَنْ سَعِدَ بِانْتِهَاضِ وَجْهِهِ فِي الْمَبْنِيِّ سَعِدَ بِهَذَا الْفَرْعِ وَنَحْوِهِ، وَبِهِ يُعْرَفُ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ كُلَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الْبُنُوَّةَ سَبَبٌ لِلْعِتْقِ وَأَنَّهُ طَرِيقُ الْمَجَازِ، بَلْ يَشْتَرِطَانِ بَعْدَ ذَلِكَ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ تَصَوُّرُ حُكْمِ الْأَصْلِ: أَيْ الْحَقِيقِيِّ. فَتَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ أَنْ تَقُولَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَلَفِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُصَارَ إلَى الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ أَوْ تَعْيِينِ الْمَجَازِ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَاخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ الْخَلْفِيَّةِ، فَعِنْدَهُمَا الْخَلْفِيَّةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ: يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يُثْبِتُهُ الْمَجَازُ كَثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بِلَفْظِ هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي يُثْبِتُهُ نَفْسُ هَذَا اللَّفْظِ إذَا كَانَ حَقِيقَةً وَهُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّكَلُّمِ: يَعْنِي نَفْسَ الْكَلَامِ فَيَكُونُ لَفْظُ هَذَا ابْنِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْحُرِّيَّةِ خَلَفًا عَنْ هَذَا ابْنِي مُسْتَعْمَلًا فِي ثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ. وَقِيلَ بَلْ خَلَفٌ عَنْ لَفْظِ هَذَا حُرٌّ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْآخَرِ صَحِيحًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا خِلَافًا سِوَى فِي جِهَةِ الْخَلْفِيَّةِ، وَعَلَى مَا قِيلَ يَكُونُ فِيهَا، وَفِي الْأَصْلِ أَيْضًا أَنَّهُ نَفْسُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ الْمَجَازُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ اللَّفْظُ الَّذِي يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ.
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيرِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ بِصِيغَتِهِ، فَإِذَا وُجِدَ وَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ بِحَقِيقَتِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صِحَّةَ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَعَ تَعَذُّرِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إنَّمَا هُوَ فِي هَذَا ابْنِي لِلْأَكْبَرِ مِنْهُ، أَمَّا فِي هَذَا حُرٌّ فَصَحِيحٌ لَفْظُهُ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا مَرَّةً بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ انْتِقَالِ الذِّهْنِ مِنْ الْمَوْضُوعِ لَهُ إلَى الْمُتَجَوَّزِ فِيهِ لِتَوَقُّفِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِهِ وَإِلَّا اسْتَحَالَ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَمَرَّةً بِالْقِيَاسِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ وَشُرْبِ مَا فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ حَيْثُ يَحْنَثُ عَقِيبَ الْيَمِينِ فِي الْأُولَى، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهِ دُونَ الثَّانِيَةِ، فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ، وَلَمَّا أَمْكَنَ الْبِرُّ فِي الْأُولَى لِتَصَوُّرِ مَسِّ السَّمَاءِ انْعَقَدَتْ فِي حَقِّ الْخَلَفِ، وَلَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ تَنْعَقِدْ، فَرَأَيْنَا الْخَلَفَ يُعْتَمَدُ قِيَامُهُ مَكَانَ الْأَصْلِ، وَتَارَةً بِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِاللَّفْظِ فَاعْتِبَارُ الْخَلَفِيَّةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَلَى فَهْمِ الْمَوْضُوعِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِيَنْتَقِلَ عَنْهُ إلَى اللَّازِمِ الْمُرَادِ، وَفَهْمُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ تَحَقُّقِهِ فِي الْخَارِجِ. وَنُجِيبُ عَنْ الثَّانِي أَنَّ تِلْكَ الْخَلْفِيَّةَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، وَمَعْنَى خَلْفِيَّةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِآخَرَ هُوَ كَوْنُهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ شَرْعًا بِتَقْدِيرِ تَعَذُّرِ
وَلَوْ قَالَ: هَذَا أَبِي أَوْ أُمِّي وَمِثْلُهُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِمَا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ: هَذَا جَدِّي قِيلَ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ. وَقِيلَ: لَا يُعْتَقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ الْأَبُ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي كَلَامِهِ فَتَعَذَّرَ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الْمُوجِبِ. بِخِلَافِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ لِأَنَّ لَهُمَا مُوجِبًا فِي الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ،
امْتِثَالِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا فَرْعُ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ، وَتَعَلُّقُ الْخِطَابِ دَائِرٌ مَعَ الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ كَالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمَسِّ وَالتَّيَمُّمِ لِلْوُضُوءِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ شَرْعًا خَلَفٌ اسْتَحَالَ أَصْلُهُ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ إذْ ذَاكَ، وَلَمْ تَجِبْ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ وُجُوبِ الْبِرِّ، وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ لُزُومِ إمْكَانِ مَحَلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِخَلَفِهِ، وَلُزُومِ إمْكَانِ مَعْنًى وُضِعَ لَهُ لَفْظٌ لِصِحَّةِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ اللَّفْظِ مَجَازًا، وَظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ الْيَمِينِ الْأَصْلِيِّ هُوَ وُجُوبُ الْبِرِّ لَا الْبِرُّ نَفْسُهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّالِثِ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ بِاللَّفْظِ بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ مَرَّةً فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَأُخْرَى فِيمَا لَمْ يُوضَعْ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا لِذَلِكَ سِوَى وُجُودِ مُشْتَرَكٍ يَجُوزُ التَّجَوُّزُ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ شَيْئًا سِوَى إلَى إدْرَاكِ الْحَقِيقِيِّ، ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى إدْرَاكِهِ لَيْسَ لِنَفْسِهِ بَلْ لِتُسْتَعْلَمَ الْعَلَاقَةُ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُتَصَوَّرْ لَمْ تُعْلَمْ الْعَلَاقَةُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مُجَرَّدِ فَهْمِهِ أَيْضًا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ. فَاشْتِرَاطُ إمْكَانِ وُجُودِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بَلْ اللُّغَةُ تَنْفِيهِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَجُوزَ زَيْدٌ أَسَدٌ فَإِنَّهُ وِزَانُ هَذَا ابْنِي لِلْأَكْبَرِ مِنْهُ، فَإِنَّ مَعْنَى الْمُرَكَّبِ الْحَقِيقِيِّ مُسْتَحِيلٌ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَسَدًا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِهِ بَلْ وَعَلَى بَلَاغَتِهِ.
وَمَا فَرَّقَ بِهِ مِنْ أَنَّ هَذَا مُسْتَعَارٌ بِجُمْلَتِهِ، بِخِلَافِ هَذَا أَسَدٌ لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي نِسْبَتِهِ دُونَ الْأَلْفَاظِ مَمْنُوعٌ. وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ هَذَا الشَّرْطِ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَتَعَذَّرَ الْحَقِيقِيُّ لَهُ وَلِلْكَلَامِ طَرِيقٌ يُتَجَوَّزُ بِهِ فِيهِ تَعَيَّنَ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ إذْ لَا مُزَاحِمَ كَيْ لَا يُلْغِي كَلَامَ الْعَاقِلِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا فِي مَعْنَى عَتَقَ عَلِيٌّ مِنْ حِينَ مَلَكْته اسْتِعْمَالًا لِاسْمِ الْمَلْزُومِ فِي لَازِمِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ عَتَقَ دِيَانَةً قَضَاءً وَإِلَّا فَقَضَاءً، وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، بِخِلَافِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ تُخْلَقَ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ فِيهِ إلَى الْمَجَازِ فَلَغَا ضَرُورَةً.
وَقَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ إلَخْ جَوَابٌ عَنْ مَقِيسٍ آخَرَ لَهُمَا، وَهُوَ إذَا كَانَ قَالَ لِآخَرَ قَطَعْت يَدَك خَطَأً فَأَخْرَجَهُمَا صَحِيحَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَلْغُو هَذَا الْكَلَامُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ يُجْعَلْ مَجَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ لِعَدَمِ إمْكَانِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ. فَأَجَابَ بِأَنَّ لَغْوَهُ لَيْسَ لِتَعَذُّرِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ لِتَعَذُّرِ كُلٍّ مِنْهُ وَمِنْ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي انْقَطَعَ سَبَبُهُ مَالٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْأَرْشُ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَتَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلَّا عَنْ حَقِيقَةِ الْقَطْعِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ اللَّفْظِ تَجَوُّزًا بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ. وَاَلَّذِي يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَالِ لَيْسَ الْقَطْعُ سَبَبًا لَهُ فَامْتَنَعَ إيجَابُ الْمَالِ مُطْلَقًا فَلَغَا ضَرُورَةً، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَخْتَلِفُ ذَاتُهَا حَاصِلَةً عَنْ لَفْظِ حُرٍّ أَوْ لَفْظِ ابْنِي، فَأَمْكَنَ الْمَجَازِيُّ حِينَ تَعَذَّرَ الْحَقِيقِيُّ فَوَجَبَ صَوْنُهُ عَنْ اللَّغْوِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ هَذَا أَبِي إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا قِيلَ:
وَلَوْ قَالَ: هَذَا أَخِي لَا يُعْتَقُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يُعْتَقُ. وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا ابْنَتِي فَقَدْ قِيلَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ هُوَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ
إنَّهُ يَلْغُو فَقَالَ بَلْ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَقُ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الصَّغِيرِ هَذَا جَدِّي فَأَجَابَ عَنْهُ أَوَّلًا بِأَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِصِفَةِ مَنْ يُعْتَقُ بِمِلْكِهِ. وَثَانِيًا بِالْفَرْقِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ اتِّفَاقًا. وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي اللَّفْظِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ هَذَا أَخِي) أَيْ لِعَبْدِهِ (لَا يُعْتَقُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَقُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ. وَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ، فَحَوَالَةُ وَجْهِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْبُنُوَّةَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَيُعْرَفُ مِنْهُ وَجْهُ هَذِهِ وَهُوَ أَنَّ الْأُخُوَّةَ سَبَبٌ لِعِتْقِ الْمَمْلُوكِ، وَحَوَالَةُ الظَّاهِرِ عَلَى قَوْلِهِ فِي هَذَا جَدِّي، وَقِيلَ لَا يُعْتَقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ.
وَنَظِيرُهُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْمِلْكِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ، وَلَا ذِكْرَ لِمَا بِهِ يُفِيدُ الْحُكْمَ فِي التَّرْكِيبِ فَلَا يُفِيدُ حُكْمًا، وَلِأَنَّ الْأُخُوَّةَ تُقَالُ لِمَا بِالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ وَالدِّينِ فَلَا يَتَعَيَّنُ النَّسَبُ إلَّا بِدَلِيلٍ، حَتَّى لَوْ قَالَ مِنْ أَبِي أَوْ مِنْ أُمِّي أَوْ مِنْ النَّسَبِ عَتَقَ إذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ تَخْرِيجُ الْفَرْعِ عَلَيْهِ قَدْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْعُ التَّعْيِينِ لِثُبُوتِ اسْتِعْمَالِهِ كَثِيرًا فِي مَعْنَى الشَّفَقَةِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَجَازِيَّيْنِ أَوْ يَتَعَيَّنُ هَذَا لِأَنَّهُ أَيْسَرُ كَمَا قَرَرْنَاهُ فِي يَا سَيِّدِي يَا مَالِكِي لَمَّا تَعَذَّرَ الْحَقِيقِيُّ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ إلَّا بِالنِّيَّةِ. فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْفَائِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى وَهِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ هُنَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ هَذَا أَخِي فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِهِ.
وَدَفَعَهُ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُشَارِكِ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْقَبِيلَةِ، وَحُكْمُ الْمُشْتَرَكِ التَّوَقُّفُ إلَى الْقَرِينَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ مِنْ أَبِي وَنَحْوِهِ عَتَقَ، وَبِأَنَّ الْعِتْقَ بِعِلَّةِ الْوِلَادِ وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي اللَّفْظِ لِيَكُونَ مَجَازًا عَنْ لَازِمِهِ فَامْتَنَعَ لِعَدَمِ طَرِيقِهِ، يَرُدُّ عَلَيْهِ مَنْعُ الِاشْتِرَاكِ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي النَّسَبِ مَجَازٌ فِي الْبَاقِيَاتِ؛ وَلَوْ دَارَ بَيْنَهُمَا كَانَ الْمَجَازُ أَوْلَى وَأَنَّ عِلَّةَ عِتْقِ الْقَرِيبِ عِنْدَنَا الْقَرَابَةُ الْمُحَرَّمَةُ لَا خُصُوصَ الْوِلَادِ وَلِذَا يُعْتَقُ فِي هَذَا خَالِي وَعَمِّي وَهِيَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ذَكَرَهُ فِي الْبَدَائِعِ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا أَخِي بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِكْرَامَ وَالنَّسَبَ، بِخِلَافِ الْعَمِّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ لِلْإِكْرَامِ عَادَةً، وَهَذَا يُقَوِّي مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي هَذَا ابْنِي فَلَا يَخْلُصُ إلَّا بِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ الْعِتْقِ فِي هَذَا أَخِي وَهِيَ مَا نَقَلَهَا الْمُصَنِّفُ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا بِنْتِي) وَكَذَا
بِالْمُسَمَّى وَهُوَ مَعْدُومٌ فَلَا يُعْتَبَرُ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي النِّكَاحِ.
(وَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ تَخَمَّرِي وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ لَمْ تُعْتَقْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تُعْتَقُ إذَا نَوَى، وَكَذَا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ سَائِرُ أَلْفَاظِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ عَلَى مَا قَالَ مَشَايِخُهُمْ رحمهم الله لَهُ أَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ لِأَنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ مُوَافَقَةً إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُ الْعَيْنِ، أَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ مِلْكُ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ حَتَّى كَانَ التَّأْبِيدُ مِنْ شَرْطِهِ وَالتَّأْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ وَعَمَلُ اللَّفْظَيْنِ فِي إسْقَاطِ مَا هُوَ حَقُّهُ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلِهَذَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ فِيهِ بِالشَّرْطِ، أَمَّا الْأَحْكَامُ فَتَثْبُتُ سَبَبٌ سَابِقٌ وَهُوَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا، وَلِهَذَا يَصْلُحُ لَفْظَةُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ فَكَذَا عَكْسُهُ.
إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ هَذَا ابْنِي لَا يُعْتَقُ وَإِنْ كَانَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَجَازٌ عَنْ عِتْقٍ فِي الْمُذَكَّرِ لِأَنَّهُ لِجِهَةِ الْبِنْتِيَّةِ حَقِيقَةٌ. وَالثَّانِي عَنْهُ فِي الْأُنْثَى فَانْتَفَى حَقِيقَتُهُ لِانْتِفَاءِ مَحَلٍّ يَنْزِلُ فِيهِ، وَلَا يَتَجَوَّزُ بِلَفْظِ الِابْنِ فِي الْبِنْتِ وَقَلَبَهُ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ لَازِمٍ مَشْهُورٍ وَغَيْرِهِ، وَلِئَلَّا يَلْزَمَ تَعْمِيمُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ وَالْآخَرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُضَافٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى الْبَدِيعِ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى مَنْعِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْتَبَرَ الْمَجَازُ عَقْلِيًّا فِي نَفْسِ إضَافَةِ الْبِنْتِ، وَكُلٌّ مِنْ لَفْظِ الْإِشَارَةِ وَالْبِنْتِ وَالْيَاءِ حَقِيقَةٌ، فَالتَّجَوُّزُ فِي نِسْبَةِ الْمُرَادِ بِالْإِشَارَةِ بِالْبِنْتِيَّةِ إلَى مُسَمَّى الْيَاءِ عَنْ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ بِالْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَيَانُ تَعَذُّرِ عِتْقِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَتْ الْإِشَارَةُ وَالتَّسْمِيَةُ وَالْمُسَمَّى مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ، تَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى وَبَيَّنَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَابِ الْمَهْرِ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ بِقَوْلِهِ حَقَقْنَاهُ فِي النِّكَاحِ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا مَعَ الْمُسَمَّى جِنْسَانِ لِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فِي الْإِنْسَانِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى: أَعْنِي مُسَمَّى بِنْتٍ وَهُوَ مَعْدُومٌ هُنَا لِأَنَّ الثَّابِتَ ذَكَرٌ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ جَمِيعُ أَلْفَاظِ الصَّرِيحِ) كَأَنْتِ مُطَلَّقَةٌ، وَالطَّلَاقُ وَالْكِنَايَةُ؛ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَتْلَةٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ بِنْتِ مِنِّي أَوْ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَاخْرُجِي وَقُومِي وَاذْهَبِي وَاغْرُبِي وَاخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَتَقَنَّعِي، أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ، أَوْ قَالَ لَهُ طَلَّقْتُك لَا يُعْتَقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ نَوَى، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ أَطْلَقْتُك وَنَوَى حَيْثُ يُعْتَقُ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْتَقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إذَا نَوَى. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا كَقَوْلِنَا، وَالْأُخْرَى كَقَوْلِهِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ) أَيْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ (مُوَافَقَةً).
(قَوْلُهُ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ: أَعْنِي مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ التَّصَرُّفَيْنِ الْوَارِدَيْنِ عَلَيْهِمَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ النِّكَاحَ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ شَرْعًا لَا مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لِتَرَتُّبِ لَازِمِ مِلْكِ الْعَيْنِ شَرْعًا عَلَيْهِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ التَّأْبِيدِ
وَلَنَا أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لُغَةً إثْبَاتُ الْقُوَّةِ وَالطَّلَاقَ رَفْعُ الْقَيْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ أُلْحِقَ بِالْجَمَادَاتِ وَبِالْإِعْتَاقِ يَحْيَا فَيَقْدِرُ، وَلَا كَذَلِكَ الْمَنْكُوحَةُ فَإِنَّهَا قَادِرَةٌ إلَّا أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ مَانِعٌ وَبِالطَّلَاقِ يَرْتَفِعُ الْمَانِعُ فَتَظْهَرُ الْقُوَّةُ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ فَوْقَ مِلْكِ النِّكَاحِ فَكَانَ إسْقَاطُهُ أَقْوَى وَاللَّفْظُ يَصْلُحُ مَجَازًا عَمَّا هُوَ دُونَ حَقِيقَتِهِ لَا عَمَّا هُوَ فَوْقَهُ، فَلِهَذَا امْتَنَعَ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَانْسَاغَ فِي عَكْسِهِ.
لَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَانْتِفَاءِ لَازِمِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُ وَهُوَ التَّوْقِيتُ حَتَّى إنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ، إذْ هُوَ لَازِمُ الْمِلْكِ الْمَنْفَعَةُ: أَعْنِي الْإِجَارَةَ، وَيُسْتَفَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِلْكُ الْوَطْءِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّ كُلًّا مِنْ التَّصَرُّفَيْنِ إسْقَاطٌ لَلْمِلْكِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَلَزِمَتْ السِّرَايَةُ فِيهِ، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِلْكُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَتَمَلُّكِ الْأَمْوَالِ وَهِيَ مَعْنَى الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَيْسَ الْعِتْقُ هُوَ الْمُثْبِتُ لَهَا، بَلْ تَثْبُتُ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْعِتْقِ وَهُوَ كَوْنُ الْعَبْدِ آدَمِيًّا مُكَلَّفًا، فَإِنَّ هَذِهِ خَصَائِصُ الْآدَمِيَّةِ، فَالْآدَمِيَّةُ مَعَ التَّكْلِيفِ هِيَ السَّبَبُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ بِمَانِعِ الرِّقِّ، وَبِالْعِتْقِ يَزُولُ الْمَانِعُ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْمُقْتَضَى كَالزَّوْجَةِ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ، وَالتَّزَوُّجُ امْتَنَعَ بِمَانِعِ الزَّوْجِيَّةِ حِفْظًا لِلنَّسَبِ وَلَا يَسْلُبُ أَهْلِيَّتَهَا عَنْهُ، ثُمَّ بِالْفُرْقَةِ يَزُولُ الْمَانِعُ لَهَا عَنْهُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ لَفْظَةُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ الطَّلَاقُ كِنَايَةً عَنْ الْعِتْقِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَوَّلِ لِلْمُنَاسَبَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَإِذَا نَاسَبَ الشَّيْءُ غَيْرَهُ نَاسَبَهُ الْآخَرُ.
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ) أَيْ مَا لَا يَسُوغُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى مُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْمَعْنَى جَائِزِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ لَا يُوجِبُ شَرْعًا ثُبُوتَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ، كَمَا لَوْ قَالَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اسْقِنِي يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ أَوْ الطَّلَاقَ لَا يَقَعَانِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَسُوغُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ لِأَنَّ مُسَوِّغَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى إمَّا وَضْعُهُ لَهُ أَوْ التَّجَوُّزُ بِهِ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ. وَكَذَا الثَّانِي لِأَنَّ التَّجَوُّزَ لَهُ طُرُقٌ مَخْصُوصَةٌ لُغَةً وَضْعُ وَاضِعِ اللُّغَةِ أَنْوَاعَهَا، وَهَذَا مَا يُقَالُ إنَّ نَوْعَ الْعَلَاقَةِ مَوْضُوعٌ وَوَضْعُ نَفْسِ اللَّفْظِ لِلْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ وَضْعًا عَامًّا، وَهَذَا مَا يُقَالُ الْمَجَازُ مَوْضُوعٌ وَضْعًا نَوْعِيًّا، وَحَقِيقَةُ الْحَاصِلِ مَعْنَى قَوْلِهِ كُلُّ لَفْظٍ وُجِدَ بَيْنَ مُسَمَّاهُ وَمَعْنًى آخَرَ مُشْتَرَكٌ اعْتَبَرْته فَلِمُتَكَلِّمٍ أَنْ يُطْلِقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَثُبُوتُ اعْتِبَارِهِ عَنْهُ بِأَنْ يَثْبُتَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ بِاعْتِبَارٍ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ فَثَبَتَ بِهِ اعْتِبَارُهُ لِذَلِكَ النَّوْعِ لِتَحَقُّقِهِ فِي ذَلِكَ الْجُزْئِيِّ أَوْ نُقِلَ اعْتِبَارُهُ.
وَالثَّابِتُ عَنْهُ فِي عَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةِ أَنْ يَكُونَ فِي وَصْفٍ خَرَجَ ظَاهِرٌ فِي الْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ ثُبُوتُهُ فِيهِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمُتَجَوَّزِ بِهِ فَيَصِيرُ الْمُتَجَوَّزُ بِهِ مُشَبَّهًا وَالْمُتَجَوَّزُ عَنْهُ مُشَبَّهًا بِهِ، وَقَوْلُهُمْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ وَصْفًا مُخْتَصًّا مُرَادُهُمْ كَوْنُهُ ظَاهِرًا فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ لَا حَقِيقَةَ الِاخْتِصَاصِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا فَلَا يَتَجَوَّزُ بِاعْتِبَارِهِ إلَى مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ، فَلِلْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ التَّجَوُّزُ بِأَسَدٍ لِلْأَبْخَرِ وَالْمَحْمُومِ مَعَ أَنَّهُمَا وَصْفَانِ مُلَازِمَانِ لِلْأَسَدِ لِعَدَمِ ظُهُورِهِمَا وَشُهْرَتِهِمَا، وَلِلثَّانِي وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الْإِعْتَاقُ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ تِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي فَصَّلْنَا فُرُوعَهَا لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ مِلْكِ تِلْكَ الْأُمُورِ قَبْلَهُ. وَالْأَصْلُ فِي إضَافَةِ عَدَمِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ إلَى عَدَمِ الْمُقْتَضِي لَا إلَى قِيَامِ الْمَانِعِ لِأَنَّ عَدَمَهُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي عَدَمِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْمُقْتَضِي، وَلَوْ سَلَّمَ فَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمُقْتَضِي فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ مَا لَمْ يُثْبِتْ وُجُودَهُ وَلَمْ يُثْبِتْ، وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ الْآدَمِيَّةُ مَعَ التَّكْلِيفِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ مُجَرَّدُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مِلْكًا، أَمَّا عَقْلًا فَظَاهِرٌ، وَشَرْعًا لَمْ يَثْبُتْ بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا دَوَرَانُ ذَلِكَ الْمِلْكِ مَعَ الْحُرِّيَّةِ فَلْتَكُنْ هِيَ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ، وَالطَّلَاقُ لِإِزَالَةِ قَيْدِ النِّكَاحِ فَيَعْمَلُ مِلْكُهَا الْقَائِمُ عَمَلَهُ حَتَّى يَجُوزَ الْخُرُوجُ وَالتَّزَوُّجُ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَهَا مُتَحَقِّقُ الثُّبُوتِ بَعْدَ التَّزَوُّجِ حَتَّى جَازَ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا وَشَهَادَتُهَا وَلَمْ يُمْتَنَعْ مِنْهَا سِوَى مَا قُلْنَا لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ إزَالَةِ الْمَانِعِ فِي مَحَلٍّ لِيَعْمَلَ الْمِلْكُ الْقَائِمُ عَمَلَهُ وَبَيْنَ إثْبَاتِ الْمِلْكِ الزَّائِلِ لِمَحَلٍّ لِعَلَاقَةٍ تُجَوِّزُ التَّجَوُّزَ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِالْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ: أَيْ ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ ثُبُوتُهَا فِيهِ أَقْوَى مِنْهُ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ الْمُشْبِهِ بَلْ هُوَ هُنَا عَكْسُ هَذَا، فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ الْمُشْتَرَكَ ثُبُوتُهُ فِي الْعِتْقِ أَكْثَرُ وَأَوْفَرُ مِنْهُ فِي الطَّلَاقِ، وَالتَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي كَوْنَ الطَّلَاقِ هُوَ الْأَكْثَرُ إسْقَاطًا وَأَشْهَرُ بِهِ فَلِذَا جَازَ التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْعِتْقِ عَنْ الطَّلَاقِ لِوُقُوعِهِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَامْتَنَعَ عَكْسُهُ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ سَبَبٌ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ حَيْثُ كَانَ سَبَبَ زَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَهُوَ فِيهِ لَفْظُ السَّبَبِ فِي الْمُسَبَّبِ، بِخِلَافِ قَلْبِهِ فَإِنَّهُ الْمُسَبَّبُ فِي السَّبَبِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ إلَّا إنْ اخْتَصَّ وَإِلَّا وُجِدَ الْمُسَبَّبُ دُونَ السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ فَلَا تَلَازُمَ فَلَا عَلَاقَةَ، وَمَا قِيلَ لَيْسَ سَبَبًا أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَمَةَ لَوْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً فَأَعْتَقَهَا لَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ الْعِلَّةُ وَهُوَ مُنْتَفٍ.
وَلَوْ سَلَّمَ فَالْعِلَّةُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ عِنْدَ كَوْنِ الْحُكْمِ مَعْدُومًا قَبْلَهَا؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْبَوْلَ بَعْدَ الرِّيحِ لَا يُوجِبُ حَدَثًا وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عِلَّةً لِلْحَدَثِ، وَعَلَى مَنْ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ يُوجِبُ حَدَثًا آخَرَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَوْجَبَ الْعِتْقَ حُرْمَةً أُخْرَى لِلْمُتْعَةِ، فَعَنْ هَذَا قِيلَ الْكِنَايَاتُ مِنْهَا مَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِهِ بِلَا نِيَّةٍ كَقَوْلِهِ تَصَدَّقْت عَلَيْك بِنَفْسِك
(وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ مِثْلُ الْحُرِّ لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ الْمِثْلَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي عُرْفًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْحُرِّيَّةِ (وَلَوْ قَالَ: مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ عَتَقَ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ (وَلَوْ قَالَ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ لَا يُعْتَقُ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِحَذْفِ حَرْفِهِ (وَلَوْ قَالَ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ عَتَقَ) لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ إذْ الرَّأْسُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ.
أَوْ مَلَّكْتُكهَا أَوْ وَهَبْت نَفْسَك مِنْك أَوْ أَوْصَيْت لَك بِنَفْسِك أَوْ بِعْت نَفْسَك مِنْك، فَهَذِهِ كِنَايَاتٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ وَهَذِهِ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْعِتْقِ فَاسْتَغْنَتْ عَنْهَا.
وَمِنْهَا مَا يَقَعُ بِالنِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا مَا لَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى كَلَفْظِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتِهِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي مِثْلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ كَمَا فِي مَوْلَايَ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا سِوَى الْعِتْقِ انْتَفَتْ إرَادَتُهُ فَتَعَيَّنَ فَأُلْحِقَ بِالصَّرِيحِ، وَالِانْتِفَاءُ الْمَعْنَى الْمُزَاحِمُ هُنَا بِسَبَبِ تَعَذُّرِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لِلْعَبْدِ فَتَعَيَّنَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ يَخُصُّ الْوَضْعِيَّ وَإِلَّا فَيُجْعَلَانِ صَرِيحًا، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ وَقَدْ اخْتَرْنَاهُ فِي كُتُبِنَا.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ عَتَقَ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمَفْهُومُ مِنْ تَرْكِيبِ الِاسْتِثْنَاءِ لُغَةً وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْمَشَايِخِ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمْ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ إثْبَاتًا مُؤَكَّدًا فَلِوُرُودِهِ بَعْدَ النَّفْيِ بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ الْمُجَرَّدِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِحَذْفِ حَرْفِهِ، وَلَوْ قَالَ رَأْسُ حُرٍّ عَتَقَ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ إذْ الرَّأْسُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِهِ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَنْوِي كَمَا لَوْ قَالَ رَأْسُك حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ، لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةٌ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ لَوْ قَالَ رَأْسُك حُرٌّ عَتَقَ إذَا نَوَاهُ. وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ خَاطَ مَمْلُوكُهُ ثَوْبًا فَقَالَ هَذِهِ خِيَاطَةُ حُرٍّ لَا يُعْتَقُ. وَفِي الْهَارُونِيِّ: لَوْ رَآهَا تَمْشِي فَقَالَ هَذِهِ مِشْيَةُ حُرٍّ أَوْ تَتَكَلَّمُ فَقَالَ هَذَا كَلَامُ حُرٍّ لَمْ تُعْتَقْ، إلَّا أَنْ يَقُولَ أَرَدْت الْعِتْقَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ قَوْلِ نَفْسِهِ: يُعْتَقُ فِي الْقَضَاءِ وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَسَبُك حُرٌّ أَوْ أَصْلُك حُرٌّ وَعَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَبْيٍ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ صَادِقٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَبَوَاك حُرَّانِ. وَفِي نَوَادِرِ الْمُعَلَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَوْ قَالَ فَرْجُك حُرٌّ مِنْ الْجِمَاعِ فَهِيَ حُرَّةٌ فِي الْقَضَاءِ، وَيَسَعُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُعْتَقُ. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ قَالَ: اسْتُك حُرٌّ كَانَ حُرًّا، وَكَذَا ذَكَرُك حُرٌّ وَتَقَدَّمَ.
(فَصْلٌ)
فَصْلٌ
(وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ) وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم " مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ " وَاللَّفْظُ بِعُمُومِهِ يَنْتَظِمُ كُلَّ قَرَابَةٍ مُؤَيَّدَةٍ بِالْمَحْرَمِيَّةِ وِلَادًا أَوْ غَيْرَهُ،
أَعْقَبَ الْعِتْقَ الِاخْتِيَارِيَّ بِالِاضْطِرَارِيِّ (قَوْلُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)«مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ» وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِسَبَبِ أَنَّ ضَمْرَةَ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ سُفْيَانَ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَقَالَ: ضَمْرَةُ ثِقَةٌ، وَإِذَا أَسْنَدَ الْحَدِيثَ ثِقَةٌ فَلَا يَضُرُّ انْفِرَادُهُ بِهِ وَلَا إرْسَالُ مَنْ أَرْسَلَهُ وَلَا وَقْفُ مَنْ وَقَفَهُ، وَصَوَّبَ ابْنُ الْقَطَّانِ كَلَامَهُ، وَمِمَّنْ وَثَّقَ ضَمْرَةَ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ فِي الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» فَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ: انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: وَقَدْ شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّ مُوسَى بْنَ إسْمَاعِيلَ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ سَمُرَةَ فِيمَا يَحْسِبُ حَمَّادٌ، وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ مُرْسَلًا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَشُعْبَةُ أَحْفَظُ مِنْ حَمَّادٍ انْتَهَى. وَفِيهِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ الْحَقِّ وَابْنِ الْقَطَّانِ وَهُوَ أَنَّ رَفْعَ الثِّقَةِ لَا يَضُرُّهُ إرْسَالُ غَيْرِهِ.
وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَ أَخِيهِ مَمْلُوكَتَهُ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَّ أَوْلَادَهَا فَأَتَى ابْنُ أَخِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي زَوَّجَنِي وَلِيدَتَهُ وَأَنَّهَا وَلَدَتْ لِي أَوْلَادًا فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَّ وَلَدِي، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَذَبَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي دَخَلْتُ السُّوقَ فَوَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فَاشْتَرَيْتُهُ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْتِقَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم
وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِهِ. لَهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ مَرْضَاةِ الْمَالِكِ يَنْفِيهِ الْقِيَاسُ أَوْ لَا يَقْتَضِيه، وَالْأُخُوَّةُ وَمَا يُضَاهِيهَا نَازِلَةٌ عَنْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ أَوْ الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ التَّكَاتُبُ عَلَى الْمَكَاتِبِ فِي غَيْرِ الْوِلَادِ وَلَمْ يَمْتَنِعُ فِيهِ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ مَلَكَ قَرِيبَهُ قَرَابَةً مُؤَثِّرَةً فِي الْمَحْرَمِيَّةِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَهَذَا
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْتَقَهُ». (قَوْلُهُ وَالشَّافِعِيُّ إلَخْ) وَبِقَوْلِنَا قَالَ أَحْمَدُ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَفِي الْغَايَةِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادُ وَالْحَكَمُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو سَلَمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَاللَّيْثُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ وَإِسْحَاقُ وَالظَّاهِرِيَّةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَعْتِقُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لَا غَيْرُ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ قَالَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ: إذَا مَلَكَ قَرِيبَهُ لَا يَعْتِقُ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» وَلَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ فَيُعْتِقَهُ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ فَلَا تَمْنَعُ بَقَاءَهُ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} ثَبَتَ بِهِ أَنَّ الِابْنِيَّةَ تُنَافِي الْعَبْدِيَّةَ، فَإِذَا ثَبَتَتْ الِابْنِيَّةُ انْتَفَتْ الْعَبْدِيَّةُ وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ فَيُعْتِقُهُ بِذَلِكَ الشِّرَاءِ كَمَا يُقَالُ أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ، وَالتَّعْقِيبُ حَاصِلٌ إذْ الْعِتْقُ يَعْقُبُ الشِّرَاءَ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا لَهُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَمْ يَثْبُتْ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِهِ لِاسْتِعْقَابِ الْبَيْنُونَةِ (قَوْلُهُ: لَهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ مَرْضَاةِ الْمَالِكِ) فِي الْوِلَادِ (يَنْفِيهِ الْقِيَاسُ) عَلَى غَيْرِ الْقَرِيبِ مِنْ الْعَبِيدِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَمْلَاكِ إذْ لَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهَا مِنْ غَيْرِ رِضًا وَاخْتِيَارٍ (أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ) الْقِيَاسُ وَلَا يَنْفِيهِ وَقَدْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي الْوِلَادِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ إلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَالْأُخُوَّةُ وَمَا يُضَاهِيهَا نَازِلَةٌ عَنْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ: أَيْ إلْحَاقُ غَيْرِ الْوِلَادِ بِالْوِلَادِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ: أَيْ الْإِلْحَاقُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ، بَلْ يَجِبُ الْإِلْحَاقُ بِغَيْرِ الْمَحَارِمِ مِنْ الْقَرَابَاتِ، فَالْقَرَابَاتُ ثَلَاثٌ وِلَادٌ وَغَيْرُهُ مَعَ الْمَحْرَمِيَّةِ وَعَدَمِهَا كَأَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَأَبْنَاءِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ. وَيَجِبُ رَدُّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ قَرَابَتَيْ الْوِلَادِ وَغَيْرِ الْمَحَارِمِ، وَهُوَ بِالثَّانِي أَشْبَهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا حَقِيقَةً فَلِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ قَرَابَةُ مُجَاوِرَةٍ فِي الرَّحِمِ، وَقَرَابَةُ الْوِلَادِ قَرَابَةٌ بَعْضِيَّةٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّا رَأَيْنَا أَحْكَامَهُمْ مُتَّحِدَةٌ بِغَيْرِ الْمَحَارِمِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْقَوَدِ وَحِلِّ الْحَلِيلَةِ وَامْتِنَاعِ التَّكَاتُبِ فَكَذَا فِي هَذَا الْحُكْمِ (قَوْلُهُ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) فَيَضْمَحِلُّ مَعَهُ جَمِيعُ الْمَعَانِي الْمُعَيَّنَةِ.
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ بَلْ دَلَالَةُ النَّصِّ تَقْرِيرُهُ (مِلْكُ قَرِيبِهِ قَرَابَةً مُؤْثَرَةٍ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ) كَمَا فِي الْوِلَادِ (وَهَذَا) أَعْنِي كَوْنُهُ قَرَابَةً مُؤَثِّرَةً فِي الْمَحْرَمِيَّةِ
هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْأَصْلِ، وَالْوِلَادُ مَلْغِيٌّ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ وَحَرُمَ النِّكَاحُ،
هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْأَصْلِ) وَهُوَ قَرَابَةُ الْوِلَادِ: يَعْنِي هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ فِيهِ وَالْوِلَادُ مَلْغِيٌّ، وَلَوْ سُلِّمَ فَغَايَةُ مَا صَنَعَ أَنَّهُ أَرَانَا عَدَمَ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْحُكْمِ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يُعَلِّلَ الْأَصْلَ بِأُخْرَى مُتَعَدِّيَةٍ إلَى مَا لَمْ يَتَعَدَّ إلَيْهِ تِلْكَ وَهِيَ مَا عَيَّنَّاهُ مِنْ الْقَرَابَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ لِأَنَّهَا قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ دَفْعُ مِلْكِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى الذِّلَّتَيْنِ، فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي دَفْعِ أَعْلَاهُمَا وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ أَوْلَى، وَهَذَا الْمَسْلَكُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ هُوَ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ وَالنَّصُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْقَرَابَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ لِمَا عُرِفَ، وَهَذَا يُفِيدُ إلْغَاءَ مَا عَيَّنَهُ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ) إلْزَامٌ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ لَكِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ. وَالْمَكَاتِبُ إذَا اشْتَرَى أَخَاهُ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ لَا يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ تَامٌّ يُقْدِرُهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالِافْتِرَاضِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، بِخِلَافِ الْوِلَادِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ مِنْ مَقَاصِدِ الْكِتَابَةِ فَامْتَنَعَ الْبَيْعُ فَيَعْتِقُ تَحْقِيقًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَى الْأَخِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُمَا قُلْنَا أَنْ نَمْنَعَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَ ابْنَةَ عَمِّهِ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ مَا ثَبَتَتْ بِالْقَرَابَةِ وَالصَّبِيُّ جُعِلَ أَهْلًا لِهَذَا الْعِتْقِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ حَتَّى عَتَقَ الْقَرِيبُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ
أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ خِلَافُهُ وَكَأَنَّهُ ثَابِتٌ اتِّفَاقًا، وَقَوْلُهُمْ إنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ غَيْرُ صَحِيحٍ لِثِقَةِ الرُّوَاةِ وَلَيْسَ فِيهِ سِوَى الِانْفِرَادِ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَصِلُ وَكَثِيرًا مَا يُرْسِلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاسِطَةٍ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ عَيَّنَ الْوَاسِطَةَ مَرَّةً وَتَرَكَ أُخْرَى، وَلَوْ كَانَ مُرْسَلًا كَانَ مِنْ الْمُرْسَلِ الْمَقْبُولِ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ قَوْلُنَا وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَيُقْبَلُ بِلَا شَرْطٍ بَعْدَ صِحَّةِ السَّنَدِ وَقَدْ عُلِمَتْ صِحَّتُهُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَيُقْبَلُ إذَا عَمِلَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى وَفْقِهِ، وَأَنْتَ سَمِعْت أَنَّ الثَّابِتَ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُمْ، فَثَبَتَ بِهَذَا مُشَارَكَةُ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لِلْوِلَادِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَإِنْ شَارَكُوا غَيْرَ الْمَحَارِمِ فِي غَيْرِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ اعْتِبَارُهُمْ بِهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إلْحَاقٌ بِالْأَشْبَهِيَّةِ وَلَا أَثَرَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا عِنْدَهُ فَالْمَعْنَى الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْهُ فَكَيْفَ مَعَ النَّصِّ عَلَى نَفْسِ حُكْمِ الْفَرْعِ. (قَوْلُهُ وَالِافْتِرَاضُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ)
جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِ لِعَدَمِ التَّكَاتُبِ فَقَالَ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الشَّرْعُ افْتِرَاضُ الْوَصْلِ، وَالِافْتِرَاضُ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ قَائِمَةٌ بِالْحُرِّ وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَالْكِتَابَةُ نَوْعُ إعْتَاقٍ فَلَيْسَ كِتَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ مِمَّا تَنْتَظِمُ كِتَابَتُهُ، بِخِلَافِ كِتَابَةِ الْوِلَادِ فَإِنَّهُ لِكَوْنِ الْجُزْئِيَّةِ قَائِمَةً يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَرِدُ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، عَلَى أَنَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَى الْأَخِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِهِمَا فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ نَفْسِهِ وَشَهَادَةٌ لَهَا مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا الْمَانِعُ مُنْتَفٍ فِي غَيْرِ الْوِلَادِ (قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَهِيَ
فَشَابَهَ النَّفَقَةَ.
(وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلشَّيْطَانِ أَوْ لِلصَّنَمِ عَتَقَ) لِوُجُودِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَوَصْفُ الْقُرْبَةِ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ فَلَا يَخْتَلُّ الْعِتْقُ بِعَدَمِهِ فِي اللَّفْظَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
(وَعِتْقُ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَاقِعٌ) لِصُدُورِ الرُّكْنِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
(وَإِنْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مِلْكٍ أَوْ شَرْطٍ صَحَّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ) أَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فَلِأَنَّهُ إسْقَاطٌ
الْقَرَابَةُ الْمَحْرَمِيَّةُ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَوْ مَلَكَ قَرِيبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمَ قَرِيبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْتِقُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ذُكِرَ الْخِلَافُ فِي الْإِيضَاحِ. وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ عِتْقُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَرِيبَهُ بَاطِلٌ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا.
أَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ وَخَلَّاهُ قَالَ فِي الْمُخْتَلِفِ: يَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَوَلَاؤُهُ لَهُ وَقَالَ: لَا وَلَاءَ لَهُ، لَكِنَّ عِتْقَهُ بِالتَّخْلِيَةِ لَا بِالْإِعْتَاقِ فَهُوَ كَالْمُرَاغَمِ ثُمَّ قَالَ: الْمُسْلِمُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَى عَبْدًا حَرْبِيًّا فَأَعْتَقَهُ ثَمَّةَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ بِدُونِ التَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا وَلَاءَ لَهُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ الْوَلَاءُ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَعَلَى هَذَا فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الْإِيضَاحِ أَنْ يُرَادَ بِالْمُسْلِمِ ثَمَّةَ الَّذِي نَشَأَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُنَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ دَاخِلٌ هُنَاكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ هُنَا فَلِذَا لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِعِلَّةِ الْقَرَابَةِ الْمُورِثَةِ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ.
(قَوْلُهُ وَعِتْقُ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَاقِعٌ) فِي الْمُكْرَهِ خِلَافَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُزِيلُ إلَّا الرِّضَا وَالْعِتْقُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَلِذَا جَازَ عِتْقُ الْهَازِلِ. وَفِي السَّكْرَانِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْوُقُوعِ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ وَتَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ.
(قَوْلُهُ: أَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ) كَمَا يَقُولُ: إنْ مَلَكْتُك أَوْ مَلَكْت عَبْدًا وَنَحْوَهُ فَهُوَ حُرٌّ (فَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) أَيْ وَحْدَهُ، فَإِنَّ مَالِكًا يُوَافِقُنَا فِيهِ وَكَذَا عَنْ أَحْمَدَ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ إذْ لَمْ يُجَوِّزْ إضَافَتَهُ إلَى الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ بِأَنَّ الْعِتْقَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. وَعِنْدَنَا
فَيُجْرَى فِيهِ التَّعْلِيقُ بِخِلَافِ التَّمْلِيكَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
(وَإِذَا خَرَجَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ إلَيْنَا مُسْلِمًا عَتَقَ)«لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَبِيدِ الطَّائِفِ حِينَ خَرَجُوا إلَيْهِ مُسْلِمِينَ هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى»
الْمُصَحَّحُ مُطَّرِدٌ فِيهِمَا عَلَى مَا عُرِفَ فَلَمْ يَفْتَرِقَا فِي ذَلِكَ (قَوْلُهُ فَيَجْرِي فِيهِ التَّعْلِيقُ) لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوعِ بَقَاءُ الْمِلْكِ مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ؛ فَعِنْدَنَا زَوَالُ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يُبْطِلُ الْيَمِينَ وَعِنْدَهُ يُبْطِلُهُ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى انْعِقَادِ الْمُعَلَّقِ سَبَبًا فِي الْحَالِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ إلَيْنَا مُسْلِمًا عَتَقَ) سَوَاءٌ خَرَجَ سَيِّدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمًا أَوْ لَا. وَقُيِّدَ بِالْخُرُوجِ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَخْرُجْ لَمْ يَعْتِقْ، وَبِقَوْلِنَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا خَرَجَ سَيِّدُهُ مُسْلِمًا يُرَدُّ إلَيْهِ. وَعِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ: إذَا أَسْلَمَ عَتَقَ خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ.
وَأَوْرَدَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَيْهِ أَنَّ سَلْمَانَ أَسْلَمَ وَسَيِّدُهُ كَافِرٌ وَلَمْ يَعْتِقْ بِذَلِكَ. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِهَذَا إلَّا لِعِتْقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ خَرَجَ إلَيْهِ مُسْلِمًا مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الطَّائِفِ وَهِيَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ بِدَهْرٍ. وَبِدَعْوَى نَسْخِ تَمَلُّكِ الْكَافِرِ لِلْمُؤْمِنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} وَلَا شَكَّ فِي اتِّجَاهِ الْإِيرَادِ وَهُوَ مِمَّا يَصْلُحُ دَلِيلًا لَنَا.
وَفِي الْجَوَابِ مَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَبِيدِ الطَّائِفِ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَادِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُد قَالَ: «خَرَجَ عِبْدَانُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ الصُّلْحِ، فَقَالَ مَوَالِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ وَاَللَّهِ مَا خَرَجُوا رَغْبَةً فِي دِينِكَ وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا مِنْ الرِّقِّ، فَقَالَ نَاسٌ: صَدَقُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: مَا أَرَاكُمْ تَنْتَهُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى هَذَا، وَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ وَقَالَ: هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي جَمَاعَةً مِنْ الْعَبِيدِ خَرَجُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَدَّهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا أَبُو بَكْرَةَ وَوَرْدَانُ وَالْمُنْبَعِثُ وَالْأَزْرَقُ وَمُحْسِنُ النِّبَالُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَيَسَارٌ وَنَافِعٌ وَمَرْزُوقٌ، كُلُّ هَؤُلَاءِ أَعْتَقَهُمْ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ تَكَلَّمُوا فِي هَؤُلَاءِ أَنْ يُرَدُّوا إلَى الرِّقِّ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم " أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِمْ " وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ «أَنَّهُ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحَاصِرٌ أَهْلَ الطَّائِفِ بِثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهُمْ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ الْعُتَقَاءُ» . وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد: «فَلَمَّا أَسْلَمَ مَوَالِيهِمْ رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَلَاءَ إلَيْهِمْ» وَفِيهِ مَجْهُولٌ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا وَقَالَ «ثُمَّ وَفَدَ أَهْلُ الطَّائِفِ فَأَسْلَمُوا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّ عَلَيْنَا رَقِيقَنَا الَّذِينَ أَتَوْكَ فَقَالَ: لَا، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ وَرَدَّ إلَى كُلِّ رَجُلٍ وَلَاءَ عَبْدِهِ»
وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا اسْتِرْقَاقَ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً.
(وَإِنْ أَعْتَقَ حَامِلًا عَتَقَ حَمْلُهَا تَبَعًا لَهَا) إذْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا (وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ خَاصَّةً عَتَقَ دُونَهَا) لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إعْتَاقِهَا مَقْصُودًا لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا وَلَا إلَيْهِ تَبَعًا لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ، ثُمَّ إعْتَاقُ الْحَمْلِ صَحِيحٌ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ نَفْسَهُ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجَنِينِ وَشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِعْتَاقِ فَافْتَرَقَا.
(وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ عَلَى مَالٍ صَحَّ) وَلَا يَجِبُ الْمَالُ إذْ لَا وَجْهَ إلَى إلْزَامِ الْمَالِ عَلَى الْجَنِينِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا إلَى إلْزَامِهِ الْأُمَّ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ، وَاشْتِرَاطُ بَدَلِ الْعِتْقِ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتِقِ لَا يَجُوزُ
قَوْلُهُ ابْتِدَاءً) احْتِرَازٌ عَنْ بَقَاءِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِطَرِيقِهِ.
(قَوْلُهُ عَتَقَ حَمْلَهَا) بِإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ اسْتَثْنَاهُ لَا يَصِحُّ كَاسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِنْهَا خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ، وَقَوْلُهُمْ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ فَأَعْتَقْت لَا يَعْتِقُ هُوَ لِأَنَّهُ كَالْمُنْفَصِلِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ. وَلَوْ مَاتَ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَرِثَ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ الْأَكْثَرِ.
(قَوْلُهُ ثُمَّ إعْتَاقُ الْحَمْلِ صَحِيحٌ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ عِتْقَ الْجَنِينِ دُونَ أُمِّهِ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ بَلْ قَبْلَهُ وَتَعْتِقُ أُمُّهُ تَبَعًا لَهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأُمِّ إذَا عَتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا وَيَجُوزُ هِبَتُهَا. وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَا فِي بَطْنِهَا عِنْدَ بَيْعِهَا لَا يَجُوزُ قَصْدًا فَكَذَا حُكْمًا بِخِلَافِ الْهِبَةِ.
(قَوْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ) وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ الْعِتْقَ بِوَلَدِهَا ثُمَّ عِتْقُهَا عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَبِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا إنَّمَا يُرَدُّ نَقْضًا لَوْ كَانَ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ تَبَعًا لِعِتْقِ ابْنِهَا بِالنَّصِّ وَهُوَ مُنْتَفٍ إذْ هُوَ فَرْعُ عِتْقِهِ وَهُوَ فَرْعُ سَابِقِيَّةِ رِقِّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُعَلِّقُ حُرًّا فَلَا يُرَدُّ نَقْضًا أَصْلًا لِيَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّهُ خَرَجَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَسَنَذْكُرُ أَنَّهُ إنَّمَا يَعْتِقُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ أَعْتَقَهُ.
(قَوْلُهُ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى التَّسْلِيمِ فَلِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْآبِقِ وَيَجُوزُ عِتْقُهُ.
عَلَى مَا مَرَّ فِي الْخُلْعِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ قِيَامُ الْحَبَلِ وَقْتَ الْعِتْقِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ.
قَالَ (وَوَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ مَوْلَاهَا حُرٌّ) لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَا مُعَارِضَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا.
(وَوَلَدُهَا مِنْ زَوْجِهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا) لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْأُمِّ بِاعْتِبَارِ الْحَضَانَةِ
قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْخُلْعِ) الْحَوَالَةُ غَيْرُ رَائِجَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالْخُلْعِ حَيْثُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَدَلِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَنَّ الْعِتْقَ عَلَى مَالِ مُعَاوَضَةٍ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْعَبْدُ بِهِ نَفْسَهُ وَتَحْدُثُ لَهَا الْقُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَذَلِكَ أَيْ شَيْءٌ نَفِيسٌ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ إلَّا عَلَى مَنْ يُسَلَّمُ لَهُ الْمُعَوَّضُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَا تَحْدُثُ لَهَا قُوَّةٌ بِهِ وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ثَابِتًا لَهَا قَبْلَهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِذَا جَازَ اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهَا جَازَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْجَنِينِ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، فَلِذَا لَوْ قَالَ لِلْأَمَةِ أَعْتَقْتُ مَا فِي بَطْنِك عَلَى أَلْفٍ عَلَيْك فَقَبِلَتْ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْهُ عَتَقَ بِلَا شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى أَمَتِهِ شَيْءٌ بِسَبَبِ غَيْرِهَا.
(قَوْلُهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْهُ) أَيْ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ، فَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَمْلُهَا تَوْأَمَيْنِ جَاءَتْ بِأَوَّلِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِالثَّانِي لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَمَةُ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفِرَاقِ، وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ حِينَئِذٍ فَيَعْتِقُ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِوُجُودِهِ حِينَ أَعْتَقَهُ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَعَلَى هَذَا فَرْعُ مَا لَوْ قَالَ مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ ثُمَّ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، إنْ ضَرَبَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَجِبُ دِيَةُ الْجَنِينِ لِأَبِيهِ إنْ كَانَ لَهُ أَبٌ حُرٌّ لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَكُونُ لِعُصْبَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْلَى قَاتِلٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ، وَإِنْ ضَرَبَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ كَذَا ذُكِرَ.
(قَوْلُهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ) التَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَعْلَقُ حُرًّا لَا أَنَّهُ يَعْلَقُ مَمْلُوكًا ثُمَّ يَعْتِقُ كَمَا يَقْتَضِيهِ
أَوْ لِاسْتِهْلَاكِ مَائِهِ بِمَائِهَا وَالْمُنَافَاةُ مُتَحَقِّقَةٌ وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ بِهِ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ لِأَنَّ الْوَالِدَ مَا رَضِيَ بِهِ.
(وَوَلَدُ الْحُرَّةِ حُرٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ) لِأَنَّ جَانِبَهَا رَاجِحٌ فَيَتَّبِعُهَا فِي وَصْفِ الْحُرِّيَّةِ كَمَا يَتَّبِعُهَا فِي الْمَمْلُوكِيَّةِ والمرقوقية
ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ قَطُّ إلَّا حُرًّا. وَفِي الْمَبْسُوطِ: الْوَلَدُ يَعْلَقُ حُرًّا مِنْ الْمَاءَيْنِ لِأَنَّ مَاءَهُ حُرٌّ وَمَاءَ جَارِيَتِهِ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ، بِخِلَافِ ابْنِهِ مِنْ جَارِيَةِ الْغَيْرِ فَإِنَّ مَاءَهَا مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهَا بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا بِيَقِينٍ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَلِذَا لَا يَنْتَفِي عَنْهَا بِحَالٍ وَقَدْ يَنْتَفِي عَنْ الْأَبِ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِالزِّنَا وَبَعْدَ الْمُلَاعَنَةِ حَتَّى يَتَوَارَثَانِ دُونَ الْأَبِ فَكَانَ مَاؤُهَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، أَوْ لِاسْتِهْلَاكِ مَائِهِ بِمَائِهَا لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِهِ وَيَزْدَادُ قُوَّةً مِنْهَا لِأَمَتِهِ، أَوْ تَرَجَّحَ بِالْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ أَوْ لِأَنَّهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ كَعُضْوٍ مِنْهَا حَتَّى قَدْ يُقْرَضُ بِالْمِقْرَاضِ وَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَيُسْتَثْنَى مِنْ بَيْعِهَا وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ بِرِقِّ الْوَلَدِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى تَزَوُّجِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِرِقِّهَا وَفِي هَذَا إجْمَاعٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ هَاشِمِيًّا كَانَ وَلَدُهُ هَاشِمِيًّا مَرْقُوقًا، بِخِلَافِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ فَلِذَا قُلْنَا: يَعْلَقُ حُرًّا فِي حَقِّهِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ.
(قَوْلُهُ كَمَا يَتْبَعُهَا فِي الْمَمْلُوكِيَّةِ والمرقوقية)
وَالتَّدْبِيرِ وَأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَالْكِتَابَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ الْعَبْدِ يَعْتِقُ بَعْضُهُ
(وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ عَبْدِهِ) عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيَسْعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا:
أَوْرَدَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ لِيُفِيدَ تَغَايُرَ مَفْهُومَيْهِمَا، فَالرِّقُّ هُوَ الذُّلُّ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ جَزَاءَ اسْتِنْكَافِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقُّ الْعَامَّةِ عَلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْمِلْكُ هُوَ تَمَكُّنُ الْإِنْسَانِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ مَانِعُ سَلْبِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ حَقُّهُ، فَأَوَّلُ مَا يُؤْخَذُ الْأَسِيرُ يُوصَفُ بِالرِّقِّ لَا الْمَمْلُوكِيَّةِ حَتَّى يُحْرَزَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْمِلْكُ عَامٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَالرِّقُّ خَاصٌّ بِالْإِنْسَانِ، وَبِالْبَيْعِ يَزُولُ عَنْهُ مِلْكُهُ وَلَا يَزُولُ الرِّقُّ، وَبِالْعِتْقِ يَزُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا. لَكِنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ قَصْدًا ثُمَّ يُتْبِعُهُ الرِّقُّ ضَرُورَةً فَرَاغَهُ بِذَلِكَ الزَّوَالِ عَنْ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِرَقَبَتِهِ فَبَيَّنَ بِهِمَا أَنَّهُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَلِذَا إذَا تَوَلَّدَ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالْحِمَارِ الْإِنْسِيِّ مَعَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ يُؤْكَلُ، وَإِذَا تَوَلَّدَ بَيْنَ الْوَحْشِ وَالْإِنْسِيَّةِ كَالْبَقَرَةِ يَنْزُو عَلَيْهَا حِمَارُ وَحْشٍ يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ، وَلِاخْتِلَافِ مَفْهُومَيْهِمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فِي الْكَمْيَّةِ فِي شَخْصٍ فَهُمَا كَامِلَانِ فِي الْقِنِّ. وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ نَاقِصٌ حَتَّى لَا يَجُوزَ عِتْقُهُمَا عَنْ الْكَفَّارَةِ وَالْمِلْكُ فِيهِمَا كَامِلٌ. وَالْمُكَاتَبُ عَكْسُهُ رِقُّهُ كَامِلٌ حَتَّى جَازَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَمِلْكُهُ نَاقِصٌ حَتَّى خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ. وَمَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ الرِّقَّ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِيءَ فَكَيْفَ يَقْبَلُ النُّقْصَانَ يَنْدَفِعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِنُقْصَانِ الرِّقِّ نُقْصَانُ حَالِهِ لَا نُقْصَانُ ذَاتِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَحُكْمِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَفِي النَّسَبِ يَتْبَعُ الْأَبَ وَفِي الدِّينِ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ)
لَا شَكَّ فِي كَثْرَةِ وُقُوعِ عِتْقِ الْكُلِّ وَنُدْرَةِ عِتْقِ الْبَعْضِ، وَفِي أَنَّ مَا كَثُرَ وُجُودُهُ فَالْحَاجَةُ إلَى بَيَانِ أَحْكَامِهِ أَمَسُّ مِنْهَا إلَى مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ، وَأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ الْمَاسَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّادِرَةِ فَلِذَا أَخَّرَ هَذَا عَمَّا قَبْلَهُ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ عَبْدِهِ عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيَسْعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الْحَالِ، وَالِاسْتِسْعَاءُ أَنْ
(يَعْتِقُ كُلُّهُ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَعْتَقَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِضَافَتُهُ إلَى الْبَعْضِ كَإِضَافَتِهِ إلَى الْكُلِّ فَلِهَذَا يَعْتِقُ كُلُّهُ. لَهُمْ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَهُوَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ، وَإِثْبَاتُهَا بِإِزَالَةِ ضِدِّهَا وَهُوَ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ ضَعْفٌ حُكْمِيٌّ وَهُمَا لَا يَتَجَزَّآنِ فَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالِاسْتِيلَادِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ، أَوْ هُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ حَقُّهُ وَالرِّقَّ حَقُّ الشَّرْعِ أَوْ حَقُّ الْعَامَّةِ. وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمُتَصَرِّفِ وَهُوَ إزَالَةُ حَقِّهِ لَا حَقِّ غَيْرِهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّصَرُّفَ
يُؤَاجِرَهُ فَيَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَتِهِ مِنْ الْأُجْرَةِ. ذَكَرَهُ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ، وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ عَنْ السِّعَايَةِ فَعَلَ ذَلِكَ إذَا
يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعِ الْإِضَافَةِ وَالتَّعَدِّي إلَى مَا وَرَاءَهُ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجْزِيءِ، وَالْمِلْكُ مُتَجَزِّئٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَتَجِبُ السِّعَايَةُ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّةِ الْبَعْضِ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَالْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْبَعْضِ تُوجِبُ ثُبُوتَ الْمِلْكِيَّةِ فِي كُلِّهِ، وَبَقَاءُ الْمِلْكِ فِي بَعْضِهِ يَمْنَعُهُ، فَعَمِلْنَا بِالدَّلِيلَيْنِ بِإِنْزَالِهِ مُكَاتَبًا إذْ هُوَ مَالِكُ يَدٍ إلَّا رَقَبَةً، وَالسِّعَايَةُ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ. وَلَهُ خِيَارُ أَنْ يُعْتِقَهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَابِلٌ لِلْإِعْتَاقِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا عَجَزَ لَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَا إلَى أَحَدٍ فَلَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْمَقْصُودَةِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقَالُ
كَانَ لَهُ عَمَلٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِسْعَاءِ غَيْرُ هَذَا، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ فَتَكُونُ الْإِجَازَةُ تَنْفُذُ عَلَيْهِ جَبْرًا، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا إذَا عَيَّنَ مِقْدَارًا كَرُبْعِك حُرٌّ وَنَحْوِهِ، فَلَوْ قَالَ بَعْضُك حُرٌّ أَوْ جُزْءٌ مِنْك أَوْ شِقْصٌ أُمِرَ بِالْبَيَانِ، وَلَوْ قَالَ: سَهْمٌ مِنْك حُرٌّ فَقِيَاسُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَعْتِقَ سُدُسَهُ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالسَّهْمِ مِنْ عَبْدِهِ فَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ.
وَقَوْلُهُ: عَتَقَ ذَلِكَ الْقَدْرُ تَعْبِيرٌ بِالْعِتْقِ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ لَا عَنْ زَوَالِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَقِيقٌ كُلُّهُ بِخِلَافِهِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَقَالَا: يَعْتِقُ كُلُّهُ فَإِنَّهُ عَنْ زَوَالِ الرِّقِّ: أَيْ وَقَالَا يَزُولُ الرِّقُّ عَنْهُ كُلُّهُ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بَعْدُ: وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَعْتَقَ: وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ قَوْلُ
وَيُفْسَخُ، وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ حَالَةً مُتَوَسِّطَةً، فَأَثْبَتْنَاهُ فِي الْكُلِّ تَرْجِيحًا لِلْمُحَرَّمِ، وَالِاسْتِيلَادُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ، حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. وَفِي الْقِنَّةِ لَمَّا ضَمِنَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِفْسَادِ مَلَكَهُ
الشَّافِعِيِّ: يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى وَاحِدًا أَوْ كَانَ لِشَرِيكَيْنِ وَالْمُعْتَقُ مُوسِرٌ، أَمَّا إذَا كَانَ لِشَرِيكَيْنِ وَالْمُعْتَقُ مُعْسِرٌ فَيَبْقَى مِلْكُ السَّاكِتِ كَمَا كَانَ حَتَّى جَازَ لَهُ بَيْعُهُ عِنْدَهُ وَالْمُرَادُ مِنْ تَجْزِيءِ الْإِعْتَاقِ تَجْزِيءُ الْمَحَلِّ فِي قَبُولِ حُكْمِهِ فَيَثْبُتُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ فِي تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَوَارَدُوا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي التَّجْزِيءِ وَعَدَمِهِ، فَإِنَّ الْقَائِلَ الْعِتْقُ أَوْ الْإِعْتَاقُ يَتَجَزَّأُ لَمْ يُرِدْهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ بِهِ قَائِلٌ إنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ زَوَالُ الرِّقِّ أَوْ إزَالَتُهُ إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ تَجْزِيئِهِ بَلْ زَوَالُ الْمِلْكِ أَوْ إزَالَتُهُ، وَلَا خِلَافَ فِي تَجْزِيئِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: اُخْتُلِفَ فِي تَجْزِيءِ الْعِتْقِ وَعَدَمِهِ أَوْ الْإِعْتَاقِ، بَلْ الْخِلَافُ فِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ إلَّا فِيمَا يُوجِبُهُ الْإِعْتَاقُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، فَعِنْدَهُ زَوَالُ الْمِلْكِ وَيَتْبَعُهُ زَوَالُ الرِّقِّ فَلَزِمَ تَجْزِيءُ مُوجَبِهِ، غَيْرَ أَنَّ زَوَالَ الرِّقِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْكُلِّ شَرْعًا كَحُكْمِ الْحَدَثِ لَا يَزُولُ إلَّا عِنْدَ غَسْلِ كُلِّ الْأَعْضَاءِ وَغَسْلُهَا مُتَجَزِّئٌ، وَهَذَا لِضَرُورَةِ أَنَّ الْعِتْقَ قُوَّةٌ شَرْعِيَّةٌ هِيَ قُدْرَةٌ عَلَى تَصَرُّفَاتٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ الْوِلَايَاتِ كَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ بِنِيَّتِهِ وَنَفْسِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ هَذِهِ فِي بَعْضِهِ شَائِعًا فَقَطَعَ بِعَدَمِ تَجْزِيئِهِ وَالْمِلْكُ مُتَجَزِّئٌ قَطْعًا.
فَلَزِمَ مَا قُلْنَا مِنْ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْبَعْضِ، وَتَوَقَّفَ زَوَالُ الرِّقِّ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْبَاقِي، وَحِينَئِذٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ الدَّلِيلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ أَوَّلًا زَوَالُ الْمِلْكِ أَوْ الرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَالْوَجْهُ مُنْتَهِضٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ يَقْتَصِرُ عَلَى حَقِّهِ وَحَقُّهُ الْمِلْكُ، أَمَّا الرِّقُّ فَحَقُّ اللَّهِ أَوْ حَقُّ الْعَامَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَلْزَمُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِعْتَاقِ زَوَالُ الْمِلْكِ أَوَّلًا ثُمَّ يَزُولُ الرِّقُّ شَرْعًا اتِّفَاقًا إذَا زَالَ لَا إلَى مَالِكٍ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ زَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُسَمَّى إعْتَاقًا وَإِلَّا لَكَانَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ إعْتَاقًا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ إزَالَةَ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعِتْقِ لَا إزَالَةُ الْمِلْكِ كَيْفَمَا كَانَ.
وَأَمَّا السَّمْعُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» أَفَادَ تَصَوُّرُ عِتْقِ الْبَعْضِ فَقَطْ. وَقَوْلُ أَيُّوبَ: لَا نَدْرِي أَشَيْءٌ قَالَهُ نَافِعٌ أَوْ هُوَ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ لَا يَضُرُّ، إذْ الظَّاهِرُ بَلْ الْوَاجِبُ أَنَّهُ مِنْهُ، إذْ لَا يَجُوزُ إدْرَاجُ مِثْلِ هَذِهِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ قَاطِعٍ فِي إفَادَةِ أَنَّهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَيْسَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُوجِبْ فِي الْحَدِيثِ عِلَّةً قَادِحَةً، وَكَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي مَمْلُوكٍ فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ فَاسْتَسْعَى بِهِ غَيْرُ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» ، أَيْ لَا يُغْلِي عَلَيْهِ الثَّمَنَ، أَفَادَ عَدَمَ سِرَايَةِ الْعِتْقِ إلَى الْكُلِّ بِمُجَرَّدِ عِتْقِ الْبَعْضِ وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ خَلَصَ قَبْلَ تَخْلِيصِ الْمُعْتَقِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ بِقِيمَةِ عَدْلٍ فَهُوَ عَتِيقٌ» وَفِي لَفْظٍ «فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ» فَإِنَّمَا يَقْتَضِي عِتْقُ كُلِّهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ قِيمَتَهُ، وَلَيْسَ مُدَّعَاهُمَا ذَلِكَ بَلْ إنَّهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ بِمُجَرَّدِ إعْتَاقِ بَعْضِهِ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَا، فَقَدْ أَفَادَتْ الْأَحَادِيثُ أَنَّ الْعِتْقَ مِمَّا يَقْتَصِرُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ السِّرَايَةَ وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ.
وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ إعْتَاقُ الْبَعْضِ إعْتَاقًا لِلْكُلِّ وَإِتْلَافًا لَهُ لَضَمِنَ مُطْلَقًا، كَمَا إذَا أَتْلَفَهُ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ بِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ فِي هَذَا: إنَّ السِّعَايَةَ تَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ، وَحَيْثُ ثَبَتَ الِاقْتِصَارُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِتْقِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» زَوَالَ الْمِلْكِ، وَكَذَا يَلْزَمُ فِي قَوْلِ كُلِّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِتَجْزِيئِهِ كَالْحَسَنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ، بِخِلَافِ مَا قِيلَ: إنَّ قَوْلَ عُمَرَ قَوْلُهُمَا فَقَدْ أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ لَنَا غُلَامٌ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ فَأَبْلَى فِيهَا، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ أُمِّي وَأَخِي الْأَسْوَدِ فَأَرَادُوا عِتْقَهُ وَكُنْت يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا، فَذَكَرَ الْأَسْوَدُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: أَعْتِقُوا أَنْتُمْ، فَإِذَا بَلَغَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَرَغِبَ فِيمَا رَغِبْتُمْ فِيهِ أَعْتَقَ وَإِلَّا ضَمَّنَكُمْ.
أَثْبَتَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ بُلُوغِهِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ إعْتَاقُهُمَا وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَتَجَزَّأُ زَوَالًا عِنْدَ أَحَدٍ فَلَزِمَ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ أَنَّ النَّازِلَ بِالْإِعْتَاقِ بِالذَّاتِ زَوَالُ الْمِلْكِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَزِمَ فِي إعْتَاقِ بَعْضِ الْعَبْدِ الْخَاصِّ بِهِ أَنْ يَعْتِقَ ذَلِكَ الْقَدْرِ: أَيْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ وَيَبْقَى كَمَالُ الرِّقِّ فِيهِ كُلِّهِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ مَا زَالَ بِالْإِعْتَاقِ هُوَ الْمِلْكُ وَالرِّقُّ ثَابِتٌ فِي كُلِّهِ وَلَازَمَهُ شَرْعًا أَنْ لَا يَبْقَى فِي الرِّقِّ لَزِمَ أَنْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي بَاقِي قِيمَتِهِ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّةِ الْبَاقِي عِنْدَهُ، وَمَا لَمْ يُؤَدَّ السِّعَايَةُ فَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عِتْقُ كُلِّهِ عَلَى أَدَاءِ الْبَدَلِ، وَكَوْنُهُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَدَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ وَلَا اسْتِخْدَامَ وَكَوْنُهُ رَقِيقًا كُلَّهُ إلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ لَا يُرَدُّ إلَى الِاسْتِخْدَامِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْتَسْعَى زَالَ الْمِلْكُ عَنْ بَعْضِهِ لَا إلَى مَالِك صَدَقَةٍ عَلَيْهِ بِهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَالُ ضَرُورَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ تَضْمِينُهُ قَسْرًا، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ عِتْقَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ بِاخْتِيَارِهِ يُقَالُ وَيُفْسَخُ بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ، وَعَلَى هَذَا مَا إذَا أَعْتَقَ أَمَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ ثُمَّ وَلَدَتْ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتَقَ الْقِيمَةَ عَنْ نَصِيبِهِ يَوْمَ أَعْتَقَ وَلَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَا صَنَعَ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الشَّرِيكِ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً حِينَ وَلَدَتْ وَالْمُكَاتَبَةُ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا كَمَا أَنَّهَا أَحَقُّ بِكَسْبِهَا، وَالِاعْتِرَاضُ أَنَّهُ لَيْسَ كَالْمُكَاتَبِ لِهَذَا الْفَرْقِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَا يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ وَجْهِ الشَّبَهِ فِيهِ، وَإِذَا تَحَقَّقْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ ظَهَرَ لَك أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ إلْحَاقِهِمْ بِالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالِاسْتِيلَادِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ إلْحَاقُ إزَالَةِ الرِّقِّ بِهَا فِي عَدَمِ التَّجْزِيءِ
بِالضَّمَانِ فَكَمُلَ الِاسْتِيلَادُ.
(وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ)، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ،.
فَإِنْ ضَمِنَ رَجَعَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ (وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ اسْتَسْعَى فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ) وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَجْهَيْنِ. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. .
فَغَيْرُ مَحَلَّ الْخِلَافِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ لَا يَتَجَزَّأُ زَوَالًا أَوْ إلْحَاقَ إزَالَةِ الْمِلْكِ بِهَا فِيهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَأَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي تَقْرِيرِهِ أَنْ يُجْعَلَ إلْحَاقًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ فِي عَدَمِ التَّجْزِيءِ بِأَنْ يَتَنَزَّلَ وَيَدَّعِي أَنَّ الْمُتَجَزِّئَ زَوَالُ الْمِلْكِ إلَى مَالِكٍ لَا إلَى غَيْرِ مَالِكٍ إلْحَاقًا بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّ فِي الطَّلَاقِ زَوَالَ مِلْكٍ لَا إلَى مَالِكٍ وَفِي الْعَفْوِ زَوَالُ حَقٍّ لَا إلَى مُسْتَحَقٍّ آخَرَ وَالِاسْتِيلَادُ زَوَالُ مِلْكٍ كَذَلِكَ: أَعْنِي مَالِكَ بَيْعِهَا وَهِبَتِهَا. وَالْجَوَابُ أَوَّلًا أَنَّهُ إلْحَاقٌ بِلَا جَامِعٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّجْزِيءِ فِي الْأُصُولِ لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ، إذْ لَا يُمْكِنُ نِصْفُ الْمَرْأَةِ مَنْكُوحَةً وَنِصْفُهَا مُطَلَّقَةً، وَلَا نِصْفُهَا مُسْتَوْلَدًا وَنِصْفُهَا لَا، وَلَا إسْقَاطُ نِصْفِ حَقِّ الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ بِثُبُوتِ حَقِّهِ لَا نِصْفِهِ، فَمَعَهُ لَا يَثْبُتُ وَهُوَ مَعْنَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ عَدَمُ التَّجْزِيءِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الزَّوَالَ لَا إلَى مَالِكٍ، بَلْ لَا أَثَرَ لِكَوْنِ الزَّوَالِ إلَى مَالِكٍ أَوَّلًا إلَيْهِ، بِخِلَافِ زَوَالِ مَالِكِ الرَّقَبَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ حَالَةً مُتَوَسِّطَةً: أَيْ لَيْسَ فِيهِمَا إلَّا زَوَالُ كِلَيْهِمَا أَوْ بَقَاؤُهُمَا، (فَأَثْبَتْنَاهُ فِي الْكُلِّ
) أَيْ فَأَثْبَتْنَا زَوَالَ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ تَرْجِيحًا لِلْمُحَرَّمِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ، فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِمَا مُوجِبُ الْحُرْمَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْعَفْوُ وَمُوجِبُ الْحِلِّ وَهُوَ عَدَمُ اتِّصَافِ الْبَعْضِ بِهِ.
وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَمُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُسْتَوْلِدُ تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَلَوْ مَاتَ الْمُدَبَّرُ عَتَقَتْ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا كَمُلَ فِي الْقِنَّةِ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِفْسَادِ مَلَكَهُ مِنْ حِينِ الِاسْتِيلَادِ فَصَارَ مُسْتَوْلِدًا جَارِيَةَ نَفْسِهِ فَثَبَتَ عَدَمُ التَّجْزِيءِ ضَرُورَةً.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ) أَيْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ (فَإِنْ كَانَ) الْمُعْتِقُ (مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ) مُنْجَزًا أَوْ مُضَافًا، وَيَنْبَغِي إذَا أَضَافَهُ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُ إضَافَتُهُ إلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّدْبِيرِ مَعْنًى، وَلَوْ دَبَّرَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي الْحَالِ فَيَعْتِقُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَى مُدَّةٍ تُشَاكِلُ مُدَّةَ الِاسْتِسْعَاءِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتِقُ) قِيمَتَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَهُ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ) فِيهَا.
(فَإِنْ ضَمِنَ رَجَعَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ اسْتَسْعَى فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْإِعْتَاقِ وَالسِّعَايَةِ (وَهَذَا) كُلُّهُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي التُّحْفَةِ خَمْسَ خِيَارَاتٍ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَأَنْ يُدْبِرَهُ وَعَلِمْتَ حُكْمَهُ أَنْ يُسْتَسْعَى وَأَنْ يُكَاتِبَهُ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الِاسْتِسْعَاءِ، وَلَوْ عَجَزَ اسْتَسْعَى، وَلَوْ امْتَنَعَ الْعَبْدُ عَنْ السِّعَايَةِ يُؤَاجِرُهُ جَبْرًا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ فِي مَعْنَى الِاسْتِسْعَاءِ أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مِنْ النَّقْدَيْنِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْرًا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ السِّعَايَةَ عَلَى قِيمَتِهِ فَلَا يَجُوزُ الْأَكْثَرُ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى عِوَضٍ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى عُرُوضٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ جَازَ، وَلَوْ كَانَ السَّاكِتُ صَبِيًّا وَالْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَالْخِيَارُ بَيْنَ التَّضْمِينِ وَالسِّعَايَةِ لِوَلِيِّهِ، وَالتَّضْمِينُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَنْظَرُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ اُنْتُظِرَ بُلُوغُهُ لِيَخْتَارَ. قِيلَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ قَاضٍ نَصَّبَ الْقَاضِي لَهُ قَيِّمًا لِيَخْتَارَ التَّضْمِينَ أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ اخْتِيَارُ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَالِ الصَّبِيِّ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الصَّبِيِّ مُكَاتَبٌ أَوْ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَيْسَ لَهُمَا إلَّا التَّضْمِينُ أَوْ الِاسْتِسْعَاءُ، أَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُكَاتَبَ وَالِاسْتِسْعَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَنْ يُكَاتَبَ، وَلَكِنْ قَالَ: سَبَبُ الِاسْتِسْعَاءِ قَدْ تَقَرَّرَ وَهُوَ عِتْقُ الشَّرِيكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الِاسْتِسْعَاءُ أَنْفَعُ مِنْ التَّضْمِينِ فَلِهَذَا مَلَكَ الْمَأْذُونُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ ابْتِدَاءً.
وَإِذَا اخْتَارَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمَأْذُونُ التَّضْمِينَ أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ فَوَلَاءُ نَصِيبِهِمَا لِمَوْلَاهُمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِمَا وَهُوَ الْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالْخِيَارُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ كَسْبَهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتَقْدِيرُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ صَحِيحًا ثُمَّ عَمِيَ يَجِبُ نِصْفُ قِيمَتِهِ صَحِيحًا، وَقَلْبُهُ لَوْ كَانَ أَعْمَى يَوْمَ الْعِتْقِ فَانْجَلَى بَيَاضُ عَيْنَيْهِ يَجِبُ نِصْفُ قِيمَتِهِ أَعْمَى لِأَنَّهُ حَالُ ثُبُوتِ سَبَبِ الضَّمَانِ، وَكَذَا يُعْتَبَرُ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ وَقْتَ الْعِتْقِ، فَلَوْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْعِتْقِ فَأَعْسَرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا فَأَيْسَرَ لَا ضَمَانَ.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ أَعْتَقَهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا نَظَرَ إلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ ظَهَرَ الْعِتْقُ حَتَّى إذَا لَمْ يَتَصَادَقَا عَلَى الْعِتْقِ فِيمَا مَضَى يُقَوَّمُ لِلْحَالِ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَادِثٌ فَيُحَالُ عَلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِ ظُهُورِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ، وَلَوْ تَصَادَقُوا عَلَى وَقْتِ الْعِتْقِ وَاخْتَلَفُوا فِي قِيمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ كَالْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ وَيُنْكِرُ الزِّيَادَةَ.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَقَالَ الْمُعْتِقُ: أَعْتَقْتُ وَأَنَا مُعْسِرٌ وَقَالَ الشَّرِيكُ بَلْ وَأَنْتَ مُوسِرٌ، نُظِرَ إلَى حَالِهِ يَوْمَ ظَهَرَ الْعِتْقُ إمَّا لِأَنَّهُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ فِي الْحَالِ أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا مَضَى يَحْكُمُ الْحَالُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ مُوسِرًا فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَدَّعِي الْيَسَارَ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فِي الْحَالِ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ يَدَّعِي الْعُسْرَةَ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ كَالْمُسْتَأْجَرِ مَعَ رَبِّ الطَّاحُونَةِ إذَا اخْتَلَفَا فِي جَرَيَانِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ يَحْكُمُ الْحَالُ.
وَلَوْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ سَابِقًا عَلَيْهِ فِي مُدَّةٍ يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ فِي إنْكَارِ يَسَارِهِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ مُوسِرًا يَوْمَ أَعْتَقَهُ فَاخْتَارَ الشَّرِيكُ ضَمَانَهُ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُبَرِّئَهُ وَيَسْتَسْعِيَ الْغُلَامَ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالضَّمَانِ أَوْ رَضِيَ بِهِ الْمُعْتِقُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْغُلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَهُ. قِيلَ: مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْإِطْلَاقِ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ، وَقِيلَ بَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَلَوْ مَاتَ السَّاكِتُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ شَيْئًا فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْخِيَارِ مَا كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا تَوْرِيثَ الْخِيَارِ بَلْ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ الْخِيَارَ لِلْمُوَرِّثِ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا وَإِنْ شَاءُوا اسْتَسْعَوْا الْعَبْدَ وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُعْتَقَ، فَإِنْ ضَمَّنُوهُ فَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ إلَيْهِمْ يَمْلِكُ نَصِيبَهُمْ كَمَا كَانَ يَتَمَلَّكُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْمُوَرِّثِ، وَإِنْ اخْتَارُوا الْإِعْتَاقَ أَوْ الِاسْتِسْعَاءَ فَالْوَلَاءُ فِي هَذَا النَّصِيبِ لِلذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِ الْمَيِّتِ دُونَ الْإِنَاثِ لِأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يُورَثُ عَيْنُهُ وَإِنَّمَا يُورَثُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ فَيَعْتِقُ نَصِيبُ
(وَقَالَا: لَيْسَ لَهُ إلَّا الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الْإِعْسَارِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْتَنَى عَلَى حَرْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَجْزِيءُ الْإِعْتَاقِ وَعَدَمُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَالثَّانِي: أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ سِعَايَةَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْنَعُ. لَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجُلِ يُعْتِقُ نَصِيبَهُ، إنْ كَانَ غَنِيًّا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا سَعَى فِي حِصَّةِ الْآخَرِ،
السَّاكِتِ عَلَى مِلْكِهِ وَالْوَلَاءُ يَكُونُ لَهُ فَيَخْلُفُهُ فِي ذَلِكَ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِهِ دُونَ الْإِنَاثِ إذْ الْوَلَاءُ لَا يُورَثُ، وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ السِّعَايَةَ وَبَعْضُهُمْ الضَّمَانَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا اخْتَارَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا وَرِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التَّضْمِينِ أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُكَاتَبِ لَا يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ، فَكَذَلِكَ هُمْ لَا يَمْلِكُونَ نَصِيبَ السَّاكِتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَصْلُ الْوَلَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ بِالْإِعْتَاقِ ابْتِدَاءً، وَلَكِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الْمُوَرِّثِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُوَرِّثِ أَنْ يَخْتَارَ التَّضْمِينَ فِي الْبَعْضِ وَالسِّعَايَةَ فِي الْبَعْضِ فَكَذَا الْوَرَثَةُ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ السَّاكِتُ وَلَكِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ السَّاكِتُ شَيْئًا فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتَقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَالضَّمَانَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ عَلَى الْمُعْتَقِ مَا لَمْ يَخْتَرْ ضَمَانَهُ، فَإِذَا هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّرَ الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ اخْتِيَارِ التَّضْمِينِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ هُوَ أَنْ يَمْلِكَ نَصِيبَهُ مِنْهُ بِالضَّمَانِ وَقَدْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الْإِفْسَادُ قَدْ تَحَقَّقَ بِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَمَوْتُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْغَصْبِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَضْمِينَهُ مِنْ وَقْتِ الْعِتْقِ وَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ عِنْدَ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ نَصِيبَهُ أَوْ وَهَبَهُ عَلَى عِوَضٍ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فِي الِاسْتِحْسَانِ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ جَوَازَهُ كَالتَّضْمِينِ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ وَهُوَ غَيْرُ مَحَلٍّ لَهُ. وَفِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ: لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ مَاتَ لَا يُؤْخَذُ ضَمَانُ الْعِتْقِ مِنْ تَرِكَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، بَلْ يَسْقُطُ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ صِلَةً وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ بِهِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ، وَإِنَّمَا عُرِفَ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ عِنْدَ عُسْرَتِهِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
(قَوْلُهُ وَقَالَا لَيْسَ لَهُ) أَيْ السَّاكِتِ (إلَّا الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الْإِعْسَارِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا ضَمِنَ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْتَنَى عَلَى حَرْفَيْنِ أَحَدِهِمَا تُجْزِئُ الْإِعْتَاقِ) عِنْدَهُ (وَعَدَمُهُ) عِنْدَهُمَا فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ مَدْيُونٌ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ (وَالثَّانِي أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتَقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْنَعُ)
قُسِّمَ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ.
وَلَهُ أَنَّهُ احْتَبَسَتْ مَالِيَّةُ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي ثَوْبِ إنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي صَبْغِ غَيْرِهِ حَتَّى انْصَبَغَ بِهِ فَعَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ صَبْغِ الْآخَرِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِمَا قُلْنَا فَكَذَا هَهُنَا، إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ فَقِيرٌ فَيَسْتَسْعِيهِ.
لَهُمَا فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ النُّصُوصِ الَّتِي ظَاهِرُهَا تُجْزِئُ الْإِعْتَاقِ كَقَوْلِهِ «فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» وَحَدِيثُ «فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ» وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ثُمَّ عَتَقَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا» فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَكَذَا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ عَتَقَ» وَاَلَّتِي ظَاهِرُهَا عَدَمُ تَجْزِيئِهِ كَحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ غُلَامٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ، وَأَجَازَ عِتْقَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ رَزِينٌ فِي مَالِهِ. وَفِي لَفْظٍ «هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ» وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ» كُلُّهَا تُفِيدُ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ عِنْدَ يَسَارِهِ التَّضْمِينُ لَيْسَ غَيْرُ، وَلِذَا اخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُمَا. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قَسَّمَ فَجَعَلَ الْحُكْمَ عِنْدَ يَسَارِهِ تَضْمِينَهُ وَعِنْدَ إعْسَارِهِ الِاسْتِسْعَاءَ، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ.
وَاسْتُدِلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِقَوْلِهِ (إنَّهُ) أَيْ السَّاكِتُ (احْتَبَسَتْ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ (مَالِيَّةُ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ) وَإِنْ وَقَعَ احْتِبَاسُهَا عِنْدَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ (كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فَأَلْقَتْ ثَوْبَ إنْسَانٍ فِي صَبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ بِهِ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الصَّبْغِ أَنْ يُضَمِّنَ مَالِكَ الثَّوْبِ قِيمَةَ صَبْغِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ فَقِيرٌ فَيَسْتَسْعِيهِ) وَيَأْخُذُ فَضْلَ كَسْبِهِ كَالْمُعْسِرِ الْمَدْيُونِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ تَضْمِينَ الْمُعْتِقِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْقِيَاسُ تَضْمِينُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْعَبْدِ كَانَ تَضْمِينُ غَيْرِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ إفْسَادُ نَصِيبِهِ بِعِتْقِهِ الِاخْتِيَارِيِّ لَكِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَدَمَ دَارِهِ فَانْهَدَمَتْ لِذَلِكَ دَارُ جَارِهِ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِلنُّصُوصِ بِالتَّعْلِيقِ فَإِنَّهَا أَوْجَبَتْ السِّعَايَةُ إذَا كَانَ الْمُعْتَقُ مُعْسِرًا لَا إذَا كَانَ مُوسِرًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ وَلَا يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُ الِاسْتِسْعَاءِ عِنْدَ نَفْيِ الْإِعْسَارِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ عَدَمِهِ أَيْضًا بِالدَّلِيلِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاحْتِبَاسِ كَذَا أَوْرَدَهُ شَارِحٌ. وَأَجَابَ: وَالتَّحْقِيقُ فِي إيرَادِهِ أَنَّ النُّصُوصَ قَسَّمَتْ فَأَعْطَتْ حُكْمَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَحُكْمَ عَدَمِهِ فَقَالَ عِنْدَ الْيَسَارِ التَّضْمِينُ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ وَهُوَ الْإِعْسَارُ الِاسْتِسْعَاءُ، وَالْقِسْمَةُ تُفِيدُ اخْتِصَاصَ كُلِّ قِسْمٍ بِحُكْمِهِ فَلَا يُوجَدُ الِاسْتِسْعَاءُ عِنْدَ الْيَسَارِ كَمَا لَا يُوجَدُ التَّضْمِينُ عِنْدَ الْإِعْسَارِ وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ ذَلِكَ الْجَوَابُ. وَقَدْ أُجِيب أَيْضًا بِنَحْوِهِ وَهُوَ أَنَّ الْقِسْمَةَ ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الشَّرْطِ، وَهُوَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْجَوَابِ مَنْعُ أَنَّ الْقِسْمَةَ تُنَافِي الشَّرِكَةَ مُطْلَقًا، بَلْ ذَاكَ إذَا لَمْ تَكُنْ بِشَرْطَيْنِ بَلْ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا أَثَرَ لِتَعَدُّدِ الشَّرْطِ وَوَحْدَتِهِ فِي اخْتِلَافِ حُكْمِ الْقِسْمَةِ. وَفِي الْكَافِي: جَهْلُ فَائِدَةِ الْقِسْمَةِ نَفْيُ الضَّمَانِ لَوْ كَانَ فَقِيرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ كَمَا تُفِيدُ نَفْيَ الضَّمَانِ لَوْ كَانَ فَقِيرًا تُفِيدُ نَفْيَ الِاسْتِسْعَاءِ لَوْ كَانَ مُوسِرًا بِعَيْنِ الْجِهَةِ الَّتِي تُفِيدُ بِهَا تِلْكَ الْإِفَادَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَفَادَتْ الْقِسْمَةُ نَفْيَ الشَّرِكَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى فِيهَا حُكْمَ الشَّرْطِ وَحُكْمَ نَقِيضِهِ كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ الْمَذْكُورَ مَعَ كُلٍّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ تَمَامُ حُكْمِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُهُ. وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اقْتِصَارَ الشَّارِعِ عَلَى التَّضْمِينِ عِنْدَ الْيَسَارِ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ إذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ يَقْتَضِي قَصْرَ الِاسْتِسْعَاءِ عَلَى عِتْقِ الشَّرِيكِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُ الْمُعْتِقُ، فَبَيَّنَ الشَّارِعُ مَوْضِعَ مُخَالَفَتِهِ وَهُوَ التَّضْمِينُ فِي صُورَةِ الْيَسَارِ وَتَرْكُ الْآخَرِ وَهُوَ جَوَازُ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فِيهَا لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَنْصُوبٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّلِيلَ أَفَادَ جَوَازَ الِاسْتِسْعَاءِ مَقْصُورًا فَنَفَى الْقَصْرَ وَبَقِيَ جَوَازُهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي هَذَا تَقْلِيلَ مُعَارَضَةِ الدَّلِيلَيْنِ لِأَنَّهُ فِي قَصْرِ الْجَوَازِ عَلَى الِاسْتِسْعَاءِ أَقَلُّ مِنْهُ فِي نَفْيِ أَصْلِ جَوَازِهِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ مُخَصِّصًا لِلْقِيَاسِ، إذْ بَيَّنَ بِشَرْعِيَّةِ التَّضْمِينِ مَعَ الْيَسَارِ أَنَّ تَعْيِينَ الِاسْتِسْعَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ مَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَفْسِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ، أَمَّا إذَا كَانَ وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إتْمَامِهَا وَجَبَ كَالشُّرُوعِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ خُصُوصًا وَعَدَمُ إتْمَامِهَا يُوجِبُ إتْعَابًا لِلْآخَرِ وَهُوَ الْعَبْدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْبَةِ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالنَّصُّ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ عِنْدَهُمَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي صُورَةِ الْإِعْسَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ التَّوْجِيهِ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ عِتْقَ مَا يَمْلِكُهُ مَشْرُوعٌ وَعِبَادَةٌ، وَالْإِتْلَافُ وَقَعَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِنَايَةً عَلَى الْغَيْرِ وَإِنْ فَسَدَتْ مَالِيَّةُ بَاقِي الْعَبْدِ، كَمَنْ هَدَمَ جِدَارَهُ فَانْهَدَمَ جِدَارُ غَيْرِهِ. فَالْحَقُّ أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ إلَّا الِاسْتِسْعَاءُ وَالنَّصُّ خَصَّصَهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ أَنَّ السَّاكِتَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ وَلَا سِعَايَةَ
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ يَسَارُ التَّيْسِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ قَدْرَ قِيمَةِ نَصِيبِ الْآخَرِ لَا يَسَارُ الْغِنَى، لِأَنَّ بِهِ يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِتَحْقِيقِ مَا قَصَدَهُ الْمُعْتِقُ مِنْ الْقُرْبَةِ وَإِيصَالِ بَدَلِ حَقِّ السَّاكِتِ إلَيْهِ،
أَصْلًا، وَسَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ إعْلَالُهُمْ لَفْظَ السِّعَايَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ النَّسَائِيّ: أَثْبَتَ أَصْحَابُ قَتَادَةَ شُعْبَةُ وَهِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَقَدْ اتَّفَقَ شُعْبَةُ وَهِشَامٌ عَلَى خِلَافِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: يَعْنِي فِي ذِكْرِ السِّعَايَةِ، قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ هَمَّامًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ قَتَادَةَ فَجَعَلَ الْكَلَامَ الْأَخِيرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: أَحَادِيثُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ كَتَبَهَا إمْلَاءً. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ وَضَبْطُهُ فَصْلُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فَجَعَلَا الِاسْتِسْعَاءَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَحْسَبُهُمَا وَهِمَا فِيهِ لِمُخَالَفَةِ شُعْبَةَ وَهِشَامٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اضْطَرَبَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي السِّعَايَةِ، فَمَرَّةً يَذْكُرُهَا وَمَرَّةً لَا يَذْكُرُهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي السِّتَّةِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: فِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ مِنْ الْأَثْبَاتِ فِي قَتَادَةَ، وَلَيْسَ هُوَ بِدُونِ هَمَّامٍ عَنْهُ. وَقَدْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ذِكْرِ الِاسْتِسْعَاءِ فِيهِ وَرَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ وَحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَيَحْيَى بْنُ صُبَيْحٍ الْخُرَاسَانِيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَحَسْبُك بِذَلِكَ: يَعْنِي بِرَفْعِهِمَا الِاسْتِسْعَاءَ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ: مِثْلُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ أَصْلًا وَلَوْ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ الْبَاقِي وَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَمْلُوكِيَّتِهِ، وَأَنَّ لَهُ التَّضْمِينَ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ زُفَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، لَا يَعْتِقُ الْبَاقِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ. .
(قَوْلُهُ ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ يَسَارُ التَّيْسِيرِ وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ قَدْرَ قِيمَةِ نَصِيبِ السَّاكِتِ) وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ اسْتَثْنَى الْكَفَافَ وَهُوَ الْمَنْزِلُ وَالْخَادِمُ وَثِيَابُ الْبَدَنِ (لَا يَسَارَ الْغِنَى) أَيْ الْغِنَى الْمُحَرِّمِ لِلصَّدَقَةِ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ (لِأَنَّ بِيَسَارِ التَّيْسِيرِ يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) جَانِبِ الْمُعْتِقِ وَجَانِبِ السَّاكِتِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُعْتِقِ الْقُرْبَةُ وَتَتْمِيمُهَا بِضَمَانِهِ
ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ، فَعَدَمُ رُجُوعِ الْمُعْتِقِ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِعَدَمِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ. وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِهِ فَخِيَارُ الْإِعْتَاقِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْبَاقِي إذْ الْإِعْتَاقُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَالتَّضْمِينُ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ جَانٍ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِهِ نَصِيبَهُ حَيْثُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا سِوَى الْإِعْتَاقِ وَتَوَابِعِهِ، وَالِاسْتِسْعَاءُ لِمَا بَيَّنَّا.
وَمَقْصُودُ السَّاكِتِ بَدَلُ حِصَّتِهِ وَتَحْقِيقُهُ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ أَسْرَعَ مِنْ الِاسْتِسْعَاءِ فَكَانَ اعْتِبَارُ نِصَابِ التَّيْسِيرِ أَسْرَعَ فِي تَحْقِيقِ مَقْصُودِهِمَا فَوَجَبَ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيلٌ لِلنَّصِّ وَإِلَّا فَصَرِيحُ النَّصِّ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عِنْدَ مُجَرَّدِ تَمَلُّكِ قِيمَتِهِ الْحِصَّةَ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ» بِاتِّفَاقِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ ثُمَّ التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِهِمَا) أَيْ تَخْرِيجُ تَفْصِيلِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا (فَعَدَمُ رُجُوعِ الْمُعْتِقِ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِعَدَمِ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ) فَلَمْ يَكُنْ الضَّمَانُ مَنْقُولًا إلَيْهِ عَمَّا وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فَلَا وَجْهَ لِرُجُوعِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا جَعْلُهُمَا الْوَلَاءَ كُلَّهُ لِلْمُعْتِقِ لِلْحِصَّةِ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ فَكَانَ إعْتَاقُ بَعْضِهِ إعْتَاقَ كُلِّهِ. وَيَسْعَى فِي حَالَةِ إعْسَارِهِ حُرًّا مَدْيُونًا. وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِثْبَاتُهُ خِيَارَ الْإِعْتَاقِ لِلسَّاكِتِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْبَاقِي إذْ الْإِعْتَاقُ مُنْجَزٌ عِنْدَهُ فَلَا يَعْتِقُ الْبَاقِي بِعِتْقِ الْمُعْتِقِ نَصِيبَهُ (وَالتَّضْمِينِ) بِالْجَرِّ: أَيْ وَخِيَارُ التَّضْمِينِ لِلْمُعْتِقِ (لِأَنَّ الْمُعْتِقَ جَانٍ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ حَيْثُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ الْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِمْهَارِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (مِمَّا سِوَى الْإِعْتَاقِ وَتَوَابِعِهِ) مِنْ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالِاسْتِسْعَاءِ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى التَّضْمِينِ: أَيْ وَإِثْبَاتُ خِيَارِ الِاسْتِسْعَاءِ (لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّهُ احْتَبَسَ مَالِيَّةَ نَصِيبِهِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ فَصَارَ كَالسَّاكِتِ وَلِلسَّاكِتِ وِلَايَةُ الِاسْتِسْعَاءِ، فَكَذَا لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا قُتِلَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِهِ وَضَمِنَ لِلْمَالِكِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ وَلِلْمَالِكِ التَّضْمِينُ، فَكَذَا
وَيَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَقَدْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِالِاسْتِسْعَاءِ فَكَذَلِكَ لِلْمُعْتِقِ وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ضِمْنًا فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْكُلَّ لَهُ وَقَدْ عَتَقَ بَعْضُهُ فَلَهُ أَنْ يُعْتِقَ الْبَاقِيَ أَوْ يَسْتَسْعِيَ إنْ شَاءَ، وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ. وَفِي حَالِ إعْسَارِ الْمُعْتِقِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى لِمَا بَيَّنَّا، وَالْوَلَاءُ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُسْتَسْعِي عَلَى الْمُعْتِقِ بِمَا أَدَّى بِإِجْمَاعٍ بَيْنَنَا لِأَنَّهُ يَسْعَى لِفِكَاكِ رَقَبَتِهِ أَوْ لَا يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الْمُعْتَقِ إذْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعُسْرَتِهِ، بِخِلَافِ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ الْمُعْسِرُ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ أَوْ يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الْمُوسِرِ كَقَوْلِهِمَا. وَقَالَ فِي الْمُعْسِرِ: يَبْقَى نَصِيبُ السَّاكِتِ عَلَى مِلْكِهِ يُبَاعُ وَيُوهَبُ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى تَضْمِينِ
لِلْغَاصِبِ، وَلِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ كَعَبْدٍ خَاصٍّ بِهِ أَعْتَقَ بَعْضَهُ فَلَهُ عِتْقُ الْبَاقِي أَوْ اسْتِسْعَاؤُهُ.
وَقَوْلُهُ (ضَمِنَا) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ قَصْدًا حَتَّى لَوْ بَاعَ السَّاكِتُ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُعْتَقِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ قَصْدًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الثُّبُوتِ قَصْدًا عَدَمُهُ ضِمْنًا (وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ) غَايَتُهُ أَنَّ بَعْضَهُ بِبَدَلٍ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الْوَلَاءَ (وَ) أَمَّا (فِي حَالِ إعْسَارِ الْمُعْتِقِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ احْتِبَاسِ مِلْكِهِ (وَالْوَلَاءُ لَهُ) أَيْ لِلسَّاكِتِ: أَيْ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْتِقِ (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ (وَلَا يَرْجِعُ الْمُسْتَسْعَى) عَلَى الْمَفْعُولِ: أَيْ الْعَبْدُ (عَلَى الْمُعْتِقِ بِشَيْءٍ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَنَا) خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عِنْدَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ إذَا أَيْسَرَ، وَإِنَّمَا لَا يَرْجِعُ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُ يَسْعَى لِفِكَاكِ رَقَبَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ سَاعِيًا لِفِكَاكِ رَقَبَتِهِ فَلَيْسَ هُوَ بِسِعَايَتِهِ يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الْمُعْتِقِ إذْ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُعْتِقِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا (بِخِلَافِ) الْعَبْدِ (الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ الْمُعْسِرُ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ أَوْ يَقْضِي دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ فَلِذَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُعْتِقِ) إذَا أَيْسَرَ، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ مَا إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَأَبَتْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى خَمْرٍ مَثَلًا تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ فَاسْتَحَقَّتْ عَتَقَ وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ وَهُوَ حُرٌّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَإِنَّهُ يَسْعَى وَهُوَ رَقِيقٌ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ (وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُوسِرِ كَقَوْلِهِمَا وَقَالَ فِي الْمُعْسِرِ يَبْقَى نَصِيبُ السَّاكِتِ عَلَى مِلْكِهِ يُبَاعُ وَيُوهَبُ)
وَهَذَا قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ (وَجْهُهُ) عِنْدَهُ (أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَضْمِينِ
الشَّرِيكِ لِإِعْسَارِهِ وَلَا إلَى السِّعَايَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِجَانٍ وَلَا رَاضٍ بِهِ، وَلَا إلَى إعْتَاقِ الْكُلِّ لِلْإِضْرَارِ بِالسَّاكِتِ فَتَعَيَّنَ مَا عَيَّنَاهُ. قُلْنَا: إلَى الِاسْتِسْعَاءِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْجِنَايَةِ بَلْ تُبْتَنَى السِّعَايَةُ عَلَى احْتِبَاسِ الْمَالِيَّةِ فَلَا يُصَارُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُوَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالضَّعْفِ السَّالِبِ لَهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ.
قَالَ (وَلَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ سَعَى الْعَبْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فَصَارَ مُكَاتِبًا فِي زَعْمِهِ عِنْدَهُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِرْقَاقُ فَيَصْدُقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِ
الشَّرِيكِ لِإِعْسَارِهِ وَلَا لِاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَانٍ وَلَا رَاضٍ بِهِ، وَلَا لِإِعْتَاقِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِالسَّاكِتِ فَتَعَيَّنَ مَا عَيَّنَاهُ. قُلْنَا: نَخْتَارُ أَنْ يُسْتَسْعَى) قَوْلُهُ غَيْرُ جَانٍ إلَخْ. قُلْنَا: لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْجِنَايَةِ، بَلْ مَدَارُ لُزُومِهِ احْتِبَاسُ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَبْغِ الثَّوْبِ الْمُطَارِ، وَقَدْ يُتَمَسَّكُ لَهُ بِمَا رُوِيَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ «فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ وَرَقَّ مَا رَقَّ» . وَيُدْفَعُ بِأَنَّهَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الشَّأْنِ ضَعِيفَةٌ مَكْذُوبَةٌ، وَلَوْ ثَبَتَ لَزِمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِالرِّقِّ فِيهَا الْمِلْكَ مَجَازًا لِامْتِنَاعِ اتِّصَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ بِالْقُوَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالضَّعْفِ السَّالِبِ لَهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا بَلْ بِقَوْلِهِ " عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ " كِفَايَةً، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتِقْ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ، إنْ لَمْ يَلْزَمْ بَقَاءُ الْبَاقِي رَقِيقًا يَلْزَمُ بَقَاؤُهُ مَمْلُوكًا وَالْمِلْكُ هُوَ الْمُطْلَقُ لِلتَّصَرُّفِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قَوْلِهِ «فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا اسْتَسْعَى غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» يُوجِبُ اسْتِسْعَاءَهُ عِنْدَ إعْسَارِهِ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الشَّارِعِ مَعَ أَنَّ وَجْهَهُ مَا قَدَّمْنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ النَّافِينَ صِحَّةَ رِوَايَةِ الِاسْتِسْعَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ يُسْتَسْعَى إنْ اخْتَارَ ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ غَيْرُ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِدْلَال بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِهِ " لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ " فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ كُلِّهِ كَمَا قَالَا أَوْ عَدَمَ تَقَرُّرِهِ وَهُوَ الْأَوْلَى. وَإِذَا لَمْ يُقَرَّرْ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْسِرِ لَزِمَ الِاسْتِسْعَاءُ وَإِلَّا بَطَلَ حَقُّهُ مَجَّانًا جَبْرًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَالِاسْتِسْعَاءُ بِلَا جِنَايَةٍ فِي الشَّرْعِ ثَابِتٌ كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ الْمُعْسِرُ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ اضْطَرَّهُ إلَى فِكَاكِ رَقَبَتِهِ حَيْثُ حَكَمَ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ بِنَفَاذِ عِتْقِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَأَنْ لَا يُقِرَّ الْبَاقِي فِي الْمِلْكِ وَلَا يُذْهِبَ مَالَ السَّاكِتِ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُخْتَارٍ فِيهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ هُوَ كَقَوْلِهِمَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ مِنْ أَصْحَابِهِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ سَعَى الْعَبْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَعَتَقَ (وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فَصَارَ) الْعَبْدُ بِذَلِكَ (مُكَاتَبًا لَهُ) أَيْ فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ (وَيَزْعُمُ أَنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ اسْتِرْقَاقُهُ فَيَصْدُقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِ
وَيَسْتَسْعِيه لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحَقِّ الِاسْتِسْعَاءِ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صَادِقًا لِأَنَّهُ مُكَاتَبُهُ أَوْ مَمْلُوكُهُ فَلِهَذَا يَسْتَسْعِيَانِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْحَالَيْنِ فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ، لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ لِإِنْكَارِ الشَّرِيكِ
وَيَسْتَسْعِيه) إنْ شَاءَ أَوْ يُعْتِقُهُ (لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحَقِّ الِاسْتِسْعَاءِ كَاذِبًا كَانَ) فِي دَعْوَاهُ عِتْقُ الشَّرِيكِ (أَوْ صَادِقًا لِأَنَّهُ مُكَاتَبُهُ) إنْ كَانَ صَادِقًا (أَوْ مَمْلُوكَهُ) إنْ كَانَ كَاذِبًا (فَلِهَذَا يَسْتَسْعِيَانِهِ) أَمَّا فِي الصِّدْقِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْكَذِبِ فَلِتَمَكُّنِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمْرِ عَبْدِهِ أَنْ يَسْعَى وَيَأْتِيَهُ بِأَكْسَابِهِ (وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّ حَقَّهُ) أَيْ حَقَّ كُلٍّ مِنْهُمَا (فِي الْحَالَيْنِ) حَالِ يَسَارٍ الْآخَرِ وَإِعْسَارِهِ (فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ) السِّعَايَةِ أَوْ التَّضْمِينِ إلَّا أَنَّ فِي الْيَسَارِ حَقَّهُ فِي أَحَدِهِمَا مِنْ التَّضْمِينِ وَالسِّعَايَةِ غَيْرُ عَيْنٍ وَفِي الْإِعْسَارِ حَقُّهُ فِي أَحَدِهِمَا عَيْنًا وَهُوَ السِّعَايَةُ، وَهَذَا (لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ لِإِنْكَارِ الشَّرِيكِ) الْإِعْتَاقَ، وَشَهَادَةُ الْآخَرِ لَيْسَتْ
فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ وَهُوَ السِّعَايَةُ، وَالْوَلَاءُ لَهُمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقُولُ عَتَقَ نَصِيبُ صَاحِبِي عَلَيْهِ بِإِعْتَاقِهِ وَوَلَاؤُهُ لَهُ، وَعَتَقَ نَصِيبِي بِالسِّعَايَةِ وَوَلَاؤُهُ لِي.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبْرَأُ عَنْ سِعَايَتِهِ بِدَعْوَى الْعَتَاقِ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا، إلَّا أَنَّ الدَّعْوَى لَمْ تَثْبُتْ لِإِنْكَارِ الْآخَرِ وَالْبَرَاءَةُ عَنْ السِّعَايَةِ قَدْ ثَبَتَتْ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ (وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى لَهُمَا) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي السِّعَايَةَ عَلَيْهِ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ إذْ الْمُعْتِقُ مُعْسِرٌ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا سَعَى لِلْمُوسِرِ مِنْهُمَا) لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِإِعْسَارِهِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فَلَا يَتَبَرَّأُ عَنْهُ (وَلَا يَسْعَى لِلْمُعْسِرِ مِنْهُمَا) لِأَنَّهُ يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِيَسَارِهِ فَيَكُونُ مُبَرِّئًا لِلْعَبْدِ عَنْ السِّعَايَةِ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحِيلُهُ عَلَى
نَافِذَةً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فَرْدٌ وَيَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الشُّرَكَاءُ ثَلَاثَةً فَشَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ أَعْتَقَ لَمْ تُقْبَلْ لِلْمَعْنَى الثَّانِي فَإِنَّهُمَا يُثْبِتَانِ لِأَنْفُسِهِمَا حَقَّ التَّضْمِينِ أَوْ يَشْهَدَانِ لِعَبْدِهِمَا، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا مَا أَثْبَتْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بِاعْتِرَافِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ بِحُرْمَةِ اسْتِرْقَاقِهِ ضِمْنًا لِلشَّهَادَةِ (فَتَعَيَّنَ السِّعَايَةُ) وَهُوَ عَبْدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ.
وَأَوْرَدَ أَنَّ التَّضْمِينَ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ يَحْلِفُ، فَإِنْ نَكَلَ جَازَ التَّضْمِينُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اعْتِقَادُ كُلٍّ أَنَّ صَاحِبَهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَهُ يَحْلِفُ وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّحْلِيفِ لِأَنَّ الْمَآلَ إلَى السِّعَايَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنْ لَا تَحْلِيفَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَحِينَئِذٍ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صَادِقًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِصِدْقِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَقَالَ شَارِحٌ: هَذَا كُلُّهُ أَيْ تَعَيُّنُ اسْتِسْعَائِهِمَا الْعَبْدَ إلَخْ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلًّا يَدَّعِي عَلَى الْآخَرِ الضَّمَانَ وَالضَّمَانُ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ فَيُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَوْجَهُ، فَيَجِبُ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ لُزُومُ اسْتِسْعَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْعَبْدِ أَنَّهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَرَافَعَا إلَى قَاضٍ بَلْ خَاطَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِأَنَّك أَعْتَقْت نَصِيبَك وَهُوَ يُنْكِرُ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَ حُكْمُهَا إلَّا الِاسْتِسْعَاءَ، أَمًّا لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا التَّضْمِينَ أَوْ أَرَادَاهُ وَنَصِيبُهُمَا مُتَفَاوِتٌ فَتَرَافَعَا أَوْ رَفَعَهُمَا ذُو حِسْبَةٍ فِيمَا لَوْ اسْتَرَقَّاهُ بَعْدَ قَوْلِهِمَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ سَأَلَهُمَا فَأَجَابَا بِالْإِنْكَارِ فَحَلَفَا لَا يَسْتَرِقُّ لِأَنَّ كُلًّا يَقُولُ: إنَّ صَاحِبَهُ حَلَفَ كَاذِبًا وَاعْتِقَادُهُ أَنَّ الْعَبْدَ يَحْرُمُ اسْتِرْقَاقُهُ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِسْعَاؤُهُ، وَلَوْ اعْتَرَفَا أَنَّهُمَا عَتَقَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ كُلٌّ الْآخَرَ إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، وَلَا يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ مِنْ جِهَتِهِمَا، وَلَوْ اعْتَرَفَ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ يَجِبُ أَنْ يَحْلِفَ لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً، فَإِنَّهُ إنْ نَكَلَ صَارَ مُعْتَرِفًا أَوْ بَاذِلًا فَصَارَا مُعْتَرِفَيْنِ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ سِعَايَةٌ كَمَا قُلْنَا.
(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ) لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا (لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَبَرَّأُ عَنْ سِعَايَتِهِ) وَإِنَّمَا يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ (لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّ الدَّعْوَى لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ لِإِنْكَارِهِ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ السِّعَايَةِ قَدْ ثَبَتَتْ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ) بِثُبُوتِ سَبَبِهَا حَيْثُ أَقَرَّ بِعِتْقِ الشَّرِيكِ مَعَ يَسَارِهِ (وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى لَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي السِّعَايَةَ عَلَيْهِ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا) لِفَرْضِ أَنَّ الْمُعْتِقَ مُعْسِرٌ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) أَيْ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ مُكَاتَبًا بَلْ حُرٌّ مَدْيُونٌ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا سَعَى لِلْمُوسِرِ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِإِعْسَارِهِ وَإِنَّمَا يَدَّعِي السِّعَايَةَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَبَرَّأُ عَنْهُ، وَلَا يَسْعَى لِلْمُعْسِرِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِيَسَارِهِ فَيَكُونُ مُبَرِّئًا لِلْعَبْدِ مِنْ السِّعَايَةِ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحِيلُهُ)
صَاحِبِهِ وَهُوَ يَتَبَرَّأُ عَنْهُ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إعْتَاقِ أَحَدِهِمَا.
(وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ هَذِهِ الدَّارَ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ دَخَلَ فَهُوَ حُرٌّ فَمَضَى الْغَدُ وَلَا يُدْرَى أَدَخَلَ أَمْ لَا عَتَقَ النِّصْفُ وَسَعَى لَهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ) لِأَنَّ الْمُقْضَى عَلَيْهِ بِسُقُوطِ السِّعَايَةِ مَجْهُولٌ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ
أَيْ يُثْبِتُهُ (لِصَاحِبِهِ) حَيْثُ ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ وَالْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ: أَيْ لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا مَا لَا يَتَجَزَّأُ أَصْلًا مِنْ زَوَالِ الرِّقِّ (وَهُوَ) أَيْ صَاحِبُهُ (يَتَبَرَّأُ عَنْهُ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إعْتَاقِ أَحَدِهِمَا) فَلَوْ لَمْ يَتَّفِقَا حَتَّى مَاتَ وَجَبَ أَنْ يَأْخُذَهُ بَيْتُ الْمَالِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ) فِي عَبْدٍ (إنْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ) يَعْنِي الْعَبْدَ (الدَّارَ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ دَخَلَهَا غَدًا فَهُوَ حُرٌّ، فَمَضَى الْغَدُ وَلَا يُدْرَى أَدَخَلَ أَمْ لَا عَتَقَ النِّصْفُ وَسَعَى لَهُمَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ) بَيْنَهُمَا (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) عَلَى تَفْصِيلٍ يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْعَى فِي النِّصْفِ لَهُمَا إذَا كَانَا مُعْسِرَيْنِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا يَسْعَى فِي الرُّبْعِ لِلْمُوسِرِ، وَلَوْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَا يَسْعَى لِأَحَدٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَيَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ أَوْ لَا يَمْنَعُهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي سَبَقَ، فَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا النِّصْفُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ) لَهُمَا إنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، وَبِنِصْفِهِ لِلْمُوسِرِ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا، وَلَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، وَهَذِهِ عَلَى وِزَانِ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ أَعْنِي إقْرَارَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ، وَهُنَاكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا وَالْآخَرُ مُوسِرًا لَا يَسْعَى إلَّا لِلْمُوسِرِ، فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا لِأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُ السِّعَايَةَ أَبَدًا يَكُونُ هُوَ السَّاكِتُ وَالْآخَرُ مُعْتِقٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا فَإِنَّهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ تَضْمِينِ الْمُعْسِرِ فَيَأْخُذُ السِّعَايَةَ وَعَلَى إنْزَالِ الْمُعْسِرِ هُوَ السَّاكِتُ فَزَعْمُهُ أَنْ لَا سِعَايَةَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ الْمُوسِرِ وَتَضْمِينُهُ مُتَعَذِّرٌ لِلشَّكِّ فِي أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ شَرْطِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى شَيْءٍ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَإِنَّ كُلًّا يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُ تَضْمِينُ الْآخَرِ لَيْسَ غَيْرُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ فَلَا تَضْمِينَ وَلَا سِعَايَةَ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِسُقُوطِ السِّعَايَةِ مَجْهُولٌ) وَهُوَ الَّذِي تَحَقَّقَ شَرْطُهُ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ عِتْقُ الْعَبْدِ (وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ) وَلَا التَّوْزِيعُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَقَعْ شَرْطُهُ وَلَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ مِنْ جِهَتِهِ وَإِعْطَائِهِ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ شَرْطُهُ وَعَتَقَ مِنْ جِهَتِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ
فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ لِلْجَهَالَةِ، كَذَا هَذَا. وَلَهُمَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِسُقُوطِ نِصْفِ السِّعَايَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَانِثٌ بِيَقِينٍ، وَمَعَ التَّيَقُّنِ بِسُقُوطِ النِّصْفِ كَيْفَ يُقْضَى بِوُجُوبِ الْكُلِّ، وَالْجَهَالَةُ تَرْتَفِعُ بِالشُّيُوعِ وَالتَّوْزِيعِ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ لَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ وَنَسِيَهُ وَمَاتَ قَبْلَ التَّذَكُّرِ أَوْ الْبَيَانِ، وَيَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ أَوْ لَا يَمْنَعُهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي سَبَقَ.
(وَلَوْ حَلَفَا عَلَى عَبْدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ
لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْمُعَيَّنِ فَلَمْ يُنَافِهِ التَّوْزِيعُ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ لِلْجَهَالَةِ) فَكَذَا لَا يُقْضَى بِسُقُوطِ شَيْءٍ لِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِسُقُوطِ شَيْءٍ وَجَبَ الْكُلُّ.
(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِسُقُوطِ نِصْفِ السِّعَايَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حَانِثٌ بِيَقِينٍ. وَمَعَ التَّيَقُّنِ بِالسُّقُوطِ كَيْفَ يُقْضَى بِهِ، وَالْجَهَالَةُ) الْمَانِعَةُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالسُّقُوطِ (تَرْتَفِعُ بِالشُّيُوعِ) أَيْ شُيُوعِ النِّصْفِ الَّذِي عَتَقَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكَيْنِ (وَتَوْزِيعُهُ) عَلَيْهِمَا فَصَارَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالسُّقُوطِ الْمَوْلَيَيْنِ فَلَا جَهَالَةَ فِي الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ لَوْ قُضِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِلضَّرُورَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّوْزِيعِ وَهُوَ عَدَمُ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا بِتَمَامِهِ وَكَوْنُ التَّعْيِينِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَمْنَعُ التَّوْزِيعَ مُنْتَفٍ بِمَا فِي كِتَابِ التَّحَرِّي: عَشْرَةُ رِجَالٍ لِكُلٍّ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ جَارِيَتَهُ ثُمَّ صَارَ لَا يُدْرَى الْمُعْتِقُ وَلَا الْمُعْتَقَةُ ثُمَّ اجْتَمَعْنَ فِي مِلْكِ وَاحِدٍ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِنَّ وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي تِسْعَةِ أَعْشَارِ قِيمَتِهَا، وَصَارَ (كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ لَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ وَنَسِيَهُ وَمَاتَ قَبْلَ التَّذَكُّرِ) فِي الثَّانِي (أَوْ الْبَيَانُ) فِي الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْعِتْقَ يُوَزَّعُ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلٍّ نِصْفَهُ وَيَسْعَى فِي قِيمَةِ نِصْفِهِ لِلْوَرَثَةِ. وَقَيْدُ مَوْتِهِ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمُتْ إنَّمَا يُطَالَبُ بِالْبَيَانِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلِ الْوَارِثِ يُقَامُ مَقَامُهُ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ الْوِرَاثَةِ فِيمَا لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْعُ فِيهِ وِرَاثَةً فِي الثَّانِي وَإِسْقَاطُ جَمِيعِ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ فِي الْأَوَّلِ وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ لِلضَّرُورَةِ أَوَّلًا. وَقِيلَ: إنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقْضَى عَلَيْهِ لَا تَمْنَعُ الْقَضَاءَ إذَا كَانَ الْمُقْضَى لَهُ مَعْلُومًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَمَاتَ بِلَا بَيَانٍ سَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُقْضَى عَلَيْهَا مِنْهُنَّ مَجْهُولَةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُقْضَى لَهُ مَعْلُومًا جَازَ الْقَضَاءُ، كَذَا هُنَا الْمُقْضَى لَهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْعَبْدُ. وَهَذَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِكُلٍّ إلَى آخِرِ النَّهَارِ. .
(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَا عَلَى عَبْدَيْنِ إلَخْ) يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ السَّابِقَةِ، وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى عَبْدٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ كُلٌّ عَلَى عَبْدٍ لَهُ غَيْرِ الْآخَرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنْ دَخَلَ فُلَانٌ غَدًا فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ
مِنْهُمَا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ مَجْهُولٌ، وَكَذَلِكَ الْمَقْضِيَّ لَهُ فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ فَامْتَنَعَ الْقَضَاءُ، وَفِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَالْمَقْضِيِّ بِهِ مَعْلُومٌ فَغَلَبَ الْمَعْلُومُ الْمَجْهُولَ.
(وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ ابْنَ أَحَدِهِمَا عَتَقَ نَصِيبُ الْأَبِ) لِأَنَّهُ مَلَكَ شِقْصَ قَرِيبِهِ وَشِرَاؤُهُ إعْتَاقٌ عَلَى مَا مَرَّ (وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) عَلِمَ الْآخَرُ أَنَّهُ ابْنُ شَرِيكِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (وَكَذَا إذَا وَرِثَاهُ، وَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: فِي الشِّرَاءِ يَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الِابْنُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِ أَبِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا مَلَكَا، بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَاهُ رَجُلَانِ وَأَحَدُهُمَا قَدْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ اشْتَرَى نِصْفَهُ.
الْآخَرُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَضَى الْغَدُ وَلَمْ يَدْرِ الدُّخُولَ وَعَدَمَهُ (لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) وَلَا شَيْءَ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ الْكُلِّ (لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ) بِعِتْقِ عَبْدِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ (مَجْهُولٌ وَالْمَقْضِيَّ لَهُ وَهُوَ الْمُعْتِقُ مَجْهُولٌ فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ فَامْتَنَعَ الْقَضَاءُ) وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا إنْسَانٌ صَحَّ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا يَحْنَثُ أَحَدُ الْمَالِكَيْنِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَبِيعُ عَبْدَهُ، وَزَعْمَ الْمُشْتَرِي فِي الْعَبْدِ قَبْلَ مِلْكِهِ لَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ وَمَوْلَاهُ يُنْكِرُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّ، وَإِذَا صَحَّ شِرَاؤُهُ لَهُمَا وَاجْتَمَعَا فِي مِلْكِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ زَعْمَهُ مُعْتَبَرٌ الْآنَ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ. وَلَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ ثُمَّ قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ كَانَ دَخَلَ الْيَوْمَ عَتَقَ وَطَلُقَتْ، لِأَنَّ بِالْيَمِينِ الْأَوَّلِ هُوَ مُقِرٌّ بِوُجُودِ شَرْطِ الثَّانِيَةِ، وَبِالثَّانِيَةِ صَارَ مُقِرًّا بِوُجُودِ شَرْطِ الْأُولَى. وَقِيلَ لَمْ يُعْتِقْ وَلَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ الدُّخُولِ وَالْآخَرَ بِوُجُودِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ تَحَقُّقُهُ وَعَدَمُ تَحَقُّقِهِ. قُلْنَا: ذَاكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: إنْ لَمْ يَدْخُلْ فَعَبْدِي حُرٌّ، بِخِلَافِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ الْمُمَارِي فِي الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ فِي الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَحَقِيقَةُ شَرْطِهِ ظُهُورُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمَاضِي، وَكَذَا إنْ كَانَ دَخَلَ بِخِلَافِ إنْ دَخَلَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتِقُ وَلَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ صَارَ مُقِرًّا بِنُزُولِ الْعِتْقِ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الثَّانِيَةِ مَا يُوجِبُ إقْرَارَهُ بِنُزُولِ الطَّلَاقِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ ابْنَ أَحَدِهِمَا) بِعَقْدٍ وَاحِدٍ بِأَنْ خَاطَبَ الْبَائِعُ الْأَبَ وَالْآخَرَ مَعًا بِأَنْ قَالَ بِعْتُكُمَا هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا فَقَبِلَا (عَتَقَ نَصِيبُ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَلَكَ شِقْصًا مِنْ ابْنِهِ) فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ مُوسِرًا سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّرِيكُ أَنَّهُ ابْنُ الْآخَرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَكِنْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِ أَبِيهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَأَجْمَعُوا أَنَّهُمَا لَوْ وَرِثَاهُ لَا يَضْمَنُ الْأَبُ، وَكَذَا فِي كُلِّ قَرِيبٍ يَعْتِقُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ رحمهم الله لِعَدَمِ الصُّنْعِ مِنْهُ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: أَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ» إلَخْ يُفِيدُ كَوْنَ الْعِتْقِ اخْتِيَارِيًّا (وَقَالَ: فِي الشِّرَاءِ يَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الِابْنُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا مَلَكَاهُ بِهِبَةٍ)
مَعًا (أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَعَلَى هَذَا) الْخِلَافُ أَيْضًا (إذَا اشْتَرَاهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ اشْتَرَى نِصْفَهُ) أَمَّا لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ اشْتَرَاهُ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَهُوَ
لَهُمَا أَنَّهُ أَبْطَلَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَلَهُ أَنَّهُ رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ فَلَا يُضَمِّنُهُ، كَمَا إذَا أَذِنَ لَهُ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ صَرِيحًا، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ الْعِتْقِ وَهُوَ الشِّرَاءُ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا،
شِرَاءُ كُلِّهِ (لَهُمَا أَنَّهُ) أَيْ الْأَبَ (أَبْطَلَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالْإِعْتَاقِ) الِاخْتِيَارِيِّ لِتَرَتُّبِهِ عَلَى الشِّرَاءِ وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ (وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ) لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ وَهُوَ وُقُوعُ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ مُخْتَارًا فِيهِ.
وَلَهُ أَنَّ شَرْطَ التَّضْمِينِ مَعَ الْعِتْقِ الِاخْتِيَارِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ بِرِضَا مَنْ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ، وَلَمَّا بَاشَرَ الْعَقْدَ مَعَهُ مُخْتَارًا وَهُوَ عِلَّةُ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْعِتْقِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ كَانَ رَاضِيًا بِإِفْسَادِ نَصِيبِ نَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَذِنَ لَهُ بِإِعْتَاقِهِ صَرِيحًا. وَعُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعِلَّةِ فِي قَوْلِهِ شَارَكَهُ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ الْعِتْقِ عِلَّةُ الْعِلَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إعْتَاقَهُ يَثْبُتُ اخْتِيَارِيًّا بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ إذَا نَوَى بِالشِّرَاءِ عِتْقَهُ عَنْهَا.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ إنْ ضَرَبْته فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَاهُ بِمُبَاشَرَتِهِ شَرْطَ الْعِتْقِ رِضًا بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَيْسَ عِلَّةَ الْوُقُوعِ بَلْ الْعِلَّةُ هِيَ قَوْلُ الشَّرِيكِ هُوَ حُرٌّ الْوَاقِعُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ، بِخِلَافِ قَبُولِ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ الْعَقْدُ، وَكُلُّ مَنْ بَاشَرَهُ فَهُوَ مُبَاشِرٌ عِلَّةَ الْعِتْقِ. وَلَوْ قِيلَ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ أَلَيْسَ أَنَّهُ يُفِيدُ رِضَاهُ بِوُقُوعِ الْجَزَاءِ وَالْمَدَارُ هُوَ وُجُودُ دَلَالَةِ الرِّضَا. قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ لَهُ تَأْدِيبَ عَبْدِهِ إذَا اقْتَضَاهُ حَالُهُ، وَمَنْعُهُ مِنْهُ ضَرَرٌ لَا يَلْزَمُهُ بِإِلْزَامِهِ إيَّاهُ، فَحَلِفُهُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَضْرِبَهُ ظُلْمٌ مِنْهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ يَبْطُلْ حَقُّهُ فِي التَّضْمِينِ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ ضَرَبْت هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ ظُلْمًا فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ حَتَّى عَتَقَ لَيْسَ لَهُ تَضْمِينُهُ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ بِخِلَافِهِ.
وَأَمَّا مَا أَوْرَدَ مِنْ مَنْعِ أَنَّ مُبَاشَرَتَهُ لِلْعَقْدِ رِضًا لِأَنَّهُ ضَرَرٌ وَالْعَاقِلُ لَا يَرْضَى بِهِ وَلِأَنَّ وَضْعَهُ لِإِثْبَاتِ مِلْكِهِ لَا لِزَوَالِهِ فَمَدْفُوعٌ بِالضَّرُورَةِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَ فِعْلِ كَذَا يَثْبُتُ كَذَا ثُمَّ فَعَلَهُ مُخْتَارًا جَزَمَ الْعَقْلُ بِأَنَّهُ رِضًا مِنْهُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَتَحْقِيقُ الْمِلْكِ قَدْ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ إثْبَاتَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَلِلْعَاقِلِ فِي ذَلِكَ أَغْرَاضٌ صَحِيحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مِنْ اسْتِفَادَةِ الْمَدْحِ وَالْوَلَاءِ، وَقَدْ تَكُونُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ وَأُخْرَوِيَّةٍ مِنْ الْأَجْرِ. لَا يُقَالُ: رِضَا الْأَبِ بِالشِّرَاءِ رِضًا بِالْإِعْتَاقِ وَالرِّضَا بِالْإِعْتَاقِ رِضًا بِالضَّمَانِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يُثْبِتُهُ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا وَاخْتَارَ السَّاكِتُ التَّضْمِينَ فَكَيْفَ يَنْفِيهِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: كَوْنُهُ رِضًا بِالضَّمَانِ لَا يُوجِبُ إمْكَانَ تَضْمِينِ الْآخَرِ لَهُ، إلَّا إذَا لَمْ
وَهَذَا ضَمَانُ إفْسَادٍ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا حَتَّى يَخْتَلِفَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَيَسْقُطَ بِالرِّضَا، وَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى السَّبَبِ، كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: كُلْ هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْآمِرِ وَلَا يَعْلَمُ الْآمِرُ بِمِلْكِهِ. .
يَكُنْ رِضًا بِإِعْتَاقِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا إيرَادُهُ عَلَى قَوْلِهِمَا هَكَذَا الْإِعْتَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِعْتَاقُ الْبَعْضِ إعْتَاقُ الْكُلِّ، وَلَا يُمْكِنُ إعْتَاقُ الْكُلِّ إلَّا بِتَمَلُّكِ نَصِيبِ الْآخَرِ، وَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِالضَّمَانِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَمَلُّكٌ ضِمْنِيٌّ فَلَا تَوَجُّهَ لَهُ هُنَا.
(قَوْلُهُ وَهَذَا ضَمَانُ إفْسَادٍ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَوْنُهُ رَضِيَ بِإِعْتَاقِ شَرِيكِهِ لَا يُوجِبُ إسْقَاطَ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ يَصِحُّ وَيَجِبُ الضَّمَانُ فَقَالَ ذَلِكَ فِي ضَمَانِ التَّمَلُّكِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ ضَمَانُ إفْسَادٍ، وَبَسْطُهُ أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْعِتْقِ ضَمَانَانِ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ وَلَا يُسْقِطُهُ الرِّضَا بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ ضَمَانُ الِاسْتِيلَادِ، فَلَوْ اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ لَا يَسْقُطُ ضَمَانُهَا لَهُ، وَمِنْ حُكْمِ ضَمَانِ التَّمَلُّكِ أَيْضًا أَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا ضَمَانَ الِاسْتِيلَادِ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ لِأَنَّ وَضْعَ الِاسْتِيلَادِ لِطَلَبِ الْوَلَدِ وَهُوَ يَسْتَدْعِي التَّمَلُّكَ فَأَثْبَتْنَاهُ.
وَضَمَانُ إتْلَافٍ وَهُوَ ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ، وَيُقَالُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَلَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ فِي عِتْقِ الْإِنْسَانِ مَا يَمْلِكُهُ لِلَّهِ سبحانه وتعالى حَتَّى يُثَابَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُفْسِدُ بِهِ نَصِيبَ الشَّرِيكِ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَضَمَانُ إفْسَادٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي هَذَا الْإِفْسَادِ نَعَمْ لَوْ قَصَدَ بِعِتْقِهِ قَصْدًا فَاسِدًا أَثِمَ بِهِ أَمَّا وَضْعُ الْعِتْقِ فَلَيْسَ مُقْتَضِيًا لُزُومَهُ، ثُمَّ كَوْنُ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ ضَمَانَ إتْلَافٍ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ عُلَمَائِنَا وَيَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بَيْنَ عِلْمِ الشَّرِيكِ بِالْإبْنِيَّةِ وَعَدَمِهَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّرِيكِ عَالِمًا بِالْإبْنِيَّةِ فَلَا يَضْمَنُ الْأَبُ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ فَنُضَمِّنُهُ، لِأَنَّ رِضَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِحَقِّهِ فِي التَّضْمِينِ مُبَاشَرَتُهُ لِسَبَبِ إسْقَاطِهِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِعِلْمِهِ وَجَهْلِهِ، كَمَا إذَا أَطْعَمَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالُهُ سَقَطَ تَضْمِينُهُ الْغَاصِبَ. وَالنَّظِيرُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْآمِرِ وَلَا يَعْلَمُ الْآمِرُ بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْآكِلُ إذَا عَلِمَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ ضَمَانُ الْإِتْلَافِ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، أَلَّا يُرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ لَا يَتَقَيَّدُ ضَمَانُهُ بِكَوْنِهِ مُوسِرًا.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ أَسْلَفْت أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ إلَّا الِاسْتِسْعَاءُ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ مُحْتَبَسُ حَقِّ السَّاكِتِ وَالْمَذْكُورُ هُنَا أَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ
(وَإِنْ بَدَأَ الْأَجْنَبِيُّ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ ثُمَّ اشْتَرَى الْأَبُ نِصْفَهُ الْآخَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَالْأَجْنَبِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَبَ) لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الِابْنَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ) لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ. وَقَالَا: لَا خِيَارَ لَهُ وَيَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِأَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا.
(وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ ابْنِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُوسِرًا) وَمَعْنَاهُ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ كُلَّهُ فَلَا يَضْمَنُ لِبَائِعِهِ شَيْئًا عِنْدَهُ، وَالْوَجْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ.
(وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ) فَأَرَادُوا الضَّمَانَ فَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ قِنًّا وَلَا يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ.
التَّضْمِينُ لِلْإِتْلَافِ. قُلْنَا: قَدْ حُكِيَ خِلَافٌ فِي الْقِيَاسِ مَا هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْقِيَاسِ الِاسْتِسْعَاءَ هُوَ أَقْرَبُ الْقِيَاسَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاحْتِبَاسِ عِنْدَ الْعَبْدِ وَعَدَمِ جِنَايَةِ الْمُعْتِقِ وَلِذَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِفَرْضِ وُرُودِ النَّصِّ عَلَى خِلَافِ إطْلَاقِ مُقْتَضَاهُمَا مِنْ الِاسْتِسْعَاءِ وَإِنَّمَا التَّضْمِينُ دَائِمًا. وَكُلُّ قِيَاسٍ خَالَفَهُ النَّصُّ فَهُوَ بَاطِلٌ سَوَاءٌ ظَهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الْمُوَافِقُ لِلنَّصِّ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ.
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُنَا هُوَ عَلَى مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ أَوْ صَلَاتِهِ قَادِرًا عَلَى إتْمَامِهِ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَمْ يَجِبْ وَوَجَبَ لَهُ أَجْرٌ قَدْرَ عَمَلِهِ وَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فَارْجِعْ إلَيْهِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ بَدَأَ الْأَجْنَبِيُّ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ ثُمَّ اشْتَرَى الْأَبُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَالْأَجْنَبِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَبَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ) لِأَنَّ دَلَالَةَ ذَلِكَ مَا كَانَ إلَّا قَبُولُهُ الْبَيْعَ مَعَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا فَلِذَا وَقَعَ اتِّفَاقُهُمْ هُنَا أَنَّهُ يَضْمَنُهُ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الِابْنُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَحْدَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ لَا يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُ (وَقَالَا: لَا خِيَارَ لَهُ) أَيْ لِلْأَجْنَبِيِّ، بَلْ يَتَعَيَّنُ التَّضْمِينُ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ يَسَارَ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ عِنْدَهُمَا.
(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ ابْنِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِلْبَائِعِ (وَقَالَا: إنْ كَانَ مُوسِرًا يَضْمَنُ، وَمَعْنَاهُ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ كُلَّهُ وَالْوَجْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ) وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ وَالرِّضَا بِعِتْقِ نَصِيبِهِ يَمْنَعُ التَّضْمِينَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَإِلَّا فَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْبَيْعَ مِمَّنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ رِضًا بِعِتْقِ نَصِيبِهِ بَلْ ذَكَرَ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهُوَ أَنَّ الرِّضَا يَمْنَعُ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ) فَأَرَادَ كُلٌّ مِنْ السَّاكِتِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ وَلَمْ يُدَبِّرْ وَالْمُدَبِّرُ الضَّمَانَ وَهُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (فَأَرَادُوا الضَّمَانَ فَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ) ثُلُثَ قِيمَةِ الْعَبْدِ قِنًّا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ شَيْئًا، وَإِذَا ضَمِنَ الْمُدَبِّرُ الثُّلُثَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ إنْ شَاءَ عَلَى وَزَانَ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ مُوسِرٌ حِصَّتَهُ
(وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَلَا يُضَمِّنَهُ الثُّلُثَ الَّذِي ضَمِنَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلَّذِي دَبَّرَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا كَالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِهِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ اقْتَصَرَ عَلَى نَصِيبِهِ، وَقَدْ أَفْسَدَ بِالتَّدْبِيرِ نَصِيبَ الْآخَرَيْنِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُدَبِّرَ نَصِيبَهُ أَوْ يُعْتِقَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ أَوْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَاسِدٌ بِإِفْسَادِ شَرِيكِهِ حَيْثُ سَدَّ عَلَيْهِ طُرُقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ بَيْعًا وَهِبَةً عَلَى مَا مَرَّ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْعِتْقَ تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهُ غَيْرَهُ فَتَوَجَّهَ لِلسَّاكِتِ سَبَبُ ضَمَانِ تَدْبِيرِ الْمُدَبَّرِ وَإِعْتَاقِ هَذَا الْمُعْتَقِ، غَيْرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ لِيَكُونَ الضَّمَانُ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ إذْ هُوَ الْأَصْلُ
فَضَمَّنَهُ السَّاكِتُ حَيْثُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. .
(وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَلَا يُضَمِّنَهُ الثُّلُثَ الَّذِي ضَمِنَ) أَعْنِي ثُلُثَهُ قِنًّا (وَهَذَا) كُلُّهُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلَّذِي دَبَّرَهُ أَوَّلًا وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا وَأَصْلُ هَذَا) الْخِلَافِ (أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْعِتْقِ) إذْ هُوَ عِتْقٌ مُضَافٌ (فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِهِ، وَلَمَّا كَانَ التَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ اقْتَصَرَ عَلَى نَصِيبِهِ وَقَدْ أَفْسَدَ بِالتَّدْبِيرِ نَصِيبَ الْآخَرَيْنِ) حَيْثُ امْتَنَعَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْبَيْعُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْهَارِ (فَثَبَتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسُ خِيَارَاتٍ
) أَنْ يُدَبِّرَ نَصِيبَهُ أَوْ يُعْتِقَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ أَوْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَاسِدٌ بِإِفْسَادِ شَرِيكِهِ حَيْثُ سَدَّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، (فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْعِتْقَ تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهُ غَيْرَهُ فَتَوَجَّهَ لِلسَّاكِتِ) هُوَ الثَّالِثُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ وَلَمْ يُدَبِّرْ (سَبَبَا ضَمَانٍ) أَحَدُهُمَا (تَدْبِيرُ الْمُدَبِّرِ) الَّذِي أَفْسَدَ عَلَيْهِ مَا أَفْسَدَ (وَ) الْآخَرُ (عِتْقُ هَذَا الْمُعْتِقِ) فَإِنَّهُ تَغَيُّرُ نَصِيبِ الْمُدَبِّرِ وَالسَّاكِتِ حَيْثُ كَانَ لَهُمَا وِلَايَةُ الِاسْتِخْدَامِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَبَطَلَ ذَلِكَ بِعِتْقِ الْمُعْتِقِ حَيْثُ اسْتَحَقَّ بِهِ الْعَبْدُ خُرُوجَهُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ أَوْ التَّضْمِينِ (غَيْرَ أَنَّ) السَّاكِتَ لَهُ (تَضْمِينُ الْمُدَبِّرِ) لَيْسَ غَيْرُ (لِيَكُونَ الضَّمَانُ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ إذْ هُوَ الْأَصْلُ) فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَعْتَدِلُ جَانِبَا الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ لَهُ.
فَإِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْمَضْمُونُ لَهُ بَدَلَ مِلْكِهِ
حَتَّى جُعِلَ الْغَصْبُ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ عَلَى أَصْلِنَا، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ فِي التَّدْبِيرِ لِكَوْنِهِ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَقْتَ التَّدْبِيرِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُكَاتَبٌ أَوْ حُرٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْمَكَاتِبِ بِفَسْخِهِ حَتَّى يَقْبَلَ الِانْتِقَالَ
وَجَبَ فِي تَحْقِيقِ الْمُعَادَلَةِ أَنْ يَمْلِكَ مُعْطِيهِ وَهُوَ الضَّامِنُ مَا دَفَعَ بَدَلَهُ، فَحَيْثُ أَمْكَنَ هَذَا لَا يَعْدِلُ عَنْهُ (وَلِهَذَا كَانَ ضَمَانُ الْغَصْبِ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ عَلَى أَصْلِنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ جَعَلَهُ ضَمَانَ إتْلَافٍ، فَإِذَا جَعَلَ الضَّمَانَ فِيمَا هُوَ عُدْوَانٌ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ فَفِي الْعِتْقِ وَشُعَبِهِ مِنْ التَّدْبِيرِ وَنَحْوِهِ أَوْلَى، وَهَذَا يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْت لَك فِي قَوْلِهِمْ ضَمَانُ جِنَايَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهِمْ إيَّاهُ ضَمَانَ جِنَايَةٍ مَا فِي قَاضِي خَانْ: لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ وَقَضَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ عَادَ فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ مُرَابَحَةً عَلَى الْقِيمَةِ الَّتِي أَدَّاهَا، وَالْمُرَابَحَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ، وَكَذَا لَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَاكْتَسَبَ عِنْدَهُ أَكْسَابًا ثُمَّ أَبَقَ وَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى مَاتَ كَانَتْ الْأَكْسَابُ لِلْغَاصِبِ لِصَيْرُورَتِهِ مِلْكًا لَهُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صِحَّةُ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِالْغَصْبِ فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِتْلَافَاتِ مُؤَخَّرٌ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ ضَمَانِ الْمُعَاوَضَةِ مَا أَمْكَنَ وَجَبَ هُنَا لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ (لِكَوْنِهِ) أَيْ نَصِيبِ السَّاكِتِ (قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ) فِي الْمَضْمُونِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ فَامْتَنَعَ جَعْلُ الْعِتْقِ الْكَائِنِ بَعْدَهُ سَبَبًا لِضَمَانِ الْمُعَاوَضَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْعَبْدَ (عِنْدَ ذَلِكَ مُدَبَّرٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حُرٌّ (أَوْ مُكَاتَبٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْمَكَاتِبِ بِفَسْخِهِ حَتَّى يَقْبَلَ الِانْتِقَالَ).
فَقَالَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ وَلَدُ الْمُصَنِّفِ: هُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ عِنْدَ
فَلِهَذَا يَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ، ثُمَّ لِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مُدَبَّرًا، وَالضَّمَانُ يَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْمُتْلَفِ، وَقِيمَةُ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَا قِيمَتِهِ قِنًّا عَلَى مَا قَالُوا.
الْإِعْتَاقِ لَيْسَ حُرًّا وَلَا مُكَاتَبًا، بَلْ بَعْدَ الْعِتْقِ يَصِيرُ كَذَلِكَ، وَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَكِنْ لَا تَنْفَسِخُ هَذِهِ الْكِتَابَةُ بِالْعَجْزِ وَلَا بِالتَّفَاسُخِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُعْتِقِ لِلسَّاكِتِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ إذْ لَا يُمْكِنُ مِلْكُ هَذَا الْمَضْمُونِ فَكَانَ ضَمَانَ إفْسَادٍ (فَلِهَذَا يُضَمِّنُ) السَّاكِتُ (الْمُدَبِّرَ) لَيْسَ غَيْرُ (ثُمَّ لِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ إنَّمَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مُدَبَّرًا) فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ كَانَ مُتَمَكِّنًا قَبْلَ عِتْقِهِ مِنْ اسْتِخْدَامِهِ وَإِجَارَتِهِ وَإِعَارَتِهِ إلَى مَوْتِهِ فَامْتَنَعَ بِعِتْقِهِ كُلُّ ذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى الْإِفْسَادِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَفْسَدَهُ مُدَبَّرًا وَالْمُدَبَّرُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى لَوْ كَانَ مُدَبَّرًا لِشَرِيكَيْنِ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ ضَمِنَ نَصِيبَ الْآخَرِ مُدَبِّرًا وَإِنْ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ بِالضَّمَانِ (قَوْلُهُ وَقِيمَةُ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَا قِيمَتِهِ قِنًّا) فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِنًّا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا ضَمِنَ لَهُ سِتَّةَ دَنَانِيرَ لِأَنَّ ثُلُثَيْهَا وَهِيَ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثُهَا وَهُوَ الْمَضْمُونُ سِتَّةٌ.
(قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا) طَرِيقَتُهُ فِي مِثْلِهِ الْإِشْعَارُ بِالْخِلَافِ، فَقِيلَ قِيمَتُهُ قِيمَتُهُ قِنًّا وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْقِيَمَ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْمَنَافِعِ الْمُمْكِنَةِ، وَقِيلَ نِصْفُ قِيمَتِهِ قِنًّا لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِالْمَمْلُوكِ بِعَيْنِهِ وَبَدَلِهِ وَفَاتَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: تَقُومُ خِدْمَتُهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ حَزْرًا فِيهِ فَمَا بَلَغَتْ فَهِيَ قِيمَتُهُ، وَقِيلَ ثُلُثُ قِيمَتِهِ قِنًّا لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْوَطْءِ وَالسِّعَايَةِ وَالْبَدَلِ، وَإِنَّمَا زَالَ الْأَخِيرُ فَقَطْ وَإِلَيْهِ مَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، إلَّا أَنَّ الْوَجْهَ يَخُصُّ الْمُدَبَّرَةَ دُونَ الْمُدَبَّرِ، وَقِيلَ: يُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَوْ جَوَّزُوا بَيْعَ هَذَا فَائِتَ الْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمْ يَبْلُغُ فَمَا ذَكَرَ فَهُوَ قِيمَتُهُ، وَهَذَا حَسَنٌ عِنْدِي وَأَمَّا قِيمَةُ أُمِّ الْوَلَدِ فَثُلُثُ قِيمَةِ الْقِنِّ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالِاسْتِسْعَاءَ قَدْ انْتَفَيَا وَبَقِيَ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ، وَقِيلَ قِيمَةُ خِدْمَتِهَا مُدَّةَ عُمْرِهَا عَلَى الْحَزْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ مُدَّةَ عُمْرِ أَحَدِهِمَا مِنْهَا وَمِنْ مَوْلَاهَا، وَقِيلَ يُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَوْ جَوَّزُوا بَيْعَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا
وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ مَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ جِهَةِ السَّاكِتِ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ.
وَقِيمَةُ الْمُكَاتَبِ نِصْفُ قِيمَةِ الْقِنِّ لِأَنَّهُ حَرِيدًا وَإِنْ بَقِيَتْ الرَّقَبَةُ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَضْمَنُهُ) أَيْ لَا يُضَمِّنُ الْمُدَبِّرُ الْمُعْتِقَ (قِيمَةَ مَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ جِهَةِ السَّاكِتِ) وَهُوَ ثُلُثُهُ قِنًّا فَيَكُونُ قَدْ ضَمَّنَهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ ثُلُثُهَا قِنًّا وَثُلُثُهَا مُدَبَّرًا (لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ) أَيْ فِي ثُلُثِهِ قِنًّا (يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا) إلَى وَقْتِ التَّدْبِيرِ (وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ) وَهُوَ بِالنَّظَرِ إلَى حَالِ أَدَاءِ الضَّمَانِ (دُونَ وَجْهٍ) وَهُوَ بِالنَّظَرِ إلَى الْحَقِيقَةِ حَالَ التَّدْبِيرِ (فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ) بَلْ الْمِلْكُ الْمُمْكِنُ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الثَّابِتُ حَالَ الْعِتْقِ. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَضَمَّنَهُ السَّاكِتُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ مُسْتَنِدًا.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ نَصِيبُ السَّاكِتِ إلَيْهِ قَامَ مَقَامَ السَّاكِتِ وَكَانَ لِلسَّاكِتِ الِاسْتِسْعَاءُ، فَكَذَا لِلْمُعْتِقِ، أَمَّا هُنَا فَلَيْسَ لِلسَّاكِتِ تَضْمِينُ الْمُعْتِقِ فَكَذَا لَيْسَ الْقَائِمُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْمُدَبِّرُ، وَلِذَا كَانَ لِلْمُدَبِّرِ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ كَمَا كَانَ لِلسَّاكِتِ الْقَائِمِ هُوَ مَقَامَهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْمِلْكَ الْمُسْتَنِدَ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلتَّضْمِينِ، إذْ قَدْ ثَبَتَ التَّضْمِينُ بِهِ لِلْعَبْدِ غَيْرَ أَنَّ الْمُدَبِّرَ وُجِدَ فِيهِ مَانِعٌ مِنْهُ وَهُوَ قِيَامُ مَقَامِ السَّاكِتِ الَّذِي لَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ، فَكَانَ الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ مِنْ الِابْتِدَاءِ لَا يُضَمِّنُهُ مَا ضَمَّنَ لِلسَّاكِتِ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ لَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ ذَلِكَ الثُّلُثَ فَكَذَا لَيْسَ لِلْقَائِمِ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ ثُلُثِ نَفْسِهِ: أَعْنِي ثُلُثَ الْمُدَبَّرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِيهِ مَقَامَ أَحَدٍ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ وُرُودُ أَصْلِ السُّؤَالِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْمِلْكَ الْمُسْتَنِدَ لَا يَنْهَضُ سَبَبًا لِضَمَانِ مُفْسِدِهِ كَالْمُعْتِقِ الْمُفْسِدِ بِإِعْتَاقِهِ مِلْكَ الْمُدَبِّرِ فِي نَصِيبِ السَّاكِتِ. وَالرُّجُوعُ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَ تَضْمِينًا لِمُفْسِدِ الْمِلْكِ الْمُسْتَنِدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مُفْسِدًا شَيْئًا بَلْ تَضْمِينُهُ لِقِيَامِهِ بِالضَّمَانِ لِلسَّاكِتِ مَقَامَ السَّاكِتِ وَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَهُ، فَكَذَا مَنْ صَارَ الْمِلْكُ لَهُ وَقَامَ مَقَامَهُ.
وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْمُدَبِّرِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُدَبِّرِ وَالثُّلُثُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتِقْ الْمُعْتِقُ إلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْمُدَبِّرِ الضَّمَانَ لِلسَّاكِتِ كَانَ لِلْمُدَبِّرِ تَضْمِينُهُ مَا ضَمَّنَهُ مِنْ ثُلُثِ قِيمَتِهِ عَبْدًا مَعَ ثُلُثِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وُجِدَ بَعْدَ تَمَلُّكِ الْمُدَبِّرِ نَصِيبَ السَّاكِتِ فَلَهُ تَضْمِينُ كُلِّ ثُلُثٍ بِصِفَتِهِ، كَذَا عَلَّلُوا. وَالْوَجْهُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ فِي أَصْلِ التَّعْلِيلِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ مَا ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ حَالَ عِتْقِ الْمُعْتِقِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ الْوَارِدَ أَيْضًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِلْكُهُ حَالَ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا، وَيَحْتَاجُ إلَى تَتْمِيمِهِ بِقَوْلِنَا فَيَكُونُ ثَابِتًا حَالَ الْإِعْتَاقِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَيَعُودُ السُّؤَالُ بِعِتْقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَيُدْفَعُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ وُرُودِهِ. هَذَا وَأَوْرَدَ الطَّلَبَةُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثُلُثَيْهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ حِينَ مَلَكَ ثُلُثَ السَّاكِتِ بِالضَّمَانِ صَارَ مُدَبَّرًا لَا قِنًّا، وَلِذَا قُلْنَا فِي وَجْهِ كَوْنِ ثُلُثَيْ الْوَلَاءِ لَهُ لِأَنَّهُ صَارَ كَأَنَّهُ دَبَّرَ ثُلُثَيْهِ ابْتِدَاءً. وَالْجَوَابُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَنْعِ كَوْنِ الثُّلُثِ الَّذِي مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ لِلسَّاكِتِ صَارَ مُدَبَّرًا بَلْ هُوَ قِنٌّ عَلَى مِلْكِهِ، إذْ لَا مُوجِبَ لِصَيْرُورَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّ ظُهُورَ الْمِلْكِ الْآنَ لَا يُوجِبُهُ وَالتَّدْبِيرُ يَتَجَزَّأُ، وَذِكْرُهُمْ إيَّاهُ فِي وَجْهِ كَوْنِ ثُلُثَيْ الْوَلَاءِ لَهُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، إذْ يَكْفِي فِيهِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ حِينَ أَعْتَقَ الْآخَرُ وَأَدَّى الضَّمَانَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ وَلَاؤُهُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ لَا تَمَلُّكٍ.
(قَوْلُهُ وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْمُدَبِّرِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُدَبِّرِ وَالثُّلُثُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِمَا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ) فَإِنَّ أَحَدَ ثُلُثَيْهِ كَانَ نَصِيبُهُ بِالْأَصَالَةِ وَالْآخَرُ تَمَلَّكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ لِلسَّاكِتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ دَبَّرَ ثُلُثَيْهِ مِنْ الِابْتِدَاءِ، بِخِلَافِ الْمُعْتِقِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ ثُلُثٌ أَعْتَقَهُ وَثُلُثٌ أَدَّى ضَمَانَهُ لِلْمُدَبِّرِ لَيْسَ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْوَلَاءِ لِأَنَّ ضَمَانَهُ لَيْسَ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ وَمُعَاوَضَةٍ بَلْ ضَمَانَ إفْسَادٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُدَبَّرَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ وَحِينَ أَعْتَقَهُ كَانَ مُدَبَّرًا، وَلَوْ كَانَ السَّاكِتُ اخْتَارَ سِعَايَةَ الْعَبْدِ فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا أَثْلَاثًا لِكُلٍّ ثُلُثُهُ. وَفِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا فِي قَوْلِهِ وَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتِقِ وَالْمُدَبِّرِ: أَيْ بَيْنَ عَصَبَةِ الْمُدَبِّرِ وَالْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنَسَبَهُ لِقَاضِي خَانْ وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ الْمُتَجَزِّئَ يُوجِبُ إخْرَاجَهُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِتَنْجِيزِ أَحَدِ الْأُمُورِ مِنْ التَّضْمِينِ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةِ وَالْعِتْقِ حَتَّى مَنَعَ اسْتِخْدَامَ الْمُدَبِّرَ إيَّاهُ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ابْتِدَاءً وَدَبَّرَهُ الْآخَرُ السَّاكِتُ فَإِنَّهُ لَا تَتَأَخَّرُ حُرِّيَّةُ بَاقِيهِ إلَى مَوْتِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عِتْقٌ مُنْجَزٌ بَلْ تَدْبِيرٌ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ كِتَابَةُ الْآخَرِ أَوْ قَلْبُهُ أَوْ كَانَ مُكَاتَبًا لِشَرِيكَيْنِ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا تَقَيَّدَ فِي نَصِيبِهِ وَبَقِيَ نَصِيبُ الْآخَرِ مُكَاتَبًا مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ وَلَا سِعَايَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ عَلَى حَالِهِ عِنْدَهُ، وَأَمَّا مَا فِي الزِّيَادَاتِ: مُكَاتَبٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا سِعَايَةَ إلَّا بَعْدَ عَجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا عَتَقَ كُلُّهُ وَالْوَلَاءُ لَهُ لِأَنَّ حَاصِلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ اسْتِسْعَاءٌ خَاصٌّ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ فَيَتَخَيَّرُ حِينَئِذٍ بَيْنَ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ إذَا كَانَ مُوسِرًا
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لِلْمُدَبِّرِ وَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا فَيَضْمَنُهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَأَشْبَهَ الِاسْتِيلَادَ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ وَهَذَا ظَاهِرٌ.
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْآخَرُ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ يَوْمًا وَيَوْمًا تَخْدُمُ الْمُنْكِرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: إنْ شَاءَ الْمُنْكِرُ اسْتَسْعَى الْجَارِيَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا ثُمَّ تَكُونُ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا)
وَاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ مُخْتَارًا أَوْ جَبْرًا بِإِجَارَتِهِ فَهُوَ يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَبْقَى
فِيهِ الرِّقُّ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَى هُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ التَّدْبِيرُ عِنْدَهُمَا يَصِيرُ كُلُّهُ مُدَبِّرًا لِشَرِيكِهِ الْمُدَبِّرِ (وَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا) فَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكَيْهِ (وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (فَأَشْبَهَ الِاسْتِيلَادَ) أَيْ مَا إذَا اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ حَيْثُ يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا (بِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إفْسَادٍ) لَا ضَمَانُ تَمَلُّكٍ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِيَكُونَ نَصُّ الِاخْتِلَافِ بِالْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ وَارِدًا فِيهِ (وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ) عَلَى قَوْلِهِمَا (لِلْمُدَبِّرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ) لِأَنَّ الْعِتْقَ كُلَّهُ مِنْ جِهَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِمَا أَنَّ ضَمَانَ الْإِفْسَادِ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يُنَافِي ضَمَانَ التَّمَلُّكِ لِأَنَّهُمَا حَيْثُ قَالَا: إنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتِقِ فِي كُلِّ الْعَبْدِ حَتَّى كَانَ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِ مِلْكِ نَصِيبِ السَّاكِتِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَنْزِلُ عِتْقُهُ فِي جُزْءٍ لَا يَمْلِكُهُ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ وَإِنْ كَانَ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَبْقَى ضَمَانُ التَّدْبِيرِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَزَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ هِيَ مَوْقُوفَةٌ يَوْمًا) أَيْ لَا تَخْدُمُ فِيهِ أَحَدًا (وَيَوْمًا تَخْدُمُ الْمُنْكِرَ) وَلَوْ مَاتَ الْمُنْكِرُ قَبْلَ تَصْدِيقِهِ عَتَقَتْ بِشَهَادَةِ الْآخَرِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا لَهُ، وَتَسْعَى لِوَرَثَةِ الْمُنْكِرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ. وَوَجْهُ
لَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ انْقَلَبَ إقْرَارُ الْمُقِرِّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْبَيْعِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ كَذَا هَذَا فَتَمْتَنِعُ الْخِدْمَةُ وَنَصِيبُ الْمُنْكِرِ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْحُكْمِ فَتَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ بِالسِّعَايَةِ كَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ.
هَذَا التَّفْرِيعِ أَنَّهُ عِنْدَ مَوْتِ الشَّرِيكِ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ جِهَةِ شَرِيكِي، وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي حَيَاةِ صَاحِبِهِ أَعْتَقَ شَرِيكِي نَصِيبَهُ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَضْمِينِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَهُوَ مُنْكِرٌ لَكِنَّهُ يُفْسِدُ الرِّقَّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إفْسَادِهِ بِإِعْتَاقِهِ اُعْتُبِرَ إقْرَارُهُ بِفَسَادِهِ ثُمَّ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي تَمَامِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُقِرُّ عَلَيْهِ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا سَعَى لَهُ وَلَمْ يَسْعَ لِلْمُقِرِّ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِأَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي السِّعَايَةِ بَلْ فِي تَضْمِينِ الشَّرِيكِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ لِإِنْكَارِهِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ شَاءَ الْمُنْكِرُ اسْتَسْعَى الْجَارِيَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا ثُمَّ تَكُونُ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا. وَضَمَّهُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ وَقَالَا بِاعْتِبَارِ قَوْلٍ مَرْجُوعٍ لِأَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَنْبَغِي مِثْلُهُ أَنْ يُفْعَلَ إلَّا أَنْ يُقْرَنَ بِالْبَيَانِ فَيُقَالُ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ مَثَلًا وَإِلَّا أَوْهَمَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ الْآنَ مَا لَيْسَ هُوَ قَائِلًا بِهِ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ خِدْمَةَ الْمُنْكِرِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ؟ الْأَوَّلِ وَالصَّوَابُ أَنْ لَا خِدْمَةَ لَهُ عَلَيْهَا بَلْ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ صَارَ حَقُّ الْمُنْكِرِ فِي سِعَايَتِهَا وَتَخْرُجُ بِهَا إلَى الْحُرِّيَّةِ. وَفِي الْمُخْتَلَفِ فِي بَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَفَقَتَهَا فِي كَسْبِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى الْمُنْكِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فِي النَّفَقَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نِصْفُ كَسْبِهَا لِلْمُنْكِرِ وَنِصْفُهُ مَوْقُوفٌ وَنَفَقَتُهَا مِنْ كَسْبِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ فَنِصْفُ نَفَقَتِهَا عَلَى الْمُنْكِرِ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ لِلْمُنْكِرِ، وَهَذَا اللَّائِقُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا خِدْمَةَ لَهُ عَلَيْهَا وَلَا احْتِبَاسَ، وَأَمَّا جِنَايَتُهَا فَتَسْعَى فِيهَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ كَالْمُكَاتَبِ وَتَأْخُذُ الْجِنَايَةَ عَلَيْهَا: أَيْ تَأْخُذُ جِنَايَتَهَا مِمَّنْ جَنَى عَلَيْهَا لِتَسْتَعِينَ بِهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ جِنَايَتُهَا مَوْقُوفَةٌ إلَى تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ.
(قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ اسْتَوْلَدَهَا. كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْبَيْعِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ) حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَارَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْتَوْلِدِ امْتَنَعَ الِاسْتِخْدَامُ عَلَى الْمُنْكِرِ كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَهَا الْمُقِرُّ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ الِاسْتِخْدَامُ، وَالْمُقِرُّ أَيْضًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الِاسْتِخْدَامُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الِاسْتِخْدَامُ عَلَى الْمُنْكِرِ وَالْحَالُ أَنَّ نَصِيبَهُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْحُكْمِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ اسْتِسْعَائِهَا لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهَا وَمَنَافِعِهَا عِنْدَهَا، وَلَا وَجْهَ إلَى تَضْمِينِ شَرِيكِهِ، فَإِذَا اسْتَسْعَاهَا فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمُنْكِرَ أَخَذَ حِصَّتَهُ وَالْمُقِرَّ يُبَرِّئُهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ صَدَقَ كَانَتْ الْخِدْمَةُ كُلُّهَا لِلْمُنْكِرِ، وَلَوْ كَذَبَ كَانَ لَهُ نِصْفُ الْخِدْمَةِ فَيَثْبُتُ مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَهُوَ النِّصْفُ، وَلَا خِدْمَةَ لِلشَّرِيكِ الشَّاهِدِ وَلَا اسْتِسْعَاءَ لِأَنَّهُ يَتَبَرَّأُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِدَعْوَى الِاسْتِيلَادِ وَالضَّمَانِ، وَالْإِقْرَارُ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ وَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُقِرُّ كَالْمُسْتَوْلِدِ.
(وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَهُمَا فَأَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا) لِأَنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ وَمُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْتَنَى عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ أَوْرَدْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
مِنْهُ وَيَدَّعِي أَنَّ حَقَّهُ فِي تَضْمِينِ الْمُنْكِرِ لِدَعْوَاهُ الِاسْتِيلَادَ فَصَارَتْ كَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ لَمَّا امْتَنَعَ بِإِسْلَامِهَا مَقَاصِدُ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ إخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِهِ مَجَّانًا لِلْإِضْرَارِ بِهِ وَجَبَ أَنْ تَعْتِقَ بِالسِّعَايَةِ.
(قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) وَعَلِمْت أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَهُ (أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُنْكِرِ نِصْفَ خِدْمَتِهَا ثَابِتٌ بِيَقِينٍ) لِأَنَّ الْمُقِرَّ إمَّا صَادِقٌ فَيَكُونُ جَمِيعُ خِدْمَتِهَا لَهُ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ خِدْمَتَهَا، أَوْ كَاذِبٌ فَلَهُ نِصْفُهَا وَالْآخَرُ لِلْمُقِرِّ فَاسْتِحْقَاقُهُ نِصْفَهَا مُتَيَقَّنٌ. وَأَمَّا الشَّرِيكُ الْمُقِرُّ فَلَا اسْتِخْدَامَ لَهُ عَلَيْهَا وَلَا اسْتِسْعَاءَ لِأَنَّهُ يُبَرِّئُهَا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِدَعْوَى الِاسْتِيلَادِ وَالضَّمَانِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَهُوَ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ. وَقَوْلُهُمَا انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ. قُلْنَا مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ إقْرَارٌ بِالنَّسَبِ (وَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لَا يُرَدُّ بِالرَّدِّ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُقِرُّ كَالْمُسْتَوْلِدِ) بِنَفْسِهِ حُكْمًا، نَعَمْ يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِإِقْرَارِهِ فَيَمْتَنِعُ اسْتِخْدَامُهُ وَاسْتِسْعَاؤُهُ وَقَدْ قُلْنَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْرِي قَوْلُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ فَيَبْقَى حَقُّهُ عَلَى مَا كَانَ وَعِتْقُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْ هَذَا لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا مِنْ الِانْقِلَابِ، وَحَاصِلُهُ مَنْعُ الِانْقِلَابِ. وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَهُمَا) بِأَنْ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ (فَأَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا) وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَتْ لِلسَّاكِتِ فِيهِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَعِنْدَهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْتَنَى عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ)
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا مُنْتَفَعٌ بِهَا وَطْئًا وَإِجَارَةً وَاسْتِخْدَامًا، وَهَذَا هُوَ دَلَالَةُ التَّقَوُّمِ، وَبِامْتِنَاعِ بَيْعِهَا لَا يَسْقُطُ تَقَوُّمُهَا كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ، وَهَذَا آيَةُ التَّقَوُّمِ.
ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى: إحْدَاهَا هَذَا: وَالثَّانِيَةُ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَهِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَعَتَقَ وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْئًا لِشَرِيكِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْوَلَدَ فِي النِّصْفِ: يَعْنِي إذَا بَلَغَ حَدًّا يُسْتَسْعَى فِيهِ مِثْلُهُ. وَمِنْهَا أُمُّ الْوَلَدِ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا لَا تَسْعَى لِلْآخَرِ عِنْدَهُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا وَتَسْعَى عِنْدَهُمَا. وَمِنْهَا لَوْ غَصَبَ أُمَّ الْوَلَدِ غَاصِبٌ فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَهُ وَيَضْمَنُ عِنْدَهُمَا. وَذَكَرَ فِي الرُّقَيَّاتِ يَضْمَنُهَا عِنْدَهُ بِالْغَصْبِ كَمَا يَضْمَنُ بِهِ الصَّبِيَّ الْحُرَّ، حَتَّى لَوْ وَضَعَهَا فِي مَسْبَعَةٍ فَافْتَرَسَهَا سَبْعٌ يَضْمَنُ عِنْدَهُ كَمَا يَضْمَنُ الصَّبِيَّ الْحُرَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا حَيْثُ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ. وَمِنْهَا لَوْ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُ وَيَضْمَنُ عِنْدَهُمَا. وَمِنْهَا أَمَةٌ حُبْلَى بِيعَتْ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ صَحَّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُحْبَسُ مَا يَخُصُّهَا مِنْ الثَّمَنِ.
(قَوْلُهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا) وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ (أَنَّهَا مُنْتَفَعٌ بِهَا وَطْئًا وَإِجَارَةً وَاسْتِخْدَامًا) وَكَذَا يَمْلِكُ كَسْبَهَا، وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ عَتَقَتْ، وَهَذَا هُوَ دَلَالَةُ التَّقَوُّمِ وَالْفَائِتُ لَيْسَ إلَّا مُكْنَةُ الْبَيْعِ وَهُوَ لَا يَنْفِي التَّقَوُّمَ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ وَالْآبِقِ وَامْتِنَاعُ سِعَايَتِهَا لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى أَوْ وَرَثَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهَا مَثَلًا لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ إلَى حَاجَتِهَا لِدَفْعِ حَاجَتِهِ كَيْ لَا يَضِيعَ نَسَبُهُ وَمَاؤُهُ وَهَذَا مَانِعٌ يَخُصُّهَا لَا يُوجَدُ فِي الْمُدَبَّرِ فَلِذَا افْتَرَقَا فِي السِّعَايَةِ وَعَدَمِهَا (وَهَذَا) أَيْ الِانْتِفَاعُ الْمُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ (دَلَالَةُ التَّقَوُّمِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَكُونُ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِيهَا لِعَدَمِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ، وَلَا زِيَادَةَ بَعْدَ هَذَا إلَّا بِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، أَلَا يُرَى أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ سَعَتْ لَهُ، وَهَذَا آيَةُ التَّقَوُّمِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ أُمِّ وَلَدِ الْمُسْلِمِ وَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ، فَإِذَا ثَبَتَ التَّقَوُّمُ فِي إحْدَاهُمَا ثَبَتَ فِي الْأُخْرَى، وَكَذَا وَلَدُ الْمَغْرُورِ إذَا كَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ فَإِنَّ الْمَغْرُورَ يَضْمَنُ قِيمَةَ وَلَدِهِ مِنْهَا عِنْدَنَا. وَحَاصِلُهُ دَلِيلَانِ: الْأَوَّلُ قِيَاسٌ عَلَى الْمُدَبَّرِ، وَالثَّانِي إجْمَاعٌ مُرَكَّبٌ. وَأَيْضًا ثَبَتَتْ مَالِيَّتُهَا فَلَا تَخْرُجُ عَنْهَا إلَّا بِمُقْتَضٍ وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ الطَّارِئِ بِالِاسْتِيلَادِ لَيْسَ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ لِثُبُوتِهِ مَعَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ فَإِنَّ فِيهِ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ مَعَ انْتِفَاءِ عَدَمِ
غَيْرَ أَنَّ قِيمَتَهَا ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً عَلَى مَا قَالُوا لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْبَيْعِ وَالسِّعَايَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ الْفَائِتَ مَنْفَعَةُ الْبَيْعِ، أَمَّا السِّعَايَةُ وَالِاسْتِخْدَامُ بَاقِيَانِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْإِحْرَازِ وَهِيَ مُحْرَزَةٌ لِلنَّسَبِ لَا لِلتَّقَوُّمِ وَالْإِحْرَازُ لِلتَّقَوُّمِ تَابِعٌ، وَلِهَذَا لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ،
الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ لِثُبُوتِهِمَا فِيهِ.
(قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ قِيمَتَهَا ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً عَلَى مَا قَالُوا لِفَوَاتِ) مَنْفَعَتَيْنِ (مَنْفَعَةُ الْبَيْعِ وَالسِّعَايَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ) وَالْبَاقِي مَنْفَعَةٌ مِنْ ثَلَاثٍ فَحِصَّتُهَا ثُلُثُ الْقِيمَةِ (بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ فَإِنَّ الْفَائِتَ مَنْفَعَةُ الْبَيْعِ) فَقَطْ لِأَنَّهُ يَسْعَى بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَيُسْتَخْدَمُ فَكَانَتْ قِيمَتُهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ قِنًّا. وَقَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا يُفِيدُ الْخِلَافَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَبْدٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وَأَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَسَكَتَ الْآخَرُ (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) الْحَاصِلُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ اللَّوَازِمِ إنَّمَا هِيَ لَوَازِمُ الْمِلْكِ بَعْضُهَا أَعَمُّ مِنْهُ يَثْبُتُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْوَطْءِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْوَطْءَ يَثْبُتُ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمَنْكُوحَةِ وَالِاسْتِخْدَامُ وَالْإِجَارَةُ تَثْبُتُ بِالْإِجَارَةِ وَاللَّازِمُ الْخَاصُّ هُوَ مِلْكُ الْكَسْبِ، وَلَا كَلَامَ فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي التَّقَوُّمِ وَالْمَالِيَّةِ، وَالتَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا بِالْمِلْكِ وَإِنْ ثَبَتَ مَعَهُ، وَالْآدَمِيُّ وَإِنْ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَصْلِ مَالًا لِأَنَّهُ خُلِقَ لَأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَالِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ إذَا أُحْرِزَ لِلتَّمَوُّلِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَحْرَزَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا كَانَ إحْرَازُهُ لَهَا لِلنَّسَبِ لَا لِلتَّمَوُّلِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ تَمَلُّكِهَا كَانَ لِلتَّمَوُّلِ، لَكِنْ عِنْدَمَا اسْتَوْلَدَهَا تُحَوَّلُ صِفَتُهَا عَنْ الْمَالِيَّةِ إلَى مِلْكٍ مُجَرَّدٍ عَنْهَا فَصَارَتْ مُحْرِزَةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَهَذِهِ الْمُقَدَّمَةُ تَقْبَلُ الْمَنْعَ: أَعْنِي انْتِفَاءَ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْإِحْرَازِ لِلنَّسَبِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ الْإِحْرَازِ لِلنَّسَبِ وَانْتِفَاءِ التَّقَوُّمِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُنَافِهِ لَكِنَّهُ تَابِعٌ فَصَارَ الْإِحْرَازُ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ كَالْمُنْتَفِي، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثُبُوتُ لَوَازِمِ الِانْتِفَاءِ شَرْعًا وَهُوَ عَدَمُ سِعَايَتِهَا لِغَرِيمٍ أَوْ وَارِثٍ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهَا وَعَلَيْهِ دُيُونٌ، وَإِنَّ مَا كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَيَاتِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَالْمُدَبَّرِ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ خَرَجَ وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ تَعَلَّقَ بِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالَةَ الْحَيَاةِ مَالًا غَيْرَ أَنَّهُ مُوصًى بِهِ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا بَطَلَتْ فَسَعَى فِي قِيمَتِهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَحَيْثُ ثَبَتَ التَّقَوُّمُ فِي الْمُدَبَّرِ وَرُدَّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مُتَقَوِّمًا جَازَ بَيْعُهُ، فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهِ لِتَحَقُّقِ مَقْصُودِ الْمُدَبِّرِ مِنْ نَيْلِهِ ثَوَابَ عِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ إلْزَامِ التَّقَوُّمِ بِأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ بِمَنْعِ تَقَوُّمِهَا، وَإِلْزَامِ السِّعَايَةِ فِيهَا لَيْسَ لِذَلِكَ بَلْ لِلضَّرُورَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهَا مُسْلِمَةً مَمْلُوكَةً لَهُ وَلَا إخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِهِ مَجَّانًا وَهُوَ مِلْكٌ صَحِيحٌ فَأُنْزِلَتْ مُكَاتَبَةً عَلَيْهِ عَلَى قِيمَتِهَا. وَنَقُولُ: لَا يَفْتَقِرُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ إلَى التَّقَوُّمِ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمِ وَهُوَ فَكُّ الْحَجْرِ وَلَوْ سُلِّمَ، فَالْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهَا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورَةِ، أَوْ نَقُولُ: هُوَ يَعْتَقِدُ الْمَالِيَّةَ فِيهَا وَجَوَازَ بَيْعِهَا، وَالْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِمْ يُبْتَنَى
وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ عَمَلُهُ فِي حَقِّ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَعَمِلَ السَّبَبُ فِي إسْقَاطِ التَّقَوُّمِ، وَفِي الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَامْتِنَاعُ الْبَيْعِ فِيهِ لِتَحْقِيقِ مَقْصُودِهِ فَافْتَرَقَا. وَفِي أُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ قَضَيْنَا بِتَكَاتُبِهَا عَلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْجَانِبَيْنِ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَا يَفْتَقِرُ وُجُوبُهُ إلَى التَّقَوُّمِ.
عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَمَا فِي مَالِيَّةِ الْخَمْرِ، أَوْ أَنَّ مِلْكَهُ لَمَّا احْتَبَسَ عِنْدَهَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا، كَالْقِصَاصِ إذَا احْتَبَسَ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَ الْقَاتِلِ بِعَفْوِ الْآخَرِ يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ. وَبِهَذَا تَمَّ الْوَجْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ (وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا) أَيْ فِي أُمِّ الْوَلَدِ (مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ) فَغَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ، إذْ قَدْ ثَبَتَ شَرْعًا بِمَا ذَكَرْنَا عَدَمُ تَقَوُّمِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ حِكْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ. عَدَمُ تَقَوُّمِهَا: يَعْنِي أَنَّ حِكْمَةَ إسْقَاطِ الشَّرْعِ تَقَوُّمَهَا ثُبُوتُ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوْلَاهَا الْحُرِّ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْمُصَاهَرَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ حَيْثُ قَالَ: كَيْفَ تَبِيعُوهُنَّ وَقَدْ اخْتَلَطَتْ لُحُومُهُنَّ بِلُحُومِكُمْ وَدِمَاؤُهُنَّ بِدِمَائِكُمْ؟ فَلِثُبُوتِ ذَلِكَ ثَبَتَ عَدَمُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنْ تُنَجَّزَ حُرِّيَّتُهَا لَكِنْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِهِ فَبَقِيَ فِيمَا سِوَاهُ وَهُوَ عَدَمُ التَّقَوُّمِ لِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَكَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّقَوُّمِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَنَجُّزِ الْعِتْقِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَثْبَتَ لَهَا الْوَلَدُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ فَبَقِيَ فِيمَا سِوَى حَقِيقَةِ الْعِتْقِ مَعْمُولًا بِهِ وَمِنْهُ سُقُوطُ التَّقَوُّمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّدْبِيرُ أَيْضًا كَذَلِكَ: أَيْ سَبَبٌ فِي الْحَالِ لِلْعِتْقِ لِمَا ذَكَرَ فِي بَابِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَنْتَفِيَ تَقَوُّمُ الْمُدَبَّرِ عَلَى وَزْنِ انْتِفَائِهِ بِسَبَبِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ثُبُوتَ سَبَبِيَّةِ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ لِضَرُورَةٍ هِيَ أَنَّ تَأْخِيرَهُ كَغَيْرِهِ مِنْ التَّعْلِيقَاتِ يُوجِبُ بُطْلَانَهُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ زَمَانُ زَوَالِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَلَا يَتَأَخَّرُ سَبَبِيَّةُ كَلَامِهِ إلَيْهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي حُرْمَةِ الْبَيْعِ خَاصَّةً لَا فِي سُقُوطِ التَّقَوُّمِ بَلْ يَبْقَى فِي حَقِّ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ عَلَى الْأَصْلِ: يَعْنِي فَتَتَأَخَّرُ سَبَبِيَّتُهُ لِسُقُوطِ التَّقَوُّمِ
بَابُ عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ
(وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ اثْنَانِ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ خَرَجَ وَاحِدٌ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِتْقَ مَنْ الَّذِي أُعِيدَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَنِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله كَذَلِكَ إلَّا فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ رُبُعُهُ)
إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَفِي الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ إلْزَامُ التَّنَاقُضِ وَذَلِكَ أَنَّ كَلَامَهُ فِي سُقُوطِ التَّقَوُّمِ لِأُمِّ الْوَلَدِ فَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ سَبَبَ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ، وَسَبَبَ سُقُوطِهِ فِي الْمُدَبَّرِ مُتَأَخِّرٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا بَيَّنَّا.
(بَابُ عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ)
هَذَا أَيْضًا مِنْ عِتْقِ الْبَعْضِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ فِي بَعْضِ الْوَاحِدِ وَهَذَا الْكَلَامُ فِي بَعْضِ الْمُتَعَدِّدِ فَنُزِّلَ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا مَنْزِلَةَ الْجُزْءِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي عِتْقِ بَعْضِ مَا هُوَ بَعْضٌ لِهَذَا وَهُوَ الْوَاحِدُ (قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ اثْنَانِ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ خَرَجَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَدَخَلَ آخَرُ) وَهُوَ الْبَاقِي مِنْ الْأَعْبُدِ الثَّلَاثَةِ (فَقَالَ) الْمَوْلَى (أَحَدُكُمَا حُرٌّ) فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ الْمَوْلَى قَبْلَ بَيَانِهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَمُوتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْبَيَانِ. وَحُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ إذَا وَقَعَ مِنْهُ أَنْ يُؤْمَرَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْمَوْلَى بِالْبَيَانِ، وَلِلْعَبِيدِ مُخَاصَمَتُهُ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا بَيَّنَ الْعِتْقَ فِي الثَّابِتِ وَهُوَ الْعَبْدُ الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ عَتَقَ وَبَطَلَ الْكَلَامُ الثَّانِي لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ إنْشَاءً فِي الْمُبْهَمِ الدَّائِرِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِحُكْمِهِ، وَالْحُرُّ لَيْسَ كَذَلِكَ فَبَطَلَ إنْشَائِيَّتُهُ وَصَارَ خَبَرًا بِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ وَهُوَ الثَّابِتُ، فَلَا يُفِيدُ فِي الْخَارِجِ
عِتْقًا. فَإِنْ قِيلَ: الْبَيَانُ لَهُ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ لِأَنَّهُ فِي الْمُعَيَّنِ وَالْعِتْقُ الْمُبْهَمُ لَا يَنْزِلُ فِي الْمُعَيَّنِ فَصَارَ بِبَيَانِهِ فِي الثَّابِتِ كَأَنَّهُ إنْشَاءٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ بَعْدَمَا أَعْتَقَ الْأَحَدَ الدَّائِرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَارِجِ بِالْكَلَامِ الثَّانِي وَلَوْ نَجَّزَ عِتْقَ الثَّابِتِ بِعِتْقٍ مُسْتَقِلٍّ عَتَقَ الْخَارِجُ فَكَذَا يَعْتِقُ بِالْبَيَانِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ وُقُوعَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ فِي الْمُعَيَّنِ بِهِ لَا يَكُونُ بِالْعِتْقِ الْأَوَّلِ فَقَطْ لِأَنَّهُ عِتْقُ مُبْهَمٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ يَكُونُ إنْشَاءً، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَوْلَى يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ إذَا خَاصَمَهُ الْعَبْدَانِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إنْشَاءِ الْعِتْقِ يَكُونُ إظْهَارًا، فَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْشَاءِ يَعْتِقُ الدَّاخِلُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِخْبَارِ لَا يَعْتِقُ فَلَا يَعْتِقُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ بَيَّنَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ عِتْقَ الْخَارِجِ فَلَا إشْكَالَ وَيُؤْمَرُ بِبَيَانِ الْكَلَامِ الثَّانِي وَيُعْمَلُ بِبَيَانِهِ، وَإِنْ بَدَأَ بِبَيَانِ الْكَلَامِ الثَّانِي فَقَالَ عَنَيْت بِالْكَلَامِ الثَّانِي الدَّاخِلَ عَتَقَ وَيُؤْمَرُ بِبَيَانِ الْأَوَّلِ فَأَيَّهمَا بَيَّنَهُ مِنْ الْخَارِجِ وَالثَّابِتِ عُمِلَ بِهِ.
وَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِالْكَلَامِ الثَّانِي الثَّابِتَ عَتَقَ وَتَعَيَّنَ عِتْقُ الْخَارِجِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَبْطُلُ لِأَنَّ حَالَ وُجُودِهِ كَانَا رَقِيقَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمَوْلَى شَيْئًا حَتَّى مَاتَ أَحَدُ الْعَبِيدِ فَالْمَوْتُ بَيَانٌ أَيْضًا، فَإِنْ مَاتَ الْخَارِجُ تَعَيَّنَ الثَّابِتُ لِلْعِتْقِ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَالْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ لِزَوَالِ الْمُزَاحِمِ وَبَطَلَ الْإِيجَابُ الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ مَاتَ الثَّابِتُ تَعَيَّنَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَالدَّاخِلُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي لِأَنَّ الثَّابِتَ هُوَ الْمُزَاحِمُ لَهُمَا وَلَمْ يَبْقَ، وَإِنْ مَاتَ الدَّاخِلُ أُمِرَ بِبَيَانِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ الْخَارِجَ عَتَقَ الثَّابِتُ أَيْضًا بِالْإِيجَابِ الثَّانِي، وَإِنْ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ بَطَلَ الْإِيجَابُ الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَاتَّفَقُوا فِيهَا عَلَى عِتْقِ نِصْفِ الْخَارِجِ وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّابِتِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الدَّاخِلِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْتِقُ نِصْفُهُ أَيْضًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعْتِقُ رُبُعُهُ. وَاسْتَشْكَلَ قَوْلُهُمَا بِعِتْقِ النِّصْفِ وَثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ مَعَ قَوْلِهِمَا يُعْدَمُ تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُمَا بِعَدَمِ تَجَزِّيهِ إذَا وَقَعَ فِي مَحَلٍّ مَعْلُومٍ، أَمَّا إذَا كَانَ الْحَالُ إنَّمَا هُوَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ بِالضَّرُورَةِ وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِانْقِسَامِهِ انْقَسَمَ ضَرُورَةً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَدَمَ التَّجَزِّي عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَالِانْقِسَامُ هُنَا ضَرُورِيٌّ. وَرَدَّهُ بَعْضُ الطَّلَبَةِ بِمَنْعِ ضَرُورَةِ الِانْقِسَامِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَتَقَ مِنْهُ الْبَعْضُ الَّذِي ذُكِرَ لَا يُقَرُّ فِي الرِّقِّ بَلْ يَسْعَى فِي بَاقِيهِ حَتَّى يَخْلُصَ كُلُّهُ حُرًّا، فَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: يَعْتِقُ جَمِيعُ كُلِّ وَاحِدٍ عِنْدَهُمَا وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَيَتَّحِدُ الْحَاصِلُ عَلَى قَوْلِهِمَا وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ وَهُمْ عَبِيدٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَسْعَوْنَ وَهُمْ أَحْرَارٌ، إذْ الْحَاصِلُ أَنَّ الضَّرُورَةَ أَوْجَبَتْ أَنْ لَا يَعْتِقَ جَمِيعُ وَاحِدٍ مَجَّانًا لَا أَنْ يَعْتِقَ بَعْضٌ فَقَطْ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ عِتْقُ الْبَاقِي إلَى
أَمَّا الْخَارِجُ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّابِتِ، وَهُوَ الَّذِي أُعِيدَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فَأَوْجَبَ عِتْقَ رَقَبَةٍ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فَيُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمَا النِّصْفُ، غَيْرَ أَنَّ الثَّابِتَ اسْتَفَادَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي رُبُعًا آخَرَ لِأَنَّ الثَّانِيَ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاخِلِ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ فِي الْكِتَابِ آخِرًا فَيَتَنَصَّفُ بَيْنَهُمَا، غَيْرَ أَنَّ الثَّابِتَ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْحُرِّيَّةِ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فَشَاعَ النِّصْفُ الْمُسْتَحَقُّ بِالثَّانِي فِي نِصْفَيْهِ، فَمَا أَصَابَ الْمُسْتَحِقَّ بِالْأَوَّلِ لَغَا، وَمَا أَصَابَ الْفَارِغَ بَقِيَ فَيَكُونُ لَهُ الرُّبُعُ فَتَمَّتْ لَهُ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هُوَ بِالثَّانِي يَعْتِقُ نِصْفُهُ، وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الدَّاخِلُ لَا يَعْتِقُ هَذَا النِّصْفُ فَيَنْتَصِفُ فَيَعْتِقُ مِنْهُ الرُّبُعُ بِالثَّانِي وَالنِّصْفُ بِالْأَوَّلِ، وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَمُحَمَّدٌ رحمه الله يَقُولُ: لَمَّا دَارَ الْإِيجَابُ الثَّانِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّابِتِ وَقَدْ أَصَابَ الثَّابِتَ مِنْهُ الرُّبُعُ فَكَذَلِكَ يُصِيبُ الدَّاخِلَ وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا، وَقَضِيَّتُهُ التَّنْصِيفُ وَإِنَّمَا نَزَلَ إلَى الرُّبُعِ فِي حَقِّ الثَّابِتِ لِاسْتِحْقَاقِهِ النِّصْفَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا اسْتِحْقَاقَ لِلدَّاخِلِ مِنْ قَبْلُ
أَدَاءِ السِّعَايَةِ فَلَا يَلْزَمُهُمَا مُخَالَفَةُ أَصْلِهِمَا.
وَرُدَّ عَلَى ذَلِكَ الطَّالِبِ بِأَنَّهُ لَوْ عَتَقَ الْكُلُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ قَوْلِ الْمَوْلَى أَحَدُكُمَا حُرٌّ إعْتَاقَ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ، بَلْ أَحَدُكُمَا لَا يُؤَدِّي مَعْنَى كِلَاكُمَا؛ وَقَدْ يَدْفَعُ عَنْهُ هَذَا بِمَنْعِ كَوْنِ الْمُوجَبِ ذَلِكَ بَلْ مُوجَبُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ شَائِعَةٍ، وَإِنَّمَا عَتَقَ الْكُلُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ تَوْزِيعَهُ وَحِينَ لَزِمَ التَّوْزِيعُ فَوَجَبَ عِتْقُ بَعْضٍ وَجَبَ وُقُوعُهُ فِي الْكُلِّ فَكَانَ التَّوْزِيعُ مُقْتَضَى الضَّرُورَةِ فَوُقُوعُ عِتْقِ النِّصْفِ مَثَلًا مُوجَبًا لِلتَّوْزِيعِ كَوُقُوعِهِ مُوجَبًا لِقَوْلِهِ أَعْتَقْت نِصْفَك، فَكَمَا يَقَعُ انْعِتَاقُ النِّصْفِ انْعِتَاقًا لِلْكُلِّ إذَا وَقَعَ عَنْ مُوجَبِهِ كَذَلِكَ يَقَعُ هُنَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا مُوجَبَ أَصْلًا لِخُرُوجِهِمَا عَنْ أَصْلِهِمَا، وَمُوَافَقَةُ أَبِي يُوسُفَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي عِتْقِ نِصْفِ الدَّاخِلِ لَا تُوجِبُ مُوَافَقَتَهُ فِي التَّجَزِّي. وَوَجْهُ الِاتِّفَاقِيَّةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (أَمَّا الْخَارِجُ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّابِتِ وَهُوَ الَّذِي أُعِيدَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فَأَوْجَبَ عِتْقَ رَقَبَةٍ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فَيُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمَا النِّصْفُ) إذْ لَا مُرَجِّحَ (غَيْرَ أَنَّ الثَّابِتَ اسْتَفَادَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي رُبُعًا آخَرَ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاخِلِ فَيَتَنَصَّفُ بَيْنَهُمَا) لَكِنَّ نِصْفَ الثَّابِتِ شَاعَ فِي نِصْفَيْهِ، فَمَا أَصَابَ مِنْهُ الْمُعْتَقَ بِالْأَوَّلِ لَغَا، وَمَا أَصَابَ الْفَارِغَ مِنْ الْعِتْقِ عَتَقَ فَيَسْلَمُ لَهُ الرُّبُعُ مُضَافًا إلَى عِتْقِ النِّصْفِ بِالْأَوَّلِ فَتَمَّ لَهُ عِتْقُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ (وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ الثَّابِتُ بِالثَّانِي يَعْتِقُ نِصْفُهُ) الْبَاقِي، وَلَوْ أُرِيدَ الدَّاخِلُ لَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ فَعَتَقَ نِصْفُهُ فِي حَالٍ وَلَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ فِي حَالٍ فَيُقْسَمُ النِّصْفُ لَهُ فَيَعْتِقُ رُبُعُهُ وَقَدْ كَانَ عَتَقَ لَهُ النِّصْفُ بِالْأَوَّلِ فَيَكْمُلُ لَهُ عِتْقُ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ.
وَجْهُ الْمَذْكُورِ لِمُحَمَّدٍ فِي الدَّاخِلِ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّابِتِ وَقَدْ أَصَابَ الثَّابِتَ مِنْهُ الرُّبُعُ فَكَذَلِكَ يُصِيبُ الدَّاخِلَ (قَوْلُهُ وَهُمَا يَقُولَانِ) حَاصِلُهُ أَنَّ إصَابَةَ الرُّبُعِ عِنْدَهُمَا لَيْسَ قَضِيَّةً لِلْكَلَامِ بَلْ قَضِيَّتُهُ عِتْقُ نِصْفِهِ لَكِنَّهُ لِشُيُوعِهِ فِي كُلِّهِ وَنِصْفِهِ شَائِعًا مُعْتَقٌ، فَمَا أَصَابَ مِنْهُ هَذَا النِّصْفُ لَغَا، وَمَا أَصَابَ الْقِنَّ عَتَقَ فَلَغَا رُبُعُهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي النِّصْفِ الَّذِي أَصَابَ الدَّاخِلَ، وَقَدْ عَلِمْت آنِفًا أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُوَافِقْ عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ، وَتَقَدَّمَ لَهُ أَيْضًا أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ صَحِيحٌ فِي حَالَةٍ وَهِيَ أَنْ يُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ الْخَارِجَ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الثَّابِتَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَثْبُتُ بِهِ عِتْقٌ كَامِلٌ بَيْنَهُمَا لِكُلٍّ نِصْفُهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ صِحَّتِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا فَانْتَصَفَ الثَّابِتُ بِهِ فَأَصَابَ كُلًّا رُبُعُهُ فَلِذَا عَتَقَ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَمِنْ الدَّاخِلِ رُبُعُهُ. وَإِذَا عَرَفْت هَذَا ظَهَرَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي وَجْهِ الِاتِّفَاقِيَّةِ لَيْسَ عَلَى الِاتِّفَاقِ لِأَنَّ عِتْقَ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّابِتِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لِذَلِكَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ النِّصْفُ أَصْلًا بَلْ أَصَابَهُ الرُّبُعُ ابْتِدَاءً بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ يُرِيدُ الْخَارِجَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُبَيِّنَ الْمَيِّتُ الْعِتْقَ فِيهِ لَوْ بَيَّنَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَإِلَّا فَالْعِتْقُ الْمُبْهَمُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُعَيَّنَ حَالَ صُدُورِهِ بَلْ الْمُبْهَمَ، ثُمَّ بِالتَّعْيِينِ يَنْزِلُ ذَلِكَ الْمُبْهَمُ فِيهِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ وَفِي الْأَصَحِّ يَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمَوْلَى فِي الْبَيَانِ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ بِاسْمِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَلَا يَصِحُّ بَيَانُهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: كُنْت نَوَيْته عِنْدَ التَّلَفُّظِ. لَنَا فِي تَأْصِيلِ اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ لِلْقِتَالِ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ فَقَتَلَهُمْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنِصْفِ الْعَقْلِ» وَلَيْسَ هَذَا إلَّا لِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ السُّجُودَ جَازَ كَوْنُهُ لِلَّهِ فَيَكُونُ إسْلَامًا فَيَجِبُ كَمَالُ الْعَقْلِ، وَجَازَ كَوْنُهُ تَعْظِيمًا لِلظَّاهِرِينَ عَلَيْهِمْ تَقِيَّةً مِنْ الْقَتْلِ كَمَا يَفْعَلُونَهُ فَكَانَ مُوجِبًا لِكَمَالِهِ فِي اعْتِبَارٍ غَيْرَ مُوجِبٍ فِي اعْتِبَارٍ فَقَضَى بِالنِّصْفِ.
وَجْهُ اعْتِبَارِ الْقُرْعَةِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهُ لِانْقِطَاعِهِ بَاطِنًا، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ جَازَ أَنْ يُضَعَّفَ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ. وَمِنْ الْعِلَلِ مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَكَذَا مُخَالَفَةُ الْعَادَةِ الْقَاضِيَةِ بِخِلَافِهِ، قَالُوا: هَذَا يُخَالِفُ نَصَّ الْقُرْآنِ بِتَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ، فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ تَعْلِيقُ الْمِلْكِ أَوْ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْخَطَرِ، وَالْقُرْعَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ إنْ ظَهَرَ كَذَا لَا إنْ ظَهَرَ كَذَا، وَأَمَّا قَضَاءُ الْعَادَةِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهَا قَاضِيَةٌ بِنَفْيِ أَنَّ وَاحِدًا يَمْلِكُ سِتَّةَ أَعْبُدٍ وَلَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ مِنْ دِرْهَمٍ وَلَا ثَوْبٍ وَلَا نُحَاسٍ وَلَا دَابَّةٍ وَلَا قَمْحٍ وَلَا دَارٍ يَسْكُنُهَا، وَلَا شَيْءٍ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ لِلْعَرَبِ ذَلِكَ لِيَأْخُذُوا غَلَّتَهُمْ أَوْ يَكُونُ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي غَنِيمَةٍ إنْ كَانَ مَعَ الْفَرْضِ الَّذِي فَرَضْنَاهُ مِنْ عَدَمِ شَيْءٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ فَهُوَ أَيْضًا مِمَّا تَقْضِي الْعَادَةُ بِنَفْيِهِ لِأَنَّهُ أَنْدَرُ نَادِرٍ فَكَانَ مُسْتَحِيلًا فِي الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ فَوَجَبَ رَدُّ الرِّوَايَةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْبَاطِنَةِ، كَمَا قَالُوا فِي الْمُتَفَرِّدِ بِزِيَادَةٍ مِنْ بَيْنِ جَمَاعَةٍ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُمْ عَنْ مِثْلِهَا مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِغَلَطِهِ وَصَارَ هَذَا مِنْ جِنْسِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى.
وَأَمَّا مَا قِيلَ: إنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ فَلَا تَعُمُّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى طَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقًا صَحِيحًا جَازَ ارْتِكَابُهُ وَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِهِ، وَإِلَّا فَمِثْلُهُ يَلْزَمُ فِيمَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ لِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ مِنْ قِصَّةِ الْخَثْعَمِيِّينَ بِلَا فَرْقٍ، وَكَذَا نَحْوُهُ مِنْ أَوْجُهٍ ضَعِيفَةٍ، وَحَقِيقَةُ الْوَجْهِ لَيْسَ إلَّا دَلَالَةَ الْعَادَةِ، وَالْكِتَابُ عَلَى نَفْيِ مُقْتَضَاهُ فَيُحْكَمُ بِغَلَطِهِ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ عَنْ عِمْرَانَ، وَلِذَلِكَ أُجْمِعَ عَلَى عَدَمِ الْإِقْرَاعِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ لِلْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا، وَعَلَى عَدَمِهَا أَيْضًا عِنْدَ تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ، وَنَحْنُ لَا نَنْفِي شَرْعِيَّةَ الْقُرْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ بَلْ نُثْبِتُهَا شَرْعًا لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ وَدَفْعِ الْأَحْقَادِ وَالضَّغَائِنِ كَمَا فَعَلَ عليه الصلاة والسلام لِلسَّفَرِ بِنِسَائِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَفَرُهُ بِكُلِّ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ جَائِزًا إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يَتَسَارَعُ الضَّغَائِنُ إلَى مَنْ يَخُصُّهَا مِنْ بَيْنِهِنَّ فَكَانَ الْإِقْرَاعُ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِنَّ، وَكَذَا إقْرَاعُ الْقَاضِي فِي الْأَنْصِبَاءِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَالْبِدَايَةِ بِتَحْلِيفِ أَحَدِ الْمُتَحَالِفَيْنِ إنَّمَا
فَيَثْبُتُ فِيهِ النِّصْفُ. قَالَ (فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ قُسِمَ الثُّلُثُ عَلَى هَذَا) وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ سِهَامِ الْعِتْقِ وَهِيَ سَبْعَةٌ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّا نَجْعَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ فَنَقُولُ: يَعْتِقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْ الْآخَرَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ فَيَبْلُغُ سِهَامُ الْعِتْقِ سَبْعَةً، وَالْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَمَحَلُّ نَفَاذِهَا الثُّلُثُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ ضِعْفَ ذَلِكَ فَيُجْعَلَ كُلُّ رَقَبَةٍ عَلَى سَبْعَةٍ وَجَمِيعُ الْمَالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيَعْتِقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةٌ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةٍ وَيَعْتِقُ مِنْ الْبَاقِيَيْنِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا سَهْمَانِ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةٍ، فَإِذَا تَأَمَّلْت وَجَمَعْت اسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يُجْعَلُ كُلُّ رَقَبَةٍ عَلَى سِتَّةٍ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ الدَّاخِلِ عِنْدَهُ سَهْمٌ فَنَقَصَتْ سِهَامُ الْعِتْقِ بِسَهْمٍ وَصَارَ جَمِيعُ الْمَالِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَبَاقِي التَّخْرِيجِ مَا مَرَّ.
هُوَ لِدَفْعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تُهْمَةِ الْمَيْلِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجُوزُ تَرْكُهَا فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ اسْتِهَامُ زَكَرِيَّا عليه السلام مَعَهُمْ عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ عليها السلام كَانَ لِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ كَانَ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهَا لِأَنَّ خَالَتَهَا كَانَتْ تَحْتَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا أَنْ يَتَعَرَّفَ بِهَا لِاسْتِحْقَاقٍ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي سَبَبِهِ فَأَوْلَى مِنْهُ ظَاهِرُ التَّوْزِيعِ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ قَدْ تُؤَدِّي إلَى حِرْمَانِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ إذَا كَانَ شَائِعًا فِيهِمْ يَقَعُ فِي كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا جُمِعَ الْكُلُّ فِي وَاحِدٍ فَقَدْ حُرِمَ الْآخَرُ بَعْضَ حَقِّهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وُزِّعَ فَإِنَّهُ يَنَالُ كُلًّا شَيْءٌ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ شَائِعًا فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعَشَرَةِ الْمَالِكِينَ لِعَشْرِ جَوَارٍ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ جَارِيَتَهُ ثُمَّ لَمْ تَدُرْ وَصَارَ مِلْكُ الْعُشْرِ لِوَاحِدٍ حَيْثُ يَعْتِقُ مِنْ كُلٍّ عُشْرُهَا وَتَسْعَى فِي تِسْعَةِ أَعْشَارِهَا فَفِيهِ إصَابَةُ الْمُسْتَحِقِّ بَعْضَ حَقِّهِ يَقِينًا وَمَعَ الْقُرْعَةِ جَازَ أَنْ يَفُوتَهَا كُلُّ حَقِّهَا (قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ قُسِمَ الثُّلُثُ عَلَى هَذَا) لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ وَمَحَلُّ نَفَاذِ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ قَسْمَ الثُّلُثِ وَهُوَ عِتْقُ رَقَبَةٍ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَيَضْرِبُ كُلٌّ بِقَدْرِ وَصِيَّتِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ سِهَامِ الْعِتْقِ وَهِيَ سَبْعَةٌ عَلَى قَوْلِهِمَا) أَيْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَسِتَّةٌ وَذَلِكَ (لِأَنَّا نَجْعَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ) وَإِنَّمَا نَجْعَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ (لِحَاجَتِنَا إلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ فَنَقُولُ يَعْتِقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةٌ مِنْهُ) مِنْ أَرْبَعَةٍ (وَمِنْ الْآخَرَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمَانِ فَيَبْلُغُ سِهَامُ الْعِتْقِ سَبْعَةً) خَارِجَةً مِنْ الثُّلُثِ فَلَا بُدَّ مِنْ
(وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَهُنَّ غَيْرُ مَدْخُولَاتٍ وَمَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْبَيَانِ سَقَطَ مِنْ مَهْرِ الْخَارِجَةِ رُبُعُهُ وَمِنْ مَهْرِ الثَّابِتَةِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ وَمِنْ مَهْرِ الدَّاخِلَةِ ثُمُنُهُ)
كَوْنِ سُهْمَانِ الْوَرَثَةِ ضِعْفَهَا لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ ضِعْفُ الثُّلُثِ وَهُمَا سِهَامُهُمْ فَيَبْلُغُ كُلُّ الْمَالِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَكُلُّ الْمَالِ هُوَ الْأَعْبُدُ الثَّلَاثَةُ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ بِالضَّرُورَةِ فَيَعْتِقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةٍ، وَمِنْ الْآخَرَيْنِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا سَهْمَانِ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةٍ فَصَارَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثَّابِتِ إلَى ثَلَاثَةِ أَسْبَاعِهِ، وَذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِهِ بِنِصْفِ سُبْعٍ وَصَارَ نِصْفُ كُلٍّ مِنْ الْآخَرَيْنِ سَبْعِينَ وَذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِهِ بِثُلُثِ سُبْعٍ، وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّمَا يَضْرِبُ الدَّاخِلُ بِسَهْمٍ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةٍ فَصَارَ رُبُعُهُ سُدُسًا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ سِهَامُ الْعِتْقِ سِتَّةً وَسِهَامُ الْوَرَثَةِ ضِعْفُهَا أَلْبَتَّةَ فَتَكُونُ كُلُّ التَّرِكَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَيُجْعَلُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى سِتَّةٍ فَيَعْتِقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةٌ وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةٍ فَكَانَ الْمُعْتَقُ مِنْ مُسْتَحِقِّ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ عَلَى قَوْلِهِ نِصْفَهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَعْتِقُ مِنْهُ نِصْفُهُ إلَّا نِصْفَ سُبْعٍ وَمِنْ الْخَارِجِ سَهْمَانِ وَهُمَا ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةٍ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَعْتِقُ ثُلُثُهُ إلَّا ثُلُثَ سُبْعٍ وَمِنْ الدَّاخِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ سُدُسُهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَعْتِقُ سُبْعَاهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَاصِلَ لِلْوَرَثَةِ لَا يَخْتَلِفُ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ) يَعْنِي قَالَ لِزَوْجَتَيْنِ لَهُ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَخَرَجَتْ إحْدَاهُمَا وَدَخَلَتْ زَوْجَةٌ لَهُ ثَالِثَةٌ فَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ (وَهُنَّ غَيْرُ مَدْخُولَاتٍ وَمَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْبَيَانِ سَقَطَ مِنْ مَهْرِ الْخَارِجَةِ رُبُعُهُ) وَوَجَبَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ (وَمِنْ مَهْرِ الثَّابِتَةِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ) وَوَجَبَ لَهَا خَمْسَةُ أَثْمَانِهِ (وَمِنْ مَهْرِ الدَّاخِلَةِ ثُمُنُهُ) وَوَجَبَ لَهَا سَبْعَةُ أَثْمَانِهِ فَأَلْزَمَهُمَا مُحَمَّدٌ رحمه الله الْمُنَاقَضَةَ فَإِنَّ سُقُوطَ رُبْعِ مَهْرِ الْخَارِجَةِ لِوُقُوعِ طَلَاقٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّابِتَةِ يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ مَهْرَيْهِمَا لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى بِسُقُوطِهِ مِنْ الْأُخْرَى فَوُزِّعَ بَيْنَهُمَا فَسَقَطَ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْخَارِجَةِ وَالثَّابِتَةِ رُبُعُ مَهْرِهَا، وَالْكَلَامُ الثَّانِي مُوجَبٌ فِي حَالٍ هِيَ أَنْ تُرَادَ الْخَارِجَةُ دُونَ حَالٍ وَهِيَ أَنْ تُرَادَ الثَّابِتَةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ وَمَنْكُوحَةٍ لِأَنَّهُ
قِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله خَاصَّةً، وَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ رُبُعُهُ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُمَا أَيْضًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ وَتَمَامَ تَفْرِيعَاتِهَا فِي الزِّيَادَاتِ.
لَا عِدَّةَ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَتَنَصَّفُ وَيَثْبُتُ بِهِ سُقُوطُ الرُّبُعِ مُوَزَّعًا لِيَسْقُطَ ثُمُنُ مَهْرِ الدَّاخِلَةِ وَمِثْلُهُ مِنْ مَهْرِ الثَّابِتَةِ فَيُضَمُّ إلَى مَا سَقَطَ مَعَ الْأُولَى فَيَتِمُّ لَهَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ فَيَجِبُ مِثْلُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ فَيَعْتِقُ رُبُعُ الدَّاخِلِ؛ لِأَنَّ الثُّمُنَ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِمَنْزِلَةِ الرُّبُعِ لِأَنَّ السَّاقِطَ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَالثُّمُنُ هُوَ رُبُعُ النِّصْفِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي جَوَابِهِ (قِيلَ هَذَا) أَيْ الْمَذْكُورُ فِي الطَّلَاقِ (قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَسْقُطُ رُبُعُ مَهْرِ الدَّاخِلَةِ) لَا الثُّمُنُ فَلَا يَتِمُّ بِهِ الْإِلْزَامُ (وَقِيلَ) بَلْ (هُوَ قَوْلُهُمَا أَيْضًا) وَالْفَرْقُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي زِيَادَاتِهِ وَذَكَرَ تَمَامَ تَفْرِيعَاتِهَا أَيْضًا فِيهَا. أَمَّا التَّفْرِيعَاتُ فَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَيَانِ الْعِتْقِ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِ وَبَعْدَ مَوْتِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، وَأَمَّا التَّفْرِيعَاتُ فِي الطَّلَاقِ، فَمِنْهَا أَنَّ مِيرَاثَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النِّسَاءِ وَهُوَ الرُّبُعُ أَوْ الثُّمُنُ يَنْقَسِمُ بَيْنَ الدَّاخِلَةِ وَالْأُولَيَيْنِ نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ لِلدَّاخِلَةِ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهَا إلَّا إحْدَى الْأُولَيَيْنِ: أَعْنِي الثَّابِتَةَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا لَيْسَتْ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْأُخْرَى.
وَمِنْهَا أَنَّ الثَّابِتَةَ لَوْ مَاتَتْ وَالزَّوْجُ حَيٌّ طَلُقَتْ الْخَارِجَةُ وَالدَّاخِلَةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَتَاقِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى الزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ، وَإِنْ مَاتَتْ الدَّاخِلَةُ كَانَ عَلَيْهِ بَيَانُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى الْخَارِجَةِ طَلُقَتْ الثَّابِتَةُ أَيْضًا لِعَدَمِ مُزَاحَمَةِ الدَّاخِلَةِ بِالْمَوْتِ؛ وَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى الثَّابِتَةِ لَمْ تَطْلُقْ الْخَارِجَةُ، وَإِنْ مَاتَتْ الْخَارِجَةُ طَلُقَتْ الثَّابِتَةُ دُونَ الدَّاخِلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ، وَلَوْ لَمْ تَمُتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ حَتَّى بَيَّنَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ فِي الْخَارِجَةِ صَحَّ وَعَلَيْهِ بَيَانُ الثَّانِي، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الثَّابِتَةِ أَوْ الدَّاخِلَةِ بِهِ، وَإِنْ بَيَّنَ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّابِتَةِ لَغَا الْكَلَامُ الثَّانِي، وَإِنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ عَلَى الدَّاخِلَةِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الْخَارِجَةِ أَوْ الثَّابِتَةِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَوْقَعَهُ عَلَى الثَّابِتَةِ طَلُقَتْ وَطَلُقَتْ الْخَارِجَةُ أَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ فَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ فِي الْعِتْقِ صَحِيحٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي حَقِّ الدَّاخِلِ وَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَكَذَا فِي حَقِّ الثَّابِتِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَتَقَ نِصْفُهُ وَهُوَ يَقُولُ بِتَجَزِّي الْإِعْتَاقِ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ مَحَلٌّ لِلْعِتْقِ فَصَحَّ اللَّفْظُ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَيْضًا، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرَ مَحَلٍّ لَهُ وَاسِطَةٌ وَالطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَزِمَ كَوْنُ الْإِيجَابِ الثَّانِي فِيهِ دَائِرًا بَيْنَ كَوْنِهِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ النِّصْفِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُوجِبٍ شَيْئًا بِخِلَافِهِ فِي الْعِتْقِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِتَجَزِّي الْإِعْتَاقِ فَلِأَنَّ الثَّابِتَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، فَكَانَ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ مَحَلٌّ لِلْعِتْقِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ عِتْقَ نِصْفِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُكَاتَبًا فِي الْإِيجَابِ الثَّانِي إنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَإِلَّا فَالْإِيجَابُ الْأَوَّلُ إنَّمَا مُقْتَضَاهُ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِعِتْقِ نِصْفِ أَحَدٍ بِهِ، لَكِنْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى قَسَمْنَاهُ بَيْنَهُمْ، فَقَدْ يُقَالُ مِنْ طَرَفِ مُحَمَّدٍ رحمه الله: إنَّ اعْتِبَارَ الْأَحْوَالِ إنَّمَا هُوَ حَالُ صُدُورِ مَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَحَالُ صُدُورِ الْإِيجَابِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ فِي الثَّابِتِ عِتْقٌ أَصْلًا.
وَيُجَابُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ الِاعْتِبَارُ حَالَ صُدُورِهِ إذَا كَانَ لِتَعَرُّفِ حُكْمِهِ إذْ ذَاكَ، وَنَحْنُ إنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نَتَعَرَّفَ حُكْمَ الْكَلَامِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَفَرْقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ يُعْتَبَرُ تَعْلِيقًا فِي حَقِّ الدَّاخِلِ بِحُكْمٍ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَهُوَ وُقُوعُ الْعِتْقِ. أَمَّا الْبَرَاءَةُ عَنْ الْمَهْرِ فَلَا تَحْتَمِلُهُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَيُعْتَبَرُ تَنْجِيزًا فِي حَقِّ الْبَرَاءَةِ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ تَنْجِيزًا كَانَ الْكَلَامُ الثَّانِي مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يُوجِبَ أَوْ لَا يُوجِبَ شَيْئًا فَأَوْجَبَ سُقُوطَ رُبْعِ الْمَهْرِ مِنْ الثَّابِتَةِ وَالدَّاخِلَةِ فَيَسْقُطُ مِنْ الدَّاخِلَةِ ثُمُنٌ وَتَسْتَحِقُّ ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ مَهْرِهَا وَمِنْ الثَّابِتَةِ كَذَلِكَ وَكَانَ سَقَطَ الْمُتَيَقَّنُ بِالْأَوَّلِ فَيَسْقُطُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ وَتَسْتَحِقُّ ثُمُنًا وَاحِدًا.
هَذَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَخْصِيصَ أَبِي يُوسُفَ
(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا أَوْ مَاتَ أَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَتَقَ الْآخَرُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ أَصْلًا بِالْمَوْتِ وَلِلْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ بِالْبَيْعِ وَلِلْعِتْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالتَّدْبِيرِ فَتَعَيَّنَ لَهُ الْآخَرُ، وَلِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ قَصَدَ الْوُصُولَ إلَى الثَّمَنِ وَبِالتَّدْبِيرِ إبْقَاءَ الِانْتِفَاعِ إلَى مَوْتِهِ، وَالْمَقْصُودَانِ
فِي الْفَرْقِ بِمَا ذَكَرَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِتَجَزِّي الْإِعْتَاقِ فِي الْأَعْبُدِ فَيَقْوَى بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ ذَلِكَ السُّؤَالِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا أَوْ مَاتَ أَوْ قَالَ لَهُ) أَيْ لِأَحَدِهِمَا (أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَتَقَ الْآخَرُ) الْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَيَانُ فِي الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ يُوجِبُ الْبَيَانَ كَالطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ لَا بَيَانَ إلَّا بِالْقُرْعَةِ، وَبِاللَّفْظِ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَقُولَ: كُنْت نَوَيْته عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ، وَعِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ لَا يَعْتِقُ أَصْلًا.
وَالْبَيَانُ يَقَعُ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ اخْتَرْت أَنْ يَكُونَ هَذَا حُرًّا بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي قُلْته، أَوْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ بِذَلِكَ الْعِتْقِ أَوْ أَعْتَقْتُك بِذَلِكَ الْعِتْقِ، أَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت بِذَلِكَ الْعِتْقَ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ قَضَاءً فَلَا يَعْتِقُ الْآخَرُ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا عَتَقَ هُوَ وَالْآخَرُ مَعًا لِأَنَّ هَذَا عِتْقٌ آخَرُ نَازِلٌ بِغَيْرِ الْأَوَّلِ وَبِهِ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِنُزُولِ عِتْقٍ آخَرَ فَكَانَ كَالْمَوْتِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ بِذَلِكَ الْإِعْتَاقِ. وَدَلَالَةً كَمَا إذَا بَاعَ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا مَعَ قَبْضٍ وَدُونَهُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْبَيَانَ يَقَعُ بِتَصَرُّفٍ مُخْتَصٍّ بِالْمِلْكِ سَوَاءٌ كَانَ مُخْرِجًا لَهُ عَنْ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ نَجَّزَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا أَوْ بَاعَهُ أَوَّلًا، وَلِذَا عَتَقَ الْآخَرُ بِالْمُسَاوَمَةِ فِي صَاحِبِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ اسْتِبْقَاءَ مِلْكِهِ فِي الَّذِي تَصَرَّفَ فِيهِ فَيَقَعُ بَيَانًا لِعِتْقِ الْآخَرِ، وَحُكْمًا كَمَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَعْتِقُ الْآخَرُ، وَلَيْسَ بَيَانًا مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ اخْتِيَارِيًّا، وَلِأَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَلَا إنْشَاءَ فِي الْآخَرِ بِمَوْتِ قَرِينِهِ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ صِفَةُ اللَّفْظِ، بَلْ لَزِمَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ ذَلِكَ بِسَبَبِ فَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الَّذِي مَاتَ لِنُزُولِ الْعِتْقِ فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ عِتْقِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَلَزِمَ لِذَلِكَ الْكَلَامِ عِتْقُ الْحَيِّ وَمَا يَقَعُ بِهِ الْبَيَانُ فِي الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ الْمُنَجَّزِ يَقَعُ بِهِ فِي الْمُعْتَقِ الْمُبْهَمِ الْمُعَلَّقِ كَأَنْ قَالَ: إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَأَحَدُكُمَا حُرٌّ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الشَّرْطِ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ ثُمَّ جَاءَ زَيْدٌ عَتَقَ الْبَاقِي. وَفُرِّقَ بَيْنَ الْبَيَانِ الْحُكْمِيِّ وَالصَّرِيحِ، فَإِنَّ الْحُكْمِيَّ قَدْ رَأَيْت أَنَّهُ يَصِحُّ قَبْلَ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ الصَّرِيحِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ قَبْلَ الشَّرْطِ اخْتَرْت أَنْ يَعْتِقَ فُلَانٌ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ قَبْلَ وَقْتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ ثُمَّ عَيَّنَ إحْدَاهُمَا لِلْحِنْثِ لَا يَصِحُّ تَعْيِينُهُ وَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ اشْتَرَاهُمَا ثُمَّ جَاءَ زَيْدٌ ثَبَتَ حُكْمُ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمَا وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا يُبْطِلُهَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ كَانَ الْيَمِينُ قَبْلَ الْحُرِّيَّةِ الْمَجْهُولَةِ يَعْنِي قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ لَهُ مَعَ آخَرَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ فَعَتَقَ ذَلِكَ الْمَحْلُوفُ بِعِتْقِهِ عَتَقَ الْآخَرُ لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الْمَحْلُوفِ بِعِتْقِهِ بِالْعِتْقِ فَصَارَ كَمَوْتِهِ وَلَوْ كَاتَبَ أَوْ رَهَنَ أَوْ آجَرَ يَكُونُ بَيَانًا، وَلَوْ اسْتَخْدَمَ أَحَدَهُمَا أَوْ قَطَعَ يَدَهُ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ لَا يَكُونُ بَيَانًا (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ أَصْلًا بِالْمَوْتِ وَلِلْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ بِالْبَيْعِ) أَيْ وَلَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالْعِتْقِ الْمُبْهَمِ بِسَبَبِ بَيْعِهِ إيَّاهُ (وَلِلْعِتْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) أَيْ وَلَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ الْعِتْقُ الْمُلْتَزَمُ بِقَوْلِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَإِنَّ حَاصِلَهُ تَعْلِيقُ عِتْقٍ كَامِلٍ بِالْبَيَانِ.
وَبِالتَّدْبِيرِ لَمْ يَبْقَ عِتْقُهُ عِتْقًا كَامِلًا لِاسْتِحْقَاقِهِ الْعِتْقَ عِنْدَ الْمَوْتِ (فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَلِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ قَصَدَ الْوُصُولَ إلَى الثَّمَنِ وَبِالتَّدْبِيرِ) قَصَدَ (اسْتِبْقَاءَ الِانْتِفَاعِ) بِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَأَنْ يُعْتِقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ (وَالْمَقْصُودَانِ)
يُنَافِيَانِ الْعِتْقَ الْمُلْتَزَمَ فَتَعَيَّنَ لَهُ الْآخَرُ دَلَالَةً وَكَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ إحْدَاهُمَا لِلْمَعْنَيَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ مَعَ الْقَبْضِ وَبِدُونِهِ وَالْمُطْلَقِ وَبِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِإِطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ وَالْمَعْنَى مَا قُلْنَا، وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ مُلْحَقٌ بِهِ فِي الْمَحْفُوظِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَالْهِبَةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالصَّدَقَةُ وَالتَّسْلِيمُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ؛.
يَعْنِي الْوُصُولَ إلَى الثَّمَنِ وَالِانْتِفَاعَ الْمُسْتَمِرَّ إلَى الْمَوْتِ (يُنَافِيَانِ الْعِتْقَ الْمُلْتَزَمَ بِالْإِيجَابِ الْمُبْهَمِ فَيَتَعَيَّنُ لَهُ الْآخَرُ دَلَالَةً)(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ إحْدَاهُمَا) أَيْ إذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا فَعَلِقَتْ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا كَوْنُهَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالْمُدَبَّرِ وَقَصْدُ إبْقَائِهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا إلَى الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْوَطْءَ بِالْمُعَلِّقِ لِأَنَّ الْوَطْءَ غَيْرَ الْمُعَلِّقِ لَيْسَ بَيَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا سَنَذْكُرُ.
وَاسْتَشْكَلَ عَلَى تَعَيُّنِ الْآخَرِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا مَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَسَمَّى ثَمَنَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ لِلْبَيْعِ الْمَيِّتُ لَا الْحَيُّ مَعَ أَنَّ بِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ كَمَا لَمْ تَبْقَ مَحَلِّيَّةُ الْعِتْقِ، وَمَا لَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ: إحْدَى هَاتَيْنِ بِنْتِي أَوْ أُمُّ وَلَدِي ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا لَا تَتَعَيَّنُ الْحَيَّةُ لِلِاسْتِيلَادِ وَلَا لِلْحُرِّيَّةِ.
وَجَوَابُ الْأَوَّلِ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ عِنْدَ إشْرَافِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمَوْتِ تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِيهِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ كَمَا قَبَضَهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَدِّمَةِ تَعْيِيبٍ فَإِنَّمَا تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَهُوَ حَيٌّ لَا مَيِّتٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ بِالْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ، فَلَوْ عَتَقَ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَامْتَنَعَ فَمَاتَ رَقِيقًا لِعَدَمِ مُوجِبِ النَّقْلِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ.
وَجَوَابُ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَيْسَ إيقَاعًا بِصِيغَتِهِ بَلْ إخْبَارٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ بِهَذَا عَنْ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فَيُرْجَعَ إلَى بَيَانِ الْمَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (لِإِطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ) يُرِيدُ الْجَامِعَ الصَّغِيرَ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَعْنَى مَا قُلْنَا) أَيْ مِنْ أَنَّهُ قَصْدُ الْوُصُولِ إلَى الثَّمَنِ، وَالْوُصُولُ إلَى الثَّمَنِ يُنَافِي الْعِتْقَ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ.
(قَوْلُهُ وَالْهِبَةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالصَّدَقَةُ وَالتَّسْلِيمُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ) رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْإِمْلَاءِ: إذَا وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَأَقْبَضَ أَوْ تَصَدَّقَ وَأَقْبَضَ عَتَقَ الْآخَرُ،
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا لِمَا نُبَيِّنُ (وَلَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ إحْدَاكُمَا حُرَّةٌ ثُمَّ جَامَعَ إحْدَاهُمَا) لَمْ تَعْتِقْ الْأُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا تَعْتِقُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَإِحْدَاهُمَا حُرَّةٌ فَكَانَ بِالْوَطْءِ مُسْتَبْقِيًا الْمِلْكَ فِي الْمَوْطُوءَةِ فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِزَوَالِهِ بِالْعِتْقِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَلَهُ أَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِي الْمَوْطُوءَةِ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمُنَكَّرَةِ وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ فَكَانَ وَطْؤُهَا حَلَالًا فَلَا يُجْعَلُ بَيَانًا وَلِهَذَا حَلَّ وَطْؤُهُمَا عَلَى مَذْهَبِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْتِي بِهِ،
قَالُوا: ذِكْرُهُ الْإِقْبَاضَ تَوْكِيدٌ لَا لِلشَّرْطِ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْبَيَانَ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ تَصَرُّفٍ مُخْتَصٍّ بِالْمِلْكِ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ إذَا عَيَّنَتْ الْآخَرَ وَلَيْسَ فِيهَا خُرُوجٌ عَنْ الْمِلْكِ فَعَقْدُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَهُوَ أَدْخَلُ فِي طَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْلَى أَنْ يُعَيِّنَهُ.
(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا) يَعْنِي تَطْلُقُ الْحَيَّةُ (لِمَا قُلْنَا) فِي الْعِتْقِ مِنْ عِتْقِ الْبَاقِي بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا لِعَدَمِ مَحَلِّيَّةِ الْعِتْقِ (وَكَذَا لَوْ وَطِئَ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ تَطْلُقُ الْأُخْرَى لِمَا نُبَيِّنُ) فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ الَّتِي تَلِيهَا (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ إحْدَاكُمَا حُرَّةٌ ثُمَّ جَامَعَ إحْدَاهُمَا) وَلَمْ تَعْلَقْ (لَمْ تَعْتِقْ الْأُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، أَمَّا لَوْ عَلِقَتْ عَتَقَتْ الْأُخْرَى اتِّفَاقًا، وَلَوْ قَالَ إحْدَاكُمَا مُدَبَّرَةٌ ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا لَا يَكُونُ بَيَانًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَنَافِعِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ (وَقَالَا تَعْتِقُ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ (لَهُمَا أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي مِلْكٍ) وَإِحْدَاهُمَا لَيْسَتْ فِي الْمِلْكِ لِعِتْقِ إحْدَاهُمَا بِذَلِكَ الْكَلَامِ، وَلِذَا لَوْ قَتَلَهُمَا إنْسَانٌ وَجَبَ نِصْفُ دِيَةٍ وَقِيمَةٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَكَانَ بِوَطْءِ إحْدَاهُمَا مُبَيِّنًا لِلْمُسْتَبْقَى لِمِلْكِهَا (فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِزَوَالِهِ بِذَلِكَ الْعِتْقِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ) الْمُبْهَمِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا أَوْ دَخَلَ فَقَالَ: طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ ثَلَاثًا فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الطَّلَاقَ بِمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجْعِيًّا لَا يَكُونُ الْوَطْءُ بَيَانًا لِطَلَاقِ الْأُخْرَى لِحِلِّ وَطْءِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، ذَكَرَهُ فِي النَّوَادِرِ وَهَلْ يَثْبُتُ الْبَيَانُ فِي الطَّلَاقِ بِالْمُقَدِّمَاتِ؟ فِي الزِّيَادَاتِ لَا يَثْبُتُ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يَحْصُلُ بِالتَّقْبِيلِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ (وَلَهُ أَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِيهِمَا) جَمِيعًا حَتَّى
ثُمَّ يُقَالُ الْعِتْقُ غَيْرُ نَازِلٍ قَبْلَ الْبَيَانِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ أَوْ يُقَالُ نَازِلٌ فِي الْمُنَكَّرَةِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمِ تَقَبُّلِهِ وَالْوَطْءُ يُصَادِفُ الْمُعَيَّنَةَ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ النِّكَاحِ الْوَلَدُ، وَقَصْدُ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِي الْمَوْطُوءَةِ صِيَانَةً لِلْوَلَدِ، أَمَّا الْأَمَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْ وَطْئِهَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِبْقَاءِ
قَالَ يَحِلُّ وَطْؤُهُمَا، وَلِهَذَا لَوْ وُطِئَتَا بِشُبْهَةٍ كَانَ الْوَاجِبُ عُقْرَ مَمْلُوكَتَيْنِ وَيَكُونُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْبَدَلَ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمُنْكَرَةِ: أَيْ الْمُبْهَمَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهِيَ غَيْرُ الْمُعَيَّنَةِ وَتُنَافِيهَا، لِأَنَّ الْمُعَيَّنَةَ لَيْسَتْ دَائِرَةً بَيْنَ نَفْسِهَا وَالْمُعَيَّنَةُ الْأُخْرَى فِي حَقِّ الْعِلْمِ وَالْمُبْهَمَةُ أَحَدٌ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا وَوُقُوعُهُ فِي الْمُعَيَّنَةِ مَشْرُوطٌ بِالْبَيَانِ فَكَانَ عِتْقُ الْمُعَيَّنَةِ مُعَلَّقًا بِهِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ قَبْلَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لِأَمَتِهِ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَإِنَّ لَهُ وَطْأَهُمَا قَبْلَ الشَّرْطِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ.
فَقَوْلُهُمَا إحْدَاهُمَا حُرَّةٌ إنْ أُرِيدَ الْمُعَيَّنَةُ مَنَعْنَاهُ أَوْ الْمُبْهَمَةُ سَلَّمْنَاهُ، وَلَا يُفِيدُ لِأَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْمُعَيَّنَةِ فَوَطْؤُهُمَا لَمْ يَقَعْ فِي مَحَلِّ الْحُرْمَةِ فَحَلَّ، فَإِذَا حَلَّ وَطْءُ كُلٍّ مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ وَطْءُ إحْدَاهُمَا دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْأُخْرَى بِعِتْقِهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الْحَلَالُ وَطْءَ إحْدَاهُمَا فَقَطْ وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَحِينَئِذٍ يَرِدُ النَّقْضُ بِالْوَطْءِ بِالطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا ذُكِرَ لَزِمَ حِلُّ وَطْئِهِمَا لِوُقُوعِهِ فِي مُعَيَّنَةٍ وَالْمُطَلَّقَةُ هِيَ الْمُبْهَمَةُ، فَإِذَا أُجِيبَ عَنْهُ بِتَقْيِيدِ حِلِّهِمَا بِمَا إذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ إحْدَاهُمَا لِلطَّلَاقِ وَبِمُجَرَّدِ وَطْءِ إحْدَاهُمَا تَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى فَتُحَرَّمُ بِخِلَافِهِ فِي الْعِتْقِ عَادَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا كَانَ الْوَطْءُ بَيَانًا فِي الطَّلَاقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا فِي الْعِتْقِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الزَّوْجَتَيْنِ الْمُعَيَّنَتَيْنِ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا الْمُطَلَّقَةُ هِيَ الْمُبْهَمَةُ، وَلَا جَوَابَ لَهُ سِوَى أَنَّ الدَّالَ فِي الْأَصْلِ: أَعْنِي الطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ لَيْسَ إلَّا قَصْدَ الِاسْتِبْقَاءِ فَإِنَّهُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْأُخْرَى إذَا كَانَ الْوَاجِبُ إخْرَاجَ إحْدَاهُمَا عَنْ الْمِلْكِ وَهُوَ مُبْطِنٌ فَيُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ الْوَطْءُ لِطَلَبِ الْوَلَدِ، فَإِنَّ طَلَبَهُ يُفِيدُ اسْتِبْقَاءَ مَنْ هُوَ مِنْهَا كَيْ لَا يَضِيعَ حَالُهُ، وَوَطْءُ
(وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً وَلَا يَدْرِي أَيَّهمَا وُلِدَ أَوَّلًا عَتَقَ نِصْفُ الْأُمِّ وَنِصْفُ الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامُ عَبْدٌ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَهُوَ مَا إذَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلَ مَرَّةٍ
الْمَنْكُوحَةِ هُوَ الْمُفِيدُ لِطَلَبِ الْوَلَدِ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وُضِعَ لَهُ عَقْدُهَا لَا وَطْءُ الْأَمَةِ لِأَنَّ عَقْدَهَا لَمْ يُوضَعْ لِذَلِكَ بَلْ لِلِاسْتِخْدَامِ، وَوَطْؤُهَا مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِخْدَامِ قَضَاءً لِلشَّهْوَةِ، فَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ دَلِيلًا عَلَى قَصْدِ الْوَلَدِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً، وَعَلَى هَذَا وَيَكْفِي فِي دَلِيلِهِمَا أَنْ يُقَالَ وَطْءُ إحْدَاهُمَا دَلِيلُ اسْتِبْقَائِهَا كَالْوَطْءِ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ، وَفِي وَجْهٍ قَوْلُهُ مَنَعَ دَلَالَتَهُ، وَالْفَرْقُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيهِمَا وَحِلِّ وَطْئِهِمَا.
ثُمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ لِتَرْكِ الِاحْتِيَاطِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهُمَا كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُمَا، وَقَدْ وَضَعَ فِي الْأُصُولِ مَسْأَلَةً يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ أَحَدٌ أَشْيَاءَ كَمَا يَجُوزُ إيجَابُ أَحَدٍ أَشْيَاءَ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَحُكْمُ تَحْرِيمِ أَحَدٍ أَشْيَاءَ جَوَازُ فِعْلِهَا إلَّا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَوْ عَمَّهَا فِعْلًا كَانَ فَاعِلًا لِلْمُحَرَّمِ قَطْعًا وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ قَدْ يَمْتَنِعُ مَعَهُ الْوَطْءُ لِعَارِضٍ كَالرَّضَاعِ وَالْمَجُوسِيَّةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ قِيَامُهُ حِلَّ الْوَطْءِ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ مُوجَبَ اللَّفْظِ وَهُوَ عِتْقُ إحْدَاهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا، فَفِي وَطْئِهِمَا وَطْءُ الْمُحَرَّمَةِ بِيَقِينٍ فَلَا يَحِلُّ قَطْعًا وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ قَائِمًا فِيهِمَا، بِخِلَافِ أَخْذِهِ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمِلْكِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِحِلِّ الْوَطْءِ، وَغَرَامَةُ قِيمَةِ مَمْلُوكِينَ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ نِصْفُ قِيمَةٍ وَدِيَةٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إذَا قَتَلَهُمَا رَجُلٌ لِصِحَّةِ إثْبَاتِهِ بِدُونِ التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا يَتَنَصَّفُ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا حُرَّةٌ بِيَقِينٍ وَلَا تُعْرَفُ فَتُنَصَّفُ فِي الضَّمَانِ ثُمَّ مَا هُوَ قِيمَةٌ لِلْمَوْلَى وَمَا هُوَ دِيَةٌ لِلْوَرَثَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلَانِ فَإِنَّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا قِيمَةَ أَمَةٍ إذْ لَيْسَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا حُرَّةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكُلٌّ مِنْ الرَّجُلَيْنِ يَقُولُ ذَلِكَ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ قَتْلِ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَا تَعْدُوهُمَا فَتَحَقَّقَ عَلَيْهِ ضَمَانُ حُرَّةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ بِعَيْنِهَا فَتَوَزَّعَ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُمْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِمَا مُعَلَّقٌ بِالْبَيَانِ فَجَازَ وَطْؤُهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، إذْ لَا تَعْلِيقَ بَلْ تَنْجِيزٌ مَأْمُورٌ فِي الشَّرْعِ بِتَعْيِينِ مَحَلِّهِ، وَلَوْ كَانَ يَمِينًا مَحْضًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى إيقَاعِ شَرْطِهِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَهُنَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَعُرِفَ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ الْوُقُوعِ فِي الْمُعَيَّنَةِ عَلَيْهِ شَبَهًا لَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ أَحْكَامِهِ مِنْ حِلِّ الْوَطْءِ قَبْلَ الشَّرْطِ فِيهِمَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ ذَلِكَ صَرِيحًا بَلْ خَرَجَ مِنْ تَعْلِيلِهِ الْمِلْكَ فِيهِمَا بِحِلِّ وَطْءِ إحْدَاهُمَا.
[فُرُوعٌ]
مِنْ الْبَيَانِ لَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ إحْدَاكُمَا حُرَّةٌ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَعْنِ هَذِهِ عَتَقَتْ الْأُخْرَى، وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ أَعْنِ هَذِهِ الْأُخْرَى عَتَقَتْ الْأُولَى فَتَعْتِقَانِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ أَعْنِ هَذِهِ إقْرَارٌ بِعِتْقِ الْأُخْرَى فَقَدْ أَقَرَّ بِعِتْقِهِمَا، وَكَذَا هَذَا فِي الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِأَحَدِ هَذَيْنِ عَلَيَّ أَلْفٌ فَقِيلَ لَهُ أَهُوَ هَذَا فَقَالَ لَا لَمْ يَجِبْ لِلْآخَرِ شَيْءٌ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيَانَ فِي الْإِقْرَارِ الْمُبْهَمِ لَيْسَ وَاجِبًا بِخِلَافِهِ فِي إنْشَاءِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الْمُبْهَمِ.
وَلَوْ قَالَ أَمَةٌ وَعَبْدٌ مِنْ رَقِيقِي حُرَّانِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَمَةٌ وَعَبْدَانِ عَتَقَتْ الْأَمَةُ وَمِنْ كُلِّ عَبْدٍ نِصْفُهُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً عَتَقَ مِنْ كُلٍّ ثُلُثُهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْبَاقِي، وَلَوْ تَعَدَّدَتْ الْإِمَاءُ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إنْ كَانَتَا أَمَتَيْنِ عَتَقَ مِنْ كُلٍّ نِصْفُهَا أَوْ ثَلَاثًا عَتَقَ مِنْ كُلٍّ ثُلُثُهَا وَتَسْعَى فِي الْبَاقِي، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا وُلِدَ أَوَّلًا عَتَقَ نِصْفُ الْأُمِّ) وَتَسْعَى فِي قِيمَةِ نِصْفِهَا (وَنِصْفُ الْجَارِيَةِ) وَتَسْعَى فِي النِّصْفِ (وَالْغُلَامُ عَبْدٌ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأُمِّ وَالْجَارِيَةِ تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَهُوَ مَا إذَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا
الْأُمُّ بِشَرْطٍ وَالْجَارِيَةُ لِكَوْنِهَا تَبَعًا لَهَا، إذْ الْأُمُّ حُرَّةٌ حِينَ وَلَدَتْهَا، وَتَرِقُّ فِي حَالٍ وَهُوَ مَا إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا لِعَدَمِ الشَّرْطِ فَيَعْتِقُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَتَسْعَى فِي النِّصْفِ، أَمَّا الْغُلَامُ يَرِقُّ فِي الْحَالَيْنِ فَلِهَذَا يَكُونُ عَبْدًا،
فَعِتْقُ الْأُمِّ لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهَا وَالْجَارِيَةِ لِكَوْنِهَا تَبَعًا لِلْأُمِّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَقَدْ وَلَدَتْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ وَتَرِقُّ فِي حَالٍ وَهُوَ مَا إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا لِعَدَمِ الشَّرْطِ، فَإِذَا عَتَقَتَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْغُلَامُ عَبْدٌ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ وُلِدَ وَأُمُّهُ قِنَّةٌ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَعْتِقُ بَعْدَ وِلَادَتِهَا إيَّاهُ أَوَّلًا لِأَنَّ وِلَادَتَهُ شَرْطُ عِتْقِهَا وَالْمَشْرُوطُ يَتَعَقَّبُ الشَّرْطَ وَهَذَا الْجَوَابُ كَمَا تَرَى فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ.
وَالْمَذْكُورُ لِمُحَمَّدٍ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِعِتْقِهِ وَاعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ إيقَاعُ الْعِتْقِ بِالشَّكِّ، فَعَنْ هَذَا حَكَمَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ أَوَّلًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ.
وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ الْمَبْسُوطِ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ جَوَابَ هَذَا الْفَصْلِ بَلْ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يُحْكَمُ بِعِتْقِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَكِنْ يُحَلَّفُ الْمَوْلَى بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا،
فَإِنْ نَكَلَ فَنُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ، وَإِنْ حَلَفَ فَكُلُّهُمْ أَرِقَّاءٌ، وَأَنَّ جَوَابَ هَذَا الْفَصْلِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْهُمَا وَلَا يَدْرِي الْأَوَّلَ فَالْغُلَامُ رَقِيقٌ وَالِابْنَةُ حُرَّةٌ وَتَعْتِقُ نِصْفُ الْأُمِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ جَوَابَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَعْتِقُ جَمِيعُ الْجَارِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهَا إنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا عَتَقَتْ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا عَتَقَتْ تَبَعًا لِلْأُمِّ.
وَأَمَّا انْتِصَافُ عِتْقِ الْأُمِّ فَلِأَنَّهَا تَعْتِقُ فِي وِلَادَةِ الْغُلَامِ أَوَّلًا وَتَرِقُّ فِي الْجَارِيَةِ، وَجَوَابُ الْكِتَابِ عِتْقُ نِصْفِهَا مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ. وَصَحَّحَ فِي النِّهَايَةِ مَا فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي لَمْ يُتَيَقَّنْ وُجُودُهُ إذَا كَانَ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ
وَإِنْ ادَّعَتْ الْأُمُّ أَنَّ الْغُلَامَ هُوَ الْمَوْلُودُ أَوَّلًا وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَةُ صَغِيرَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ لِإِنْكَارِهِ شَرْطَ الْعِتْقِ، فَإِنْ حَلَفَ يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ نَكَلَ عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْأُمِّ حُرِّيَّةَ الصَّغِيرَةِ مُعْتَبَرَةٌ لِكَوْنِهَا نَفْعًا مَحْضًا فَاعْتُبِرَ النُّكُولُ فِي حَقِّ حُرِّيَّتِهِمَا فَعَتَقَتَا، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ كَبِيرَةً وَلَمْ تَدَّعِ شَيْئًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا عَتَقَتْ الْأُمُّ بِنُكُولِ الْمَوْلَى خَاصَّةً دُونَ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْأُمِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ الْجَارِيَةِ الْكَبِيرَةِ، وَصِحَّةُ النُّكُولِ تُبْتَنَى عَلَى الدَّعْوَى فَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْجَارِيَةِ
كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ، كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت غَدًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْغَدُ وَلَا يَدْرِي أَدَخَلَ أَمْ لَا لِلشَّكِّ فِي شَرْطِ الْعِتْقِ، فَكَذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي شَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ وِلَادَةُ الْغُلَامِ أَوَّلًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ الشَّرْطُ مَذْكُورًا فِي طَرَفَيْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ كَانَ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا لَا مَحَالَةَ فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إلَى اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ.
فَإِنْ قُلْت: الْمَفْرُوضُ فِي صُورَةِ الْكِتَابِ تَصَادُقُهُمْ عَلَى عَدَمِ عِلْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ فَكَيْفَ يُحَلَّفُ وَلَا دَعْوَى وَلَا مُنَازِعَ؟ قُلْنَا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى دَعْوَى مِنْ خَارِجِ حِسْبَةِ عِتْقِ الْأَمَةِ أَوْ بِنْتِهَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْأَمَةَ لَوْ أَنْكَرَتْ الْعِتْقَ وَشُهِدَ بِهِ تُقْبَلُ، فَعَلَى هَذَا جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ حِسْبَةً إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِيُحَلَّفَ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ، هَذَا وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي تَعْلِيلِهِ صَرَّحَ بِأَنَّ الْأُمَّ تَدَّعِي الْعِتْقَ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، فَأَفَادَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صُورَةِ دَعْوَى الْأُمِّ وَهِيَ غَيْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ تَرْجِيحِ مَا فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ حَقِيقَتُهُ إبْطَالُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ تَرِدْ عَنْهُمَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ تُخَالِفُ ذَلِكَ الْجَوَابَ.
وَاسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الشَّرْطَ الْكَائِنَ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ إلَخْ قَدْ يُنْظَرُ فِيهِ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الشَّرْطِ الظَّاهِر لَا الْخَفِيِّ وَلِهَذَا قَيَّدَ فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَدُخُولِ الدَّارِ فَقَالَ الْعَبْدُ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ كُنْت تُحِبِّينِي إلَخْ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ ظَاهِرَةً فَيُوجِبُ الشَّكُّ فِيهَا اعْتِبَارَ الْأَحْوَالِ فَيَعْتِقُ نِصْفُ الْأُمِّ كَمَا فِي الْجَامِعِ (قَوْلُهُ وَإِنْ ادَّعَتْ الْأُمُّ أَنَّ الْغُلَامَ هُوَ الْمَوْلُودُ أَوَّلًا وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَةُ صَغِيرَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ) بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ الْغُلَامَ وُلِدَ أَوَّلًا (لِإِنْكَارِهِ شَرْطَ الْعِتْقِ فَإِنْ حَلَفَ لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ نَكَلَ عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ) مَعًا (لِأَنَّ دَعْوَى الْأُمِّ حُرِّيَّةَ الصَّغِيرَةِ) تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ دَعْوَاهَا حُرِّيَّةَ نَفْسِهَا لِأَنَّهَا نَفْعٌ مَحْضٌ مَعَ ثُبُوتِ وِلَايَتِهَا عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ وَعَجْزِ الصَّغِيرَةِ عَنْ دَعْوَاهَا لِنَفْسِهَا فَاعْتُبِرَ نُكُولُهُ فِي حَقِّ حُرِّيَّتِهِمَا فَعَتَقَتَا (فَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ كَبِيرَةً وَلَمْ تَدَّعِ شَيْئًا) مِنْ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا (وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ بِحَالِهِ) يَعْنِي وَلَدَتْهُمَا فَادَّعَتْ الْأُمُّ تَقَدُّمَ الْغُلَامِ، وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَةُ بَالِغَةٌ فَحُلِّفَ فَنَكَلَ عَتَقَتْ الْأُمُّ خَاصَّةً بِنُكُولِهِ لِأَنَّ دَعْوَى الْأُمِّ حُرِّيَّتَهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْجَارِيَةِ الْكَبِيرَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى عَنْ الْغَيْرِ إنَّمَا تَصِحُّ بِوِلَايَةٍ أَوْ إنَابَةٍ وَهُمَا مُنْتَفِيَتَانِ عَنْ الْكَبِيرَةِ فَلَا تَتَضَمَّنُ دَعْوَى الْأُمِّ حُرِّيَّةَ نَفْسِهَا دَعْوَاهَا حُرِّيَّةَ الْبِنْتِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا ثَبَتَ عِتْقُ الْأُمِّ يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ حُرِّيَّةُ بِنْتِهَا لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَهُ فَالْإِقْرَارُ بِحُرِّيَّتِهَا إقْرَارٌ بِحُرِّيَّةِ الْأُخْرَى. أُجِيبَ بِمَنْعِ كَوْنِ عِتْقِ الْأُمِّ بِالنُّكُولِ عِتْقًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ بَذْلًا لِمَالِيَّتِهَا مِنْ الْمَوْلَى لِيَتْرُكَ الْحَلِفَ أَوْ إقْرَارًا بِحُرِّيَّتِهَا بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ فَلَا يُوجِبُ عِتْقَ الْبِنْتِ، وَبِأَنَّ النُّكُولَ جُعِلَ إقْرَارًا عَلَى قَوْلِهِمَا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ النُّكُولِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَنَا كَفِيلٌ بِكُلِّ مَا يُقِرُّ لَك بِهِ فُلَانٌ فَادَّعَى الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ مَالًا فَأَنْكَرَ فَحُلِّفَ فَنَكَلَ
وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ الْكَبِيرَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ لِسَبْقِ وِلَادَةِ الْغُلَامِ وَالْأُمُّ سَاكِتَةٌ يَثْبُتُ عِتْقُ الْجَارِيَةِ بِنُكُولِ الْمَوْلَى دُونَ الْأُمِّ لِمَا قُلْنَا، وَالتَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ يُعْرَفُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَلَا يَصِيرُ الرَّجُلُ كَفِيلًا، وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ صَارَ كَفِيلًا (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ الْكَبِيرَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ لِسَبْقِ وِلَادَةِ الْغُلَامِ وَالْأُمُّ سَاكِتَةٌ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ ثَبَتَ عِتْقُ الْجَارِيَةِ بِنُكُولِ الْمَوْلَى دُونَ الْأُمِّ لِمَا قُلْنَا) فِي أَنَّ دَعْوَى الْأُمِّ حُرِّيَّةَ نَفْسِهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ الْجَارِيَةِ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَالنُّكُولُ يُبْنَى عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى.
(قَوْلُهُ وَبِهَذَا الْقَدْرِ يُعْرَفُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى مِنْ الْوُجُوهِ الْبَاقِيَةِ) وَهِيَ مَا إذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وِلَادَةَ الْغُلَامِ أَوَّلًا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وِلَادَةَ الْجَارِيَةِ أَوَّلًا فَلَا يَعْتِقُ أَحَدٌ فِي الثَّانِي وَيَعْتِقُ كُلُّ الْأُمِّ وَالْجَارِيَةِ فِي الْأَوَّلِ، وَبِهِمَا تَتِمُّ الْأَوْجُهُ لِلْمَسْأَلَةِ سِتَّةً.
[فَرْعٌ]
فِي الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامًا فَهُمَا حُرَّانِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَتَيْنِ وَلَا يُعْلَمُ الْأَوَّلُ عَتَقَ نِصْفُ الْأُمِّ وَنِصْفُ الْغُلَامِ وَرُبُعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجَارِيَتَيْنِ، أَمَّا الْأُمُّ فَلِأَنَّهَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ، وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ يَجِبُ أَنْ يَعْتِقَ ثُلُثُهَا لِأَنَّهَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَتَرِقُّ فِي حَالَيْنِ بِأَنْ كَانَتْ وِلَادَةُ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا، وَأَمَّا الْغُلَامُ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ فِي حَالٍ بِأَنْ وَلَدَتْ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا، وَيَرِقُّ فِي حَالٍ بِأَنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ أَوَّلًا، وَأَمَّا الْجَارِيَتَانِ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلٍّ رُبُعُهَا فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ إصَابَةَ الْحُرِّيَّةِ بِجِهَتَيْنِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الشَّخْصَ إذَا عَتَقَ تَبَعًا لِلْأُمِّ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْتِقَ بِعِتْقِ نَفْسِهِ، وَمَتَى عَتَقَ بِعِتْقِ نَفْسِهِ لَا يَعْتِقُ تَبَعًا لِلْأُمِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ إلْغَاءِ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَأَلْغَيْنَا إصَابَةَ الْعِتْقِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، وَاعْتَبَرْنَا الْإِصَابَةَ بِعِتْقِ أَنْفُسِهِمَا لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ، فَإِنْ كَانَتْ وِلَادَةُ الْغُلَامِ أَوَّلًا لَا يَعْتِقَانِ بِعِتْقِ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ وِلَادَةُ الْجَارِيَةِ أَوَّلًا تَعْتِقُ الْأَخِيرَةُ بِعِتْقِ نَفْسِهَا فَتَثْبُتُ لَهُمَا حُرِّيَّةٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَثْبُتُ نِصْفُهُ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ أَبُو عِصْمَةَ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ مِنْ كُلٍّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِأَنَّ الْغُلَامَ لَوْ كَانَ أَوَّلًا تَعْتِقُ الْأُمُّ فَتَعْتِقُ الْجَارِيَتَانِ بِعِتْقِهَا، وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ الْغُلَامُ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ الْأُولَى وَالْأُخْرَى رَقِيقَةٌ فَكَانَ لَهُمَا عِتْقٌ وَنِصْفٌ بَيْنَهُمَا وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ
الْوَجْهِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى
قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي وَصِيَّةٍ) اسْتِحْسَانًا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ (وَإِنْ شُهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَيُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُنَّ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الشَّهَادَةُ فِي الْعِتْقِ مِثْلُ ذَلِكَ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَنْكُوحَةِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى بِالِاتِّفَاقِ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ.
قَوْلَ أَبِي عِصْمَةَ وَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي وَصِيَّةٍ اسْتِحْسَانًا ذَكَرَهُ فِي الْعَتَاقِ) أَيْ عَتَاقِ الْأَصْلِ بِأَنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ شَهِدَا بِتَدْبِيرِهِ أَحَدَهُمَا مُطْلَقًا فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، لِأَنَّ التَّدْبِيرَ حَيْثُ وَقَعَ كَانَ وَصِيَّةً، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ وَيُؤْمَرُ بِتَنْجِيزِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ (قَوْلُهُ وَأَصْلُ هَذَا) أَيْ أَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ (أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ) مُطْلَقًا لَا فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَلَا فِي الْحُرِّيَّةِ الْعَارِضَةِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ رَشِيدُ الدِّينِ أَنَّ الدَّعْوَى عِنْدَهُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ بَلْ فِي الْعَارِضَةِ فَقَطْ (وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ) بِلَا دَعْوَى (وَالشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَنْكُوحَةِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى بِالِاتِّفَاقِ) وَإِنْ أَنْكَرَتْ الْأَمَةُ الْعِتْقَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا وَتَعْتِقُ لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ، وَكَذَا عَلَى طَلَاقِ إحْدَى النِّسَاءِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَنْكَرَتْ، وَيُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُوقِعَ عَلَى إحْدَاهُنَّ.
(قَوْلُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ) وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ وَهُوَ الْعِتْقُ حَقُّ الشَّرْعِ إذْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْمِيلُ الْحُدُودِ وَوُجُوبُ الْجُمُعَةِ وَالْجِهَادُ وَالزَّكَاةُ، وَيَصِحُّ نَذْرُهُ بِهِ وَحَلِفُهُ بِهِ وَلِهَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَى قَبُولٍ، وَلَا يَرْتَدُّ إقْرَارُ السَّيِّدِ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّنَاقُضِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ ثُمَّ ادَّعَى حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى شَرْطًا لِمَنْعٍ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ يُبْطِلُ صِحَّةَ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا لَا تَكْفِي شَهَادَةُ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا دِينِيًّا يَتَضَمَّنُ إزَالَةَ مِلْكِ الْعَبْدِ وَإِبْطَالَ مَالِيَّةِ مَالِهِ، فَلِذَا شُرِطَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ اثْنَانِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِتْقَ إمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ الْمُسْتَلْزِمِ لِثُبُوتِ الْقُوَّةِ مِنْ مَالِكِيَّتِهِ، أَوْ هُوَ نَفْسُهَا، وَكِلَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْأَمْرَيْنِ حَقُّ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ فِي الْحَقِيقَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُثْبِتُ مَا ذُكِرَ مِنْ حُقُوقِهِ تَعَالَى ثَمَرَاتٍ لِهَذَا الثُّبُوتِ فَصَحَّ كَوْنُهُ حَقَّهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَكُونُ ثُبُوتُ اللَّازِمِ إلَّا بَعْدَ الْمَلْزُومِ، وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَلْزِمُ حَقَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَعْوَاهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا عِتْقُ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ يُقَالُ حُرْمَةُ فَرْجِهَا الَّتِي هِيَ حَقُّهُ تَعَالَى تَثْبُتُ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهَا مِنْ الْعِتْقِ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِطَ دَعْوَاهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ أَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ لِرَغْبَتِهَا فِي صُحْبَةِ مَوْلَاهَا حَتَّى نَقُولَ: لَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَيْضًا مُتَّهَمًا قُبِلَتْ بِلَا دَعْوَاهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَزِمَهُ حَدُّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٍ فِي طَرَفٍ حَتَّى لَوْ أَنْكَرَ الْعِتْقَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ.
قُلْنَا: نَفْرِضُ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا لَمْ تُنْكِرْ وَلَكِنَّهَا سَاكِتَةٌ لِعَدَمِ عِلْمِهَا بِحُرِّيَّتِهَا، ثُمَّ قَدْ يُمْنَعُ تَأْثِيرُ كَوْنِ الثَّابِتِ بِالْعِتْقِ أَوَّلًا مَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ مُسْتَلْزِمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى، لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ اسْتِلْزَامُهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ثَبَتَ حُكْمُهُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى سَوَاءٌ ثَبَتَ أَوَّلًا أَوْ ثَانِيًا؛ فَإِنْ حُوِّلَ التَّقْرِيرُ هَكَذَا الْعِتْقُ يَتَضَمَّنُ حَقَّ الْعَبْدِ وَحَقَّ اللَّهِ سبحانه وتعالى، أَمَّا حَقُّهُ سُبْحَانَهُ فَمَا ذَكَرْتُمْ، وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَالِكًا لِأَكْسَابِ نَفْسِهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ مَصَالِحِهِ وَتَثْبُتُ وِلَايَاتُهُ مِنْ نَفَاذِ قَوْلِهِ فِي الشَّهَادَةِ وَإِنْكَاحِ بِنْتِهِ وَحُصُولِ الْمِيرَاثِ لَهُ إذَا مَاتَ قَرِيبُهُ، فَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّعْوَى وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى دَعْوَى بِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعَدَمِ الِارْتِدَادِ بِالرَّدِّ وَعَدَمِ التَّوَقُّفِ عَلَى قَبُولِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ حَقَّ اللَّهِ سبحانه وتعالى خَالِصًا؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ وَإِبْرَاءَ الْكَفِيلِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، وَكَذَا التَّنَاقُضُ فَإِنَّ عَدَمَ مَنْعِهِ لِخَفَاءِ رِقِّ الْأَصْلِ وَحُرِّيَّتِهِ كَمَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلِمَا أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي الْعِتْقِ الْحَقَّانِ فَلِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، قُلْنَا: لَا يُمْنَعُ التَّنَاقُضُ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَلَا فِي الْحُرِّيَّةِ الْعَارِضَةِ، وَلِحَقِّ الْعَبْدِ شَرَطْنَا الدَّعْوَى وَالشَّاهِدَيْنِ أَيْضًا.
وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا عِتْقُ الْأَمَةِ فَإِنَّ فِيهَا الْحَقَّيْنِ فَتَجِبُ الدَّعْوَى وَالشَّاهِدَانِ لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَلَا يُمْنَعُ التَّنَاقُضُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَيْضًا إذَا كَانَ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّعْوَى لَا يَلْزَمُ ثُبُوتُهَا لِأَنَّهُ بِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مَعَهُ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الدَّعْوَى وَإِنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ، لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الشَّهَادَةُ بِلَا دَعْوَى فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى اقْتَضَى وُجُوبَ تَرْتِيبِ مُقْتَضَاهَا وَالْآخَرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَثْبُتَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ اجْتِمَاعُ الْحَقَّيْنِ وَتَعَارُضُ مُقْتَضَاهُمَا، فَتَرَجَّحَ مَا ثَبَتَ شَرْعًا لِاحْتِيَاطٍ فِي أَمْرِهِ وَتَوْكِيدِهِ، وَأَمْرُ الْفُرُوجِ مُحْتَاطٌ فِيهِ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ إثْبَاتُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِثْلُهُ، فَلِذَا وَقَعَ الْفَرْقُ عِنْدَهُ بَيْنَ عِتْقِ الْأَمَةِ وَالطَّلَاقِ وَبَيْنَ عِتْقِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ حَقَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّابِتَ وَهُوَ حُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ الْمُقْتَضِي لِنَفْيِ الدَّعْوَى لَيْسَ
وَإِذَا كَانَ دَعْوَى الْعَبْدِ شَرْطًا عِنْدَهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تَتَحَقَّقُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ. وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ انْعَدَمَ الدَّعْوَى.
أَمَّا فِي الطَّلَاقِ فَعَدَمُ الدَّعْوَى لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهَا. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَى شَرْطًا فِيهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى لِمَا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ فَشَابَهُ الطَّلَاقَ، وَالْعِتْقُ الْمُبْهَمُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ عِنْدَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ.
مِنْ التَّأْكِيدِ بِحَيْثُ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ بِلَا دَعْوَى، وَهُمَا يَقُولَانِ جَمِيعُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ بِلَا دَعْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَصْمُ فِيهَا وَالْعَبْدُ الشَّاهِدُ نَائِبُهُ فَتُضَمَّنُ شَهَادَتُهُ دَعْوَاهُ، وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَإِنْ افْتَقَرَ ثُبُوتُهُ إلَى الدَّعْوَى فَقَدْ انْتَصَبَ النَّائِبُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى نَائِبًا عَنْهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، فَإِنَّ الْمُثْبِتَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إلَّا الشَّهَادَةَ وَإِنَّمَا يَبْقَى فِيهِ مَا لَوْ أَنْكَرَ الْعَبْدُ الْعِتْقَ وَلَا تُهْمَةَ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ التَّرْجِيحُ وَيَتَرَجَّحُ حَقُّهُ سبحانه وتعالى. وَلَا يُقَالُ: الْمُقَرَّرُ تَرَجُّحُ حَقِّ الْعَبْدِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ عِنْدَ التَّعَارُضِ بِأَنْ كَانَ ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا يَنْتَفِي مَعَهُ الْآخَرُ وَهُنَا يَثْبُتُ حَقُّ الْعَبْدِ مَعَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ إذَا أَثْبَتْنَا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ إثْبَاتًا لِحَقِّ الْعَبْدِ سَابِقًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى رَغْمِهِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ دَعْوَى الْعَبْدِ شَرْطًا عِنْدَهُ لَا تَتَحَقَّقُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ) أَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ مَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ لِأَنَّهُ عِتْقُ الْمَجْهُولِ (وَالدَّعْوَى مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تَتَحَقَّقُ) وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُعَيَّنِ فَتَنْتَفِي الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ شَرْطًا مُطْلَقًا فَتُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا.
(قَوْلُهُ وَلَوْ شُهِدَ أَنَّهُ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ عَلَى عِتْقِ إحْدَى أَمَتَيْهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ. أَجَابَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يُشْتَرَطُ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ فَرْجِهَا عَلَى مَوْلَاهَا وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا (فَشَابَهُ الطَّلَاقَ) وَفِيهِ لَا يُشْتَرَطُ لِلشَّهَادَةِ بِهِ الدَّعْوَى لِذَلِكَ فَكَذَا هَذَا (وَالْعِتْقُ الْمُبْهَمُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ عِنْدَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) فَانْتَفَى الْمُسْقَطُ فِيهِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا شَهِدَا فِي صِحَّتِهِ عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ.
أَمَّا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ شَهِدَا عَلَى تَدْبِيرِهِ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ الْوَفَاةِ تُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ حَيْثُمَا وَقَعَ وَصِيَّةً، وَكَذَا الْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ، وَالْخَصْمُ فِي الْوَصِيَّةِ إنَّمَا هُوَ الْمُوصِي وَهُوَ مَعْلُومٌ. وَعَنْهُ خَلَفٌ وَهُوَ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَشِيعُ بِالْمَوْتِ فِيهِمَا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا مُتَعَيَّنًا.
أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ عِلَّةُ سُقُوطِ الدَّعْوَى فِي عِتْقِ الْأَمَةِ تَحْرِيمَ فَرْجِهَا عَلَى الْمُعْتِقِ لَشُرِطَتْ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَاَلَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ لَمْ تَتَضَمَّنْ تَحْرِيمَ فَرْجِهَا لِحُرْمَتِهِ فِي الْأُولَيَيْنِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ وَحِلِّهَا فِي الرَّجْعِيِّ بَعْدَهَا.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ بِعِتْقِهَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّ وَطْءَ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ الْمَمْلُوكَةِ لَيْسَ بِزِنًا حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا قَبْلَ عِتْقِهَا وَبَعْدَهُ يَلْزَمُهُ، وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ يَنْعَقِدُ بِهِ سَبَبُ حُرْمَةِ فَرْجِهَا فَأَثْبَتَتْ تَحْرِيمًا مُؤَجَّلًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ الدَّعْوَى عِنْدَهُ، وَمَا قِيلَ إنَّ وَطْأَهَا مَمْلُوكٌ لَهُ وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ خُبْثُهَا كَالْحَائِضِ فَبِالشَّهَادَةِ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ الْوَطْءُ فِيهِ مَا فِيهِ (قَوْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا شَهِدَا بِعِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فِي صِحَّتِهِ).
(أَمَّا إذَا شُهِدَ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ شَهِدَا عَلَى تَدْبِيرِهِ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ) لِتَكُونَ شَهَادَتُهُمَا بِعِتْقٍ هُوَ وَصِيَّةٌ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدَّمْنَا
وَلَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَقَدْ قِيلَ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ. وَقِيلَ تُقْبَلُ لِلشُّيُوعِ هُوَ الصَّحِيحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَنَّ التَّدْبِيرَ حَيْثُمَا وَقَعَ يَكُونُ وَصِيَّةً مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ تُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَهُ لِعَدَمِ خَصْمٍ مَعْلُومٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ الدَّعْوَى، وَإِذَا كَانَ وَصِيَّةً فَالْخَصْمُ فِيهَا هُوَ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ مِنْ حُقُوقِ الْمُوصِي فَهُوَ الْخَصْمُ الْمُدَّعِي فِيهَا وَهُوَ مَعْلُومٌ وَعَنْهُ نَائِبٌ مَعْلُومٌ هُوَ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْخَصْمَ فِي إثْبَاتِ الْعِتْقِ لَيْسَ هُوَ السَّيِّدُ لِإِنْكَارِهِ بَلْ هُوَ الْعَبْدُ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَوَجْهٌ آخَرُ لِلِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ أَنَّ الْخَصْمَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْعِتْقِ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُوصِيَ كَانَ كُلًّا مِنْ الْعَبْدَيْنِ وَهُمَا مُعَيَّنَانِ، وَفِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا تَصِحُّ خُصُومَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَالْمُعْتَقُ الْمُبْهَمُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ فَإِنَّ الْعِتْقَ حِينَئِذٍ يَشِيعُ فِيهِمَا فَيَعْتِقُ مِنْ كُلٍّ نِصْفُهُ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَنْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا خَصْمًا مَعْلُومًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَصْمِ هُنَا مَنْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ وَلَا تُقَامُ الْبَيِّنَةُ إلَّا عَلَى مُنْكِرٍ فَفَرَضَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ مُنْكِرِينَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَعَنْهُ خَلَفٌ وَهُوَ الْوَصِيُّ أَوْ وَارِثُهُ: يَعْنِي الْوَصِيَّ إنْ كَانَ الْوَرَثَةُ مُنْكِرِينَ أَوْ الْوَرَثَةَ إنْ كَانَ الْوَصِيُّ مُنْكِرًا فَقِيلَ: فَيُشْكِلُ مَا لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْوَصِيِّ وَالْوَارِثِ مُنْكِرًا إذْ لَا تَبْطُلُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِوَصِيَّةٍ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ خَلَفًا وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِاعْتِبَارِ جَعْلِ الْمَيِّتِ مُدَّعِيًا تَقْدِيرًا، وَأَيْضًا قَوْلُهُ وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إلَخْ يُفِيدُ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حَيَاتِهِ وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ قَبُولَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِاعْتِبَارِهَا وَصِيَّةً لِاعْتِبَارِهِ مُدَّعِيًا وَعَدَمُ قَبُولِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ الْعَبْدَانِ وَهُمَا غَيْرُ مَنْ أُثْبِتَ فِيهِ الْعِتْقُ أَعْنِي الْمُبْهَمَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إنْزَالَهُ مُدَّعِيًا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا قَبْلَ مَوْتِهِ فَهُوَ مُنْكِرٌ، وَلِهَذَا اُحْتِيجَ إلَى الشَّهَادَةِ، وَرُدَّتْ لِعَدَمِ الْمُدَّعِي وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَقْيِيدِهِ بِمَا إذَا كَانَ الْمَرِيضُ قَدْ أُصْمِتَ حَالَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يُؤَخَّرَ الْقَضَاءُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَيُقْضَى بِهَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا، أَوْ يَعِيشَ فَيُطْلَقَ لِسَانُهُ فَيَرُدَّ لِعَدَمِ الْخَصْمِ الْمُدَّعِي.
(قَوْلُهُ وَلَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ) لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْرِيعِهَا عَلَى قَوْلِهِ (فَقِيلَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ) لِإِسْنَادِهِمَا الْعِتْقَ الْمُنَجَّزَ إلَى حَالَةِ الصِّحَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ مُدَّعِيًا تَقْدِيرًا (وَقِيلَ تُقْبَلُ) لِأَنَّ الْعِتْقَ شَاعَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَصِحُّ دَعْوَاهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَصَحَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَبُولَهَا قَالَ: لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ فَيَتَعَدَّى بِإِحْدَاهُمَا، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَقَالَ هُوَ الْأَصَحُّ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: شُيُوعُ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ مَبْنَى صِحَّةِ كَوْنِ الْعَبْدَيْنِ مُدَّعِيَيْنِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ قَوْلِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَلَا مُثْبِتَ لَهُ إلَّا الشَّهَادَةُ وَصِحَّتُهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ مِنْ الْخَصْمِ فَصَارَ ثُبُوتُ شُيُوعِ الْعِتْقِ مُتَوَقِّفًا عَلَى ثُبُوتِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ أُثْبِتَتْ الشَّهَادَةُ بِصِحَّةِ خُصُومَتِهِمَا وَهِيَ الْمُتَوَقِّفَةُ عَلَى ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِيهِمَا شَائِعًا لَزِمَ الدَّوْرُ، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ وَجْهُ ثُبُوتِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلِهِ لَزِمَ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ قَبُولِهَا وَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فُرُوعٌ]
شَهِدَا أَنَّهُ حَرَّرَ أَمَةً بِعَيْنِهَا وَسَمَّاهَا فَنَسِيَا اسْمَهَا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا بِمَا تَحَمَّلَاهُ وَهُوَ عِتْقُ مَعْلُومَةٍ بَلْ مَجْهُولَةٍ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى طَلَاقِ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَسَمَّاهَا فَنَسِيَاهَا. وَعِنْدَ زُفَرَ تُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا كَقَوْلِ زُفَرَ فِي هَذِهِ لِأَنَّهَا كَشَهَادَتِهِمَا عَلَى عِتْقِ إحْدَى أَمَتَيْهِ وَطَلَاقِ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ، وَلَوْ شُهِدَ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا وَلَا يَعْرِفُونَ سَالِمًا وَلَهُ عَبْدٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ سَالِمٌ عَتَقَ لِأَنَّهُ كَانَ مُعَيَّنًا لِمَا أَوْجَبَهُ، وَكَوْنُ الشُّهُودِ لَا يَعْرِفُونَ عَيْنَ الْمُسَمَّى لَا يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْعِتْقِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْعَبْدَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدُوا بِبَيْعِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ كُلُّ وَاحِدٍ اسْمُهُ سَالِمٌ وَالْمَوْلَى يَجْحَدُ لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَى لِقَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ، وَلَا تَتَحَقَّقُ هُنَا مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْهُمَا فَصَارَتْ كَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ الْخِلَافِيَّةِ. .
[وَهَذَا فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْعِتْقِ] إذَا ادَّعَى الْعَبْدُ الْعِتْقَ وَأَقَامَ شَاهِدًا لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى، وَفِي الْأَمَةِ إذَا قَالَتْ: شَاهِدِي الْآخَرُ حَاضِرٌ يُحَالُ، وَلَوْ أَقَامَ الْعَبْدُ شَاهِدَيْنِ إنْ كَانَ الْمَوْلَى مَخُوفًا عَلَى الْعَبْدِ حِيلَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُنْظَرَ فِي أَمْرِ الشُّهُودِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَمَّتْ ظَاهِرًا حَتَّى لَوْ قُضِيَ بِشَهَادَتِهِمَا نَفَذَ فَثَبَتَتْ بِهِ الْحَيْلُولَةُ احْتِيَاطًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا شَهِدَا بِعِتْقِ عَبْدِهِ وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ اللَّفْظِ أَوْ اللُّغَةِ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَلَا يَلْزَمُ اخْتِلَافَ الْمَشْهُودِ بِهِ اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ وَهَبَهُ نَفْسَهُ لِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَضْعًا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَالْإِعْتَاقَ إحْدَاثُ الْقُوَّةِ أَوْ إزَالَةُ الْمِلْكِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، فَيُحْمَلُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي اللَّفْظِ لَا يَمْنَعُ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُؤَدَّى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدًا وَضْعًا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي عَلَّلَ بِهِ لِقَبُولِهَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ لَفْظًا مِنْ أَنَّ الْعِتْقَ لَفْظٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ يُقْبَلُ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْعِتْقَ فَأَحَدُهُمَا جَعَلَهُ كَلَامَ زَيْدٍ وَالْآخَرُ الدُّخُولَ مَثَلًا لَمْ يَجُزْ، إذْ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطَيْنِ، وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ الدُّخُولُ مَثَلًا وَقَالَ الْمَوْلَى بَلْ كَلَامُ فُلَانٍ فَأَيَّهمَا فَعَلَ فَهُوَ حُرٌّ لِثُبُوتِ الدُّخُولِ شَرْطًا بِالشَّهَادَةِ وَالْكَلَامِ بِقَوْلِ الْمَوْلَى.
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِجُعْلٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ جُعْلٍ لَمْ تَجُزْ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِجُعْلٍ يُخَالِفُ الْعِتْقَ بِغَيْرِ جُعْلٍ فِي الْأَحْكَامِ، وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْجُعْلِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ الْجُعْلَ سَوَاءٌ ادَّعَى الْعَبْدُ أَقَلَّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرَهُمَا. وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى يَدَّعِي أَقَلَّ الْمَالَيْنِ وَالْعَبْدُ يُنْكِرُ عَتَقَ لِإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِحُرِّيَّتِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِإِكْذَابِهِ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ بِالْأَكْثَرِ، وَإِنْ ادَّعَى الْعِتْقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قُضِيَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَقُومُ هُنَا عَلَى الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَإِنَّمَا تَقُومُ عَلَى الْمَالِ، وَمَنْ ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يُقْضَى بِأَلْفٍ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى، بِخِلَافِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ إنْ كَلَّمَ زَيْدًا وَالْآخَرُ إنْ دَخَلَ بِأَيِّهِمَا فَعَلَ عَتَقَ لِثُبُوتِ كُلٍّ مِنْ التَّعْلِيقَيْنِ بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ.
وَلَوْ تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَا الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى فِي مِقْدَارِ مَا أَعْتَقَهُ رُجِّحَتْ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَأَنَّهُ
بَابُ الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ
أَدَّاهَا وَأَقَامَ الْمَوْلَى أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَيْنِ
إلَخْ فَالْعَبْدُ حُرٌّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ تَنَجُّزَ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ. وَلَوْ أَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِأَلْفٍ وَأَقَامَ الْمَوْلَى أَنَّهُ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِأَلْفَيْنِ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ تَنَجَّزَ بِالْقَبُولِ فَكَانَ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي بَيِّنَةِ الْمَوْلَى. قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَلَوْ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِأَلْفٍ فَأَدَّاهَا مِنْ مَالِ الْمَوْلَى كَانَ حُرًّا وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: الْعِتْقُ هُنَا حَصَلَ بِالْقَبُولِ لَا بِأَدَاءِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْفَصْلُ فِيمَا إذَا عَلَّقَهُ بِالْأَدَاءِ لِأَنَّ نُزُولَ الْعِتْقِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَقَدْ وُجِدَ وَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مَسْرُوقًا أَوْ مَغْصُوبًا مِنْ الْمَوْلَى ثُمَّ رَدَّ هَذَا الْمَالَ عَلَى الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْحُكْمِ وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ.
وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْعِتْقِ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ الْعِتْقُ لِأَنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ فِي إبْطَالِ الْحُكْمِ وَلَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْعَبْدِ، وَلَكِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ مَا أَتْلَفَا مِنْ مَالِيَّتِهِ عَلَى الْمَوْلَى إذْ قَدْ اعْتَرَفَا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّتَهُ عَلَى الْمَوْلَى بِغَيْرِ حَقٍّ. وَلَوْ ضَمِنَا ثُمَّ قَامَتْ بَيِّنَةُ غَيْرِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْلَى كَانَ أَعْتَقَهُ إنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ الضَّمَانُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمَا هُوَ لَغْوٌ وَعَتَقَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْمُعْتَقُ لَا يُعْتَقُ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ لَمْ يَرْجِعُوا بِمَا ضَمِنُوا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَرْجِعُونَ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا ضَمِنُوا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَتَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُدَّعٍ لِذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ لَمْ يُتْلِفُوا عَلَى الْمَوْلَى شَيْئًا بِشَهَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ بِلَا دَعْوَى وَلَا مُدَّعٍ لِمَا شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي، فَإِنَّ الْعَبْدَ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْعِتْقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ)
الْحَلِفُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ حَلَفَ سَمَاعِيٌّ، وَلَهُ مَصْدَرٌ آخَرُ: أَعْنِي حَلْفًا بِالْإِسْكَانِ، يُقَالُ حَلَفَ حَلِفًا وَحَلْفًا، وَتَدْخُلُهُ التَّاءُ لِلْمَرَّةِ كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
عَلَيَّ حَلْفَةٌ لَا أَشْتُمُ الدَّهْرَ مُسْلِمًا
…
وَلَا خَارِجٌ مِنْ فِي زُورُ كَلَامِ
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
حَلَفْت لَهَا بِاَللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ
…
لَنَامُوا فَمَا إنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلَا صَالِ
وَالْمُرَادُ بِالْحَلِفِ بِالْعِتْقِ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعَلَّقُ قَاصِرًا فِي السَّبَبِيَّةِ عَنْ الْمُنَجَّزِ قَدَّمَهُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا جَرَى الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنْ يُولِيَ التَّصَرُّفَ الَّذِي يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ الْحَلِفَ بِهِ كَمَا فَعَلَ فِي الطَّلَاقِ وَلَا يَضُمُّ الْكُلَّ إلَى كِتَابِ الْأَيْمَانِ لِيَكُونَ أَضْبَطَ لِأَحْكَامِ التَّصَرُّفِ الْوَاحِدِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ فِي بَابِهِ وَلَا تَتَفَرَّقُ أَحْكَامُهُ فِي الْأَبْوَابِ أَوْلَى الْعِتْقَ الْحَلِفَ بِهِ.
(وَمَنْ قَالَ إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمَئِذٍ فَهُوَ حُرٌّ وَلَيْسَ لَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ دَخَلَ عَتَقَ) لِأَنَّ قَوْلَهُ يَوْمَئِذٍ تَقْدِيرُهُ يَوْمَ إذْ دَخَلْت، إلَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ الْفِعْلَ وَعَوَّضَهُ بِالتَّنْوِينِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدُّخُولِ وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ عَبْدٌ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى دَخَلَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا.
قَالَ (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ فِي يَمِينِهِ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَعْتِقْ)
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَا يُجِيزُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالْمِلْكِ قَبْلَ الْمِلْكِ أَجَازَهُ فِي الْعِتْقِ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ لِلْفَرْقِ بِأَنَّ الشَّارِعَ مُتَشَوِّفٌ إلَى الْعِتْقِ دُونَ الطَّلَاقِ وَعِنْدَنَا الْمُصَحِّحُ مُطَّرِدٌ فِيهِمَا.
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمَئِذٍ فَهُوَ حُرٌّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ دَخَلَ عَتَقَ) أَيْ ذَلِكَ الْمَمْلُوكُ الَّذِي اشْتَرَاهُ، وَلَمَّا كَانَ عِتْقُ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ لَا يَكُونُ بِكَلَامٍ قَبْلَ الْمِلْكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ إضَافَةً إلَى الْمِلْكِ قَرَّرَهُ لِيَرُدَّهُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ التَّنْوِينَ فِي يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنْ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إلَيْهَا لَفْظُ إذْ تَقْدِيرُهُ إذْ دَخَلْت وَلَفْظُ يَوْمٍ ظَرْفٌ لِمَمْلُوكٍ فَكَانَ التَّقْدِيرُ كُلُّ مَنْ لَا يَكُونُ فِي مِلْكِي يَوْمَ الدُّخُولِ حُرٌّ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إضَافَةُ عِتْقِ الْمَمْلُوكِ يَوْمَ الدُّخُولِ إلَى يَوْمِ الدُّخُولِ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمِلْكٍ فَصَارَ.
كَأَنَّهُ قَالَ إنْ مَلَكْت مَمْلُوكًا وَقْتَ الدُّخُولِ فَهُوَ حُرٌّ، وَهُوَ يُصَدَّقُ بِمِلْكٍ قَبْلَ الدُّخُولِ يُقَارِنُ بَقَاؤُهُ الدُّخُولَ فَكَانَ إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى الْمِلْكِ الْمَوْجُودِ مَعْنًى، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِعَبْدِ غَيْرِهِ: إنْ دَخَلْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ فَدَخَلَ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ الْعِتْقَ إلَى مِلْكِهِ لَا صَرِيحًا وَلَا مَعْنًى، وَعُدُولُ الْمُصَنِّفِ إلَى لَفْظِ وَقْتٍ عَنْ لَفْظِ يَوْمٍ فِي قَوْلِهِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدُّخُولِ يُفِيدُ أَنَّ لَفْظَ يَوْمٍ مُرَادُهُ بِهِ الْوَقْتُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ لَيْلًا عَتَقَ مَا فِي مِلْكِهِ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى فِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ وَهُوَ الدُّخُولُ وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ إنَّمَا أُضِيفَ إلَى لَفْظِ إذْ الْمُضَافَةِ لِلدُّخُولِ لَكِنَّ مَعْنَى إذْ غَيْرُ مُلَاحَظٍ وَإِلَّا كَانَ الْمُرَادُ يَوْمَ وَقْتِ الدُّخُولِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ عَلَى مَعْنَى يَوْمِ الْوَقْتِ الَّذِي فِيهِ الدُّخُولُ تَقْيِيدًا لِلْيَوْمِ بِهِ، لَكِنْ إذَا أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ يَصِيرُ الْمَعْنَى وَقْتَ وَقْتِ الدُّخُولِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ مِثْلَهُ كَثِيرًا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ كَنَحْوِ {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} {بِنَصْرِ اللَّهِ} وَلَا يُلَاحَظُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُلَاحَظُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقْتَ وَقْتِ يَغْلِبُونَ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَا يَوْمَ وَقْتِ يَغْلِبُونَ يَفْرَحُونَ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ فَعُرِفَ أَنَّ لَفْظَ إذْ لَمْ يُذْكَرْ إلَّا تَكْثِيرًا لِلْعِوَضِ عَنْ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ أَوْ عِمَادًا لَهُ: أَعْنِي التَّنْوِينَ لِكَوْنِهِ حَرْفًا وَاحِدًا سَاكِنًا تَحْسِينًا وَلَمْ يُلَاحَظْ مَعْنَاهَا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي أَقْوَالِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ نَظَرٌ فِيهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ عَبْدٌ حِينَ حَلَفَ فَبَقِيَ فِي مِلْكِهِ حَتَّى دَخَلَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِمَا بَيَّنَّا: أَيْ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ الدُّخُولِ لَا وَقْتَ التَّكَلُّمِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ فِي يَمِينِهِ يَوْمَئِذٍ) بَلْ قَالَ إذَا دَخَلْت
لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي لِلْحَالِ وَالْجَزَاءُ حُرِّيَّةُ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَالِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الشَّرْطُ عَلَى الْجَزَاءِ تَأَخَّرَ إلَى وُجُودٍ فَيَعْتِقُ إذَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ إلَى وَقْتِ الدُّخُولِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْيَمِينِ.
(وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي ذَكَرٍ فَهُوَ حُرٌّ وَلَهُ جَارِيَةٌ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ ذَكَرًا لَمْ يَعْتِقْ) وَهَذَا إذَا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لِلْحَالِ، وَفِي قِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْيَمِينِ احْتِمَالٌ لِوُجُودِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ بَعْدَهُ، وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْمَمْلُوكَ الْمُطْلَقَ، وَالْجَنِينُ مَمْلُوكٌ تَبَعًا لِلْأُمِّ لَا مَقْصُودًا، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ وَاسْمُ الْمَمْلُوكِ يَتَنَاوَلُ الْأَنْفُسَ دُونَ الْأَعْضَاءِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ مُنْفَرِدًا.
فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ لَا يَعْتِقُ مَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ التَّكَلُّمِ، بَلْ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ. وَوَجَّهَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَخْتَصُّ بِالْحَالِ وَالْجَزَاءُ حُرِّيَّةُ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَالِ يَتَعَلَّقُ فِي الْحَالِ بِمُلُوكٍ: أَيْ الْمَمْلُوكُ فِي الْحَالِ حُرِّيَّتُهُ هِيَ الْجَزَاءُ، فَلَمَّا دَخَلَ الشَّرْطُ عَلَيْهِ تَأَخَّرَتْ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَعْتِقُ عِنْدَ الشَّرْطِ مَنْ كَانَ مَمْلُوكًا عِنْدَ التَّكَلُّمِ.
وَوَجْهُ كَوْنِ كُلِّ مَمْلُوكٍ لِي حَالًا أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْوَصْفِ مِنْ اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَنَّ مَعْنَاهُ قَائِمٌ حَالَ التَّكَلُّمِ بِمَنْ نُسِبَ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ قِيَامِهِ بِهِ أَوْ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ: أَيْ الِاخْتِصَاصُ مَنْ جَرَتْ مَعْنَى مُتَعَلِّقِهَا إلَيْهِ: بِهِ: أَيْ بِمَعْنَى الْمُتَعَلِّقِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فَلَزِمَ مِنْ التَّرْكِيبِ اخْتِصَاصُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْمُتَّصِفِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ لِلْحَالِ وَهِيَ أَثَرُ مِلْكِهِ فَلَزِمَ قِيَامُ مِلْكِهِ فِي الْحَالِ ضَرُورَةَ اتِّصَافِهِ بِأَثَرِهَا فِي الْحَالِ وَإِلَّا ثَبَتَ الْأَثَرُ بِلَا مُؤَثِّرٍ.
هَذَا وَيَعْتِقُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ الْعَبِيدُ وَلَوْ مَرْهُونِينَ أَوْ مَأْذُونِينَ أَوْ مُؤَجَّرِينَ وَالْإِمَاءُ وَلَوْ كُنَّ حَوَامِلَ أَوْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ وَالْمُدَبَّرُونَ وَأَوْلَادُهُمْ، وَلَا يَدْخُلُ الْمُكَاتَبُ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مِنْ وَجْهٍ إذْ هُوَ حُرٌّ يَدًا، وَلَوْ نَوَى الذُّكُورَ فَقَطْ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الذُّكُورِ يَعُمُّ النِّسَاءَ حَقِيقَةً وَوَضْعًا وَلَا يَدْخُلُ الْمَمْلُوكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَا الْجَنِينُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَهُمْ وَلَا عَبِيدُ عَبْدِ التَّاجِرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ التَّاجِرِ دَيْنٌ أَوْ لَا، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَعْتِقُونَ نَوَاهُمْ أَوْ لَا عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَتَقُوا إذَا نَوَاهُمْ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَعْتِقُوا وَلَوْ نَوَاهُمْ. وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت مَا يَسْتَقْبِلُ عَتَقَ مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ وَمَا سَيَمْلِكُهُ إذَا مَلَكَهُ لِأَنَّ قَصَدَ تَغْيِيرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ نِيَّتُهُ فِي إبْطَالِ حُكْمِ الظَّاهِرِ وَاعْتَبَرْنَا اعْتِرَافَهُ لِإِثْبَاتِ الْعِتْقِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ يُرْشِدُ إلَى أَنَّ عِتْقَ مَا هُوَ فِي مِلْكِهِ مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَضَاءِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: قَالَ مَمَالِيكِي كُلُّهُمْ أَحْرَارٌ وَنَوَى الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَقَالُوا لَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً، بِخِلَافِ قَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي وَنَوَى التَّخْصِيصَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً انْتَهَى.
فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ وَفِي الْوَجْهَيْنِ تَخْصِيصُ الْعَامِّ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلُّهُمْ تَأْكِيدٌ لِلْعَامِّ قَبْلَهُ وَهُوَ مَمَالِيكِي؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُضَافٌ فَيَعُمُّ وَهُوَ يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ غَالِبًا وَالتَّخْصِيصُ يُوجِبُ الْمَجَازَ فَلَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهِ أَصْلُ الْعُمُومِ فَقَطْ فَقُبِلَ التَّخْصِيصُ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي ذَكَرٍ فَهُوَ حُرٌّ وَلَهُ جَارِيَةٌ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ ذَكَرًا لَمْ يَعْتِقْ) سَوَاءٌ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْقَوْلِ أَوْ أَقَلَّ، أَمَّا إذَا وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِوَصْفِ الذُّكُورَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي تَدْخُلُ الْحَامِلُ فَيَدْخُلُ الْحَمْلُ تَبَعًا لَهَا.
(وَإِنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ، أَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ وَلَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى آخَرَ ثُمَّ جَاءَ بَعْدُ غَدٍ عَتَقَ الَّذِي فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ) لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْلِكُهُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً يُقَالُ: أَنَا أَمْلِكُ كَذَا وَكَذَا وَيُرَادُ بِهِ الْحَالُ، وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَالِاسْتِقْبَالُ بِقَرِينَةِ السِّينِ أَوْ سَوْفَ فَيَكُونُ مُطْلَقُهُ لِلْحَالِ فَكَانَ الْجَزَاءُ حُرِّيَّةَ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَالِ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يَشْتَرِيهِ بَعْدَ الْيَمِينِ.
فَلِأَنَّ اللَّفْظَ: أَيْ لَفْظَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي لِلْحَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِهِ، وَفِي قِيَامِ الْحَمْلِ حَالَ التَّكَلُّمِ احْتِمَالٌ لِوُجُودِ تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْلِ بَعْدَهُ، فَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ قَائِمًا عِنْدَهُ فَلَا يَعْتِقُ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا يَعْتِقُ بِالشَّكِّ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ لَا تَكُونُ إلَّا أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَأَمَّا إذَا وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلِأَنَّ التَّيَقُّنَ لِوُجُودِهِ حَالَ التَّكَلُّمِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا، لَكِنَّ لَفْظَ الْمَمْلُوكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمَمْلُوكِ بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَالْحَمْلُ مَمْلُوكٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا حَتَّى يَنْتَقِلَ بِانْتِقَالِهَا وَيَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا كَمَا يَتَغَذَّى الْعُضْوُ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ مُنْفَرِدًا بَلْ تَبَعًا لِلْحَامِلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الشَّرْعِ نَفْسًا مَمْلُوكَةً أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلَا تَجِبُ صَدَقَةُ فِطْرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالذُّكُورَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ وَلَمْ يَقُلْ ذَكَرٍ تَدْخُلُ الْأُنْثَى فَتَدْخُلُ الْحَامِلُ فَيَعْتِقُ حَمْلُهَا تَبَعًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ مَمْلُوكٍ إمَّا لِذَاتٍ مُتَّصِفَةٍ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ وَقَيْدُ التَّذْكِيرِ لَيْسَ جُزْءَ الْمَفْهُومِ وَإِنْ كَانَ التَّأْنِيثُ جُزْءَ مَفْهُومِ مَمْلُوكَةٍ فَيَكُونُ مَمْلُوكٌ أَعَمَّ مِنْ مَمْلُوكَةٍ فَالثَّابِتُ فِيهِ عَدَمُ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّأْنِيثِ لَا الدَّلَالَةُ عَلَى عَدَمِ التَّأْنِيثِ وَإِمَّا أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ اسْتَمَرَّ فِيهِ عَلَى الْأَعَمِّيَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ) يَعْنِي أَنَّ بَعْدَ غَدٍ ظَرْفٌ لِحُرٍّ لَا لِأَمْلِكهُ (أَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ غَدٍ وَلَهُ مَمْلُوكٌ وَاحِدٌ) فِي الصُّورَتَيْنِ (فَاشْتَرَى آخَرَ ثُمَّ جَاءَ بَعْدُ غَدٍ عَتَقَ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ) دُونَ الْمُشْتَرِي وَلَفْظُ: بَعْدُ غَدٍ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ فَاعِلٌ لِجَاءَ لَا ظَرْفٌ. وَوَجْهُهُ أَنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لِلْحَالِ،
(وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ، أَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى مَمْلُوكًا آخَرَ فَاَلَّذِي كَانَ عِنْدَ وَقْتَ الْيَمِينِ مُدَبَّرٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ، وَإِنْ مَاتَ عَتَقَا مِنْ الثُّلُثِ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي النَّوَادِرِ: يَعْتِقُ مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ وَلَا يَعْتِقُ مَا اسْتَفَادَ بَعْدَ يَمِينِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي إذَا مِتّ فَهُوَ حُرٌّ. لَهُ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةً لِلْحَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَلَا يَعْتِقُ بِهِ مَا سَيَمْلِكُهُ وَلِهَذَا صَارَ هُوَ مُدَبَّرًا دُونَ الْآخَرِ.
وَكَذَا لَفْظُ أَمْلِكُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً، يُقَالُ أَنَا أَمْلِكُ كَذَا فَيَتَبَادَرُ مِنْهُ الْحَالُ، وَالتَّبَادُرُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ وَلِذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، وَفِي الِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ السِّينِ وَسَوْفَ وَغَيْرِهِمَا كَإِسْنَادِهِ إلَى مُتَوَقَّعٍ وَاقْتِضَائِهِ طَلَبًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي النَّحْوِ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَذَاهِبِ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَقِيلَ بِقَلْبِهِ وَعَلَيْهِ مَشَى فِي الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ: أَمْلِكُ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِقْبَالِ إلَّا أَنَّهُ صَارَ لِلْحَالِ شَرْعًا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ. وَعُرْفًا يُقَالُ أَمْلِكُ كَذَا دِرْهَمًا فَكَانَ كَالْحَقِيقَةِ فِي الْحَالِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ظَنًّا أَنَّ مَذْهَبَ النُّحَاةِ لَيْسَ إلَّا أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ.
وَأَعْجَبُ مِنْهُ جَوَابُ مَنْ رَامَ دَفْعَهُ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لِلْحَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِقْبَالِ لَيْسَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ اهـ.
فَتَرَكَ النَّظَرَ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَلِذَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ وَفِي الِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةٍ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوطُ بِالْقَرِينَةِ بَلْ الْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَيْسَ مَذْهَبَ كُلِّ النُّحَاةِ بَلْ الْمَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ، وَمَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ كَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُرَادُ الِاسْتِقْبَالُ إلَّا بِقَرِينَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ الْحَالِ، وَأَمَّا اخْتِيَارُ عَكْسِهِ كَمَا فِي الْمُحِيطِ فَوَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عِنْدَهُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا تَفْرِيعُهُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَغَايَةُ مَا وُجِّهَ بِهِ أَنَّ تَعَيُّنَ الْحَالِ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ: أَيْ الْمُعَيِّنَةِ لِأَحَدِ الْمَفْهُومَيْنِ الْحَقِيقِيَّيْنِ، بِخِلَافِ نَحْوِ أُسَافِرُ وَأَتَزَوَّجُ فَإِنَّهُ مَحْفُوفٌ بِقَرِينَةِ الِاسْتِقْبَالِ وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ كَانَ الْجَزَاءُ حُرِّيَّةَ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَالِ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ فَلَا يَعْتِقُ الْمَمْلُوكُ بَعْدَ الْحَالِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَوْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ مَمْلُوكٌ فَاشْتَرَى آخَرَ ثُمَّ مَاتَ فَاَلَّذِي كَانَ عِنْدَهُ مُدَبَّرٌ) مُطْلَقٌ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، وَاَلَّذِي اشْتَرَاهُ لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ مُطْلَقٍ بَلْ مُدَبَّرٍ مُقَيَّدٍ حَتَّى جَازَ بَيْعُهُ، وَلَوْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى مَاتَ عَتَقَا جَمِيعًا مِنْ الثُّلُثِ إنْ خَرَجَا مِنْهُ عَتَقَ جَمِيعُ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ وَإِنْ ضَاقَ عَنْهُمَا يَضْرِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِقِيمَتِهِ فِيهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَنْ الْكُلِّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا اسْتَفَادَ بَعْدَ يَمِينِهِ، وَإِنَّمَا يَعْتِقُ
وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إيجَابُ عِتْقٍ وَإِيصَاءٌ حَتَّى اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ وَفِي الْوَصَايَا تُعْتَبَرُ الْحَالَةُ الْمُنْتَظَرَةُ وَالْحَالَةُ الرَّاهِنَةُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ مَا يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَفِي الْوَصِيَّةِ لِأَوْلَادِ فُلَانٍ مَنْ يُولَدُ لَهُ بَعْدَهَا.
مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ، وَكَذَا إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي إذَا مِتّ فَهُوَ حُرٌّ، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةً لِلْحَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ، وَكَذَا الْوَصْفُ فَلَا يَعْتِقُ بِهِ مَا سَيَمْلِكُهُ، وَلِهَذَا صَارَ بِهِ الْكَائِنُ فِي مِلْكِهِ حَالَ التَّكَلُّمِ مُدَبَّرًا فِي الْحَالِ دُونَ الْآخَرِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ طَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَوْجَبَ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَالَ فَقَطْ، فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ كُلٌّ مِنْهُ وَمِنْ الْمَمْلُوكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَلْزَمُ إمَّا تَعْمِيمُ الْمُشْتَرَكِ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ ثُمَّ يَلْزَمُ تَدْبِيرُ كُلٍّ مِنْهُمَا ذَاكَ فِي الْحَالِ وَالْمُسْتَحْدَثِ عِنْدَ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فِي مَعْنَى كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي أَوْ سَأَمْلِكُهُ مُدَبَّرٌ، وَكَذَا إذَا أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْمُجْتَمِعُ فِي الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ عُمُومُ الْمَجَازِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِيمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَتَقَ مَا اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ غَدًا مِمَّنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ حَالَ التَّكَلُّمِ أَوْ مَلَكَهُ إلَى غَدٍ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِهِ لَا يُتَنَاوَلُ إلَّا الْمَمْلُوكُ فِي الْغَدِ فَيَلْزَمُ تَدْبِيرُ كُلٍّ مِنْهُمَا تَدْبِيرًا مُطْلَقًا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا لَوْ قَالَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي مِلْكِي عِنْدَ الْمَوْتِ مُدَبَّرٌ وَهُوَ مُنْتَفٍ، أَوْ يُرَادُ الْمُسْتَقْبِلُ فَقَطْ كَمَا لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إلَى سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ إلَى أَنْ أَمُوتَ أَوْ أَبَدًا لَزِمَ أَنْ لَا يَعْتِقَ مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَصِيرَ مُدَبَّرًا وَهُوَ مُنْتَفٍ فَبَطَلَتْ الْأَقْسَامُ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَعْتِقَ الْكَائِنُ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ فَقَطْ وَلَازَمَهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ صُورَةَ التَّرَاكِيبِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مَا يَتَنَاوَلُ الْحَالَ فَقَطْ اتِّفَاقًا وَهُوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَوْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ قَالَهُ وَلَا يَعْتِقُ مَا يَسْتَقْبِلُ مِلْكَهُ، وَمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبِلَ لَا غَيْرُ اتِّفَاقًا وَهُوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إلَى سَنَةٍ وَنَحْوُهُ، وَمَا فِيهِ خِلَافُهُمَا وَهُوَ نَحْوُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ غَدًا، فَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَعْتِقُ فِي الْغَدِ مَنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَالْمُسْتَحْدَثُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقْيَسُ بِمَسْأَلَتِهِ يَوْمَئِذٍ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ.
(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا) أَيْ مَجْمُوعَ التَّرْكِيبِ لَا لَفْظَ أَمْلِكُهُ فَقَطْ كَمَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ (إيجَابُ عِتْقٍ وَإِيصَاءٍ) لِأَنَّ حَاصِلَ التَّدْبِيرِ إيجَابٌ لِلْعِتْقِ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا هُوَ الْإِيصَاءُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى كُلٍّ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْإِيصَاءِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَعْنَى التَّدْبِيرِ، وَمُقْتَضَى إيجَابِ عِتْقِ مَا يَمْلِكُهُ وُقُوعُهُ فِي الْحَاصِلِ فِي الْمِلْكِ حَالَ التَّكَلُّمِ ثُمَّ هُوَ مُضَافٌ إلَى الْمَوْتِ فَكَانَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ بِمَا يَمْلِكُهُ دُخُولُ مَا فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ: أَيْ
وَالْإِيجَابُ إنَّمَا يَصِحُّ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ إلَى سَبَبِهِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إيجَابُ الْعِتْقِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ اعْتِبَارًا لِلْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إيصَاءٌ يَتَنَاوَلُ الَّذِي يَشْتَرِيهِ اعْتِبَارًا لِلْحَالَةِ الْمُتَرَبِّصَةِ وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ، وَقَبْلَ الْمَوْتِ حَالَةُ التَّمَلُّكِ اسْتِقْبَالٌ مَحْضٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي أَوْ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ بَعْدَ غَدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ إيجَابُ الْعِتْقِ وَلَيْسَ فِيهِ إيصَاءٌ وَالْحَالَةُ مَحْضُ اسْتِقْبَالٍ فَافْتَرَقَا. وَلَا يُقَالُ: إنَّكُمْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ لَكِنْ
الْحَابِسَةِ لِمَا فِيهَا وَالرَّهْنُ هُوَ الْحَبْسُ وَزَمَنُ الْحَالِ هُوَ الْحَابِسُ لِمَا فِيهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَدُخُولِ مَا فِي الْحَالَةِ الْمُنْتَظَرَةِ أَيْضًا لِلِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ دَخَلَ الْمُسْتَحْدَثُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ وَلَا وَلَدَ لَهُ فَوُلِدَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْلَادٌ دَخَلُوا وَاسْتَحَقُّوا الْمُوصَى بِهِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ فِي الْوَصِيَّةِ دُخُولُ كُلِّ مَا فِي الْحَالَيْنِ تَحْصِيلًا لِغَرَضِ الْمَيِّتِ مِنْ تَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَالْبِرِّ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ كُلُّ عَبْدٍ حُرٌّ فَيَعْتِقُ مَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَمِنْهُ مَا مَلَكَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ الصَّرِيحِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ كُلُّ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ لَيْسَ فِيهِ إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ جِهَةُ الْإِيجَابِ، فَلَا يَدْخُلُ إلَّا الْحَاصِلُ فِي الْحَالِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا لَا يَنْفِي اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ: أَعْنِي لَفْظَ أَمْلِكُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ الْجَمْعُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لَا بِسَبَبَيْنِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لِلْعِرَاقِيِّينَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ فِي الْأُصُولِ، وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعْ الْجَمْعُ مُطْلَقًا وَلَمْ يَتَحَقَّقْ خِلَافٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ
بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إيجَابِ عِتْقٍ وَوَصِيَّةٍ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ.
قَطُّ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارَيْنِ وَبِالنَّظَرِ إلَى شَيْئَيْنِ، وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ لَفْظَهُ أَوْجَبَ تَقْدِيرَ لَفْظٍ إذْ كَانَ وَصِيَّةً وَهُوَ مَا قَدَّرْنَاهُ عِنْدَ مَوْتِهِ مِنْ قَوْلِهِ كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ فَيَعْتِقُ بِهِ مَا اسْتَحْدَثَ مِلْكَهُ وَالْمُوجِبُ لِلتَّقْدِيرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْبِرِّ لِلْأَصْحَابِ، وَهَذَا الْمُوجِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ تَقْدِيرِهِ عِنْدَ مِلْكِ الْعَبْدِ وَإِلَّا كَانَ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ عِبَارَتُهُ عِنْدَ مِلْكِهِ لَا الصَّرِيحَةُ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا الْحَالَ وَلَا الْمُقَدَّرَةُ لِتَأْخِيرِ تَقْدِيرِهَا إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا يَكُونُ مُدَبَّرًا لَا مُطْلَقًا وَلَا مُقَيَّدًا كَانَ دَافِعًا لِلْإِشْكَالِ.
[فُرُوعٌ مِنْ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ]
قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ نُزُولَ الْعِتْقِ الْمُعْتَقَ بَعْدَ الشَّرْطِ وَبَعْدَ الْبَيْعِ هُوَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَلَا يَعْتِقُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَيَعْتِقُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بَاقٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِتَسْلِيمِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي تَسَلَّمَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَحِينَئِذٍ يَزُولُ مِلْكُهُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ فَلَا يَعْتِقُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَحَقِيقَةُ الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ وَقْتُ نُزُولِ الْعِتْقِ هُوَ وَقْتُ زَوَالِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُمَا مَعًا يَتَعَقَّبَانِ الْبَيْعَ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي حَالِ زَوَالِ الْمِلْكِ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي حَالِ تَقَرُّرِ زَوَالِهِ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ فَدَخَلَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْحَلَّتْ بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ إذْ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ انْحِلَالِ الْيَمِينِ نُزُولُ الْجَزَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدَ الْبَيْعِ حَتَّى اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ عَتَقَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِعَدَمِ بُطْلَانِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا بِزَوَالِ الْمِلْكِ وَمِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ فَدَخَلَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الْأُخْرَى عَتَقَ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا كَانَ مَجْمُوعَ أَمْرَيْنِ كَانَ الشَّرْطُ وُجُودَ الْمِلْكِ عِنْدَ آخِرِهِمَا، وَبَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الطَّلَاقِ، وَلَوْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَالْأُخْرَى بَعْدَ الْبَيْعِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَا يَعْتِقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ عِنْدَ آخِرِهِمَا، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّرْطِ مَجْمُوعَ أَمْرَيْنِ اعْتِرَاضُ الشَّرْطِ، فَلَوْ قَالَ إذَا دَخَلْت فَأَنْتَ حُرٌّ إذَا كَلَّمْت فُلَانًا فَبَاعَهُ فَدَخَلَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَكَلَّمَ فُلَانًا لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ لَيْسَ إلَّا الْكَلَامَ، غَيْرَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَامِ وَجَزَائِهِ الَّذِي هُوَ الْعِتْقُ بِالدُّخُولِ فَالدُّخُولُ شَرْطُ الْيَمِينِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الدُّخُولِ الْكَائِنِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَنْتَ حُرٌّ إذَا كَلَّمْت فُلَانًا؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْيَمِينُ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَكَلَامُهُ غَيْرُ مُوقَعٍ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَبَاعَهُ فَدَخَلَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَمَاتَ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِدُخُولِ الدَّارِ فَيَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ قَائِمًا، وَالتَّدْبِيرُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّدْبِيرُ لَمْ يَعْتِقْ بِمَوْتِهِ.
وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَى بَاقِيَهُ فَفَعَلَ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا نِصْفُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ وَالْمُعَلَّقُ كَانَ النِّصْفَ وَالْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَسْعَى فِي قِيمَةِ نِصْفِهِ لِسَيِّدِهِ. وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ كُلُّهُ فَلَا يَسْعَى، وَلَوْ كَانَ بَاعَ النِّصْفَ الْأَوَّلَ ثُمَّ اشْتَرَى نِصْفَ شَرِيكِهِ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ النِّصْفُ الْمُبْتَاعُ لَا الْمُسْتَحْدَثُ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ.
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ مَا لَا يَقَعُ فِيهِ الْعِتْقُ مِنْ مَيِّتٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ حِمَارٍ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ قَالَ هَذَا أَوْ هَذَا عَتَقَ عَبْدُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَقَالَا: لَا يَعْتِقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، وَمِثْلُهُ وَأَصْلُهُ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَأُسْطُوَانَةٍ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ عَتَقَ عَبْدُهُ لِأَنَّ كَلَامَهُ إيجَابُ الْحُرِّيَّةِ لِلْجَزْمِ، وَلَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أَوْ هَذَا لَمْ يَعْتِقْ عَبْدُهُ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ بِإِيجَابٍ لَهَا كَقَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ لَا.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّرْطِ قَالَ إنْ دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَ فُلَانٌ وَآخَرُ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَتَقَ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَصَاحِبُ الدَّارِ فِي شَهَادَتِهِ بِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَصَحَّتْ شَهَادَتُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْته فَشَهِدَ هُوَ وَآخَرُ أَنَّهُ كَلَّمَهُ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ فُلَانًا فِي هَذِهِ شَاهِدٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى الشَّرْطِ، وَلَوْ شَهِدَ ابْنَا فُلَانٍ أَنَّهُ كَلَّمَ أَبَاهُمَا، فَإِنْ جَحَدَ الْأَبُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا بِالْكَلَامِ وَعَلَى أَنْفُسِهِمَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ دَعَاهُ أَبُوهُمَا فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ بَاطِلَةٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَشْهُودِ بِهِ لِأَبِيهِمَا فَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ الْمَنْفَعَةَ لِثُبُوتِ التُّهْمَةِ وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا يُظْهِرَانِ صِدْقَهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ فِي النِّكَاحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.