المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِبَابُ الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى - فتح القدير للكمال بن الهمام - ط الحلبي - جـ ٥

[الكمال بن الهمام]

فهرس الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِبَابُ الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ

(وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ) وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِقَبُولِهِ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَمِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ كَمَا

(بَابُ الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ)

أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَنْ أَبْوَابِ الْعِتْقِ مُنْجَزِهَا وَمُعَلَّقِهَا كَمَا أَخَّرَ الْخُلْعَ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ مِنْ الْإِسْقَاطِ غَيْرُ أَصْلٍ، بَلْ الْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَأَخَّرَ مَا لَيْسَ بِأَصْلٍ عَمَّا هُوَ أَصْلٌ، وَالْجُعْلُ مَا يُجْعَلُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَفْعَلُهُ، وَكَذَا الْجَعِيلَةُ، وَيُقَالُ الْجَعَالَةُ ضَبْطُ جِيمِهَا بِالْكَسْرِ فِي الصِّحَاحِ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلْقُتَبِيِّ وَدِيوَانِ الْأَدَبِ لِلْفَارَابِيِّ بِالْفَتْحِ فَيَكُونُ فِيهِ وَجْهَانِ. (قَوْلُهُ: وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ) وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْك أَلْفًا أَوْ عَلَى أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا أَوْ عَلَى أَنْ تَجِيئَنِي بِأَلْفٍ أَوْ بِعْتُك نَفْسَك بِأَلْفِ أَوْ وَهَبْتُكهَا عَلَى أَنْ تُعَوِّضَنِي أَلْفًا فَإِنَّهُ يُعْتِقُ إذَا قَبِلَ، وَإِنَّمَا يُعْتِقُ بِمُجَرَّدِ قَبُولِهِ، وَالْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْوَلَاءِ بِعِوَضٍ وَبِلَا عِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَمِنْ

ص: 3

فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ حُرًّا، وَمَا شَرَطَ دَيْنٌ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ قِيَامُ الرِّقِّ عَلَى مَا عُرِفَ،

حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ فِي الْحَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَكَمَا إذَا طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى ثَبَتَ مِلْكُهُ فِي الْعِوَضِ الْكَائِنِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ بِقَبُولِهِ فَيَلْزَمُ زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ الْمُعَوَّضِ، وَإِلَّا اجْتَمَعَ الْعِوَضَانِ فِي مِلْكِهِ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَاتِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ إنْ كَانَ حَاضِرًا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ عِلْمِهِ. فَإِنْ قَبِلَ عَتَقَ وَلَزِمَهُ الْمَالُ دَيْنًا يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَإِنْ رَدَّهُ أَوْ أَعْرَضَ إمَّا بِالْقِيَامِ أَوْ بِاشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ بَطَلَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ بَعْدَهُ، وَإِذَا صَارَ دَيْنًا عَلَى حُرٍّ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَعَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ.

أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى مَالٍ فَوَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَلَمْ تَتْرُكْ شَيْئًا فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلُودِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوَارِثِ مِنْ دَيْنِ الْمُوَرِّثِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهَا كَفِيلًا بِالْمَالِ الَّذِي أَعْتَقَهَا عَلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مَدْيُونَةٌ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا تَصِحُّ بِهِ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي لِثُبُوتِهِ بِالشَّرْعِ لِضَرُورَةِ حُصُولِ الْعِتْقِ لِلْعَبْدِ وَالْبَدَلِ

ص: 4

وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَالِ يَنْتَظِمُ أَنْوَاعَهُ مِنْ النَّقْدِ وَالْعَرَضِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَشَابَهَ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَكَذَا الطَّعَامُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ، وَلَا تَضُرُّهُ جَهَالَةُ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهَا يَسِيرَةٌ.

لِلْمَوْلَى فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْكَفِيلِ، وَالْمُنَافِي هُوَ الرِّقُّ فَإِنَّهُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى عَلَى مَرْقُوقِهِ دَيْنٌ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ وَهُوَ مَا لَا يُخْرِجُ الْمَدْيُونَ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءٍ أَوْ إبْرَاءٍ مِمَّنْ لَهُ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ يَسْقُطُ بِدُونِهِمَا بِأَنْ عَجَزَ نَفْسُهُ، وَكَمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَا شَاءَ يَدًا بِيَدٍ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ كَالْأَثْمَانِ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ.

(قَوْلُهُ: وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَالِ) أَيْ فِي قَوْلِهِ عَلَى مَالٍ يَنْتَظِمُ أَنْوَاعَهُ مِنْ النَّقْدِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَرْضِ وَالْحَيَوَانِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بَعْدَ كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْجِنْسِ كَمِائَةِ قَفِيزٍ حِنْطَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ جَيِّدَةً أَوْ صَعِيدِيَّةً وَكَفَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ عَبْدٍ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ يَسِيرَةٌ فَتُتَحَمَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ الْمَالِ فَشَابَهُ النِّكَاحَ. وَعَلَّلَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَهُ مُعَاوَضَةً بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ: يَعْنِي الْحَاصِلَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَالِ لَيْسَ مَالًا؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لَيْسَ مَالًا؛ لِأَنَّهُ مُبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ حَتَّى صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالدَّيْنِ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ إلَى الْحُرِّيَّةِ، وَكَذَا الْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَفِيهَا يُغْتَفَرُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَلْزَمُهُ الْوَسَطُ فِي تَسْمِيَةِ الْحَيَوَانِ وَالثَّوْبِ بَعْدَ تَسْمِيَةِ جِنْسِهِمَا مِنْ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ. وَلَوْ أَتَاهُ بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ الْجِنْسَ بِأَنْ قَالَ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ دَابَّةٍ فَقَبِلَ عَتَقَ وَلَزِمَهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ.

وَلَوْ أَدَّى إلَيْهِ الْعَبْدَ أَوْ الْعَرْضَ فَاسْتُحِقَّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فِي الْعَقْدِ فَعَلَى الْعَبْدِ مِثْلُهُ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقِيمَةَ فِي مِثْلِهِ مُخَلِّصٌ، وَإِنْ كَانَ مُعَيِّنًا بِأَنْ قَالَ أَعْتَقْتُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ الثَّوْبِ أَوْ بِعْتُك نَفْسَك بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ فَقَبِلَ وَعَتَقَ وَسَلَّمَهُ فَاسْتُحِقَّ رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِعَبْدِ الْغَيْرِ صَحَّ الْبَيْعُ فَكَذَا هُنَا، إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ إذَا لَمْ يُجِزْ مَالِكُ الْعَبْدِ يُفْسَخُ الْعَقْدُ وَهُنَا لَا يُفْسَخُ بَعْدَ نُزُولِ الْعِتْقِ بِالْقَبُولِ. وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْمَالِ جِنْسَهُ أَوْ مِقْدَارَهُ بِأَنْ قَالَ الْمَوْلَى أَعْتَقْتُك عَلَى عَبْدٍ وَقَالَ الْعَبْدُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ وَقَالَ الْعَبْدُ عَلَى مِائَةٍ فَالْقَوْلُ لِلْعَبْدِ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَا لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْمَالِ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِاتِّفَاقِهِمَا وَالْمَالُ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى إمَّا لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ نَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ بِالْأَدَاءِ وَهِيَ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: أَعْنِي قَوْلَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ تَمَّ بِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِهِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا فَإِنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ بِالْقَبُولِ فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، أَمَّا هُنَا فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِالْأَدَاءِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَقَعُ الْعِتْقُ فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمَوْلَى، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ، إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا فَأَيُّ الشَّرْطَيْنِ أَتَى بِهِ الْعَبْدُ يَعْتِقُ؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لِلْإِلْزَامِ، وَفِي بَيِّنَةِ الْعَبْدِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ أَتَمُّ، فَإِنَّهَا إذَا قُبِلَتْ عَتَقَ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ خَمْسِمِائَةٍ، وَلَيْسَ فِي بَيِّنَةِ الْمَوْلَى إلْزَامٌ فَإِنَّهَا إذَا قُبِلَتْ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ أَدَاءُ الْمَالِ هَكَذَا، فَاعْرِفْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ.

وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى أَعْتَقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلْ وَقَالَ الْعَبْدُ قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِتَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِقَبُولِهِ الْمَالَ وَهُوَ يَتِمُّ بِالْمَوْلَى، وَلِهَذَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا.

ص: 5

قَالَ: (وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ صَحَّ وَصَارَ مَأْذُونًا) وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَحَّ أَنَّهُ يُعْتَقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الِانْتِهَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا صَارَ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّهُ رَغَّبَهُ فِي الِاكْتِسَابِ بِطَلَبِهِ الْأَدَاءَ مِنْهُ، وَمُرَادُهُ التِّجَارَةُ دُونَ التَّكَدِّي فَكَانَ إذْنًا لَهُ دَلَالَةً.

(وَإِنْ أَحْضَرَ الْمَالَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى قَبْضِهِ وَعَتَقَ الْعَبْدُ) وَمَعْنَى الْإِجْبَارِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْحُقُوقِ أَنَّهُ يَنْزِلُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا،

ثُمَّ الْعَبْدُ يَدَّعِي وُجُودَ الشَّرْطِ بِقَبُولِهِ وَزَوَالَ مِلْكِ الْمَوْلَى بِهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ قَالَ قُلْت لَك أَمْسِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت وَلَمْ تَشَأْ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ قَدْ شِئْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ أَمْسِ بِأَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلْ وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ قَبِلْت الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ إلَّا بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ فِي قَوْلِهِ لَمْ تَقْبَلْ رَاجِعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ صَحَّ وَصَارَ مَأْذُونًا) وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَمَعْنَى صَحَّ قَوْلُهُ: أَيْ التَّعْلِيقُ فَيَسْتَعْقِبُ مُقْتَضَاهُ. وَهُوَ أَنَّهُ يَعْتِقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الِانْتِهَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي خِلَافِيَّةِ زُفَرَ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ صَرِيحًا فِي التَّعْلِيقِ بَلْ صَرِيحَةٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَصَارَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا ضَرُورَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِصِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيقِ وَاسْتِعْقَابِهِ آثَارَهُ مِنْ الْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَمَكَّنَ شَرْعًا مِنْ الِاكْتِسَابِ حَيْثُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ، وَيَسْتَلْزِمُ طَلَبُ الْمَوْلَى مِنْهُ الْمَالَ فَلَزِمَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّهُ الْمَوْضُوعُ لِلِاكْتِسَابِ فِي الْعَادَةِ وَخُصُوصًا عَادَةُ الْمُتَحَقِّقِينَ بِصِفَةِ أَنَّهُمْ مَوَالِيَ الْعَبِيدِ هُوَ التِّجَارَةُ لَا التَّكَدِّي؛ لِأَنَّهُ خِسَّةٌ يَلْحَقُ الْمَوْلَى عَارُهَا، لَكِنَّهُ لَوْ اكْتَسَبَ مِنْهُ فَأَدَّى عَتَقَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ أَحْضَرَ الْمَالَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى قَبْضِهِ وَعَتَقَ الْعَبْدُ) وَمَعْنَى الْإِجْبَارِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَبَدَلِ الْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا أَنْ يَنْزِلَ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَهُ أَخَذَهُ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى نِسْبَةِ الْإِجْبَارِ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّهُ قَبَضَ هَذَا إذَا كَانَ الْعِوَضُ صَحِيحًا، أَمَّا لَوْ كَانَ خَمْرًا أَوْ مَجْهُولًا جَهَالَةً فَاحِشَةً كَمَا لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ كَذَا خَمْرًا أَوْ ثَوْبًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى ذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِمَا: أَيْ لَا يَنْزِلُ قَابِضًا إلَّا إنْ

ص: 6

وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا جَبْرَ عَلَى مُبَاشَرَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَالْبَدَلُ فِيهَا وَاجِبٌ.

وَلَنَا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَمُعَاوَضَةٌ نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ إلَّا لِيَحُثَّهُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ فَيَنَالَ الْعَبْدُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَوْلَى الْمَالَ بِمُقَابَلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ، وَلِهَذَا كَانَ عِوَضًا فِي الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى كَانَ بَائِنًا فَجَعَلْنَاهُ تَعْلِيقًا فِي الِابْتِدَاءِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ، وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ الْعَبْدِ حَتَّى يُجْبَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ،

أَخَذَهُ مُخْتَارًا، وَأَمَّا عَدَمُ الْعِتْقِ فِي قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَحَجَجْت بِهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَيْئَيْنِ الْمَالِ وَالْحَجِّ فَلَا يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ الْمَالِ لِبُطْلَانِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَلِذَا إنْ كَانَ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا أَحُجُّ بِهَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ إتْمَامُ الشَّرْطِ وَالْحَجُّ وَقَعَ مَشُورَةً.

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ: أَيْ لَا يَنْزِلُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ بَلْ إنْ أَخَذَهُ كَانَ قَابِضًا وَعَتَقَ الْعَبْدُ. وَقَوْلُهُ هُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَفْظًا، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَإِذَا كَانَ يَمِينًا فَلَا إجْبَارَ عَلَى مُبَاشَرَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ قَبْلَ الشَّرْطِ بَلْ بِالشَّرْطِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَ الْإِنْسَانُ سَبَبًا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَازِمَةٍ وَالْبَدَلُ فِيهَا وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ فَيُجْبَرُ عَلَى قَبْضِهِ إذَا أَتَى بِهِ أَمَّا هُنَا الْبَدَلُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى الْعَبْدِ فَلَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى قَبُولُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ تَثْبُتُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ إذَا حَفَّ بِمَا يَقْتَضِيهَا كَقَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُكَاتَبًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الدِّرَايَةِ مُقْتَصِرًا، وَنَسَبَهُ إلَى الْخِزَانَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ.

وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ لَا يَكُونُ مُكَاتَبًا وَلَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشُرُوطٍ، وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَشُرُوطٍ سَوَاءً. وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ جَعَلَهُ مُنَجَّمًا وَالتَّنْجِيمُ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَاسْتُشْهِدَ لِأَبِي حَفْصٍ بِمَا لَوْ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَلَمْ يُؤَدِّهِ فِيهِ، وَأَدَّاهُ فِي غَيْرِهِ لَا يَعْتِقُ اتِّفَاقًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا تَنْجِيمٌ تَحْتَمِلُ التَّأَمُّلَ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ تَعْلِيقٌ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَمُعَاوَضَةٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْأَدَاءِ إلَّا لِيَحُثَّهُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ فَيَنَالَ الْعَبْدُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ) مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ وَيَنَالَ السَّيِّدُ

ص: 7

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْمَالَ عِوَضًا عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَقَدْ فَرَضَ صِحَّةَ هَذَا التَّصَرُّفِ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْغَرَضِ شَرْعًا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ مُعَاوَضَةً، وَلِذَا كَانَ عِوَضًا فِي الطَّلَاقِ إذَا قَالَ إنْ أَدَّيْتِ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ حَتَّى وَقَعَ بَائِنًا لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ لَازِمًا عَلَى الْعَبْدِ تَأَخَّرَ هَذَا الِاعْتِبَارُ إلَى وَقْتِ أَدَائِهِ إيَّاهُ، وَيَلْزَمُ اعْتِبَارُهُ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ مَا بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدَرِهَا فَيَثْبُتُ مِلْكُهُ لِذَلِكَ قُبَيْلَهُ وَيَلْزَمُ قَبُولُهُ عَلَى السَّيِّدِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِيرَادُ الْقَائِلُ فِيهِ كَيْفَ تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ وَكُلٌّ مِنْ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ عَلَى مَا ذَكَرَ يَكُونُ الْمَالُ لِلْعَبْدِ لَا لِلْمَوْلَى.

وَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ مُغَالَطَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ لِلْعَبْدِ، وَهَذَا يَتِمُّ إنْ أُرِيدَ بِالْمُبْدَلِ الْعِتْقُ، أَمَّا إنْ أُرِيدَ بِهِ الْإِعْتَاقُ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ فَلَا، وَلَوْ حَوَّلَ تَقْرِيرَ الْإِشْكَالِ إلَى أَنَّ الْمَالَ مِلْكُ السَّيِّدِ فَكَيْفَ يَعْتِقُ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ أُنْزِلَ مُكَاتَبًا كَمَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ مَا كَانَ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقَعْ هَذَا الْجَوَابُ دَافِعًا، بِخِلَافِ ذَلِكَ الْجَوَابِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ كَيْفَمَا قَرَّرَ. فَأَمَّا مَا قَبْلَ الْأَدَاءِ فَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ وَإِلَّا لَتَضَرَّرَ السَّيِّدُ إذْ يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ مِنْ سَيِّدِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَالٍ وَتَسْرِي الْحُرِّيَّةُ إلَى الْمَوْلُودِ لِلْأَمَةِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهَا بِالْأَدَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ عَبْدًا؛ لِأَنَّ رِقَّ الْوَلَدِ وَحُرِّيَّتَهُ تَابِعَةٌ لِأُمِّهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ جِهَتَا التَّعْلِيقِ وَالْمُعَاوَضَةِ فَوَجَبَ تَوْفِيرُ مُقْتَضَى كُلٍّ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا يَدُورُ الْفِقْهُ، أَيْ عَلَى تَرْتِيبِ مُقْتَضَى كُلِّ شَبَهٍ عَلَيْهِ وَتَخْرُجُ الْمَسَائِلُ الْمُخْتَلِفَةُ الَّتِي بَعْضُهَا يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ تَعْلِيقًا وَبَعْضُهَا يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ مُعَاوَضَةً، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَأَخَّرَ اعْتِبَارُ الْمُعَاوَضَةِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ كَانَتْ أَحْكَامُ الشَّرْطِ أَكْثَرَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ أَحْكَامِهَا إلَّا مَا هُوَ بَعْدَ الْأَدَاءِ، وَهُوَ مَا إذَا وَجَدَ السَّيِّدُ بَعْضَ الْمُؤَدَّى زُيُوفًا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقَدْرِهِ جِيَادًا وَمَا كَانَ مِنْ

ص: 8

فَعَلَى هَذَا يَدُورُ الْفِقْهُ وَتَخْرُجُ الْمَسَائِلُ نَظِيرُهُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.

وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْكُلَّ لِعَدَمِ الشَّرْطِ كَمَا إذَا حَطَّ الْبَعْضَ وَأَدَّى الْبَاقِيَ. ثُمَّ لَوْ أَدَّى أَلْفًا اكْتَسَبَهَا قَبْلَ التَّعْلِيقِ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ وَعَتَقَ لِاسْتِحْقَاقِهَا، وَلَوْ كَانَ اكْتَسَبَهَا بَعْدَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَتِهِ بِالْأَدَاءِ مِنْهُ،

ضَرُورِيَّاتِ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ تَقْدِيمُ مِلْكِ الْعَبْدِ لِمَا أَدَّاهُ وَإِنْزَالُهُ قَابِضًا إذَا أَتَاهُ بِهِ، وَفِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ الْمُعْتَبَرُ جِهَةُ التَّعْلِيقِ فَكَثُرَتْ آثَارُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُعَاوَضَةِ فَلِهَذَا خَالَفَ الْمُعَاوَضَةَ الَّتِي هِيَ الْكِتَابَةُ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ. الْأُولَى: مَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَتَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِلْمَوْلَى وَلَا يُؤَدِّي مِنْهُ عَنْهُ وَيَعْتِقُ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى وَفِي يَدِ الْعَبْدِ كَسْبٌ كَانَ لِوِرْثِهِ الْمَوْلَى وَيُبَاعُ الْعَبْدُ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ. الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ لَمْ يَعْتِقْ وَلَدُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْكِتَابَةِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ. الرَّابِعَةُ: لَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِلْمَوْلَى حُطَّ عَنِّي مِائَةً فَحَطَّ الْمَوْلَى عَنْهُ مِائَةً وَأَدَّى تِسْعَمِائَةٍ لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ. وَالْخَامِسَةُ: لَوْ أَبْرَأَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ عَنْ الْأَلْفِ لَمْ يَعْتِقْ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُكَاتَبُ عَتَقَ كَذَا ذَكَرُوهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَوْقِعَ لَهَا إذْ الْفَرْقُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْإِبْرَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَكُونُ وَالْإِبْرَاءُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ.

السَّادِسَةُ: لَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ رُدَّ عَلَيْهِ بِخِيَارِ عَيْبٍ فَفِي وُجُوبِ قَبُولِ مَا يَأْتِي بِهِ خِلَافٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، نَعَمْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا، وَلَكِنْ لَوْ قَبَضَهُ عَتَقَ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَقْبَلَهُ، وَيُعَدُّ قَابِضًا. وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ وُجُوبَ الْقَبُولِ وَإِنْزَالَهُ قَابِضًا كَانَ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ بَطَلَتْ بِالْبَيْعِ فَلَا يَجِبُ الْقَبُولُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ قَبَلَهُ عَتَقَ بِحُكْمِ التَّعْلِيقِ وَهُوَ لَا يَبْطُلُ بِالْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ؛ لِمَا عُرِفَ فِي الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عِنْدِي أَوْجُهٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الَّتِي تُطِلُّ بِالْبَيْعِ الَّتِي هِيَ الْقَائِمَةُ عِنْدَهُ. وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ إنْزَالَهُ مُكَاتَبًا إنَّمَا هُوَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ مَا عِنْدَ أَدَائِهِ فَلَا يَنْزِلُ مُكَاتَبًا قَبْلَهُ بَلْ الثَّابِتُ قَبْلَهُ لَيْسَ إلَّا أَحْكَامُ التَّعْلِيقِ وَالْبَيْعُ كَانَ قَبْلَهُ وَلَا كِتَابَةَ حِينَئِذٍ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا فَتَبْطُلُ، وَقَدْ فُرِضَ بَقَاءُ هَذِهِ الْيَمِينِ وَاعْتِبَارُ صِحَّتِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ فَيَجِبُ ثُبُوتُ أَحْكَامِهَا، وَمِنْهَا وُجُوبُ الْقَبُولِ إذَا أَتَى بِالْمَالِ. السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ فَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَلَوْ اُخْتُلِفَ بِأَنْ أَعْرَضَ أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ فَأَدَّى لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ لَفْظَةَ إنْ، فَإِنْ كَانَ لَفْظَةُ مَتَى أَوْ إذَا فَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ. الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُ الْعَبْدِ بَعْدَ قَوْلِهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ.

التَّاسِعَةُ: أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَظْفَرُ بِهِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمَا يُؤَدِّيهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ. الْعَاشِرَةُ: أَنَّهُ إذَا أَدَّى وَعَتَقَ وَفَضَلَ عِنْدَهُ مَالٌ مِمَّا اكْتَسَبَهُ كَانَ لِلسَّيِّدِ فَيَأْخُذُهُ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ. الْحَادِيَةَ عَشَرَ لَوْ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ مَالًا قَبْلَ تَعْلِيقِ السَّيِّدِ فَأَدَّاهُ بَعْدَهُ إلَيْهِ عَتَقَ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ يَرْجِعُ بِمِثْلِهِ عَلَى مَا سَيَذْكُرُ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ لَا يَعْتِقُ بِأَدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى إلَّا أَنْ يَكُونَ كَاتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ بِهِ أَحَقَّ مِنْ سَيِّدِهِ فَإِذَا أَدَّى مِنْهُ عَتَقَ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَوْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ)؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ أَدَاءُ الْكُلِّ

ص: 9

ثُمَّ الْأَدَاءُ فِي قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ، وَفِي قَوْلِهِ إذَا أَدَّيْت لَا يَقْتَصِرُ؛ لِأَنَّ إذَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ

وَلَمْ يُوجَدْ كَمَا لَوْ حَطَّ عَنْهُ الْبَعْضَ وَأَدَّى الْبَاقِيَ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُهُ، فَكَمَا يَجِبُ قَبُولُ الْكُلِّ يَجِبُ قَبُولُ بَعْضِهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي وُرُودِ مَنْعِ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ قَبُولِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ شَرْطُ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ، وَلَيْسَ أَدَاءُ الْبَعْضِ كَذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ فِي ضِمْنِ الْكُلِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَبُولُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُحَقِّقٌ لِلْكُلِّ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَعْضُهُ فَلِذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِيضَاحِ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبُولُهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ قَبُولِهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَنَّهُ الْقِيَاسُ، وَالِاسْتِحْسَانُ هُوَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْقَبُولِ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْأَوْجُهُ وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ وُجُوبَ قَبُولِهِ الْبَعْضَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْكُلِّ دَفْعَةً، وَمَا تَحَمَّلَ مَشَقَّةَ الِاكْتِسَابِ إلَّا لِذَلِكَ الْغَرَضِ، فَلَوْ وَقَفْنَاهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْكُلِّ ذَهَبَ تَحَمُّلُهُ كَدَّ سَعْيِهِ خَالِيًا عَنْ غَرَضِهِ.

وَمِمَّا تَقَدَّمَ يُعْلَمُ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ خَطَفَهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِهِ جَازَ وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الْمَشْرُوطِ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ لَوْ أَدَّى أَلْفًا اكْتَسَبَهَا قَبْلَ التَّعْلِيقِ يَعْتِقُ وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ) بِمِثْلِهَا، أَمَّا الْعِتْقُ فَلِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَلْفِ حَتَّى يَعْتِقَ لَوْ كَانَتْ أَلْفًا مَغْصُوبَةً، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ الْمَغْصُوبَةِ، وَأَمَّا رُجُوعُ الْمَوْلَى بِمِثْلِهَا فَلِاسْتِحْقَاقِهِ إيَّاهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِاسْتِحْقَاقِهَا إضَافَةً لِلْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلرُّجُوعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، وَالْعَبْدُ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَمْلِكُ مَا اكْتَسَبَهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَيَصِيرُ عِنْدَهُ كَالْمُكَاتَبِ لَكِنَّ ذَلِكَ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ التَّعْلِيقِ، وَهَذَا يُوجِبُهُ النَّظَرُ فِي الْغَرَضِ، وَهُوَ أَنْ يُعْتِقَهُ بِأَدَاءِ أَلْفٍ يَحْدُثُ حُصُولُهَا لَهُ فَيَمْلِكُ مَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ، وَتِلْكَ الْأَلْفُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى. (قَوْلُهُ: ثُمَّ الْأَدَاءُ فِي قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْت يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ) فَلَوْ اخْتَلَفَ

ص: 10

بِمَنْزِلَةِ مَتَى.

(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ) لِإِضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ حَيْثُ يَكُونُ

الْمَجْلِسُ بِأَنْ قَامَ الْعَبْدُ أَوْ أَعْرَضَ أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ ثُمَّ أَدَّى لَا يَعْتِقُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ مَحْضٌ، إذْ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ إنْ لِلشَّرْطِ فَقَطْ، بِخِلَافِ إذَا وَمَتَى لِدَلَالَتِهِمَا عَلَيْهِ لَا يَتَوَقَّفُ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى عَتَقَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ بِمَنْزِلَةِ إذَا وَمَتَى. وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّ إنْ لَمْ تَدُلَّ عَلَى الْوَقْتِ صَارَ الْمُعَلَّقُ بِهِ الْأَدَاءَ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ كَالْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ يَتَخَيَّرُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ.

وَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْوَقْتِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ مُقْتَضًى لِلْفِعْلِ وَوَقْتُ مَجْلِسِ الْإِيجَابِ حَاضِرٌ مُتَيَقَّنٌ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ ضَرُورَةَ الْفِعْلِ أَنَّ تَحْقِيقَ الْفِعْلِ بِدُونِهِ لَا يُمْكِنُ فَلَا يَثْبُتُ مَدْلُولًا أَصْلًا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْفِعْلِ وَقْتَ وُجُودِهِ أَيْ وَقْتَ وُجِدَ. لَا يُقَالُ: بِالْأَدَاءِ يَخْتَلِفُ الْمَجْلِسُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعِتْقُ بِالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: يَجِبُ أَنْ يُسْتَثْنَى مِقْدَارُ الْحِنْثِ كَمَا يُسْتَثْنَى مِقْدَارُ الْبِرِّ فِي حَلِفِهِ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ حَتَّى لَمْ يَحْنَثْ بِقَدْرِ شُغْلِهِ بِنَزْعِهِ فَلَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ بِالْأَدَاءِ.

[فَرْعٌ]. قَالَ إنْ أَدَّيْتُمَا إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتُمَا حُرَّانِ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ لَنْ يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ أَدَاؤُهُمَا جَمِيعَ الْمَالِ، وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ تُقَابِلُ جُمْلَةَ الْمَشْرُوطِ مِنْ غَيْرِ انْقِسَامِ الْأَجْزَاءِ عَلَى الْأَجْزَاءِ، وَإِنَّمَا الِانْقِسَامُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، وَلِذَا لَوْ أَدَّى أَحَدُهُمَا جَمِيعَ الْأَلْفِ مِنْ عِنْدِهِ لَمْ يَعْتِقْ، لِأَنَّ الشَّرْطَ أَدَاؤُهُمَا فَلَا يَتِمُّ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ قَالَ الْمُؤَدِّي خَمْسُمِائَةٍ مِنْ عِنْدِي وَخَمْسُمِائَةٍ بَعَثَ بِهَا صَاحِبِي لِأُؤَدِّيَهَا إلَيْك عِتْقًا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الرَّسُولِ كَأَدَاءِ الْمُرْسِلِ فَتَمَّ الشَّرْطُ وَهُوَ أَدَاؤُهُمَا، وَلَوْ أَدَّى عَنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ لَا يَعْتِقَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَدَاءَهُمَا وَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِمَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ، وَلِلْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَدَّى لِيَعْتِقَا وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ، فَإِنْ قَالَ أُؤَدِّيهَا إلَيْك عَلَى أَنَّهُمَا حُرَّانِ أَوْ عَلَى أَنْ تُعْتِقَهُمَا فَقَبِلَ عَلَى ذَلِكَ عِتْقًا وَيَرْجِعُ الْمُؤَدِّي بِالْمَالِ عَلَى السَّيِّدِ. أَمَّا الْمُعْتَقُ فَلِأَنَّ قَبُولَ الْمَوْلَى عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُ لَهُمَا، وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ فَلِأَنَّ عِوَضَ الْعِتْقِ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ قَالَ هُمَا أَمَرَانِي أَنْ أُؤَدِّيَهَا إلَيْك فَقَبِلَهَا عَتَقَا؛ لِأَنَّهُ رَسُولٌ عَنْهُمَا.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِإِضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا بِأَلْفٍ) فَإِنَّ الْقَبُولَ مَحَلُّهُ الْغَدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْإِيجَابِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ الْقَبُولُ إنَّمَا

ص: 11

الْقَبُولُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ التَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ لِقِيَامِ الرِّقِّ.

يُعْتَبَرُ فِي مَجْلِسِهِ وَمَجْلِسُهُ وَقْتُ وُجُودِهِ وَالْإِضَافَةُ تُؤَخِّرُ وُجُودَهُ إلَى وُجُودِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَهُوَ هُنَا مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ أَمْكَنَتْ إضَافَةٌ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ وَجَبَ فِيهِ أَيْضًا كَوْنُ قَبُولِ الْبَيْعِ يَتَأَخَّرُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمُضَافِ فَيَكُونُ مَحَلُّ الْقَبُولِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ حَيْثُ يَكُونُ الْقَبُولُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لِلتَّدْبِيرِ فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِي الْمُدَبَّرِ.

وَلَا يَسْتَوْجِبُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا صَحِيحًا، وَإِذَا عَتَقَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبُولِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَعَلَى هَذَا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْقَبُولِ إلَّا لِيَظْهَرَ اخْتِيَارُ التَّدْبِيرِ مِنْ الْعَبْدِ، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ اخْتَرْت التَّدْبِيرَ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ وَصَارَ كَمَا إذَا عَلَّقَ تَدْبِيرَهُ بِدُخُولِهِ الدَّارَ. وَأَوْرَدَ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ هُوَ مَعْنَى أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ الْقَبُولَ فِي الْحَالِ: أُجِيبَ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ تَصَرُّفٌ بِيَمِينٍ مِنْ السَّيِّدِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ، وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ إضَافَةٌ لَفْظًا لِيَكُونَ يَمِينًا فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ.

وَفِي النِّهَايَةِ إنَّمَا افْتَرَقَ وَقْتُ الْقَبُولِ فَاعْتُبِرَ فِي الْحَالِ فِي أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ الْأَلْفَ فِي التَّدْبِيرِ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ مُتَحَقِّقٌ قَبْلَ الْمَوْتِ وَاعْتُبِرَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَهَا بِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ وَحَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّدْبِيرَ لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا الْإِعْتَاقُ الْمُضَافُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ هُوَ الثَّابِتُ فِي كُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِلَا فَرْقٍ، بَلْ الْمَعْنَى وَاحِدٌ دَلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ كَلَفْظِ الْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ مِنْ نَحْوِ إنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ نَاطِقٍ، ثُمَّ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَرْعًا عَنْ صِحَّةِ تِلْكَ الْإِضَافَةِ الَّتِي هِيَ التَّدْبِيرُ، لَا أَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ هُوَ مَعْنَى التَّدْبِيرِ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَرْقُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي نَوَادِرِ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ: إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ لَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ السَّاعَةَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى، وَهُوَ فِي مِلْكِهِ، وَقَالَ قَبِلْت أَدَاءَ الْأَلْفِ عَتَقَ، فَعَلَى هَذَا اسْتَوَتْ الْمَسْأَلَتَانِ فِي أَنَّ الْقَبُولَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا إنْ لَمْ يَقْبَلْ حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ بَعْدَهُ، وَإِنْ قَبِلَ كَانَ مُدَبَّرًا وَعَلَيْهِ الْأَلْفُ إذَا مَاتَ السَّيِّدُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ، إذَا قَالَ إنْ مِتَّ فَأَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ الْقَبُولُ عَلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا الْوَفَاةِ، فَإِذَا قَبِلَ صَحَّ التَّدْبِيرُ، فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ وَقْتَ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْقَبُولِ فَلَا يَلْزَمُهُ وَقْتَ وُقُوعِ الْعَتَاقِ، فَسَوَّى بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي أَنَّ الْقَبُولَ حَالَةَ الْحَيَاةِ، إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِيهِمَا فِي لُزُومِ الْمَالِ.

وَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَعْتِقَ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ فِي مَسْأَلَةِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفٍ أَنَّ الْقَبُولَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي أَنَّ الْقَبُولَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا سَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ ذَكَرْنَا عَنْهُ كَذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَمَا قِيلَ إنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ بَعْدَ مَوْتِي فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْوَفَاةِ لَا يَصِحُّ، إذْ يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ إذَا مِتَّ فَأَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ أَنَّ الْقَبُولَ فِي حَالَةِ

ص: 12

قَالُوا: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَإِنْ قَبِلَ بَعْدِ الْمَوْتِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِعْتَاقِ، وَهَذَا صَحِيحٌ.

الْحَيَاةِ رِوَايَةٌ فِي أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفٍ أَنَّ الْقَبُولَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِيجَابَ مُعَلَّقٌ صَرِيحًا بِالْمَوْتِ وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْحَالِ وَهُنَا هُوَ بِالْمَوْتِ مُضَافٌ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَعْدَلَ هُوَ لُزُومُ الْمَالِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِخُصُوصِ هَذَا الشَّرْطِ لَيْسَ إلَّا حُصُولُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ، وَإِلَّا لَقَالَ إنْ اخْتَرْت التَّدْبِيرَ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِعِتْقِهِ إلَّا بِبَدَلٍ، وَتَعْلِيقُهُ بِقَبُولِ الْمَالِ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ وَلَا مَانِعَ شَرْعِيَّ مِنْهُ إذْ الْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ عَلَى عَبْدِهِ الْمَالَ إذَا كَانَ بِسَبَبِ الْعِتْقِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْقَاقُ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُرًّا. فَالْحَاصِلُ تَأَخُّرُ وُجُوبِ الْمَالِ إلَى زَمَنِ حُرِّيَّتِهِ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ مِنْ ثُبُوتِ الدَّيْنِ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَأَمَّا وُقُوعُ الْعِتْقِ عِنْدَ الْقَبُولِ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْمَشَايِخِ: لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَرَثَةُ، وَزَادَ غَيْرُهُ: أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ الْقَاضِي إنْ امْتَنَعُوا، وَإِلَّا أَنَّ الْوَارِثَ يَمْلِكُ عِتْقَهُ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا تَنْجِيزًا، فَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَدَخَلَ لَا يَعْتِقُ، وَإِذَا أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ يَقَعُ لَهُ، وَلِذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ عَنْ كَفَّارَةٍ عَلَيْهِ لَا يَعْتِقُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ أَهْلًا لِلْإِعْتَاقِ، قَالَ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ إلَّا عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْلِيقِ، وَلِذَا لَوْ جُنَّ بَعْدَ التَّعْلِيقِ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ وَالْعَتَاقُ، وَلِذَا يَعْتِقُ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ التَّدْبِيرُ إلَّا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ. وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتِلْكَ الْمَسَائِلِ بِأَنَّ هُنَاكَ الْمَوْجُودَ بُطْلَانُ أَهْلِيَّةِ الْمُعَلَّقِ فَقَطْ وَهُنَا الثَّابِتُ هَذَا وَزِيَادَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِ الْمُعَلِّقِ إلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ إلَّا وَهُوَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ دَافِعًا لِلسُّؤَالِ، وَهُوَ أَنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ فَوَاتِ أَهْلِيَّةِ الْمُعَلِّقِ لَا أَثَرَ لَهُ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ خُرُوجِ الْمَحَلِّ عَنْ مَحَلِّيَّتِهِ عِتْقُهُ إنْ أَرَادَ الْمُجِيبُ أَنَّهُ جُزْءُ الْمَانِعِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ انْتِفَاءَ أَهْلِيَّةِ الْمُعَلِّقِ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ عِنْدَ الشَّرْطِ، فَصَارَ الْحَاصِلُ مِنْ الْإِيرَادِ أَنَّهُ عَلَّلَ بِمَا لَا أَثَرَ لَهُ. فَأَجَابَ الْمُجِيبُ بِإِبْدَاءِ عِلَّةٍ أُخْرَى أَوْ مَانِعٍ وَقَالَ: هَذَا جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ، وَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَيْثُ عَلَّلَ بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ أَهْلًا لِلْإِعْتَاقِ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ عَدَمَ أَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمَبْنَى السُّؤَالِ عَلَى فَهْمِ أَنَّهُ الْمَوْتُ. وَيُمْكِنُ كَوْنُ مُرَادِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِإِعْتَاقِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ إلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ فَصَارَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَإِنَّمَا لَزِمَ خُرُوجُهُ إلَى مِلْكِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ كَالْمُدَبَّرِ بَلْ بَعْدَ الْقَبُولِ الْكَائِنِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِذَا تَأَخَّرَ الْعِتْقُ عَنْ الْمَوْتِ وَلَوْ بِسَاعَةٍ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِعِتْقِ الْوَرَثَةِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ فَإِنَّهُ

ص: 13

قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ فَقَبِلَ الْعَبْدُ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ)

لَا يَعْتِقُ إلَّا بِعِتْقِهِمْ.

وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ شَارِحٌ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ حُكْمًا لِكَلَامٍ صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْإِعْتَاقِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْكَلَامَ صَدَرَ فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ ثُمَّ اُسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَبُولَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرٌ وَهُوَ فَرْعُ كَوْنِ الْإِيجَابِ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَّا بِإِعْتَاقِ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ لَمْ يَبْقَ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَبْقَى فَائِدَةٌ؛ لِقَوْلِهِ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَعْدَ كَوْنِ الْكَلَامِ حِينَ صُدُورِهِ مُعْتَبَرًا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْعِتْقِ، ثُمَّ نَفْيُ الْفَائِدَةِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ بِالْقَبُولِ يَثْبُتُ لُزُومُ الْعِتْقِ عَلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَعْتَقَهُ الْقَاضِي، وَلَمْ يَكُنْ لَوْلَا الْقَبُولُ ذَلِكَ بَلْ يُبَاعُ وَيُورَثُ فَكَيْفَ يُقَالُ لَا فَائِدَةَ لَهُ. نَعَمْ يُقَالُ إذَا كَانَ الْعِتْقُ لَا بُدَّ مِنْهُ فَمَا السَّبَبُ إلَى نَقْلِهِ إلَى مِلْكِهِمْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْإِعْتَاقِ إنْ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا سَائِبَةَ. فَلَوْ بَقِيَ فِي سَاعِهِ الْقَبُولِ بِلَا مِلْكِهِمْ لَزِمَ السَّائِبَةَ فَلِمَ لَمْ يَبْقَ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ وَيُجْعَلُ مِثْلَ مَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَهُوَ نَفَاذُ إيجَابِهِ وَصِحَّتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ قَبُولُهُ مُعْتَبَرًا فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يُعْتَبَرُ بَعْدَهُ بَلْ يَتَقَيَّدُ بِهِ.

وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَوَادِرِ بِشْرٍ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى وَقَالَ قَبِلْت أَدَاءَ الْأَلْفِ عَتَقَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ تَأَخُّرِ عِتْقِهِ إلَى عِتْقِ الْوَارِثِ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ذَلِكَ الشَّارِحُ أَيْضًا مَعَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يُتَصَوَّرُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْخِلَافِ، ثُمَّ نَقُولُ الْعِتْقُ مَا وَقَعَ إلَّا مِنْ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ الْمُعَلَّقِ أَوْ الْمُضَافِ الصَّادِرِ مِنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ نُزُولُ أَثَرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ إشْكَالٌ هُوَ لُزُومُ أَنْ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ شَهْرًا فِيمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ اعْتِبَارًا لِحَاجَتِهِ إلَى نَفَاذِ إيجَابِهِ وَاعْتِبَارِهِ، وَطُولُ الْمُدَّةِ وَقِصَرُهَا لَا أَثَرَ لَهُ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ حَاجَتُهُ إلَى مَا ذَكَرَ وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِيهِمَا، وَسَيَأْتِي لِبَعْضِهِمْ فَرْقٌ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ مَثَلًا) أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ (فَقَبِلَ الْعَبْدُ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى مِنْ سَاعَتِهِ فَعَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْعَبْدِ (قِيمَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَةِ أَرْبَعِ سِنِينَ) أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِدْمَةَ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ إذْ هِيَ خِدْمَةُ الْبَيْتِ الْمُعْتَادَةُ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ عِوَضًا فَتَعَلَّقَ بِقَبُولِهَا

ص: 14

أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِدْمَةَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ عِوَضًا فَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ وُجِدَ وَلَزِمَهُ خِدْمَةُ أَرْبَعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ فَالْخِلَافِيَّةُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى خِلَافِيَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ مَنْ بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ أَوْ هَلَكَتْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَهُ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّهُ كَمَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْجَارِيَةِ بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى الْخِدْمَةِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ،

كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ؛ لِأَنَّهُ صَلُحَ عِوَضًا؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ أَخَذَتْ حُكْمَ الْمَالِ بِالْعَقْدِ، وَلِذَا صَحَّتْ مَهْرًا مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِابْتِغَاءِ النِّكَاحِ بِالْمَالِ، ثُمَّ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ الْمَوْلَى قَبْلَ حُصُولِ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ تَحَقَّقَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ مَا إذَا بَاعَ نَفْسَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ أَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَكَذَا لَوْ رُدَّتْ بِعَيْبٍ فَاحِشٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَاحِشٍ فَكَانَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ.

وَوَجْهُ الْبِنَاءِ ظَاهِرٌ وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ بِنَاءَ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ، بَلْ الْخِلَافُ فِيهِمَا مَعًا ابْتِدَائِيٌّ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ تَرْجِعُ الْوَرَثَةُ فِي مَوْتِ الْمَوْلَى بِعَيْنِ الْخِدْمَةِ. قِيلَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاسْتِخْدَامِ، وَقِيلَ بَلْ الْخِدْمَةُ هِيَ الْمُعْتَادَةُ مِنْ خِدْمَةِ الْبَيْتِ، لَكِنْ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ مَنْفَعَةٌ وَهِيَ لَا تُورَثُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَزُفَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ أَوْ الْخِدْمَةَ جُعِلَتْ بَدَلَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ الْعِتْقُ وَقَدْ حَصَلَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ، وَلَا يُمْكِنُ الْفَسْخُ إذْ الْعِتْقُ لَا يُفْسَخُ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ لَوْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَ عَلَى جَارِيَةٍ أَوْ خَالَعَ عَلَيْهَا أَوْ صَالَحَ عَنْ دَمِ

ص: 15

وَكَذَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَصَارَ نَظِيرَهَا.

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَعْتِقْ أَمَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجْنِيهَا فَفَعَلَ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ)؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ فَفَعَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَيَقَعُ الْعِتْقُ عَلَى الْمَأْمُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيَّ فَفَعَلَ حَيْثُ يَجِبُ الْأَلْفُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَدَلِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي الطَّلَاقِ جَائِزٌ وَفِي الْعَتَاقِ لَا يَجُوزُ

عَمْدٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ أَوْ هَلَكَتْ حَيْثُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبَدَلِ اتِّفَاقًا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا بَدَلُ مَا هُوَ مَالٌ وَهُوَ الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ لَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّيِّدِ حَيْثُ أَخَذَ مَالًا فِي مُقَابَلَةِ إخْرَاجِهِ مَالًا عَنْ مِلْكِهِ. نَعَمْ هُنَا مُلَاحَظَةٌ أُخْرَى وَهِيَ اعْتِبَارُ مَا أَخَذَ فِي مُقَابَلَةِ مَا بِهِ خَرَجَ الْمَالُ عَنْ مِلْكِهِ وَهُوَ تَلَفُّظُهُ بِالْإِعْتَاقِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ لَا يَنْفِي الْأَمْرَ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ خُرُوجُ مَالٍ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ الْعِوَضِ، فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ إنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، بِخِلَافِ مَا قِيسَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدُوا بِإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَإِبْطَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ ثُمَّ رَجَعُوا لَا يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ وَقِيمَةَ الْبُضْعِ. وَلَوْ شَهِدُوا بِالْإِعْتَاقِ وَرَجَعُوا ضَمِنُوا، وَلَوْ خَدَمَهُ سَنَةً مَثَلًا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَخَذَ بِقِيمَةِ خِدْمَتِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَهُمَا بِقِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ رَقَبَتِهِ وَعَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ قِسْ.

وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَ ذِمِّيٌّ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ يَعْتِقُ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِهِ فَعِنْدَهُمَا عَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ نَفْسِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيمَةُ الْخَمْرِ، هَذَا فِي الْمُعَاوَضَةِ. أَمَّا لَوْ كَانَ قَالَ إنْ خَدَمْتنِي أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ سَنَةً مَثَلًا فَخَدَمَ بَعْضَهَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَا يَعْتِقُ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَيُبَاعُ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْمَوْلَى، وَكَذَا لَوْ أَعْطَاهُ مَالًا عِوَضًا عَنْ خِدْمَتِهِ أَوْ أَبْرَأَهُ الْمَوْلَى مِنْهَا أَوْ بَعْضَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ إنْ خَدَمْتنِي وَأَوْلَادِي فَمَاتَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمُدَّةِ يَتَعَذَّرُ الْعِتْقُ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَعْتِقْ أَمَتَكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجْنِيهَا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةُ لَفْظِ عَلَيَّ قَبْلَ عَلَى أَنْ تُزَوِّجْنِيهَا وَلَيْسَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ، وَهِيَ أَدُلُّ مِنْهُ عَلَى إيجَابِ الْمَالِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعَ تَرْكِهَا أَيْضًا، فَإِذَا عَتَقَ فَإِمَّا أَنْ تُزَوِّجَهُ أَوْ لَا وَلَا يَلْزَمُهَا تَزَوُّجُهُ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِالْعِتْقِ، فَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِ أَمَرَهُ الْمُخَاطَبُ بِإِعْتَاقِهِ أَمَتَهُ وَتَزْوِيجِهَا مِنْهُ عَلَى عِوَضِ أَلْفٍ مَشْرُوطَةٍ عَلَيْهَا عَنْهَا وَعَنْ مَهْرِهَا، فَلَمَّا لَمْ تَتَزَوَّجْهُ بَطَلَتْ عَنْهُ حِصَّةُ الْمَهْرِ مِنْهَا، وَأَمَّا حِصَّةُ الْعِتْقِ فَبَاطِلَةٌ إذْ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ بَدَلِ الْعِتْقِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، بِخِلَافِ الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِيهِ كَالْمَرْأَةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مِلْكٌ مَا لَمْ تَكُنْ تَمْلِكُهُ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ فِيهِ قُوَّةً حُكْمِيَّةً وَهِيَ مِلْكُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشَّهَادَاتِ وَالْقَضَاءِ، وَلَا يَجِبُ الْعِوَضُ إلَّا عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ الْمُعَوَّضُ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْهُ قَسَمَتْ الْأَلْفَ عَلَى قِيمَتِهَا وَمَهْرِ مِثْلِهَا، فَمَا أَصَابَ قِيمَتَهَا سَقَطَ مِنْهُ، وَمَا أَصَابَ مَهْرَهَا وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ فَإِنْ اسْتَوَيَا بِأَنْ كَانَ قِيمَتُهَا مِائَةً وَمَهْرُهَا مِائَةً أَوْ كَانَ مَهْرُهَا أَلْفًا وَقِيمَتُهَا أَلْفًا سَقَطَ عَنْهُ خَمْسُمِائَةٍ وَوَجَبَ خَمْسُمِائَةٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَفَاوَتَا بِأَنْ كَانَ قِيمَتُهَا مِائَتَيْنِ أَوْ أَلْفَيْنِ وَمَهْرُهَا مِائَةً أَوْ أَلْفًا سَقَطَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَوَجَبَ لَهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ.

وَقَوْلُهُ: وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ: يَعْنِي مَا ذَكَرَ فِي خُلْعِ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ حَيْثُ قَالَ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ

ص: 16

وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. (وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ أَمَتَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قُسِّمَتْ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَتِهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا، فَمَا أَصَابَ الْقِيمَةَ أَدَّاهُ الْآمِرُ، وَمَا أَصَابَ الْمَهْرَ بَطَلَ عَنْهُ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَنِّي تَضَمَّنَ الشِّرَاءُ اقْتِضَاءً عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَابَلَ الْأَلْفَ بِالرَّقَبَةِ شِرَاءً وَبِالْبُضْعِ نِكَاحًا فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا، وَوَجَبَتْ حِصَّةُ مَا سَلَّمَ لَهُ وَهُوَ الرَّقَبَةُ وَبَطَلَ عَنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ وَهُوَ الْبُضْعُ، فَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَجَوَابُهُ أَنَّ مَا أَصَابَ قِيمَتَهَا سَقَطَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهِيَ لِلْمَوْلَى فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَمَا أَصَابَ مَهْرَ مِثْلِهَا كَانَ مَهْرًا لَهَا فِي الْوَجْهَيْنِ.

لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ اشْتِرَاطَ بَدَلِ الْعِتْقِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ أَمَتَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ) عَلَى أَنْ تُزَوِّجْنِيهَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَفَعَلَ: أَيْ أَعْتَقَ قُسِمَتْ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَتِهَا، وَمَهْرِ مِثْلِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَمَا أَصَابَ قِيمَتَهَا أَدَّاهُ لِلْمَأْمُورِ وَمَا أَصَابَ الْمَهْرَ سَقَطَ عَنْهُ: يَعْنِي إنْ لَمْ تَكُنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ، وَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِلْمَأْمُورِ حِصَّةُ قِيمَتِهِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَنِّي تَضَمَّنَ الشِّرَاءُ اقْتِضَاءً عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، لَكِنَّهُ ضَمَّ إلَى رَقَبَتِهَا تَزْوِيجَهَا وَقَابَلَ الْمَجْمُوعَ بِعِوَضِ أَلْفٍ فَانْقَسَمَتْ عَلَيْهِمَا بِالْحِصَّةِ، وَكَانَ هَذَا

ص: 17

‌بَابُ التَّدْبِيرِ

كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَمُدَبَّرِهِ فِي الْبَيْعِ بِأَلْفٍ حَيْثُ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَنْقَسِمُ عَلَى قِيمَتِهِمَا، فَمَا أَصَابَ قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ سَقَطَ وَمَا أَصَابَ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَجَبَ ثَمَنًا بِنَاءً عَلَى دُخُولِ الْمُدَبَّرِ فِي الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ مَالًا ثُمَّ خُرُوجُهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ نَفْسَهُ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا لَكِنْ أَخَذَتْ حُكْمَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ حَالَ الدُّخُولِ وَإِيرَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَسَادُ هَذَا الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ جَمْعِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ إلَى مَا هُوَ مَالٌ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ إدْخَالُ صَفْقَةٍ فِي صَفْقَةٍ، وَإِذَا فَسَدَ وَجَبَ، إمَّا عَدَمُ وُقُوعِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ وَهُوَ لَمْ يَقْبِضْهَا، وَالْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلَا عِتْقَ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْ، وَإِمَّا وُجُوبُ كُلِّ الْقِيمَةِ لِلْمَأْمُورِ إنْ اُعْتُبِرَ قَبْضُهَا نَفْسُهَا بِالْعِتْقِ قَبْضًا لِلْمَوْلَى، وَإِنْ ضَعُفَ فَيَكْتَفِي بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ حَيْثُ وَجَبَتْ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَجَبَتْ كُلَّهَا أُجِيبَ بِأَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ وَالنِّكَاحُ وَقَعَ مُنْدَرِجًا فِي الْبَيْعِ ضِمْنًا لَهُ فَلَا يُرَاعَى مِنْ حَيْثُ هُوَ مُسْتَقِلًّا وَلَا يَفْسُدُ بِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ادِّعَاؤُهُ فِي كُلِّ صَفْقَةٍ فِي صَفْقَةٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَذْكُرْهُ: يَعْنِي مُحَمَّدًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَوْلُهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي الَّذِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ لَفْظَ عَنِّي، وَالْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ مَا ذَكَرَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ يَعْنِي مَا ذَكَرَ فِيهِ عَنِّي وَمَا لَمْ يَذْكُرْ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.

(بَابُ التَّدْبِيرِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْعِتْقِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْعِتْقِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَوَجْهُ التَّرْتِيبِ ظَاهِرٌ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قِيلَ فِيهِ إنَّهُ مُقَيَّدٌ وَالْمُقَيَّدُ مُرَكَّبٌ، وَهُوَ بَعْدَ الْمُفْرَدِ؛ لِأَنَّ مَسَائِلَ بَابِ الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ كُلِّهِ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا تَقْيِيدٌ لِلْعِتْقِ بِشَرْطٍ غَيْرِ الْمَوْتِ، كَمَا أَنَّ التَّدْبِيرَ تَقْيِيدُهُ بِشَرْطِ الْمَوْتِ وَلَمْ يُؤَخِّرْهَا إلَى هَاهُنَا، ثُمَّ التَّدْبِيرُ لُغَةً النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ. وَشَرْعًا الْعِتْقُ الْمُوقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْمَمْلُوكِ مُعَلَّقًا بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى وَشَرْطُهُ الْمِلْكُ فَلَا يَصِحُّ تَدْبِيرُ الْمُكَاتَبِ لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مَالِكٌ يَدًا، وَلَا مَعْنًى فِي التَّحْقِيقِ لِقَوْلِهِمْ مَالِكٌ يَدًا، بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ مِلْكُهُ مُتَزَلْزِلٌ إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَالِكٌ شَرْعًا لَكِنَّهُ بِعَرْضٍ أَنْ يَزُولَ بِتَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ بَعْضَ آثَارِ الْمِلْكِ مُنْتَفٍ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ نَفْيَ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ كَمِلْكِ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فَلَا يَصِحُّ تَدْبِيرُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: فَأَمَّا السَّكْرَانُ وَالْمُكْرَهُ فَتَدْبِيرُهَا جَائِزٌ عِنْدَنَا كَإِعْتَاقِهِمَا، وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ إذَا أُعْتِقْتُ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ فَعَتَقَ فَمَلَكَ مَمْلُوكًا عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَهُ قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ، وَقَدْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مَا بَعْدَ حَقِيقَةِ

ص: 18

(إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِمَمْلُوكِهِ إذْ مِتَّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ قَدْ دَبَّرْتك فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحٌ فِي التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ

الْمِلْكِ لَهُ فَيَصِحُّ وَيَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ كَالْمُنْجِزِ لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إلَى خَمْسِينَ سَنَةً فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ قَبْلَ ذَلِكَ فَمَلَكَ لَا يُعْتَقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُعْتَقُ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ هُوَ فِي تَدْبِيرِ الْمَالِكِ أَمَّا الْوَكِيلُ فَلَا.

فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ دَبِّرْ عَبْدِي إنْ شِئْت فَدَبَّرَهُ جَازَ، وَهَذَا عَلَى الْمَجْلِسِ لِتَصْرِيحِهِ بِالْمَشِيئَةِ وَنَظِيرُهُ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ. وَإِذْ قَدْ أَنْجَزَ الْكَلَامَ إلَى الْوَكَالَةِ فَهَذَا فَرْعٌ مِنْهُ. قَالَ لِرَجُلَيْنِ دَبِّرَا عَبْدِي فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا جَازَ، وَلَوْ جَعَلَ أَمْرَهُ فِي التَّدْبِيرِ إلَيْهِمَا بِأَنْ قَالَ جَعَلْت أَمْرَهُ إلَيْكُمَا فِي تَدْبِيرِهِ فَدَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُمَا هَذَا التَّصَرُّفَ فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمَا مُعَبِّرَيْنِ عَنْهُ، وَعِبَارَةُ الْوَاحِدِ وَعِبَارَةُ الْمُثَنَّى سَوَاءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ يَنْهَاهُمَا قَبْلَ أَنْ يُدَبِّرَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي جَعْلِ الْأَمْرِ إلَيْهِمَا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. (قَوْلُهُ: إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِمَمْلُوكِهِ إذَا مِتَّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ وَقَدْ دَبَرْتُك صَارَ مُدَبَّرًا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحٌ فِي التَّدْبِيرِ، فَإِنَّهُ أَيْ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ.

وَهَذِهِ تُفِيدُ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ فَأَفَادَ أَنَّ كُلَّمَا أَفَادَ إثْبَاتَهُ عَنْ دُبُرٍ كَذَلِكَ فَهُوَ صَرِيحٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: مَا يَكُونُ بِلَفْظِ إضَافَةٍ كَبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا وَمِنْهُ إنْ حَرَّرْتُك أَوْ أَعْتَقْتُك أَوْ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ مُحَرَّرٌ أَوْ عِتْقٌ أَوْ مُعْتَقٌ بَعْدَ مَوْتِي. وَالثَّانِي مَا يَكُونُ بِلَفْظِ التَّعْلِيقِ كَإِنْ مِتَّ أَوْ إذَا مِتَّ أَوْ مَتَى مِتَّ أَوْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ أَوْ حَادِثٌ فَأَنْتَ حُرٌّ وَتُعُورِفَ الْحَدَثُ وَالْحَادِثُ فِي الْمَوْتِ، وَكَذَا أَنْتَ حُرٌّ مَعَ مَوْتِي أَوْ فِي مَوْتِي فَإِنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعَ وَفِي تُسْتَعَارُ فِي مَعْنَى حَرْفِ الشَّرْطِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي يَصِيرُ مُدَبَّرًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ اسْمٌ لِمَنْ يَعْتِقُ عَنْ دُبُرِ مَوْتِهِ فَكَانَ هَذَا وَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي سَوَاءً، وَكَذَا أَعْتَقْتُك أَوْ حَرَّرْتُك بَعْدَ مَوْتِي.

وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ كَأَوْصَيْتُ لَك بِرَقَبَتِك أَوْ بِنَفْسِك أَوْ بِعِتْقِك، وَكَذَا إذَا قَالَ أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ مَالِي فَتَدْخُلُ رَقَبَتُهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَالِهِ فَيَعْتِقُ ثُلُثُ رَقَبَتِهِ. وَفِي الْكَافِي: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ مُدَبَّرٌ أَوْ عَتِيقٌ يَوْمَ يَمُوتُ يَصِيرُ مُدَبَّرًا، وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَ بِهِ مَا لَا يَمْتَدُّ، وَلَوْ نَوَى النَّهَارَ فَقَطْ لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ لَيْلًا. يَعْنِي فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى مَاتَ عَتَقَ كَالْمُدَبَّرِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ صَرَائِحُ؛ لِأَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُمِّ الْوَلَدِ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، ثُمَّ تُوُورِثَتْ بِلَا شُبْهَةٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَلَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَمَوْتِ فُلَانٍ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ مُطْلَقٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ عِتْقُهُ بِمَوْتِهِ مُطْلَقًا، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ فُلَانٍ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَتِمَّ فَصَارَ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ، وَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ، وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ أَوَّلًا يَصِيرُ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَوْ قَالَ إذَا كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَكَلَّمَهُ أَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ كَلَامِك فُلَانًا أَوْ بَعْدَ مَوْتِي فَإِذَا كَلَّمَ فُلَانًا صَارَ مُدَبَّرًا. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت يَنْوِي فِيهِ، فَإِنْ نَوَى الْمَشِيئَةَ السَّاعَةَ فَشَاءَ الْعَبْدُ سَاعَتَهُ فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِوُجُودِ شَرْطِ التَّدْبِيرِ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا، وَإِنْ نَوَى الْمَشِيئَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا مَاتَ

ص: 19

(ثُمَّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ) كَمَا فِي الْكِتَابَةِ.

الْمَوْلَى فَشَاءَ الْعَبْدُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ حُرٌّ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا بِاعْتِبَارِ التَّدْبِيرِ.

وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ هُنَا إلَّا بِإِعْتَاقٍ مِنْ الْوَرَثَةِ أَوْ الْوَصِيِّ بِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتِقْ بِنَفْسِ الْمَوْتِ صَارَ مِيرَاثًا فَلَا يَعْتِقُ بَعْدَهُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مِنْهُمْ وَيَكُونُ هَذَا وَصِيَّةً يَحْتَاجُ إلَى تَنْفِيذِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ أَعْتَقُوهُ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شَاءَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الشَّهْرِ، نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ وَكَذَا بِيَوْمٍ. وَفِي الْإِسْبِيجَابِيِّ: إذَا لَمْ يَعْتِقْ إلَّا بِإِعْتَاقِ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يُعْتِقَهُ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا، وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا تَنْجِيزًا، وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَتَقَ عَنْ الْمَيِّتِ دُونَ الْكَفَّارَةِ.

وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ فِي التَّعْلِيقِ فَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ أَوْ بِمُضِيِّ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَوْ عَلَى فِعْلِ الْعَبْدِ وَهُوَ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَعَسَّرُ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ تَوَقُّفُهُ عَلَيْهِ، بَلْ إنْ شَاءَ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي لِيُنْجِزَ عِتْقَهُ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْ الْعَبْدِ فِي مَجْلِسِ مَوْتِهِ أَوْ عِلْمِهِ بِمَوْتِهِ كَمَا يَتَقَيَّدُ بِهَذَا مَشِيئَتُهُ فِي حَيَاتِهِ بِمَجْلِسِ التَّفْوِيضِ إلَيْهِ إذَا كَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَتَوَقَّفُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَصِيَّةِ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ. وَفِي الْأَصْلِ: لَوْ قَالَ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ بَلْ بِمُضِيِّ يَوْمٍ بَعْدَهُ، فَإِنْ مَاتَ لَمْ يَعْتِقْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي سَمَّى حَتَّى يُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الْأُولَى فَقَالَ: إذَا أَخَّرَ الْعِتْقَ عَنْ مَوْتِهِ بِزَمَانٍ مُمْتَدٍّ بِيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ وَتَقَرَّرَ مِلْكُ الْوَارِثِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْأَمْرُ بِإِعْتَاقِهِ فَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُعْتِقُوهُ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ فَإِنَّهَا تَتَّصِلُ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى قَبْلَ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ فَيَعْتِقُ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى، وَلَا تَدْعُو إلَى إعْتَاقِ الْوَارِثِ، وَهَذَا إنْ تَمَّ أَشْكَلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِأَلْفٍ، فَإِنَّ زَمَنَ الْقَبُولِ كَزَمَنِ الْمَشِيئَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَصَّلَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى أَوْ بِعِلْمِهِ بِمَوْتِهِ.

لَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتِلْكَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ لِحَاجَتِهِ إلَى نَفَاذِ إيجَابِهِ وَثُبُوتِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْقَبُولَ غَيْرُ مَعْلُومٍ يُدْفَعُ بِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ. وَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ يَلْزَمُ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِمْ بَعْدَ الدُّخُولِ وَاسْتِصْحَابُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ أَسْهَلُ مِنْ رَفْعِهِ، ثُمَّ إدْخَالُهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ ثُمَّ إخْرَاجُهُ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى لِحَاجَتِهِ. ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُنَا يَقَعُ هُنَا يَقَعُ مَجَّانًا فَوَجَبَ عِتْقُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى. لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَزِمَ فِي أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ عَدَمُ تَوَقُّفِهِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَجِيءَ الْيَوْمِ بَعْدَهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَشْكُوكٍ، وَهِيَ مِنْ مَوَاضِعِ النَّصِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقِهِمْ.

(قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ) أَيْ الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الَّذِي عُلِّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَلَا هِبَتُهُ، وَلَا إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ بِلَا بَدَلٍ أَوْ بِكِتَابِهِ أَوْ عَتَقَ عَلَى مَالٍ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تُبْطِلُ حَقَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ يَجُوزُ، فَيَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُ وَإِجَارَتُهُ وَأَخْذُ أُجْرَتِهِ وَتَزْوِيجُ الْمُدَبَّرَةِ وَوَطْؤُهَا وَأَخْذُ مَهْرِهَا وَأَرْشُ جِنَايَتِهَا، وَعَلَّلَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ ثَابِتٌ، وَبِهِ تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ؛ لِفَوَاتِ شَرْطِ عَقْدِ الرَّهْنِ وَهُوَ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَالِيَّةِ الْمَرْهُونِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، وَلَا مَالِيَّةَ لِلْمُدَبَّرِ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى فِي جِنَايَاتِ الْمُدَبَّرِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَا مَنَعَ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا مَا اسْتَهْلَكَهُ فَدَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يَسْعَى فِيهِ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنْ لَيْسَ لِلْمَوْلَى دَفْعُهُ بِالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ

ص: 20

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَمْتَنِعُ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ وَكَمَا فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَهِيَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا سَبَبَ غَيْرَهُ؛

لِلْأَرْشِ، وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُدَبَّرِ مَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَمَالِيكِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ.

وَاسْتُشْكِلَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى مَا إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَهُ مَمَالِيكُ وَاشْتَرَى مَمَالِيكَ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُمْ يُعْتَقُونَ فَكَانَ عِتْقُهُمْ مُعَلَّقًا بِمُطْلَقِ مَوْتِ السَّيِّدِ. ثُمَّ إنَّهُ لَوْ بَاعَ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ صَحَّ، وَلَمْ يَدْخُلُوا تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ إلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْدُومِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمَوْتِ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْإِيجَابِ، حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فَمَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَطَلَ ثُلُثُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَنَاوَلَتْهُمْ بِعَيْنِهِمْ فَبَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمْ حِصَّتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ فَوُلِدَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي كَانَ الْكُلُّ لِلِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَصِيَّةِ لِكَوْنِهِمْ مَعْدُومِينَ عِنْدَ الْإِيجَابِ فَتَنَاوَلَتْ مَنْ يَكُونُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَوْتِ. (قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ) لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَاعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إلَيْهِ» . وَفِي لَفْظٍ «أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ وَكَانَ مُحْتَاجًا وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ: اقْضِ دَيْنَكَ وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ» وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ.

وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ بِسَنَدِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ الْمُدَبَّرَ» وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ إلَى عَائِشَةَ " أَنَّهَا مَرِضَتْ فَتَطَاوَلَ مَرَضُهَا فَذَهَبَ بَنُو أَخِيهَا إلَى رَجُلٍ فَذَكَرُوا لَهُ مَرَضَهَا فَقَالَ: إنَّكُمْ تُخْبِرُونِي عَنْ امْرَأَةٍ مَطْبُوبَةٍ، قَالَ: فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَإِذَا جَارِيَةٌ لَهَا سَحَرَتْهَا وَكَانَتْ قَدْ دَبَّرَتْهَا فَدَعَتْهَا ثُمَّ سَأَلَتْهَا مَاذَا أَرَدْت؟ قَالَتْ: أَرَدْت أَنْ تَمُوتِي حَتَّى أُعْتَقَ، قَالَتْ: فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ تُبَاعِي مِنْ أَشَدِّ الْعَرَبِ مَلَكَةً، فَبَاعَتْهَا وَأَمَرَتْ بِثَمَنِهَا فَجُعِلَ فِي مِثْلِهَا " وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَاعَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ سَرَقَ فِي دَيْنِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}» ذَكَرَهُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ الْآنَ بَعْدَ النَّسْخِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ اسْتِصْحَابُ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ

ص: 21

ثُمَّ جَعَلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْلَى لِوُجُودِهِ فِي الْحَالِ وَعَدَمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَالُ بُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَلَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السَّبَبِيَّةِ قَائِمٌ قَبْلَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ مَانِعٌ وَالْمَنْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّهُ يُضَادُّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ،

جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ، إذَا لَمْ يُوجِبْ التَّدْبِيرُ زَوَالَ الرِّقِّ عَنْهُ، ثُمَّ رَأَيْنَا أَنَّهُ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ " وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ ضَعَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ رَفْعَهُ وَصَحَّحَ وَقَفَهُ.

وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ ظَبْيَانَ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ " الْمُدَبَّرُ مِنْ الثُّلُثِ " وَضَعَّفَ ابْنَ ظَبْيَانَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَقَفَهُ صَحِيحٌ وَضَعَّفَ رَفْعَهُ، فَعَلَى تَقْدِيرِ الرَّفْعِ لَا إشْكَالَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْوُقُوفِ فَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ حِينَئِذٍ لَا يُعَارِضُهُ النَّصُّ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، وَإِنَّمَا يُعَارِضُهُ لَوْ قَالَ صلى الله عليه وسلم يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ. فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ تَقْلِيدِهِ فَظَاهِرٌ، وَعَلَى عَدَمِ تَقْلِيدِهِ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى السَّمَاعِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ

ص: 22

وَأَمْكَنَ تَأْخِيرُ السَّبَبِيَّةِ إلَى زَمَانِ الشَّرْطِ؛ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَهُ فَافْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّهُ وَصِيَّةُ خِلَافَةٍ فِي الْحَالِ كَالْوِرَاثَةِ وَإِبْطَالُ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ، وَفِي الْبَيْعِ وَمَا يُضَاهِيهِ ذَلِكَ.

قَالَ: (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَيُؤَاجِرَهُ وَإِنْ

بَيْعِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَيْعَهُ مُسْتَصْحَبٌ بِرِقِّهِ فَمَنْعُهُ مَعَ عَدَمِ زَوَالِ الرِّقِّ وَعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ بِجُزْءِ الْمَوْلَى كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ خِلَافُ الْقِيَاسِ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ فَبَطَلَ مَا قِيلَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه لَا يَصْلُحُ لِمُعَارِضَةِ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَأَيْضًا ثَبَتَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَنَّ عَطَاءَ وَطَاوُسًا يَقُولَانِ عَنْ جَابِرٍ فِي الَّذِي أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِتْقُهُ عَنْ دُبُرٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فَيَقْضِيَ دَيْنَهُ الْحَدِيثَ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: شَهِدْت الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرٍ «إنَّمَا أَذِنَ فِي بَيْعِ خِدْمَتِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ الْكُوفِيِّ عَنْ

ص: 23

كَانَتْ أَمَةً وَطِئَهَا وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ ثَابِتٌ لَهُ وَبِهِ تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ.

أَبِي جَعْفَرٍ. وَقَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ وَلَكِنَّ حَدِيثَهُ هَذَا مُرْسَلٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ مُرْسَلٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَزْرَمِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ انْتَهَى. فَلَوْ تَمَّ تَضْعِيفُ عَبْدِ الْغَفَّارِ لَمْ يَضُرَّ لَكِنَّ الْحَقَّ عَدَمُهُ وَإِنْ كَانَ مُتَشَيِّعًا، فَقَدْ صَرَّحَ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ مُحَمَّدُ الْبَاقِرُ الْإِمَامُ بْنُ عَلِيِّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بِأَنَّهُ شَهِدَ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَأَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ فِي بَيْعِ مَنَافِعِهِ، وَلَا يُمْكِنُ لِثِقَةِ إمَامِ ذَلِكَ إلَّا لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنْ جَابِرٍ رَاوِي الْحَدِيثِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعِزِّ: قَوْلُ مَنْ قَالَ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ بَاعَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّ التَّدْبِيرَ عَقْدٌ لَازِمٌ سَعَى فِي تَأْوِيلِ مَا يُخَالِفُ اعْتِقَادَهُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى خِلَافِ تَأْوِيلِهِ، وَالنَّصُّ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا لِمُعَارَضَةِ نَصٍّ آخَرَ يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِإِطْلَاقِهِ، وَأَنْتَ إذَا عَلِمْت أَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ لِلدَّيْنِ ثُمَّ نُسِخَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ بَاعَ مُدَبَّرًا لَيْسَ إلَّا حِكَايَةَ الرَّاوِي فِعْلًا جُزْئِيًّا لَا عُمُومَ لَهَا، وَأَنَّ قَوْلَهُ أَعْتَقَ عَنْ دُبُرٍ أَوْ دَبَّرَ أَعَمُّ مِنْ الْمُطْلَقِ، وَالْمُقَيَّدِ إذْ يَصْدُقُ عَلَى الَّذِي دَبَّرَ مُقَيَّدًا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ، وَأَنَّ مَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ أَبِي جَعْفَرٍ مُرْسَلُ تَابِعِيٍّ ثِقَةٍ، وَقَدْ أَقَمْنَا الدَّلَالَاتِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ بَلْ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمُسْنَدِ بَعْدَ أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ عَلِمْت قَطْعًا أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ بَلْ سَالِمَةٌ عَنْ الْمُعَارِضِ.

وَكَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ إنْ لَمْ يَصِحَّ رَفْعُهُ يَعْضُدُهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها لِجَوَازِ كَوْنِ تَدْبِيرِهَا كَانَ مُقَيَّدًا، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ حَدِيثُ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما مَحَلَّ النِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ، فَكَيْفَ وَقَدْ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى السَّمَاعِ بِمَا ذَكَرْنَا فَظَهَرَ لَك تَحَامُلُهُ أَوْ غَلَطُهُ. وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي أَبْطَلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ بَيْعِهِ، فَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ، وَبِهِ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ غَيْرِ الْمَوْتِ، وَكَذَا إنْ اعْتَبَرَ جِهَةَ كَوْنِهِ وَصِيَّةً، فَإِنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَبَيْعُ الْمُوصَى بِهِ جَائِزٌ، فَظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ شَبَهَيْ التَّعْلِيقِ وَالْوَصِيَّةِ لَا يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ.

وَقَدْ قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَرِيبٍ قَوْلَهُ وَعَلَى هَذَا: أَيْ إعْمَالِ الشَّبَهَيْنِ يَدُورُ الْفِقْهُ.

وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا ثُبُوتَ إلَّا بِسَبَبٍ وَلَا سَبَبَ غَيْرَهُ: أَيْ غَيْرَ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ الْمُعَلَّقِ فِي إذَا مِتَّ أَوْ الْمُضَافُ فِي بَعْدِ مَوْتِي، فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَجَعْلُهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حَالُ وُجُودِهِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ مَعْدُومٌ إنَّمَا لَهُ ثُبُوتٌ حُكْمِيٌّ، فَإِضَافَةُ السَّبَبِيَّةِ إلَيْهِ حَالَ وُجُودِهِ أَوْلَى، فَهَذَا وَجْهُ أَوْلَوِيَّةِ السَّبَبِيَّةِ فِي الْحَالِ، وَوَجْهٌ آخَرُ يُوجِبُ عَدَمَ إمْكَانِ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ إلَخْ: يَعْنِي لَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَزَوَالِهِ مِنْ ثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ لَهُمَا وَالْمَوْتُ يُبْطِلُهَا، بِخِلَافِ الْجُنُونِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ أَهْلٌ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ كَمَا إذَا مَاتَ مُوَرِّثُهُ أَوْ وَهَبَ لَهُ وَقَبِلَ وَلِيُّهُ وَزَوَالُهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ ضَمَانُهُ مِنْ مَالِهِ فَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ.

وَلَوْ ارْتَدَّ أَبَوَاهُ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ بَانَتْ امْرَأَتُهُ، فَلِذَا لَمْ تُشْتَرَطْ الْأَهْلِيَّةُ بِالْعَقْلِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِيَزُولَ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لِابْتِدَاءِ التَّصَرُّفِ لَا لِمُجَرَّدِ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالْمَجْنُونُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ سَالِبٌ لِأَهْلِيَّةِ الْأَمْرَيْنِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ الْمَذْكُورُ حَالَ حَيَاتِهِ سَبَبًا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَزِمَتْ سَبَبِيَّتُهُ فِي الْحَالِ وَإِلَّا انْتَفَتْ لَكِنَّهَا لَمْ تَنْتَفِ شَرْعًا، وَلِأَنَّ سَائِرَ التَّعْلِيقَاتِ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ كَوْنِ الْمُعَلَّقِ سَبَبًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ وَالْيَمِينُ فِي مِثْلِهِ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ كَمَا قَدْ تُعْقَدُ لِلْحَمْلِ، فَالْمَنْعُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ هُوَ

ص: 24

(فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ) لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَالْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ فَيَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ؛ لِتَقَدُّمِ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُ الْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ.

(وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ) وَعَلَى

الْمَقْصِدُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ وَأَنَّهُ يُضَادُّ وُقُوعَهُمَا، وَوُقُوعُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ التَّدْبِيرُ، فَلَزِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ التَّعْلِيقَ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِيَمِينٍ وَهُوَ التَّدْبِيرُ بِلَفْظِ التَّعْلِيقِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ يَمِينٌ فَلَا يُمْكِنُ سَبَبِيَّةُ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ الشَّرْطِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمْكَنَ فِي التَّدْبِيرِ إذْ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ فَلَزِمَتْ سَبَبِيَّتُهُ فِي الْحَالِ.

وَإِذَا انْعَقَدَتْ سَبَبِيَّةُ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُ حَقِّ الْعِتْقِ لَهُ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِحَقِيقَةٍ فَلَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِمَا إذَا قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَ بِأَمْرٍ كَائِنٍ أَلْبَتَّةَ لَزِمَ أَنَّ الْمُرَادَ ثُبُوتُ الْمُعَلَّقِ فِيهِ لَا مَنْعُهُ فَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا فَانْتَفَى مَانِعُ السَّبَبِيَّةِ فِي الْحَالِ فَيَنْعَقِدُ فِيهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ قَبْلَ الْغَدِ وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ لَا يَنْدَفِعُ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْعِ كَوْنِهِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ؛ لِجَوَازِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ قَبْلَ الْغَدِ فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِمَجِيءِ الْغَدِ وُجُودَ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى وَنُزُولِ عِيسَى عليه السلام وَغَيْرِهِمَا، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَالْجَوَابُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي فِي الْأَغْلَبِ فَيَلْحَقُ الْفَرْدَ النَّادِرَ بِهِ اعْتِرَافٌ بِالْإِيرَادِ، عَلَى أَنَّ كَوْنَ التَّعْلِيقِ بِمِثْلِ مَجِيءِ الْغَدِ وَرَأْسِ الشَّهْرِ نَادِرًا غَيْرُ صَحِيحٌ. وَأُجِيبَ أَيْضًا بِمَا هُوَ حَاصِلُ الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيقَ الَّذِي هُوَ التَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ خِلَافُهُ فِي الْحَالِ كَالْوِرَاثَةِ.

وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا وَارِدٌ عَلَى عِبَارَتِهِ إلَّا بِعِنَايَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْوَصِيَّةُ خِلَافُهُ: أَيْ الْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ الْوَصِيَّةُ بِرَقَبَتِهِ خِلَافَةٌ كَالْوِرَاثَةِ حَتَّى مُنِعَتْ مِنْ لُحُوقِ الرُّجُوعِ عَنْهَا. وَيُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ إذَا مِتَّ فَأَنْتَ حُرٌّ وَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَعْتِقُوهُ بَعْدَ مَوْتِي، فَإِنَّ الْأَوَّلَ اسْتِخْلَافٌ مُوجِبٌ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ أَعْتِقُوهُ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا فَرْقٌ بِعَيْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ إذَا كَانَتْ تَدْبِيرًا كَانَتْ خِلَافَةً تَسْتَدْعِي لُزُومَ الْمُوصَى بِهِ وَعَدَمَ جَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهُ كَأَعْتِقُوا هَذَا الْعَبْدَ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَجَازَ بَيْعُهُ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَإِنَّ الْخَصْمَ يَقُولُ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَبِالصِّيغَةِ الْأُخْرَى سَوَاءٌ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا أَنْ تُبْدِيَ خُصُوصِيَّةً فِي تِلْكَ الْعِبَارَةِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُنَا إلَّا كَوْنُ الْعَبْدِ خُوطِبَ بِهِ أَوْ كَوْنُ الْعِتْقِ عُلِّقَ صَرِيحًا بِالْمَوْتِ أَوْ أُضِيفَ، وَكَوْنُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ اللُّزُومِ، وَعَدَمُ جَوَازِ الرُّجُوعِ مَمْنُوعٌ، فَأُلْحِقَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ إنَّمَا هُوَ بِالسَّمْعِ الْمُتَقَدِّمِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مُعَارَضَةِ حَدِيثِ جَابِرٍ لَهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، ثُمَّ الْمَذْكُورُ بَيَانُ حِكْمَةِ الشَّرْعِ لِذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ) لِمَا رَوَيْنَا أَوَّلَ الْبَابِ، وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَنَفَاذُهَا مِنْ الثُّلُثِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ لِلْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَسْتَغْرِقُ رَقَبَةَ الْمُدَبَّرِ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَرَثَةِ فَكَيْفَ بِالْوَصِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُ الْعِتْقِ فَيُرَدُّ قِيمَتُهُ.

(قَوْلُهُ: وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ) فَيَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِ أُمِّهِ

ص: 25

ذَلِكَ نُقِلَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

وَالْمُرَادُ وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ الْمُطْلَقُ، أَمَّا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ تَدْبِيرًا مُقَيَّدًا فَلَا يَكُونُ مُدَبَّرًا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا: وَلَدُ الْمُدَبَّرِ مُدَبَّرٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أُمَّهُ لَا أَبَاهُ، فَإِنَّ زَوْجَةَ الْمُدَبَّرِ لَوْ كَانَتْ حُرَّةٌ كَانَ وَلَدُهَا حُرًّا، أَوْ أَمَةً فَوَلَدُهَا عَبْدٌ سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ حُرًّا عَبْدًا مُدَبَّرًا أَوْ لَا، ثُمَّ الْمُرَادُ الْوَلَدُ الَّذِي كَانَتْ حَامِلًا بِهِ وَقْتَ التَّدْبِيرِ أَوْ الْوَلَدُ الَّذِي حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ، أَمَّا وَلَدُهَا الْمَوْلُودُ قَبْلَهُ فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا بِتَدْبِيرِهَا.

أَمَّا الَّذِي كَانَ حَمْلًا فَبِالْإِجْمَاعِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَأَمَّا الَّذِي حَمَلَتْ، بِهِ بَعْدَهُ فَفِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمَسْرُوقٍ وَالثَّوْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ: يَعْنِي الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ سَرَيَانَ التَّدْبِيرِ إلَى الْوَلَدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إشْكَالٌ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ طَرَفِ الشَّافِعِيِّ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرَةُ فِي وَلَدِهَا فَقَالَ وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَقَالَتْ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي حَقَّ الْعِتْقِ لِوَلَدِهَا، وَلَوْ ادَّعَتْهُ لِنَفْسِهَا كَانَ الْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ فَلِوَلَدِهَا كَذَلِكَ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهَا لِإِثْبَاتِهَا زِيَادَةَ حَقِّ الْعِتْقِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ الْمَوْلَى يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ تَحْلِيفٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ وَهُوَ مَا ادَّعَتْ مِنْ وِلَادَتِهَا بَعْدَ التَّدْبِيرِ، وَذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ فِي التَّدْبِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا دَبَّرَ الْحَمْلَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ كَعِتْقِهِ وَحْدَهُ، فَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُدَبَّرًا وَإِلَّا لَا، وَلَوْ كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَدَبَّرَ أَحَدُهُمَا حَمْلَهَا وَوَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَتَضْمِينِ الْمُدَبِّرِ وَالِاسْتِسْعَاءِ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى السِّعَايَةِ، وَلَوْ دَبَّرَ أَحَدُهُمَا مَا فِي بَطْنِهَا بِأَنْ قَالَ مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَقَالَ الْآخَرُ أَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ كَلَامِ الْأَوَّلِ فَالْوَلَدُ مُدَبَّرٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ دَبَّرَ الْأَوَّلُ فَتَدَبَّرَ نَصِيبُهُ بِتَدْبِيرِهِ وَتَدْبِيرُ نَصِيبِ الْآخَرِ بِتَدْبِيرِ أُمِّهِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْأَوَّلِ وَلِأَقَلَّ مِنْهَا مِنْ تَدْبِيرِ الْأُمِّ فَالْوَلَدُ كُلُّهُ مُدَبَّرٌ لِلَّذِي دَبَّرَ الْأُمَّ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ التَّدْبِيرِ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأُمِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَالْجُزْءِ، وَفِي هَذَا لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ فَكَانَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لِلَّذِي دَبَّرَ الْأُمَّ، وَأَمَّا الْأُمُّ فَنِصْفُهَا مُدَبَّرٌ لِلَّذِي دَبَّرَهَا وَلِلْآخَرِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا إنْ كَانَ مُوسِرًا وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَسْعِيَهَا فَتَعْتِقُ الْأُمُّ بِضَمَانٍ وَالْوَلَدُ الْمُدَبَّرُ بِلَا ضَمَانٍ؛ وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مِنْ حِينِ دُبِّرَ، وَعُلُوقُ الْوَلَدِ بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الشَّرِيكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ زَادَتْ قِيمَتُهَا فِي مُدَّةٍ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ إلَّا تَضْمِينُ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَقْتَ التَّدْبِيرِ فَكَذَا فِي الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَلِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمُسْتَسْعَاةِ حِينَ ثَبَتَ لَهَا حَقٌّ أَنْ يَسْتَسْعِيَهَا وَالْمُسْتَسْعَاةُ كَالْمُكَاتَبَةِ تَكُونُ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا، وَإِذَا دَبَّرَ مَا فِي بَطْنٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا وَلَا يُمْهِرَهَا.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مِنْ الْأَصْلِ: إذَا أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَتْ الْهِبَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهَا. وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَالْعِتْقِ بِأَنَّهُ إذَا دَبَّرَ مَا فِي الْبَطْنِ لَوْ وَهَبَ الْأُمَّ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ جَازَ هِبَتُهَا؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَمَّا

ص: 26

(وَإِنْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ عَلَى صِفَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتَّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ سَفَرِي هَذَا أَوْ مِنْ مَرَضِ كَذَا فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ لِتَرَدُّدٍ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ (فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَتَقَ كَمَا يُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ) مَعْنَاهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حُكْمُ التَّدْبِيرِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ؛ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ فِيهِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ.

فِي الْبَطْنِ، فَلَوْ وَهَبَ الْأُمَّ فَالْمَوْهُوبُ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَأَمَّا بَعْدَ عِتْقِهِ فَغَيْرُ مَمْلُوكٍ فَلَمْ يَتَّصِلْ الْمَوْهُوبُ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا ابْنُ الْوَاهِبِ وَسَلَّمَهَا. وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ وَالْآخَرُ لِأَكْثَرَ بِيَوْمٍ فَهُمَا مُدَبَّرَانِ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ وَتَيَقَّنَّا بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا حَالَ التَّدْبِيرِ فِي الْبَطْنِ، وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ كَاتَبَهَا جَازَ، وَإِنْ وَضَعَتْ بَعْدَ هَذَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي الْوَلَدِ صَحِيحًا لَكِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ أَيْضًا تَبَعًا لِلْأُمِّ، فَإِذَا أَدَّتْ عَتَقَا جَمِيعًا، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ عَتَقَ الْوَلَدُ بِالتَّدْبِيرِ، وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ الْمَوْلَى فَعَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا عَلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَالْوَلَدُ بِالْخِيَارِ فِي اخْتِيَارِهِ الْحُرِّيَّةَ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ فَيَخْتَارُ الْأَنْفَعَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَصَلَ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ وَلَدُك الَّذِي فِي بَطْنِك وَلَدُ مُدَبَّرَةٍ أَوْ وَلَدُ حُرَّةٍ وَلَا يُرِيدُ بِهِ عِتْقًا لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ وَلَيْسَ بِتَحْقِيقٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ مِثْلُ الْحُرَّةِ أَوْ الْمُدَبَّرَةِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِمَوْتِهِ عَلَى صِفَةٍ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتَّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ سَفَرِي هَذَا أَوْ مَرَضِ كَذَا أَوْ قُتِلْت أَوْ غَرِقْت فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَمْ تَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ لِلتَّرَدُّدِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ هَلْ تَقَعُ أَوْ لَا، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ، وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَتَقَ كَمَا يَعْتِقُ الْمُدَبَّرُ يَعْنِي مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حُكْمُ التَّدْبِيرِ لَهُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ؛ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ فِيهِ فَإِذْ ذَاكَ يَصِيرُ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بَلْ لَا يُمْكِنُ، فَأَمَّا مَا قِيلَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا فَجَازَ بَيْعُهُ، وَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ أَوْ رَجَعَ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ قَدْ انْعَدَمَ. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ وَمَضَى شَهْرٌ فَإِنَّهُ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَعْتِقُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى مَعَ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ حَتَّى جَازَ لِلْمَوْلَى بَيْعُهُ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بِالشَّهْرِ قَبْلَ مَوْتِهِ كَمَا سَمَّى فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِالْعِتْقِ الْمُضَافِ إلَى غَدٍ، وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حَقًّا لِلْعَبْدِ لِلْحَالِ فَكَذَا هُنَا. وَلَوْ قَالَ إذَا مِتَّ أَوْ قُتِلْت فَأَنْتَ حُرٌّ عَلَى قَوْلِ

ص: 27

وَمِنْ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَقُولَ إنْ مِتَّ إلَى سَنَةٍ أَوْ عَشْرِ سِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ كَالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ.

زُفَرَ هُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ مَوْتِهِ حَتَّى يَعْتِقَ إذَا مَاتَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنْ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ وَإِنْ كَانَ مَوْتًا فَالْمَوْتُ لَيْسَ بِقَتْلٍ، وَتَعْلِيقُهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ عَزِيمَةً فِي أَحَدِهِمَا خَاصَّةً فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ. وَقَوْلُ زُفَرَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ فِي الْمَعْنَى بِمُطْلَقِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَرَدُّدَ فِي كَوْنِ الْكَائِنِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْمَوْتِ قَتْلًا أَوْ غَيْرَ قَتْلٍ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُطْلَقُ الْمَوْتِ كَيْفَمَا كَانَ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ إذَا مِتَّ وَغُسِّلْت فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمَوْتِ وَشَيْءٍ آخَرَ بَعْدَهُ، ثُمَّ إذَا مَاتَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ غُسِّلَ مَا لَمْ يُعْتِقُوهُ؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْمَوْتِ انْتَقَلَ إلَى مِلْكِهِمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ إنْ مِتَّ وَدَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ يُغَسَّلُ عَقِيبَ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَرَّرَ مِلْكُ الْوَارِثِ فَهُوَ نَظِيرُ تَعْلِيقِهِ بِمَوْتٍ بِصِفَةٍ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ يَعْتِقُ مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ دُخُولِهِ الدَّارَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ بِالْمَوْتِ فَيَتَقَرَّرُ مِلْكُ الْوَارِثِ فِيهِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

(قَوْلُهُ: وَمِنْ الْمُقَيَّدِ) أَيْ وَمِنْ التَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ (أَنْ يَقُولَ إنْ مِتَّ إلَى سَنَةٍ أَوْ إلَى عَشْرِ سِنِينَ) فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ السَّنَةِ أَوْ الْعَشْرِ عَتَقَ مُدَبَّرًا، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ السَّنَةِ أَوْ الْعَشْرِ لَمْ يَعْتِقْ، وَمُقْتَضَى الْوَجْهِ كَوْنُهُ لَوْ مَاتَ فِي رَأْسِ السَّنَةِ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ هُنَا لَوْلَاهَا تَنَاوَلَ الْكَلَامُ مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزُ عِتْقِهِ فَيَصِيرُ حُرًّا بَعْدَ السَّنَةِ وَالْعَشْرِ فَتَكُونُ لِلْإِسْقَاطِ فَتَكُونُ لِلْإِسْقَاطِ وَمِنْهُ أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ أَوْ بِيَوْمٍ فَإِنَّهُ مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ حَتَّى مَلَكَ بَيْعَهُ وَعِنْدَ زُفَرَ مُدَبَّرٌ مُطْلَقٌ. قُلْنَا: لَمْ يُوجَدْ تَعَلُّقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِهِ لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِ قَبْلَ شَهْرٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَرْطٍ كَائِنٍ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ قِيلَ يَعْتِقُ مِنْ الثُّلُثِ، وَقِيلَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَنِدُ الْعِتْقُ إلَى الشَّهْرِ وَهُوَ كَانَ صَحِيحًا فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّهِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ قَبْلَ مَوْتِهِ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَيْهَا فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ كَالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ) فَيَكُونُ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ قَاضِي خَانَ: عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ، وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْيَنَابِيعِ وَجَوَامِعِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ التَّعْيِينِ، وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ ذِكْرُ مَا لَا يَعِيشُ إلَيْهِ غَالِبًا تَأْبِيدٌ مَعْنًى، وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ لَوْ سَمَّيَا مُدَّةٌ لَا يَعِيشَانِ إلَيْهَا غَالِبًا صَحَّ النِّكَاحُ عِنْدَ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ تَأْيِيدٌ مَعْنًى وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ تَوْقِيتٌ فَلَا يَصِحُّ، وَالْمُصَنِّفُ كَالْمُنَاقِضِ فَإِنَّهُ فِي النِّكَاحِ اعْتَبَرَهُ تَوْقِيتًا وَأَبْطَلَ بِهِ النِّكَاحَ وَهُنَا جَعَلَهُ تَأْبِيدًا مُوجِبًا لِلتَّدْبِيرِ.

[فُرُوعٌ]. كَاتَبَ مُدَبَّرَهُ ثُمَّ مَاتَ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ وَسَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ

ص: 28

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَدَاءِ الْمَالِ بِالْعِتْقِ الْحَاصِلِ عَنْ التَّدْبِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ ثُلُثُهُ بِالتَّدْبِيرِ ثُمَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: سَقَطَ ثُلُثُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَيْضًا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ كَاتَبَهُ أَوَّلًا ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ثُلُثُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَمَّا عَتَقَ ثُلُثُهُ بِالتَّدْبِيرِ، فَكَذَا إذَا سَبَقَ التَّدْبِيرُ الْكِتَابَةَ. وَلَا مَعْنًى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْمُسْتَحَقُّ بِالتَّدْبِيرِ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ عَقْدُ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى جَمِيعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي حَيَاتِهِ يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِالتَّدْبِيرِ لَمْ تُرَدُّ عَلَيْهِ الْكِتَابَةُ لَمَّا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَهُ بِالتَّدْبِيرِ كَاسْتِحْقَاقِ أُمِّ الْوَلَدِ جَمِيعَهَا بِالِاسْتِيلَادِ. وَلَوْ كَاتَبَ أُمَّ وَلَدِهِ صَحَّ وَوَجَبَ الْمَالُ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَمْنَعُ وُرُودَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ. وَلَهُمَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا وَرَاءَ الْمُسْتَحَقِّ بِالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْكِتَابَةِ ثُبُوتُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابِلَتِهِ.

وَعُرِفَ أَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ فَيَكُونُ الْبَدَلُ بِمُقَابِلِهِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفٍ كَانَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا بِإِزَاءِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ، فَأَمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ الْكِتَابَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالتَّدْبِيرِ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَمُوتَ الْمَوْلَى قَبْلَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا وَرَاءَ الْمُسْتَحَقِّ بِالتَّدْبِيرِ وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْعَبْدِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَاتَبَهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ هُنَاكَ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِشَيْءٍ مِنْ رَقَبَتِهِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ، فَإِذَا عَتَقَ بَعْضُ الرَّقَبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّدْبِيرِ عِنْدَ الْمَوْتِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ.

وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ بِرَقَبَتِهِ لَهُ وَهِيَ عَيْنٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْعَيْنِ لَا تَنْفُذُ مِنْ مَالٍ آخَرَ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بَاعَهُ أَوْ قُتِلَ لَا تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي قِيمَتِهِ وَلَا ثَمَنِهِ مِنْ مَالِ الْمُوصِي، وَفِي إسْقَاطِ بَعْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ذَلِكَ فَامْتَنَعَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَاتَبَهُ أَوَّلًا ثُمَّ دَبَّرَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ عِنْدَ التَّدْبِيرِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ، إمَّا بَدَلُ الْكِتَابَةِ إنْ أَدَّى، أَوْ مَالُ رَقَبَتِهِ إنْ عَجَزَ فَيَكُونُ مُوصِيًا لَهُ بِمَا هُوَ حَقُّهُ فَلِهَذَا يُنَفَّذُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا دَبَّرَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ سَعَى فِي جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِجِهَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ بِالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ وَقَدْ تَلْقَاهُ جِهَتَا حُرِّيَّةٍ فَيَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ خِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ، وَالْمَالُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَقَلُّ الْمَالَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَمِنْ ثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ ثُلُثَهَا سَقَطَ عَنْهُ وَلَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ كَمَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ.

وَلَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ أَوْ ثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَعِنْدَهُمَا يَسْعَى فِي أَقَلِّهِمَا عَيْنًا. وَلَوْ كَاتَبَ مُدَبَّرَتَهُ فَوَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ يَسْعَى الْوَلَدُ فِيمَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ فِي كِتَابَتِهَا فَيَبْقَى عَقْدُ الْكِتَابَةِ بِبَقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَا وَلَدَيْنِ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا الْمَالَ كُلَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَخِيهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى عَنْهُ شَيْئًا إنَّمَا أَدَّى عَنْ الْأُمِّ، فَإِنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ كَسْبَ كُلٍّ مِنْهُمَا لَهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَيَّةً كَانَتْ أَحَقَّ بِهِ فَكَانَ أَدَاءُ مَنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا أَدَاءٌ مِنْ مَالِ الْأُمِّ، وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ مُدَبَّرَيْنِ جَمِيعًا وَكُلٌّ كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ ثُمَّ مَاتَا وَتَرَكَ أَحَدُهُمَا وَلَدًا وُلِدَ لَهُ فِي كِتَابَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ لِأَبِيهِ وَلِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْصُلُ الْعِتْقُ لِأَبِيهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَلِذَا كَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ.

(بَابُ الِاسْتِيلَادِ)

ص: 29

بَابُ الِاسْتِيلَادِ

(وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» أَخْبَرَ عَنْ إعْتَاقِهَا فَيَثْبُتُ بَعْضُ مَوَاجِبِهِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ،

لَمَّا اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنْ الْمُدَبَّرِ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَقْدِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْمَوْتِ وَصَلَ بَيْنَهُمَا، وَلَمَّا كَانَ التَّدْبِيرُ أَنْسَبَ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعِتْقَ بِهِ بِإِيجَابِ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ قَدَّمَهُ عَلَيْهِ. وَالِاسْتِيلَادُ مَصْدَرُ اسْتَوْلَدَ: أَيْ طَلَبَ الْوَلَدَ، وَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خُصُوصٌ، وَهُوَ طَلَبُ وَلَدِ أَمَتِهِ: أَيْ اسْتِلْحَاقِهِ: أَيْ بَابُ بَيَانِ أَحْكَامِ هَذَا الِاسْتِلْحَاقِ الثَّابِتَةِ فِي الْأُمِّ، وَأَصْلُهُ اسْتِوْلَادٌ، وَمِثْلُهُ يَجِبُ قَلْبُ وَاوِهِ يَاءً كَمِيعَادٍ وَمِيزَانٍ وَمِيقَاتٍ فَصَارَ اسْتِيلَادًا، وَأُمُّ الْوَلَدِ تَصْدُقُ لُغَةً عَلَى الزَّوْجَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ لَهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ وَغَيْرِ ثَابِتِ النَّسَبِ.

وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ الْأَمَةُ الَّتِي ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ مَالِك كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا (قَوْلُهُ: وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَلَيْسَ وِلَادَتُهَا مِنْهُ مُسْتَلْزِمًا ثُبُوتَهُ، فَفِي الْعِبَارَةِ قُصُورٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ مِنْهُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِالْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ، وَلِذَا رَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ حَيْثُ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا وَلَا هِبَتُهَا، بَلْ إذَا مَاتَ وَلَمْ يُنْجِزْ عِتْقَهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَوْ

ص: 30

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كَانَ السَّيِّدُ مَدْيُونًا مُسْتَغْرَقًا، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، إلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ فَقَالُوا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ:«بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ نَهَانَا عَنْهُ فَانْتَهَيْنَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ إلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «كُنَّا نَبِيعُهُنَّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَعَلَّهُ الْعُقَيْلِيُّ بِزَيْدٍ الْعَمِّيِّ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: زَيْدٌ الْعَمِّيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَنُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ الصِّدِّيقِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم، لَكِنْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: تُعْتَقُ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ، فَهَذَا يُصَرِّحُ بِرُجُوعِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُمَا. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِلْجُمْهُورِ بِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ خَطَّابِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أُمِّهِ «عَنْ سَلَامَةَ بِنْتِ مَعْقِلٍ امْرَأَةٍ مِنْ خَارِجَةَ قَيْسِ عَيْلَانَ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا قَالَتْ قَدِمَ بِي عَمِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَاعَنِي مِنْ الْحُبَابِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي أَبِي الْيُسْرِ بْنِ عَمْرٍو فَوَلَدْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحُبَابِ ثُمَّ هَلَكَ، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: الْآنَ وَاَللَّهِ تُبَاعِينَ فِي دَيْنِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ مِنْ خَارِجَةَ قَيْسِ عَيْلَانَ قَدِمَ بِي عَمِّي الْمَدِينَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَاعَنِي مِنْ الْحُبَابِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي أَبِي الْيُسْرِ بْنِ عَمْرٍو فَوَلَدْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَمَاتَ فَقَالَتْ لِي امْرَأَتُهُ الْآنَ وَاَللَّهِ تُبَاعِينَ فِي دَيْنِهِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مَنْ وَلِيُّ الْحُبَابِ؟ قِيلَ أَخُوهُ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، فَبَعَثَ إلَيْهِ فَقَالَ: أَعْتِقُوهَا، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَقِيقٍ قَدِمَ عَلَيَّ فَأَتَوْنِي أُعَوِّضُكُمْ، قَالَتْ: فَأَعْتَقُونِي وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَقِيقٌ فَعَوَّضَهُمْ مِنِّي غُلَامًا» .

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ مَوْتِهِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يُعْتِقُوهَا وَيُعَوِّضَهُمْ لَمَّا اسْتَرَقَتْ قَلْبَهُ عليه الصلاة والسلام، بَلْ يُفِيدُ أَنَّهَا لَا تُعْتَقُ وَإِلَّا لَبَيَّنَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّهَا عَتَقَتْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِعِتْقِهَا بَعُوضٍ يَقُومُ هُوَ عليه الصلاة والسلام بِهِ لَهُمْ. نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَعْتِقُوهَا خَلُّوا سَبِيلَهَا كَمَا فَسَّرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَنَّ الْعِوَضَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ مِنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ لَكِنْ هَذَا احْتِمَالُ غَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْعِبْرَةُ لِلظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إلَى هَذَا إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ يُوجِبُهُ وَيُعَيِّنُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ «عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يَعْنِي فِي مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ رضي الله عنها أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَهُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «ذَكَرْتُ أُمَّ إبْرَاهِيمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَطَرِيقُهُ مَعْلُولٌ بِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ وَحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَبِسَنَدِ ابْنِ مَاجَهْ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ لَكِنْ أَعَلَّهُ بِابْنِ أَبِي سَبْرَةَ فَقَطْ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ حُسَيْنًا مِمَّنْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ شَرِيكٍ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَهَذَا تَوْثِيقٌ لِحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَرَوَاهُ أَبُو يُعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهَا

ص: 31

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حُرَّةٌ إذَا مَاتَ إلَّا أَنْ يُعْتِقَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ مِنْهُ أَمَتُهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» وَالطُّرُقُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلِذَا قَالَ الْأَصْحَابُ: إنَّهُ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَإِذْ قَدْ كَثُرَتْ طُرُقُ هَذَا الْمَعْنَى وَتَعَدَّدَتْ وَاشْتُهِرَتْ فَلَا يَضُرُّهُ وُقُوعُ رَاوٍ ضَعِيفٍ فِيهِ مَعَ أَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ قَالَ فِي كِتَابَةِ: وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، قَالَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي كِتَابِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَاحٍ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو خَيْثَمَةَ الْمِصِّيصِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الرَّقِّيِّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «لَمَّا وَلَدَتْ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ إبْرَاهِيمَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَصْبَغَ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» فَلَوْ كَانَتْ مَارِيَةُ مَالًا بِيعَتْ وَصَارَ ثَمَنُهَا صَدَقَةً.

وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ نَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْأُمَّهَاتِ» وَفِي بَيْعِهِنَّ تَفْرِيقٌ. وَإِذَا ثَبَتَ قَوْلُهُ " أَعْتَقَهَا إلَخْ " وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ إلَى الْمَوْتِ إجْمَاعًا وَجَبَ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَجَازِ الْأَوَّلِ، فَيَثْبُتُ فِي الْحَالِ بَعْضُ مَوَاجِبِ الْعِتْقِ مِنْ امْتِنَاعِ تَمْلِيكِهَا. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ يُونُسِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: لَا يُبَعْنَ وَلَا يُوهَبْنَ وَلَا يُوَرَّثْنَ، يَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا مَا دَامَ حَيًّا. فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ» ثُمَّ أَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ نَجِيحٍ الْمَدِينِيِّ وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنْ النَّسَائِيّ وَغَيْرِهِ، وَلَيَّنَهُ هُوَ وَقَالَ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَذَا حَدِيثٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقَسْمَلِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فَقَالَ عَنْهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ وَهُوَ الَّذِي رَفَعَهُ. وَقَالَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ وَفُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُمَرَ: لَمْ يَتَجَاوَزُوهُ، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعِنْدِي أَنَّ الَّذِي أَسْنَدَهُ خَيْرٌ مِمَّنْ وَقَفَهُ.

وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: " أَيُّمَا وَلِيدَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهَا وَلَا يَهَبُهَا وَلَا يُوَرِّثُهَا وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ مِنْهَا فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ " وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِفْرِيقِيِّ كَانَ غَيْرَ حُجَّةٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَعْضُدُ رَفْعَهُ مَعَ تَرْجِيحِ ابْنِ الْقَطَّانِ فَثَبَتَ الرَّفْعُ بِمَا قُلْنَا، وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ وَقْفِهِ عَلَى عُمَرَ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ:«أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَقَالَ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ» وَعَدَمُ مُخَالَفَةِ أَحَدٍ لِعُمَرَ حِينَ أَفْتَى بِهِ وَأَمَرَ فَانْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ بَيْعِهِنَّ، فَهَذَا يُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ بِعِلْمِهِ

ص: 32

وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ قَدْ اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمَيْزُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، إلَّا أَنَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ تَبْقَى الْجُزْئِيَّةُ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَضَعُفَ السَّبَبُ فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدِ الْمَوْتِ،

وَإِنْ كَانَ مِثْلَ قَوْلِ الرَّاوِي: كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُكْمُهُ الرَّفْعُ لَكِنْ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا، فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ فِي خُصُوصٍ مِنْهُ عَلَى عَدَمِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ.

وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ بِعِلْمِهِ وَتَقْرِيرِهِ ثُمَّ نُسِخَ وَلَمْ يَظْهَرْ النَّاسِخُ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لِقِصَرِ مُدَّتِهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ فِيهَا بِحُرُوبِ مُسَيْلِمَةَ وَأَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةَ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَهُ كَمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ فَتَرَكْنَاهَا» وَأَيًّا مَا كَانَ وَجَبَ الْحُكْمُ الْآنَ بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِنَّ. هَذَا إذَا قَصَرْنَا النَّظَرَ عَلَى الْمَوْقُوفِ، فَأَمَّا بِمُلَاحَظَةِ الْمَرْفُوعَاتِ الْمُتَعَاضِدَةِ فَلَا شَكَّ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ مَا أَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: سَمِعْت عَلِيًّا يَقُولُ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَنْ لَا يُبَعْنَ، ثُمَّ رَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَعْنَ فَقُلْت لَهُ: فَرَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك وَحْدَك فِي الْفُرْقَةِ فَضَحِكَ عَلِيٌّ. وَاعْلَمْ أَنَّ رُجُوعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه يَقْتَضِي أَنَّهُ يَرَى اشْتِرَاطًا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي تَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ وَالْمُرَجَّحُ خِلَافُهُ.

وَسُئِلَ دَاوُد عَنْ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَقَالَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ. إذْ الْأَصْلُ فِي كُلِّ ثَابِتٍ دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ. وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ حَاضِرًا فَعَارَضَهُ فَقَالَ: قَدْ زَالَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَامْتَنَعَ بَيْعُهَا لَمَّا حَبِلَتْ بِوَلَدِ سَيِّدِهَا، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ ثَابِتٍ دَوَامُهُ فَانْقَطَعَ دَاوُد وَكَانَ لَهُ أَنْ يُجِيبَ وَيَقُولَ: الزَّوَالُ كَانَ بِمَانِعٍ عَرَضَ وَهُوَ قِيَامُ الْوَلَدِ الْحُرِّ فِي بَطْنِهَا وَزَالَ بِانْفِصَالِهِ فَعَادَ مَا كَانَ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمُزِيلُ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ) اللَّذَيْنِ خُلِقَ مِنْهُمَا (قَدْ اخْتَلَطَا) وَهُوَ جُزْؤُهُمَا بِحَيْثُ لَا تَمْيِيزَ، وَهَذِهِ الْجُزْئِيَّةُ، وَإِنْ زَالَتْ بِانْفِصَالِ الْوَلَدِ لَكِنَّهَا بَقِيَتْ حُكْمًا وَلَمْ تَنْقَطِعْ لِأَنَّ تِلْكَ الْجُزْئِيَّةِ أَوْجَبَتْ نِسْبَتَهَا إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ وَبِالِانْفِصَالِ تَقَرَّرَ ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ أُمُّ وَلَدِهِ فَقَدْ بَقِيَ أَثَرُهَا شَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ قَارِبٍ قَالَ: اشْتَرَى ابْنِي أَمَةً مِنْ رَجُلٍ قَدْ أَسْقَطَتْ مِنْهُ فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَدِّهَا وَقَالَ: أَبْعَدَ مَا اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ؟ إلَّا أَنَّ السَّبَبَ يَضْعُفُ بِالِانْفِصَالِ (فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى الْمَوْتِ) وَلَمَّا وَرَدَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ

ص: 33

وَبَقَاءُ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الرِّجَالِ.

فَكَذَا الْحُرِّيَّةُ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِنَّ، حَتَّى إذَا مَلَكَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ الزَّوْجُ الَّذِي مَلَكَتْهُ بِمَوْتِهَا، وَبِثُبُوتِ عِتْقٍ مُؤَجَّلٍ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فَيُمْنَعُ جَوَازُ الْبَيْعِ وَإِخْرَاجُهَا لَا إلَى الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَيُوجِبُ عِتْقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِنَّهُ فَرْعُ النَّسَبِ فَيُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ.

لَوْ مَلَكَتْ زَوْجَهَا الْعَبْدَ بَعْدَمَا وَلَدَتْ لَهُ أَنَّهُ يُعْتَقُ بِمَوْتِهَا؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ الْكَائِنَةَ بِتَوَسُّطِ الْوَلَدِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا لِكُلٍّ مِنْ الْأُمِّ وَالْأَبِ قِسْطٌ مِنْهَا.

أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ إنَّ بَقَاءَ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا بَعْدَ الِانْفِصَالِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ سِوَاهُ، وَالنَّسَبُ إلَى الرِّجَالِ: أَيْ إلَى الْآبَاءِ لَا إلَى الْأُمَّهَاتِ. (فَكَذَا الْحُرِّيَّةُ) الَّتِي تُبْتَنَى عَلَى النَّسَبِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ لَا بِالْجِيمِ تَثْبُتُ لِلنِّسَاءِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إلَيْهِمْ فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُرَّ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ دُونَ الْعَكْسِ إذْ لَيْسَ النَّسَبُ إلَيْهِنَّ، فَلَوْ مَلَكَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا الْعَبْدَ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ لَهُ لَا يُعْتَقُ بِمَوْتِهَا وَلَمَّا تَعَلَّقَ بِالْآخِرَةِ بِالنَّسَبِ لَمْ تَثْبُتْ الْأُمُومَةُ بِدُونِهِ، فَلَوْ وَلَدَتْ أَمَةٌ لِرَجُلٍ بِزِنًا ثُمَّ مَلَكَهَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَلَا تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ.

وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ فِي دَعْوَى الْأَصْلِ: أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ هُوَ ابْنُك لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ حُرٌّ وَأُمَّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ مَوْقُوفَةً لَا يَمْلِكُهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَقَدْ ثَبَتَتْ الْأُمُومَةُ بِلَا ثُبُوتِ نَسَبٍ. أُجِيبُ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِهِ وَلِذَا كَانَ حُرًّا فَلَمْ تَثْبُتْ دُونَ نَسَبٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ ثُبُوتَ الْأُمُومَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ إلَّا تَابِعًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ ظَاهِرًا فِي الْقَضَاءِ فَبِكُلٍّ مِنْ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لِمَا سَيَجِيءُ فِيمَا إذَا ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِهِ الْمُزَوَّجَةِ (قَوْلُهُ وَبِثُبُوتِ عِتْقٍ إلَخْ) يَعْنِي قَدْ ثَبَتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا عِتْقٌ مُؤَجَّلٌ، وَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ عِتْقِهَا مُؤَجَّلًا أَنْ يَثْبُتَ لَهَا فِي الْحَالِ حَقُّ الْعِتْقِ فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهَا وَإِخْرَاجُهَا إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُول: ثُبُوتُ الْعِتْقِ الْمُؤَجَّلِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثَابِتٌ فِي قَوْلِهِ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتَ حُرٌّ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ الْبَيْعُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ثُبُوتِ الْعِتْقِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ ثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِهَا فِي الْحَالِ بَلْ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ. فَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا فِي الْحَالِ لِلْعِتْقِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ إلَّا حُكْمَ النَّصِّ، حَيْثُ صَرَّحَ النَّصُّ بِأَنَّهُنَّ لَا يُبَعْنَ وَلَا يُوهَبْنَ لِمَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا عُمَرُ رضي الله عنه (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ وَالْبَعْضُ الْآخِرُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ) بِأَنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا وَلَدَهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، فَهَذَانِ حُكْمَانِ وَقَعَ التَّشْبِيهُ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ أُمُومَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لِثُبُوتِ النَّسَبِ ذِكْرٌ فَقَصَرَ التَّعْلِيلَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ:(لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ) أَيْ فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ وَهِيَ الْقِنَّةُ فَتَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ فِيمَا

ص: 34

قَالَ: (وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا قَائِمٌ فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ

لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ كَالْمُدَبَّرَةِ فَإِنَّهُ يَتَجَزَّأُ ضَرُورَةَ عَدَمِ قَبُولِهِ لِلنَّقْلِ فَيَقْتَصِرُ بِالضَّرُورَةِ.

فَلِذَا قَدَّمَ فِي بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ فَلَا تَنَاقُضَ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ: أَيْ لَا يَكُونُ مَعَهُ بَعْضُ الْمُسْتَوْلَدَةِ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْمُسْتَوْلِدِ إلَّا لِضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ وَهُوَ لَا يَتَجَزَّأُ. وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فَبَعِيدٌ فَلِذَا لَمَّا قَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّهُ يَتَجَزَّأُ فِي بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ لَمْ يَجْعَلْ أَثَرَهُ إلَّا فِيمَا إذَا اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ، وَأَمَّا تَعْلِيلُ ثُبُوتِ النَّسَبِ فَإِنَّمَا هُوَ بِوُجُودِ الدَّعْوَةِ فِي الْمَمْلُوكَةِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْبَعْضِ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ.

(قَوْلُهُ: وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِيهَا) وَهُوَ مُطْلَقٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ. (فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ) وَمَنَعَ مَالِكٌ إجَارَتَهَا كَبَيْعِهَا وَهُوَ بَعِيدٌ، وَامْتِنَاعُ الْبَيْعِ لِنَقْلِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لَا غَيْرُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْإِجَارَةِ وَيَمْلِكُ كَسْبَهَا وَلَهُ إعْتَاقُهَا وَكِتَابَتُهَا. وَأَوْرَدَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ تَزْوِيجَهَا؛ لِأَنَّ تَوَهُّمَ شَغْلِ رَحِمِهِمَا بِمَاءِ الْمَوْلَى قَائِمٌ، وَتَوَهُّمَ الشَّغْلِ مَانِعٌ مِنْ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ جَعَلَ لَهَا الشَّرْعُ حَالًا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْفَرَاغِ فَجَازَ نِكَاحُهَا عِنْدَ وُجُودِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِأُمِّ الْوَلَدِ مِثْلَهُ سِوَى الِاسْتِبْرَاءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ قَبْلَهُ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ جَوَازَ النِّكَاحِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْوَطْءِ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي خُرُوجِهِ فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَحَقَّقَ خُرُوجُهَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ نِكَاحِ الْغَيْرِ فَلَا تَعُودُ إلَّا بِمُوجِبٍ وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ الدَّالِ عَلَى الْفَرَاغِ حَقِيقَةً فَلَا تُزَوَّجُ قَبْلَهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا سَلِمَ أَنَّ احْتِمَالَ الشَّغْلِ مَانِعٌ وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ بَعْدَ الْوَطْءِ لَزِمَ تَحَقُّقُ خُرُوجِ الْجَوَازِ لَا وُقُوعُ الشَّكِّ فِيهِ كَالْعِدَّةِ، وَوَجَبَ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا إلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا. وَالْمَذْهَبُ جَوَازُهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَعْدَهُ أَفْضَلُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ، فَلَوْ صَحَّ النِّكَاحُ حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ

ص: 35

(وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَا ثَبَّتَ النَّسَبُ بِالْعَقْدِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ أَكْثَرُ إفْضَاءً أَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْهُ

الْفِرَاشَيْنِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ حَتَّى يَنْتَفِيَ وَلَدُهَا بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ لَيْسَ إلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ لَا تَوَهُّمُ الشَّغْلِ، وَهَذَا حَقٌّ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَسْأَلَةِ: مَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَيْثُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَحِلُّ الْوَطْءُ مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ الشَّغْلِ ثَابِتٌ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا لَيْسَ ثَابِتَ النَّسَبِ جَازَ النِّكَاحُ وَالْوَطْءُ؛ لِانْتِفَاءِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ، وَلِذَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَزَوُّجُ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا لِانْتِفَاءِ الْفِرَاشِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا إذَا كَانَ الْحَمْلُ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى تَضَعَ وَامْتِنَاعُ نِكَاحِ الْمُهَاجِرَةِ الْحَامِلِ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ دُونَ غَيْرِهَا، وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ الْحَقُّ مَنْعُ كَوْنِ احْتِمَالِ الشَّغْلِ بِالْمَاءِ مَانِعًا فَلِذَا جَازَ النِّكَاحُ عَقِيبَ وَطْئِهَا، وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ أَوْ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ، إنَّمَا الْمَانِعُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ الْقَوِيَّيْنِ، وَفِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ قَوِيًّا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّهَا فِرَاشٌ حَالَ الْعِدَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ لِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ فَفِي تَزَوُّجِهَا جَمْعٌ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ.

[فَرْعٌ]. إذَا بَاعَ خِدْمَةَ أُمِّ وَلَدِهِ مِنْهَا عَتَقَتْ كَمَا إذَا بَاعَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِنْهُ؛ رَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا تُعْتَقُ، بِخِلَافِ بَيْعِ رَقَبَتِهَا مِنْهَا حَيْثُ تُعْتَقُ.

(قَوْلُهُ: وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا) أَيْ وَلَدِ الْأَمَةِ لَا أُمِّ الْوَلَدِ، وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلَ الْبَابِ فِي قَوْلِهِ إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَمَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَعَ الْعَزْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَثْبُتُ إذَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ بِحَيْضَةٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا بِالْوَطْءِ صَارَتْ فِرَاشًا كَالنِّكَاحِ وَفِيهِ يَلْزَمُ الْوَلَدُ، وَإِنْ اسْتَبْرَأَهَا مَعَ أَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَلَا يُفِيدُ الِاسْتِبْرَاءُ، وَهُمْ يَنْفَصِلُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا تَحِيضَ وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ فَيُحْكَمُ عِنْدَ وُجُودِهِ بِعَدَمِ الْحَمْلِ حُكْمًا بِالْغَالِبِ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي دُبْرِهَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ وَجْهٌ مُضَعَّفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ) هَذَا وَجْهُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِمَا تَأْتِي بِهِ الْأَمَةُ بِمُجَرَّدِ وَطِئَهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ بِعَقْدِ الْبَالِغِ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ الْمَنْكُوحَةُ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ الْوَطْءُ؛ لِوُجُودِهِ بَعْدَ الْمُفْضِي إلَى الْوَلَدِ فَثُبُوتُهُ بَعْدَ وَطْءِ الْبَالِغِ وَأَنَّهُ أَكْثَرُ إفْضَاءً إلَى وُجُودِ الْوَلَدِ أَوْلَى. وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْبَالِغِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ الصَّبِيَّ لَا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبٌ، وَإِنْ كَانَ بِعَقْدٍ وُضِعَ لِلْوَلَدِ (وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ) مِنْ قَصْدِهِ وَهُوَ سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَنُقْصَانِهِ عِنْدَهُمَا فَكَانَ

ص: 36

فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِكِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَعَيَّنُ مَقْصُودًا مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ.

الظَّاهِرُ عَدَمَ قَصْدِهِ فَكَانَ لِلظَّاهِرِ الْعَزْلُ.

وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ فَلَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْوَطْءِ، وَمَا قِيلَ الْوَطْءُ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ وَقَدْ لَا يُقْصَدُ بِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَدَمُهُ. قُلْنَا: وَلَا يَتَعَيَّنُ وُجُودُهُ كَمَا قُلْتُمْ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ مِنْ الْعَدَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ دَلِيلِهِمْ فِيهِ الْمَنْقُولُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَعْنِي فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهَهُ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَضَى بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ وَرِثَهُ لَا عَلَى أَنَّهُ أَخُوهُ، وَلِذَا قَالَ هُوَ لَك وَلَمْ يَقُلْ هُوَ أَخُوك، وَقَالَ: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ، وَلَوْ كَانَ أَخًا لَهَا بِالشَّرْعِ لَمْ يَجِبْ احْتِجَابُهَا مِنْهُ، فَهَذَا دَفْعٌ بِانْتِفَاءِ لَازِمِ الْأُخُوَّةِ شَرْعًا وَالْأَوَّلُ بِاللَّفْظِ نَفْسِهِ. وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ» وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالِاحْتِجَابِ فَلِمَا رَأَى مِنْ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ بِعُتْبَةَ. وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ حِينَئِذٍ مُعَارِضَةٌ لِرِوَايَةِ " هُوَ لَك " وَهِيَ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّهَا الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ فَلَا تُعَارِضُهَا الشَّاذَّةُ، وَالشَّبَهُ لَا يُوجِبُ احْتِجَابَ أُخْتِهِ شَرْعًا مِنْهُ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الْآنَ وُجُوبًا مُسْتَمِرًّا أَنَّ كُلَّ مَنْ أَشْبَهَ غَيْرَ أَبِيهِ الثَّابِتِ نَسَبُهُ مِنْهُ يَجِبُ حُكْمًا لِلشَّبَهِ احْتِجَابُ أُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَجَدَتْهُ لِأَبِيهِ مِنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا. وَإِذْن قَوْلُهُ:" لِلْفِرَاشِ الْوَلَدُ " يَنْتَفِي بِهِ نَسَبُهُ عَنْ سَعْدٍ بِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ وَعَنْ عَبْدٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُ: يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلَا فِرَاشَ الْوَاحِدِ مِنْ عُتْبَةَ وَزَمْعَةَ فَهُوَ حِينَئِذٍ عَبْدٌ لَك يَا عَبْدُ مِيرَاثٌ لَك مِنْ أَبِيك.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَهُ، وَأَمَّا أَنْتِ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ» فَتَصْرِيحُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ أَخًا لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، وَبِهِ تَقْوَى مُعَارَضَةُ رِوَايَةِ هُوَ أَخُوك. وَقَوْلُهُ " أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَهُ " يُفِيدُ أَنَّهُ أَخُوهُمَا، فَإِمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ لِتَدَافُعِ مَعْنَاهُ، أَوْ يَجْمَعَ بِأَنَّ الْمُثْبَتَ الْأُخُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْمَنْفِيَّ الْأُخُوَّةُ الْحَقِيقَةُ، وَهُوَ أَنْ يُخْلَقَا مِنْ مَاءِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي عَدَمِ الِاحْتِجَابِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْأُخُوَّةِ بِمَعْنَى التَّخَلُّقِ مِنْ مَاءِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فَاعْتُبِرَ ثَابِتًا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ شَبَهُ غَيْرِ الْمَنْسُوبِ كَمَا هُوَ فِي الصُّورَةِ الْمَرْوِيَّةِ، ثُمَّ يَجْعَلُ هَذَا لَيْسَ حُكْمًا مُسْتَمِرًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا خَاصًّا بِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ حِجَابَهُنَّ مَنِيعٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَهُنَّ:{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} وَعَلَى هَذَا يَجِبُ حَمْلُ الْوَلِيدَةِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وُلِدَتْ لِزَمْعَةَ قَبْلَ ذَلِكَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ هُوَ لَك: أَيْ مَقْضِيٌّ بِهِ لَك، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخُوك كَمَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْتَزِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إلَّا أَلْحَقْت بِهِ وَلَدَهَا، فَاعْتَزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ اُتْرُكُوا. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَمُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ

ص: 37

(فَإِنْ)(جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارِ) مَعْنَاهُ بَعْدَ اعْتِرَافٍ مِنْهُ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْوَلَدِ الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا مِنْهَا فَصَارَتْ فِرَاشًا كَالْمَعْقُودَةِ (إلَّا أَنَّهُ إذَا نَفَاهُ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ)؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا ضَعِيفٌ حَتَّى يَمْلِكَ نَقْلَهُ بِالتَّزْوِيجِ، بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِنَفْيِهِ إلَّا بِاللِّعَانِ؛ لِتَأَكُّدِ الْفِرَاشِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إبْطَالَهُ بِالتَّزْوِيجِ،

عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْ جَارِيَتِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ فَشَقَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِمَّنْ هُوَ؟ فَقَالَتْ: مِنْ رَاعَى الْإِبِلِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ.

وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي جَارِيَةً فَحَمَلَتْ فَقَالَ: لَيْسَ مِنِّي إنِّي أَتَيْتهَا إتْيَانًا لَا أُرِيدُ بِهِ الْوَلَدَ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ جَارِيَةً فَارِسِيَّةً وَيَعْزِلُ عَنْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَأَعْتَقَ الْوَلَدَ وَجَلَدَهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: مِمَّنْ حَمَلْت؟ فَقَالَتْ مِنْك، فَقَالَ: كَذَبْت مَا وَصَلَ إلَيْك مَا يَكُونُ مِنْهُ الْحَمْلُ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوَطْئِهَا. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ يَلْحَقُ بِالْوَاطِئِ مُطْلَقًا جَازَ لِكَوْنِهِ عَلِمَ مِنْ بَعْضِهِمْ إنْكَارَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِلْحَاقُهُ، وَذَلِكَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاطِئَ إذَا لَمْ يَعْزِلْ وَحَصَّنَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ بِهِ. فَقَدْ يَكُونُ عَلِمَ مِنْ النَّاسِ إنْكَارَ أَوْلَادِ الْإِمَاءِ مُطْلَقًا فَقَالَ لَهُمْ إنِّي مُلْحِقٌ بِكُمْ إيَّاهُمْ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الِاعْتِدَالُ فِي الْأَمْرِ بِأَنْ يَعْتَرِفَ بِمِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ بِهِ وَيَنْفِيَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْيُهُ أَوْ يَجُوزُ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ أَنْ اعْتَرَفَ بِوَلَدِهَا الْأَوَّلِ (بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ)؛ لِأَنَّهُ بِالِاعْتِرَافِ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ تَبَيَّنَ كَوْنُ الْوَلَدِ مَقْصُودًا مِنْ الْوَطْءِ فَصَارَتْ فِرَاشًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَى فِي تَعْرِيفِ الْفِرَاشِ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مَقْصُودًا مِنْ وَطْئِهَا الْوَلَدُ ظَاهِرًا كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ ظَهَرَ قَصْدُهُ إلَى ذَلِكَ أَوْ وَضْعًا شَرْعِيًّا كَالْمَنْكُوحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْوَلَدَ يَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ فَإِنَّمَا حِينَئِذٍ تَكُونُ مُتَعَيَّنَةً لِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ وَهُوَ الَّذِي عَرَّفُوا بِهِ الْفِرَاشَ وَظَهَرَ أَنْ لَيْسَ الْفُرُشُ ثَلَاثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ فِرَاشَانِ: قَوِيٌّ وَهُوَ فِرَاشُ الْمَنْكُوحَةِ، وَضَعِيفٌ وَهُوَ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ بِسَبَبِ أَنَّ وَلَدَهَا، وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِلَا دَعْوَةٍ يَنْتَفِي نَسَبُهُ بِمُجَرَّدِ نَفْيِهِ، بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ لَا يَنْتَفِي نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا بِاللِّعَانِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا، وَذَلِكَ لِعَدَمِ صِدْقِ حَدِّ الْفِرَاشِ عَلَيْهَا وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مُتَعَيَّنَةً لِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ أَوْ كَوْنَهَا يُقْصَدُ بِوَطْئِهَا الْوَلَدُ إلَى آخِرِ مَا قُلْنَاهُ، وَمِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى ضَعْفِهِ كَوْنُهُ يَمْلِكُ نَقْلَهُ بِالتَّزْوِيجِ، بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ اعْتَرَفَ فَقَالَ كُنْت أَطَأُ بِقَصْدِ الْوَلَدِ عِنْدَ مَجِيئِهَا بِالْوَلَدِ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ مَا أَتَتْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ هُوَ وَلَدِي؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِقَوْلِهِ هُوَ وَلَدِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَطْأَهُ حِينَئِذٍ بِقَصْدِ الْوَلَدِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ فُضَلَاءِ الدَّرْسِ: يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْزِلُ عَنْهَا وَحَصَّنَهَا أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى دَعْوَاهُ، وَإِنْ كُنَّا نُوجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الِاعْتِرَافَ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافَ؛ لِيَعْتَرِفَ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ بَلْ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً، وَأَظُنُّ أَنْ لَا بُعْدَ فِي أَنْ يُحْكَمَ عَلَى الْمَذْهَبِ بِذَلِكَ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: إنَّمَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ: أَيْ نَفْيَ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ أَوْ لَمْ يَتَطَاوَلْ الزَّمَانُ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَدْ لَزِمَهُ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَالتَّطَاوُلُ دَلِيلُ إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ فِيهَا دَلِيلُ إقْرَارِهِ مِنْ قَبُولِهِ التَّهْنِئَةَ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ

ص: 38

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حُكْمٌ. فَأَمَّا الدَّيَّانَةُ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ وَيَدَّعِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ

كَالتَّصْرِيحِ بِإِقْرَارِهِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي التَّطَاوُلِ سَبَقَ فِي اللِّعَانِ. هَذَا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَأْتِي بِهِ فِي حَالِ حِلِّ وَطْئِهَا لَهُ بَعْدَ الْوَلَدِ، أَمَّا لَوْ عَرَضَ بَعْدَهُ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ بِأَنَّ وَطِئَهَا أَبُو سَيِّدِهَا أَوْ ابْنُهُ أَوْ وَطِئَ السَّيِّدُ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا أَوْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ بِكِتَابَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إلَّا بِاسْتِلْحَاقِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ عُرُوضِ الْحُرْمَةِ أَوْ لِتَمَامِهَا، فَفِي الْأَوَّلِ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ بِلَا دَعْوَةٍ لِلتَّيَقُّنِ بِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ قَبْلَ عُرُوضِ الْحُرْمَةِ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ الْإِعْتَاقِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا تَأَكَّدَ بِالْحُرِّيَّةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ نَقْلَهُ فَالْتَحَقَ بِفِرَاشِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَرَضَتْ الْحُرْمَةُ بِحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ إحْرَامٍ حَيْثُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَحْرُمْ مُطْلَقًا وَلَا مُتَعَلِّقًا بِاخْتِيَارِهَا بَلْ مَعَ ذَلِكَ الْعَارِضِ الَّذِي عَرَضَ لَا بِاخْتِيَارِهَا الْمُنْقَضِي عَادَةً بِلَا اخْتِيَارِهَا.

(قَوْلُهُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ عَدَمِ لِزُمُومِهِ الْوَلَدَ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْوَطْءِ مَا لَمْ يَدَّعِهِ (حُكْمٌ) أَيْ فِي الْقَضَاءِ: يَعْنِي لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ بِلَا دَعْوَةٍ، فَأَمَّا الدِّيَانَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تبارك وتعالى فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ إنْ كَانَ حِينَ وَطِئَهَا لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا وَحَصَّنَهَا عَنْ مَظَانِّ رِيبَةِ الزِّنَا يَلْزَمُهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَدَّعِيَهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَوْنُهُ مِنْهُ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ عَزَلَ عَنْهَا حَصَّنَهَا أَوَّلًا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ وَلَكِنْ لَمْ يُحَصِّنْهَا فَتَرَكَهَا تَدْخُلُ وَتَخْرُجُ بِلَا رَقِيبٍ مَأْمُونٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ (لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ) وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْهُ بِسَبَبِ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ زِنَا الْمُسْلِمَةِ (يُقَابِلُهُ) أَيْ يُعَارِضُهُ (ظَاهِرٌ آخَرُ) وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِوُجُودِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمَا الْعَزْلُ أَوْ عَدَمُ التَّحْصِينِ، وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ لَفْظَةَ أَوْ فِي قَوْلِهِ، وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا أَوْلَى مِنْ الْوَاوِ لِتَنْصِيصِهَا عَلَى الْمُرَادِ. وَصَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا إذَا عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ. اهـ.

وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَ ضَبْطِهِ الْعَزْلَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا ظُهُورُ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا أَفْضَى إلَيْهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا مَحِلُّ نَظَرٍ، بَلْ أَوْرَدَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ عَلَّلَ وُجُوبَ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ بِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِنْزَالِ وَنَفْسُهُ يَتَغَيَّبُ عَنْ بَصَرِهِ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِقِلَّتِهِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ فَيَقْتَضِي هَذَا ثُبُوتَ النَّسَبِ بَعْدَ الْوَطْءِ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، وَإِلَّا تَنَاقَضَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَقُولُ بِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ الْأَمَةُ بِمُجَرَّدِ غَيْبُوبَةِ الْحَشَفَةِ بِلَا إنْزَالٍ، بَلْ إنَّهُ يَثْبُتُ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ، وَهَذَا فَرْعُ الْإِنْزَالِ.

وَحِينَئِذٍ فَالْمَذْكُورُ فِي الْغُسْلِ بَيَانُ حِكْمَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى إيجَابِ الْغُسْلِ بِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ فَظَهَرَ مِنْ الشَّرْعِ فِيهِ غَايَةُ الِاحْتِيَاطِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ الشَّرْعِ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِلْحَاقِ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَلْحَقَ نَسَبُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ

ص: 39

أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.

(فَإِنْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ حُرٌّ وَوَلَدَ الْقِنَّةِ رَقِيقٌ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا إذْ الْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ،

لَا يُسْتَلْحَقَ نَسَبُ مَنْ هُوَ مِنْهُ فَكَانَ أَمْرُ الِاسْتِلْحَاقِ مَبْنِيًّا عَلَى الْيَقِينِ أَوْ الظُّهُورِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ مَا يُوجِبُ شَكًّا. (قَوْلُهُ: وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ) ذَكَرَهُمَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ حَصَّنَهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهَا وَحَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ، وَهَذَا كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ وَلَدَهَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ الْوَلَدَ. وَفِي الْإِيضَاحِ ذَكَرَهُمَا بِلَفْظِ الِاسْتِحْبَابِ فَقَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أُحِبُّ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أُحِبُّ أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ فَهَذَا يُفِيدُ الِاسْتِحْبَابَ، وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ زَوَّجَهَا الْمَوْلَى فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ) يَعْنِي مِنْ الزَّوْجِ (فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ) حَتَّى لَا يَجُوزَ لِلسَّيِّدِ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا رَهْنُهُ وَيُعْتَقُ بِمَوْتِهِ مِنْ كُلِّ الْمَالِ وَلَا يَسْعَى لِأَحَدٍ، وَلَهُ

ص: 40

وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِإِقْرَارِهِ.

(وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ» .

اسْتِخْدَامُهُ، وَإِجَارَتُهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ جَارِيَةً لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أُمَّهَا، وَهَذِهِ إجْمَاعِيَّةٌ وَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَى إطْلَاقِهِ حَيْثُ قَالَ: هُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصِّفَاتِ الْقَارَّةَ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهَا فَيَحْدُثُ الْوَلَدُ عَلَى صِفَتِهَا كَالتَّدْبِيرِ، وَلِهَذَا كَانَ وَلَدُ الْقِنَّةِ قِنًّا، وَوَلَدُ الْحُرَّةِ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ بِخِلَافِهِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهُ أَقْوَى، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ، وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتًا فَلَا يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى، وَالْأَوْجُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى قُوَّةِ الْفِرَاشِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْمَرْجُوحُ، وَإِلَّا فَالْوَلَدُ يَثْبُتُ مِنْ اثْنَيْنِ كَمَا سَيُذْكَرُ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا فِرَاشَ لِلْمَوْلَى حَالَ كَوْنِهَا زَوْجَةً لِلْغَيْرِ أَصْلًا، وَهَذَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ النِّكَاحِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ فَهُوَ ابْنٌ لِلسَّيِّدِ وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ، وَيُسْتَحَبُّ بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ احْتِيَاطًا، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ صَحَّ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الزَّوْجِ ثُمَّ يُعْتَقُ بِدَعْوَةِ الْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِإِقْرَارِهِ بِحُرِّيَّتِهِ حَيْثُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ ابْنُهُ فَإِنَّ ابْنَهُ مِنْ أَمَتِهِ يَعْلَقُ حُرًّا كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ أَنَّهُ عَارَضَهُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ مُعَارِضٌ أَقْوَى مِنْهُ فَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ بِهِ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ فِي ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بِهِ ذَلِكَ فَأَخَذَ بِزَعْمِهِ.

وَلَمْ يُسْتَحْسَنْ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْسَنُ لَوْ كَانَ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ أُمَّ وَلَدٍ كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَبْسُوطِ: زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَلَكِنْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ لَهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَوَلَدُ الْقِنَّةِ قِنٌّ ابْتِدَاءً وَمَا بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَدُ الْقِنَّةِ قِنٌّ وَنَسَبُهُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ إذَا زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا، وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذُكِرَ لِبَيَانِ سِرَايَةِ وَصْفِ الْأُمِّ إلَى الْوَلَدِ فَيَكُونُ ابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلِهَا (قَوْلُهُ: وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ) أَيْ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ الْمُزَوَّجَةِ الَّذِي ادَّعَاهُ بِعِتْقٍ؛ لِأَنَّهُ مِلْكَهُ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنَهُ. (وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ حَيْثُ ادَّعَى أَنَّ وَلَدَهَا مِنْهُ وَعِتْقُ الْوَلَدِ ظَاهِرٌ بَلْ قَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ عَلِقَ الْوَلَدُ حُرًّا مِنْ الْأَصْلِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَثْبُتُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيلَادِ كَافٍ لِثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ، وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِ مَا لَمْ يَثْبُتْ، وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ وَعْدُهُ مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهِ مِنْ السَّيِّدِ قَائِمٌ؛ لِجَوَازِهِ بِوَطْءٍ قَبْلَ النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ؛ لِثُبُوتِهِ مِنْ الزَّوْجِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي الْأُمِّ لِحَاجَتِهَا إلَى الْأُمُومِيَّةِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْعِتْقِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ) يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ (مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ») وَفِي نُسْخَةٍ مَكَانُ لَا يُبَعْنَ " لَا يَسْعَيْنَ "، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِتَعْلِيلِهِ وَلَا

ص: 41

وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ فَتُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالدَّيْنِ كَالتَّكْفِينِ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِ

(وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي دَيْنِ الْمَوْلَى لِلْغُرَمَاءِ) لَمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ.

سِعَايَةَ إلَخْ بِقَوْلِهِ (لِمَا رَوَيْنَا) أَيْ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ السِّعَايَةَ عَنْهَا حَيْثُ قَالَ " وَأَنْ لَا يَسْعَيْنَ " وَمَا قِيلَ " وَأَنْ لَا يُبَعْنَ " يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَالِيَّةِ إلَخْ مَنْقُوضٌ بِالْمُدَبَّرِ، ثُمَّ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَالشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الزَّيْلَعِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ غَرِيبٌ قَالَ: وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ، وَسَاقَ كَثِيرًا مِمَّا قَدَّمْنَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُمَلَّكُ وَتُعْتَقُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّهَا فِي غَيْرِ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذَلِكَ، فَإِنَّ عِتْقَهَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا مِنْ كُلِّ الْمَالِ كَالْمُدَبَّرِ يُعْتَقُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَكُونُ مِنْ كُلِّهِ.

وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إلَّا أَنَّ جَمَاعَةً تَكَلَّمُوا فِي عَبْدِ الْمَلِكِ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ) كَحَاجَتِهِ إلَى الْأَكْلِ: أَيْ وَحَاجَتُهُ إلَى أُمِّهِ مُسَاوِيَةٌ لِحَاجَتِهِ إلَى الْوَلَدِ وَلِهَذَا جَازَ اسْتِيلَادُهُ جَارِيَةَ ابْنِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِحَاجَتِهِ إلَى وُجُودِ نَسْلِهِ كَمَا جَازَ لَهُ أَكْلُ مَالِهِ لِلْحَاجَةِ وَحَاجَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّيْنِ فَلَا تَسْعَى لِلْغُرَمَاءِ وَعَلَى الْإِرْثِ فَلَا تَسْعَى لِلْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا لَمْ تَخْرُجُ مِنْهُ فَصَارَ إعْتَاقُهَا كَالدَّفْنِ وَالتَّكْفِينِ (بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِ) لَا مِنْ الْأَصْلِيَّةِ، إذْ لَيْسَ ثَمَّ نَسَبُ وَلَدٍ يَتْبَعُهُ أُمُومَةٌ فَلَا يُقَدَّمُ عِتْقُ الْمُدَبَّرِ عَلَى الدَّيْنِ، وَلَا عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ فَيُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ لَمْ يَسَعْهُ سَعَى فِي بَاقِي قِيمَته، وَلَوْ كَانَ دَيْنُ السَّيِّد مُسْتَغْرِقًا سَعَى فِي كُلّ قِيمَتِهِ عَلَى مَا سَلَفَ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهَا) أَيْ أُمَّ الْوَلَدِ (لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (حَتَّى لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُ) يَعْنِي إذَا مَاتَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ حَتْفَ أَنْفِهَا، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَ إذَا مَاتَ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، وَكَذَا لَا تَضْمَنُ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَا بِالْإِعْتَاقِ بِأَنْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا وَلَا تَسْعَى هِيَ فِي شَيْءٍ أَيْضًا، وَعِنْدَهُمَا تَضْمَنُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ بِمَا يُضْمَنُ بِهِ الصَّبِيُّ الْحُرُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ ذَهَبَتْ بِهَا إلَى طَرِيقٍ فِيهَا سِبَاعٌ فَأَتْلَفَتْهَا، وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا. (لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ) يَعْنِي إذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ

ص: 42

(وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا) وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَا تُعْتَقُ حَتَّى تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: تُعْتَقُ فِي الْحَالِ وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا عُرِضَ عَلَى الْمَوْلَى الْإِسْلَامُ فَأَبَى، فَإِنْ أَسْلَمَ تَبْقَى عَلَى حَالِهَا. لَهُ أَنَّ إزَالَةَ الذُّلِّ عَنْهَا بَعْدَمَا أَسْلَمَتْ وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِعْتَاقِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْبَيْعُ فَتَعَيَّنَ الْإِعْتَاقُ.

وَلَنَا أَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي جَعْلِهَا مُكَاتَبَةً؛ لِأَنَّهُ يَنْدَفِعُ الذُّلُّ عَنْهَا بِصَيْرُورَتِهَا حُرَّةً يَدًا وَالضَّرَرُ عَنْ الذِّمِّيِّ لِانْبِعَاثِهَا عَلَى الْكَسْبِ نَيْلًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَيَصِلُ الذِّمِّيُّ إلَى بَدَلِ مِلْكِهِ، أَمَّا لَوْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ مُفْلِسَةٌ تَتَوَانَى فِي الْكَسْبِ وَمَالِيَّةُ أُمُّ الْوَلَدِ يَعْتَقِدُهَا الذِّمِّيُّ مُتَقَوِّمَةً فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ،

وَهُوَ مَدْيُونٌ فَلَيْسَ لِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يُطَالِبُوا مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِدَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ مَالًا مُتَقَوِّمًا حَتَّى يَأْخُذُوا بِمُقَابَلَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِصَاصِ مَالًا.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إذَا قَتَلَ الْمَدْيُونُ شَخْصًا لَا يَقْدِرُ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَنْعِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ مِنْ قَتْلِهِ قِصَاصًا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا مَدْيُونًا وَعَفَا الْمَدْيُونُ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّ، وَلَيْسَ لِأَرْبَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْعَفْوِ. وَقِيلَ إذَا قَتَلَ شَخْصٌ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَضْمَنُ الْقَاتِلُ لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقًّا مَالِيًّا وَالْأَقْرَبُ الْمُتَبَادَرُ الْأَوَّلُ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا) يَعْنِي إذَا أَسْلَمَتْ فَعُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى مَوْلَاهَا فَأَبَى فَإِنَّهُ يُخْرِجُهَا الْقَاضِي عَنْ وِلَايَتِهِ بِأَنْ يُقَدِّرَ قِيمَتَهَا فَيُنَجِّمَهَا عَلَيْهَا فَتَصِيرُ مُكَاتَبَةً إلَّا أَنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَى الرِّقِّ وَلَوْ عَجَزَتْ نَفْسُهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ إلَى الرِّقِّ رُدَّتْ إلَى الْكِتَابَةِ لِقِيَامِ إسْلَامِهَا وَهُوَ الْمُوجِبُ فَلَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ التَّعْجِيزِ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ مُدَبَّرُ النَّصْرَانِيِّ وَتَسْمِيَةُ مِثْلِ هَذَا دَوْرًا عَلَى التَّشْبِيهِ، وَإِلَّا فَاللَّازِمُ لَيْسَ إلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَهَذَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لَا تُقَدَّرُ إلَّا كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَوْ وَجَدَتْ الْمَالَ فِي الْحَالِ لَمْ يُحْتَجْ إلَى ذَلِكَ.

(وَقَالَ زُفَرُ: تُعْتَقُ لِلْحَالِ) أَيْ لِحَالِ إبَاءِ مَوْلَاهَا الْإِسْلَامَ (وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا) تُطَالَبُ بِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ، فَإِنْ أَسْلَمَ عِنْدَ الْعَرْضِ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا بِالِاتِّفَاقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالظَّاهِرِيَّةُ: تُعْتَقُ مَجَّانًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُحَالُ بَيْنَهُمَا فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الْخَلْوَةِ بِهَا فَضْلًا عَنْ انْتِفَاعٍ مِنْ الِانْتِفَاعَاتِ وَيُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهَا إلَى أَنْ يَمُوتَ فَتُعْتَقَ بِمَوْتِهِ أَوْ يُسْلِمَ فَتَحِلَّ لَهُ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ النَّظَرَ، وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الذِّمِّيِّ وَاجِبٌ لِذِمَّتِهِ وَعَنْ الْمُسْلِمِ؛ لِإِسْلَامِهِ وَذَلِكَ فِي إعْتَاقِهَا بِالْقِيمَةِ لَهُ، بِخِلَافِ مَجَّانًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ، فَإِنَّهُ إهْدَارُ مَا يَجِبُ لَهُ مِنْ النَّظَرِ إذَا أَمْكَنَ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَفِيهِ زِيَادَةُ إضْرَارٍ بِهِ مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ بِلَا انْتِفَاعٍ مَعَ إمْكَانِ دَفْعِهِ عَنْهُ. قُلْنَا: الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْت غَيْرَ أَنَّ قَوْلَنَا أَدْفَعُ لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَعَنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْبَدَلِ عَقِيبَ عِتْقِهَا؛ لِأَنَّهَا تُعْتَقُ مُفْلِسَةً، وَرُبَّمَا تَتَوَانَى فِي الِاكْتِسَابِ إذَا كَانَ مَقْصُودُ الْعِتْقِ قَدْ حَصَلَ لَهَا قَبْلَهُ فَيَتَضَرَّرُ الذِّمِّيُّ لِذَلِكَ وَتَتَضَرَّرُ هِيَ بِشَغْلِ ذِمَّتِهَا بِحَقِّ ذِمِّيٍّ، وَرُبَّمَا تَمُوتُ قَبْلَ إيفَائِهَا حَقَّهُ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: خُصُومَةُ الذِّمِّيِّ وَالدَّابَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْمُسْلِمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَ عِتْقُهَا عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ حَامِلٌ عَلَى الْإِيفَاءِ فَكَانَ اعْتِبَارُنَا أَوْلَى إذْ كَانَ أَنْظَرَ لِلْجَانِبَيْنِ.

وَقَوْلُهُ: (وَمَالِيَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إلَخْ) جَوَابُ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ بِنَفْيِ مَالِيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ هُوَ أَنَّهَا كَيْفَ تَسْعَى. فِي قِيمَتِهَا وَلَا قِيمَةَ لَهَا لِانْتِفَاءِ الْمَالِيَّةِ عِنْدَك فَقَالَ الذِّمِّيُّ يَعْتَقِدُ تَقَوُّمَهَا (فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ) أَيْ مَعَ مَا يَعْتَقِدُهُ. وَلِأَنَّا

ص: 43

وَلِأَنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ، وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ.

(وَلَوْ مَاتَ مَوْلَاهَا عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ)؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ عَجَزَتْ فِي حَيَاتِهِ لَا تُرَدُّ قِنَّةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ قِنَّةً أُعِيدَتْ مُكَاتَبَةً لِقِيَامِ الْمُوجِبِ

(وَمَنْ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ،

أُمِرْنَا بِذَلِكَ فَقَدْ أُمِرْنَا بِاعْتِبَارِهَا مُتَقَوِّمَةً فِي حَقِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قِيمَةَ أُمِّ الْوَلَدِ ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً مَعَ الْخِلَافِ فِيهِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَقَوِّمَةً مُطْلَقًا فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ، وَهَذَا يَكْفِي لِإِيجَابِ الضَّمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَضْمُونُ مَالًا كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّينَ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهُ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ؛ لِأَنَّهُ احْتَبَسَ نَصِيبُهُمْ عِنْدَ الْقَاتِلِ بِعَفْوِ مَنْ عَفَا، وَلَيْسَ نَصِيبُهُمْ حَقًّا مَالِيًّا بَلْ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ فَيَلْزَمُهُ بَدَلُهُ بِمَنْزِلَةِ إزَالَةِ مِلْكِهِ بِلَا بَدَلٍ فَيَتَضَرَّرُ الذِّمِّيُّ إلَّا أَنَّ هَذَا لَوْ تَمَّ اسْتَلْزَمَ التَّضْمِينَ بِغَصْبِ الْمَنَافِعِ وَغَصْبِ أُمِّ الْوَلَدِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ لِلضَّمَانِ مُجَرَّدُ الِاحْتِرَامِ.

وَوُجِّهَ أَيْضًا بِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ فَكُّ الْحَجْرِ فَلَمْ تَدُلَّ السِّعَايَةُ عَلَى تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَأَنْتَ سَمِعْت فِي الْعِتْقِ عَلَى جُعْلٍ وَجْهَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَدَلَ مَا هُوَ مَالٌ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَأَنَّ كَوْنَهُ بَدَلَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا مَاتَ مَوْلَاهَا النَّصْرَانِيُّ عَتَقَتْ) وَسَقَطَتْ عَنْهَا السِّعَايَةُ. (لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ)

(قَوْلُهُ: وَمَنْ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ) يَعْنِي تَزَوَّجَ أَمَةً لِغَيْرِهِ فَوَلَدَتْ لَهُ (ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ) بِذَلِكَ الْوَلَدِ الَّذِي وَلَدَتْهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَوْ كَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ جَاءَتْ بِهِ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ عِنْدَنَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ وَقْتِ مِلْكِهَا لَا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَعِنْدَ زُفَرَ مِنْ وَقْتِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ عِنْدَ الْمِلْكِ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ فَبَعْدَ ذَلِكَ الْعُلُوقِ كُلُّ مَنْ وُلِدَ لَهَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّمَا ثَبَتَ فِيهَا وَصْفُ الْأُمِّيَّةِ بَعْدَ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرٍ مُتَقَدِّمٍ فَقَبْلَهُ الْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ وَلَا سِرَايَةَ فِي الْمُنْفَصِلِ قَبْلَ الْأُمُومَةِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ وَلَدًا لَهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا لَهُ بَيْعُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنَ أُمِّ وَلَدٍ لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَلَكَ وَلَدَهُ مِنْهَا قَبْلَ مِلْكِهَا فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا. وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ اشْتَرَى الْكُلَّ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَتَقَ وَلَدُهُ، وَوَلَدُهَا مِنْ غَيْرِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ خِلَافًا لَزُفَرَ، بِخِلَافِ الْحَادِثِ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ أُمِّهِ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ أَوْ بِنِكَاحٍ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَظَهَرَتْ أَمَةً تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا.

وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَفِي آخَرَ

ص: 44

وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِمِلْكِ يَمِينٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ثُمَّ مَلَكَهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا، وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ وَهُوَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ. لَهُ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا إذَا عَلِقْت مِنْ الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهَا الزَّانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ.

وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْئِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ

لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ (وَهُوَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ) وَهُوَ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ (قَوْلُهُ: لَهُ) أَيْ لِلشَّافِعِيِّ (أَنَّهَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ كَمَا إذَا عَلِقَتْ مِنْ الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهُ الزَّانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أُمُومَةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا)، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْأُمُومَةَ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا (؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ) وَهُوَ حُرٌّ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَسْتَحِقَّ هِيَ الْحُرِّيَّةَ.

وَاعْتَرَضَ مَنْ قَصُرَ نَظَرُهُ عَلَى خُصُوصِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ الرِّقَّ فِي أُمِّ الْوَلَدِ مُسْتَمِرٌّ إلَى مَوْتِ سَيِّدِهَا، وَالْوَلَدُ عَلِقَ حُرًّا فَقَدْ خَالَفَ الْجُزْءُ الْكُلَّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ وَلَيْسَ كَالْمُتَّصِلِ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ الْمَذْكُورِ يَدْفَعُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ اقْتِصَارًا لِلْعِلْمِ بِبَقِيَّةِ التَّقْرِيرِ.

وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ أَنَّ جُزْأَهَا حُرٌّ وَمُقْتَضَاهُ حُرِّيَّتُهَا، إذْ لَا يُخَالِفُ الْجُزْءُ الْكُلَّ، إلَّا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِعَرْضِيَّةِ الِانْفِصَالِ، وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ جُزْءًا حَالَةَ الِاتِّصَالِ لَكِنَّهُ جُعِلَ كَشَخْصٍ عَلَى حِدَةٍ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ حَتَّى جَازَ إعْتَاقُهُ دُونَهَا فَثَبَتَ بِهِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ عَمَّلَا بِشَبَهَيْ الْجُزْئِيَّةِ وَعَدَمِهَا؛ لِمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الْحَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ إذَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ، وَتَأَيَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ» وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فَشَرَطَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْعِتْقِ أَنْ تَلِدَ مِنْ سَيِّدِهَا، وَهَذِهِ وَلَدَتْ مِنْ زَوْجِهَا. (وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْأُمُومَةِ) فِي مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْأَصْلُ (هُوَ الْجُزْئِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي عِنْدَ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ (وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا ثَبَتَتْ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا) فَتَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ، فَثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ

ص: 45

فَتَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، بِخِلَافِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ فِيهِ لِلْوَلَدِ إلَى الزَّانِي، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. نَظِيرُهُ مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ.

(وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ

الْجُزْئِيَّةِ الثَّابِتِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الزَّوْجِ فَتَثْبُتُ الْأُمُومَةُ (بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَا نَسَبَ يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ مِنْ الزَّانِي) فَلَا تَصِيرَ الْأَمَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ الزِّنَا إذَا مَلَكَهَا الزَّانِي أُمَّ وَلَدٍ لَهُ اسْتِحْسَانًا، خِلَافًا لَزُفَرَ حَيْثُ قَالَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ الْوَلَدُ إذَا مَلَكَهُ أَبُوهُ مِنْ الزِّنَا إذَا كَانَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةِ نَظِيرِهِ) أَيْ نَظِيرِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا حَيْثُ لَا تُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ انْتِسَابِهِ إلَى أَبِيهِ (مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ) عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ بَلْ (بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ) وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً عَتَقَ كَمَا إذَا كَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْأُمُومَةَ تَتْبَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ عِنْدَ الْمِلْكِ.

وَالْعِتْقُ الْمُنَجَّزُ يَتْبَعُ حَقِيقَةَ الْجُزْئِيَّةِ عِنْدَ الْمِلْكِ أَوْ ثُبُوتِ الِانْتِسَابِ إلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ ثَابِتَةٍ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " أَيُّمَا أَمَةٍ " الْحَدِيثَ، لَيْسَ فِيهِ قَصْرُ الْأُمُومَةِ عَلَى السَّيِّدِ بَلْ إنَّهَا تَثْبُتُ مِنْهُ غَيْرَ مُتَعَرَّضٍ لِنَفْيِهَا عَنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا صَحَّ تَعْلِيلُهُ بِثُبُوتِ نَسَبِ مَا تَأْتِي بِهِ مِنْهُ ثَبَتَتْ مِنْ غَيْرِهِ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَقَدْ صَحَّ مِنْ الزَّوْجِ فَتَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ مِنْهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّا نَنْفِي الْمَفْهُومَ الْمُخَالِفَ، وَهُمْ وَإِنْ أَثْبَتُوهُ قَدَّمُوا عَلَيْهِ الْقِيَاسَ، فَإِذَا صَحَّ قِيَاسُ الزَّوْجِ عَلَى السَّيِّدِ فِي ثُبُوتِ الْأُمُومَةِ لَزِمَ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى تَعْلِيلِنَا مَا إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدَ أَمَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ نَسَبُهُ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ الْعَبْدِ لَا مِنْ السَّيِّدِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ.

وَجَوَابُهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْأُمُومَةِ؛ لِإِقْرَارِهِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الشَّرْعُ فَكَانَ دَائِرًا مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا أَوْ اعْتِرَافًا. وَمِمَّا تَنْتَفِي فِيهِ الْأُمُومَةُ مَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ: أَمَةٌ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَجْنَبِيٌّ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ، فَإِنْ مَلَكَهُ الْمُدَّعَى عَتَقَ وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ

(قَوْلُهُ: وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ

ص: 46

وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرُهَا وَلَا قِيمَةُ وَلَدِهَا) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ انْعَلَقَ حُرَّ الْأَصْلِ لِاسْتِنَادِ الْمِلْكِ إلَى مَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ.

(وَإِنْ وَطِئَ أَبُو الْأَبِ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ لَمْ يَثْبُتُ النَّسَبُ)؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ حَالَ قِيَامِ الْأَبِ (وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا ثَبَتَ مِنْ الْجَدِّ كَمَا يَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ)؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ، وَكُفْرُ الْأَبِ وَرِقُهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلْوِلَايَةِ

وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَبِ) سَوَاءً كَانَ الِابْنُ وَطِئَهَا أَوْ لَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ لَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ كَوَطْءِ الْحَائِضِ (وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا قُبَيْلَ الْوَطْءِ بِالْقِيمَةِ؛ لِيَقَعَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ (وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرُهَا) لِسَبْقِ مِلْكِهِ الْوَطْءَ (وَلَا قِيمَةَ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّهُ انْعَلَقَ حُرًّا؛ لِتَقَدُّمِ الْمِلْكِ عَلَى الْأُمِّ (وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا) فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ مِنْ (كِتَابِ النِّكَاحِ) وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَمَهْرَهَا وَهُوَ بِنَاءً عَلَى إثْبَاتِهِ الْمِلْكَ حُكْمًا لِلْوَطْءِ، إذْ لَوْ أَثْبَتَهُ سَابِقًا عَلَيْهِ لَمْ يَتَّجِهْ لَهُ إيجَابُ الْمَهْرِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ وَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَعَلَى هَذَا تَسْتَمِرُّ عَلَى مِلْكِ الِابْنِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٌ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْقِيمَةِ بِمُجَرَّدِ الْوَطْءِ حَمَلَتْ أَوْ لَا، وَإِذَا كَانَ تَمَلُّكُهَا لَازِمًا عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ دَعْوَةُ وَلَدِ مُدَبَّرَةِ ابْنِهِ وَلَا أُمَّ وَلَدِهِ إذْ لَا يَقْبَلَانِ انْتِقَالَ الْمِلْكِ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ فِي لَفْظِ الْجَارِيَةِ عُرْفٌ يُخْرِجُهُمَا فَقَدْ أَخْرَجَهُمَا بِاللَّفْظِ، وَإِلَّا فَبِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ الِابْنِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَبُ صَاحِبَ وِلَايَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى الدَّعْوَةِ أَيْضًا، فَلَوْ بَاعَ الِابْنُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِشِرَاءٍ أَوْ رَدٍّ وَوَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ بَاعَهَا فَادَّعَاهُ الْأَبُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الِابْنُ كَمَا إذَا ادَّعَى الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ وَصَدَّقَهُ، وَكَذَا دَعْوَةُ الْجَدِّ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَبُ كَافِلًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ عَبْدًا فَعَتَقَ أَوْ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ وَالْإِفَاقَةِ إلَى الدَّعْوَةِ فَادَّعَاهُ لَا تَصِحُّ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ، أَمَّا الْمَعْتُوهُ لَوْ ادَّعَاهُ بَعْدَ إفَاقَتِهِ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ إفَاقَتِهِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تَصِحُّ؛ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عِنْدَ الْعُلُوقِ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَتَهَ لَا يُبْطِلُ الْحَقَّ وَالْوِلَايَةَ بَلْ يَعْجِزُ عَنْ الْعَمَلِ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ الْمُدَّعِي مُرْتَدًّا فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ صَحَّتْ، وَإِلَّا لَا. وَعِنْدَهُمَا صَحِيحَةٌ وَهِيَ فَرْعُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْقِيمَةِ فَكَانَ كَالْبَيْعِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَقَّفَ عِنْدَهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِ وَلَدِهِ مَوْقُوفٌ عِنْدَ هُمَا أَيْضًا، لَكِنَّهَا تَضَمَّنَتْ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَفِيهِ لَا يَتَوَقَّفُ لَا سِيَّمَا فِي النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ فَيَنْفُذُ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ وَطِئَ أَبُو الْأَبِ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ مُسْلِمًا حُرًّا عَاقِلًا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ شَرْطَ الصِّحَّةِ قِيَامُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ مُتَّصِفًا بِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا كَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مَجْنُونًا فَإِنَّ الْجَدَّ حِينَئِذٍ يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ جَارِيَةَ ابْنِ ابْنِهِ لِقِيَامِ وِلَايَتِهِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُرْتَدًّا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْجَدِّ عِنْدَ هُمَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذَةٌ عِنْدَهُمَا فَمَنَعَتْ تَصَرُّفَ الْجَدِّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَوْقُوفَةٌ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْأَبُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْجَدِّ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لُحِقَ وَقَضَى بِلَحَاقِهِ صَحَّتْ، وَلَوْ بَاعَ ابْنُ الِابْنِ الْجَارِيَةَ حَامِلًا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا فَوَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ بَاعَهَا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْجَدِّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَبِ.

ص: 47

(وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسُبُّهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي نِصْفِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ؛ لِمَا أَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْعُلُوقُ إذْ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ لَا يَنْعَلِقُ مِنْ مَاءَيْنِ.

(وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَصِيرُ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبَهُ إذْ هُوَ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا)؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الِاسْتِيلَادَ وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً، إذْ الْمِلْكُ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَعَقَّبُهُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُهُ فَصَارَ وَاطِئًا مِلْكَ نَفْسِهِ (وَلَا يَغْرَمُ قِيمَةَ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ

قَوْلُهُ: وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ) سَوَاءً كَانَ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا، وَأَعْتَقَ الْآخَرَ مَعًا فَالدَّعْوَةُ أَوْلَى لِتَضَمُّنِهَا ثُبُوتَ نَسَبِ الْوَلَدِ دُونَ إعْتَاقِ الْآخَرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي نِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ لَهُ مِنْ الْجَارِيَةِ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي، وَلَفْظُ " فِي " يُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى " مِنْ " الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ: أَيْ ثَبَتَ مِنْ نِصْفِ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكِ لَهُ وَلَا يَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» أَيْ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ بِسَبَبِ نِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ لَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي يَنْبُو عَنْهُ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ نِصْفِ الْأُمِّ فَيَثْبُتُ مِنْ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ أَيْ النَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتُهُ مِنْ امْرَأَةٍ، فَثُبُوتُهُ مِنْ بَعْضِهَا هُوَ عَيْنُ ثُبُوتِهِ مِنْ كُلِّهَا. وَلَا يُقَالُ: سَيَأْتِي أَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ رَجُلَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَجْزِئَةٌ مِنْ امْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ مِنْ كُلِّهَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا مِنْ بَعْضِهَا لِوَاحِدٍ وَمِنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ لِلْآخَرِ، وَإِنَّمَا لَا يَتَجَزَّأُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الْعُلُوقُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي امْرَأَةٍ، بِأَنْ عَلِقَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ عَلَى قَوْلِنَا؛ لِأَنَّهَا إذَا عَلِقَتْ مِنْ الْأَوَّلِ انْسَدَّ فَمُ الرَّحِمِ فَلَا تَعْلَقُ مِنْ الْآخَرَ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِنَا لَا يَمْتَنِعُ، بَلْ وَاقِعٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مُثْبِتِي الْقِيَافَةَ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

فَعَدَمُ التَّجَزِّي أَنْ لَا يَعْلَقَ الْوَلَدُ بِنِصْفِهَا (قَوْلُهُ: وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) اتِّفَاقًا أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ

ص: 48

فَلَمْ يَتَعَلَّقْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ.

ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلَا يَصِيرُ نِصْفُهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بَلْ تَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَعِنْدَهُ يَصِيرُ نِصْفُهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكُ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ، وَلَا يَمْتَنِعُ تَجَزِّي الْأُمُومَةِ كَمَا امْتَنَعَ تَجَزِّي ثُبُوتِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ هُوَ ثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِهَا الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ، وَالْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ بِمَعْنَى زَوَالِ الْمِلْكِ فَجَازَتْ أُمُومَةُ نِصْفِهَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُعْتَقُ نِصْفُهَا بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَثْبُتُ حُكْمُ عِتْقِ الْبَعْضِ مِنْ الِاسْتِسْعَاءِ فِي الْبَاقِي أَوْ إعْتَاقِهِ إلَى آخِرِ مَا عُرِفَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّصُّ الْمُفِيدُ لِتَجَزِّي الْعِتْقِ أَوْجَبَ أَنْ لَا يُقَرَّ بَعْضُهُ عَتِيقًا وَبَعْضُهُ رَقِيقًا وَالْأُمُومَةُ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِتْقِ وَجَبَ فِيهَا إذَا صَارَ بَعْضُهَا أُمَّ وَلَدٍ بِمَعْنَى اسْتَحَقَّ بَعْضُهَا الْعِتْقَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ كُلُّهَا وَلَا يَبْقَى بَعْضُهَا رَقِيقًا وَبَعْضُهَا مُسْتَحِقًّا لِلْعِتْقِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرَّ تَجَزِّيهَا فِي حَقِّ الْأُمُومَةِ، بَلْ التَّجَزِّي فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يُتَمِّمَ الْكُلَّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيلَ تَمَلُّكِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّمَلُّكِ تَعْلِيلٌ بِعَدَمِ الْمَانِعِ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ. يُقَالُ سَافَرَ لِلتِّجَارَةِ وَالْعِلْمِ، وَلَوْ قِيلَ لَا مِنْ الطَّرِيقِ عُدَّ جُنُونًا، وَكَوْنُهُ أَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالِاسْتِيلَادِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَيُّنَ الضَّمَانِ عَلَى مَعْنًى لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ الشَّرِيكِ، بَلْ الثَّابِتُ بِهِ جَوَازِ أَنْ يَضْمَنَهُ، وَلِلْإِنْسَانِ تَرْكُ حَقِّهِ، وَهَا هُنَا لَوْ رَضِيَ الشَّرِيكُ بِتَرْكِ تَضْمِينِهِ وَيَصِيرُ نِصْفُهَا مِلْكًا لَهُ وَنِصْفُهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْآخَرِ، فَلَوْ مَاتَ الْمُسْتَوْلِدُ يُعْتَقُ نِصْفُهَا، وَيُرَقُّ نِصْفُهَا الْآخَرُ أَوْ تَسْعَى لَهُ إذَا ذَاكَ لَا يَجُوزُ، فَلَيْسَ الْمُوجِبُ لِلنَّقْلِ إلَّا مَا قُلْنَا مِنْ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَتَقَ الْبَعْضُ لَا يَبْقَى الْبَعْضُ رَقِيقًا وَأُلْحِقَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ بِحَقِيقَتِهَا وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ نِصْفِهَا يَوْمَ وَطْئِهَا الَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ، وَكَذَا نِصْفُ الْعُقْرِ.

وَإِنَّمَا وَجَبَ نِصْفُ عُقْرِهَا عَلَى الْمُسْتَوْلِدِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي نِصْفِ شَرِيكِهِ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَعَقَّبُهُ، وَهُوَ، وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا لِلْعُلُوقِ لِاسْتِنَادِهِ إلَيْهِ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْوَطْءِ، وَبِابْتِدَائِهِ يَثْبُتُ الْمَهْرُ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِنْزَالِ فَلَزِمَ سَبْقُ وُجُوبِ الْمَهْرِ الِاسْتِيلَادَ بِالضَّرُورَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَيَسْقُطُ مَا أَصَابَ حِصَّتَهُ وَيَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ، وَمَا قِيلَ الْأَصَحُّ أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ يُقَارِنُهَا فِي الْخَارِجِ لَمْ يَخْتَرْهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ مَلَأَ الْكِتَابَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَوَّلُهُ مِنْ بَابِ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ فِي خِلَافِيَّةِ زُفَرَ فِيمَا إذَا دَفَعَ النِّصَابَ إلَى الْفَقِيرِ مَنَعَهُ زُفَرُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ قَارَنَ الْغِنَى، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ حُكْمُ الدَّفْعِ فَيَتَعَقَّبُهُ فَحَصَلَ الدَّفْعُ إلَى الْفَقِيرِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُكَرِّرُهُ فِي كُلِّ مَا هُوَ مِثْلُهُ، ثُمَّ ضَمَانُ قِيمَةِ نِصْفِ الشَّرِيكِ لَازِمٌ فِي يَسَارِهِ، وَإِعْسَارِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ كَالْبَيْعِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنْ كَانَ الْمُدَّعِي مُعْسِرًا سَعَتْ أُمُّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِاسْتِيلَادِ حَصَلَتْ لَهَا، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ الْأَبُ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ الْعُقْرَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُ لِيَقَعَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمِلْكُ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ الِاسْتِيلَادِ، وَهُوَ بِالْعُلُوقِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقَدُّمِهِ عَلَى الْعُلُوقِ تَقَدُّمُهُ عَلَى الْوَطْءِ. أُجِيبُ بِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْفِعْلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْوَلَدُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْفِعْلُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَطْلُوبِ، فَالتَّقَدُّمُ عَلَى الْعُلُوقِ تَقَدُّمٌ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ الِاسْتِيلَادُ، وَمِنْهُ الْوَطْءُ فَاعْتُبِرَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ.

وَلَا يَغْرَمُ قِيمَةَ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَمِلْكُهُ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيْضًا فَلَمْ يَنْعَلِقْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ بَلْ عَلِقَ حُرًّا فَلَا يَضْمَنُ

ص: 49

(وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا) مَعْنَاهُ إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَافَةِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ، وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.

لَهُ شَيْئًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ فِي نِصْفِ شَرِيكِهِ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيُعْتِقُهُ أَنَّ الْعُلُوقَ قَبْلَ مِلْكِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَحْصُلُ مَمْلُوكُ النِّصْفِ لَهُ وَنِصْفُهُ لِشَرِيكِهِ. وَاسْتِنَادُ النَّسَبِ إلَى الْعُلُوقِ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي مِلْكِ الشَّرِيكِ لَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَعْلَقَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى مِلْكِهِ.

لَا يُقَالُ: يُمْكِنُ كَوْنُهُ أَرَادَ بِالِاسْتِيلَادِ فِي قَوْلِهِ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ الْوَطْءَ. لِأَنَّا نَقُولُ: الِاسْتِيلَادُ إمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْعُلُوقِ، أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ الْوَطْءِ مَعَ الْإِنْزَالِ وَالْعُلُوقِ، أَمَّا مُجَرَّدُ الْوَطْءِ بِلَا إنْزَالٍ فَلَا. وَلَوْ سَلِمَ لَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُ الْمِلْكِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنْ مِلْكِ الشَّرِيكِ إلَى مِلْكِ الْمُسْتَوْلِدِ ضَرُورَةُ صَيْرُورَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا تَصِيرُ إلَّا بِالْعُلُوقِ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ بِلَا مُوجِبٍ. وَالِاعْتِرَاضُ السَّابِقُ بِأَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ مَعَهَا فِي الْأَصَحِّ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ مَعَ الْعُلُوقِ أَيْضًا بِلَا مُوجِبٍ؛ لِأَنَّهَا مَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَمْ يَلْزَمْ النَّقْلُ. فَالْوَجْهُ جَعَلَهُ مُعَقِّبًا لِلْعُلُوقِ بِلَا فَصْلٍ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَاءٌ مَهِينٌ لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَا يُضْمَنُ، وَحِينَ صَارَ بِحَيْثُ يُضْمَنُ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ حِينَ انْتَقَلَتْ إلَى مِلْكِ الْمُسْتَوْلَدِ انْتَقَلَتْ بِأَجْزَائِهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا ذَلِكَ الْمَاءُ، هَذَا إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا، فَإِنْ اشْتَرَيَاهَا حَامِلًا فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُ الِاسْتِيلَادِ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي مِلْكِهَا، وَلِذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عُقْرٌ لِشَرِيكِهِ هُنَا، لَكِنْ لَمَّا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا كَانَتْ دَعْوَتُهُ مِلْكٌ وَهِيَ كَالْإِعْتَاقِ الْمُوقِعِ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ كَالْبَيْعِ، وَلَا عُقْرَ لِشَرِيكِهِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يُوجَدْ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا) وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا فَتَخْدُمُ كُلًّا مِنْهُمَا يَوْمًا، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ لِلْحَيِّ فِي تَرْكِهِ الْمَيِّتِ لِرِضَا كُلٍّ مِنْهُمَا بِعِتْقِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا تَسْعَى لِلْحَيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا. وَعَلَى قَوْلِهِمَا تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لَهُ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلسَّاكِتِ، وَلَا سِعَايَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَتَسْعَى إنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعُقْرِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ. وَفَائِدَةُ إيجَابِ الْعُقْرِ مَعَ التَّقَاصِّ بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ أَبْرَأ أَحَدَهُمَا عَنْ حَقِّهِ بَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ. وَأَيْضًا لَوْ قُوِّمَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا بِالدَّرَاهِمِ وَالْآخَرِ بِالذَّهَبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الدَّرَاهِمَ وَيَأْخُذَ الذَّهَبَ وَيَرِثُ

ص: 50

وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا، هُوَ ابْنُهُمَا

الِابْنُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ. فَهَذِهِ أَحْكَامُ دَعْوَتِهِمَا ذَكَرَهَا الْقُدُورِيُّ.

وَمِنْهَا أَنَّهُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا حَتَّى إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ كُلُّ مِيرَاثِ الِابْنِ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، وَفَرَّقَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهَا بِوَجْهِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَالَ: وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَسَيُقَيِّدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدِهِمَا مُرَجِّحٌ، فَلَوْ كَانَ بِأَنْ كَانَ الشَّرِيكَانِ أَبًا وَابْنًا فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ وَحْدَهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا يَثْبُتُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَحْدَهُ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ فَيَثْبُتُ مِنْهُمَا وَيَكُونُ مُسْلِمًا، وَقَيَّدَهُ هَاهُنَا بِمَا إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا، وَهُوَ أَنْ تَلِدَهُ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ: يَعْنِي فَصَاعِدًا وَلَوْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ مَلَكَاهَا، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا إذَا كَانَ الْحَمْلُ عَلَى مِلْكِ أَحَدِهِمَا نِكَاحًا ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ وَآخَرُ فَوَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الشِّرَاءِ فَادَّعَيَاهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِ الزَّوْجِ فَإِنَّ نَصِيبَهُ صَارَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّي عِنْدَهُمَا وَلِإِبْقَاءِهِ عِنْدَهُ فَيَثْبُتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَيْضًا.

وَأَيْضًا مَا إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِ أَحَدِهِمَا رَقَبَةً فَبَاعَ نِصْفَهَا مِنْ آخَرَ فَوَلَدَتْ: يَعْنِي لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَيْعِ النِّصْفِ فَادَّعَيَاهُ يَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِكَوْنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ، وَعَمَّا إذَا كَانَ الْحَمْلُ قَبْلَ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنْ اشْتَرَيَا أَمَةً فَوَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ مَلَكَاهَا أَوْ وَلَدَتْهُ قَبْلَ مِلْكِهِمَا إيَّاهَا فَاشْتَرَيَاهَا فَادَّعَيَاهُ لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ عِتْقٍ لَا دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ فَيُعْتَقُ الْوَلَدُ مُقْتَصَرًا عَلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ، بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ فَإِنَّ شَرْطَهَا كَوْنُ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ، وَتَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَيَعْلَقُ حُرًّا وَقَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الْعِتْقِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا ابْنِي وَأُمُّهُ فِي مِلْكِهِ هَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَوْ لَا؟ قِيلَ نَعَمْ مَجْهُولَ النَّسَبِ أَوْ مَعْلُومَهُ، وَقِيلَ لَا فِيهِمَا، وَقِيلَ نَعَمْ فِي مَجْهُولِهِ لَا فِي مَعْلُومِهِ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُنَا عِنْدَ جَهْلِنَا بِحَالِ الْعُلُوقِ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَرَجَّحَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ حَدِيثَ الْقَافَةِ.

وَقِيلَ يَعْمَلُ بِهِ إذَا فُقِدَتْ الْقَافَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَائِفٌ وَقَفَ حَتَّى يَبْلُغَ الْوَلَدُ فَيَنْتَسِبُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَسِبْ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ نَسَبُهُ مَوْقُوفًا لَا يَثْبُتُ لَهُ نَسَبٌ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ. وَالْقَائِفُ هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ آثَارَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْآثَارِ مِنْ قَافَ أَثَرَهُ يَقُوفُهُ مَقْلُوبُ قَفَا أَثَرَهُ مِثْلَ رَاءٍ مَقْلُوبُ رَأَى، وَالْقِيَافَةُ مَشْهُورَةٌ فِي بَنِي مُدْلِجٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْلِجِيًّا فَغَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ فِي الْإِمَاءِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَعَلَّقَ مِنْ رَجُلٍ انْسَدَّ فَمُ الرَّحِمِ مُتَعَذَّرٌ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَافَةَ لَوْ أَلْحَقُوهُ بِهِمَا لَا يُلْحَقُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ إذَا أَلْحَقُوا بِهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ الْعَمَلُ بِالشَّبَهِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ حَيْثُ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أَخْرَجَ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ كُلِّهِمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَات يَوْمٍ مَسْرُورًا فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَزَيْدٌ وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» وَقَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَانَ أُسَامَةُ أَسْوَدَ وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ.

(وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ رضي الله عنه إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ) ذَكَرَ أَنَّ شُرَيْحًا كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنَّهُمَا لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا، وَهُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا. وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَحَلَّ مَحَلَّ

ص: 51

يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِثْلُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَالنَّسَبُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ، فَمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّجْزِئَةِ، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ

الْإِجْمَاعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.

قَالَ: (وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ) يَعْنِي الدَّعْوَةِ مَعَ الْمِلْكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَالنَّسَبُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ كَالْإِرْثِ وَالنَّفَقَةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَوِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالْحَضَانَةِ فَمَا يَقْبَلُ التَّجَزِّي كَالْإِرْثِ، وَمَا ذَكَرنَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّجْزِئَةِ، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا كَالنَّسَبِ وَوِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ يَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ هُوَ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ؛ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي امْرَأَةٍ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ، فَقَالَ الْقَائِفُ: قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَعَلِيٌّ يَقُولُ هُوَ ابْنُهُمَا وَهُمَا أَبَوَاهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ، وَذَكَرَهُ سَعِيدٌ أَيْضًا، وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي طُهْرِ امْرَأَةٍ فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا يُشْبِهُهُمَا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَدَعَا الْقَافَةَ فَنَظَرُوا فَقَالُوا نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا، فَأَلْحَقَهُ بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدًا فَدَعَا عُمَرُ الْقَافَةَ وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِبَصَرِ الْقَافَةِ وَأَلْحَقَهُ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ.

ثُمَّ ذَكَر أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَا دَعَا عُمَرُ الْقَافَةَ فَرَأَوْا شَبَهَهُ فِيهِمَا وَرَأَى عُمَرُ مِثْلَ مَا رَأَتْ الْقَافَةُ قَالَ: قَدْ كُنْت أَعْلَمُ أَنَّ الْكَلْبَةَ تَلِدُ لِأَكْلَبَ فَيَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ لِأَبِيهِ مَا كُنْت أَرَى أَنَّ مَاءَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فِي وَلَدٍ وَاحِدٍ. وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: رَأَى الْقَافَةِ وَعُمَرُ جَمِيعًا شَبَهُهُ فِيهِمَا وَشَبَهُهُمَا فِيهِ، وَقَالَ: هُوَ بَيْنَكُمَا يَرِثُكُمَا وَتَرِثَانِهِ، قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ لِلْآخِرِ مِنْهُمَا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذَلِكَ يُشِيرُ إلَى مَا أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ مَوْلًى لِآلِ مَخْزُومٍ قَالَ: وَقَعَ رَجُلَانِ عَلَى جَارِيَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَعَلَقَتْ الْجَارِيَةُ فَلَمْ يُدْرَ مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ، فَأَتَيَا عَلِيًّا فَقَالَ هُوَ بَيْنَكُمَا يَرِثُكُمَا وَتَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْكُمَا. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ قَابُوسَ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَتَاهُ رَجُلَانِ وَقَعَا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ، فَقَالَ الْوَلَدُ بَيْنَكُمَا وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْكُمَا. وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: يَرْوِيه سِمَاكٌ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَمْ يُسَمِّهِ، وَقَابُوسُ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: وَقَدْ رَوَى عَلِيٌّ مَرْفُوعًا خِلَافَ ذَلِكَ.

ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حَدَّثَنَا حُبَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرْنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرَقْمَ قَالَ: «أُتِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِثَلَاثَةٍ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالَا لَا، حَتَّى

ص: 52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سَأَلَهُمْ جَمِيعًا فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا لَا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِاَلَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ قَالَ: فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» انْتَهَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا دَاوُد رَوَاهُ أَيْضًا مَوْقُوفًا، وَكَذَا النَّسَائِيّ عَلَى عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ أَجْوَدَ مِنْ إسْنَادِ الْمَرْفُوعِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَقَالَ فِيهِ: فَأَغْرَمَهُ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ حَسَنٌ مُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِالدِّيَةِ فِيمَا قَبْلَهُ.

وَحَاصِلُ مَا تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُرَّ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، وَأَنَّ عُمَرَ قَضَى عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِمْ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ إثْبَاتَ عَلِيٍّ النَّسَبَ بِالْقُرْعَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ مَا يُنْسَبُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ هُوَ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ. فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِأَنَّ سُرُورَهُ كَانَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ رضي الله عنه لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ كَانَ أَسْوَدَ وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ فَكَانُوا لِذَلِكَ يَطْعَنُونَ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُونَ قَوْلَ الْقَافَةِ فَكَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ مَقْطَعًا لَطَعَنَهُمْ، فَسُرُورُهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ قَطْعِ طَعْنِهِمْ وَاسْتِرَاحَةِ مُسْلِمٍ مِنْ التَّأَذِّي بِنَفْيِ نَسَبِهِ وَظُهُورِ خَطَئِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ كَوْنُ الْقِيَافَةِ حَقًّا فِي نَفْسِهَا فَتَكُونُ مُتَعَلَّقَ سُرُورِهِ أَيْضًا، أَوْ لَيْسَتْ حَقًّا فَيَخْتَصُّ سُرُورُهُ بِمَا قُلْنَا فَلَزِمَ أَنَّ حُكْمَنَا بِكَوْنِ سُرُورِهِ بِهَا نَفْسِهَا فَرْعُ حُكْمِنَا بِأَنَّهَا حَقٌّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّيَّتِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ. وَطَعَنَ يَطْعَنُ بِضَمِّ عَيْنِ الْمُضَارِعِ بِالرُّمْحِ وَفِي النَّسَبِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ اُسْتُدِلَّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَافَةِ بِحَدِيثِ اللِّعَان حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيهِ «إنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أُثَيْبِجَ حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ» وَهَذِهِ هِيَ الْقِيَافَةُ، وَالْحُكْمُ بِالشَّبَهِ.

وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ لَا الْقِيَافَةِ. وَقَدْ يُقَالُ الظَّاهِرُ عِنْدَ إرَادَةِ تَعْرِيفِهِ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْقِيَافَةُ مُعْتَبَرَةً لَكَانَ شَرْعِيَّةَ اللِّعَانِ تَخْتَصُّ بِمَا إذَا لَمْ يُشْبِهَ الْمَرْمِيَّ بِهِ أَشْبَهَ الزَّوْجَ أَوْ لَا لِحُصُولِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنًا لِلنَّافِي، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِكَذِبِهَا فِي نَسَبِ الْوَلَدِ. وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَقِّيَّةَ قِيَافَتِهِ صلى الله عليه وسلم حَقِّيَّةَ قِيَافَةِ غَيْرِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْقِيَافَةَ لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ يَسْتَوِي النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهَا، ثُمَّ إنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُرَّ بِفِعْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهُوَ إلْحَاقُهُ بِالْقُرْعَةِ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَطُرُقُهُ صَحِيحَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْقُرْعَةَ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ لِتَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ، بَلْ سُرَّ بِهِ، فَإِنَّ الضَّحِكَ دَلِيلُهُ مَعَ عَدَمِ الْإِنْكَارِ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِنَسْخِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ مِنْ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْقُوَّةِ بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ بِحَيْثُ لَا يُعَارِضُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ مِنْ قِصَّةِ شُرَيْحٍ؛ لِخَفَائِهَا وَعَدَمِ تَثْبِيتِهَا.

وَإِنْ كَانَتْ قِصَّةً مُرْسَلَةً، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ مُرْسَلٌ، وَكَذَا عُرْوَةُ عَنْهُ، لَكِنَّهُمَا إمَامَانِ لَا يَرْوِيَانِ إلَّا عَنْ قُوَّةِ أَمِينٍ مَعَ حُجِّيَّةِ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا فَكَيْفَ بِهِ مِنْ هَذَيْنِ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ نَعَمْ فِي إسْنَادِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رُبَّمَا يَكُونُ كَالْمَوْصُولِ بِعُمَرَ؛ لِأَنَّ سَعِيدًا رَوَى عَنْ عُمَرَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ مِثْلِ هَذَا، وَإِذَا ثَبَتَ عَمَلُ عُمَرَ بِالْقِيَافَةِ لَزِمَ أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ فِي سُرُورِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ كَوْنُ الْحَقِّيَّةِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ ثَابِتٌ، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى اثْنَيْنِ يَلْزَمُهُ اعْتِقَادُ أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ كَانَ عَنْ رَأْيِهِ لَا بِقَوْلِ الْقَافَةِ فَيَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ اثْنَيْنِ إذْ حَلَّ مَحِلَّ الْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَلْزُومٌ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنَّ سُرُورَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا إلَّا بِرَدِّ طَعْنِهِمْ أَوْ ثُبُوتِ نَسْخِهِ وَبِهِ نَقُولُ، إلَّا أَنَّا

ص: 53

إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَبًا لِلْآخِرِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَفِي حَقِّ الْأَبِ وَهُوَ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي نَصِيبِ الِابْنِ، وَسُرُورُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رُوِيَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ مُقْطِعًا لِطَعْنِهِمْ فَسُرَّ بِهِ (وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا)؛ لِصِحَّةِ دَعْوَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ فِي الْوَلَدِ فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَالِدِهَا

لَا نَقُولُ إنَّهُ مِنْ مَائِهِمَا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الرَّحِمِ إلَّا مُتَعَاقِبَيْنِ.

فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ الْأَوَّلِ لَمْ يُتَصَوَّرْ خَلْقُهُ مِنْ الثَّانِي، بَلْ إنَّهُ يَزِيدُ فِي الْأَوَّلِ فِي سَمْعِهِ قُوَّةً وَفِي بَصَرِهِ وَأَعْضَائِهِ. وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ فَقَاصِرٌ عَلَى قَوْلِنَا إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ تَحِيضُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَوْلُ بِالِانْسِدَادِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ اثْنَيْنِ مَعَ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ كَمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ اثْنَيْنِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ وَأَكْثَرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَثْبُتُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَنْفِي ثُبُوتَهُ مِنْ اثْنَيْنِ، لَكِنَّهُ تَرْكٌ لِأَثَرِ عُمَرَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَثْبُتُ لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِقُرْبِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الِاثْنَيْنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ الِاشْتِبَاهُ وَالدَّعْوَةُ فَلَا فَرْقَ. فَلَوْ تَنَازَعَ فِيهِ امْرَأَتَانِ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْضَى لِلْمَرْأَتَيْنِ فَلَا يَلْحَقُ إلَّا بِأُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَنْصِبَاءِ مُتَفَاوِتَةً أَوْ مُتَسَاوِيَةً فِي الْجَارِيَةِ فِي دَعْوَى الْوَلَدِ، وَلَوْ تَنَازَعَ فِيهِ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ كُلٌّ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تُصَدِّقُهُ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْضَى بِهِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِهِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَقَطْ، فَلَوْ تَنَازَعَ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمْ، وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِهِ لِلرَّجُلِ لَا لِلْمَرْأَتَيْنِ. (قَوْلُهُ: إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَبًا لِلْآخَرِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا لَا يَقْبَلُهَا وَعَلِمْت أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: أَمَةٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَمُكَاتَبٍ وَمُدَبَّرٍ وَعَبْدٍ وَلَدَتْ فَادَّعَوْهُ فَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ أَوْلَى لِاجْتِمَاعِ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فِيهِ مَعَ الْمِلْكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُسْلِمٌ بَلْ مِنْ بَعْدِهِ فَقَطْ فَالذِّمِّيُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ وَالْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ لَكِنْ بِيَدِ الْوَلَدِ تَحْصِيلُ الْإِسْلَامِ دُونَ الْحُرِّيَّةِ ثُمَّ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ مِلْكٍ وَالْوَلَدُ عَلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ بِأَدَاءِ الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَاتَبٌ وَادَّعَى الْمُدَبَّرُ وَالْعَبْدُ لَا يَثْبُتُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ لَهُمْ مِلْكٌ وَلَا شُبْهَةُ مِلْكٍ، قِيلَ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وُهِبَتْ لَهُ أَمَةٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بَلْ أَنْ يُزَوَّجَ مِنْهَا أَيْضًا وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُرْتَدٍّ فَالْوَلَدُ لِلْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ وَغَرِمَ كُلٌّ لِصَاحِبِهِ نِصْفَ الْعُقْرِ.

(قَوْلُهُ: وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا لِصِحَّةِ دَعْوَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ الْوَلَدِ فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَلَدِهَا) وَلَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِشَرِيكِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ

ص: 54

(وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعُقْرِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ)؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمِيرَاثِهِ كُلِّهِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ (وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّسَبِ كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ.

(وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ يَدَّعِي وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ حَتَّى لَا يَتَمَلَّكَهُ وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِ الِابْنِ.

إلَيْهِ مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ شَيْءٌ. (قَوْلُهُ: وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمِيرَاثِهِ كُلِّهِ) حَيْثُ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنَهُ وَحْدَهُ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ (وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ)؛ لِأَنَّ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِالْأُبُوَّةِ لَا تَسْرِي فِي حَقِّ الْآخَرَ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْمِلْكِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى شَيْءٍ يَصِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَكَذَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ابْنٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ)، وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ، لَكِنْ إذَا مَلَكَهُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِمَا سَيُذْكَرُ. (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ بَلْ يَثْبُتُ) نَسَبُهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ دَعَوْتِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى تَصْدِيقِهِ، وَقَوْلُهُ وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ يَدَّعِي وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ بِجَامِعِ أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ كَسْبُ كَسْبِ الْمُدَّعِي، أَوْ بِطَرِيقٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى فِي الْمُكَاتَبِ مِلْكُ رَقَبَتِهِ وَهُوَ مُقْتَضٍ لِحَقِيقَةِ مِلْكِ كَسْبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ كَانَ لَهُ فِيهِ حَقُّ الْمَلِكِ، وَلَيْسَ لِلْوَالِدِ مِلْكٌ حَقِيقَةً فِي رَقَبَةِ وَلَدِهِ بَلْ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ بِمَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَحَقُّ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ، فَلَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِ جَارِيَةِ الِابْنِ مِنْ الْأَبِ بِمُجَرَّدِ دَعَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى تَصْدِيقِهِ فَالثُّبُوتُ مِنْ الْمَوْلَى أَوْلَى. (وَوَجْهُ الظَّاهِرِ: وَهُوَ الْفَرْقُ) بَيْنَ جَارِيَةِ الِابْنِ وَجَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ (أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ) بِسَبَبِ حَجَرِهِ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ تَمَلُّكِهِ (وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَهُ) لِحَاجَتِهِ عَلَى مَا عُرِفَ (فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِهِ) وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَارِثِ يَسْتَوْلِدُ أَمَةً مِنْ تَرِكَةٍ مُسْتَغْرَقَةٍ بِالدَّيْنِ يَصِحُّ بِلَا تَصْدِيقِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ حَقٍّ حَتَّى مَلَكَ اسْتِخْلَاصَ مَا يَشَاءُ مِنْ

ص: 55

قَالَ: (وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا)؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُهُ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لِمَا نَذْكُرُهُ.

التَّرِكَةِ بِإِعْطَاءِ قِيمَتِهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَقُّ مِنْهُ لِيَحْتَاجَ إلَى تَصْدِيقِهِ.

بِخِلَافِ الْبَائِعِ يَدَّعِي وَلَدَ الْمَبِيعَةِ بَعْد الْبَيْعِ يَصِحُّ لِاتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ وَوَجَبَ لِلْوَلَدِ حَقُّ الْعِتْقِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِاعْتِرَاضِ الْبَيْعِ. وَهَاهُنَا إنْ حَصَلَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى لِرَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ لَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي مِلْكِهِ لِلْجَارِيَةِ مِلْكًا خَالِصًا. وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لُوحِظَ حَجْرَ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ فَتَصْدِيقُهُ لَا يُوجِبُ فَكَّ الْحَجْرِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ أَنَّهُ وَطِئَ الْجَارِيَةَ فَيُقْضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ إذْ لَمْ يَرْتَفِعْ بِهِ الْمَانِعُ مِنْ ثُبُوتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ وَطِئَهَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إذَا كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ مَعَ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنْ التَّصْدِيقِ فَظَهَرَ ضَعْفُ اشْتِرَاطِ التَّصْدِيقِ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ هَذَا الْحِجْرَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ لِكَوْنِهِ هُوَ أَحَقُّ بِالدَّعْوَى فَلَا يَظْهَرُ حَقُّهُ فِي الِاسْتِلْحَاقِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُكَذِّبَهُ بِأَنْ يَدَّعِيَهُ هُوَ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِعْلَامِ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْوَطْءِ فَإِنَّ تَكْذِيبَهُ قَائِمٌ، وَاخْتِبَارُ التَّصْدِيقِ لَيْسَ لِاسْتِعْلَامِ الْوَطْءِ قَطْعًا بَلْ تَقْدِيمًا لِلْأَحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا اسْتَلْحَقَ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ الْآخِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ مِنْ الْآخَرِ. (قَوْلُهُ: وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا) لِلْمُكَاتَبِ (لِأَنَّهُ) أَيْ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى لَا يَتَقَدَّمُهُ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ: أَيْ حَقِّ الْمَلِكِ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لِمَا نَذْكُرُهُ: يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ عَقِيبَةَ أَنَّهُ كَسْبُ كَسْبِهِ.

بِخِلَافِ الْأَبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ مِلْكٍ فِي الْجَارِيَةِ فَيَتَقَدَّمُ مِلْكُهُ إيَّاهَا؛ لِتَصْحِيحِ الِاسْتِيلَادِ فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أَمَةَ نَفْسِهِ، وَإِذَا وَجَبَ لِنَفْسِ الْمُكَاتَبَةِ الْعُقْرُ إذَا وَطِئَهَا الْمَوْلَى مَعَ ثُبُوتِ حَقِيقَةِ مِلْكِهِ فِيهَا فَلَأَنْ يَجِبَ بِوَطْءِ أَمَتِهَا أَوْلَى، وَأَبْعَدَ شَارِحٌ فَقَالَ: أَيْ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ حَقٌّ مَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ ثُبُوتِ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ

ص: 56

قَالَ: (وَقِيمَةُ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَغْرُورِ حَيْثُ إنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ كَسْبُ كَسْبِهِ فَلَمْ يَرْضَ بِرِقِّهِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ (وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ (وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَكَاتِبُ فِي النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ)؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ (فَلَوْ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ)؛ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ وَزَوَالِ حَقِّ الْمُكَاتَبِ إذْ هُوَ الْمَانِعُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

سَيِّدِ أَمَةٍ لَا يُصَحِّحُ اسْتِيلَادَ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَقَدْ تَنَاوَلَهُ مِنْ مَكَان بَعِيدِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. (قَوْلُهُ: وَقِيمَةُ وَلَدِهَا) عَطْفٌ عَلَى عُقْرِهَا: أَيْ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ (لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَغْرُورِ حَيْثُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ) أَيْ الْجَارِيَةَ بِتَأْوِيلِ الشَّخْصِ (كَسْبُ كَسْبِهِ فَلَمْ يَرْضَ بِرِقِّهِ) حَيْثُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا يُوجِبُ حُرِّيَّتَهُ (فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ) كَمَا أَنَّ الْمَغْرُورَ بِشِرَاءِ أَمَةٍ اسْتَوْلَدَهَا فَاسْتُحِقَّتْ اعْتَمَدَ دَلِيلًا هُوَ الْبَيْعُ فَجُعِلَ عُذْرًا فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ بِالْقِيمَةِ إلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْوَلَدِ هُنَا تُعْتَبَرُ يَوْمَ وُلِدَ، وَقِيمَةُ وَلَدِ الْمَغْرُورِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعُلُوقَ هُنَا حَصَلَ فِي مِلْكٍ لِمَوْلَى وَهُوَ مُقْتَضٍ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِحَقِّ مِلْكِهِ لِمَالِكِهَا إنَّهُ مَحْجُورٌ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ عَنْهَا فَشَرْطٌ تَصْدِيقُهُ، فَإِذَا جَاءَ التَّصْدِيقُ صَحَّتْ الدَّعْوَى وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ بِالْقِيمَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي أَقْرَبِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَأَمَّا الْمَغْرُورُ فَضَمَانُهُ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ حَبَسَهَا عَنْ صَاحِبِهَا تَقْدِيرًا فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْحَبْسِ، وَتَحَقُّقُ هَذَا الْحَبْسِ وَالْمَنْعِ إنَّمَا يَكُونُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ فَيُعْتَبَرُ يَوْمَهَا.

(ثُمَّ لَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا فِي أُمِّ وَلَدِ الْمَغْرُورِ) الْمَبِيعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنَّ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِيلَادِ اسْتِلْحَاقُ الْوَلَدِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ وَصِحَّتُهُ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَأَمَّا ثُبُوتُ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ فَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَهُوَ أَكْثَرُهَا دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَ عَيْنًا لِيَلْزَمَ نَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ، ثُمَّ إذَا مَلَكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُكَاتَبُ فِي النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا) أَيْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ (فَلَوْ مَلَكَهُ) أَيْ لَوْ مَلَكَ الْوَلَدَ (يَوْمًا) مِنْ الدَّهْرِ (ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ) وَكَانَ وَلَدًا لَهُ (لِقِيَامِ الْمُوجِبِ) وَهُوَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيلَادِ، وَزَوَالُ الْمَانِعِ وَهُوَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ

ص: 57

‌كِتَابُ الْأَيْمَانِ

فُرُوعٌ] رَجُلٌ فَجَرَ بِأَمَةٍ فَوَلَدَتْ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ اشْتَرَى الْوَلَدُ عَتَقَ الْوَلَدُ عَلَيْهِ. وَفِي الْمُحِيطِ: يَجُوزُ إعْتَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ وَكِتَابَتُهَا لِتَعْجِيلِ الْحُرِّيَّةِ، وَكَذَا تَدْبِيرُهَا لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ. وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ: اسْتَوْلَدَ مُدَبَّرَتَهُ بَطُلَ التَّدْبِيرُ وَتُعْتَقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى فِي دَيْنٍ.

وَفِي الْكَافِي: أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَالَا فِي صِحَّتِهِمَا هِيَ أُمُّ وَلَدِ أَحَدِنَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا يُؤْمَرُ الْحَيُّ بِالْبَيَانِ دُونَ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ وَالْوَرَثَةُ تُخْبِرُ بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ قَالَ الْحَيُّ هِيَ أُمُّ وَلَدِي فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَلَا يَضْمَنُ مِنْ الْعُقْرِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لِمَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا بَعْدَ مِلْكِهَا فَلَعَلَّهُ اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ قَبْلُ، وَلَوْ قَالَ هِيَ أُمُّ وَلَدِ الْمَيِّتِ عَتَقَتْ صَدَّقَتْهُ الْوَرَثَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ لِأَنَّهُ إنْ صَدَقَ فَهِيَ حُرَّةٌ، وَإِنْ كَذَبَ فَكَذَلِكَ لِإِقْرَارِهِ بِعِتْقِهَا بِمَوْتِهِ، وَلَا سِعَايَةَ لِلْحَيِّ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الضَّمَانَ إنْ كَذَّبُوهُ فِي إقْرَارِهِ، وَإِنْ صَدَّقُوهُ فَقَدْ أَقَرُّوا بِعَدَمِ السِّعَايَةِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

كِتَابُ الْأَيْمَانِ

اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنْ الْيَمِينِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ فِي أَنَّ الْهَزْلَ وَالْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ عَلَى الْكُلِّ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعِبَادَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالطَّلَاقُ رَفْعُهُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ فَإِيلَاؤُهُ إيَّاهُ أَوْجَهُ. وَاخْتَصَّ الْإِعْتَاقُ عَنْ الْأَيْمَانِ بِزِيَادَةٍ مُنَاسَبَةٍ بِالطَّلَاقِ مِنْ جِهَةِ مُشَارَكَتِهِ إيَّاهُ فِي تَمَامِ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ الْإِسْقَاطُ، وَفِي لَازِمِهِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ السِّرَايَةِ

ص: 58

قَالَ: (الْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ) الْيَمِينُ الْغَمُوسُ

فَقَدَّمَهُ عَلَى الْيَمِينِ.

وَلَفْظُ الْيَمِينِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَارِحَةِ وَالْقَسَمِ وَالْقُوَّةِ لُغَةً، وَالْأَوَّلَانِ ظَاهِرَانِ. وَشَاهِدُ الْقُوَّةِ قَوْله تَعَالَى {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} وَقَوْلُ الشَّمَّاخِ وَقِيلَ الْحُطَيْئَةُ:

رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ يَسْمُو

إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ

إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ

تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

أَيْ بِالْقُوَّةِ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ إنَّمَا سُمِّيَ الْقَسَمُ يَمِينًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ هُوَ الْقُوَّةُ وَالْحَالِفُ يَتَقَوَّى بِالْإِقْسَامِ عَلَى الْحَمْلِ أَوْ الْمَنْعِ. وَالثَّانِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَاسَكُونَ بِأَيْمَانِهِمْ عِنْدَ الْقَسَمِ فَسَمَّيْت بِذَلِكَ. يُفِيدُ أَنَّهُ لَفْظٌ مَنْقُولٌ وَمَفْهُومُهُ اللُّغَوِيُّ جُمْلَةٌ أُولَى إنْشَائِيَّةٌ صَرِيحَةُ الْجُزْأَيْنِ يُؤَكِّدُ بِهَا جُمْلَةً بَعْدَهَا خَبَرِيَّةً، وَتَرْكُ لَفْظِ أُولَى يُصَيِّرُهُ غَيْرَ مَانِعٍ لِدُخُولِ نَحْوِ زَيْدٌ قَائِمٌ زَيْدٌ قَائِمٌ وَهُوَ عَلَى عَكْسِهِ، فَإِنَّ الْأُولَى هِيَ الْمُؤَكَّدَةُ بِالثَّانِيَةِ مِنْ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَجُمْلَةٌ أَعَمُّ مِنْ الْفِعْلِيَّةِ كَحَلَفْتُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ أَحْلِفُ وَالِاسْمِيَّةُ مُقَدَّمَةُ الْخَبَرِ كَعَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ مُؤَخَّرَتُهُ نَحْوُ لَعَمْرُك لَأَفْعَلَنَّ، وَهُوَ مِثَالٌ أَيْضًا لِغَيْرِ الْمُصَرَّحِ بِجُزْأَيْهَا وَمِنْهُ وَاَللَّهِ وَتَاللَّهِ، فَإِنَّ الْحَرْفَ جُعِلَ عِوَضًا عَنْ الْفِعْلِ.

وَأَسْمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى التَّوْكِيدِيِّ سِتَّةٌ: الْحَلِفُ، وَالْقَسَمُ وَالْعَهْدُ، وَالْمِيثَاقُ وَالْإِيلَاءُ، وَالْيَمِينُ. وَخَرَجَ بِإِنْشَائِيَّةٍ نَحْوَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. فَإِنَّ الْأُولَى لَيْسَتْ إنْشَاءً فَلَيْسَتْ التَّعَالِيقُ أَيْمَانًا لُغَةً، وَأَمَّا مَفْهُومُهُ الِاصْطِلَاحِيُّ فَجُمْلَةٌ أُولَى إنْشَائِيَّةٌ مُقْسَمٌ فِيهَا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَتِهِ وَمُؤَكَّدٌ بِهَا مَضْمُونُ ثَانِيَةٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ ظَاهِرًا وَتَحْمِلُ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى تَحْقِيقِ مَعْنَاهَا فَدَخَلَتْ بِقَيْدٍ ظَاهِرٍ الْغَمُوسُ أَوْ الْتِزَامُ مَكْرُوهِ كُفْرٍ أَوْ زَوَالُ مِلْكٍ عَلَى تَقْدِيرٍ؛ لِيَمْنَعَ عَنْهُ أَوْ مَحْبُوبٍ؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ فَدَخَلَتْ التَّعْلِيقَاتُ مِثْلَ إنْ فَعَلَ فَهُوَ يَهُودِيُّ وَإِنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ بِضَمِّ التَّاءِ لِمَنْعِ نَفْسِهِ وَبِكَسْرِهَا لِمَنْعِهَا وَإِنْ بَشَّرْتَنِي فَأَنْتَ حُرٌّ.

وَسَبَبُهَا الْغَائِيُّ تَارَةً إيقَاعُ صِدْقِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَتَارَةً حَمْلُ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ، فَبَيْنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ لِتَصَادُقِهِمَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَانْفِرَادُ اللُّغَوِيِّ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِهِ مِمَّا يَعْظُمُ، وَانْفِرَادُ الِاصْطِلَاحِيِّ فِي التَّعْلِيقَاتِ. ثُمَّ قِيلَ: يُكْرَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ» الْحَدِيثَ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لِمَنْعِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ غَيْرُ التَّعْلِيقِ مِمَّا هُوَ بِحَرْفِ الْقَسَمِ، وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَأَمَّا شَرْطُهَا فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ، وَحُكْمُهَا الَّذِي يَلْزَمُ بِوُجُودِهَا وُجُوبُ الْبِرِّ فِيمَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى طَاعَةٍ أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ فَيَثْبُتُ وُجُوبَانِ لِأَمْرَيْنِ الْفِعْلُ وَالْبِرُّ، وَوُجُوبُ الْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ عَلَى ضِدِّهِمَا أَوْ نَدْبُهُ فِيمَا إذَا كَانَ عَدَمُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ جَائِزًا وَسَيَأْتِي.

وَإِذَا حَنِثَ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الْحِنْثُ أَوْ يَحْرُمُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. (قَوْلُهُ: الْيَمِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: يَمِينُ الْغَمُوسِ)

ص: 59

وَيَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، وَيَمِينُ لَغْوٍ. (فَالْغَمُوسُ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيهِ، فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ فِيهَا صَاحِبُهَا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» (وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِرَفْعِ ذَنْبٍ هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا فَأَشْبَهَ الْمَعْقُودَةَ. وَلَنَا أَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ،

وَالْأَصَحُّ مِنْ النُّسَخِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ عَلَى الْوَصْفِ لَا الْإِضَافَةِ أَوْ يَمِينٌ غَمُوسٌ. وَأَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَإِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، وَمَا قِيلَ هُوَ كَعِلْمِ الطِّبِّ رُدَّ بِأَنَّهُ إضَافَةُ الْجِنْسِ إلَى نَوْعِهِ؛ لِأَنَّ الطِّبَّ نَوْعٌ لَا وَصْفٌ لِلْمُضَافِ وَمِثْلُ صَلَاةِ الْأُولَى مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَسُمِّيَتْ غَمُوسًا لِغَمْسِهَا صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ. (قَوْلُهُ: فَالْغَمُوسُ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ بِهِ) وَلَيْسَ هَذَا بِقَيْدٍ بَلْ الْحَلِفُ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا كَذَلِكَ كَوَاللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وَهُوَ يَعْلَمُ خِلَافَهُ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ ثَابِتٌ بِلَا شُبْهَةٍ.

وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إلَيْهِ مَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ مَصْبُورَةٍ كَاذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَالْمُرَادُ بِالْمَصْبُورَةِ الْمُلْزِمَةُ بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ: أَيْ الْمَحْبُوسُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مَصْبُورٌ عَلَيْهَا. (قَوْلُهُ: وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ) وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رضي الله عنهما (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِيهَا الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ) فِي الْأَصْلِ وَهِيَ الْمَعْقُودَةُ (لِرَفْعِ ذَنْبٍ هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَحَقَّقَ) فِي الْغَمُوسِ فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ وُجُوبُهَا. (وَلَنَا أَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ) لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ «قَالَ الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ

ص: 60

وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ مُبْتَدَإٍ، وَمَا فِي الْغَمُوسِ مُلَازِمٌ فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ.

النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» (وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ بِهَا) أَيْ بِمَا هُوَ كَبِيرَةٌ (بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ) بِأَنْ يَحْنَثَ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِ الْبِرِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ (فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ مُبْتَدَإٍ) غَيْرِ مُقَارِنٍ مُتَعَمِّدٍ بِنَفْسِ الْيَمِينِ كَمَا فِي الْغَمُوسِ فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ.

وَحَاصِلُ هَذَا إبْدَاءُ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُبَاحًا وَادِّعَاءُ كَوْنِهِ جُزْءَ الْمُؤَثِّرِ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِلْحُكْمِ وَقَدْ نُقِضَ بِالظِّهَارِ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُوجِبَ فِيهِ الْعَوْدُ لَا نَفْسُ الظِّهَارِ، قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَهُوَ مُبَاحٌ لِكَوْنِهِ إمْسَاكًا بِالْمَعْرُوفِ وَبِالْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ وَلَوْ بِخَمْرٍ أَوْ زِنًا. وَأُجِيبَ: الْكَفَّارَةُ بِاعْتِبَارِ الْفِطْرِ الْعَمْدِ الْمُشْتَهَى، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا كَبِيرَةٌ. وَلَخَّصَهُ آخَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ وَحَرَامٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَوَجَبَ الْحَدُّ بِالْأَوَّلِ وَالْكَفَّارَةُ بِالثَّانِي. وَنُقِضَ أَيْضًا بِقَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدًا عَمْدًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَيْنَ الْفِعْلِ لَيْسَ حَرَامًا؛ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمُ لَمْ يُحَرَّمْ وَإِنَّمَا حُرِّمَ بِإِحْرَامِهِ وَبِالْحُرُمِ لَا بِنَفْسِهِ، وَصَحَّحَ شَارِحٌ الْإِيرَادَ وَمَنَعَ نَفْيَ كَوْنِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ وَجَعَلَ الْمَذْكُورَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ خَبْطًا وَلَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعَ الْفَسَادِ فِيهَا، وَهُوَ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ هَذَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَ قَوْلِهِمْ الْمَعْصِيَةُ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ؛ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً بِمَا إذَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ.

وَمَرْجِعُهُ إلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ فِي الْفِعْلِ لِذَاتِهِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا كَأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، وَكَوْنُ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ مِنْهُ قَدْ يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ أَوْ عِبَادَةٌ إذْ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، وَهَذَا لَا يَسْقُطُ مِنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الْحَالِفِ غَمُوسًا، وَإِلَّا كَانَتْ كُفْرًا، وَإِنَّمَا رَوَّجَ بِهِ بَاطِلَهُ فَقُبْحُهَا لَيْسَ

ص: 61

(وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ وَإِذَا حَنِثَ فِي ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا

إلَّا بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِقَصْدِهِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْيَمِينِ مُوجِبٌ لِحُرْمَتِهَا فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا حُرِّمَ لِغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ حُرْمَةِ السَّبَبِ تَمْنَعُ مُنَاسَبَتَهَا لِلْعِبَادَةِ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ كَوْنِ الْحُرْمَةِ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ قِيلَ لَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْكَفَّارَةِ جَابِرَةً أَوْ سَاتِرَةً فِي ذَنْبٍ أَخَفَّ شَرْعِيَّتُهَا كَذَلِكَ فِي ذَنْبٍ أَعْظَمَ كَانَ أَوْجَهَ.

وَلِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا الْغَمُوسُ مَكْسُوبَةٌ بِالْقَلْبِ. وَالْمَكْسُوبَةُ يُؤَاخِذُ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَبَيَّنَ سبحانه وتعالى الْمُرَادَ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَفَّارَةُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ مُطْلَقًا فِي الْآخِرَةِ فَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمَكْسُوبَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا فِي الْمَعْقُودَةِ الْكَفَّارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، قَالُوا: الْغَمُوسُ دَاخِلَةٌ فِي الْمَعْقُودَةِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهَا بِالنَّصِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى زِيَادَةِ تَكَلُّفِ الْجَوَابِ مَعَ أَنَّهَا مَعْقُودَةٌ؛ لِأَنَّهَا رَبْطٌ فِي الشَّرْعِ لِلِاسْمِ الْعَظِيمِ بِمَعْنًى عَلَى وَجْهٍ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ مَنْعُهُ مِنْهُ، فَإِذَا حَنِثَ انْحَلَّتْ لِارْتِفَاعِ الْمَانِعِ وَالْحَامِلِ أَوْ لِتَوْكِيدِ صِدْقِهِ الظَّاهِرِ، فَإِذَا طَابَقَ الْخَبَرَ بِرٌّ وَانْحَلَّتْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بِالْحِنْثِ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ وَالْغَمُوسُ قَارَنَهَا مَا يَحِلُّهَا وَهُوَ مَا لَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا رَفَعَهَا وَحَلَّهَا فَلَمْ تَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَارَنَهَا مَنَعَ انْعِقَادَهَا كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ فِي النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَسِّ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُقَارِنْهَا؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا يَحِلُّهَا هُوَ انْعِدَامُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْحَالِ.

وَعَلَى هَذَا قِيلَ الْغَمُوسُ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الشَّرْعِيَّةَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيهَا، وَمَا قُطِعَ بِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ شَرْعًا يُقْطَعُ بِانْتِفَائِهِ شَرْعًا، وَتَسْمِيَتُهَا يَمِينًا مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الصُّورَةِ كَالْفَرَسِ لِلصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ أَوْ هُوَ مِنْ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. وَعَلَى أَحَدِهِمَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ» وَنَحْوُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْقُودَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ سِوَى الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ، وَكَوْنُ الْغَمُوسِ قَارَنَهَا الْحِنْثُ لَا يَنْفِي الِانْعِقَادَ عِنْدَهُ، وَكَوْنُهَا لَا تُسَمَّى يَمِينًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ لِلْبِرِّ بَعِيدٌ إذْ لَا شَكَّ فِي تَسْمِيَتِهَا يَمِينًا لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ التَّشْكِيكَ، فَلَيْسَ الْوَجْهُ إلَّا مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ شَرْعِيَّةَ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ ذَنْبٍ أَصْغَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ شَرْعُهَا لِرَفْعِ أَكْبَرَ، وَإِذَا أَدْخَلَهَا فِي مُسَمَّى الْمُنْعَقِدَةِ وَجَعَلَ الْمُنْعَقِدَةَ تَنْقَسِمُ إلَى غَمُوسٍ وَغَيْرِهَا عَسِرَ النَّظَرُ مَعَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لُغَةً أَوْ سُمِعَ.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ صَرَّحَ بِجَوْدَتِهِ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ قَالَ فِيهِ «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ عز وجل وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَالْيَمِينُ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» انْتَهَى. وَكُلُّ مَنْ قَالَ لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمَصْبُورَةِ عَلَى مَالٍ كَاذِبًا وَغَيْرِهَا، وَصَابِرَةٌ بِمَعْنَى مَصْبُورَةٍ كَعِيشَةِ رَاضِيَةٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَصْبُورَةَ الْمَقْضِيُّ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مَصْبُورٌ عَلَيْهَا: أَيْ مَحْبُوسٌ، وَالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَمِنْهُ قَتَلَهُ صَبْرًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي حَالِ تَصَرُّفِهِ وَدَفْعِهِ مُخْتَارًا عَنْ نَفْسِهِ.

(قَوْلُهُ: وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ، فَإِذَا حَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الْآيَةَ وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ مَا يَحْلِفُ مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى مَاضٍ صَادِقًا فِيهِ كَوَاللَّهِ لَقَدْ قَدِمَ زَيْدٌ أَمْسِ لَا تُسَمَّى مُنْعَقِدَةً، وَيَقْتَضِي أَنَّهَا إمَّا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ وَهُوَ بَعِيدٌ، أَوْ زِيَادَةُ أَقْسَامِ الْيَمِينِ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مُبْطِلٌ لِحَصْرِهِمْ السَّابِقِ، وَفِي كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ، فَإِنْ أَرَادَ لُغَةً فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ مَا لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ، وَفِي هَذَا الْيَمِينِ فَائِدَةُ

ص: 62

(وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذِهِ الْيَمِينُ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهِ صَاحِبَهَا) وَمِنْ اللَّغْوِ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ إنَّهُ لَزَيْدٌ وَهُوَ يَظُنُّهُ زَيْدًا وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} الْآيَةَ، إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ لِلِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِهِ. .

تَأْكِيدِ صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ عِنْدَ السَّامِعِ، وَإِنْ أَرَادَ دُخُولَهَا فِي اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِحَسَبِ الْإِرَادَةِ فَقَدْ فَسَّرَهُ السَّلَفُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْحِنْثُ لَا فِي مُطْلَقِ الْيَمِينِ.

(قَوْلُهُ: وَيَمِينُ اللَّغْوِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ) مِثْلَ وَاَللَّهِ لَقَدْ دَخَلْت الدَّارَ وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْت زَيْدًا وَنَحْوُهُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَفْعَالُ كَمَا ذَكَرْنَا وَالصِّفَاتُ. وَمِنْ الثَّانِي مَا فِي الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ حَلَّفَهُ السُّلْطَانُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِأَمْرِ كَذَا فَحَلَفَ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَرْجُو أَنْ لَا يَحْنَثَ (فَهَذِهِ الْيَمِينُ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا) وَإِنَّمَا قَيَّدَ مُحَمَّدٌ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالرَّجَاءِ مَعَ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ قَالَ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} لِلِاخْتِلَافِ فِي مَعْنَى اللَّغْوِ، فَفَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ بِمَا ذَكَرَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ يَمِينٍ صَدَرَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ، كَمَا قَالَ: لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ

ص: 63

قَالَ: (وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي سَوَاءٌ) حَتَّى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْيَمِينُ»

رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلًّا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ». وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ: لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَيَتْرُكُهَا لَاغِيًا بِيَمِينِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ. فَلَمَّا اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى اللَّغْوِ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ اللَّغْوَ بِالتَّفْسِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَكَذَا بِالثَّالِثِ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا فِي الدُّنْيَا بِالْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَتِمَّ الْعُذْرُ عَنْ التَّعْلِيقِ بِالرَّجَاءِ، فَالْأَوْجُهُ مَا قِيلَ إنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّعْلِيقَ بَلْ التَّبَرُّكَ بِاسْمِ اللَّهِ وَالتَّأَدُّبَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ:«وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» . وَأَمَّا التَّفْسِيرُ الرَّابِعُ فَغَيْرُ مَشْهُورٍ، وَكَوْنُهُ لَغْوًا هُوَ اخْتِيَارُ سَعِيدٍ.

(قَوْلُهُ: وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَالنَّاسِي) وَهُوَ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْيَمِينِ ذَاهِلًا عَنْهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْخَاطِئُ وَهُوَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ غَيْرِ الْحَلِفِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ، فَإِذَا حَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ.

(لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ») هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَبَعْضُهُمْ كَصَاحِبِ الْخُلَاصَةِ جَعَلَ مَكَانَ الْيَمِينِ الْعَتَاقَ، وَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ الْعَتَاقِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ طَلَّقَ وَهُوَ لَاعِبٌ فَطَلَاقُهُ جَائِزٌ، وَمَنْ أَعْتَقَ وَهُوَ لَاعِبٌ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ» وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ثَلَاثٌ لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ لَاعِبًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ مَوْقُوفًا أَنَّهُمَا قَالَا «ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا " أَرْبَعٌ " وَزَادَ " وَالنَّذْرُ " وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَمِينَ فِي مَعْنَى النَّذْرِ فَيُقَاسَ عَلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ جَعْلُ الْهَزْلَ بِالْيَمِينِ جِدًّا، وَالْهَازِلُ قَاصِدٌ لِلْيَمِينِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ رِضَاهُ بِهِ شَرْعًا بَعْدَ مُبَاشَرَتِهِ السَّبَبَ مُخْتَارًا، وَالنَّاسِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا أَصْلًا وَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعَ، وَكَذَا الْمُخْطِئُ لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ التَّلَفُّظَ بِهِ بَلْ بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ الْوَارِدُ فِي الْهَازِلِ وَارِدًا فِي النَّاسِي الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ نَصًّا وَلَا قِيَاسًا، وَإِذَا كَانَ اللَّغْوُ بِتَفْسِيرِهِمْ وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْيَمِينَ مَعَ ظَنِّ الْبِرِّ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْيَمِينِ، فَمَا

ص: 64

وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ، وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَهُوَ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ وَهُوَ الشَّرْطُ، وَكَذَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ مَغْمِيٌّ عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً، وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ فَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الذَّنْبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. .

لَمْ يَقْصِدْهُ أَصْلًا بَلْ هُوَ كَالنَّائِمِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ لَا حُكْمَ لَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حُكْمُ الْيَمِينِ. وَأَيْضًا فَتَفْسِيرُ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَنَّهُ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلًّا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ» ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ نَفْسُ التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ النَّاسِيَ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ كَذَلِكَ فِي بَيْتِهِ لَا يَقْصِدُ التَّكَلُّمَ بِهِ بَلْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ غَيْرُ مُرَادٍ لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ.

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إيَّاهُ كَانَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْهَازِلِ، فَحَمْلُ النَّاسِي عَلَى اللَّاغِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْهَازِلِ، وَهَذَا الَّذِي أُدِينُهُ وَتَقَدَّمَ لَنَا مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ فَلَا تَكُنْ غَافِلًا. (قَوْلُهُ: وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ) فَيَقُولُ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَلَا النَّاسِي وَلَا الْمُخْطِئِ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رضي الله عنهما فِي عَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِ الْمُكْرَهِ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَأَبِي أُمَامَةَ قَالَا: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ» ثُمَّ قَالَ عَنْبَسَةُ ضَعِيفٌ. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَلْ مَوْضُوعٌ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِمْ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَهُوَ سَوَاءٌ) فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ مُحْتَارًا. وَعَنْ كُلٍّ مِنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رِوَايَتَانِ يَحْنَثُ وَلَا يَحْنَثُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَقَدْ مَرَّ جَوَابُهُ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا (لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ وَهُوَ الشَّرْطُ) يَعْنِي بِالشَّرْطِ السَّبَبَ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ هُوَ السَّبَبُ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ حَقِيقَةَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ الْيَمِينُ وَالْحِنْثُ شَرْطٌ عَلَى مَا عُرِفَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوُجُوبَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ سَبَبًا كَانَ أَوْ شَرْطًا وَبِالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ لَمْ يَنْعَدِمْ وُجُودُهُ فَاسْتَعْقَبَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ. (وَكَذَا إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ) تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ

ص: 65

‌بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا

قَالَ: (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ) لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا مُتَعَارَفٌ، وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَصَلُحَ ذِكْرُهُ حَامِلًا وَمَانِعًا. .

فَيَخْرُجُهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ هُوَ إذَا أَفَاقَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ: أَيْ السَّبَبِ حَقِيقَةً. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ رَفْعَ الذَّنْبِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ الذَّنْبِ الْحَاصِلِ بِالْحِنْثِ، وَلَا ذَنْبَ عَلَى الْحَانِثِ إذَا كَانَ مَغْمِيًّا عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونًا. فَأَجَابَ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ لَا يَجِبُ حُصُولُهَا مَعَ شَرْعِ الْحُكْمِ دَائِمًا بَلْ تُنَاطُ بِمَظِنَّتِهَا وَهُوَ كَوْنُ شَرْعِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ يُحَصِّلُ مَصْلَحَةً أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا، كَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ شُرِعَ وُجُوبُهُ مَعَ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ يَحْصُلُ مَعَهُ دَفْعُ مَفْسَدَةِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ فَأُدِيرَ عَلَى نَفْسِ الشِّرَاءِ مَعَ الْقَبْضِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَهْمُ حَاصِلًا أَوْ لَا كَمَا فِي شِرَاءِ الْأَمَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الْبُلُوغِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ كَمَا فِي شِرَاءِ الْأَمَةِ الْبِكْرِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّوَهُّمَ حَاصِلٌ لِجَوَازِ حَبَلِ الْبِكْرِ وَمَمْلُوكَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا لِرَفْعِ الذَّنْبِ دَائِمًا مَمْنُوعٌ بَلْ لِتَوْفِيرِ تَعْظِيمِ الِاسْمِ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى أَمْرٍ ثُمَّ يَحْلِفُ عَنْهُ مَجَّانًا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ أَوْ يَنْدُبُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا)

(قَوْلُهُ: وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ) تُفِيدُ لَفْظَةُ آخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاَللَّهِ اللَّفْظُ فَتَأَمَّلْ، وَالِاسْمُ الْآخَرُ كَالرَّحْمَنِ

ص: 66

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَالرَّحِيمِ وَالْقَدِيرِ، وَمِنْهُ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَرَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَالْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخَرِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، وَإِذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ وَالطَّالِبُ الْغَالِبُ إنَّهُ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَفَ أَهْلُ بَغْدَادَ الْحَلِفَ بِهِ لَزِمَ. إمَّا اعْتِبَارُ الْعُرْفِ فِيمَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَمْ يُسْمَعْ بِخُصُوصِهِ بَلْ الْغَالِبُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} وَإِمَّا كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْمُفَصَّلِ فِي الْأَسْمَاءِ، وَيُفِيدُ قَوْلُهُ آخَرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ اسْمًا خَاصًّا، فَلَوْ قَالَ وَاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ عَامٌّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا، وَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ لَيْسَ بِيَمِينٍ. وَفِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةُ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَمِينٌ فَلْيُتَأَمَّلْ عِنْدَ الْفَتْوَى.

وَلَوْ قَالَ وَبِاسْمِ اللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ. وَقَوْلُهُ أَوْ بِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا قَيَّدَ فِي الصِّفَةِ فَقَطْ، فَأَفَادَ أَنَّ الْحَلِفَ بِالِاسْمِ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ بَلْ هُوَ يَمِينٌ تَعَارَفُوهُ أَوْ لَمْ يَتَعَارَفُوهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: كُلُّ اسْمٍ لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ كَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَكِيمِ وَالْعَلِيمِ وَالْقَادِرِ وَالْعَزِيزِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ فَلَيْسَ يَمِينًا، وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا لِلَّهِ سبحانه وتعالى وَلِغَيْرِهِ لَا يَتَعَيَّنُ إرَادَةُ أَحَدِهِمَا إلَّا بِالنِّيَّةِ.

وَأَمَّا الصِّفَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا اسْمُ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ ذَاتًا وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا بِهُوَ هُوَ كَالْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، بِخِلَافِ نَحْوِ الْعَظِيمِ فَقَيَّدَهُ بِكَوْنِ الْحَلِفِ بِهَا مُتَعَارَفًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ أَوْ الذَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي قَوْلِهِمْ: وَأَمَانَةُ اللَّهِ أَنَّهُ يَمِينٌ، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ لَا أَدْرِي؛ لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَحْلِفُونَ بِهِ فَحَكَمَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ.

وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى وَاَللَّهِ الْأَمِينِ، فَالْمُرَادُ الْأَمَانَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا لَفْظَةُ الْأَمِينِ كَعِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ ضِمْنُ الْعَزِيزِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَعَدَمُ كَوْنِ وَعِلْمِ اللَّهِ وَغَضَبَهُ وَسَخَطَهُ وَرَحْمَتِهِ يَمِينًا لِعَدَمِ التَّعَارُفِ، وَيَزْدَادُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ. فَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ فِي تَبْصِرَةِ الْأَدِلَّةِ: إنَّ الْحَلِفَ بِالْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ مَشْرُوعٌ إنْ كَانَ مُرَادُهُ الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ بِهِ فَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ عَلَى مُحَاذَاةِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ فِي الْأَسْمَاءِ: إنَّ مَا كَانَ بِحَيْثُ يُسَمَّى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى وَغَيْرُهُ إنْ أَرَادَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَمِينًا وَإِلَّا لَا، فَجَعَلَ مِثْلَهُ فِي الصِّفَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ إنْ أُرِيدَ صِفَتُهُ الْقَائِمَةِ بِهِ فَهُوَ يَمِينٌ وَإِلَّا لَا. لَا يُقَالُ: مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَجْرِيَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ مِثْلُهُ، إنْ أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةَ كَانَ يَمِينًا أَوْ الْمَقْدُورُ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِالْمَصْدَرِ الْمَفْعُولَ أَوْ الْمَصْدَرَ وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ أَثَرِ قُدْرَتِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَيْسَ الْمَذْهَبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يُتَعَارَفْ الْحَلِفُ بِهِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ الْحَلِفُ بِهَا مُتَعَارَفٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَلِفِ بِلَا تَفْصِيلٍ فِي الْإِرَادَةِ. وَلِمَشَايِخِ الْعِرَاقِ تَفْصِيلٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ الذَّاتِ يَكُونُ يَمِينًا أَوْ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَصِفَاتُ الذَّاتِ مَا يُوصَفُ سُبْحَانَهُ بِهَا وَلَا يُوصَفُ بِأَضْدَادِهَا كَالْقُدْرَةِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ.

وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا وَبِأَضْدَادِهَا كَالرَّحْمَةِ وَالرِّضَا لِوَصْفِهِ سُبْحَانَهُ بِالْغَضَبِ وَالسَّخَطِ. وَقَالُوا: ذِكْرُ صِفَاتِ الذَّاتِ كَذِكْرِ الذَّاتِ، وَذِكْرُ صِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَ كَالذَّاتِ. قِيلَ يَقْصِدُونَ بِهَذَا الْفَرْقِ الْإِشَارَةَ إلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ غَيْرُ اللَّهِ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَيْرَ هُوَ مَا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُ بِزَمَانٍ أَوْ بِمَكَانٍ أَوْ بِوُجُودٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْتَنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْعُرْفِ وَعَدَمِهِ، بَلْ صِفَةُ الذَّاتِ مُطْلَقًا

ص: 67

قَالَ (إلَّا قَوْلَهُ وَعِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ. وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ، يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَك فِينَا: أَيْ مَعْلُومَك (وَلَوْ)(قَالَ وَغَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا) وَكَذَا وَرَحْمَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ؛ وَلِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا أَثَرُهُ، وَهُوَ الْمَطَرُ أَوْ الْجَنَّةُ وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ يُرَادُ بِهِمَا الْعُقُوبَةُ

يُحْلَفُ بِهَا تُعُورِفَ أَوْ لَا، وَصِفَةُ الْفِعْلِ لَا يُحْلَفُ بِهَا وَلَوْ تُعُورِفَ، وَعَلَى هَذَا فَيَلْزَمُ أَنَّ سَمْعَ اللَّهِ وَبَصَرَهُ وَعِلْمَهُ يَكُونُ يَمِينًا عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ الْحَلِفُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَسْمَاءُ الَّتِي لَا يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ كَرَبِّ الْعَالَمِينَ وَالرَّحْمَنِ وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا أَوَّلَ الْبَابِ يَكُونُ الْحَلِفُ بِهَا يَمِينًا بِكُلِّ حَالٍ، وَكَذَا الصِّفَاتُ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ صِفَاتِهِ كَعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَكَلَامِهِ فَيَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا حَاجَةَ إلَى عُرْفٍ فِيهَا، بِخِلَافِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى كَالْحَيِّ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَرِيمِ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعُرْفُ أَوْ نِيَّةُ الْحَالِفِ، وَكَذَا مَا يَكُونُ مِنْ صِفَتِهِ تَعَالَى كَعِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَقْدُورِ وَالْمَعْلُومِ اتِّسَاعًا. كَمَا يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَك فِينَا، وَكَذَا صِفَاتُ الْفِعْلِ كَخَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، فَفِي هَذِهِ يَجْرِي التَّعْلِيلُ بِالتَّعَارُفِ وَعَدَمِهِ، وَوَجْهُ اللَّهِ يَمِينٌ إلَّا إنْ أَرَادَ الْجَارِحَةَ.

(قَوْلُهُ إلَّا قَوْلُهُ وَعِلْمُ اللَّهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لَكِنْ قَيَّدَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا عُرْفًا فَيَقْتَضِي أَنَّ عِلْمَهُ مِمَّا يُحْلَفُ بِهِ عُرْفًا فَيَتَنَاوَلُهُ الصَّدْرُ فَأَخْرَجَهُ مِنْ حُكْمِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي لَفْظِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فَكَانَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. وَأَوْرَدَ عَلَى تَعْلِيلِهِ الثَّانِي الْقُدْرَةَ فَإِنَّهَا تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْمَقْدُورُ. وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ الْمَقْدُورَ بِالْوُجُودِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَلَمْ يَحْتَمِلْ إرَادَتُهُ بِالْحَلِفِ. وَقِيلَ الْوُجُودُ مَعْدُومٌ وَلَا تَعَارُفَ بِالْحَلِفِ بِالْمَعْدُومِ فَلَمْ يَكْفِ الْمُرَادُ بِالْحَلِفِ بِالْقُدْرَةِ إلَّا الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ بِذَاتِهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ الْعِلْمِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَعْلُومُ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْمَعْلُومُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالْوُجُودِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا تَصِحَّ إرَادَةُ الْمَقْدُورِ بَعْدَ الْوُجُودِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. إمَّا وُقُوعًا فَقَالُوا اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ قَطْعًا إلَّا الْمَوْجُودَ. وَإِمَّا تَحْقِيقًا فَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ فِي الْمَقْدُورِ إذَا كَانَ مَجَازًا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ مَقْدُورٌ بَعْدَ الْوُجُودِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فَيَكُونَ لَفْظُ قُدْرَةٍ فِي الْمَقْدُورِ بَعْدَ الْوُجُودِ مَجَازًا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ.

نَعَمْ الْحَقُّ أَنْ لَا مَوْقِعَ لِلتَّعْلِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ تَفْرِيعَ كَوْنِ الْحَلِفِ بِالْعِلْمِ لَيْسَ يَمِينًا لَيْسَ إلَّا عَلَى قَوْلِ مُعْتَبَرِي الْعُرْفِ وَعَدَمِهِ فِي الْيَمِينِ، فَالتَّعْلِيلُ لَيْسَ إلَّا بِنَفْيِ التَّعَارُفِ فِيهِ، وَأَمَّا لَوْ فَرَّعَ عَلَى الْقَوْلِ الْمُفَصَّلِ بَيْنَ صِفَةِ الذَّاتِ وَغَيْرِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِأَنَّهُ يُرَادُ بِالصِّفَةِ الْمَفْعُولُ

ص: 68

(وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» (وَكَذَا إذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ، أَمَّا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا كُفْرٌ. .

قَالَ (وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ، وَحُرُوفُ الْقَسَمِ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالْبَاءُ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَالتَّاءُ كَقَوْلِهِ تَاللَّهِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي الْأَيْمَانِ وَمَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ

عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَلَا مَوْقِعَ لِلتَّعْلِيلِ بِهِ.

(قَوْلُهُ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ») مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ (وَكَذَا إذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ. قَالَ (وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ) أَمَّا إذَا حَلَفَ بِذَلِكَ بِأَنْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ النَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ كَانَ يَمِينًا؛ لِأَنَّ التَّبَرُّؤَ مِنْهُمَا كُفْرٌ فَيَكُونُ فِي كُلِّ مِنْهُمَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَذَا إذَا قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ يَكُونُ يَمِينًا عِنْدَنَا، وَكَذَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ فَعَلَ كَذَا. وَبِحُرْمَةِ شَهِدَ اللَّهُ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَيْسَ يَمِينًا. وَلَوْ رَفَعَ كِتَابَ فِقْهٍ أَوْ حِسَابٍ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ فَقَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا فِيهِ إنْ فَعَلَ فَفَعَلَ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ الْآنَ مُتَعَارَفٌ فَيَكُونُ يَمِينًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَتَعْلِيلُ عَدَمِ كَوْنِهِ يَمِينًا بِأَنَّهُ غَيْرُهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ وَغَيْرُ الْمَخْلُوقِ هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ مُنِعَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُنَزَّلَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفُ الْمُنْقَضِيَةُ الْمُنْعَدِمَةُ وَمَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ إذَا قِيلَ لَهُمْ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ تَعَدَّوْا إلَى الْكَلَامِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الْحَلِفُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ أَنْ يَدُورَ مَعَ الْعُرْفِ. وَأَمَّا الْحَلِفُ بجان سرتو وَمِثْلُهُ الْحَلِفُ بِحَيَاةِ رَأْسِك وَرَأْسِ السُّلْطَانِ فَذَلِكَ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْبِرَّ وَاجِبٌ فِيهِ يَكْفُرُ. وَفِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى قَالَ عَلِيُّ الرَّازِيّ: أَخَافُ عَلَى مَنْ قَالَ بِحَيَاتِي وَحَيَاتِك أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْعَامَّةَ يَقُولُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ لَقُلْت إنَّهُ شِرْكٌ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا.

(قَوْلُهُ: وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ إلَى قَوْلِهِ وَمَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ) قَالَ تَعَالَى {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وَقَالَ تَعَالَى

ص: 69

(وَقَدْ يُضْمِرُ الْحَرْفَ فَيَكُونُ حَالِفًا كَقَوْلِهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا) لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إيجَازًا، ثُمَّ قِيلَ يُنْصَبُ لِانْتِزَاعِ الْحَرْفِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ يُخْفَضُ فَتَكُونُ الْكِسْرَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ فِي الْمُخْتَارِ لِأَنَّ الْبَاءَ تُبَدَّلُ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {آمَنْتُمْ لَهُ} . أَيْ آمَنْتُمْ بِهِ

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} الْآيَةَ. وَمَثَّلَ لِلْبَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَفِيهِ احْتِمَالُ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ {لا تُشْرِكْ} ثُمَّ قَالُوا الْبَاءُ هِيَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهَا صِلَةُ الْحَلِفِ، وَالْأَصْلُ أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ وَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ تُلْصِقُ فِعْلَ الْقَسَمِ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ. ثُمَّ حُذِفَ الْفِعْلُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ مَعَ فَهْمِ الْمَقْصُودِ، وَلِأَصَالَتِهَا دَخَلَتْ فِي الْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ نَحْوُ بِك لَأَفْعَلَنَّ.

ثُمَّ الْوَاوُ بَدَلٌ مِنْهَا لِمُنَاسَبَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ وَهِيَ مَا فِي الْإِلْصَاقِ مِنْ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْوَاوِ فَلِكَوْنِهَا بَدَلًا انْحَطَّتْ عَنْهَا بِدَرَجَةٍ فَدَخَلَتْ عَلَى الْمُظْهَرِ لَا الْمُضْمَرِ وَالتَّاءُ بَدَلٌ عَنْ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ أُبْدِلَتْ كَثِيرًا مِنْهَا كَمَا فِي تُجَاهٍ وَتُخَمَةِ وَتُرَاثٍ فَانْحَطَّتْ دَرَجَتَيْنِ فَلَمْ تَدْخُلْ مِنْ الْمُظْهَرِ إلَّا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً، وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ تَرَبِّي وَتَرَبِّ الْكَعْبَةِ لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ وَكَذَا تَحِيَّاتِكَ. [فَرْعٌ]. قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْمُخْتَارُ لَيْسَ يَمِينًا لِعَدَمِ التَّعَارُفِ، وَعَلَى هَذَا بِالْوَاوِ إلَّا أَنَّ نَصَارَى دِيَارِنَا تَعَارَفُوهُ فَيَقُولُونَ وَاسْمِ اللَّهِ.

(قَوْلُهُ: وَقَدْ يُضْمَرُ الْحَرْفُ فَيَكُونُ حَالِفًا كَقَوْلِهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا؛ لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ) يُرِيدُ بِالْحَذْفِ الْإِضْمَارَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِضْمَارَ يَبْقَى أَثَرُهُ بِخِلَافِ الْحَذْفِ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ النَّصْبِ الْحَرْفُ مَحْذُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ. وَفِي حَالَةِ الْجَرِّ مُضْمَرًا لِظُهُورِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْجَرُّ فِي الِاسْمِ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ يُنْصَبُ لِانْتِزَاعِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ يُخْفَضُ فَتَكُونُ الْكَسْرَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَحْذُوفِ ظَاهِرٌ فِي نَقْلِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ تَبَعٌ لِلْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: النَّصْبُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْخَفْضُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّهُمَا وَجْهَانِ سَائِغَانِ لِلْعَرَبِ لَيْسَ أَحَدٌ يُنْكِرُ أَحَدَهُمَا لِيَتَأَتَّى الْخِلَافُ. وَحُكِيَ الرَّفْعُ أَيْضًا نَحْوُ اللَّهُ لَا أَفْعَلَنَّ عَلَى إضْمَارِ مُبْتَدَإٍ، وَالْأَوْلَى كَوْنُهُ عَلَى إضْمَارِ خَبَرٍ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الْكَرِيمَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالتَّقْدِيرُ اللَّهُ قَسَمِي أَوْ قَسَمِي اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ، غَيْرَ أَنَّ النَّصْبَ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ.

وَقَوْلُهُ فِي النَّصْبِ؛ لِانْتِزَاعِ الْخَافِضِ خِلَافُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ بِفِعْلِ الْقَسَمِ لَمَّا حُذِفَ الْحَرْفُ اتَّصَلَ الْفِعْلُ بِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ عِنْدَ انْتِزَاعِ الْخَافِضِ: أَيْ بِالْفِعْلِ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الْجَرُّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِالْحَرْفِ الْمُضْمَرِ. وَهُوَ قَلِيلٌ شَاذٌّ فِي غَيْرِ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ:

إذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَبِيلَةً

أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالْأَكُفِّ الْأَصَابِعُ

أَيْ إلَى كُلَيْبٍ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لِلَّهِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ تُبْدَلُ بِهَا) أَيْ بِاللَّامِ قَالَ تَعَالَى {آمَنْتُمْ لَهُ} {آمَنْتُمْ بِهِ} وَالْقِصَّةُ

ص: 70

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيَتُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْحَقِّ وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ. وَلَهُمَا أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ، قَالُوا: وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُنَكَّرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ.

وَاحِدَةٌ.

أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تُبَدَّلُ بِهَا بِمَعْنَى أَنْ تُوضَعَ مَكَانَهَا دَالَّةً عَلَى عَيْنِ مَدْلُولِهَا، وَفِي الْآيَتَيْنِ الْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {آمَنْتُمْ لَهُ} أَيْ صَدَقْتُمُوهُ وَانْقَدْتُمْ إلَيْهِ طَاعَةً {آمَنْتُمْ بِهِ} لَا يُفِيدُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ، وَلَوْ سَلَّمَ فَكَوْنُهَا وَقَعَتْ صِلَةَ فِعْلٍ خَاصٍّ كَذَلِكَ وَهُوَ آمَنْتُمْ لَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ فِعْلٍ؛ لِجَوَازِ كَوْنِ مَعْنَى ذَلِكَ الْفِعْلِ يَتَأَتَّى مَعْنَاهُمَا فِيهِ بِخِلَافِهِ فِي الْقَسَمِ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ اللَّامُ إلَّا فِي قَسَمٍ مُتَضَمِّنٍ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسِ: دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ. وَكَقَوْلِهِمْ: لِلَّهِ لَا يُؤَخَّرُ الْأَجَلُ، فَاسْتِعْمَالُهَا قَسَمًا مُجَرَّدًا عَنْهُ لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ إلَّا أَنْ يُتَعَارَفَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ فِي الْمُخْتَارِ احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُكَلِّمَ فُلَانًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لِلنَّذْرِ وَتَحْتَمِلُ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ فَائِدَةَ هَذَا الِاحْتِرَازِ؛ لِأَنَّ لَفْظًا فِي الْمُخْتَارِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا كُلِّهَا فَكَانَ الْوَاقِعُ لَهُمْ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ.

هَذَا وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْيَمِينِ بَيْنَ أَنْ يُعْرِبَ الْمُقْسِمَ بِهِ خَطَأً أَوْ صَوَابًا أَوْ يُسَكِّنَهُ خِلَافًا لِمَا فِي الْمُحِيطِ فِيمَا إذَا أَسْكَنَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ مَعْقُودًا بِمَا أُرِيدَ مَنْعُهُ أَوْ فِعْلُهُ ثَابِتٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خُصُوصِيَّةٍ فِي اللَّفْظِ. (قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا قَالَ وَحَقُّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) وَعَنْهُ أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنْ يَكُونَ يَمِينًا) يَعْنِي إذَا أُطْلِقَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ عُدَّ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، قَالَ تَعَالَى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} (وَهُوَ حَقِيَتُهُ) أَيْ كَوْنُهُ تَعَالَى ثَابِتُ الذَّاتِ مَوْجُودُهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ الْحَقِّ (وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ) فَوَجَبَ كَوْنُهُ يَمِينًا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: يَعْنِي فِي عَدَمِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ انْصَرَفَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى الْيَمِينِ فَانْصَرَفَ الْحَقُّ إلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ فَصَارَ كَقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى (قَوْلُهُ: وَلَهُمَا أَنَّهُ) أَيْ حَقَّ اللَّهِ (يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ إذْ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ) وَصَارَ ذَلِكَ مُتَبَادَرًا شَرْعًا وَعُرْفًا حَتَّى كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَيْثُ لَا يُتَبَادَرُ سِوَاهُ إذْ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْطِرُ مِنْ ذِكْرِهِ وُجُودُهُ وَثُبُوتُ ذَاتِهِ، وَالْحَلِفُ بِالطَّاعَاتِ حَلِفٌ بِغَيْرِهِ وَغَيْرِ صِفَتِهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَالْمَعْدُودُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هُوَ الْحَقُّ الْمَقْرُونُ بِاللَّامِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ تَرْجِيحُ بَعْضِهِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ بِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ، وَبِهِ حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ.

وَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ يَمِينًا لِلتَّعَارُفِ فَبِحَقِّ اللَّهِ كَذَلِكَ لِلتَّعَارُفِ. فَإِنَّ التَّعَارُفَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ كَوْنِ الصِّفَةِ مُشْتَرَكَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَةِ غَيْرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ حَقٍّ لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مَا هُوَ صِفَةُ اللَّهِ بَلْ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِهِ فَصَارَ نَفْسَ وُجُودِهِ وَنَحْوُهُ كَالْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ.

، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الطَّاعَاتُ بِقَوْلِ السَّائِلِ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «مَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» إلَى آخَرِهِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الشَّارِحِينَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ صِلَتَهُ بِلَفْظِ عَلَى الْعِبَادِ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ أَنَّهُ غَيْرُ وُجُودِهِ وَصِفَتِهِ. وَالْكَلَامُ فِي لَفْظِ حَقٍّ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِخُصُوصِهِ، فَلَيْسَ الْوَجْهُ إلَّا مَا ذَكَرْنَا (قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ. كَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَاعْتَرَضَهُ

ص: 71

(وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَهُوَ حَالِفٌ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْحَلِفِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً وَتُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةٍ فَجُعِلَ حَالِفًا فِي الْحَالِ، وَالشَّهَادَةُ يَمِينٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ثُمَّ قَالَ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وَالْحَلِفُ بِاَللَّهِ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَشْرُوعُ وَبِغَيْرِهِ مَحْظُورٌ فَصُرِفَ إلَيْهِ. وَلِهَذَا قِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ. وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ.

شَارِحٌ بِأَنَّ الْحَقَّ بِالتَّعْرِيفِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} فَكَيْفَ يَكُونُ يَمِينًا بِلَا خِلَافٍ، لَكِنَّ جَوَابَهُ أَنَّهُ إنْ نَوَى الْيَمِينَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا. انْتَهَى.

وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ اسْمًا لَهُ تَعَالَى لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ النِّيَّةُ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمُقَابِلُ لِلْمُخْتَارِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْمُفَصِّلِ بَيْنَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَمِينَ وَأَنْ لَا يُرِيدَ فَالْحَقُّ يَتَبَادَرُ مِنْهُ ذَاتُهُ تَعَالَى، فَصَارَ غَيْرُهُ مَهْجُورًا لَا بِدَلِيلٍ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ أَبِي نَصْرٍ إنْ نَوَى بِالْحَقِّ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَلْزَمُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ مِنْ الشَّارِحِينَ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إجْمَاعَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ. وَلَوْ قَالَ حَقًّا بِأَنْ قَالَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أُعْطِيَك كَذَا وَنَحْوَهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فَيَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ، وَالْمُنَكَّرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ إسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِ، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ أَنَّهُ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ كَالْحَقِّ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْمُنَكَّرَ لَيْسَ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ مَا قَالَ الْبَلْخِيّ: إنَّ قَوْلَهُ بِحَقِّ اللَّهِ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَحْلِفُونَ بِهِ، وَضَعْفُهُ لِمَا عَلِمْت أَنَّهُ مِثْلُ وَحَقُّ اللَّهِ بِالْإِضَافَةِ وَعَلِمْت الْمُغَايَرَةَ فِيهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ يَمِينًا فَكَذَا بِحَقِّ اللَّهِ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ إلَخْ) إذَا حَلَفَ بِلَفْظِ الْقَسَمِ فَإِمَّا بِلَفْظِ الْمَاضِيَ أَوْ الْمُضَارِعَ وَكُلُّ مِنْهُمَا إمَّا مَوْصُولٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى

ص: 72

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَوْ بِصِفَتِهِ أَوْ لَا، فَإِذَا كَانَ مَاضِيًا مَوْصُولًا بِالِاسْمِ مِثْلَ حَلَفْت بِاَللَّهِ أَوْ أَقْسَمْت أَوْ شَهِدْت بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ وَكَذَا عَزَمْت بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ فَهُوَ يَمِينٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا كَانَ مُضَارِعًا مِثْلَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ إلَخْ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلَ وَعْدًا. وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَمَجَازٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِتْقِ لِلْمُصَنِّفِ، وَلِهَذَا لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا بِقَرِينَةِ السِّينِ وَنَحْوِهِ فَوَجَبَ صَرْفُهُ إلَى حَقِيقَتِهِ. وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِأَنَّ فِي الْعُرْفِ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ لِلْعِلْمِ بِأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ الْوَعْدَ بِالشَّهَادَةِ، وَكَذَا قَوْلُ الشَّاهِدِ أَشْهَدُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ عُرْفًا فَجَازَ أَنْ يُقَالَ هِيَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَالِ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ كَالتَّقْيِيدِ بِلَفْظِ الْآنَ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى فِيهَا مِثْلَ أَحْلِفُ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ أَوْ حَلَفْت فَعِنْدَنَا هُوَ يَمِينٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَقَالَ زُفَرُ: إنْ نَوَى يَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا لَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِيَمِينٍ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا نَوَى فِي قَوْلِهِ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ إلَخْ يَكُونُ يَمِينًا، وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَا. وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ أُقْسِمُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِاَللَّهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَكَذَا يَحْتَمِلُ الْعِدَّةَ وَالْإِنْشَاءَ لِلْحَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ يَمِينًا كَذَا قِيلَ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ لِقَوْلِ الْقَائِلِ إنْ نَوَى كَانَ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا. وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ، وَمِنْ أَنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَشْرُوعُ وَبِغَيْرِهِ مَحْظُورٌ فَصُرِفَ إلَيْهِ: أَيْ إلَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَلِهَذَا قِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ: أَيْ لِاحْتِمَالِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِاحْتِمَالِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ حَكَى الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ هَذَا الْخِلَافَ صَرِيحًا فِي الْمَذْهَبِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْمُقْسَمَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ: يَعْنِي إذَا نَوَى الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا. أَمَّا إذَا نَوَى غَيْرَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَكُونَ حَالِفًا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ شَرْعًا فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ لَا الْحَالِفِ حِينَئِذٍ. وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَبْطٌ فِي مَوْضِعَيْنِ أَشَدُّهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ تَوَهُّمُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أُقْسِمُ أَوْ أَحْلِفُ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ وَلَا حِنْثَ إذْ أَوْرَدَ السُّؤَالَ الْقَائِلَ: الْيَمِينُ مَا كَانَ حَامِلًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ مُوجِبًا لِلْبِرِّ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ. فَقَوْلُهُ أُقْسِمُ هَاهُنَا لَيْسَ مُوجِبًا شَيْئًا مِنْ الْبِرِّ بِمُجَرَّدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ يَمِينًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ يَمِينًا؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ

ص: 73

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لِسَتْرِ ذَنْبٍ هَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ، وَلَيْسَ فِي أُقْسِمُ مُجَرَّدًا هَتْكٌ، فَكَيْفَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ قَوْلَهُ أُقْسِمُ أُلْحِقَ بِقَوْلِهِ عَلَى يَمِينٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ: لَوْ قَالَ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَفِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ عَلَيَّ يَمِينٌ لَا كَفَّارَةَ لَهَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ نَفَى الْكَفَّارَةَ صَرِيحًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ لَا يُفِيدُ قَوْلُهُ: لَا كَفَّارَةَ لَهَا: ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ لِلْإِيجَابِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا إقْرَارًا عَنْ مُوجِبِ الْيَمِينِ وَمُوجِبُهَا الْبِرُّ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَالْكَفَّارَةُ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُ الْبِرِّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ يَمِينَهُ عَلَى شَيْءٍ فَكَانَ إقْرَارًا عَنْ الْمُوجِبِ الْآخَرِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ، وَبِالْإِقْرَارِ يَجِبُ الْحَدُّ فَكَذَا الْكَفَّارَةُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ نَذْرٌ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا. فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ وَعَلَيَّ نَذْرٌ كَانَ فِي قَوْلِهِ أُقْسِمُ عِنْدَ قِرَانِ النِّيَّةِ بِالْقَسَمِ كَذَا؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْحَالُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ.

ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ أُقْسِمُ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى وُجُوبِ الْبِرِّ ابْتِدَاءً وَلَا إلَى تَصَوُّرِ هَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ وَقَدْ شُنِّعَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْيَمِينَ بِذِكْرِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ مَعْنَاهُ إذَا وُجِدَ ذِكْرُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَنُقِضَتْ الْيَمِينُ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تُرِكَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَخْفَى هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَاَللَّهِ أَوْ لَا، فَإِمَّا أَنَّ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ فَلَا خَفَاءَ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ أَوْ بِاَللَّهِ أَوْ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّتُهُ أَوْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ أَوْ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ أَوْ مَا أَفَادَ عَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ كُلُّهَا أَيْمَانٌ، وَإِذَا حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا فَحَنِثَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.

وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهَا هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، وَأَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَتَاللَّهِ وَحَكَمَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا أَنَّهُ يَمِينٌ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ أَوْ قَوْلِهِ هُوَ يَهُودِيٌّ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، بَلْ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ الْحِنْثِ فِي كُلٍّ مِنْهَا لِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ كَمَا سَمِعْت قَوْلَهُ وَإِذَا حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا فَحَنِثَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلِأَنَّ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إلَّا إنْ كَانَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي أَنْ يَقُولَ: أَقْسَمْت عِنْدَ الْقَاضِي بَلْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ كَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِقَوْلِهِ إنْ كُنْت صَادِقًا فَعَلَيْك الْكَفَّارَةُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَهُوَ الْإِنْشَاءُ، وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ لَا الْإِخْبَارِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْتَزَمَ الْكَفَّارَةَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ ابْتِدَاءً كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ مِنْ صِيَغِ النَّذْرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَغَا، بِخِلَافِ أَحْلِفُ وَأَشْهَدُ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَتْ مِنْ صِيَغِ النَّذْرِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِالْتِزَامُ ابْتِدَاءً.

وَالْمَوْضِعُ الْآخَرُ اسْتِدْلَالُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ يَمِينٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} وقَوْله تَعَالَى {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ قَوْلَهُ أَقْسَمُوا إخْبَارٌ عَنْ وُجُودِ قَسَمٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَسَمَ كَانَ قَوْلُهُمْ نُقْسِمُ لَنَصْرِمُنَّهَا، فَإِنَّهُمْ لَوْ قَالُوا وَاَللَّهِ لَنَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا، وَمِثْلُهُ فِي {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} لَا يَلْزَمُ كَوْنُ حَلِفِهِمْ كَانَ بِلَفْظِ الْحَلِفِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ لَفْظِ الْحَلِفِ بِلَا ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ «الَّذِي رَأَى

ص: 74

(وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند ميخورم بخداي يَكُونُ يَمِينًا)؛ لِأَنَّهُ لِلْحَالِ. وَلَوْ قَالَ سوكند خورم قِيلَ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند خورم بِطَلَاقِ زنم لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ.

قَالَ: (وَكَذَا قَوْلُهُ لَعَمْرُ اللَّهِ وَأَيْمُ اللَّهِ) لِأَنَّ عَمْرُ اللَّهِ بَقَاءُ اللَّهِ، وَأَيْمُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ وَأَيْمُ صِلَةٌ كَالْوَاوِ، وَالْحَلِفُ بِاللَّفْظَيْنِ مُتَعَارَفٌ.

(وَكَذَا قَوْلُهُ وَعَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ) لِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} وَالْمِيثَاقُ عِبَارَةٌ عَنْ

رُؤْيَا فَقَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ائْذَنْ لِي فَلْأَعْبُرْهَا فَأَذِنَ لَهُ فَعَبَرَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَصَبْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتَ، فَقَالَ أَقْسَمْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُخْبِرُنِّي، قَالَ لَا تُقْسِمْ» هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظٍ آخَرَ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكندمي خورم بخداي يَكُونُ يَمِينًا)؛ لِأَنَّهُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَحْلِفُ الْآنَ بِاَللَّهِ، وَلَوْ قَالَ سوكند خورم قِيلَ لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ، وَلَوْ قَالَ سوكند خورم بِطَلَاقِ زنم: يَعْنِي أَحْلِفُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِي لَا يَكُونُ يَمِينًا لِعَدَمِ التَّعَارُفِ فِي الطَّلَاقِ كَذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَكَذَا قَوْلُهُ: لَعَمْرُ اللَّهِ وَأَيْمُ اللَّهِ) يَعْنِي يَكُونُ حَالِفًا كَمَا هُوَ حَالِفٌ فِي أُقْسِمُ بِاَللَّهِ وَأَخَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ عَمْرُ اللَّهِ بَقَاؤُهُ، وَفِيهِ ضَمُّ الْعَيْنِ وَفَتْحُهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ الْمَضْمُومِ فِي الْقَسَمِ وَلَا يَلْحَقُ الْمَفْتُوحَةَ الْوَاوُ فِي الْخَطِّ، بِخِلَافِ عَمْرِو الْعَلَمِ فَإِنَّهَا أُلْحِقَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمْرٍ، وَالْبَقَاءُ مِنْ صِفَةِ الذَّاتِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَاعِدَتِهِ وَهُوَ أَنْ يُوصَفَ بِهِ لَا بِضِدِّهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَبَقَاءُ اللَّهِ كَقُدْرَةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ اللَّامُ رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَحُذِفَ الْخَبَرُ: أَيْ لَعَمْرُ اللَّهِ قَسَمِي، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْهُ اللَّامُ نُصِبَ نَصْبَ الْمَصَادِرِ فَتَقُولُ عَمْرُ اللَّهِ مَا فَعَلْت وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ كَمَا فِي اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: عَمَرَكَ اللَّهُ مَا فَعَلْت فَمَعْنَاهُ بِإِقْرَارِك لَهُ بِالْبَقَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَقِدَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ إقْرَارُهُ وَاعْتِقَادُهُ، وَأَمَّا أَيْمُ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ فَخُفِّفَ بِالْحَذْفِ حَتَّى صَارَ أَيْمَ اللَّهِ ثُمَّ خَفِّفْ أَيْضًا فَقِيلَ: مُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَيَكُونُ مِيمًا وَاحِدَةً، وَبِهَذَا نَفَى سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ لَا يَبْقَى عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ مُنُ اللَّهِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالنُّونِ وَفَتْحِهِمَا وَكَسْرِهِمَا وَهَمْزَةُ أَيْمَنَ بِالْقَطْعِ، وَإِنَّمَا وُصِلَتْ فِي الْوَصْلِ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ اُجْتُلِبَتْ لِيُمَكَّنَ بِهَا كَالرَّمَلِ كَهَمْزَةِ ابْنٍ وَامْرِئٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ السَّاكِنَةِ الْأَوَائِلِ، وَإِنَّمَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهِمَا مُتَعَارَفٌ، قَالَ تَعَالَى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ إمَارَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إمَارَتِهِ «إنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَاَيْمُ اللَّهِ إنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ» الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ.

(قَوْلُهُ: وَكَذَا قَوْلُهُ وَعَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ) يَعْنِي إذَا أُطْلِقَ عِنْدَنَا، وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ

ص: 75

الْعَهْدِ

(وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»

يَحْتَمِلُ الْعِبَادَاتِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِغَيْرِ النِّيَّةِ وقَوْله تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ} لَا يُفِيدُ أَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ لِجَوَازِ كَوْنِهِمَا شَيْئَيْنِ: الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ بِأَيِّ مَعْنًى فُرِضَ النَّقْضُ فَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى أَنَّهَا عَيْنٌ لَا يَتِمُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ لَا يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ بِإِخْلَافِ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ إلَّا لَوْ ثَبَتَ فِي مَكَان آخَرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ كَذَلِكَ. قُلْنَا: إنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ لَمَّا جَعَلُوا الْمُرَادَ بِالْأَيْمَانِ هِيَ الْعُهُودُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا أَوْ مَا هُوَ فِي ضِمْنِهَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ إيَّاهَا يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلِفًا بِصِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَكَمَ بِأَنَّ أَشْهَدُ يَمِينًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ، وَأَيْضًا غَلَبَ الِاسْتِعْمَالُ لَهُمَا فِي مَعْنَى الْيَمِينِ فَيُصْرَفَانِ إلَيْهِ فَلَا يَصْرِفُهُمَا عَنْهُ إلَّا نِيَّةُ عَدَمِهِ.

فَالْحَالَاتُ ثَلَاثَةٌ: إذَا نَوَى الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَنْوِ يَمِينًا وَلَا غَيْرَهُ فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ الْيَمِينِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا الذِّمَّةُ وَالْأَمَانَةُ كَأَنْ يَقُولَ: وَذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ وَأَمَانَةُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى كَوْنِهَا يَمِينًا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا يَقُولُ إذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ عَلَى أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّمَا يَمِينٌ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، وَالْمِيثَاقُ بِمَعْنَى الْعَهْدِ وَكَذَا الذِّمَّةُ. وَلِهَذَا يُسَمَّى الذِّمِّيُّ مُعَاهَدًا، وَالْأَمَانَةُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. فَعِنْدَنَا وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ هُوَ يَمِينٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا فُسِّرَتْ بِالْعِبَادَاتِ. قُلْنَا: غَلَبَ إرَادَةُ الْيَمِينِ بِهَا إذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ حَرْفِ الْقَسَمِ فَوَجَبَ عَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى النِّيَّةِ لِلْعَادَةِ الْغَالِبَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا» فَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ كَوْنِهِ يَمِينًا. وَالْوَجْهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْحَلِفِ بِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْحِنْثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَأَمَانَتُهُ وَمِيثَاقُهُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَنَا وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَلَوْ حَنِثَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ يَجِبُ عَلَيْهِ بِكُلِّ لَفْظٍ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ يَمِينٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِنَا إذَا كَرَّرَ الْوَاوَ، كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا قَصَدَ بِكُلِّ لَفْظٍ يَمِينًا تَعَدَّدَتْ الْأَيْمَانُ وَإِلَّا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ لِلتَّوْكِيدِ فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. قُلْنَا: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمُغَايَرَةِ.

(قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ عَلَيَّ نَذْرُ اللَّهِ) يَعْنِي يَكُونُ يَمِينًا إذَا ذَكَرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذَرَ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى إذَا لَمْ يَفِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، هَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ بِهَذَا النَّذْرِ الْمُطْلَقِ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ كَحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ، فَإِنْ كَانَ نَوَى بِقَوْلِهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ فَعَلَتْ كَذَا قُرْبَةً مَقْصُودَةً يَصِحُّ النَّذْرُ بِهَا فَفَعَلَ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الْقُرْبَةُ. قَالَ الْحَاكِمُ: وَإِنْ حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَإِنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَذْر نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يُوجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةَ مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْمُطْلَقِ فِي اللَّفْظِ قُرْبَةً مُعَيَّنَةً كَانَتْ كَالْمُسَمَّاةِ؛ لِأَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ الْحَدِيثُ إلَى مَا لَا نِيَّةَ مَعَهُ مِنْ لَفْظِ النَّذْرِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ لَمْ تَجْعَلْهُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَحْلُوفٍ عَلَيْهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ فَيَكُونُ هَذَا الْتِزَامَ الْكَفَّارَةِ ابْتِدَاءً بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَأَمَّا إذَا ذَكَرَ صِيغَةَ النَّذْرِ بِأَنْ

ص: 76

(وَإِنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيُّ أَوْ نَصْرَانِيُّ أَوْ كَافِرٌ تَكُونُ يَمِينًا)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ عَلَمًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا تَقُولُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ.

وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ عَقَدَ فِعْلَهُ فَهُوَ الْغَمُوسُ، وَلَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَقِيلَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزُ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِيهِمَا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ يَكْفُرُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ

يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا صَلَاةً رَكْعَتَيْنِ مَثَلًا أَوْ صَوْمَ يَوْمٍ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ أَوْ مُعَلَّقًا بِهِ أَوْ ذَكَرَ لَفْظَ النَّذْرِ مُسَمًّى مَعَهُ الْمَنْذُورَ مِثْلَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ صَوْمِ يَوْمَيْنِ مُعَلِّقًا أَوْ مُنَجِّزًا فَسَيَأْتِي فِي فَصْلِ الْكَفَّارَةِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ صِيغَةِ النَّذْرِ وَلَفْظِ النَّذْرِ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَكُونُ يَمِينًا) فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ بِالنَّصِّ، وَذَلِكَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ثُمَّ قَالَ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وَوَجْهُ الْإِلْحَاقِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ وَهُوَ فِعْلُ كَذَا عَلَمًا عَلَى كُفْرِهِ، وَمُعْتَقَدُهُ حُرْمَةُ كُفْرِهِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ: أَيْ الشَّرْطَ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي فِعْلَ كَذَا كَدُخُولِ الدَّارِ. وَلَوْ قَالَ دُخُولُ الدَّارِ مَثَلًا عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ يَمِينًا فَكَانَ تَعْلِيقُ الْكُفْرِ وَنَحْوِهِ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ يَمِينًا إذَا عَرَفَ هَذَا، فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ كَأَنْ قَالَ إنْ كُنْت فَعَلْت كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ فَهِيَ يَمِينُ الْغَمُوسِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا التَّوْبَةُ، وَهَلْ يَكْفُرُ حَتَّى تَكُونَ التَّوْبَةُ اللَّازِمَةُ عَلَيْهِ التَّوْبَةَ مِنْ الْكُفْرِ وَتَجْدِيدَ الْإِسْلَامِ؟. قِيلَ لَا، وَقِيلَ نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ ابْتِدَاءً هُوَ كَافِرٌ.

ص: 77

(وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَلِفٍ) لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ (وَكَذَا إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا زَانٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ آكُلُ رِبًا)؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ غَمُوسًا لَا يَكْفُرُ، وَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ يَكْفُرُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ كُفْرَهُ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَكْفُرُ إذَا فَعَلَهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ» فَهَذَا يَتَرَاءَى أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَهُ يَمِينًا أَوْ كُفْرًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يَحْلِفُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ لَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا لُزُومَ الْكُفْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ، فَإِنْ تَمَّ هَذَا، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ شَاهِدٌ لِمَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِكُفْرِهِ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُهُ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ) أَيْ لَا يَلْزَمُ سَبَبِيَّةُ الشَّرْطِ لَهُ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الدُّعَاءِ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ فَكَأَنَّهُ عِنْدَ الشَّرْطِ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْمَدْعُوِّ بَلْ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ (وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، وَكَذَا إنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ زَانٍ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَارِبُ خَمْرًا أَوْ آكِلُ رِبًا) لَا يَكُونُ يَمِينًا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ أَنْ يُعَلِّقَ مَا يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ عَنْ الْفِعْلِ بِسَبَبِ لُزُومِ وُجُودِهِ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْفِعْلِ يَصِيرُ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ كَذَلِكَ إلَّا بِفِعْلٍ مُسْتَأْنَفٍ يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ، وَوُجُودُ هَذَا الْفِعْلِ لَيْسَ لَازِمًا؛ لِوُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ مُوجِبًا امْتِنَاعَهُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، بِخِلَافِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ بِالرِّضَا بِهِ يَكْفُرُ عَنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى عَمَلٍ آخَرَ أَوْ اعْتِقَادٍ، وَالرِّضَا يَتَحَقَّقُ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ فَيُوجِبُ عِنْدَهُ الْكُفْرَ لَوْلَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْكَفَّارَةِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ. أَمَّا الْخَمْرُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا السَّرِقَةُ فَعِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ بِالسَّيْفِ عَلَى الزِّنَا وَحُرْمَةُ الِاسْمِ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَلَمْ تَكُنْ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الِاسْمِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحُرْمَةِ تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ أَوْ لَا تَحْتَمِلُهُ لَا أَثَرَ لَهُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ فَهُوَ يَمِينٌ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُبَاحَ يُحْتَمَلُ تَحْرِيمُهُ لِلِارْتِفَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَلَا مَعْنَى لِزِيَادَةِ كَلَامٍ لَا دَخْلَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ أَنْ يُقَالَ إنْ فَعَلْت فَأَنَا زَانٍ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا.

ص: 78

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فُرُوعٌ: فِي تَعَدُّدِ الْيَمِينِ وَوَحْدَتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ] إذَا عَدَّدَ مَا يَحْلِفُ بِهِ بِلَا وَاوٍ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ أَوْ عَدَمِ اخْتِلَافِهِ فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ كَأَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَوْ يَقُولَ وَاَللَّهِ اللَّهِ، إلَّا أَنَّ تَعْلِيلَ هَذَا بِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ مُؤَوَّلٌ، وَكَذَا بِلَا اخْتِلَافٍ مَعَ الْوَاوِ نَحْوَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ أَوْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ كَانَ بِوَاوٍ فِي الِاخْتِلَافِ نَحْوَ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ تَعَدَّدَتْ الْيَمِينُ بِتَعَدُّدِهَا، وَكَذَا بِوَاوَيْنِ مَعَ الِاتِّحَادِ نَحْوُ وَاَللَّهِ وَوَاللَّهِ فَيَتَفَرَّعُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَوَاللَّهِ وَالرَّحْمَنِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، أَوْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَبَرِيءٌ مِنْ رَسُولِهِ فَيَمِينَانِ حَتَّى لَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَبَرِيءٌ مِنْ رَسُولِهِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَيْمَانٍ، فَيَلْزَمُهُ لِفِعْلِ مَا سَمَّاهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ، هَذَا كُلُّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَلِفَةِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْوَاوَ الْكَائِنَةَ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ لِلْقَسَمِ لَا لِلْعَطْفِ، وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَوْ قَالَ بِوَاوَيْنِ كَوَاللَّهِ وَوَالرَّحْمَنِ فَكَفَّارَتَانِ فِي قَوْلِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي غَيْرِ الْمُخْتَلِفَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ نَحْوَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ مُطْلَقًا هَذَا قَبْلَ ذِكْرِ الْجَوَابِ. أَمَّا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ثُمَّ أَعَادَهُ بِعَيْنِهِ فَكَفَّارَتَانِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَقَرُبَهَا مَرَّةً لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ. وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّهُ إنْ نَوَى بِالثَّانِي الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ صَدَقَ دِيَانَةً، وَهِيَ عِبَارَةٌ مُتَسَاهَلٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُرِيدَ بِالثَّانِي تَكْرَارَ الْأَوَّلِ وَتَأْكِيدَهُ، اخْتَارَ هَذَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: فَإِنْ نَوَى بِهِ الْمُبَالَغَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْإِيلَاءِ فِي التَّجْرِيدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ وَالْمَجْلِسُ وَالْمَجَالِسُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَلَوْ قَالَ عَنَيْت بِالثَّانِي الْأَوَّلَ لَمْ يَسْتَقِمْ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ سبحانه وتعالى وَلَوْ حَلَفَ بِحِجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ يَسْتَقِيمُ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا رَوَى الْحَسَنُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ نُسْخَةِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ فِي أَيْمَانِ الْأَصْلِ: إذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ثُمَّ حَلَفَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ أَبَدًا ثُمَّ فَعَلَهُ إنْ نَوَى يَمِينًا مُبْتَدَأَةً أَوْ التَّشْدِيدَ أَوْ لَمْ يَنْوِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينَيْنِ، أَمَّا إذَا نَوَى بِالثَّانِي الْأَوَّلَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَقَدَّمْنَا فِي الْإِيلَاءِ: لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ شَهْرًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ سَنَةً إنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ سَاعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ يَمِينُ الْيَوْمِ وَيَمِينُ الشَّهْرِ وَيَمِينُ السَّنَةِ، فَعَلَيْهِ إذَا كَلَّمَهُ بَعْدَ سَاعَةٍ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْيَوْمِ انْحَلَّتْ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِ فَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ يَمِينَانِ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ شَهْرٍ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ سَنَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعُرِفَ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ. وَمَا فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَيَمِينَانِ، يُفِيدُ أَنَّ فِي مِثْلِهِ تَعَدُّدَ الْيَمِينِ مَنُوطٌ بِتَكَرُّرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ تَكَرُّرِ الِالْتِزَامِ بِالْكُفْرِ، وَلَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ وَبَرِيءٌ مِنْ الْإِنْجِيلِ وَبَرِيءٌ مِنْ الزَّبُورِ وَبَرِيءٌ مِنْ الْفُرْقَانِ فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَيْمَانٍ، وَلَوْ قَالَ هُوَ شَرِيكُ الْيَهُودِيِّ فَهُوَ كَقَوْلِهِ يَهُودِيٌّ وَلَوْ قَالَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا: يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ إنْ أَرَادَ عَنْ فَرْضِيَّتِهَا يَكُونُ يَمِينًا أَوْ عَنْ أَجْرِهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَالِاحْتِيَاطُ هُوَ يَمِينٌ، وَلَوْ قَالَ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّيْتهَا وَحَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ مِنْ

ص: 79

(فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ)

قَالَ (كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عِتْقُ رَقَبَةٍ يُجْزِي فِيهَا مَا يُجْزِي فِي الظِّهَارِ وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ وَاحِدٍ ثَوْبًا فَمَا زَادَ، وَأَدْنَاهُ مَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ)

الْقُرْآنِ الَّذِي تَعَلَّمْت. وَاخْتُلِفَ فِي بَرِيءٍ مِنْ الشَّفَاعَةِ. وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ.

وَلَوْ قَالَ دَخَلْت الدَّارَ أَمْسِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ دَخَلْتهَا فَقَالَ نَعَمْ فَهُوَ حَالِفٌ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ لِآخَرَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَعَبْدُك حُرٌّ فَقَالَ نَعَمْ إلَّا بِإِذْنِك فَهَذَا إنْ كَلَّمَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ اللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا فَقَالَ الْآخَرُ نَعَمْ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُبْتَدِئُ الْحَلِفَ وَكَذَا الْمُجِيبُ فَهُمَا حَالِفَانِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ إنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمُجِيبُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ جَوَابٌ وَهُوَ يَسْتَدْعِي إعَادَةَ مَا فِي السُّؤَالِ فَكَأَنَّهُ قَالَ نَعَمْ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَإِنْ نَوَى الْمُبْتَدِئُ الِاسْتِحْلَافَ وَالْمُجِيبُ الْحَلِفَ فَالْمُجِيبُ هُوَ الْحَالِفُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كُلٌّ مِنْهُمَا شَيْئًا فَالْحَالِفُ هُوَ الْمُجِيبُ فِي قَوْلِهِ اللَّهِ وَفِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ بِالْوَاوِ فَالْحَالِفُ هُوَ الْمُبْتَدِئُ.

وَإِنْ أَرَادَ الْمُبْتَدِئُ الِاسْتِحْلَافَ فَأَرَادَ الْمُجِيبُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ يَمِينٌ. وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: نَعَمْ وَعْدًا بِلَا يَمِينٍ فَهُوَ كَمَا نَوَى وَلَا يَمِينَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ قَالَ بِاَللَّهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ لِمَدْيُونِهِ إنْ لَمْ تَقْضِ دَيْنِي غَدًا فَامْرَأَتُك طَالِقٌ فَقَالَ الْمَدْيُونُ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ قُلْ نَعَمْ فَقَالَ نَعَمْ، وَأَرَادَ جَوَابَهُ يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ ثَانِيًا فَتَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ وَإِنْ دَخَلَ بَيْنَهُمَا انْقِطَاعٌ. فِي الْفَتَاوَى وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: فَقَالَ لِآخَرَ وَاَللَّهِ لَا أَجِيءُ إلَى ضِيَافَتِك فَقَالَ الْآخَرُ وَلَا تَجِيءُ إلَى ضِيَافَتِي فَقَالَ نَعَمْ يَصِيرُ حَالِفًا ثَانِيًا.

(فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ)

الْكَفَّارَةُ فَعَّالَةٌ مِنْ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ وَبِهِ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا قَالَ:

فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا

وَتَكَفَّرَ بِثَوْبِهِ اشْتَمَلَ بِهِ وَإِضَافَتُهَا إلَى الْيَمِينِ فِي قَوْلِنَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ إضَافَةٌ إلَى الشَّرْطِ مَجَازًا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إضَافَةٌ إلَى السَّبَبِ فَالْيَمِينُ هُوَ السَّبَبُ وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ (قَوْلُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عِتْقُ رَقَبَةٍ) أَيْ إعْتَاقُهَا لَا نَفْسُ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَرِثَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ فَنَوَى عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ (وَيُجْزِي فِيهَا مَا يُجْزِي فِي الظِّهَارِ) وَتَقَدَّمَ الْمُجْزِئُ فِي الظِّهَارِ مِنْ أَنَّهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرَةُ، وَلَا يُجَزِّئُ فَائِتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَتُجْزِي الْعَوْرَاءُ لَا الْعَمْيَاءُ وَمَقْطُوعُ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَإِحْدَى الرِّجْلَيْنِ مِنْ خِلَافٍ، وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعُهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَفِي الْأَصَمِّ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ إذَا صِيحَ عَلَيْهِ يَسْمَعُ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفِيقُ، وَفِيمَنْ يُفِيقُ وَيُجَنُّ يَجُوزُ، وَلَا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُمَا لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْحُرِّيَّةَ نَقَصَ الرِّقُّ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الَّذِي أَدَّى بَعْضَ شَيْءٍ لِأَنَّهُ كَالْمَعْتُوقِ بِعِوَضٍ (وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ وَاحِدٍ ثَوْبًا فَمَا زَادَ) يَعْنِي إنْ كَسَا ثَوْبَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَهُوَ أَفْضَلُ (وَأَدْنَاهُ مَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ) كَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ

ص: 80

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الْآيَةَ، وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخَيُّرِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ.

قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُخَيَّرُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ. وَلَنَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ.

أَوْ شَعِيرٍ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ وَنِصْفُهُ مِنْ بُرٍّ.

وَبِإِسْنَادِهِ إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ. وَبِسَنَدِهِ إلَى الْحَسَنِ رضي الله عنه قَالَ: يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ. وَبِإِسْنَادِهِ إلَى مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ كَفَّارَةٍ فِي الْقُرْآنِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَلَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ وَفِيهِمْ فَطِيمٌ أَوْ فَوْقُهُ سِنًّا لَمْ يَجُزْ عَنْ إطْعَامِ مِسْكِينٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ بِخُبْزٍ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ بُرًّا لَا يُشْتَرَطُ الْإِدَامُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَبِإِدَامٍ.

وَيَجُوزُ فِي الْإِطْعَامِ كُلٌّ مِنْ التَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ وَتَقَدَّمَ (وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَكَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ) وَلِلْعَبْدِ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ أَيُّهَا شَاءَ. وَيَتَعَيَّنُ الْوَاجِبُ عَيْنًا بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَدَخَلَ فِيمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ كَفَّارَةُ يَمِينِهِ إلَّا بِالصَّوْمِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا لَا يُجْزِيهِ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَالْمُسْتَسْعَى، وَلَوْ صَامَ الْعَبْدُ فَيُعْتَقُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ وَلَوْ بِسَاعَةٍ فَأَصَابَ مَالًا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ) مِنْ الْإِعْتَاقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ (كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُخَيَّرُ) بَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ (لِإِطْلَاقِ النَّصِّ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ شَرَطَ التَّتَابُعَ كَقَوْلِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ (وَلَنَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ) لِشُهْرَتِهَا عَلَى مَا قِيلَ إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ يَجُوزُ تَقْيِيدُ النَّصِّ الْقَاطِعِ بِهِ فَيُقَيَّدُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: الشَّافِعِيُّ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكُمْ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنْ كَانَا فِي حَادِثَيْنِ وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَهُ فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ إنَّكُمْ جَرَيْتُمْ عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ هُنَا وَتَرَكْتُمُوهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي قَوْلِهِ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» وَقَوْلُهُ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . أُجِيبَ عَنَّا بِأَنَا إنَّمَا نَحْمِلُ فِي الْحَادِثَةِ الْوَاحِدَةِ لِلضَّرُورَةِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مَطْلُوبًا بِقَيْدٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُطْلَقِ، وَبِقَيْدِ إطْلَاقِهِ لِلتَّنَافِي بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا بِقَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَا يُجْزِي التَّفْرِيقُ وَالثَّانِي يَقْتَضِي جَوَازَهُ مُفَرَّقًا كَجَوَازِهِ مُتَتَابِعًا، وَإِذَا وَجَبَ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ لَزِمَهُ انْتِفَاءُ الثَّانِي فَلَزِمَ الْحَمْلُ ضَرُورَةً، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِوُرُودِ النَّصَّيْنِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي الْأَسْبَابِ، وَلَا مُنَافَاةَ فِي الْأَسْبَابِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ سَبَبًا، وَهَذَا كَلَامٌ مُحْتَاجٌ إلَى تَحْقِيقٍ.

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَمْلَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا إلَّا لَوْ قُلْنَا بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْ الْمُطْلَقِ أَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. وَالْحَاصِلُ مِنْ الْمُقَيَّدِ أَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ سَبَبٌ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِ لَيْسَ سَبَبًا لِفَرْضِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فَيَتَعَارَضَانِ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِ، فَإِذَا فُرِضَ تَقْدِيمُ الْمَفْهُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ انْتِفَاءُ سَبَبِيَّةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَلَزِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُسْلِمَ فَقَطْ هُوَ السَّبَبُ وَهُوَ الْحَمْلُ ضَرُورَةً لَكِنَّا لَمْ نَقُلْ بِهِ فَبَقِيَ مُقْتَضَى الْمُطْلَقِ بِلَا مُعَارِضٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ وَغَيْرَهُ

ص: 81

ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ أَدْنَى الْكِسْوَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَدْنَاهُ مَا يَسْتُرُ عَامَّةَ بَدَنِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ السَّرَاوِيلَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ لَابِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا فِي الْعُرْفِ، لَكِنَّ مَا لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ يُجْزِيه عَنْ الطَّعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ.

سَبَبٌ.

وَأَجَابُوا عَمَّا لَزِمَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ تَجَاذَبَهَا أَصْلَانِ فِي التَّتَابُعِ وَعَدَمِهِ، فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ يُوجِبُ التَّتَابُعَ، وَحَمْلُهُ عَلَى صَوْمِ الْمُتْعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ دَمٌ جُبِرَ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ فَتُرِكَ الْحَمْلُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لِلتَّعَارُضِ وَعُمِلَ بِإِطْلَاقِ نَصِّ الْكَفَّارَةِ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِسْوَةِ فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْمَبْسُوطِ أَوْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ (فِي بَيَانِ أَدْنَى الْكِسْوَةِ) الْمُسْقِطَةِ لِلْوَاجِبِ مِنْ أَنَّهُ مَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ (مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ) رحمه الله فَيُجْزِيهِ دَفْعُ السَّرَاوِيلِ، وَعَنْهُ تَقْيِيدُهُ بِالرَّجُلِ، فَإِنْ أَعْطَى السَّرَاوِيلَ امْرَأَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَلَاتُهَا فِيهِ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنَّ أَدْنَاهُ مَا يَسْتُرُ عَامَّةَ بَدَنِهِ، وَلَا يَجُوزُ السَّرَاوِيلُ عَلَى هَذَا وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ لَابِسَ السَّرَاوِيلِ يُسَمَّى عُرْيَانًا عُرْفًا) فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصًا أَوْ جُبَّةً أَوْ رِدَاءً أَوْ قَبَاءً أَوْ إزَارًا سَابِلًا بِحَيْثُ الْمُقْسَمُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةُ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِلَّا فَهُوَ كَالسَّرَاوِيلِ، وَلَا تُجْزِئُ الْعِمَامَةُ إلَّا إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا ثَوْبٌ مُجْزِئٌ مِمَّا ذَكَرْنَا جَازَ.

وَأَمَّا الْقَلَنْسُوَةُ فَلَا تُجْزِئُ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْمَقْسَمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إذَا قَدِمَ وَفْدٌ عَلَى الْأَمِيرِ وَأَعْطَاهُمْ قَلَنْسُوَةً قِيلَ قَدْ كَسَاهُمْ قِيلَ قَدْ كَسَاهُمْ فَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: لَا يُجْزِي أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَرِدَاءٍ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ثَوْبَانِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هَذَا كُلُّهُ إذَا دَفَعَ إلَى الرَّجُلِ، أَمَّا إذَا دَفَعَ إلَى الْمَرْأَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ خِمَارٍ مَعَ الثَّوْبِ لِأَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَصِحُّ دُونَهُ، وَهَذَا يُشَابِهُ الرِّوَايَةَ الَّتِي عَنْ مُحَمَّدٍ فِي دَفْعِ السَّرَاوِيلِ أَنَّهُ لِلْمَرْأَةِ لَا يَكْفِي، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْجَوَابِ، وَإِنَّمَا ظَاهِرُ الْجَوَابِ مَا يَثْبُتُ بِهِ اسْمُ الْمُكْتَسِي وَيَنْتَفِي عَنْهُ اسْمُ الْعُرْيَانِ، وَعَلَيْهِ بُنِيَ عَدَمُ إجْزَاءِ السَّرَاوِيلِ لَا صِحَّةُ الصَّلَاةِ وَعَدَمُهَا فَإِنَّهُ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالْكِسْوَةِ، إذْ لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا جَعْلُ الْفَقِيرِ مُكْتَسِيًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ لَابِسَةً قَمِيصًا سَابِلًا وَإِزَارًا وَخِمَارًا غَطَّى رَأْسَهَا وَأُذُنَيْهَا دُونَ عُنُقِهَا لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ اسْمِ أَنَّهَا مُكْتَسِيَةٌ لَا عُرْيَانَةٌ، وَمَعَ هَذَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهَا فَالْعِبْرَةُ لِثُبُوتِ ذَلِكَ الِاسْمِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ أَوْ لَا، ثُمَّ اعْتِبَارُ الْفَقْرِ وَالْغِنَى عِنْدَنَا عِنْدَ إرَادَةِ التَّكْفِيرِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ الْحِنْثِ، فَلَوْ كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ الْحِنْثِ ثُمَّ أَعْسَرَ عِنْدَ التَّكْفِيرِ أَجُزْأَهُ الصَّوْمُ عِنْدَنَا وَبِعَكْسِهِ لَا يُجْزِيهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَلْبِ قَاسَهُ عَلَى الْحَدِّ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتَ الْوُجُوبِ لِلتَّنْصِيفِ بِالرِّقِّ.

وَقُلْنَا: الصَّوْمُ خَلَفٌ عَنْ الْمَالِ كَالتَّيَمُّمِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ، أَمَّا حَدُّ الْعَبْدِ فَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ حَدِّ الْحُرِّ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ لَكِنَّ مَا لَا يُجْزِيهِ إلَخْ) يَعْنِي لَوْ أَعْطَى الْفَقِيرَ ثَوْبًا لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ الْوَاقِعَةِ كَفَّارَةً بِطَرِيقِ الْكِسْوَةِ مِثْلَ السَّرَاوِيلِ عَلَى الْمُخْتَارِ أَوْ نِصْفِ ثَوْبٍ مُجْزِئٌ وَقِيمَتُهُ تَبْلُغُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَجْزَأَهُ عَنْ إطْعَامِ فَقِيرٍ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَا إذَا أَعْطَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ثَوْبًا كَبِيرًا لَا يَكْفِي كُلَّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ مِنْهُ لِلْكِسْوَةِ،

ص: 82

(وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِيهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ

وَتَبْلُغُ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ قِيمَةَ مَا ذَكَرْنَا أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ بِالْإِطْعَامِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلْإِجْزَاءِ عَنْ الْإِطْعَامِ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ عَنْ الْإِطْعَامِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ عَنْ الْإِطْعَامِ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِيهِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ. وَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فَإِذَا لَمْ يَنْوِ عَنْ الْإِطْعَامِ لَا يَقَعُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَ الْمُكَفِّرَ بَيْنَ خِصَالٍ ثَلَاثٍ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهَا صَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ ابْتِدَاءً وَتَنَحَّى الْآخَرَانِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فَصَحِيحٌ وَبِهِ نَقُولُ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» دَلِيلُهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ الْمُؤَدِّي طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً إلَى كَوْنِهِ كَفَّارَةً إلَّا بِنِيَّةٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ وَالتَّكْفِيرَ بِالْكِسْوَةِ مَثَلًا فَمَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَ التَّكْفِيرُ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كُلٌّ مِنْهَا مُتَعَلَّقُ الْوَاجِبِ وَهُوَ فِعْلُ الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْوَاجِبِ، فَإِذَا دَفَعَ أَحَدَهَا نَاوِيًا الِامْتِثَالَ فَقَدْ تَمَّ الْوَاجِبُ سَوَاءٌ كَانَ يَصِحُّ إطْعَامًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ تَوَقَّفَ السُّقُوطُ عَلَى أَنْ يَنْوِيَ بِدَفْعِ أَحَدِهَا أَنَّهُ عَنْ الْآخَرِ إذَا لَمْ يَكْفِ لِنَفْسِهِ لَزِمَ أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ خَصْلَةٍ فِي نَفْسِهَا فَيَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ فِي الْإِطْعَامِ أَنَّهُ إطْعَامٌ وَفِي دَفْعِ الثَّوْبِ أَنَّهُ كِسْوَةٌ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، بَلْ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ نِيَّةُ الِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ إذَا كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْإِسْقَاطِ بِوَجْهٍ وَقَدْ نَوَى الْإِسْقَاطَ فَانْصَرَفَ إلَى مَا بِهِ الْإِسْقَاطُ فَظَهَرَ ضَعْفُ كَلَامِ الْمُعْتَرِضِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مُخْتَارًا لِلْكِسْوَةِ إذَا دَفَعَ مَا لَا يَسْتَقِيمُ كِسْوَةً مَمْنُوعٌ، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ تَمْرٍ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ بُرٍّ لَا يُجْزِي عَنْهُ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ جِنْسَ الْكَفَّارَةِ فِي التَّمْرِ وَالْبُرِّ مُتَّحِدٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَهُوَ سَدُّ حَاجَةِ الْبَطْنِ مِنْ التَّغَذِّي فَلَا يُدْفَعُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَالْقَمْحِ عَنْ الشَّعِيرِ. بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ مَعَ الْإِطْعَامِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِدَفْعِ حَاجَتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ دَفْعِ حَاجَةِ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَدَفْعِ حَاجَةِ التَّغَذِّي فَجَازَ جَعْلُ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمَوْرِدِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَوْ دَفَعَ ثَوْبًا صَغِيرًا نَفِيسًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ثَوْبَ كِرْبَاسَ يُجْزِي عَنْ الْكِسْوَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْزِيَهُ عَنْ الْكِسْوَةِ بَلْ عَنْ الْإِطْعَامِ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْزِيهِ بِالْمَالِ) دُونَ الصَّوْمِ (لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ) وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي النَّصِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} وَأَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ يَقُولُونَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَا يَقُولُونَ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ، وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ سَبَبِيَّةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِلْمُضَافِ الْوَاقِعِ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ مُتَعَلِّقُهُ.

كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ، وَإِذَا ثَبَتَ سَبَبِيَّتُهُ جَازَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ شَرْطٌ. وَالتَّقْدِيمُ عَلَى الشَّرْطِ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ ثَابِتٌ شَرْعًا، كَمَا جَازَ فِي الزَّكَاةِ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ بَعْدَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ النِّصَابِ، وَكَمَا فِي تَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجَرْحِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالسَّرَايَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَفْتَرِقَ الْمَالُ وَالصَّوْمُ وَهُوَ قَوْلُهُ الْقَدِيمُ، وَفِي الْجَدِيدِ لَا يُقَدَّمُ الصَّوْمُ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْوَقْتِ: يَعْنِي أَنَّ تَقَدُّمَ الْوَاجِبِ بَعْدَ السَّبَبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يُعْرَفْ شَرْعًا إلَّا فِي الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ

ص: 83

فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجَرْحِ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا، وَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِأَنَّهُ مَانِعٌ غَيْرُ مُفْضٍ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ.

فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ مُطْلَقًا صَوْمًا كَانَ أَوْ مَالًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى التَّقْدِيمِ كَمَا سَيُذْكَرُ (وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ) مِنْ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ قَالَ الْقَائِلُ:

فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا

وَبِهِ سُمِّيَ الزَّارِعُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْبَذْرَ فِي الْأَرْضِ (وَلَا جِنَايَةَ) قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِهِ لَا بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، وَلِذَا أَقْدَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ عَلَى الْأَيْمَانِ وَكَوْنُ الْحِنْثِ جِنَايَةً مُطْلَقًا لَيْسَ وَاقِعًا إذْ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْكَلَامَ مَخْرَجَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ إخْلَافِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ الْحِنْثُ سَوَاءٌ كَانَ بِهِ مَعْصِيَةٌ أَوْ لَا، وَالْمَدَارُ تَوْفِيرُ مَا يَجِبُ لِاسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السَّبَبَ الْحِنْثُ، وَالْيَمِينَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ وَالْيَمِينُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ عَدَمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْضِيًا إلَيْهِ. نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ تَحَقُّقُهُ اتِّفَاقًا لَا عَنْ الْيَمِينِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ نَفْسَ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِيهِ نَفْسُ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ فَإِنَّهُ مُفْضٍ إلَى التَّلَفِ فَلَزِمَ أَنَّ الْإِضَافَةَ الْمَذْكُورَةَ إضَافَةٌ إلَى الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الشَّرْطِ جَائِزَةٌ وَثَابِتَةٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ.

عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْحِنْثَ شَرْطُ الْوُجُوبِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ قَبْلَهُ وَإِلَّا وَجَبَتْ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ، وَالْمَشْرُوطُ لَا يُوجَدُ قَبْلَ شَرْطِهِ فَلَا يَقَعُ التَّكْفِيرُ وَاجِبًا قَبْلَهُ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَلَا عِنْدَ ثُبُوتِهِ بِفِعْلٍ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، فَهَذَا مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَقَعَ الشَّرْعُ عَلَى خِلَافِهِ فِي الزَّكَاةِ وَالْجُرْحِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهِ فَلَا يُلْحَقُ غَيْرُهُ بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ السَّمْعُ بِهِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» قُلْنَا: الْمَعْرُوفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ لَفْظُ ثُمَّ إلَّا وَهُوَ مُقَابَلٌ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالْوَاوِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي أَبِي دَاوُد قَالَ فِيهِ «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُقَابَلَةٌ بِرِوَايَاتٍ عَدِيدَةٍ كَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِالْوَاوِ فَيُنْزَلُ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ مِنْهَا فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى الْوَاوِ حَمْلًا لِلْقَلِيلِ الْأَقْرَبِ إلَى الْغَلَطِ عَلَى الْكَثِيرِ.

وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا حَلَفَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَقَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، إلَى أَنْ قَالَ: إلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي ثُمَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَهَذَا

ص: 84

(ثُمَّ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمِسْكِينِ) لِوُقُوعِهِ صَدَقَةً.

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»

فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إلَى آخِرِ مَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِيهِ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ وَهُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، وَقَدْ شَذَّتْ رِوَايَةُ ثُمَّ لِمُخَالَفَتِهَا رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ فَصَدَقَ عَلَيْهَا تَعْرِيفُ الْمُنْكَرِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا خَالَفَ الْحَافِظُ فِيهَا الْأَكْثَرَ: يَعْنِي مِنْ سِوَاهُ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ فَلَا يُعْمَلُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَيَكُونُ التَّعْقِيبُ الْمُفَادُ بِالْفَاءِ لِجُمْلَةِ الْمَذْكُورِ كَمَا فِي اُدْخُلْ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَحْمًا وَفَاكِهَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَعْقِيبُ دُخُولِ السُّوقِ بِشِرَاءِ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَهَكَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الْآيَةَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاوَ لَمَّا لَمْ تَقْتَضِ التَّعْقِيبَ كَانَ قَوْلُهُ فَلْيُكَفِّرْ لَا يَلْزَمُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْحِنْثِ بَلْ جَازَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ كَمَا بَعْدَهُ فَلَزِمَ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْحَاصِلِ فَلْيَفْعَلْ الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ الْمُعَقَّبُ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ بِعَكْسِهِ: مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» .

وَمِنْهَا حَدِيثٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ النَّسَائِيّ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَزَاءِ عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ ابْنَ عَمٍّ لِي آتِيهِ أَسْأَلُهُ فَلَا يُعْطِينِي وَلَا يَصِلُنِي ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَيَّ فَيَأْتِينِي وَيَسْأَلُنِي وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِي» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ؛ ثُمَّ لَوْ فُرِضَ صِحَّةُ رِوَايَةِ " ثُمَّ " كَانَ مِنْ تَغْيِيرِ الرِّوَايَةِ، إذْ قَدْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِالْوَاوِ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْوَاجِبُ كَمَا قَدَّمْنَا حَمْلُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ الشَّهِيرِ لَا عَكْسُهُ، فَتُحْمَلُ ثُمَّ عَلَى الْوَاوِ الَّتِي امْتَلَأَتْ كُتُبُ الْحَدِيثِ مِنْهَا دُونَ ثُمَّ.

وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَمْ يُعْرَفْ أَصْلًا: أَعْنِي قَوْلَهُ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» إلَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، هَذَا وَلَفْظُ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ» مَجَازٌ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ وَهُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ (قَوْلُهُ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْفَقِيرِ) يَعْنِي إذَا دَفَعَ إلَى الْفَقِيرِ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ وَقُلْنَا لَا يُجْزِيهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلَّهِ قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ وَقَدْ حَصَلَ التَّقَرُّبُ وَتَرَتَّبَ الثَّوَابُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ وَيُبْطِلَهُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَن فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحْنِثَ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ (نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا

ص: 85

وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَاهُ تَفْوِيتُ الْبِرِّ إلَى جَارٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ.

(وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظِّمًا وَلَا هُوَ أَهْلُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ.

فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ») وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا (وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَاهُ) مِنْ تَحْنِيثِ نَفْسِهِ (تَفْوِيتُ الْبِرِّ إلَى جَابِرٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ) وَثُبُوتُ جَابِرِ الشَّيْءِ كَثُبُوتِ نَفْسِهِ فَكَانَ الْمُتَحَقَّقُ الْبِرَّ (وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ) أَيْ فِي ضِدِّ مَا قُلْنَاهُ وَهُوَ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ وَضِدُّ تَحْنِيثِ نَفْسِهِ هُوَ أَنْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ بِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تَتَقَرَّرُ الْمَعْصِيَةُ دُونَ جَابِرٍ يَجْبُرُهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ: فِعْلُ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكُ فَرْضٍ فَالْحِنْثُ وَاجِبٌ أَوْ شَيْءٌ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ شَهْرًا وَنَحْوَهُ، فَإِنَّ الْحِنْثَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الرِّفْقَ أَيْمَنُ وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ وَهُوَ يَسْتَأْهِلُ ذَلِكَ أَوْ لَيَشْكُوَنَّ مَدْيُونَهُ إنْ لَمْ يُوَافِهِ غَدًا لِأَنَّ الْعَفْوَ أَفْضَلُ، وَكَذَا تَيْسِيرُ الْمُطَالَبَةِ. أَوْ عَلَى شَيْءٍ وَضِدُّهُ مِثْلُهُ كَالْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَالْبِرُّ فِي هَذَا وَحِفْظُ الْيَمِينِ أَوْلَى، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي تَأْوِيلِهَا أَنَّهُ الْبِرُّ فِيهَا أَمْكَنَ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ الْكُفْرِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَالْمُرَادُ حُكْمُ الْحِنْثِ الْمَعْهُودِ، وَكَذَا إذَا حَلَفَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ

ص: 86

(وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ)

ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَذَرَ الْكَافِرُ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ صَوْمٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا قَبْلَهُ، وَبِقَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ قَالَ مَالِكٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِإِيجَابِهِ دُونَ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَلَيْسَ أَهْلًا لَهَا، وَصَارَ كَالْعَبْدِ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إحْدَى الْخِصَالِ، فَكَذَا هَذَا لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ تَعَيَّنَ مَا سِوَاهُ، وَأَيْضًا هُوَ أَهْلٌ لِلْبِرِّ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَيَمْتَنِعُ عَنْ إخْلَافِ مَا عَقَدَهُ بِهِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى وَيَدْخُلُ فِي الْمَالِ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ الْعِبَادَةِ كَالْعِتْقِ لِلشَّيْطَانِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ فِي حَقِّهِ مُجَرَّدَ إسْقَاطِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ سَمْعٌ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَوْمًا، فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ»

وَفِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَهُ {نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} فَيَعْنِي صُوَرَ الْأَيْمَانِ الَّتِي أَظْهَرُوهَا.

وَالْحَاصِلُ لُزُومُ تَأْوِيلٍ إمَّا فِي {لا أَيْمَانَ لَهُمْ} كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ لَا إيفَاءَ لَهُمْ بِهَا أَوْ فِي {نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ صُوَرُ الْأَيْمَانِ دُونَ حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ وَتَرَجَّحَ الثَّانِي بِالْفِقْهِ، وَهُوَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ أَهْلًا لَهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا شُرِعَتْ عِبَادَةً يُجْبَرُ بِهَا مَا ثَبَتَ مِنْ إثْمِ الْحِنْثِ إنْ كَانَ، أَوْ مَا وَقَعَ مِنْ إخْلَافِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى إقَامَةً لِوَاجِبِهِ، وَلَيْسَ الْكَافِرُ أَهْلًا لِفِعْلِ عِبَادَةٍ.

وَقَوْلُهُمْ إيجَابُ الْمَالِ وَالْعِتْقِ يُمْكِنُ تَجْرِيدُهُ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الْمَالِ وَالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إيجَابُهُمَا، وَالْكَلَامُ فِي إيجَابِهِمَا كَفَّارَةً، وَإِيجَابُهُمَا كَفَّارَةً لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَمَّا ذَكَرْنَا، إذْ لَوْ فُصِلَ لَمْ يَكُنْ كَفَّارَةً لِأَنَّ مَا شُرِعَ بِصِفَةٍ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِلَّا فَهُوَ شَيْءٌ آخَرُ، وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْقَاضِي وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «تُبَرِّيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» فَالْمُرَادُ كَمَا قُلْنَا صُوَرُ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا رَجَاءُ النُّكُولِ، وَالْكَافِرُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ شَرْعًا الْيَمِينُ الشَّرْعِيُّ الْمُسْتَعْقِبُ لِحُكْمِهِ فَهُوَ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ تَعْظِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةَ الْيَمِينِ بِهِ كَاذِبًا فَيَمْتَنِعُ عَنْهُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ فَشُرِعَ الْتِزَامُهُ بِصُورَتِهَا لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ.

وَمَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّهُ مَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظِّمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ تَعْظِيمًا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجَازَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نَذْرَ الْكَافِرِ لَا يَصِحُّ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ كَاللَّجَاجِ وَهُمْ يُؤَوِّلُونَهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ قُرْبَةً مُسْتَأْنَفَةً فِي حَالِ الْإِسْلَامِ لَا عَلَى أَنَّهُ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ دَعَا إلَى هَذَا الْعِلْمُ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ أَهْلًا لِقُرْبَةٍ مِنْ الْقُرَبِ فَلَيْسَ أَهْلًا لِالْتِزَامِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ، وَتَصْحِيحُ الِالْتِزَامِ ابْتِدَاءً يُرَادُ لِفِعْلِ نَفْسِ الْمُلْتَزِمِ. لَا لِإِضْعَافِ الْعَذَابِ.

وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: إنَّهُ لَيْسَ مُتَقَرِّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إلَى رَبِّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ قَصْدِهِ بِنَذْرِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ فَفِيهِ قُصُورٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ) كَهَذَا الثَّوْبُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ هَذَا الطَّعَامُ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ أَوْ الدَّابَّةُ (لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) وَلَيْسَ مِلْكُهُ شَرْطًا لِلُزُومِ حُكْمِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ جَازَ فِي نَحْوِ: كَلَامُ زَيْدٍ عَلَيَّ

ص: 87

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ. وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ إحْمَالُهُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ فَيُصَارُ إلَيْهِ،

حَرَامٌ، وَلَوْ أُرِيدَ بِلَفْظِ شَيْئًا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْفِعْلِ دَخَلَ نَحْوُ: كَلَامُ زَيْدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ نَحْوُ هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ لِطَعَامٍ لَا يَمْلِكُهُ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا، حَتَّى لَوْ أَكَلَهُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَمْنَعُ تَحْرِيمَهُ حَلِفًا أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ لَوْ حَرَّمَ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَنَّ الْمُخْتَارَ لِلْفَتْوَى أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْرِيمَ: يَعْنِي الْإِنْشَاءَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إذَا شَرِبَهَا كَأَنَّهُ حَلَفَ لَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ أَوْ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ إخْبَارًا، وَالْمَنْقُولُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، عِنْدَ أَحَدِهِمَا يَحْنَثُ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ الْآخَرِ لَا يَحْنَثُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى نِيَّةٍ، وَلَوْ قَالَ الْخِنْزِيرُ عَلَيَّ حَرَامٌ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ إلَّا أَنْ يَقُولَ إنْ أَكَلْته.

وَقِيلَ هُوَ قِيَاسُ الْخَمْرِ وَهُوَ الْوَجْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ انْصِرَافُ الْيَمِينِ إلَى الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا كَمَا فِي تَحْرِيمِ الشَّرْعِ لَهَا فِي نَحْوِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وَحُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى النِّكَاحِ وَالشُّرْبِ وَالْأَكْلِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَالَ هَذَا الثَّوْبُ عَلَيَّ حَرَامٌ فَلَبِسَهُ حَنِثَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ، وَإِنْ قَالَ إنْ أَكَلْت هَذَا الطَّعَامَ فَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ كُلُّ طَعَامٍ آكُلُهُ فِي مَنْزِلِك فَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحْنَثُ إذَا أَكَلَهُ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَحْنَثُ، وَالنَّاسُ يُرِيدُونَ بِهَذَا أَنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ انْتَهَى.

وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ أَكَلْت هَذَا فَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ أَنْ يَحْنَثَ إذَا أَكَلَهُ، وَكَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْحِيَلِ إنْ أَكَلْت طَعَامًا عِنْدَك أَبَدًا فَهُوَ حَرَامٌ فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَوَابَ الْقِيَاسِ. وَلَوْ قَالَ لِقَوْمٍ كَلَامُكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ أَيَّهُمْ كَلَّمَ حَنِثَ. وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: وَكَذَا كَلَامُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْنَثُ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا، وَكَذَا كَلَامُ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَكَذَا أَكْلُ هَذَا الرَّغِيفِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْنَثُ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُمْ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُمْ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَالَ هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَنِثَ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: قَالَ مَشَايِخُنَا رحمهم الله: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْبَعْضِ وَإِنْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُك يَكُونُ يَمِينًا، فَلَوْ جَامَعَهَا طَائِعَةً أَوْ مُكْرَهَةً تَحْنَثُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَأُدْخِلَ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ لِدَرَاهِمَ فِي يَدِهِ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ اشْتَرَى بِهَا حَنِثَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا أَوْ وَهَبَهَا لَمْ يَحْنَثْ بِحُكْمِ الْعُرْفِ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) يَعْنِي إلَّا فِي الْجَوَارِي وَالنِّسَاءِ، وَبِهِ قَالَ

ص: 88

ثُمَّ إذَا فَعَلَ مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ثَبَتَ تَنَاوَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ.

مَالِكٌ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ فِي الْجَوَارِي، وَالنِّسَاءُ فِي مَعْنَاهَا فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلَى قَوْلِهِ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا هُوَ حَلَالٌ، وَأَنَّهُ فَرَضَ لَهُ تَحِلَّتَهُ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يَمِينًا فِيهَا الْكَفَّارَةُ غَيْرَ مُفِيدٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْآنَ فِي تَخْصِيصِهِ بِمَوْرِدِهِ أَوْ تَعْمِيمِهِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ {مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وَقَدْ يَدْفَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خُصُوصُ مَا وَقَعَ تَحْرِيمُهُ: أَيْ لِمَ حَرَّمْت مَا كَانَ حَلَالًا لَك، وَلِذَا قَالَ {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِنَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِعُمُومِ تَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ بَلْ بِبَعْضٍ يَسِيرٍ، بَلْ الْجَوَابُ أَنَّهُ كَمَا وَرَدَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ وَرَدَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ. فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَنَّ أَيَّتُنَا إنْ دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ إنِّي أَجِدُ مِنْكِ رِيحَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إحْدَانَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ وَلَنْ أَعُودَ إلَيْهِ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} » وَهَذَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ لِأَنَّ رَاوِيَهُ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ وَفِيهِ زِيَادَةُ الصِّحَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ نُزُولِهَا فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وقَوْله تَعَالَى {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّهَا فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ لِأَنَّ مَرْضَاتَهُنَّ كَانَ فِي ذَلِكَ لَا فِي تَرْكِ الْعَسَلِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَيْضًا فِي تَرْكِ شُرْبِهِ عِنْدَ الضَّرَّةِ.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ رُوِيَ «أَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَذُوقُهُ» فَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَحْرِيمًا وَلَزِمَتْ التَّحِلَّةُ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ وَيُقَيَّدَ بِهِ حُكْمُ النَّصِّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هُوَ قَوْلُهُ «وَلَنْ أَعُودَ إلَيْهِ» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ مُوجِبٍ لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَحَدٍ فَحَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْوَاقِعَ مِنْهُ كَانَ يَمِينًا وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ قَوْلٌ آخَرُ لَمْ يُرْوَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ ثَبَتَ بِهِ الْيَمِينُ فَجَازَ كَوْنُهُ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَذُوقُهُ وَجَازَ كَوْنُهُ لَفْظ التَّحْرِيمِ، إلَّا أَنَّ لَفْظَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ ظَاهِرٌ فِي إرَادَةِ قَالَ حَرَّمْت كَذَا وَنَحْوَهُ، بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ.

وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَهُ يُنَبِّئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ إعْمَالُهُ بِإِثْبَاتِ حُرْمَتِهِ: أَيْ حُرْمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْيَمِينُ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْبِرُّ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَالْكَفَّارَةُ إنْ فَعَلَهُ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ فَعَمَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ النِّسَاءَ وَغَيْرَهُنَّ (قَوْلُهُ ثُمَّ إذَا فَعَلَ مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ) فِي قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَبِهِ عُرِفَ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ الْمُحَرَّمُ لِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ اسْتَبَاحَهُ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ (لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ثَبَتَ تَنَاوَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ) فَبِتَنَاوُلِ جُزْءٍ يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ

ص: 89

(وَلَوْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَغَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلًا مُبَاحًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَنَحْوُهُ، هَذَا قَوْلُ زَفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْبِرُّ لَا يَتَحَصَّلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَتَنَاوَلُ عَادَةً. وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ. وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً وَلَا تُصْرَفُ الْيَمِينُ عَنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَهَذَا كُلُّهُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَمَشَايِخُنَا قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى،

مِنْ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُمْ وَهَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ عَلَى مَا نَقَلَ قَاضِي خَانْ عَنْ الْمَشَايِخِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ) فَإِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ حَنِثَ وَلَا يَحْنَثُ بِجِمَاعِ زَوْجَتِهِ (وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَّغَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلًا مُبَاحًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَنَحْوُهُ) كَفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ وَتَحْرِيكِ الْجَفْنَيْنِ (وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ) بِنَاءً عَلَى انْعِقَادِهِ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْبِرُّ لَا يَحْصُلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُعْقَدْ لِلْحِنْثِ ابْتِدَاءً: أَيْ لَا يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ عَقْدِ الْيَمِينِ الْحِنْثَ فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنْ صِرَافَةِ الْعُمُومِ (وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ) أَيْ هَذَا اللَّفْظُ (يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُتَنَاوَلُ عَادَةً) وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، فَظَهَرَ، أَنَّ مَا قِيلَ إنَّهُ تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ لَا يَصِحُّ إذْ لَيْسَ مَجْمُوعُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَخَصَّ الْخُصُوصِ بَلْ حُمِلَ عَلَى مَا تُعُورِفَ فِيهِ اللَّفْظُ.

(وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ) فِي غَيْرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَعَ صَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ، فَإِذَا نَوَاهَا اتَّصَلَتْ النِّيَّةُ بِلَفْظٍ صَالِحٍ فَصَحَّ فِيهِ دُخُولُهَا فِي الْإِرَادَةِ، بِخِلَافِ نَحْوِ اسْقِنِي إذَا أُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ لِعَدَمِ الصَّلَاحِيَّةِ، فَلَوْ وَقَعَ كَانَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ (وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً) لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى قُرْبَانِهَا إيلَاءٌ وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَأَيَّهَا فَعَلَ حَنِثَ، وَإِذَا كَانَ إيلَاءً فَهُوَ إيلَاءٌ مُؤَبَّدٌ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ إلَى آخِرِ أَحْكَامِ الْإِيلَاءِ الْمُؤَبَّدِ.

(وَهَذَا كُلُّهُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَشَايِخِنَا) أَيْ مَشَايِخِ بَلْخٍ كَأَبِي بِكْرٍ الْإِسْكَافِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ (قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مُنَجَّزًا لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ) فِي الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ: هَكَذَا قَالَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ، وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي عُرْفُ النَّاسِ

ص: 90

وَكَذَا يَنْبَغِي فِي قَوْلِهِ حَلَالٌ يُرْوَى حَرَامٌ لِلْعُرْفِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ هرجه بردست رَاسَتْ كيرم بِرِوَيْ حَرَامٌ أَنَّهُ هَلْ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُجْعَلُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِلْعُرْفِ.

(وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ)

فِي هَذَا لِأَنَّ مَنْ لَا امْرَأَةَ لَهُ يَحْلِفُ بِهِ كَمَا يَحْلِفُ ذُو الْحَلِيلَةِ، وَلَوْ كَانَ الْعُرْفُ مُسْتَفِيضًا فِي ذَلِكَ لَمَا اسْتَعْمَلَهُ إلَّا ذُو الْحَلِيلَةِ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَيَّدَ الْجَوَابُ فِي هَذَا وَيَقُولُ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ يَكُونُ طَلَاقًا، فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَقِفَ الْإِنْسَانُ فِيهِ وَلَا يُخَالِفَ الْمُتَقَدِّمِينَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ لَمْ يُتَعَارَفْ فِي دِيَارِنَا بَلْ الْمُتَعَارَفُ فِيهِ حَرَامٌ عَلَى كَلَامِك وَنَحْوُهُ كَأَكْلِ كَذَا وَلُبْسِهِ دُونَ الصِّيغَةِ الْعَامَّةِ، وَتَعَارَفُوا أَيْضًا الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ بَعْدَهُ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ لَأَفْعَلَنَّ، وَهُوَ مِثْلُ تَعَارُفِهِمْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهِيَ طَالِقٌ وَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ عَلَيْهِمْ.

وَفِي التَّتِمَّةِ: لَوْ قَالَ حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ قَالَ حَلَالُ خداي وَلَهُ امْرَأَةٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَكَذَا يَنْبَغِي فِي حَلَالِ بروي حَرَامٌ لِلْعُرْفِ: يَعْنِي يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ لِلْفَتْوَى (وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ هرجه بردست راست كيرم بروى حرام أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ أَوْ لَا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُجْعَلُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِلْعُرْفِ) قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: لَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ.

وَلَوْ قَالَ هرجه بدست راست كيرفته أُمّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ كيرم. وَلَوْ قَالَ هرجه بدست حُبْ كيرم، فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَإِنْ نَوَى. وَلَوْ قَالَ هرجه بدست رَاسَتْ كيرفتم لَا يَكُونُ طَلَاقًا لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي قَوْلِهِ كيرم وَلَا عُرْفَ فِي قَوْلِهِ كيرفتم. وَلَوْ قَالَ هرجه بدست كيرم وَلَمْ يَقُلْ رَاسَتْ أَوَجَبَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ هرجه بدست كيرم.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي انْصِرَافِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَرَبِيَّةً أَوْ فَارِسِيَّةً إلَى مَعْنًى بِلَا نِيَّةِ التَّعَارُفِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يُتَعَارَفْ سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ. وَفِيمَا يَنْصَرِفُ بِلَا نِيَّةٍ لَوْ قَالَ أَرَدْت غَيْرَهُ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مُصَدَّقٌ. .

(قَوْلُهُ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا) أَيْ غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ كَأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ حَجَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ وَنَحْوُهُ مِمَّا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ لِنَفْسِهَا وَمِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ (فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَا) وَهَذِهِ شُرُوطُ لُزُومِ النَّذْرِ، فَخَرَجَ النَّذْرُ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، وَكَذَا النَّذْرُ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَنْذُورِ مَعْصِيَةً يَمْنَعُ انْعِقَادَ النَّذْرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ أَوْ لَيْسَ فِيهِ جِهَةُ الْقُرْبَةِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ نَذْرَ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ يَنْعَقِدُ، وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِصَوْمِ يَوْمٍ غَيْرِهِ، وَلَوْ صَامَهُ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ. وَلَنَا فِيهِ بَحْثٌ ذَكَرْنَاهُ فِي مُخْتَصَرِ الْأُصُولِ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ رحمه الله فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَيْنًا لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ قَالَ فِيهِ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَالْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَبَيَّنَ عِلَّتَهُ، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَقَوْلُهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ: أَيْ مِنْ حَيْثُ هُوَ قُرْبَةٌ لَا بِكُلِّ وَصْفٍ الْتَزَمَهُ بِهِ أَوْ عَيْنٍ وَهُوَ خِلَافِيَّةُ زُفَرَ.

فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ فَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ عَنْ نَذْرِهِ أَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَتَصَدَّقَ فِي غَدٍ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى هَذَا الْفَقِيرِ فَتَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِ عَنْ نَذْرِهِ أَجُزْأَهُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لِزُفَرَ. لَهُ أَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا نَذَرَهُ. وَلَنَا أَنَّ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ لَا بِاعْتِبَارَاتٍ أُخَرَ لَا دَخْلَ لَهَا فِي صَيْرُورَتِهِ قُرْبَةً وَقَدْ أَتَى بِالْقُرْبَةِ الْمُلْتَزَمَةِ، وَكَذَا إذَا نَذَرَ

ص: 91

لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى» .

(وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ،

رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَأَدَّاهَا فِي أَقَلَّ شَرَفًا مِنْهُ أَوْ فِيمَا لَا شَرَفَ لَهُ أَجُزْأَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ. وَأَفْضَلُ الْأَمَاكِنِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، ثُمَّ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ الْجَامِعُ، ثُمَّ مَسْجِدُ الْحَيِّ، ثُمَّ الْبَيْتُ لَهُ أَنَّهُ نَذَرَ بِزِيَادَةِ قُرْبَةٍ فَيَلْزَمُ.

قُلْنَا: عُرِفَ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ الْتِزَامَهُ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مُوجِبٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ تَخْصِيصِ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ بِمَكَانٍ، بَلْ إنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْلِ الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِهِ إلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ فَكَانَ مُلْغًى وَبَقِيَ لَازِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ.

فَإِنْ قُلْت: مِنْ شُرُوطِ النَّذْرِ كَوْنُهُ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَكَيْفَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ بِلَا وُضُوءٍ يَصِحُّ نَذْرُهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مُحَمَّدًا أَهْدَرَهُ لِذَلِكَ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّمَا صَحَّحَهُ بِوُضُوءٍ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَشْرُوطِ الْتِزَامُ الشَّرْطِ. فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَغْوٌ لَا يُؤَثِّرُ، وَنَظِيرُهُ إذَا نَذَرَهُمَا بِلَا قِرَاءَةٍ أَلْزَمْنَاهُ رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ، أَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً وَاحِدَةً أَلْزَمْنَاهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَلْزَمْنَاهُ بِأَرْبَعٍ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَصِحُّ النَّذْرُ فِي الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِلَا قِرَاءَةٍ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرُ قُرْبَةٍ.

وَفِي الثَّالِثَةِ وَهِيَ مَا إذَا نَذَرَ بِثَلَاثٍ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ رَكْعَةً بَعْدَ الثِّنْتَيْنِ فَصَارَ كَمَا إذَا الْتَزَمَهَا مُفْرَدَةً عَلَى قَوْلِهِ. وَلَنَا مَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الِالْتِزَامَ بِشَيْءٍ الْتِزَامٌ بِمَا لَا صِحَّةَ إلَّا بِهِ، وَلَا صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِلَا قِرَاءَةٍ، وَلَا لِلرَّكْعَةِ إلَّا بِضَمِّ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ مُلْتَزِمًا الْقِرَاءَةَ وَالثَّانِيَةَ. وَاحْتَاجَ مُحَمَّدٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْتِزَامِ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ حَيْثُ أَبْطَلَهُ وَالْتِزَامِهَا بِلَا قِرَاءَةٍ حَيْثُ أَجَازَهُ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ الصَّلَاةَ بِلَا طَهَارَةٍ لَيْسَتْ عِبَادَةً أَصْلًا، وَبِلَا قِرَاءَةٍ تَكُونُ عِبَادَةً كَصَلَاةِ الْأُمِّيِّ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَإِنْ كَانَتْ تَقَدَّمَتْ مُتَفَرِّقَةً إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ مَحَلُّهَا بِالْأَصَالَةِ فَلَمْ أَرَ إخْلَاءً مِنْهَا نَصِيحَةً لِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى») وَهَذَا دَلِيلُ لُزُومِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ إلَّا أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، فَفِي لُزُومِ الْمَنْذُورِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، قَالَ تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وَصَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ بِأَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ لِلْآيَةِ، وَتَقَدَّمَ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّهَا تُوجِبُ الِافْتِرَاضَ لِلْقَطْعِيَّةِ.

وَالْجَوَابُ بِأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ إذْ خُصَّ مِنْهَا النَّذْرُ بِالْمَعْصِيَةِ وَمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ فَلَمْ تَكُنْ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ. وَمِنْ السُّنَّةِ كَثِيرٌ مِنْهَا حَدِيثٌ فِي الْبُخَارِيِّ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْإِيفَاءِ بِهِ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِافْتِرَاضِ الْإِيفَاءِ بِالنَّذْرِ.

[فُرُوعٌ]

إذَا نَذَرَ شَهْرًا فَإِمَّا بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ وَجَبَ التَّتَابُعُ، لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَرَمَضَانَ لَوْ أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاؤُهُ، كَذَا هَذَا، وَإِنْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَشَهْرٍ إنْ شَاءَ تَابَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ، وَإِنْ شَرَطَ التَّتَابُعَ لَزِمَهُ، وَلَوْ الْتَزَمَ بِالنَّذْرِ أَكْثَرَ مِمَّا يَمْلِكُهُ لَزِمَهُ مَا يَمْلِكُهُ هُوَ الْمُخْتَارُ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إذَا أَضَافَ النَّذْرَ إلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي كَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا كَانَ يَمِينًا وَلَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ الْمَسَاكِينَ يَقَعُ عَلَى عَشَرَةٍ. عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِلَّهِ عَلَيَّ طَعَامُ مِسْكِينٍ لَزِمَهُ نِصْفُ صَاعٍ حِنْطَةً اسْتِحْسَانًا، لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ هَذِهِ الرَّقَبَةَ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهَا، فَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهَا أَثِمَ وَلَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي. قَالَ إنْ بَرِئْت مِنْ مَرَضِي فَعَلَيَّ شَاةٌ أَذْبَحُهَا أَوْ ذَبَحْت شَاةً لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ أَذْبَحُهَا وَأَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهَا لَزِمَهُ. قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ جَزُورًا فَأَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ فَذَبَحَ مَكَانَهُ سَبْعَ شِيَاهٍ جَازَ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ) الَّذِي رَوَيْنَاهُ

ص: 92

وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ: إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله) وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى أَيْضًا. وَهَذَا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ نَذْرٌ فَيَتَخَيَّرُ وَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الصَّحِيحُ.

مِنْ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُنْجَزٍ وَلَا مُعَلَّقٍ. وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الشَّرْطِ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ: أَيْ عَنْ لُزُومِ عَيْنِ الْمَنْذُورِ إذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ: أَيْ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ بِعَيْنِهِ وَكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.

فَإِذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ إنْ شَاءَ حَجَّ أَوْ صَامَ سَنَةً وَإِنْ شَاءَ كَفَّرَ. فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا صَارَ مُخَيَّرًا بَيْنَ صَوْمِ سَنَةٍ وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ لُزُومُ الْوَفَاءِ بِهِ عَيْنًا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَالتَّخْيِيرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ خَالِدٍ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: خَرَجْت حَاجًّا فَلَمَّا دَخَلْت الْكُوفَةَ قَرَأْت كِتَابَ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ،

ص: 93

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ» إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ رُجُوعٌ وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ قِفْ. فَإِنَّ مِنْ رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ، فَلَمَّا رَجَعْت مِنْ الْحَجِّ إذَا أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ تُوُفِّيَ، فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ أَنَّهُ رَجَعَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ وَقَالَ يَتَخَيَّرُ، وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ.

وَقَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ: مَشَايِخُ بَلْخٍ وَبُخَارَى يُفْتُونَ بِهَذَا وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ. قَالَ: لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ النُّصُوصَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَحَادِيثِ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَسْقُطَ بِالْكَفَّارَةِ مُطْلَقًا فَيَتَعَارَضُ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْإِيفَاءِ بِعَيْنِهِ عَلَى الْمُنَجَّزِ. وَمُقْتَضَى سُقُوطِهِ بِالْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُعَلَّقِ. وَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِ فَالنَّذْرُ فِيهِ مَعْدُومٌ فَيَصِيرُ كَالْيَمِينِ فِي أَنَّ سَبَبَ الْإِيجَابِ وَهُوَ الْحِنْثُ مُنْتَفٍ حَالَ التَّكَلُّمِ فَيُلْحَقُ بِهِ. بِخِلَافِ النَّذْرِ الْمُنَجَّزِ لِأَنَّهُ نَذْرٌ ثَابِتٌ فِي وَقْتِهِ فَيُعْمَلُ فِيهِ حَدِيثُ الْإِيفَاءِ.

وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ الَّذِي تُجْزِئُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ مِثْلَ دُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُرِدْ كَوْنَهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ كَوْنَ الْمَنْذُورِ حَيْثُ جَعَلَهُ مَانِعًا مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ الشَّرْطِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ عَلَى مَا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ بِالضَّرُورَةِ يَكُونُ لِمَنْعِ نَفْسِهِ عَنْهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُرِيدُ إيجَابَ الْعِبَادَاتِ دَائِمًا وَإِنْ كَانَتْ مَجْلَبَةً لِلثَّوَابِ مَخَافَةَ أَنْ يُثْقَلَ فَيَتَعَرَّضَ لِلْعِقَابِ، وَلِهَذَا صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إنَّهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ» الْحَدِيثَ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي يُرِيدُ كَوْنَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ قَدِمَ غَائِبِي أَوْ مَاتَ عَدُوِّي فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا فِعْلُ عَيْنِ الْمَنْذُورِ.

لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ كَوْنَهُ كَانَ مُرِيدًا كَوْنَ النَّذْرِ فَكَانَ النَّذْرُ فِي مَعْنَى الْمُنَجَّزِ فَيَنْدَرِجُ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْإِيفَاءِ بِهِ فَصَارَ مَحْمَلُ مَا يَقْتَضِي الْإِيفَاءَ الْمُنَجَّزِ وَالْمُعَلَّقِ الْمُرَادِ كَوْنُهُ، وَمَحْمَلُ مَا يُقْتَضَى إجْزَاءَ الْكَفَّارَةِ الْمُعَلَّقِ الَّذِي لَا يُرَادُ كَوْنُهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ نَذْرُ اللَّجَاجِ. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِيهِ كَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ.

وَاَسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ لِلِاكْتِفَاءِ فِي خُصُوصِ هَذَا النَّذْرِ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ مَعَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ، وَلَيْسَ هَذَا إلَّا لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ أَوْلَى مِمَّا قِيلَ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يُرَدْ كَوْنُهُ كَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ فَإِنَّهَا تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ فَأَجْزَأَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. بِخِلَافِ الَّذِي يُرِيدُ كَوْنَهُ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْيَمِينَ كَمَا يَكُونُ لِلْمَنْعِ يَكُونُ لِلْحَمْلِ فَلَا يَخْتَصُّ مَعْنَاهَا بِمَا لَا يُرَادُ كَوْنُهُ فَالْفَرْقُ عَلَى هَذَا تَحَكُّمٌ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ) أَيْ عَلَى مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ (فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) وَكَذَا إذَا نَذَرَ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا

ص: 94

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى)

ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} وَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يُعَدَّ مُخْلِفًا لِوَعْدِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِهِ حُكْمٌ، وَلِلْجُمْهُورِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى: أَعْنِي إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ الْيَوْمَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ عَلَّقَ خُرُوجَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا خَرَجَ لَا يَحْنَثُ، فَإِنَّ الْمَعْنَى إنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ الْخُرُوجِ لَا أَخْرُجُ فَإِذَا خَرَجَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ عَدَمَ الْخُرُوجِ، وَهَذَا يَنْتَهِضُ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا فِي الطَّلَاقِ فَالْكَلَامُ مَعَهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى عُسْرٌ. فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ هُوَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ شَاءَ اللَّهُ قَوْلَهُ.

وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْقَطْعِ بِشَرْطِهِ فَلَا يُمْكِنُ إعْدَامُهُ، فَلَوْ جَعَلَ مَصْرُوفًا إلَى الْوُقُوعِ عَلَى مَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَ طَلَاقِك فَخِلَافُ اللَّفْظِ، ثُمَّ لَا يُجْدِي لِأَنَّهُ قَدْ شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَ طَلَاقِهَا إذْ قَدْ شَاءَ تَلَفُّظَهُ بِأَنْتِ طَالِقٌ غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ إنْ كَانَ لَفْظَ أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ شَاءَ حَيْثُ وُجِدَ فَيُوجَدُ حُكْمُهُ أَوْ نَفْسُ الْوُقُوعِ فَقَدْ شَاءَهُ حَيْثُ شَاءَ عِلَّتَهُ وَهُوَ تَلَفُّظُهُ.

وَمَا فِي الطَّلَاقِ تَقَدَّمَ تَضْعِيفُهُ، وَهَذَا مَا وَعُدْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ، ثُمَّ شَرْطُ عَمَلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِبْطَالِ الِاتِّصَالُ، وَمَا انْقَطَعَ بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ وَنَحْوِهِ لَا يَضُرُّ. .

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى)

أَرَادَ بَيَانَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُحْلَفُ عَلَيْهَا فِعْلًا فِعْلًا فَبَدَأَ بِفِعْلِ السُّكْنَى لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْإِنْسَانُ أَنْ يَحُلَّ مَكَانًا ثُمَّ يَفْعَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ اللُّبْسِ وَالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، وَكُلٌّ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ

ص: 95

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ الْبِيعَةَ أَوْ الْكَنِيسَةَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْبَيْتَ مَا أُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذِهِ الْبِقَاعُ مَا بُنِيَتْ لَهَا (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزًا أَوْ ظُلَّةَ بَابِ الدَّارِ) لِمَا ذَكَرْنَا، وَالظُّلَّةُ مَا تَكُونُ عَلَى السِّكَّةِ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الدِّهْلِيزُ بِحَيْثُ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ يَبْقَى دَاخِلًا وَهُوَ مُسْقَفٌ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً

لَكِنَّ حَاجَةَ الْحُلُولِ فِي مَكَان أَلْزَمُ لِلْجِسْمِ مِنْ أَكْلِهِ وَلُبْسِهِ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ الْكَنِيسَةَ) وَهُوَ مُتَعَبَّدُ الْيَهُودِ أَوْ الْبِيعَةُ وَهُوَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ عِنْدَنَا لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَلَا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ كَمَا عَنْ مَالِكٍ رحمه الله، وَلَا عَلَى النِّيَّةِ مُطْلَقًا كَمَا عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ الْعُرْفِيِّ: أَعْنِي الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا مَعَانِيهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا فِي الْعُرْفِ، كَمَا أَنَّ الْعَرَبِيَّ حَالَ كَوْنِهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ فَوَجَبَ صَرْفُ أَلْفَاظِ الْمُتَكَلِّمِ إلَى مَا عُهِدَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهَا.

ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَا جَرَى عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ فَحَكَمَ فِي الْفَرْعِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ والمرغيناني وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَهْدِمُ بَيْتًا فَهَدَمَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَيَّدَ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْعُرْفِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلِيُّ بِحَقِيقَتِهِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُصَيِّرُ الْمُعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ إلَّا مَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ لَهُ وَضْعٌ لُغَوِيٌّ بَلْ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ، وَأَنَّ مَا لَهُ وَضْعٌ لُغَوِيٌّ وَوَضْعٌ عُرْفِيٌّ يُعْتَبَرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُتَكَلِّمٌ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَهَذَا يَهْدِمُ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَيِّرْ الْمُعْتَبَرَ إلَّا اللُّغَةَ إلَّا مَا تَعَذَّرَ وَهَذَا بَعِيدٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِالْعُرْفِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ سَوَاءٌ كَانَ عُرْفَ اللُّغَةِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ غَيْرَهَا إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا. نَعَمْ مَا وَقَعَ اسْتِعْمَالُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ تُعْتَبَرُ اللُّغَةُ عَلَى أَنَّهَا الْعُرْفُ، فَأَمَّا الْفَرْعُ الْمَذْكُورُ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ نَوَاهُ فِي عُمُومِ بَيْتًا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ لَهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ لِانْصِرَافِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ بَيْتٍ، وَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَنَا بِانْصِرَافِ الْكَلَامِ إلَى الْعُرْفِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ مُوجِبُ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مَعْنًى عُرْفِيًّا لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِيَّةُ شَيْءٍ وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ انْعَقَدَ الْيَمِينُ بِاعْتِبَارِهِ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَالْكَعْبَةُ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا بَيْتٌ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} وَكَذَا الْمَسْجِدُ فِي قَوْله تَعَالَى

ص: 96

(وَإِنْ دَخَلَ صُفَّةً حَنِثَ) لِأَنَّهَا تُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ كَالشَّتْوِيِّ وَالصَّيْفِيِّ. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّفَّةُ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ، وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَافُهُمْ. وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، يَقُولُ دَارٌ عَامِرَةٌ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وَكَذَا بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْتُ الْحَمَامِ، وَلَكِنْ إذَا أُطْلِقَ الْبَيْتُ فِي الْعُرْفِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً فَدَخَلَ الدِّهْلِيزُ إذَا كَانَ كَبِيرًا بِحَيْثُ يُبَاتُ فِيهِ لِأَنَّ مِثْلَهُ يُعْتَادُ بَيْتُوتَةً لِلضُّيُوفِ فِي بَعْضِ الْقُرَى وَفِي الْمُدُنِ يَبِيتُ فِيهِ بَعْضُ الْأَتْبَاعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَيَحْنَثُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ صَارَ دَاخِلًا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الدَّارِ وَلَهُ سِعَةٌ يَصْلُحُ لِلْمَبِيتِ مُسَقَّفٌ يَحْنَثُ بِدُخُولِهِ، وَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ بِالصُّفَّةِ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَرْبَعُ حَوَائِطَ كَمَا هِيَ صِفَافُ الْكُوفَةِ أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُسَقَّفًا كَمَا هِيَ صِفَافُ دِيَارِنَا لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مُفَتَّحه وَاسِعٌ، وَكَذَا الظُّلَّةُ إذَا كَانَ مَعْنَاهَا مَا هُوَ دَاخِلُ الْبَابِ مُسَقَّفًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَابَاطًا وَهُوَ مَا عَلَى ظَاهِرِ الْبَابِ فِي الشَّارِعِ مِنْ سَقْفٍ لَهُ جُذُوعٌ أَطْرَافُهَا عَلَى جِدَارِ الْبَابِ وَأَطْرَافُهَا الْأُخْرَى عَلَى جِدَارِ الْجَارِ الْمُقَابِلِ لَهُ، وَسَيَأْتِي أَنَّ السَّقْفَ لَيْسَ شَرْطًا فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ فَيَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدِّهْلِيزُ مُسَقَّفًا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَيُقَالُ دَارٌ عَامِرَةٌ وَدَارٌ غَيْرُ عَامِرَةٍ فِي الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ) قَالَ نَابِغَةُ ذُبْيَانَ وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ:

يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ

أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ

ص: 97

وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ.

وَقَفْت فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا

عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ

إلَّا الْأَوَارِي لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا

وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ

إذَا كَانَتْ الدَّارُ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْجَبَلِ بِحَيْثُ يُسْنَدُ إلَيْهِ: أَيْ يُصْعَدُ لَمْ يَضُرَّهَا السَّيْلُ، وَأَقْوَتْ أَقْفَرَتْ، وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ بِالْبَاءِ السَّالِفُ الْمَاضِي، وَالْأَبَدُ الدَّهْرُ: أَيْ طَالَ عَلَيْهَا مَاضِي الزَّمَانِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ خَرَابِهَا.

وَأُصَيْلَانًا تَصْغِيرٌ جَمْعُ أَصِيلٍ أُصْلَانٌ كَبَعِيرٍ وَبُعْرَانٍ وَهُوَ عَشِيَّةُ النَّهَارِ وَقَدْ تُبْدَلُ نُونُهُ لَامًا فَيُقَالُ أُصَيْلَالٌ، وَإِنَّمَا صَغَّرَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِصَرِ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ لِلْمُسَاءَلَةِ. وَهَذَا السُّؤَالُ تَوَجُّعٌ وَتَحَسُّرٌ، وَعَيَّتْ جَوَابًا عَجَزَتْ. يُقَالُ فِي تَعَبِ الْبَدَنِ إعْيَاءٌ وَالْفِعْلُ أَعْيَا وَفِي كَلَامِ اللِّسَانِ عِيٌّ. وَرُئِيَ فَاضِلٌ قَادِمًا إلَى الْمَدِينَةِ مَاشِيًا فَقِيلَ لَهُ

ص: 98

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مَوْلَانَا عَيَّ أَمْ أَعْيَا؟ فَقَالَ بَلْ أُعْيِيت، فَوَضْعُ أَعْيَتْ جَوَابًا فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ مَكَانَ عَيَّتْ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ.

وَالْأَوَارِي جَمْعُ آرِيِّ وَهِيَ مَحَابِسُ الْخَيْلِ وَمَرَابِطُهَا، وَاللَّأْيُ الْبُطْءُ: أَيْ تَبَيُّنِي لَهَا بِبُطْءٍ فَاسْتَلْزَمَ تَعَبًا، فَمَنْ فَسَّرَ اللَّأْيَ بِالشِّدَّةِ فَهُوَ بِاللَّازِمِ، فَإِنَّ الْبُطْءَ فِي التَّبَيُّنِ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَعَبٍ فِيهِ. وَالنُّؤْيُ حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ يُجْعَلُ حَوْلَ الْخِبَاءِ لِمَنْعِ السَّيْلِ مِنْ دُخُولِهِ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ حَفِيرَةٌ غَلَطٌ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ عُمْقُ الْحَفِيرَةِ حَتَّى تَمْنَعَ السَّيْلَ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِئْرًا امْتَلَأَتْ فِي لَحْظَةٍ وَفَاضَتْ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَلِذَا قَالَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَهُ:

رَدَّتْ عَلَيْهِ أَقَاصِيَهُ وَلِيدَةٌ

ضَرْبَ الْوَلِيدَةِ بِالْمِسْحَاةِ فِي الثَّأَدِ

يَعْنِي رَدَّتْ الْوَلِيدَةُ وَهِيَ الْأَمَةُ الشَّابَّةُ مَا تَبَاعَدَ مِنْ النُّؤْىِ بِسَبَبِ تَهَدُّمِهِ عَلَيْهِ بِضَرْبِ الْمِسْحَاةِ فِي الثَّأَدِ وَهِيَ الْأَرْضُ النَّدِيَّةُ.

قَالَ الْأَعْلَمُ: وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَأَرَادَ بِالْمَظْلُومَةِ الْأَرْضَ الَّتِي لَمْ تُمْطَرْ، وَالْجَلَدُ الصُّلْبَةُ، فَيَكُونُ النُّؤْيُ وَالْوَتَدُ أَشَدَّ ثَبَاتًا فِيهَا

وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

يَا دَارَ مَاوِيَّةَ بِالْحَائِلِ

فَالسَّهَبِ فَالْخَبَّتَيْنِ مِنْ عَاقِلِ

صُمَّ صَدَاهَا وَعَفَا رَسْمُهَا

وَاسْتَعْجَمَتْ عَنْ مَنْطِقِ السَّائِلِ

يُرِيدُ أَنَّهَا مُقْفِرَةٌ لَا أَنِيسَ بِهَا فَيَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا أَحَدَ يَتَكَلَّمُ فَيُجِيبُهُ الصَّدَى. وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِابْنَةِ الْجَبَلِ.

وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْته فَشَجَانِي

كَخَطِّ زَبُورٍ فِي عَسِيبِ يَمَانِي

دِيَارٌ لِهِنْدٍ وَالرَّبَابُ وَفَرْنَنِي

لَيَالِينَا بِالنَّعْفِ مِنْ بَدَلَانِي

يُرِيدُ أَنَّهَا دَرَسَتْ وَخَفِيَتْ الْآثَارُ كَخَفَاءِ خَطِّ الْكِتَابِ وَدِقَّتِهِ إذَا كَانَ فِي عَسِيبٍ يَمَانٍ وَكَانَ أَهْلُ الْيُمْنِ يَكْتُبُونَ عُهُودَهُمْ فِي عَسِيبِ النَّخْلَةِ فَهَذِهِ الْأَشْعَارُ وَمَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً تَشْهَدُ بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لِلْعَرْصَةِ لَيْسَ غَيْرُ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذِهِ الْأَشْعَارِ لَا يُرِيدُونَ بِالِاسْمِ إلَّا الْعَرْصَةَ فَقَطْ فَإِنَّ هَذِهِ الدِّيَارَ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنَاءٌ أَصْلًا بَلْ هِيَ عَرَصَاتٌ مَنْزُولَاتٌ إنَّمَا يَضَعُونَ فِيهَا الْأَخْبِيَةَ لَا أَبْنِيَةَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ فَصَحَّ أَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ فِيهَا كَوْنُهَا قَدْ نَزَلَتْ، غَيْرَ أَنَّهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْمُدُنِ. لَا يُقَالُ إلَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ فِيهَا.

وَلَوْ انْهَدَمَ بَعْدَ ذَلِكَ

ص: 99

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ أُخْرَى فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، (وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ دَارًا لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ انْهِدَامِ الْحَمَّامِ وَأَشْبَاهِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ اسْمَ الدَّارِيَةِ.

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ) لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَسَقَطَ السَّقْفُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَالسَّقْفُ وَصْفٌ فِيهِ (وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ.

بَعْضُهَا قِيلَ دَارٌ خَرَابٌ فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ جُزْءَ الْمَفْهُومِ لَهَا، فَأَمَّا إذَا مُحِيَتْ الْأَبْنِيَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَعَادَتْ سَاحَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الدَّارِ فِي الْعُرْفِ عَلَيْهَا كَهَذِهِ دَارُ فُلَانٍ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، فَالْحَقِيقَةُ أَنْ يُقَالَ كَانَتْ دَارًا، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً بِأَنْ صَارَتْ لِأَبْنَاءِ بِمَا لَا يَحْنَثُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُقَابِلِهِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْمُعَيَّنِ وَالْمُنَكَّرِ فِي الْحُكْمِ إذَا تَوَارَدَ حُكْمُهُمَا عَلَى مَحَلٍّ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَ بَعْدَمَا زَالَتْ بَعْضُ حِيطَانِهَا فَهَذِهِ دَارٌ خَرِبَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فِي الْمُنَكَّرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُفَارَقَةُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَإِنْ كَانَ وَصْفًا فِيهَا يَعْنِي مُعْتَبَرًا فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ لِأَنَّ ذَاتَه تَتَعَرَّفُ بِالْإِشَارَةِ فَوْقَ مَا تَتَعَرَّفُ بِالْوَصْفِ، وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لَهُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ دَارًا أُخْرَى فَدَخَلَهَا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، وَلَوْ بُنِيَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بُنِيَتْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ دَارًا) وَكَذَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ أَوْ جُعِلَتْ نَهْرًا فَدَخَلَهُ لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ الْمَبْنِيُّ ثَانِيًا مِنْ الْحَمَّامِ وَمَا مَعَهُ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ اسْمُ الدَّارِيَّةِ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، وَكَذَا إذَا بَنَى دَارًا بَعْدَمَا انْهَدَمَ مَا بُنِيَ ثَانِيًا مِنْ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهَا. وَيَرِدُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ الْبِنَاءَ إنْ كَانَ جُزْءَ مَفْهُومِ الدَّارِ عُرْفًا فَعَدَمُ الْحِنْثِ إذَا زَالَ فِي الْمُنَكَّرِ حَقٌّ لَكِنَّ ثُبُوتَ الْحِنْثِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهَا بَعْدَمَا صَارَتْ صَحْرَاءَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِشَارَةِ تُعَيِّنُ الذَّاتَ إنَّمَا يَقْتَضِي تَعَيُّنُ هَذَا الْبِنَاءِ مَعَ السَّاحَةِ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ وَفْد انْتَفَى، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَبُنِيَتْ دَارًا أُخْرَى لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ الثَّانِيَ لَيْسَ عَيْنَ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ خِلَافُهُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْحَلِفُ إذَا وَقَعَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَقَعَ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ فَيَحْنَثُ بِوُجُودِ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ. قُلْنَا: مَمْنُوعٌ بَلْ عَلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا وَعُمْرًا أَوْ أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ أَحَدِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُزْءًا، بَلْ الْمُعْتَبَرُ كَوْنُ الْعَرْصَةِ بُنِيَتْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْحِنْثِ فِي الْمُنَكَّرِ فِيمَا إذَا دَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ لِوُجُودِ تَمَامِ الْمُسَمَّى. .

(قَوْلُهُ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ قَدْ زَالَ بِالِانْهِدَامِ لِزَوَالِ مُسَمَّاهُ وَهُوَ الْبِنَاءُ الَّذِي يُبَاتُ فِيهِ، بِخِلَافِ الدَّارِ لِأَنَّهَا تُسَمَّى دَارًا وَلَا بِنَاءَ فِيهَا، فَلَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَزَالَ السَّقْفُ حَنِثَ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَالسَّقْفُ وَصْفٌ فِيهِ، وَهَذَا

ص: 100

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ) لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ. قَالَ (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَهَا) وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ

يُفِيدُك أَنَّ ذِكْرَ السَّقْفِ فِي الدِّهْلِيزِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ مُسَقَّفٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لِلْبَيْتُوتَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْبَيْتُ لَا يَلْزَمُ فِي مَفْهُومِهِ السَّقْفُ فَقَدْ تَكُونُ مُسَقَّفًا وَهُوَ الْبَيْتُ الشِّتْوِيُّ وَغَيْرُ مُسَقَّفٍ وَهُوَ الصَّيْفِيُّ (وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ) وَهَذَا الْمَبْنِيُّ غَيْرُ الْبَيْتِ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ دُخُولَهُ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ بَيْتَ شَعْرٍ أَوْ فُسْطَاطًا إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَنِثَ وَإِلَّا لَا يَحْنَثُ. .

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا) مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ مِنْ الْبَابِ بِأَنْ ظَفِرَ مِنْ سَطْحٍ إلَى سَطْحِهَا (حَنِثَ لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ، أَلَّا يُرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ) فَلَوْ عُدَّ السَّطْحُ خَارِجًا فَسَدَ. وَقَدْ يُقَالُ الْمَبْنَى مُخْتَلِفٌ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ فَجَازَ كَوْنُ بَعْضِ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ خَارِجًا فِي الْعُرْفِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ فِنَاءَ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى جَازَ اقْتِدَاءُ مَنْ فِيهِ بِمَنْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ خَارِجٌ فَالْأَقْرَبُ مَا قِيلَ الدَّارُ عِبَارَةٌ عَمَّا أَحَاطَتْ بِهِ الدَّائِرَةُ، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي عُلُوِّ الدَّارِ وَسَطْحِهَا، وَهَذَا يَتِمُّ إذَا كَانَ السَّطْحُ بِحَضِيرٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَضِيرٌ فَلَيْسَ هُوَ إلَّا فِي هَوَاءِ الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُرْفٌ أَنَّهُ يُقَالُ إنَّهُ دَاخِلُ الدَّارِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ السَّطْحَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الدَّارِ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا حِسًّا لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ فِي الْعُرْفِ دَخَلَ الدَّارَ بَلْ لَا يَتَعَلَّقُ لَفْظُ دَخَلَ إلَّا بِجَوْفِ الدَّارِ حَتَّى صَحَّ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَكِنْ صَعِدَ السَّطْحَ مِنْ خَارِجٍ بِحَبْلٍ، وَهَذَا فِي عُرْفِ مَنْ لَيْسَ أَهْلَ اللِّسَانِ فَطَابَقَ عُرْفُ الْعَجَمِ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنْ يُحْمَلَ جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالْحِنْثِ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِلسَّطْحِ حَضِيرٌ وَجَوَابُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَعْنِي عُرْفَ الْعَجَمِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَضِيرٌ اتَّجَهَ وَهَذَا اعْتِقَادِيٌّ (قَوْلُهُ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ) أَيْ بِالْوُقُوفِ عَلَى السَّطْحِ.

وَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِالصُّعُودِ عَلَى شَجَرَةٍ دَاخِلَهَا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَاخِلَ الدَّارِ مَا لَمْ يَدْخُلْ جَوْفَهَا، وَكَذَا إذَا قَامَ عَلَى حَائِطٍ مِنْهَا (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزهَا) يَعْنِي يَحْنَثُ وَيَجِبُ فِيهِ التَّفْصِيلُ الْمُتَقَدِّمُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَوَائِطُ وَهُوَ مُسَقَّفٌ. وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ السَّقْفَ لَيْسَ لَازِمًا فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ بَلْ فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ الشِّتْوِيِّ،

ص: 101

(وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ بِحَيْثُ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ خَارِجًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخَارِجُ مِنْ الدَّارِ.

قَوْلُهُ وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ وَهُوَ بِحَيْثُ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ خَارِجًا عَنْ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخَارِجُ عَنْ الْبَابِ فِي الدَّارِ) وَلَوْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ إحْدَى رِجْلَيْهِ أَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ فَأَخْرَجَ إحْدَاهُمَا أَوْ رَأْسَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ رحمهم الله «وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُنَاوِلُ عَائِشَةَ رَأْسَهُ لِتُصْلِحَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ فِي بَيْتِهَا» لِأَنَّ قِيَامَهُ بِالرِّجْلَيْنِ فَلَا يَكُونُ بِإِحْدَاهُمَا دَاخِلًا وَلَا خَارِجًا.

وَفِي هَذَا خِلَافٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَامَتْ عَلَى أَسْقُفَّةِ الْبَابِ وَبَعْضُ قَدَمِهَا بِحَالٍ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ دَاخِلًا وَبَعْضُهُ الْبَاقِي خَارِجًا إنْ كَانَ اعْتِمَادُهَا عَلَى النِّصْفِ الْخَارِجِ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى النِّصْفِ الدَّاخِلِ أَوْ عَلَيْهِمَا لَا يَحْنَثُ.

قَالَ: وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ أَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَا يَحْنَثُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّيْخَانِ الْإِمَامَانِ شَمْسَا الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَالسَّرْخَسِيُّ.

هَذَا إذَا كَانَ يَدْخُلُ قَائِمًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَدْخُلُ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ أَوْ جَنْبِهِ فَقَدْ خَرَجَ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُ دَاخِلَ الدَّارِ إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ دَاخِلَ الدَّارِ يَصِيرُ دَاخِلًا، وَإِنْ كَانَ سَاقَاهُ خَارِجًا وَلَوْ تَنَاوَلَ بِيَدِهِ شَيْئًا مِنْ دَاخِلٍ لَا يَحْنَثُ.

[فُرُوعٌ]

حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَأُدْخِلَ مُكْرَهًا: أَيْ مَحْمُولًا لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ أُدْخِلَ وَهُوَ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ لَكِنْ رَضِيَ بِقَلْبِهِ اخْتَلَفُوا، وَالْأَصَحُّ لَا يَحْنَثُ، فَلَوْ خَرَجَ بَعْدَ دُخُولِهِ مُكْرَهًا: أَيْ مَحْمُولًا ثُمَّ دَخَلَ هَلْ يَحْنَثُ اخْتَلَفُوا. قَالَ السَّيِّدُ أَبُو شُجَاعٍ: لَا يَحْنَثُ، وَهَكَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَتِمَّةٌ.

وَلَوْ اشْتَدَّ فِي الْمَشْيِ فَوَقَعَ فِي الْبَابِ يَحْنَثُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَ بَيْتًا مِنْهَا قَدْ أُشْرِعَ إلَى السِّكَّةِ حَنِثَ إذَا كَانَ أَحَدُ بَابَيْهِ فِي السِّكَّةِ وَالْآخَرُ فِي الدَّارِ، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ فِي عُلُوِّهَا عَلَى الطَّرِيقِ وَلَهُ بَابٌ فِي الدَّارِ، وَكَذَا الْكَنِيفُ إذَا كَانَ بَابُهُ فِي الدَّارِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَلْخَ أَوْ مَدِينَةَ كَذَا فَعَلَى الْعُمْرَانِ، بِخِلَافِ كُورَةِ بُخَارَى أَوْ رُسْتَاقَ، كَذَا إذَا دَخَلَ أَرْضَهَا حَنِثَ. وَالْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا أَنَّ كُورَةَ بُخَارَى عَلَى الْعُمْرَانِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ كُورَةَ مِصْرَ وَهُوَ بِالشَّامِّ فَبِدُخُولِ الْعَرِيشِ يَحْنَثُ، وَعَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْعُمْرَانِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَغْدَادَ فَمَرَّ بِهَا فِي سَفِينَةٍ بِدِجْلَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الْفُرَاتَ فَدَخَلَتْ سَفِينَتُهُ فِي الْفُرَاتِ أَوْ دَخَلَ جِسْرًا لَا يَحْنَثُ. وَلَوْ قَالَ إنْ وَضَعْت قَدَمَيَّ فِي دَارِ فُلَانٍ فَكَذَا فَوَضَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فِيهَا لَا يَحْنَثُ عَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ هُنَا مَجَازٌ عَنْ الدُّخُولِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الْحَلِفِ لَا يَدْخُلُ بِوَضْعِ إحْدَى رِجْلَيْهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَهُدِمَ ثُمَّ بُنِيَ مَسْجِدًا فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ كَالدَّارِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ سِكَّةَ فُلَانٍ فَدَخَلَ مَسْجِدًا فِيهَا وَلَمْ يَدْخُلْهَا لَا يَحْنَثُ فِي الْمُخْتَارِ.

قَالَ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَا مَسْجِدَ بَابٍ فِي السِّكَّةِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ بَيْتًا فِي طَرِيقِ السِّكَّةِ إنْ كَانَ لَهُ بَابٌ فِيهَا حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ ظُهْرُهُ فِيهَا وَبَابُهُ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى لَا يَحْنَثُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بَابَانِ بَابٌ فِيهَا وَبَابٌ فِي غَيْرِهَا حَنِثَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ بَابِهَا لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ لَهَا بَابٌ

ص: 102

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ حَتَّى يَخْرُجَ ثُمَّ يَدْخُلَ) اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ الدَّوَامَ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدُّخُولَ لَا دَوَامَ لَهُ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ.

حِينَ حَلَفَ فَجُهِلَ لَهَا بَابٌ آخَرُ فَدَخَلَ مِنْهُ حَنِثَ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى بَابٍ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا فَيَسْتَوِي الْقَدِيمُ وَالْحَادِثُ إلَّا إنْ عَيَّنَ ذَلِكَ الْبَابَ فِي حَلِفِهِ، وَلَوْ نَوَاهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ فِي حَلِفِهِ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ قَنَاةً حَتَّى صَارَ تَحْتَهَا إنْ كَانَ لَهَا مِفْتَحٌ فِي الدَّارِ يُنْتَفَعُ بِهِ بِأَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ حَنِثَ إذَا وَصَلَ هُنَاكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ إنَّمَا هُوَ لِإِضَاءَةِ الْقَنَاةِ لَا يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْفُسْطَاطَ فَقُوِّضَ وَضُرِبَ فِي مَكَانٍ آخَرَ فَدَخَلَهُ حَنِثَ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ) بِالْمُكْثِ فِيهَا أَيَّامًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْقُعُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ حَتَّى يَدْخُلَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِالْمُكْثِ وَإِنْ قَصُرَ لِأَنَّ الدَّوَامَ لَهُ حُكْمُ ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ حَتَّى صَحَّتْ إرَادَتُهُ بِهِ: أَعْنِي لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَنَوَى بِهِ الْمُكْثَ وَالْقَرَارَ فِيهَا صَحَّ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ ابْتِدَاءً لَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدُّخُولَ) حَقِيقَةً لُغَةً وَعُرْفًا فِي الِانْفِصَالِ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ وَلَا دَوَامَ لِذَلِكَ، فَلَيْسَ الدَّوَامُ مَفْهُومَهُ وَلَا جُزْءَ مَفْهُومِهِ، وَكَوْنُهُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ مَجَازًا لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِلدُّخُولِ عَادَةً وَإِنَّ قَلَّ إذْ كَانَ الدُّخُولُ يُرَادُ لِلْمُكْثِ لَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ بِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِلَّفْظِ بَلْ الْحَقِيقِيِّ.

وَكَذَا لَوْ كَانَ حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّهَا غَدًا وَهُوَ فِيهَا فَمَكَثَ حَتَّى مَضَى الْغَدُ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا فِيهِ إذْ لَمْ يَخْرُجْ، وَلَوْ نَوَى بِالدُّخُولِ الْإِقَامَةَ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَعَلَى هَذَا قَدْ يُقَالُ لَيْسَ هُنَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْكَائِنَ فِي مُقَابَلَتِهِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ وَيَتَسَارَعُ إلَى الذِّهْنِ، وَلَا يَتَسَارَعُ لِأَحَدٍ مِنْ لَفْظِ أَدْخُلُ مَعْنَى أَسْتَمِرُّ مُقِيمًا فَيُقْضَى الْعَجَبُ مِنْ زُفَرَ بِقَوْلِهِ بِالْحِنْثِ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إلَّا فِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِ زُفَرَ. وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ وَهُوَ خَارِجٌ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَ ثُمَّ يَخْرُجَ، وَكَذَا لَا يَتَزَوَّجُ وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ وَلَا يَتَطَهَّرُ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ فَاسْتَدَامَ النِّكَاحُ وَالطَّهَارَةُ لَا يَحْنَثُ. بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ، وَكَذَا لَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا أَوْ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَمَكَثَ قَلِيلًا حَنِثَ، فَلَوْ نَزَعَ الثَّوْبَ مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ نَزَلَ أَوْ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ لَمْ يَحْنَثْ خِلَافًا لِزُفَرَ.

أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْحِنْثُ بِمُكْثِهِ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا كُلَّمَا رَكِبْت دَابَّةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ رَاكِبَةٌ فَمَكَثَتْ سَاعَةً يُمْكِنُهَا النُّزُولُ فِيهَا طَلُقَتْ، فَإِنْ مَكَثَتْ سَاعَةً أُخْرَى كَذَلِكَ طَلُقَتْ أُخْرَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا رَكِبْت دَابَّةً فَرَكِبَ لَزِمَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ، لِأَنَّ لَفْظَ رَكِبْت لِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَالِفُ رَاكِبًا يُرَادُ بِهِ إنْشَاءَ الرُّكُوبِ فَلَا يَحْنَثُ بِالِاسْتِمْرَارِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، بِخِلَافِ حَلِفِ الرَّاكِبِ لَا يَرْكَبُ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْأَعَمُّ مِنْ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ وَمَا فِي حُكْمِهِ عُرْفًا، وَاسْتُوْضِحَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَهَا دَوَامٌ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهَا بِقَوْلِهِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهَا مُدَّةٌ فَيُقَالُ رَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا وَسَكَنْت شَهْرًا.

بِخِلَافِ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ دَخَلْت يَوْمًا بِمَعْنَى ضَرْبِ الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ لِنَفْسِ الدُّخُولِ، بَلْ يُقَالُ فِي مَجَارِي الْكَلَامِ دَخَلْت عَلَيْهِ يَوْمًا مُرَادًا بِهِ إمَّا مُجَرَّدُ بَيَانِ الظَّرْفِيَّةِ لَا التَّقْدِيرُ، وَإِمَّا مُطْلَقُ

ص: 103

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ فِي الْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ) وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا فَنَزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَأَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَحْنَثُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَلَّ. وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَانُ تَحْقِيقِهِ (فَإِنْ لَبِثَ عَلَى حَالِهِ سَاعَةً حَنِثَ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهَا مُدَّةٌ يُقَالُ رَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا بِخِلَافِ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ دَخَلْت يَوْمًا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ وَلَوْ نَوَى الِابْتِدَاءَ الْخَالِصَ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ.

الْوَقْتِ إذَا كَانَ لَا يَمْتَدُّ فَيُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ. وَذَلِكَ أَعْنِي عَدَمَ ضَرْبِ الْمُدَّةِ تَقْدِيرًا لِلدُّخُولِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَجَدُّدُ أَمْثَالٍ يَصِيرُ بِهِ مُتَكَرِّرًا لِيَحْنَثَ بِحُدُوثِ الْمُتَكَرِّرَاتِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْبَقَاءَ.

وَهَذِهِ عَلَى عَكْسِهِ يَنْعَقِدُ بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ. وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَقَطْ فَمُحْتَمَلُهُ حَتَّى لَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا أَسْكُنُ وَأَرْكَبُ وَأَلْبَسُ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ فَقَطْ صَدَقَ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِاسْتِمْرَارِهِ سَاكِنًا وَرَاكِبًا.

وَفَرَّعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ لَهَا تَجَدُّدُ أَمْثَالٍ يَصِيرُ بِهَا فِي مَعْنَى الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ وَهُوَ لَابِسٌ لَيَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ غَدًا وَاسْتَمَرَّ لَابِسَهُ حَتَّى مَضَى الْغَدُ لَا يَحْنَثُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَهُ فِي الْغَدِ. ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا يَحْنَثُ بِتَأْخِيرِ سَاعَةٍ إذَا أَمْكَنَهُ النَّقْلُ فِيهَا. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ بِأَنْ كَانَ بِعُذْرِ اللَّيْلِ وَخَوْفِ اللِّصِّ أَوْ مَنْعِ ذِي السُّلْطَانِ أَوْ عَدَمِ مَوْضِعٍ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ أَوْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَتْحَهُ أَوْ كَانَ شَرِيفًا أَوْ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ الْمَتَاعِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْقُلُهَا لَا يَحْنَثُ وَيُلْحَقُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بِالْعَدَمِ لِلْعُذْرِ، وَأَوْرَدَ مَا ذَكَرَ الْفَضْلِيُّ فِيمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَهِيَ طَالِقٌ فَقُيِّدَ أَوْ مُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ حَنِثَ.

وَكَذَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَفِي مَنْزِلِ أَبِيهَا إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ مَنْزِلِي فَطَالِقٌ فَمَنَعَهَا أَبُوهَا حَنِثَ. أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَدَمًا فَيَحْنَثُ بِتَحَقُّقِهِ كَيْفَمَا كَانَ لِأَنَّ الْعَدَمَ

ص: 104

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَأَهْلِهِ فِيهَا وَلَمْ يُرِدْ الرُّجُوعَ إلَيْهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاكِنَهَا بِبَقَاءِ أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ فِيهَا عُرْفًا، فَإِنَّ السُّوقِيَّ عَامَّةَ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ وَيَقُولُ أَسْكُنُ سِكَّةَ كَذَا، وَالْبَيْتُ وَالْمَحَلَّةُ

لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَكَوْنُهُ فِعْلًا فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَالسُّكْنَى لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارِيُّ وَيَنْعَدِمُ بِعَدَمِهِ فَيَصِيرُ مَسْكَنًا لَا سَاكِنًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ الْحِنْثِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي فُرُوعٍ وَنُوضِحُ الْوَجْهَ بِأَتَمَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَذَا لَوْ بَقِيَ أَيَّامًا فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ وَتَرَكَ الْأَمْتِعَةَ وَالْأَهْلَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يَحْنَثُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَنْزِلِ مِنْ عَمَلِ النَّقْلِ وَصَارَ مُدَّةُ الطَّلَبِ مُسْتَثْنَاةً إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الطَّلَبِ، وَهَذَا إذَا خَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ فِي طَلَبِ الْمَنْزِلِ.

وَلَوْ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِنْ كَانَتْ النَّقَلَاتُ لَا تَفْتُرُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَنْقُلُ مَتَاعَهُ فِي يَوْمٍ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ النَّقْلُ بِأَسْرَعِ الْوُجُوهِ بَلْ بِقَدْرِ مَا يُسَمَّى نَاقِلًا فِي الْعُرْفِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رحمه الله إنَّ الْحِنْثَ قَدْ وُجِدَ بِمَا وُجِدَ مِنْ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنْ السُّكْنَى وَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ. وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ لَا لِلْحِنْثِ ابْتِدَاءً وَإِنْ وَجَبَ الْحِنْثُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ وَضْعًا الْبِرَّ وَجَبَ اسْتِثْنَاءُ مِقْدَارِ مَا يُحَقِّقُهُ مِنْ الزَّمَانِ وَهُوَ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ فِيهِ النُّزُولُ وَالنَّقْلَةُ وَالنَّزْعُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ هُوَ وَتَرَكَ مَتَاعَهُ وَأَهْلَهُ فِيهَا وَلَمْ يُرِدْ الرُّجُوعَ حَنِثَ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ الَّتِي قَبْلَهَا، لَمَّا كَانَ بِالْأَخْذِ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ يَبَرُّ ذَكَرَ مَعْنَى النَّقْلَةِ الَّتِي بِهَا يَتَحَقَّقُ الْبِرُّ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ مُنْتَقِلًا مِنْ الدَّارِ مِنْ نَقْلِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَكَذَا الْحَلِفُ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَ فِي هَذِهِ الْمُحَلَّةِ أَوْ السِّكَّةِ لَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ عَازِمًا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ أَبَدًا حَنِثَ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَى عَزْمِ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَنْقُلُهُمْ لِأَنَّهُ يُعَدُّ الْمُتَأَهِّلُ سَاكِنًا بِمَحِلِّ سُكْنَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ عُرْفًا.

وَاسْتَشْهَدَ لِلْعُرْفِ بِأَنَّ السُّوقِيَّ عَامَّةَ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا لَيْلًا أَوْ بَعْضَ اللَّيْلِ أَيْضًا وَيَقُولُ أَنَا سَاكِنٌ فِي مُحَلَّةِ كَذَا وَذَلِكَ لِقَرَارِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِهَا، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحْنَثُ إذَا خَرَجَ بِنِيَّةِ التَّحْوِيلِ. قِيلَ وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُ لِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ بِخِلَافِهَا وَهُوَ إذَا خَرَجَ بِنِيَّةِ عَدَمِ الْعَوْدِ فَقَدْ انْتَقَلَ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ بِنَفْسِهِ انْتَقَلَ. وَعِنْدَنَا الْعِبْرَةُ لِلْعَادَةِ لِطُرُوِّهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ.

وَالْحَالِفُ يُرِيدُ ذَلِكَ ظَاهِرًا فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَالْعَادَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ بِمَكَانٍ بِبَلْدَةٍ هُوَ بِهَا فَهُوَ سَاكِنٌ فِيهِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ فَبَنَى اللَّفْظَ عَلَيْهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مُسْتَقِلًّا بِسُكْنَاهُ قَائِمًا عَلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ سُكْنَاهُ تَبَعًا كَابْنٍ كَبِيرٍ سَاكِنٍ مَعَ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةٍ مَعَ زَوْجِهَا. فَلَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْكُنُ هَذِهِ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَهِيَ زَوْجَهَا وَمَالَهَا لَا يَحْنَثُ، وَقَيَّدَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ حَلِفَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَلَوْ عَقَدَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَحْنَثُ إذَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِسُكْنَاهُ.

نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ لِلْعُرْفِ وَذَلِكَ أَنَّ السُّوقِيَّ إنَّمَا يَقُولُ أَنَا سَاكِنٌ فِي مُحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْعَوْدِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ السُّكْنَى فِيمَا إذَا خَرَجَ عَازِمًا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ كَمَا هِيَ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ، فَالْوَجْهُ تَرْكُ خُصُوصِ هَذَا الشَّاهِدِ وَيَدَّعِي أَنَّ الْعُرْفَ عَلَى أَنَّهُ سَاكِنٌ مَا لَمْ يَنْقُلْ أَهْلَهُ وَمَالَهُ حَتَّى إنَّهُ يُقَالُ بَعْدَ خُرُوجِهِ كَذَلِكَ فُلَانٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ

ص: 105

بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ. وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمِصْرِ لَا يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ عُرْفًا. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ كُلِّ الْمَتَاعِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكْنَى قَدْ ثَبَتَ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ. يُعْتَبَرُ نَقْلُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ نَقْلَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: يُعْتَبَرُ نَقْلُ مَا يَقُومُ بِهِ كَدَخْدَائِيَّتِهِ لِأَنَّ مَا وَرَاء ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى. قَالُوا: هَذَا أَحْسَنُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ

مَسْكَنِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ بَعْدُ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمِصْرِ إلَى آخِرِهِ) مَا تَقَدَّمَ كَانَ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَمِثْلُهُ الْبَيْتُ وَالسِّكَّةُ وَالْمُحَلَّةُ وَهِيَ تُسَمَّى فِي عُرْفِنَا الْجَارَةُ. فَلَوْ كَانَ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذَا الْمِصْرَ أَوْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ: لَا يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، نَقَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الْمِصْرِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ تَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ عُرْفًا فَلَا يُقَالُ لِمَنْ أَهْلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَمَالُهُ وَهُوَ بِنَفْسِهِ قَاطِنٌ بِالْكُوفَةِ هُوَ سَاكِنٌ بِالْبَصْرَةِ (وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَوْ الْبَلْدَةَ وَهِيَ قَرْيَةٌ فَانْتَقَلَ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فِي الْأُولَى لَا يَحْنَثُ، وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَمَّنْ قَالَ هِيَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ الدَّارَ فَيَحْنَثُ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بُدَّ) فِي كَوْنِهِ انْتَقَلَ مِنْ الدَّارِ وَمَا شَاكَلَهَا مِمَّا ذَكَرْنَا (مِنْ نَقْلِ كُلِّ الْمَتَاعِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ وَنَحْوُهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ الْحَالِفِ تَثْبُتُ بِالْكُلِّ فَتَبْقَى مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ) فِي الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا أَصْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى جَعَلَ صِفَةَ السُّكُونِ فِي الْعَصِيرِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا، وَبَقَاءُ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ مِنَّا فِي بَلْدَةٍ ارْتَدَّ أَهْلُهَا مَانِعًا مِنْ أَنْ تَصِيرَ دَارَ حَرْبٍ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا هَذَا إذَا كَانَ الْبَاقِي يَتَأَتَّى بِهِ السُّكْنَى، وَأَمَّا بَقَاءُ مِكْنَسَةٍ أَوْ وَتَدٍ أَوْ قِطْعَةِ حَصِيرٍ لَا يَبْقَى فِيهَا سَاكِنًا فَلَا يَحْنَثُ. وَحَقِيقَةُ وَجْهِ دَفْعِهِ أَنَّ قَوْلَهُ السُّكْنَى تَثْبُتُ بِالْكُلِّ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْكُلِّ هُوَ الْعِلَّةُ فِي سُكْنَاهُ مَعَ انْقِطَاعِ نَفْسِهِ إلَى الْقَرَارِ فِي الْمَكَانِ مَنَعْنَاهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ انْتَفَتْ السُّكْنَى فَعُلِمَ أَنَّ السُّكْنَى تَثْبُتُ مَعَ الْكُلِّ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ فَإِنَّمَا هِيَ مَنُوطَةٌ فِي الْعُرْفِ بِقَرَارِهِ عَلَى وَجْهِ الِانْقِطَاعِ إلَيْهِ مَعَ مَا يَتَأَتَّى بِهِ دَفْعُ الْحَاجَاتِ الْكَائِنَةِ فِي السُّكْنَى فَكَانَتْ السُّكْنَى ثَابِتَةً مَعَ الْكُلِّ وَبِدُونِ الْكُلِّ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ يَعُدُّ مَنْ خَرَجَ لَا يُرِيدُ الْعَوْدَ وَنَقَلَ أَهْلَهُ وَبَعْضُ مَالِهِ يُرِيدُ أَنْ يَنْقُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ تَرَكَهُ لِتَفَاهَتِهِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ تَارِكًا لِسُكْنَى ذَلِكَ الْمَكَانِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْتَبَرُ فِي الْبِرِّ نَقْلُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ نَقْلَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ) بِأَنْ يَغْفُلَ عَنْ شَيْءٍ كَإِبْرَةٍ فِي شَقِّ حَائِطٍ أَوْ يَتَعَسَّرُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ فِي الْبِرِّ نَقْلُ مَا يَقُومُ بِهِ كَدَخْدَائِيَّتِهِ) أَيْ سُكْنَاهُ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ (لِأَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى) إذْ لَيْسَ مِنْ حَاجَتِهَا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (قَالُوا: هَذَا أَحْسَنُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ فِي نَفْيِ الْحِنْثِ) عَنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَصَاحِبِ الْمُحِيطِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَالْكَافِي عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى

ص: 106

وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ حَتَّى يَبَرَّ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ قَالُوا لَا يَبَرُّ، دَلِيلُهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَدَارَ هُنَا لَيْسَ عَلَى نَقْلِ الْكُلِّ لِيَقُومَ الْأَكْثَرُ مَقَامَهُ بَلْ عَلَى الْعُرْفِ فِي أَنَّهُ سَاكِنٌ أَوْ لَا. وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى نِيَّةِ تَرْكِ الْمَكَانِ وَعَدَمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ وَنَقَلَ مِنْ أَمْتِعَتِهِ فِيهِ مَا يَقُومُ بِهِ أَمْرُ سُكْنَاهُ وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ قَفْلِ الْبَاقِي يُقَالُ لَيْسَ سَاكِنًا فِي هَذَا الْمَكَانِ بَلْ انْتَقَلَ عَنْهُ وَسَكَنَ فِي الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ أَمَّا الْأَهْلُ فَلَا بُدَّ فِي الْبِرِّ مِنْ نَقْلِهِمْ كُلِّهِمْ اتِّفَاقًا (قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ حَتَّى يَبَرَّ) بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ الْمَسْجِدِ لَمْ يَبَرَّ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا قِيلَ يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ نَقْلُ الْمُصَنِّفِ اسْتِدْلَالًا بِمَا فِي الزِّيَادَاتِ.

كُوفِيٌّ نَقَلَ عِيَالَهُ إلَى مَكَّةَ لِيَتَوَطَّنَ فَلَمَّا تَوَطَّنَ بِمَكَّةَ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِمَكَّةَ، وَإِنْ بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَى مَكَّةَ صَلَّى بِالْكُوفَةِ مَارًّا عَلَيْهَا أَرْبَعًا لِأَنَّ وَطَنَهُ الْأَوَّلَ بِالْكُوفَةِ قَائِمٌ مَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ، فَكَذَا هُنَا يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ. وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَاكِنًا.

وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: إنْ سَلَّمَ دَارِهِ بِإِجَارَةٍ أَوْ رَدَّ الْمُسْتَأْجَرَةَ إلَى الْمُؤَاجِرِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْ دَارًا أُخْرَى، وَإِطْلَاقُ عَدَمِ الْحِنْثِ أَوْجَهُ، وَكَوْنُ وَطَنِهِ بَاقِيًا فِي حَقِّ إتْمَامِ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَسْتَوْطِنْ غَيْرَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَسْمِيَتَهُ سَاكِنًا عُرْفًا بِذَلِكَ الْمَكَانِ بَلْ يُقْطَعُ مِنْ الْعُرْفِ فِيمَنْ نَقَلَ أَهْلَهُ وَأَمْتِعَتَهُ وَخَرَجَ مُسَافِرًا أَنْ لَا يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ سَاكِنٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَلْ يُقَالُ فِيهِ حَالَ السَّفَرِ انْتَقَلَ عَنْ سُكْنَى هَذَا الْمَكَانِ وَهُوَ قَاصِدٌ سُكْنَى كَذَا. وَإِذَا لَمْ يَتَحَرَّرْ لَهُ قَصْدُ مَكَان مُعَيَّنٍ قِيلَ هُوَ الْآنَ غَيْرُ سَاكِنٍ فِي مَكَان حَتَّى يُنْظَرَ أَيْنَ يَسْكُنُ، وَإِذَا ثَبَتَ نَفْيُ تِلْكَ السُّكْنَى ثَبَتَ الْبِرُّ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 107

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَحَمَلَهُ فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ (وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ (وَلَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ)

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ)

الْخُرُوجُ مُقَابِلٌ لِلدُّخُولِ فَنَاسَبَ إعْقَابُهُ بِهِ، وَيَعْقُبُ الْخُرُوجَ الرُّكُوبُ ثُمَّ الرُّجُوعُ وَهُوَ الْإِتْيَانُ، فَلَمَّا ارْتَبَطَتْ أَوْرَدَهَا فِي بَابِ الْخُرُوجِ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ) أَوْ الدَّارِ أَوْ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَحَمَلَهُ فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ بِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَهُوَ الْخُرُوجُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْحَالِفِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلنَّقْلِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِخْرَاجِ مُكْرَهًا هُنَا أَنْ يَحْمِلَهُ وَيُخْرِجَهُ كَارِهًا لِذَلِكَ الْإِكْرَاهِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ أَنْ يَتَوَعَّدَهُ حَتَّى يَفْعَلَ. فَإِنَّهُ إذَا تَوَعَّدَهُ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ حَنِثَ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الْفِعْلَ عِنْدَنَا، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ فَأُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى أَكَلَهُ حَنِثَ.

وَلَوْ أَوْجَرَ فِي حَلْقِهِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ

ص: 108

فِي الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْأَمْرِ لَا بِمُجَرَّدِ الرِّضَا.

قَالَ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إلَّا إلَى جِنَازَةٍ فَخَرَجَ إلَيْهَا ثُمَّ أَتَى حَاجَةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ خُرُوجٌ مُسْتَثْنًى، وَالْمُضِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ.

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ حَنِثَ) لِوُجُودِ الْخُرُوجِ عَلَى قَصْدِ مَكَّةَ وَهُوَ الشَّرْطُ، إذْ الْخُرُوجُ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَهَا) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُصُولِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا} وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا قِيلَ هُوَ كَالْإِتْيَانِ، وَقِيلَ هُوَ كَالْخُرُوجِ

فِي الصَّحِيحِ. وَقِيلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَلَمْ يَفْعَلْ صَارَ كَالْآمِرِ. وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْأَمْرِ لَا بِمُجَرَّدِ الرِّضَا وَلَمْ يُوجَدْ الْأَمْرُ وَلَا الْفِعْلُ مِنْهُ فَلَا يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَيْهِ.

وَلَوْ قِيلَ قَصْرُ الِانْتِقَالِ عَلَى الْآمِرِ مَحِلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ يَحْنَثُ يَجْعَلُ الرِّضَا أَيْضًا فَلَا دَفْعَ بِفَرْعٍ اتِّفَاقِيٍّ، وَهُوَ مَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يُتْلِفَ مَالَهُ فَفَعَلَ لَا يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ لِانْتِسَابِ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ بِالْأَمْرِ، فَلَوْ أَتْلَفَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ يَنْظُرُ فَلَمْ يَنْهَهُ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِأَحَدٍ بَيْنَ كَوْنِهِ رَاضِيًا أَوْ لَا، ثُمَّ إذَا لَمْ يَحْنَثْ بِإِخْرَاجِهِ مَحْمُولًا لِإِنْسَانٍ أَوْ بِهُبُوبِ رِيحٍ حَمَلَتْهُ هَلْ تَنْحَلُ الْيَمِينُ؟ قَالَ السَّيِّدُ أَبُو شُجَاعٍ: تَنْحَلُّ وَهُوَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ: لَا تَنْحَلُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ وَقَاضِي خَانْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَحْنَثُ لِانْقِطَاعِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ كَيْفَ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ فَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الذِّمَّةِ.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ دَخَلَ بَعْدَ هَذَا الْإِخْرَاجِ هَلْ يَحْنَثُ؟ فَمَنْ قَالَ انْحَلَّتْ قَالَ لَا يَحْنَثُ. وَهَذَا بَيَانُ كَوْنِهِ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ. وَمَنْ قَالَ لَمْ تَنْحَلَّ قَالَ حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إلَّا إلَى جِنَازَةٍ) وَنَحْوِهِ فَخَرَجَ إلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى حَاجَاتٍ لَهُ أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْخُرُوجَ الْمَوْجُودَ مِنْهُ إلَى الْجِنَازَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْخُرُوجِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمُضِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا الِانْفِصَالُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَالذَّهَابُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ) أَوْ دَارِ فُلَانٍ فَخَرَجَ مُرِيدًا مَكَّةَ أَوْ دَارَ فُلَانٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ حَنِثَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ وَقَدْ وُجِدَ بِقَصْدِ. مَكَّةَ وَهُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَى عَدَمِهِ فَيَحْنَثُ بِهِ رَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ.

وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَحْنَثَ إذَا رَجَعَ وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ عِمْرَانَ مِصْرِهِ وَقَدْ قَالُوا إنَّمَا يَحْنَثُ إذَا جَاوَزَ عِمْرَانَهُ عَلَى قَصْدِهَا كَأَنَّهُ ضَمَّنَ لَفْظَ أَخْرُجُ مَعْنَى أُسَافِرُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُضِيَّ إلَيْهَا سَفَرٌ لَكِنَّ عَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مُدَّةُ سَفَرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ مِنْ الدَّاخِلِ (قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا) فَخَرَجَ بِقَصْدِهَا (لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَهَا لِأَنَّ الْإِتْيَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُصُولِ، قَالَ تَعَالَى {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا} وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا قِيلَ هُوَ كَالْإِتْيَانِ) فَلَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا وَهُوَ قَوْلُ نُصَيْرٍ. قَالَ تَعَالَى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} وَالْمُرَادُ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَتَبْلِيغُهُ الرِّسَالَةَ (وَقِيلَ الذَّهَابُ كَالْخُرُوجِ) وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ

ص: 109

وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزَّوَالِ.

(وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَلَمْ يَأْتِهَا حَتَّى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ) لِأَنَّ الْبِرَّ قَبْلَ ذَلِكَ مَرْجُوٌّ.

(وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ فَهَذَا عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ دُونَ الْقُدْرَةِ، وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: إذَا لَمْ يَمْرَضْ وَلَمْ يَمْنَعْهُ السُّلْطَانُ وَلَمْ يَجِئْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهِ فَلَمْ يَأْتِهِ حَنِثَ، وَإِنْ عَنَى اسْتِطَاعَةَ الْقَضَاءِ دَيْنٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى) وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِطَاعَةِ فِيمَا يُقَارِنُ الْفِعْلَ وَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ فِي الْمُتَعَارَفِ. فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَتَصِحُّ نِيَّةُ الْأَوَّلِ دِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ثُمَّ قِيلَ وَتَصِحُّ قَضَاءً أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، وَقِيلَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) قَالَ تَعَالَى {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} أَيْ يُزِيلَهُ، فَبِمُجَرَّدِ تَحَقُّقِ الزَّوَالِ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ، وَكَوْنُهُ اُسْتُعْمِلَ مُرَادًا بِهِ الْوُصُولُ فِي {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ فِي اسْتِعْمَالَاتِهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا مَعَ الْوُصُولِ وَمَعَ عَدَمِهِ فَيَكُونَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْخُرُوجِ بِلَا وُصُولٍ وَالْخُرُوجِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وُصُولٌ.

فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِتَحَقُّقِ الْمُسَمَّى بِمُجَرَّدِ الِانْفِصَالِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ بِالذَّهَابِ شَيْئًا. وَلَوْ نَوَى بِهِ الْخُرُوجَ أَوْ الْإِتْيَانَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ. ثُمَّ فِي الْخُرُوجِ وَالذَّهَابِ إلَيْهِ يُشْتَرَطُ لِلْحِنْثِ الْخُرُوجُ عَنْ قَصْدٍ. وَفِي الْإِتْيَانِ إلَيْهِ لَا يُشْتَرَطُ الْقَصْدُ لِلْحِنْثِ. بَلْ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ حَنِثَ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ. كَذَا فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ) هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إذَا حَلَفَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَهَا أَوْ يُؤَقِّتَهَا بِوَقْتٍ مِثْلَ لَأَفْعَلَنَّ غَدًا أَوْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. فَفِي الْمُطْلَقَةِ مِثْلِ لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا أَوْ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا أَوْ لَيُطَلِّقَنَّ زَوْجَتَهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْبِرِّ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَبْقَى مَا أَمْكَنَ الْبِرُّ. وَحَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ الْيَمِينُ بِوَقْتٍ يَفُوتُ الْبِرُّ بِفَوَاتِهِ لَمْ يَسْقُطْ الْيَمِينُ وَلَمْ يَلْزَمْ انْحِلَالُهَا فَتَبْقَى إلَى أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْبِرِّ فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِالْحِنْثِ، وَلَا يَقَعُ الْيَأْسُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ، فَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِطَلَاقِهَا لَيَفْعَلَنَّ وَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَوْتِهِ وَمَوْتِهَا فِي الصَّحِيحِ وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ فِي الطَّلَاقِ، وَفِي الْمُقَيَّدَةِ تَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ وَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَحْنَثْ.

فَإِذَا قَالَ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا غَدًا فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَلَمْ يَفْعَلْ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ) أَيْ بِاَللَّهِ أَوْ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ (لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ) وَصُورَتُهُ فِي التَّعْلِيقِ أَنْ يَقُولَ امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ لَمْ آتِك غَدًا إنْ اسْتَطَعْت، وَلَا نِيَّةَ لَهُ تَصْرِفُ الِاسْتِطَاعَةَ إلَى سَلَامَةِ آلَاتِ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَصِحَّةِ أَسْبَابِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَعَرَّفُ إلَيْهِ، وَهَذَا مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ اسْتِطَاعَةُ الصِّحَّةِ دُونَ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ الْقُدْرَةُ

ص: 110

(وَمَنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ فِي كُلِّ خُرُوجٍ) لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ، وَمَا وَرَاءَهُ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ الْعَامِّ. وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ

الَّتِي لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ بَلْ تُخْلَقُ مَعَهُ بِلَا تَأْثِيرٍ لَهَا فِيهِ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ أَرَادَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ إنْ اسْتَطَعْت صَحَّتْ إرَادَتُهَا، فَإِذَا لَمْ يَأْتِهِ لِعُذْرٍ مِنْهُ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَحْنَثُ كَأَنَّهُ قَالَ لَآتِيَنك إنْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى إتْيَانِي أَوْ إلَّا أَنْ لَا يَخْلُقَ إتْيَانِي، وَهُوَ إذَا لَمْ يَأْتِ لَمْ يُخْلَقْ إتْيَانُهُ وَلَا اسْتِطَاعَةُ الْإِتْيَانِ الْمُقَارِنَةُ وَإِلَّا لَأَتَى، وَإِذَا صَحَّتْ إرَادَتُهَا فَهَلْ يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً أَوْ دِيَانَةً فَقَطْ؟ قِيلَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً فَقَطْ لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّازِيّ، وَقِيلَ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ إذَا كَانَ اسْمُ الِاسْتِطَاعَةِ يُطْلَقُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ. وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لَكِنْ تُعُورِفَ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْقَرِينَةِ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ سَلَامَةُ آلَاتِ الْفِعْلِ وَصِحَّةُ أَسْبَابِهِ فَصَارَ ظَاهِرًا فِيهِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِ الظَّاهِرِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ فِي كُلِّ خُرُوجٍ، وَمِثْلُهُ إنْ خَرَجَتْ إلَّا بِقِنَاعٍ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْخُرُوجِ الْمُلْصَقِ بِالْإِذْنِ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ الْعَامِّ، وَهُوَ النَّكِرَةُ الْمُؤَوَّلَةُ مِنْ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تَخْرُجِي خُرُوجًا إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي، وَطَرِيقُ إسْقَاطِ هَذَا الْإِذْنِ أَنْ يَقُولَ كُلَّمَا أَرَدْت الْخُرُوجَ فَقَدْ أَذِنْت لَك فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ نَهَاهَا لَمْ يَعْمَلْ نَهْيُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً ثُمَّ نَهَى عَمِلَ نَهْيُهُ اتِّفَاقًا فَكَذَا بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ نَهْيُهُ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ بَعْدَهُ. بِخِلَافِ النَّهْيِ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ لِارْتِفَاعِ الْيَمِينِ بِالْإِذْنِ الْعَامِّ. وَلَوْ أَذِنَ لَهَا إذْنًا غَيْرَ مَسْمُوحٍ لَمْ يَكُنْ إذْنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ إذْنٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَسْمُوعِ وَغَيْرِهِ.

وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا سُمِّيَ إذْنًا لِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا أَوْ لِوُقُوعِهِ فِي الْإِذْنِ وَلَمْ يُوجَدْ. ثَمَّ انْعِقَادُ الْيَمِينِ عَلَى الْإِذْنِ فِي قَوْلِهِ إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ وَاَللَّهِ لَا تَخْرُجِينَ إلَّا بِإِذْنِي مُقَيَّدٌ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَصِحُّ لِمَنْ لَهُ الْمَنْعُ وَهُوَ مِثْلُ السُّلْطَانِ إذَا حَلَّفَ إنْسَانًا لَيَرْفَعَن إلَيْهِ خَبَرَ كُلِّ دَاعِرٍ فِي الْمَدِينَةِ كَانَ عَلَى مُدَّةِ وِلَايَتِهِ، فَلَوْ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَخَرَجَتْ بِلَا إذْنٍ لَا تَطْلُقُ، وَإِنْ كَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُ الْيَمِينَ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَى مُدَّةِ بَقَاءِ النِّكَاحِ. وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلِذَا لَا يُصَدِّقُ الْقَاضِي، أَمَّا إنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. فَظَاهِرُ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ،

ص: 111

(وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ غَايَةٍ فَتَنْتَهِي الْيَمِينُ بِهِ كَمَا إذَا قَالَ حَتَّى آذَنَ لَك.

وَأَمَّا إنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ فَلِأَنَّ الْإِذْنَ مَرَّةً مُوجِبُ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ لَا تَخْرُجِي حَتَّى آذَنَ لَك، وَبَيْنَ الْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهُمَا، فَيُسْتَعَارُ إلَّا بِإِذْنِي لِمَعْنًى حَتَّى آذَنَ وَفِي حَتَّى آذَنَ تَنْحَلُّ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُهُمْ فِي حَتَّى أَنَّهَا أَيْضًا تُوجِبُ التَّكْرَارَ.

وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّكْرَارَ يُرَادُ فَلَا نِزَاعَ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُؤَدَّى اللَّفْظِ فَقُلْنَا لَا، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ حَتَّى آذَنَ لَك يَكُونُ قَدْ جَعَلَ النَّهْيَ عَنْ الْخُرُوجِ مُطْلَقًا مُغَيًّا بِوُجُودِ مَا هُوَ إذْنٌ. وَبِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْإِذْنِ يَتَحَقَّقُ مَا هُوَ إذْنٌ فَيَتَحَقَّقُ غَايَةُ النَّهْيِ فَيَزُولُ الْمَنْعُ الْمُضَافُ إلَى اللَّفْظِ. فَإِنْ كَانَ مَنْعٌ آخَرُ فَبِغَيْرِهِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي أَنَّهُ تَنْتَهِي الْيَمِينُ بِخُرْجَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا تَطْلُقُ بِالْخُرُوجِ بَعْدَهُ بِلَا إذْنٍ. وَفِي وَجْهٍ كَقَوْلِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَالْقَفَّالِ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ) وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ لُزُومُ تَكْرَارِ الْإِذْنِ فِيهِ أَيْضًا مِثْلُ إلَّا بِإِذْنِي وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ لِأَنَّ الْمَعْنَى إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي لِأَنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا خُرُوجًا إذْنِي فَلَزِمَ إرَادَةُ الْبَاءِ فَصَارَ بِإِذْنِي.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ إرَادَةِ الْبَاءِ مَحْذُوفَةً أَوْ مَا قُلْنَا مِنْ جَعْلِهَا بِمَعْنَى حَتَّى مَجَازًا: أَيْ حَتَّى آذَنَ لَك، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ كَالْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي يَنْعَقِدُ عَلَى إذْنٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا لَزِمَ فِي إلَّا أَنْ آذَنَ لَك أَحَدُ الْمَجَازَيْنِ وَجَبَ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا.

وَمَجَازُ غَيْرِ الْخَذْفِ أَوْلَى مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي وَصْفِ اللَّفْظِ، وَمَجَازُ الْحَذْفِ تَصَرُّفٌ فِي ذَاتِهِ بِالْإِعْدَامِ مَعَ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ هُوَ مُوَافِقٌ لِلِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ، قَالَ تَعَالَى {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَحَقَّقَ بِمَعْنَى مَا بِإِضْمَارِ الْبَاءِ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الْآيَةَ، وَالثَّابِتُ وُجُوبُ تَكْرَارِ الْإِذْنِ. أُجِيبَ بِالْمَنْعِ، بَلْ وُجُوبُ التَّكْرَارِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ مَنْعَ دُخُولِ الْإِنْسَانِ بَيْتَ غَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِإِذْنِهِ، وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ هَذَا وَهُوَ كَثِيرٌ مِثْلُ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}

ص: 112

(وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ فَقَالَ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ) وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ رَجُلٌ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينَ فَوْرٍ. وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِإِظْهَارِهِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ الرَّدُّ عَنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ وَالْخُرْجَةِ عُرْفًا، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَيْهِ. (وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ

وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَسْتَقِلُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ أَوْ الْفِعْلِ مَعَ كُلِّ مُتَكَرِّرٍ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْرَارِ سِوَاهُ.

وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا عَنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ لُزُومَ تَكْرَارِ الْإِذْنِ لِلْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِيهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} فَأَلْزَمَ بَعْضُ الْمُحَشِّينَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ مِمَّا يُؤْذِي الزَّوْجَ أَيْضًا، وَهَذَا ذُهُولٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} الْمَنْعُ الَّذِي هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ يَثْبُتُ بِالْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ.

أَمَّا هُنَا فَالنَّظَرُ فِيمَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ يَمِينُ الْحَالِفِ وَيَلْزَمُ بِعَدَمِهِ الْكَفَّارَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللَّفْظِ النَّاصِّ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَا بِالْعِلَّةِ لَوْ صَرَّحَ بِهَا بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ لِإِسْكَارِهِ فَإِنَّهُ لَوْ شَرِبَ مِزْرًا لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ حَنِثَ وَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مُسْكِرًا، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهَا بَلْ اُسْتُنْبِطَتْ كَمَا فَعَلَ هَذَا الْبَاحِثُ حَيْثُ اسْتَنْبَطَ أَنَّ الزَّوْجَ يَكْرَهُ خُرُوجَ زَوْجَتِهِ بِلَا إذْنٍ. نَعَمْ قَدْ قَالَ: لَا تَجِدُ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ كُلِّ دُخُولٍ إلَّا بِإِذْنٍ، وَكُلُّ مَشِيئَةٍ لِلْعِبَادِ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ قَوْلٍ إنِّي فَاعِلٌ غَدًا كَذَا إلَّا بِقِرَانِهِ بِالْمَشِيئَةِ سِوَى الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ خُصُوصًا فِي الْأَخِيرِ.

وَلَوْ فُرِضَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ فَمُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ إلَّا هَذِهِ الْأَدِلَّةُ. وَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا الْمَجَازِ أَكْثَرَ وَالْكَثْرَةُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ، وَحِينَئِذٍ كَوْنُ غَيْرِ مَجَازِ الْحَذْفِ أَوْلَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مَا يَكُونُ الْحَذْفُ فِيهِ مُطَّرِدًا مُسْتَمِرًّا مَفْهُومًا مِنْ اللَّفْظِ بِلَا زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ.

وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنْ وَأَنَّ مُطَّرِدٌ وَهُنَا لَفْظَانِ آخَرَانِ هُمَا إلَى أَنْ آذَنَ لَك، وَيَجِبُ أَنْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكُ حَتَّى، وَبِغَيْرِ إذْنِي، وَيَجِبُ فِيهِ تَكْرَارُ الْإِذْنِ مِثْلُ إلَّا بِإِذْنِي لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ مَعَ وُجُودِ الْبَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا إلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ أَوْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ أَوْ إلَّا أَنْ يَقْدُمَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَقْدُمَ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ فِي دَارِهِ وَاَللَّهِ لَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِي فَإِنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْيَمِينُ فِي هَذَا كُلِّهِ لِأَنَّ قُدُومَ فُلَانٍ لَا يَتَكَرَّرُ عَادَةً، وَالْإِذْنُ فِي الْكَلَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُوجَدُ مِنْ الْكَلَامِ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَكَذَا خُرُوجُ الرَّجُلِ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ عَادَةً، بِخِلَافِ الْإِذْنِ لِلزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا ذَلِكَ الْخُرُوجَ الْمَأْذُونَ فِيهِ عَادَةً لَا كُلَّ خُرُوجٍ، إلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ فِيهِ مِثْلُ أَذِنْت لَك أَنْ تَخْرُجِي كُلَّمَا أَرَدْت الْخُرُوجَ وَنَحْوِهِ، فَكَانَ الِاقْتِصَارُ فِي هَذَا الْوُجُودِ الصَّارِفِ عَنْ التَّكْرَارِ، لَا لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْكُلِّ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ بَلْ مُؤَدَّى اللَّفْظِ مَا ذَكَرْنَا، وَثُبُوتُ خِلَافِهِ لِلصَّارِفِ الْعُرْفِيِّ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُؤَدَّى اللَّفْظِيُّ فِي مِثْلِ إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي، وَإِلَّا أَنْ آذَنَ لَك لَمْ يَقَعْ الْعُرْفُ بِخِلَافِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ فَقَالَ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ رَجُلٌ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ، وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينُ الْفَوْرِ، انْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه بِإِظْهَارِهَا) وَكَانَتْ الْيَمِينُ فِي عُرْفِهِمْ قِسْمَيْنِ: مُؤَبَّدَةٌ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ مُطْلَقًا

ص: 113

اجْلِسْ فَتَغَدَّ عِنْدِي قَالَ إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَخَرَجَ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَتَغَدَّى لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَنْطَبِقُ عَلَى السُّؤَالِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدَءًا.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ

وَمُؤَقَّتَةٌ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ كَذَا الْيَوْمَ أَوْ هَذَا الشَّهْرَ.

فَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه يَمِينَ الْفَوْرِ وَهِيَ يَمِينٌ مُؤَبَّدَةٌ لَفْظًا مُؤَقَّتَةٌ مَعْنًى تَتَقَيَّدُ بِالْحَالِ، وَهِيَ مَا يَكُونُ جَوَابًا لِكَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِالْحَالِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِآخَرَ تَعَالَ تَغَدَّ عِنْدِي فَيَقُولَ إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَيَتَقَيَّدُ بِالْحَالِ. فَإِذَا تَغَدَّى فِي يَوْمِهِ فِي مَنْزِلِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حِينَ وَقَعَ جَوَابًا تَضَمَّنَ إعَادَةَ مَا فِي السُّؤَالِ وَالْمَسْئُولِ الْحَالِيِّ فَيَنْصَرِفُ الْحَلِفُ إلَى الْغَدَاءِ الْحَالِيِّ لِتَقَعَ الْمُطَابَقَةُ فَلَزِمَ الْحَالُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إذَا تَغَدَّى فِي مَنْزِلِهِ مِنْ يَوْمِهِ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْجَوَابِ فَيُعْتَبَرُ مُبْتَدِئًا لَا مُجِيبًا فَيُعْمَلُ بِظَاهِرِ لَفْظِهِ وَيُلْغَى ظَاهِرُ الْحَالِ، وَإِلْغَاؤُهُ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ لَفْظٍ صَرِيحٍ فِي مَعْنَاهُ أَوْ مَا يَكُونُ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ حَالِيٍّ، كَامْرَأَةٍ تَهَيَّأَتْ لِلْخُرُوجِ فَحَلَفَ لَا تَخْرُجُ فَإِذَا جَلَسَتْ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَتْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ الَّذِي تَهَيَّأَتْ لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ خَرَجْت السَّاعَةَ، وَمِنْهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فَحَلَفَ عَلَيْهِ لَا يَضْرِبُهُ. فَإِذَا تَرَكَهُ سَاعَةً بِحَيْثُ يَذْهَبُ فَوْرُ ذَلِكَ ثُمَّ ضَرَبَهُ

لَا يَحْنَثُ لِذَلِكَ بِعَيْنِهِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ غَدَاءٍ وَخُرُوجٍ وَضَرْبٍ. فَاعْتُبِرَ الْإِطْلَاقُ اللَّفْظِيُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرْنَا. وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ) اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا

ص: 114

لَمْ يَحْنَثْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَحْنَثُ وَإِنَّ نَوَى لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَنْوِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا، وَكَذَا شَرْعًا قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ لِلْبَائِعِ» الْحَدِيثَ فَتَخْتَلُّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا: يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ لِاخْتِلَالِ الْإِضَافَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ إذْ الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ لِلسَّيِّدِ عِنْدَهُمَا.

حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ انْعَقَدَ عَلَى حِمَارِهِ وَبَغْلَتِهِ وَفَرَسِهِ، فَلَوْ رَكِبَ جَمَلَهُ أَوْ فِيلَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الدَّابَّةِ لِمَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ خَصَّصَهُ بِالْمَرْكُوبِ الْمُعْتَادِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ رُكُوبُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمَلُ مِمَّا يُرْكَبُ أَيْضًا فِي الْأَسْفَارِ وَبَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَحْنَثُ بِالْجَمَلِ إلَّا إذَا نَوَاهُ، وَكَذَا الْفِيلُ وَالْبَقَرُ إذَا نَوَاهُ حَنِثَ وَإِلَّا لَا.

وَيَنْبَغِي إنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ الْبَدْوِ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى الْجَمَلِ أَيْضًا بِلَا نِيَّةٍ لِأَنَّ رُكُوبَهَا مُعْتَادٌ لَهُمْ، وَكَذَا إذَا كَانَ حَضَرِيًّا جَمَّالًا وَالْمَحْلُوفُ عَلَى دَابَّتِهِ جَمَّالٌ دَخَلَ فِي يَمِينِهِ بِلَا نِيَّةٍ. وَإِذَا كَانَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ انْعِقَادُهَا عَلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. فَلَوْ نَوَى بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ بِأَنْ نَوَى الْحِمَارَ دُونَ الْفَرَسِ مَثَلًا لَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً، لِأَنَّ نِيَّةَ الْخُصُوصِ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ اللَّفْظِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى دَابَّتِهِ مُكْرَهًا لَا يَحْنَثُ عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ مَرْكَبًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ حَنِثَ بِكُلِّ مَرْكَبٍ سَفِينَةٍ أَوْ مَحْمَلٍ أَوْ دَابَّةٍ

ص: 115

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ)

وَلَوْ رَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ دَابَّةَ عَبْدِهِ فَيَحْنَثُ بِهِ.

إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ بِرُكُوبِهَا وَإِنْ نَوَى دَابَّةَ الْعَبْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِرُكُوبِ دَابَّةِ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ عَرَضَتْ إضَافَتُهُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا وَشَرْعًا. قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ، وَإِنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعَ» أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَلَّتْ إضَافَةُ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لَهُ فَقَصْرُ الْإِطْلَاقِ عَنْ تَنَاوُلِهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا: وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عَلَيْهِ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ، فَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ وَنَوَاهُ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ السَّيِّدِ لِمَا فِي يَدِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلسَّيِّدِ وَإِنْ اسْتَغْرَقَ فَيَحْنَثُ بِنِيَّتِهِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ نَوَى دَابَّةَ الْعَبْدِ أَوْ لَمْ يَنْوِ لِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا: أَيْ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا الْمَحْلُوفُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَمَا فِي يَدِ الْمَأْذُونِ مِلْكُ السَّيِّدِ وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا مُسْتَغْرِقًا فَيَتَحَقَّقُ الْحِنْثُ بِرُكُوبِهَا، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله أَسْعَدُ بِالْعُرْفِ هُنَا، فَإِنَّهُ يُقَالُ هَذِهِ دَابَّةُ عَبْدِ فُلَانٍ، وَتِلْكَ دَابَّةُ سَيِّدِهِ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُضِيفُهُ الْعُرْفُ إلَيْهِ لَا إلَى مَا يُضِيفُهُ الْمِلْكُ إلَيْهِ مَعَ إضَافَةِ الْعُرْفِ إيَّاهُ إلَى غَيْرِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ إذَا صَارَتْ هَذِهِ الدَّابَّةُ تُضَافُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ لَا يَنْعَقِدَ عَلَيْهَا إلَّا بِقَصْدِهَا، لِأَنَّهُ إنْ نُظِرَ إلَى إضَافَتِهَا إلَيْهِ انْعَقَدَتْ عَلَيْهَا، وَإِنْ نُظِرَ إلَى إضَافَتِهَا إلَى غَيْرِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَيْهِ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ إذَا كَانَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا انْقَطَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَى السَّيِّدِ بِالْكُلِّيَّةِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْعُرْفَ مَا كَانَ يُضِيفُهُ إلَى السَّيِّدِ مَعَ إضَافَتِهِ إلَى الْعَبْدِ إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، فَإِذَا انْتَفَى انْتَفَى.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ)

أَعْقَبَهُ الْخُرُوجُ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْمَنْزِلِ يُرَادُ لِتَحْصِيلِ مَا بِهِ بَقَاءُ الْبِنْيَةِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} عَلَى مَا يُقَالُ. وَالْأَكْلُ إيصَالُ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ إلَى الْجَوْفِ

ص: 116

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَهُوَ الثَّمَرُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ فَيَصْلُحُ مَجَازًا عَنْهُ، لَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِصُنْعِهِ جَدِيدَةً حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ.

وَإِنْ ابْتَلَعَهُ بِلَا مَضْغٍ. وَالشُّرْبُ إيصَالُ مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ كَالْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالنَّبِيذِ هَكَذَا فِي التَّجْرِيدِ. وَذَكَرَ الزندوستي أَنَّ الْأَكْلَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الشِّفَاهِ وَالْحَلْقِ. وَالذَّوْقَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الشِّفَاهِ دُونَ الْحَلْقِ. وَالِابْتِلَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الْحَلْقِ دُونَ الشِّفَاهِ.

وَالْمَصَّ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ اللَّهَاةِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ فِي فَمِهِ شَيْءٌ فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَابْتَلَعَهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ. وَفِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ وَهُوَ الصَّوَابُ.

إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ أَكَلَ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْضَغُ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِإِيصَالِ مَا بِحَيْثُ يُمْضَغُ إلَى الْجَوْفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ عَمَلُ الشِّفَاهِ إنَّمَا يُرَادُ حَرَكَتُهَا فَهُوَ فِي الْكُلِّ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَحْنَثَ بِبَلْعِ مَا كَانَ فِي فَمِهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَرَكَةِ شَفَتَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ عَمَلِ الشِّفَاهِ هَشْمُهَا. وَالْحَقُّ أَنَّ الذَّوْقَ عَمَلُ الْفَمِ لِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ الطَّعْمِ وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ لَا. قِيلَ فَكُلُّ أَكْلٍ ذَوْقٌ وَلَيْسَ كُلُّ ذَوْقٍ أَكْلًا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ مُطْلَقٌ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَكْلَ إذَا كَانَ إيصَالَ مَا بِحَيْثُ يُهْشَمُ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ الْفَمِ مُعْتَبَرًا فِي مَفْهُومِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَحَقَّقُ مَعَهُ فَقَدْ لَزِمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا مِنْ وَجْهٍ فَيَجْتَمِعَانِ فِي إيصَالِ مَا هُشِمَ فَإِنَّ الْهَشْمَ عَمَلُ الْفَمِ: أَعْنِي الْحَنَكَيْنِ، وَيَنْفَرِدُ الذَّوْقُ فِيمَا لَمْ يُوصَلْ وَالْأَكْلُ فِيمَا اُبْتُلِعَ بِلَا مَضْغٍ مِمَّا بِحَيْثُ يُمْضَغُ وَلَا يُعْرَفُ طَعْمُهُ إلَّا بِالْمَضْغِ كَقَلْبِ اللَّوْزِ وَالْجَوْزِ، لَكِنَّ فِي الْمُحِيطِ: حَلَفَ لَا يَذُوقُ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ يَحْنَثُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْرَبُ لَا يَحْنَثُ بِالذَّوْقِ.

وَمَا رَوَى هِشَامٌ: حَلَفَ لَا يَذُوقُ فَيَمِينُهُ عَلَى الذَّوْقِ حَقِيقَةً وَهُوَ أَنْ لَا يَصِلَ إلَى جَوْفِهِ إلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى تَغَدَّ مَعِي فَحَلَفَ لَا يَذُوقُ مَعَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَهَذَا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ مَفْهُومٌ مِنْ مَفْهُومِ الذَّوْقِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالْأَكْلِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الذَّوْقِ، وَاَلَّذِي يَغْلِبُ ظَنُّهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمُحِيطِ يُرَادُ بِهَا الْأَكْلُ الْمُقْتَرِنُ بِالْمَضْغِ أَوْ الْبَلْعِ لِمَا لَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ طَعْمِهِ عَلَى الْمَضْغِ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ ابْتِلَاعَ قَلْبِ لَوْزَةٍ لَا يُقَالُ فِيهِ ذَاقَ اللَّوْزَ وَلَا يَحْنَثُ بِبَلْعِهَا، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ فَخَلَطَهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُؤْكَلُ فَأَكَلَهُ مَعَهُ حَنِثَ، وَلَوْ عَنَى بِالذَّوْقِ الْأَكْلَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا فَجَعَلَ يَمْتَصُّهُ وَيَرْمِي ثُفْلَهُ وَيَبْتَلِعُ الْمُتَحَصِّلَ بِالْمَصِّ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ أَكْلًا وَلَا شُرْبًا بَلْ مَصٌّ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا فَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ. وَلَوْ ثَرَدَ فِيهِ فَأَوْصَلَهُ إلَى جَوْفِهِ حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَثَرَدَ فِيهِ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ شَرِبَهُ حَنِثَ.

قِيلَ هَذَا إذَا حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا إذَا حَلَفَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ مُطْلَقًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يُسَمَّى خردن، فَإِذَا قَالَ نمى خرم بِلَا نِيَّةٍ صُدِّقَ عَلَيْهِمَا فَيَحْنَثُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَهَذَا حَقٌّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَجَفَّفَهُ وَدَقَّهُ ثُمَّ مَرَسَهُ بِالْمَاءِ فَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ أَكَلَهُ مَبْلُولًا حَنِثَ، وَالسَّوِيقُ إذَا شَرِبَهُ بِالْمَاءِ يَكُونُ شُرْبًا لَا أَكْلًا. فَإِنْ بَلَّهُ بِالْمَاءِ فَأَكَلَهُ حَنِثَ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا) بِالْمُثَلَّثَةِ: أَيْ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَضَافَ

ص: 117

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَصَارَ رُطَبًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ أَوْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَصَارَ تَمْرًا أَوْ صَارَ اللَّبَنُ شِيرَازًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ صِفَةَ الْبُسُورَةِ وَالرُّطُوبَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الْيَمِينِ، وَكَذَا كَوْنُهُ لَبَنًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ فَلَا يَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الدَّاعِي دَاعِيًا فِي الشَّرْعِ.

الْيَمِينَ إلَى مَا لَا يُؤْكَلُ، وَمِثْلُهُ لَا يَحْلِفُ عَلَى عَدَمِ أَكْلِهِ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعُ الْأَكْلِ قَبْلَ الْيَمِينِ فَيَلْغُو الْحَلِفُ فَوَجَبَ لِتَصْحِيحِ كَلَامِ الْعَاقِلِ صَرْفُهَا إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا تَجَوُّزًا بِاسْمِ السَّبَبِ وَهُوَ النَّخْلَةُ فِي الْمُسَبَّبِ وَهُوَ الْخَارِجُ لِأَنَّهَا سَبَبٌ فِيهِ لَكِنْ بِلَا تَغَيُّرٍ بِصُنْعٍ جَدِيدٍ، فَلَا يَحْنَثُ بِالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالنَّاطِفِ وَالدِّبْسِ الْمَطْبُوخِ.

وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ وَهُوَ مَا يَسِيلُ بِنَفْسِهِ مِنْ الرُّطَبِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِنَا صَقْرُ الرُّطَبِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالرَّامِخِ وَالْجُمَّارِ وَالطَّلْعِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى الصَّنْعَةِ لَيْسَ مِمَّا خَرَجَ مُطْلَقًا وَلِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} وَقِيلَ لِأَنَّ مَا تَحَصَّلَ بِالصَّنْعَةِ لَيْسَ مِمَّا خَرَجَ ابْتِدَاءً مِنْ النَّخْلَةِ، وَمِنْ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ انْعَقَدَ عَلَيْهِ يَمِينُهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ " مِنْ " الْمَذْكُورَةَ فِي كَلَامِهِ دَاخِلَةٌ عَلَى النَّخْلَةِ تَبْعِيضِيَّةٌ لَا ابْتِدَائِيَّةٌ، نَعَمْ مِنْ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّأْوِيلِ: أَعْنِي قَوْلَهُ لَا آكُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلَةِ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَكَأَنَّهُ اُعْتُبِرَ كَالْمَذْكُورِ؛ وَمِثْلُهُ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْكَرْمِ فَهُوَ عَلَى عِنَبِهِ وَحِصْرِمِهِ وَزَبِيبِهِ وَعَصِيرِهِ.

وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دِبْسِهِ وَالْمُرَادُ عَصِيرُهُ فَإِنَّهُ مَاءُ الْعِنَبِ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ بِلَا صُنْعٍ عِنْدَ انْتِهَاءِ نُضْجِ الْعِنَبِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ كَامِنًا بَيْنَ الْقِشْرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْعِنَبِ لَا يَحْنَثُ بِزَبِيبِهِ وَعَصِيرِهِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ لَيْسَتْ مَهْجُورَةً فَيَتَعَلَّقُ الْحَلِفُ بِمُسَمَّى الْعِنَبِ، ثُمَّ انْصِرَافُ الْيَمِينِ إلَى مَا يَخْرُجُ فِي الْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ مِنْ الشَّجَرَةِ فِيمَا إذَا كَانَ لَهَا ثَمَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ثَمَرَةٌ انْعَقَدَتْ عَلَى ثَمَنِهَا فَيَحْنَثُ بِهِ: أَيْ إذَا اشْتَرَى بِهِ مَأْكُولًا.

[فَرْعٌ]

حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَقَطَعَ غُصْنًا مِنْهَا وَوَصَلَهُ بِشَجَرَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْ ثَمَرَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مِنْ هَذَا الْغُصْنِ لَا يَحْنَثُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْنَثُ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَصَارَ رُطَبًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ فَصَارَ تَمْرًا أَوْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَصَارَ شِيرَازًا) أَيْ رَائِيًا وَهُوَ الْخَاثِرُ إذَا اُسْتُخْرِجَ مَاءَهُ فَأَكَلَهُ (لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِصِفَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ تَقَيَّدَ بِهِ فِي الْمُعَرَّفِ

ص: 118

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ فَأَكَلَ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا حَنِثَ) لِأَنَّ صِفَةَ الصِّغَرِ فِي هَذَا لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ عَنْهُ أَكْثَرُ امْتِنَاعًا عَنْ لَحْمِ الْكَبْشِ.

وَالْمُنَكَّرِ. فَإِذَا زَالَتْ زَالَ الْيَمِينُ عَنْهُ، وَمَا لَا تَصْلُحُ دَاعِيَةً اُعْتُبِرَ فِي الْمُنَكَّرِ دُونَ الْمُعَرَّفِ؛ وَصِفَةُ الْبُسُورَةِ وَالرُّطُوبَةِ مِمَّا قَدْ تَدْعُو إلَى الْيَمِينِ بِحَسَبِ الْأَمْزِجَةِ، وَكَذَا صِفَةُ اللَّبَنِيَّةِ فَإِذَا زَالَتْ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ فَأَكَلَهُ أَكَلَ مَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَيْهِ، وَيُخَصُّ اللَّبَنُ وَجْهُ ذِكْرِهِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى عَيْنِهِ لَا عَلَى مَا يَصِيرُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ فَلَا يَحْنَثُ بِشِيرَازِهِ وَلَا بِسَمْنِهِ وَزُبْدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ أَوْ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَمَا شَاخَ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُسْلِمِ بِمَنْعِ الْكَلَامِ مَعَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا يُخَالُ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ مِنْ جَهْلِهِ وَسُوءِ أَدَبِهِ إذَا كَانَ الشَّارِعُ مَنَعَنَا مِنْ هِجْرَانِ الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الدَّاعِيَ قَدْ يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَبَ الِاتِّبَاعُ، وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّ الْهِجْرَانَ قَدْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ إذَا كَانَ لِلَّهِ بِأَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ أَوْ يُخْشَى فِتْنَةٌ أَوْ فَسَادٌ عَرَضَهُ بِكَلَامِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّارِعَ مَنَعَ الْهِجْرَانَ مُطْلَقًا فَحَيْثُ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ لَا يُحْكَمُ إلَّا أَنَّهُ وُجِدَ الْمُسَوِّغَ، وَإِذَا وُجِدَ اُعْتُبِرَ الدَّاعِيَ فَتَقَيَّدَ بِصِبَاهُ وَشَبِيبَتِهِ وَنَذْكُرُ مَا فِيهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَذَا الْحَمَلِ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا حَنِثَ لِأَنَّ صِفَةَ الصِّغَرِ فِي هَذَا لَيْسَتْ دَاعِيَةً إلَى الْيَمِينِ) فَلَا تَقْيِيدَ بِهِ فَانْعَقَدَتْ عَلَى ذَاتِهِ فَيَحْنَثُ بِهِ كَبْشًا لِوُجُودِ ذَاتِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَيْسَتْ دَاعِيَةً لِأَنَّ الصِّغَرَ دَاعٍ إلَى الْأَكْلِ لَا إلَى عَدَمِهِ، فَالْمُمْتَنِعُ عَنْهُ مَعَ صُلُوحِهِ أَشَدُّ امْتِنَاعًا عَنْهُ كَبْشًا، وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَمَلَ لَيْسَ مَحْمُودًا فِي الضَّأْنِ لِكَثْرَةِ رُطُوبَاتِهِ زِيَادَةً حَتَّى قِيلَ فِيهِ النَّحِسُ بَيْنَ الْجَيِّدَيْنِ بِخِلَافَةِ كَبْشًا فَإِنَّ لَحْمَهُ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ قُوَّةً وَتَقْوِيَةً لِلْبَدَنِ لِقِلَّةِ رُطُوبَاتِهِ فَصَارَ كَالْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ فَأَكَلَهُ تَمْرًا لَا يَحْنَثُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ إيرَادَ مِثْلِ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِي مَسْأَلَةِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ ذُهُولٌ عَنْ وَضْعِ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَنِسْيَانٌ أَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى الْعُرْفِ فَيُصْرَفُ اللَّفْظُ إلَى الْمُعْتَادَةِ فِي الْعَمَلِ وَالْعُرْفِ فِي الْقَوْلِ، وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَوْ أَرَادَ مَعْنًى تَصِحُّ إرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ. فَفِي مَسْأَلَةِ الْحَمَلِ الْعُمُومُ يُفَضِّلُونَهُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ غِذَاءٌ فِي غَايَةِ الصَّلَاحِ وَمَا يُدْرِكُ نَحِسَهُ إلَّا أَفْرَادٌ عَرَفُوا شَيْئًا مِنْ الطِّبِّ فَوَجَبَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ يُصْرَفَ الْيَمِينُ إلَى ذَاتِ الْحَمَلِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَالِحًا فِي الْغَايَةِ عِنْدَ الْعُمُومِ لَا يُحْكَمُ عَلَى الْفَرْدِ مِنْ الْعُمُومِ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِهِمْ فَيَنْصَرِفُ حَلِفُهُ إلَيْهِمْ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْحَمَلِيَّةُ قَيْدًا، وَكَذَا الصَّبِيُّ لَمَّا كَانَ مَوْضِعَ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عِنْدَ الْعُمُومِ، وَفِي الشَّرْعِ لَمْ يُجْعَلْ الصِّبَا دَاعِيَةً إلَى الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْعُمُومِ فَيَنْصَرِفُ إلَى ذَاتِهِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ حَالِفٍ مِنْ النَّاسِ عَرَفَ عَدَمَ طِيبِ الْحَمَلِ وَسُوءَ أَدَبِ

ص: 119

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُسْرٍ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا وَلَا بُسْرًا فَأَكَلَ مُذَنِّبًا حَنِثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا لَا يَحْنَثُ فِي الرُّطَبِ) يَعْنِي بِالْبُسْرِ الْمُذَنِّبِ وَلَا فِي الْبُسْرِ بِالرُّطَبِ الْمُذَنِّبِ لِأَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى رُطَبًا وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ يُسَمَّى بُسْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الشِّرَاءِ. وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ الْمُذَنِّبَ مَا يَكُونُ فِي ذَنَبِهِ قَلِيلُ بُسْرٍ، وَالْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ عَلَى عَكْسِهِ فَيَكُونُ آكِلُهُ آكِلَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَقْصُودٌ فِي الْأَكْلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ فَيَتْبَعُ الْقَلِيلُ فِيهِ الْكَثِيرَ. (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبٌ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُصَادِفُ الْجُمْلَةَ وَالْمَغْلُوبَ تَابِعٌ (وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَكْلِ يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْأَكْلَ يُصَادِفُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودًا وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَعِيرًا أَوْ لَا يَأْكُلُهُ فَاشْتَرَى حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ وَأَكَلَهَا يَحْنَثُ فِي الْأَكْلِ دُونَ الشِّرَاءِ لِمَا قُلْنَا.

صَبِيٍّ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْدَعُهُ إلَّا تَرْكُ الْكَلَامِ مَعَهُ، أَوْ عَلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ مَعَهُ يَضُرُّهُ فِي عِرْضِهِ أَوْ دِينِهِ فَعَقَدَ يَمِينَهُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى مُدَّةِ كَوْنِهِ حَمَلًا، وَفِي الثَّانِي عَلَى مُدَّةِ صِبَاهُ.

فَإِنَّا نَقُولُ: لَوْ أَرَادَ حَالِفٌ تَقْيِيدَهُ بِالْحَمَلِيَّةِ وَالصِّبَا لَمْ نَمْنَعْهُ وَصَرَفْنَا يَمِينَهُ حَيْثُ صَرَفَهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَإِنَّمَا يُسْلَكُ بِهِ مَا عَلَيْهِ الْعُمُومُ أَخْطَئُوا فِيهِ أَوْ أَصَابُوا فَلْيَكُنْ هَذَا مِنْك بِبَالٍ فَإِنَّك تَدْفَعُ بِهِ كَثِيرًا مِنْ أَمْثَالِ هَذَا الْغَلَطِ الْمُورَدِ عَلَى الْأَئِمَّةِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُسْرٍ) وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَى خُصُوصِ صِفَةِ الْبُسْرِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا دَاعِيَةٌ لِلْيَمِينِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا وَلَا رُطَبًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا) بِكَسْرِ النُّونِ: وَهُوَ مَا بَدَا الْإِرْطَابُ مِنْ ذَنَبِهِ (حَنِثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا لَا يَحْنَثُ) هَكَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْخِلَافَ، وَأَكْثَرُ كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُعْتَبَرَةِ مِثْلِ الْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِهِ وَكَافِي الْحَاكِمِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ للإسبيجابي وَشُرُوحِ الْجَامِعَيْنِ وَالْإِيضَاحِ وَالْأَسْرَارِ وَالْمَنْظُومَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَغْلِبُ ظَنُّ

ص: 120

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِيهِ لِسُكُونِهِ فِي الْمَاءِ

خَطَأِ خِلَافِهِ ذُكِرَ فِيهَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَصُوَرُ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعٌ: وَهُمَا مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ رُطَبًا مُذَنِّبًا، وَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ اتِّفَاقًا. وَخِلَافِيَّتَانِ: وَهُمَا مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا. وَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا مُذَنِّبًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَاتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبُسْرَ الْمُذَنِّبَ لَا يُسَمَّى رُطَبًا لِأَنَّ الرُّطَبَ فِيهِ مَقْلُوبٌ وَأَنَّ الرُّطَبَ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِيَّةِ لَا يُسَمَّى بُسْرًا فَلَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ. وَكَذَا لَا يَحْنَثُ فِي شِرَائِهِمَا بِحَلِفِهِ لَا يَشْتَرِي بُسْرًا أَوْ رُطَبًا. وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَكْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هُوَ أَكْلُ رُطَبٍ وَبُسْرٍ فَيَحْنَثُ بِهِ لَا بِالْكُلِّ وَهَذَا لِأَنَّ أَكْلَ كُلِّ جُزْءٍ مَقْصُودٌ لِأَنَّهُ يَمْضَغُ وَيَبْلَغُ بِمَضْغٍ وَابْتِلَاعٍ يَخُصُّهُ فَلَا يَتْبَعُ الْقَلِيلُ مِنْهُ الْكَثِيرَ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةٍ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُمَا فَيَكُونُ الْقَلِيلُ فِيهِ تَبَعًا لِلْكَثِيرِ. وَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبٌ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ صَادَفَ الْمَجْمُوعَ فَكَانَ الرُّطَبُ تَابِعًا، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ حَبَّةً حَبَّةً حَنِثَ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ ذَكَرَهُ الشَّهِيدُ فِي كَافِيهِ.

وَقَدْ يُقَالُ أَوَّلًا التَّعْلِيلُ لِلْمَذْكُورِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا فَصَلَهُ فَأَكَلَهُ وَحْدَهُ. أَمَّا لَوْ أَكَلَ ذَلِكَ الْمَحَلَّ مَخْلُوطًا بِبَعْضِ الْبُسْرِ تَحَقَّقَتْ التَّبَعِيَّةُ فِي الْأَكْلِ، وَثَانِيًا هُوَ بِنَاءً عَلَى انْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا الْعُرْفِ وَإِلَّا فَالرُّطَبُ الَّذِي فِيهِ بُقْعَةُ بُسْرٍ لَا يُقَالُ لِآكِلِهِ آكِلُ بُسْرٍ فِي الْعُرْفِ فَكَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَقْعَدَ بِالْمَبْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا إلَخْ) تَنْعَقِدُ هَذِهِ الْيَمِينُ عَلَى لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَالْغَنَمِ وَالطُّيُورِ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا، وَفِي حِنْثِهِ بِالنِّيءِ خِلَافٌ الْأَظْهَرُ لَا يَحْنَثُ، وَعِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ يَحْنَثُ، فَلَوْ أَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ سُمِّيَ لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} أَيْ مِنْ الْبَحْرِ وَهُوَ السَّمَكُ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ سُفْيَانُ لِمَنْ اسْتَفْتَاهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا فَرَجَعَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ فَاسْأَلْهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَا يَحْنَثُ، فَقَالَ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: كَأَنَّك السَّائِلُ الَّذِي سَأَلْتنِي أَمْسِ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَقَالَ سُفْيَانُ: لَا يَحْنَثُ فِي هَذَا وَلَا فِي الْأَوَّلِ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ.

وَظَهَرَ أَنَّ تَمَسُّكَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ بِالْعُرْفِ لَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ مَجَازِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ مُنْشَؤُهُ مِنْ الدَّمِ وَلَا دَمَ فِي السَّمَكِ لِسُكُونِهِ الْمَاءَ، وَلِذَا حَلَّ بِلَا ذَكَاةٍ. فَإِنَّهُ يُنْقَضُ بِالْأَلْيَةِ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ مِنْ الدَّمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا لِمَكَانِ الْعُرْفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى لَحْمًا وَلَا تَذْهَبُ أَوْهَامُ أَهْلِ الْعُرْفِ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ اللَّحْمِ، وَلِذَا لَوْ قَالَ اشْتَرِ لَحْمًا فَاشْتَرَى سَمَكًا عُدَّ مُخَالِفًا،

ص: 121

(وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إنْسَانٍ يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقِيٌّ إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ. وَالْيَمِينُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ الْحَرَامِ

وَأَيْضًا يَمْنَعُ أَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ بِاعْتِبَارِ الِانْعِقَادِ مِنْ الدَّمِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الِالْتِحَامِ وَالْأَيْمَانُ لَا تُبْنَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا أَوْ لَا يَجْلِسُ عَلَى وَتَدٍ فَجَلَسَ عَلَى جَبَلٍ لَا يَحْنَثُ مَعَ تَسْمِيَتِهَا فِي الْقُرْآنِ دَابَّةً وَأَوْتَادًا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ، أَمَّا إذَا نَوَاهُ فَأَكَلَ سَمَكًا طَرِيًّا أَوْ مَالِحًا حَنِثَ.

[فَرْعٌ]

لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ لَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا كَانَ نَوَاهُ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إنْسَانٍ يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ وَالْيَمِينُ تَنْعَقِدُ عَلَى الْحَرَامِ مَنْعًا وَحَمْلًا وَإِنْ وَجَبَ فِي الْحَمْلِ أَنْ يَحْنَثَ، بِخِلَافِ النَّذْرِ لِلنَّصِّ «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَمَّا كَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَيْمَانَ تُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ وَلَا تَذْهَبُ الْأَوْهَامُ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ إلَى أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ وَإِنْ سُمِّيَ فِي الْعُرْفِ لَحْمُ الْآدَمِيِّ لَحْمًا وَكَذَا لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْعُرْفُ فِي قَوْلِنَا أَكَلَ فُلَانٌ لَحْمًا كَمَا فَعَلْنَا فِي لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ اُعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي رَكِبَ فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْهُ رُكُوبُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَتَقَيَّدَ الرُّكُوبُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِهِ.

ثُمَّ نَقَلَ الْعَتَّابِيُّ خِلَافَهُ فَقَالَ: قِيلَ الْحَالِفُ إذَا كَانَ مُسْلِمًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ أَكْلَهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ قَالَ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي الْكَافِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَمَا قِيلَ الْعُرْفُ الْعَمَلِيُّ لَا يُقَيِّدُ اللَّفْظَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي نِكَاحِ الْفُضُولِيِّ رَدَّا عَلَى الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ. وَأَوْرَدَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَكَيْفَ تَجِبُ بِفِعْلٍ هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ إنَّمَا يُرَاعَيَانِ فِي السَّبَبِ وَالسَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ، وَإِنَّمَا عَلِقَ بِهِمَا حَتَّى لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ وَحْدَهُ لِيَكُونَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ مَوْصُوفًا بِالْإِبَاحَةِ وَالْحُرْمَةِ الْإِبَاحَةُ لِلْيَمِينِ وَالْحَظْرُ لِلْحِنْثِ، وَهَذَا انْصِرَافٌ عَنْ الْمَذْهَبِ الْمُجْمَعِ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْحِنْثُ وَكَوْنُهُ الْيَمِينَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِلْقَاءُ الشَّرَاشِرِ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُغْنِي عَنْ التَّهَالُكِ فِي إثْبَاتِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ تَسْلِيمًا أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ، وَلَكِنَّا شَرَطْنَا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْحِنْثَ لِمَا ذُكِرَ، وَحِينَئِذٍ لَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَيُوجِبُ بُطْلَانَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ مِنْ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إلَى الشَّرْطِ لَا إلَى السَّبَبِ، وَكُلُّ هَذَا بِسَبَبِ الْتِزَامِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْحِنْثِ، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا جَبْرًا لِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْفَائِتَةِ بِالْحِنْثِ مَعْصِيَةً كَانَ الْحِنْثُ أَوْ طَاعَةً وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِنْثَ إذَا كَانَ وَاجِبًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَمَا يُظَنُّ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ وَاجِبًا حَرَامًا مِنْ وَجْهَيْنِ تَوَهُّمٌ، وَإِلَّا فَمَعْنَى الْوَاجِبِ

ص: 122

(وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا أَوْ كَرِشًا) لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً فَإِنَّ نُمُوَّهُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ. وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ لَحْمًا.

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي شَحْمِ الْبَطْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الظَّهْرِ أَيْضًا) وَهُوَ اللَّحْمُ السَّمِينُ لِوُجُودِ خَاصِّيَّةِ الشَّحْمِ فِيهِ وَهُوَ الذَّوْبُ بِالنَّارِ. وَلَهُ أَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً؛ أَلَا تَرَاهُ أَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ وَتَحْصُلُ بِهِ قُوَّتُهُ وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَكْلِ اللَّحْمِ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى بَيْعِ الشَّحْمِ، وَقِيلَ هَذَا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا اسْمُ بِيه بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ.

الْحَرَامِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ نَهْيًا عَنْهُ وَطَلَبًا لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ بِعَيْنِهِ مَطْلُوبَ الْعَدَمِ مَطْلُوبَ الْإِيجَادِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا وَهْمًا مِنْ الْأَوْهَامِ، وَمِثْلُهُ فِي كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ تَثْبُتُ، وَلَا جِنَايَةَ إذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا أَكَلَ كَبِدًا أَوْ كَرِشًا) أَوْ رِئَةً أَوْ قَلْبًا أَوْ طِحَالًا: يَعْنِي يَحْنَثُ لِأَنَّ نَمْوَةَ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ.

وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ لَحْمًا. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هَذَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَفِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ، وَذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ أَيْضًا. وَلَوْ أَكَلَ الرَّأْسَ وَالْأَكَارِعَ يَحْنَثُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ. وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الشَّحْمِ وَالْأَلْيَةِ إلَّا إذَا نَوَاهُ فِي اللَّحْمِ. بِخِلَافِ شَحْمِ الظَّهْرِ يَحْنَثُ بِهِ بِلَا نِيَّةٍ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلَّحْمِ فِي الْوُجُودِ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ لَحْمٌ سَمِينٌ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي شَحْمِ الْبَطْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الظَّهْرِ وَهُوَ اللَّحْمُ السَّمِينُ لِوُجُودِ خَاصِّيَّةَ الشَّحْمِ فِيهِ وَهُوَ الذَّوْبُ بِالنَّارِ) فَلَزِمَ كَوْنُهُ مِنْ نَفْسِ مُسَمَّاهُ، وَلِذَا اسْتَثْنَى فِي قَوْله تَعَالَى {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} فَيَحْنَثُ بِهِ (وَلَهُ أَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ الدَّمِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ) فِي اتِّخَاذِ أَلْوَانِ الطَّعَامِ وَالْقَلَايَا فَيُجْعَلُ قِطَعًا وَيُلْقَى فِيهَا لِيُؤْكَلَ أَكْلَ اللَّحْمِ وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِالشَّحْمِ (وَتَحْصُلُ بِهِ قُوَّتُهُ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَأْكُلَ اللَّحْمَ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ فِي الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ شَحْمًا) وَالْقَاطِعُ بِنَفْيِ قَوْلِهِمَا إنَّ الْعُرْفَ لَا يُفْهَمُ مِنْ اسْمِ الشَّحْمِ إلَّا مَا فِي الْبَطْنِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَائِعُهُ شَحَّامًا فِي الْعُرْفِ، وَبَائِعُ ذَلِكَ يُسَمَّى لَحَّامًا، وَالْأَيْمَانُ لَا تُبْنَى عَلَى الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَضُرُّ تَسْمِيَتُهَا شَحْمًا فِي آيَةِ الِاسْتِثْنَاءِ.

وَقَوْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ شَحْمُ الظَّهْرِ إمَّا أَلْيَةٌ أَوْ لَحْمٌ أَوْ شَحْمٌ لَا قَائِلَ إنَّهُ أَلْيَةٌ وَلَيْسَ بِلَحْمٍ لِأَنَّهُ يُذَوَّبُ دُونَ اللَّحْمِ. وَأَيْضًا يُقَالُ لَهُ شَحْمُ الظَّهْرِ لَا لَحْمُ الظَّهْرِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ شَحْمٌ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهِ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا لَا يُفِيدُ عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَهُ لَيْسَ بِلَحْمٍ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَذُوبُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِهِ يَلْزَمُ كَوْنُ الذَّوْبِ لَيْسَ لَازِمًا مُخْتَصًّا، وَاللَّوَازِمُ جَازَ كَوْنُهَا مُسَاوِيَةً لِمَلْزُومِهَا وَكَوْنُهَا أَعَمَّ مِنْهُ فَتَشْتَرِكُ الْأَنْوَاعُ الْمُتَبَايِنَةُ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ فَجَازَ كَوْنُ الذَّوْبِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَيْسَ بِلَحْمٍ وَفِي بَعْضِ مَا هُوَ لَحْمٌ وَلَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ وَكَذَا نَمْنَعُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ لَحْمُ الظَّهْرِ بَلْ نَقْطَعُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ لَحْمٌ سَمِينٌ، وَلَوْ قِيلَ هَذَا لَحْمُ الظَّهْرِ أَوْ مِنْ الظَّهْرِ لَمْ يُعَدَّ مُخْطِئًا، وَلِذَا صَحَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْأَصَحِّ، وَمَا فِي الْكَافِي مِنْ قَوْلِهِ فَصَارَتْ الشُّحُومُ أَرْبَعَةً: شَحْمُ الظَّهْرِ. وَشَحْمٌ مُخْتَلِطٌ بِالْعَظْمِ، وَشَحْمٌ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْعَاءِ. وَشَحْمُ الْبَطْنِ، فَفِي شَحْمِ الْبَطْنِ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّلَاثَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، بَلْ لَا يَنْبَغِي خِلَافٌ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ بِمَا فِي الْعَظْمِ. قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ: إنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ مُخَّ الْعَظْمِ شَحْمٌ اهـ.

وَكَذَا لَا يَنْبَغِي خِلَافٌ فِي الْحِنْثِ بِمَا عَلَى الْأَمْعَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَسْمِيَتِهِ شَحْمًا (قَوْلُهُ وَقِيلَ هَذَا) أَيْ الْخِلَافُ فِيمَا

ص: 123

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَوْ شَحْمًا فَاشْتَرَى أَلْيَةً أَوْ أَكَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ نَوْعٌ ثَالِثٌ حَتَّى لَا يُسْتَعْمَلَ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ.

إذَا قَالَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا اسْمُ بيه بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ فَلَا يَحْنَثُ إذَا عَقَدَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِأَنْ قَالَ: نمى خرم بيه ثُمَّ أَكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا أَوْ قَالَ شَحْمًا فَاشْتَرَى أَلْيَةً أَوْ أَكَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ نَوْعٌ ثَالِثٌ لَا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ) وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ فِي حَلِفِهِ عَلَى اللَّحْمِ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا فِي يَمِينِ الشَّحْمِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الشَّحْمِ فَفِيهِ نَظَرٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ جَمِيعُ اسْتِعْمَالَاتِهِ.

[فُرُوعٌ]

حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ شَاةٍ فَأَكَلَ لَحْمَ عَنْزٍ يَحْنَثُ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَا يَحْنَثُ مِصْرِيًّا كَانَ الْحَالِفُ أَوْ قَرَوِيًّا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ فِيهِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ بَقَرٍ فَأَكَلَ لَحْمَ الْجَامُوسِ يَحْنَثُ لَا فِي عَكْسِهِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَعَمَّ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ النَّاسَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا سَمَّاهُ فَمَضَغَهُ حَتَّى دَخَلَ جَوْفَهُ شَيْءٌ مِنْ مَائِهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا فِي الْعِنَبِ فَازْدَرَدَ. فَإِنْ رَمَى الْقِشْرَ وَالْحَبَّ وَابْتَلَعَ الْمَاءَ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ رَمَى قِشْرَهُ فَقَطْ وَابْتَلَعَ الْمَاءَ وَالْحَبَّ حَنِثَ لِأَنَّهُ أَكَلَ الْأَكْثَرَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِنْ الْحَلْوَى فَأَيَّ شَيْءٍ أَكَلَهُ مِنْ الْحَلْوَى مِنْ الْخَبِيصِ أَوْ الْعَسَلِ أَوْ السُّكَّرِ أَوْ النَّاطِفِ حَنِثَ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ. قَالَ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ فِي شَرْحِ الشَّافِعِيِّ: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، أَمَّا فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ بِالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالْخَبِيصِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِلْحًا فَأَكَلَ طَعَامًا مَالِحًا يَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْفُلْفُلَ فَأَكَلَ طَعَامًا فِيهِ فُلْفُلٌ، إنْ وَجَدَ طَعْمَ الْفُلْفُلِ يَحْنَثْ. وَالْفَقِيهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمِلْحِ وَالْفُلْفُلِ، فِي الْفُلْفُلِ يَحْنَثُ لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمِلْحِ فَلَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَأْكُلْ عَيْنَهُ مُفْرَدًا أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، إلَّا إذَا كَانَ وَقْتَ الْحَلِفِ دَلَالَةٌ عَلَى صَرْفِهِ إلَى الطَّعَامِ الْمَالِحِ، وَيَقُولُ الْفَقِيهُ يُفْتِي. وَفِي الْخُلَاصَةِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مِلْحِ خَتْنِهِ فَأَخَذَ مَاءً وَمِلْحًا وَجَعَلَهُمَا فِي الْعَجِينِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ تَلَاشَى.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا فَطُبِخَ بِأُرْزٍ فَأَكَلَهُ ذَكَرَ النَّسَفِيُّ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ رُئِيَتْ عَيْنُهُ وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ مَاءً. وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: إذَا كَانَ يُرَى عَيْنُهُ وَيُوجَدُ طَعْمُهُ يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زَعْفَرَانًا فَأَكَلَ كَعْكًا عَلَى وَجْهِهِ زَعْفَرَانٌ يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا السَّمْنَ فَجَعَلَهُ خَبِيصًا فَأَكَلَهُ يَحْنَثُ، إلَّا إذَا وَجَدَ طَعْمَهُ وَلَمْ يَرَ عَيْنَهُ فَلَا يَحْنَثُ. وَكَذَا عَلَى هَذَا التَّمْرُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ فَجَعَلَهُ عَصِيدَةً فَأَكَلَهَا لَا يَحْنَثُ، وَفِي أَكْلِ هَذَا السُّكَّرِ لَا يَحْنَثُ بِمَصِّ مَائِهِ، وَلَا يَأْكُلُ لَحْمًا يَشْتَرِيهِ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِ سَخْلَةٍ اشْتَرَاهَا فُلَانٌ لَا يَحْنَثُ، وَعَلَى أَنَّ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ مَرَقَةٌ وَهِيَ فِي بَيْتِهِ قَلِيلَةٌ لَا يَعُدُّهَا إذَا عَلِمَ بِهَا أَوْ كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ لَا يَحْنَثُ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ وَقَدْ غُرِفَ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ الْيَمِينِ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، كَمَا لَوْ سَخَّنَتْ الْمَحْلُوفُ عَلَى طَعَامِهَا مَا طَبَخَهُ غَيْرُهَا. وَفِي التَّجْرِيدِ: قِيلَ اسْمُ الطَّبْخِ يَقَعُ بِوَضْعِ الْقِدْرِ لَا بِإِيقَادِ النَّارِ، وَقِيلَ لَوْ أَوْقَدَ غَيْرُهَا فَوَضَعَتْ هِيَ الْقِدْرَ لَا يَحْنَثُ اهـ.

وَفِي عُرْفِنَا لَيْسَ وَاضِعُ الْقِدْرِ طَابِخًا قَطْعًا وَمُجَرَّدُ الْإِيقَادِ كَذَلِكَ، وَمِثْلُهُ يُسَمَّى صَبِيُّ الطَّبَّاخِ: يَعْنِي مُعِينَهُ، وَالطَّبَّاخُ هُوَ الْمُرَكَّبُ بِوَضْعِ التَّوَابِلِ وَإِنْ لَمْ يُوقِدْ. وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ: حَلَفَ عَلَى مَا لَا يُؤْكَلُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ فَاشْتَرَى بِهِ مَا يُؤْكَلُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى مَا يُؤْكَلُ فَاشْتَرَى بِهِ مَا يُؤْكَلُ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ، فَعَقْدُ الْيَمِينِ فِي الْأَوَّلِ عَلَى بَدَلِهِ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا يَمْلِكُهُ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا مِمَّا اشْتَرَاهُ إذَا بَاعَهُ فَأَكَلَهُ، وَكَذَا مِنْ مِيرَاثِهِ إذَا أَخْرَجَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ وَيَحْنَثُ قَبْلَهُ، بِخِلَافِ مَا زَرَعَ فُلَانٌ يَحْنَثُ بِهِ عِنْدَ

ص: 124

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: إنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا حَنِثَ أَيْضًا) لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْهُ عُرْفًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً فَإِنَّهَا تُقْلَى وَتُغْلَى وَتُؤْكَلُ قَضْمًا وَهِيَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ. وَلَوْ قَضَمَهَا حَنِثَ عِنْدَهُمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْمَجَازِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْخُبْزِ حَنِثَ أَيْضًا.

الزَّارِعِ، وَمَنْ اشْتَرَى مِنْهُ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَنْسَخُهُ الشِّرَاءُ، أَمَّا لَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ ذَلِكَ الزَّرْعَ فَبَذَرَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ، وَمِثْلُهُ مِنْ طَعَامٍ يَصْنَعُهُ فُلَانٌ فَصَنَعَهُ وَبَاعَهُ فَأَكَلَ يَحْنَثُ، وَكَذَا مِنْ كَسْبِ فُلَانٍ فَاكْتَسَبَ وَمَاتَ فَوَرِثَ عَنْهُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ، وَلَوْ انْتَقَلَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَنَحْوِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَا يَشْتَرِي ثَوْبًا مَسَّهُ فُلَانٌ فَمَسَّهُ فُلَانٌ فَبَاعَهُ مِنْهُ حَنِثَ.

حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ غَصْبٍ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الثَّمَنَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَيَصِيرُ عَلَيْهِ إثْمُ الدِّرْهَمِ، أَمَّا لَوْ أَكَلَ خُبْزًا غَصَبَهُ حَنِثَ، وَلَوْ اشْتَرَى بِذَلِكَ الْخُبْزِ لَحْمًا لَا يَحْنَثُ: يَعْنِي إذَا أَكَلَ اللَّحْمَ. وَلَوْ أَكَلَ لَحْمَ كَلْبٍ أَوْ قِرْدٍ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَالَ نَصْرٌ: بِهِ نَأْخُذُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّهُ حَرَامٌ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: مَا كَانَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ حَرَامًا مُطْلَقًا وَهُوَ حَسَنٌ، وَلَوْ اُضْطُرَّ لِأَكْلِ الْحَرَامِ أَوْ الْمَيْتَةِ اخْتَلَفُوا، وَالْمُخْتَارُ يَحْنَثُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ.

وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ بُرًّا فَطَحَنَهُ إنْ أَعْطَى مِثْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَنِثَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ مَا لَمْ يُؤَدِّ الضَّمَانَ. وَفِي الْأَجْنَاسِ الْمَعْتُوهُ وَالْمُكْرَهُ إذَا فَعَلَا شَيْئًا حَرَامًا فَهُوَ لَيْسَ بِحَلَالٍ لَهُمَا. وَلَوْ أَكَلَ مِنْ الْكَرْمِ الَّذِي دَفَعَهُ مُعَامَلَةً لَا يَحْنَثُ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا يُشْكِلُ، وَعِنْدَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّمَا أَكَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ يَعْنِي وَلَا نِيَّةَ لَهُ) لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْضِمَهَا غَيْرَ نِيئَةٍ، وَلَوْ قَضَمَهَا نِيئَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ دَقِيقِهَا أَوْ سَوِيقِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَا: إنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَيْضًا حَنِثَ لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْ خُبْزِهَا مَفْهُومٌ مِنْهُ عُرْفًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً: يَعْنِي يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ أَكَلَ الْحِنْطَةَ حَقِيقَةً: أَيْ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ عَيْنَ الْحِنْطَةِ فَإِنَّهُ مَعْنًى ثَابِتٌ، فَإِنَّ النَّاسَ يَغْلُونَ الْحِنْطَةَ وَيَأْكُلُونَهَا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِ بِلَادِنَا بَلِيلَةً، وَتُقْلَى: أَيْ تُوضَعُ جَافَّةً فِي الْقِدْرِ ثُمَّ تُؤْكَلُ قَضْمًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْقَضْمِ بِخُصُوصِهَا وَهُوَ الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ بَلْ أَنْ يَأْكُلَ عَيْنَهَا بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ أَوْ بِسُطُوحِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ لِلَّفْظِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فَهِيَ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ أَكْلُ خُبْزِهَا وَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْبَقَرَةِ أَوْ الشَّاةِ فَأَكَلَ لَبَنَهَا أَوْ سَمْنَهَا أَوْ زُبْدَهَا أَوْ مِنْ هَذِهِ الْبَيْضَةِ فَأَكَلَ مِنْ فَرْخِهَا لَا يَحْنَثُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى عَيْنِهَا إذَا كَانَ مَأْكُولًا وَهُمَا يَعْكِسَانِ هَذَا الْأَصْلَ وَيَرَيَانِ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ أَوْلَى، وَرُجِّحَ قَوْلُهُمَا بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يُرِيدُ الْعُرْفَ.

فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ انْصَرَفَ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَقَرَةِ وَالْبَيْضَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّفْظِ مَجَازٌ أَشْهَرُ لِيُرَجَّحَ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَاَلَّذِي يَغْلِبُ أَنَّ التَّعَارُفَ وَالْأَكْثَرِيَّةَ لِوُجُودِ الْمَعْنَى وَهُوَ نَفْسُ فِعْلُ أَكْلِ خُبْزِ الْحِنْطَةِ لَا لِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ أَكَلْت الْيَوْمَ الْحِنْطَةَ أَوْ لَا آكُلُ حِنْطَةً فِيهِ بَلْ لَفْظُ أَكَلْت

ص: 125

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ) لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَانْصَرَفَ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ (وَلَوْ اسْتَفَّهُ كَمَا هُوَ لَا يَحْنَثُ) هُوَ الصَّحِيحُ لِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ مُرَادًا.

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُعْتَادُ أَهْلُ الْمِصْرِ أَكْلَهُ خُبْزًا) وَذَلِكَ خُبْزُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ (وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِ الْقَطَائِفِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا إلَّا إذَا نَوَاهُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ (وَكَذَا لَوْ أَكَلَ خُبْزَ الْأُرْزِ بِالْعِرَاقِ لَمْ يَحْنَثْ)

حِنْطَةً يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْلُ عَيْنِهَا كَمَا يُرَادُ مَا يُخْبَزُ مِنْ دَقِيقِهَا فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَرَجُّحِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ مُسَاوَاةِ الْمَجَازِ، لَا يُقَالُ: أَكْثَرِيَّةُ الْمَعْنَى تُوجِبُ أَكْثَرِيَّةَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ بِهِ عَلَيْهِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا لَفْظٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ بِهِ، وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَكَلْت خُبْزَ الْحِنْطَةِ، وَيُقَالُ أَكَلْت الْحِنْطَةَ، بَلْ الْآنَ لَا يُتَعَارَفُ فِي أَكْلِ الْخُبْزِ مِنْهَا إلَّا لَفْظٌ آخَرُ وَهُوَ أَكَلْت الْخُبْزَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَكْلَ الْخُبْزِ فَيَحْنَثُ بِهِ لَا بِالْقَضْمِ أَوْ الْقَضْمُ فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ اتِّفَاقًا، وَقَضَمَ يَقْضِمُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا إذَا قَضَمَهَا. وَصَحَّحَهَا فِي الذَّخِيرَةِ. وَرَجَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ رِوَايَةَ الْجَامِعِ أَنَّهُ يَحْنَثُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ حَنِثَ فِي الْخُبْزِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْقَضْمِ، وَلَا يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بَلْ يَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ زَحْفًا لِجَعْلِهِ مَجَازًا فِي الدُّخُولِ.

وَلَوْ أَكَلَ مِنْ سَوِيقِهَا حَنِثَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَيَحْتَاجُ أَبُو يُوسُفَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا ذُكِرَتْ مَقْرُونَةً بِالْأَكْلِ يُرَادُ بِهَا الْخُبْزُ دُونَ السَّوِيقِ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ عُمُومَ الْمَجَازِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا حَلَفَ عَلَى حِنْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَمَّا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ. جَوَابُهُ كَجَوَابِهِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَحَكُّمٌ. وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ الْمُتَّفَقُ عَلَى إيرَادِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ يَعُمُّ الْمُعَيَّنَةَ وَالْمُنَكَّرَةَ وَهُوَ أَنَّ عَيْنَهَا مَأْكُولٌ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ حَنِثَ لِأَنَّ عَيْنَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَانْصَرَفَ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ) فَيَحْنَثُ بِعَصِيدَتِهِ. وَفِي النَّوَازِلِ لَوْ اتَّخَذَ مِنْهُ خَبِيصًا أَخَافُ أَنْ يَحْنَثَ، فَلَوْ اسْتَفَّ عَيْنَهُ لَا يَحْنَثُ لِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ مُرَادًا فِي الْعُرْفِ فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَإِذَا نَوَاهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ، وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ. قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ حَقِيقَةٌ مَهْجُورَةٌ وَلَمَّا تَعَيَّنَ إرَادَةُ الْمَجَازِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ كَمَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ نَكَحْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَزَنَى بِهَا لَا يَحْنَثُ لِانْصِرَافِ يَمِينِهِ إلَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْوَطْءَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ مِصْرِهِ خُبْزًا وَذَلِكَ خُبْزُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ) وَلَوْ كَانَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يُعْتَادُونَ أَكْلَ الشَّعِيرِ لَا يَحْنَثُ بِهِ. وَلَوْ اعْتَادُوا خُبْزَ الذُّرَةِ كَالْحِجَازِ وَالْيُمْنِ حَنِثَ بِأَكْلِهِ وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْقَطَائِفِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ بِأَكْلِ الْكَمَاجِ لِأَنَّهُ

ص: 126

لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ عِنْدَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ أَوْ فِي بَلْدَةٍ طَعَامُهُمْ ذَلِكَ يَحْنَثُ.

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشِّوَاءَ فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ دُونَ الْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ اللَّحْمُ الْمَشْوِيُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا يُشْوَى مِنْ بِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَكَانِ الْحَقِيقَةِ.

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّبِيخَ فَهُوَ عَلَى مَا يُطْبَخُ مِنْ اللَّحْمِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ فَيُصْرَفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ مُتَعَارَفٌ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِالْمَاءِ إلَّا إذَا نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ يَحْنَثْ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي الْمِصْرِ) وَيُقَالُ يُكْنَسُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَهُوَ عَلَى

خُبْزٌ وَزِيَادَةٌ، فَالِاخْتِصَاصُ بِاسْمٍ لِلزِّيَادَةِ لَا لِلنَّقْصِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالثَّرِيدِ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا. وَفِي الْخُلَاصَةِ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا تَفَتَّتَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا، وَلَا يَحْنَثُ بِالْعَصِيدِ وَالطَّطْمَاجِ، وَلَا يَحْنَثُ لَوْ دَقَّهُ فَشَرِبَهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حِيلَةِ أَكْلِهِ أَنْ يَدُقَّهُ فَيُلْقِيَهُ فِي عَصِيدَةٍ وَيُطْبَخُ حَتَّى يَصِيرَ الْخُبْزُ هَالِكًا، وَلَا يَحْنَثُ فِي خُبْزِ الْأُرْزِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَالِفُ فِي بَلْدَةٍ يَعْتَادُونَهُ كَمَا فِي طَبَرِسْتَانَ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا طَبَرِيٌّ وَهُوَ اسْمُ آمُلَ وَأَعْمَالِهَا.

قَالَ السَّمْعَانِيُّ: سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْأَنْصَارِيَّ بِبَغْدَادَ يَقُولُ إنَّمَا هِيَ تَبَرِسْتَانُ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يُحَارِبُونَ بِالْفَاسِ فَعُرِّبَ فَقِيلَ طَبَرِسْتَانُ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: طَبَرِسْتَانُ مَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَخَذَهُ الْفَاسُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِ الطَّبَرُ وَهُوَ مُعَرَّبُ تَبَرَ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قَالَ السَّمْعَانِيُّ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ

قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: وَقَدْ سُئِلْت لَوْ أَنَّ بَدْوِيًّا اعْتَادَ أَكْلَ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَدَخَلَ بَلْدَةً الْمُعْتَادُ فِيهَا أَكْلُ خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَاسْتَمَرَّ هُوَ لَا يَأْكُلُ إلَّا الشَّعِيرَ فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَقُلْت: يَنْعَقِدُ عَلَى عُرْفِ نَفْسِهِ فَيَحْنَثُ بِالشَّعِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ إلَّا إذَا كَالَ الْحَالِفُ يَتَعَاطَاهُ فَهُوَ مِنْهُمْ فِيهِ فَيُصْرَفُ كَلَامُهُ إلَيْهِ لِذَلِكَ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِيمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ بَلْ هُوَ مُجَانِبٌ لَهُمْ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شِوَاءً فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ فَقَطْ دُونَ الْبَاذِنْجَانِ وَالْجَزَرِ) الْمَشْوِيَّيْنِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ فِي الْعُرْفِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُشْوَى مِنْ بِيضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَالْفُولِ الْأَخْضَرِ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِنَا شَوِيُّ الْعَرَبِ وَقَوْلُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَحْمَدَ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّبِيخَ فَهُوَ عَلَى مَا يُطْبَخُ مِنْ اللَّحْمِ) يَعْنِي بِالْمَاءِ حَتَّى إنَّ مَا يُتَّخَذُ قَلِيَّةً مِنْ اللَّحْمِ لَا يُسَمَّى طَبِيخًا فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ بِالْعُرْفِ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الدَّوَاءَ مِمَّا يُطْبَخُ، وَكَذَا الْفُولُ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِنَا الْفُولُ الْحَارُّ، وَلَا يُقَالُ لِآكِلِهِ آكِلُ طَبِيخًا فَيَنْصَرِفُ إلَى خَاصٍّ هُوَ أَخَصُّ الْخُصُوصِ وَهُوَ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِمَرَقٍ وَهُوَ مُتَعَارَفٌ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ مِنْ الْبَاذِنْجَانِ مِمَّا يُطْبَخُ فَيَحْنَثُ بِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْنَثُ بِالْأُرْزِ الْمَطْبُوخِ بِلَا لَحْمٍ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: يَحْنَثُ بِالْأُرْزِ إذَا طُبِخَ بِوَدَكٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ طُبِخَ بِزَيْتٍ أَوْ سَمْنٍ.

قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ: الطَّبِيخُ يَقَعُ عَلَى الشَّحْمِ أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّحْمَ بِالْمَاءِ طَبِيخٌ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ مَرَقِ اللَّحْمِ حَنِثَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ الْمَرَقَ الَّذِي طُبِخَ فِيهِ اللَّحْمُ حَنِثَ، وَقَدَّمْنَاهُ مِنْ الْمَنْقُولِ خِلَافُهُ. وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا مِنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا: يَعْنِي فِي الْعُرْفِ، بِخِلَافِ مَرَقِ اللَّحْمِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى لَحْمًا فِي الْعُرْفِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ) فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَيُبَاعُ فِيهَا مِنْ رُءُوسِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ.

ص: 127

رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الْغَنَمِ خَاصَّةً، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ فِيهِمَا وَفِي زَمَنِهِمَا فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً وَفِي زَمَانِنَا يُفْتَى عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا وَمِشْمِشًا حَنِثَ،

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: عَلَى الْغَنَمِ خَاصَّةً، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ، فَكَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ فِيهَا ثُمَّ صَارَ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَرَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ انْعِقَادِهِ فِي حَقِّ رُءُوسِ الْإِبِلِ وَفِي زَمَانِهِمَا فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً فَوَجَبَ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي كُلِّ مِصْرٍ وَقَعَ فِيهِ حَلِفُ الْحَالِفِ كَمَا هُوَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ رحمه الله. وَأَوْرَدَ أَنَّ الْعَادَةَ كَمَا هِيَ فِي الرُّءُوسِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى رُءُوسِ الْغَنَمِ أَوْ الْبَقَرِ مَعَهَا كَذَلِكَ فِي اللَّحْمِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى لَحْمِ مَا يَحِلُّ، إذْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِبَيْعِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ وَأَكْلِهِ، مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ بِاعْتِبَارِهِمَا فَحَنِثَ بِأَكْلِ لَحْمِهِمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ فِيهَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ: يَعْنِي اللُّغَوِيَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّعَارُفِ حِينَئِذٍ، وَاللَّحْمُ يُمْكِنُ فِيهِ أَكْلُ كُلِّ مَا يُسَمَّى لَحْمًا فَانْعَقَدَ بِاعْتِبَارِهِ، بِخِلَافِ الرُّءُوسِ لَا يُمْكِنُ أَكْلُ حَقِيقَتِهَا إذْ هِيَ مَجْمُوعُ الْعَظْمِ مَعَ اللَّحْمِ فَيَصِيرُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَنَقَصَ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِي الرُّءُوسِ عَلَى الْعُمُومِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُ الشِّرَاءِ عَلَى الْعُمُومِ فِيهَا.

أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ مِنْ الرُّءُوسِ مَا لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ كَرَأْسِ الْآدَمِيِّ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا أُورِدَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا رَكِبَ كَافِرًا وَهُوَ دَابَّةٌ حَقِيقَةً فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْرِ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ إمْكَانَ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ عُمُومِهِ مُنْتَفٍ إذْ مِنْ الدَّوَابِّ النَّمْلُ وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا وَلَا يُمْكِنُ رُكُوبُهُ فَيَصِيرُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهَذَا يَهْدِمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْعُرْفِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ فَوَجَبَ عِنْدَ عَدَمِ نِيَّتِهِ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا عَلَيْهِ الْعُرْفُ، وَتَقَدَّمَ تَصْحِيحُ الْعَتَّابِيِّ وَغَيْرِهِ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ عَدَمَ الْحِنْثِ وَلَيْسَ إلَّا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ مَنْظُورًا إلَيْهِ لَمَا تَجَاسَرَ أَحَدٌ عَلَى خِلَافِهِ فِي الْفُرُوعِ. .

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ مِشْمِشًا حَنِثَ)

ص: 128

وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: حَنِثَ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ: أَيْ يُتَنَعَّمُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُعْتَادِ، وَالرُّطَبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ سَوَاءً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ التَّفَكُّهُ بِهِ مُعْتَادًا حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِيَابِسِ الْبِطِّيخِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي التُّفَّاحِ وَأَخَوَاتِهِ فَيَحْنَثُ بِهَا وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقُولِ بَيْعًا وَأَكْلًا فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا. وَأَمَّا الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ فَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ مَعْنَى التَّفَكُّهِ مَوْجُودٌ فِيهَا فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْفَوَاكِهِ وَالتَّنَعُّمُ بِهَا يَفُوقُ التَّنَعُّمَ بِغَيْرِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا وَيُتَدَاوَى بِهَا فَأَوْجَبَ قُصُورًا فِي مَعْنَى التَّفَكُّهِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ أَوْ مِنْ الْأَقْوَاتِ.

وَكَذَا يَحْنَثُ بِالْخَوْخِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى، وَهَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ: أَيْ يُتَنَعَّمُ وَيُتَلَذَّذُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الْغِذَاءِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا يُقَالُ النَّارُ فَاكِهَةُ الشِّتَاءِ وَالْمِزَاحُ فَاكِهَةٌ وَالرُّطَبُ وَالْيَابِسُ فِيهِ: أَيْ فِي مَعْنَى التَّفَكُّهِ سَوَاءً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ التَّفَكُّهُ بِهِ مُعْتَادًا فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنْ خَصَّتْ الْعَادَةُ التَّفَكُّهَ بِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى كَالْبِطِّيخِ فَإِنَّهَا خَصَّتْ التَّفَكُّهَ بِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ دُونَ حَالِ يُبْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ يَابِسًا، وَهَذَا مَعْنَى: أَيْ مَعْنَى التَّفَكُّهِ بِأَنْ يُؤْكَلَ زِيَادَةً عَلَى الْغِذَاءِ مَوْجُودٌ فِي التُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخِ وَالْمِشْمِشِ فَيَحْنَثُ بِهَا اتِّفَاقًا وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبُقُولِ بَيْعًا وَأَكْلًا حَتَّى يُوضَعَانِ عَلَى الْمَائِدَةِ كَمَا يُوضَعُ الْبَقْلُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ وَهِيَ مَحِلُّ الْخِلَافِ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَعْنَى التَّفَكُّهِ مَوْجُودٌ فِيهَا بَلْ هِيَ أَعَزُّ الْفَوَاكِهِ، وَالتَّنَعُّمُ بِهَا يَفُوقُ التَّنَعُّمَ بِغَيْرِهَا مِنْ الْفَوَاكِهِ فَيَحْنَثُ بِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: هِيَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهَا مُنْفَرِدَةً حَتَّى يُسْتَغْنَى بِهَا فِي الْجُمْلَةِ فِي قِيَامِ الْبَدَنِ وَمَقْرُونَةً مَعَ الْخُبْزِ وَيُتَدَاوَى بِبَعْضِهَا كَالرُّمَّانِ فِي بَعْضِ عَوَارِضِ الْبَدَنِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّهَا يُتَفَكَّهُ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ أَصَالَةً لِحَاجَةِ الْبَقَاءِ قَصُرَ مَعْنَى التَّفَكُّهِ فَلَا يَحْنَثُ بِأَحَدِهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَحْنَثُ بِالثَّلَاثَةِ اتِّفَاقًا، وَلِهَذَا كَانَ الْيَابِسُ مِنْهَا مِنْ التَّوَابِلِ كَحَبِّ الرُّمَّانِ وَمِنْ الْأَقْوَاتِ وَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ.

وَالْمَشَايِخُ قَالُوا: هَذَا اخْتِلَافُ زَمَانٍ، فَفِي زَمَانِهِ لَا يَعُدُّونَهَا مِنْ الْفَوَاكِهِ فَأَفْتَى عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ

ص: 129

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ وَالشِّوَاءُ لَيْسَ بِإِدَامٍ وَالْمِلْحُ إدَامٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الْمُوَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ مُوَافِقٌ لَهُ كَاللَّحْمِ وَالْبِيضِ وَنَحْوِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا، وَالتَّبَعِيَّةُ فِي الِاخْتِلَاطِ حَقِيقَةٌ لِيَكُونَ قَائِمًا بِهِ، وَفِي أَنْ يُؤْكَلَ عَلَى الِانْفِرَادِ حُكْمًا، وَتَمَامُ الْمُوَافَقَةِ فِي الِامْتِزَاجِ أَيْضًا، وَالْخَلُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ بَلْ يُشْرَبُ، وَالْمِلْحُ لَا يُؤْكَلُ بِانْفِرَادِهِ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَذُوبُ فَيَكُونُ تَبَعًا، بِخِلَافِ اللَّحْمِ وَمَا يُضَاهِيهِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ، وَالْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ لَيْسَا بِإِدَامٍ هُوَ الصَّحِيحُ.

وَفِي زَمَانِهِمَا عُدَّتْ مِنْهَا فَأَفْتَيَا بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُورُ لِأَبِي حَنِيفَةَ يُخَالِفُ هَذَا الْجَمْعَ، فَإِنَّ مَبْنَى هَذَا الْعُرْفُ، وَالِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَبْنَاهُ اللُّغَةُ حَيْثُ قَالَ الْفَاكِهَةُ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةً، وَالتَّفَكُّهُ بِالشَّيْءِ مَا يُتَنَعَّمُ بِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ أَصَالَةً، وَهَذَا مَعْنَى اللُّغَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْعِنَبِ وَأَخَوَيْهِ لَيْسَ كَذَلِكَ دَائِمًا فَقَصُرَ إلَخْ أَمْكَنَ الْجَوَابُ بِجَوَازِ كَوْنِ الْعُرْفِ وَافَقَ اللُّغَةَ فِي زَمَنِهِ ثُمَّ خَالَفَهَا فِي زَمَانِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ مَا ذَكَرَ آنِفًا مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اللُّغَةُ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَيُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَمْنَعَا كَوْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ أَحْيَانَا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ النَّاسِ يُؤَثِّرُ فِي نَقْصِ كَوْنِهِ مِمَّا يُتَفَكَّهُ بِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ فَكُلُّ شَيْءٍ اُصْطُبِغَ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ) كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ وَالسَّمْنِ وَالْمَرَقِ وَالْمِلْحِ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الذَّوْبِ فِي الْفَمِ وَيَحْصُلُ بِهِ صَبْغُ الْخُبْزِ، وَاصْطُبِغَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ الصَّبْغِ، وَلَمَّا كَانَ ثُلَاثِيُّهُ وَهُوَ صَبَغَ مُتَعَدِّيًا إلَى وَاحِدٍ جَاءَ الِافْتِعَالُ مِنْهُ لَازِمًا فَلَا يُقَالُ اصْطَبَغَ الْخُبْزَ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُقَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ إذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لَهُ فَإِنَّمَا يُقَامُ غَيْرُهُ مِنْ الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ وَنَحْوِهِ، فَلِذَا يُقَالُ

ص: 130

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اُصْطُبِغَ بِهِ وَلَا يُقَالُ اصْطَبَغَ الْخُبْزَ، وَمَا لَمْ يَصْبُغْ الْخُبْزَ مِمَّا لَهُ جُرْمٌ كَجُرْمِ الْخُبْزِ وَهُوَ بِحَيْثُ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ لَيْسَ بِإِدَامٍ كَاللَّحْمِ وَالْبِيضِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ إدَامٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رحمهم الله. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يُصْبَغُ بِهِ كَالْخَلِّ وَمَا ذَكَرْنَا إدَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ غَالِبًا كَالْبِطِّيخِ وَالْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَأَمْثَالِهَا لَيْسَ إدَامًا بِالْإِجْمَاعِ: أَيْ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبِطِّيخِ وَالْعِنَبِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، خِلَافًا لِمَا قِيلَ إنَّهُمَا عَلَى الْخِلَافِ، وَمِمَّنْ صَحَّحَ الِاتِّفَاقَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَفِي الْمُحِيطِ قَالَ مُحَمَّدٌ: التَّمْرُ وَالْجَوْزُ لَيْسَا بِإِدَامٍ، وَكَذَا الْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ وَالْبَقْلُ، وَكَذَا سَائِرُ الْفَوَاكِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ يُؤْكَلَانِ تَبَعًا لِلْخُبْزِ يَكُونُ إدَامًا، أَمَّا الْبُقُولُ فَلَيْسَتْ بِإِدَامٍ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ آكِلَهَا لَا يُسَمَّى مُؤْتَدِمًا إلَّا مَا قَدْ يُقَالُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَكْلِهِمْ الْكُرَّاثَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْبُقُولُ وَالْبَصَلُ وَسَائِرُ الثِّمَارِ إدَامٌ.

وَفِي التَّمْرِ عِنْدَهُ وَجْهَانِ: فِي وَجْهٍ إدَامٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةٍ وَقَالَ هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: لَيْسَ إدَامًا لِأَنَّهُ فَاكِهَةً كَالزَّبِيبِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجُبْنِ وَالْبِيضِ وَاللَّحْمِ، فَجَعَلَهَا مُحَمَّدٌ إدَامًا لِأَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ وَحْدَهَا غَالِبًا فَكَانَتْ تَبَعًا لِلْخُبْزِ وَمُوَافَقَةً لَهُ، وَالْمُؤَادَمَةُ الْمُوَافَقَةُ وَمِنْهُ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُغِيرَةِ حِينَ خَطَبَ امْرَأَةً: لَوْ نَظَرْتَ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» أَيْ يُوَفَّقَ، فَمَا يُؤْكَلُ غَالِبًا تَبَعًا لِلْخُبْزِ مُوَافِقًا لَهُ إدَامٌ وَالْجُبْنُ وَأَخَوَاهُ كَذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

وَيُقَالُ إنَّ مَلِكَ الرُّومِ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِشَرِّ إدَامٍ عَلَى يَدِ شَرِّ رَجُلٍ، فَبَعَثَ إلَيْهِ جُبْنًا عَلَى يَدِ رَجُلٍ يَسْكُنُ فِي بَيْتِ أَصْهَارِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ تَبَعًا، فَمَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ وَلَوْ أَحْيَانَا لَيْسَ إدَامًا وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرَ مَعَ الْخُبْزِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَهِيَ بِأَنْ يَقُومَ بِهِ قِيَامَ الصَّبْغِ بِالثَّوْبِ وَهُوَ أَنْ يَنْغَمِسَ فِيهِ جِسْمُهُ إذْ حَقِيقَةُ الْقِيَامِ غَيْرُ مُرَادَةٍ لِأَنَّ الْخَلَّ وَنَحْوَهُ لَيْسَ عَرَضَا يَقُومُ بِالْجَوْهَرِ. وَالْأَجْرَامُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الْبِيضِ وَمَا مَعَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِإِدَامٍ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ فِي مُسَمَّى الْإِدَامِ بِحَيْثُ يُؤْكَلُ تَبَعًا لِلْخُبْزِ مُوَافِقًا، سَلَّمْنَاهُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ. وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِيهِ كَوْنُهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا تَبَعًا مَنَعْنَاهُ.

نَعَمْ مَا لَا يُؤْكَلُ إلَّا تَبَعًا مُوَافِقًا أَكْمَلُ فِي مُسَمَّى الْإِدَامِ، لَكِنَّ الْإِدَامَ لَا يَخُصُّ اسْمُهُ الْأَكْمَلَ مِنْهُ. وَاسْتُدِلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا بِأَنَّهُ يُرْفَعُ إلَى الْفَمِ وَحْدَهُ بَعْدَ الْخُبْزِ أَوْ قَبْلَهُ فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّبَعِيَّةُ، بِخِلَافِ الْمُصْطَبَغِ بِهِ. وَأُجِيبَ عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ كَوْنَهُ سَيِّدَ الْإِدَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ إدَامًا، إذْ قَدْ يُقَالُ فِي الْخَلِيفَةِ سَيِّدُ الْعَجَمِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا حِكَايَةُ مُعَاوِيَةَ فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى صِحَّتِهَا وَهِيَ بَعِيدَةٌ مِنْهَا إذْ يَبْعُدُ مِنْ إمَامٍ عَالِمٍ أَنْ يَتَكَلَّفَ إرْسَالَ شَخْصٍ إلَى بِلَادِ الرُّومِ مُلْتَزِمًا لِمُؤْنَتِهِ لِغَرَضٍ مُهْمَلٍ لِكَافِرٍ. وَالسُّكْنَى فِي بَيْتِ الصِّهْرِ فَقَطْ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّاكِنُ شَرَّ رَجُلٍ، فَآثَارُ الْبُطْلَانِ تَلُوحُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَدَفْعُ الِاسْتِدْلَالِ لَهُمَا بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّبَعِيَّةُ فِي الْأَكْلِ، وَالْأَكْلُ هُوَ فِعْلُ الْفَمِ وَالْحَلْقِ وَهُمَا مُخْتَلِطَانِ فِيهِ ثَمَّةَ فَتَحْصُلُ التَّبَعِيَّةُ حِينَئِذٍ.

وَيُدْفَعُ بِأَنَّ كَوْنَ التَّبَعِيَّةِ فِي الْفَمِ بَعْدَ رَفْعِ كُلٍّ عَلَى حِدَتِهِ تُحَكَّمُ إذْ هُمَا فِيهِ إذًا جِسْمَانِ مُتَكَافِئَانِ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا رُفِعَ صِبْغًا لِلْخُبْزِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ سَدُّ الْجُوعِ بِالْخُبْزِ لَا بِالصِّبْغِ. وَأَمَّا الْجِسْمَانِ الْمُتَكَافِئَانِ فَكُلٌّ يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْجُوعِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى الْآخَرِ فِي رَفْعِهِ.

ص: 131

(وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ وَالْعَشَاءُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ يُسَمَّى عِشَاءً وَلِهَذَا تُسَمَّى الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ (وَالسُّحُورُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السَّحَرِ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ.

قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَكْسِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إلَّا رَغِيفًا فَأَكَلَ مَعَهُ الْبِيضَ وَنَحْوَهُ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَهُمَا وَحَنِثَ عِنْد مُحَمَّدٍ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَالْغَدَاءُ الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ وَالْعَشَاءُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمَدِّ (مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) وَهَذَا تَسَاهُلٌ مَعْرُوفُ الْمَعْنَى لَا يُعْتَرَضُ بِهِ. فَإِنَّ الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ فِي الْوَقْتَيْنِ لَا لِلْأَكْلِ فِيهِمَا.

فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ فَالتَّغَدِّي الْأَكْلُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالتَّعَشِّي الْأَكْلُ مِنْ الظُّهْرِ إلَخْ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الظُّهْرِ يُسَمَّى عِشَاءً بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الظُّهْرُ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فِي الْحَدِيثِ، إذْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ» وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا الظُّهْرُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. هَذَا وَتَفْسِيرُ التَّغَدِّي بِالْأَكْلِ مِنْ الْفَجْرِ إلَى آخِرِهِ مَذْكُورٌ فِي التَّجْرِيدِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ وَوَقْتُ التَّغَدِّي مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ، وَيُشْبِهُ كَوْنَهُ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَفِيهَا التَّسَحُّرُ بَعْدَ ذَهَابِ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ، وَيُوَافِقُهُ مَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى السَّحَرِ قَالَ: إذَا دَخَلَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ فَكَلَّمَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَقَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَقْتُ الْغَدَاءِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَوَقْتُ الْعَشَاءِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ أَكْثَرُ اللَّيْلِ، وَوَقْتُ السُّحُورِ مِنْ مُضِيِّ أَكْثَرِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا: وَقْتُ الْعَشَاءِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ انْتَهَى.

فَعُرْفُهُمْ كَانَ مُوَافِقًا لِلُّغَةِ لِأَنَّ الْغَدْوَةَ اسْمٌ لِأَوَّلِ النَّهَارِ، وَمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوَّلُهُ فَالْأَكْلُ فِيهِ تَغَدٍّ، وَقَدْ أُطْلِقَ السُّحُورُ غَدَاءً فِي «قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» وَلَيْسَ إلَّا مَجَازًا لِقُرْبِهِ مِنْ الْغَدَاةِ، وَكَذَا السُّحُورُ لَمَّا كَانَ لَا يُؤْكَلُ فِي السَّحَرِ وَالسَّحَرُ مِنْ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ سُمِّيَ مَا يُؤْكَلُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي لِقُرْبِهِ مِنْ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ سَحُورًا بِفَتْحِ السِّينِ وَالْأَكْلُ فِيهِ تَسَحُّرًا، وَالتَّضَحِّي الْأَكْلُ فِي وَقْتِ الضُّحَى وَيُسَمَّى الضَّحَاءُ أَيْضًا بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، وَوَقْتُ الضُّحَى مِنْ حِينَ تَحِلُّ الصَّلَاةُ إلَى أَنْ تَزُولَ، وَأَصْلُ هَذِهِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَن فُلَانًا حَقَّهُ ضَحْوَةً: فَوَقْتُ الضَّحْوَةِ مِنْ حِينَ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ، وَإِنْ قَالَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ فَلَهُ مِنْ حِينَ تَطْلُعُ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالنَّهْيُ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ.

وَالْمَسَاءُ مَسَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَالْآخَرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأَيَّهمَا نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يُمْسِيَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَمِينِ عَلَى الْمَسَاءِ الْأَوَّلِ فَيُحْمَلُ

ص: 132

ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً وَتُعْتَبَرُ عَادَةُ أَهْلِ كُلِّ بَلْدَةٍ فِي حَقِّهِمْ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الشِّبَعِ.

(وَمَنْ قَالَ إنْ لَبِسْت أَوْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ) لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ وَالثَّوْبُ وَمَا يُضَاهِيهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ تَنْصِيصًا وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فَلَغَتْ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيهِ (وَإِنْ قَالَ إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي مَحَلِّ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ فَعُمِلَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ.

عَلَى الْمَسَاءِ الثَّانِي وَهُوَ مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ: وَالضَّحْوَةُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي تَحِلُّ فِيهَا الصَّلَاةُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَالتَّصْبِيحُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى ارْتِفَاعِ الضَّحْوَةِ: يَعْنِي الْكُبْرَى لِأَنَّهُ مِنْ الْإِصْبَاحِ وَهَذَا يُعْرَفُ بِتَسْمِيَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنه غَدْوَةً فَهَذَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً) وَكَذَا السُّحُورُ، فَلَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ الشِّبَعِ لَا يَحْنَثُ بِحَلِفِهِ مَا تَغَدَّيْت وَلَا تَعَشَّيْت وَلَا تَسَحَّرْت. وَيُرَدُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ:«تَعَشَّوْا وَلَوْ بِكَفٍّ مِنْ حَشَفٍ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَشَاءِ مَهْرَمَةٌ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَفًّا مِنْ حَشَفٍ لَا يَبْلُغُ فِي الْعَادَةِ نِصْفَ الشِّبَعِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعُرْفَ الطَّارِئَ يُفِيدُ أَنَّهُ مَعَ الشِّبَعِ لِلْقَطْعِ مَا بِقَوْلِهِمْ مَا تَغَدَّيْت الْيَوْمَ أَوْ مَا تَعَشَّيْت الْبَارِحَةَ وَإِنْ كَانَ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ وَكَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْغَدَاءِ وَأَخَوَيْهِ فِي حَقِّ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مَا يَعْتَادُونَهُ مِنْ مَأْكُولِهِمْ، فَلَوْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَكْلَ الْخُبْزِ فِي الْغَدَاءِ أَوْ اللَّحْمِ أَوْ اللَّبَنِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ حَتَّى إنَّ الْحَضَرِيَّ إذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْغَدَاءِ فَشَرِبَ اللَّبَنَ لَمْ يَحْنَثْ، وَالْبَدْوِيُّ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ غِذَاءُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَلَوْ أَكَلَ غَيْرَ الْخُبْزِ مِنْ أُرْزٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ غَيْرُ مُعْتَادٍ التَّغَدِّي بِهِ حَتَّى شَبِعَ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا. .

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ لَبِسْت أَوْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ نَوَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ) مِنْ

ص: 133

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْمَلْبُوسِ أَوْ الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ فِي إنْ أَكَلْت وَإِنْ شَرِبْت لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ لَا فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَيَّ شَيْءٍ أَكَلَ أَوْ لَبِسَ أَوْ شَرِبَ حَنِثَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَصِحُّ نِيَّتُهُ دِيَانَةً، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَاخْتَارَهَا الْخَصَّافُ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ لِتَعْيِينِ بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ. وَالثَّوْبُ فِي إنْ لَبِسْت وَالْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ فِي إنْ أَكَلْت وَإِنْ شَرِبْت غَيْرُ مَذْكُورٍ تَنْصِيصًا فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ.

فَإِنْ قِيلَ: إنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا تَنْصِيصًا فَهُوَ مَذْكُورٌ تَقْدِيرًا وَهُوَ كَالْمَذْكُورِ تَنْصِيصًا. أُجِيبَ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لِضَرُورَةِ اقْتِضَاءِ الْأَكْلِ مَأْكُولًا، وَكَذَا اللُّبْسُ وَالشُّرْبُ، وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ عِنْدَنَا، وَلِأَنَّ ثُبُوتَهُ ضَرُورِيٌّ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَالضَّرُورَةُ فِي تَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَتَصْحِيحُهُ لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى مَأْكُولٍ لَا عَلَى مَأْكُولٍ هُوَ كَذَا فَلَا تَصِحُّ إرَادَتُهُ، فَمَبْنَى الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ أَوْ لَهُ عُمُومٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا، أَمَّا لَوْ قَالَ إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا وَقَالَ عَنَيْت شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّفْظَ الْعَامَّ الْقَابِلَ لِلتَّخْصِيصِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ لِمَآلِهَا إلَى كَوْنِهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُثْبَتَ فِي الْيَمِينِ يَكُونُ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى نَفْيُ لُبْسِ الثَّوْبِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يَقْبَلُهُ الْقَاضِي مِنْهُ.

فَإِنْ قِيلَ: يُعْتَبَرُ تَخْصِيصًا لِلْمَصْدَرِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ بِذِكْرِ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الطَّلَاقِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ أَيْضًا ضَرُورِيٌّ لِلْفِعْلِ وَالضَّرُورَةُ مُنْدَفِعَةٌ بِلَا تَعْمِيمٍ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ طَلِّقِي نَفْسَك حَيْثُ جَعَلَ الْمَصْدَرَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْفِعْلِ فَقَبْلَ الْعُمُومِ حَتَّى صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، بَلْ الْحَقُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ عَامٌّ، وَكَمَا قُلْتُمْ فِي قَوْلِهِ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى السَّفَرَ مَثَلًا يُصَدَّقُ دِيَانَةً فَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ إلَى غَيْرِهِ تَخْصِيصًا لِنَفْسِ الْخُرُوجِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى مَكَان خَاصٍّ كَبَغْدَادَ حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَكَانَ غَيْرَ مَذْكُورٍ، فَكَذَا يُرَادُ تَخْصِيصُ فِعْلِ الْأَكْلِ، وَهَكَذَا قَوْلُكُمْ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا وَنَوَى الْمُسَاكَنَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَضْمُونِ لِلْفِعْلِ.

قُلْنَا: ذَلِكَ الْمَصْدَرُ وَإِنْ عَمَّ بِسَبَبِ أَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ لِأَنَّ عُمُومَهُ ضَرُورَةٌ تُحَقِّقُ الْفِعْلَ فِي النَّفْيِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي خُصُوصِ مَحَلِّهِ الْخَاصِّ: أَعْنِي بَعْدَ لَفْظَةِ لَا فِي لَا آكُلُ إلَّا بِتَحَقُّقِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ هُنَاكَ، وَمَا لَيْسَ ثُبُوتُهُ إلَّا ضَرُورَةً أَمْرٌ لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ غَيْرَهُ، وَلَا يَثْبُتُ مَا هُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْفِعْلِ فِي النَّفْيِ ثُبُوتُ الْمَصْدَرِ الْعَامِّ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْفِعْلِ ثُبُوتُ التَّصَرُّفِ بِالتَّخْصِيصِ فَلَا يَقْبَلُهُ، بِخِلَافِ إنْ أَكَلْت أَكْلًا فَإِنَّ الِاسْمَ حِينَئِذٍ مَذْكُورٌ صَرِيحًا فَيَقْبَلُ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ هُوَ لَا يُشَكِّلُ الْفَرْقَ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَذْكُورِينَ لَيْسَ عَيْنَ الْأَكْلِ الضِّمْنِيِّ لِلْفِعْلِ الضَّرُورِيِّ الثُّبُوتِ فَقَامَ الْمَذْكُورُ مَقَامَ الِاسْمِ وَقَبْلَ التَّخْصِيصِ.

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخُرُوجِ فَقَدْ أَنْكَرَهَا الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ الْقَاضِي أَبُو الْهَيْثَمِ وَالْقَاضِي أَبُو خَازِمٍ وَالْقَاضِي الْقُمِّيُّ وَالْقَاضِي أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ، وَحَمَلُوا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهَا عَلَى مَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت خُرُوجًا وَكَأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ الْكَاتِبِ. وَمَنْ الْتَزَمَهَا أَجَابَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ فِي نَفْسِهِ مُتَنَوِّعٌ إلَى سَفَرٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُمَا قُبِلَتْ إرَادَةُ أَحَدِ نَوْعَيْهِ وَبِهِ أُجِيبَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمُسَاكَنَةِ، فَإِنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ إلَى كَامِلَةٍ وَهِيَ الْمُسَاكَنَةُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَمُطْلَقَةٌ وَهِيَ مَا تَكُونُ فِي دَارٍ، فَإِرَادَةُ الْمُسَاكَنَةِ فِي بَيْتٍ إرَادَةُ أَخَصِّ أَنْوَاعِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ أَوْ لَا يَنْكِحُ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ دُونَ امْرَأَةٍ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً، لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إمْرَارِ الْمَاءِ وَالتَّنَوُّعُ فِي أَسْبَابِهِ.

وَكَذَا لَا يَسْكُنُ دَارَ

ص: 134

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فُلَانٍ وَقَالَ عَنَيْت بِأَجْرٍ وَلَمْ يَسْبِقْ قَبْلَ ذَلِكَ كَلَامٌ بِأَنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ أَوْ اسْتَعَارَهَا فَأَبَى فَحَلَفَ يَنْوِي السُّكْنَى بِالْإِجَارَةِ أَوْ الْإِعَارَةِ لَا يَصِحُّ حَتَّى لَوْ سَكَنَهَا بِغَيْرِ أَجْرٍ حَنِثَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ وَعَنَى اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ مُتَنَوِّعٌ إلَى مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَمَا يُوجِبُهُ لِغَيْرِهِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ، بِخِلَافِ السُّكْنَى نَفْسِهَا لِأَنَّهَا لَا تَتَنَوَّعُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا الْكَيْنُونَةُ فِي الدَّارِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِالصِّفَةِ وَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ بِخِلَافِ الْجِنْسِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَنَوَى كُوفِيَّةً أَوْ بَصَرِيَّةً لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الصِّفَةِ، وَلَوْ نَوَى حَبَشِيَّةً أَوْ عَرَبِيَّةً صَحَّتْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ فِي الْجِنْسِ كَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآبَاءِ اخْتِلَافٌ بِالْجِنْسِ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْبِلَادِ اخْتِلَافٌ بِالصِّفَةِ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ لَفْظِ امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ عَيْنُ ذِكْرِ وَلَدٍ لَهُ آبَاءُ إلَى آدَمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهَا أَبٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ وَأَرَادَ بَعْضَ الْآبَاءِ دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَ الصِّفَاتُ مَذْكُورَةً بِعَيْنِ وَلَدِ آدَمَ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو الْمَوْجُودُ عَنْ صِفَةٍ فَثُبُوتُهَا مُقْتَضَى الْوُجُودِ لَا اللَّفْظِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْخَارِجِيَّةَ لَا تُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ إلَّا نَوْعًا وَاحِدًا، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْغُسْلِ وَنَحْوِهِ، وَلَا بَيْنَ الْخُرُوجِ وَنَحْوِهِ مِنْ الشِّرَاءِ، فَكَمَا أَنَّ اتِّحَادَ الْغُسْلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا إمْرَارُ الْمَاءِ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ لَيْسَ إلَّا قَطْعُ الْمَسَافَةِ غَيْرَ أَنَّهُ يُوصَفُ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ فِي الزَّمَانِ فَلَا تَصِيرُ مُنْقَسِمَةً إلَى نَوْعَيْنِ إلَّا بِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ شَرْعًا، فَإِنَّ عِنْدَ ذَلِكَ عَلِمْنَا اعْتِبَارَ الشَّرْعِ إيَّاهَا كَذَلِكَ كَمَا فِي الْخُرُوجِ الْمُخْتَلِفِ الْأَحْكَامِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ وَالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُخْتَلِفٌ حُكْمُهُمَا فَيُحْكَمُ بِتَعَدُّدِ النَّوْعِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ وَالسُّكْنَى لَيْسَ فِيهِمَا لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى وَكُلٌّ فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ لِأَنَّ الْكُلَّ قَرَارٌ فِي الْمَكَانِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي لَا آكُلُ وَلَا أَلْبَسُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى لِأَنَّ الْمُقْتَضَى مَا يُقَدَّرُ لِتَصْحِيحِ الْمَنْطُوقِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مِمَّا يُحْكَمُ بِكَذِبِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِثْلَ " رُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ " أَوْ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ شَرْعًا مَثَلَ أَعْتِقْ عَبْدَك وَلَيْسَ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا آكُلُ يُحْكَمُ بِكَذِبِ قَائِلِهِ بِمُجَرَّدِهِ وَلَا مُتَضَمِّنًا حُكْمًا لَا يَصِحُّ شَرْعًا. نَعَمْ الْمَفْعُولُ: أَعْنِي الْمَأْكُولَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ وُجُودِ فِعْلِ الْآكِلِ، وَمِثْلُهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى وَإِلَّا كَانَ كُلُّ كَلَامٍ كَذَلِكَ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يُسْتَدْعَى مَعْنَاهُ زَمَانًا وَمَكَانًا، فَكَانَ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِنَا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مَرْفُوعَانِ، وَبَيْنَ قَامَ زَيْدٌ وَجَلَسَ عَمْرٌو، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ اقْتِصَارًا وَتَنَاسِيًا، وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ وَإِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفِ وَجَعَلُوا الْمَحْذُوفَ يَقْبَلُ الْعُمُومَ، فَلَنَا أَنْ نَقُولَ: عُمُومُهُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَقَدْ صَرَّحَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ جَمْعٌ بِأَنَّ مِنْ الْعُمُومَاتِ مَا لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ مِثْلُ الْمَعَانِي إذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْمَعَانِي كَمَا هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

فَكَذَلِكَ هَذَا الْمَحْذُوفُ إذْ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِتَنَاسِيهِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ، إذْ لَيْسَ الْغَرَضُ إلَّا الْإِخْبَارُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ قَدْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِمَا قُلْنَا وَالِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّخْصِيصِ فِي بَاقِي الْمُتَعَلَّقَاتِ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، حَتَّى لَوْ نَوَى لَا يَأْكُلُ فِي مَكَان دُونَ آخَرَ أَوْ زَمَانٍ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَمِنْ صُوَرِ تَخْصِيصِ الْحَالِ أَنْ يَقُولَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ قَائِمٌ وَنَوَى فِي حَالِ قِيَامِهِ فَنِيَّتُهُ لَغْوٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ الْقَائِمَ فَإِنَّ نِيَّتَهُ تُعْمَلُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَرْقُ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ إذْ لَا يُعْقَلُ الْفِعْلُ إلَّا بِعَقْلِيَّتِهِ مَمْنُوعٌ بَلْ نَقْطَعُ بِتَعَقُّلِ مَعْنَى الْمُتَعَدِّي بِدُونِ إخْطَارِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لِوُجُودِهِ

ص: 135

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ) حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: إذَا شَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفُ الْمَفْهُومِ. وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْكَرْعِ وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ إجْمَاعًا فَمُنِعَتْ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَارَفًا.

لَا مَدْلُولًا لِلَّفْظِ. هَذَا، وَكَوْنُ إرَادَةِ نَوْعٍ لَيْسَ تَخْصِيصًا مِنْ الْعَامِّ مِمَّا يَقْبَلُ الْمَنْعَ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَصْرٍ عَامٍّ عَلَى بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهِ، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ إلَيْك قَوْلُهُ «لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ» تَخْصِيصٌ لِاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَالنِّسَاءُ نَوْعٌ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعْنَى تَخْصِيصِ النَّوْعِ لَيْسَ إلَّا إخْرَاجُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ تَخْصِيصُ السَّفَرِ تَخْصِيصُ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ فَيَسْتَمِرُّ الْإِشْكَالُ فِي يَمِينِ الْمُسَاكَنَةِ وَالْخُرُوجِ وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ مَنْ ذَكَرْنَا.

وَلَا يُجَابُ بِمَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ جَوَابًا عَنْ إيرَادِ قَائِلٍ لَوْ صَحَّتْ نِيَّةُ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ نَوْعٍ لَا بَيَانُ تَخْصِيصٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ كَمَا فِي الْخُرُوجِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ قُلْنَا نِيَّةُ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ بَيَانُ نَوْعٍ مِنْ وَجْهٍ وَتَخْصِيصٌ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهُ عُمُومٌ، فَإِذَا نَوَى أَحَدَهُمَا كَانَ تَخْصِيصًا، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمِلْكِ بَيَانُ نَوْعٍ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ فَوَفَّرْنَا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا فَقُلْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ نَوْعٍ يَصِحُّ هَذَا الْبَيَانُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَلْفُوظًا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَخْصِيصٌ لَمْ يَجُزْ فِي الْقَضَاءِ.

وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ يَصِحُّ نِيَّةً أَيَّ أَنْوَاعِ الْبَيْنُونَةِ شَاءَ مِنْ عِصْمَةِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ الْأَعَمَّ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَعُمُّ اسْتِغْرَاقًا. بِخِلَافِهِ فِي النَّفْيِ لَوْ قُلْت رَأَيْت رَجُلًا لَا يَعُمُّ أَصْنَافَ الرِّجَالِ اسْتِغْرَاقًا بِخِلَافِ مَا رَأَيْت رَجُلًا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا) أَيْ يَتَنَاوَلَ بِفَمِهِ مِنْ نَفْسِ النَّهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، أَمَّا إذَا نَوَى بِإِنَاءٍ حَنِثَ بِهِ إجْمَاعًا، وَقَالَا: إنْ شَرِبَ مِنْهَا كَيْفَمَا شَرِبَ بِإِنَاءٍ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ كَرْعًا حَنِثَ لَا فَرْقً بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ حَيْثُ يَحْنَثُ بِالشُّرْبِ مِنْ مَائِهَا بِإِنَاءٍ أَوْ كَرْعًا فِي دِجْلَةَ أَوْ نَهْرٍ آخَرَ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمَاءِ إلَيْهَا ثَابِتَةٌ فِي جَمْعِ هَذِهِ الصُّوَرِ.

وَقَوْلُهُمَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَجْهُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِنَا شَرِبَتْ مِنْ دِجْلَةَ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إمَّا مَجَازُ حَذْفٍ، أَيْ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ، أَوْ مَجَازُ عَلَاقَةٍ بِأَنْ يُعَبِّرَ بِدِجْلَةَ عَنْ مَائِهَا وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ لِأَكْثَرِيَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَلِشُهْرَةِ جَرْيِ النَّهْرِ مُقَرِّرِينَ لَهُ بِأَنَّ عَلَاقَتَهُ الْمُجَاوَرَةُ، ثُمَّ هُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ

ص: 136

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَشَرِبَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ حَنِثَ) لِأَنَّهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بَقِيَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ الشَّرْطُ فَصَارَ كَمَا إذَا شَرِبَ مِنْ مَاءِ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ.

نَفْسُ الْكَرْعِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ فَيَعُمُّ الْكَرْعَ وَغَيْرَهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ كَيْفَمَا كَانَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَلْقَى وَأَدْخَلَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ دُخُولًا وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ. وَلَهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لِلْكَلَامِ الْكَرْعُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِلْعَرَبِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّعَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ يَفْعَلُونَهُ.

وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا» وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مُسْتَعْمَلًا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً فَيَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْيَمِينُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ لَمَّا لَمْ تُهْجَرْ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ إجْمَاعًا، إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ حَنِثَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ بِذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَلَا إهْدَارُ هَذَا الْقِسْمِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْكَرْعَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِأَنَّ مِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَالْمَعْنَى ابْتِدَاءُ الشُّرْبِ مِنْ نَفْسِ دِجْلَةَ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِوَضْعِ الْفَمِ عَلَيْهَا نَفْسِهَا، فَإِذَا وَضَعَ الْفَمَ عَلَى يَدِهِ أَوْ كُوزٍ وَنَحْوِهِ فِيهِ مَاؤُهَا لَمْ يُصَدِّقْ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَهُوَ وَضْعُ فَمِهِ عَلَى نَفْسِهَا، وَأَمَّا مَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ تَوْجِيهًا لِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ لَا أَشْرَبُ بَعْضَ مَاءِ دِجْلَةَ، إذْ لَوْ أُرِيدَ حَقِيقَةُ دِجْلَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ مَعْنًى لِأَنَّ نَفْسَ دِجْلَةَ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمَشْقُوقَةُ نَهْرًا لَيْسَ مِمَّا يُشْرَبُ، وَلَوْ أُرِيدَ مَجَازُ دِجْلَةَ وَهُوَ مَاؤُهَا صَحَّتْ لِلتَّبْعِيضِ وَيَصِيرُ الْمُرَادُ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ وَهُوَ نَفْسُ قَوْلِهِمَا فَيَحْنَثُ بِالْكَرْعِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مَاءُ دِجْلَةَ، وَعَلَى هَذَا فَيُتَّجَهُ قَوْلُهُمَا بَعْدَ الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ: وَفِي تَقَدُّمِ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ انْصَرَفَ إلَى الْمَشْهُورِ مِنْهُ وَإِنْ جُعِلَتْ مِنْ لِلْبَيَانِ بِأَنْ يُقَالَ وَضْعُ الْفَمِ عَلَى نَفْسِ دِجْلَةَ لَا يُفْعَلُ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا لِلِابْتِدَاءِ فَلَزِمَ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ دِجْلَةَ مَاؤُهَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ.

فَالْمَعْنَى: لَا يَشْرَبُ بَعْضَ مَاءِ دِجْلَةَ، أَوْ لِلِابْتِدَاءِ وَالْمَعْنَى: لَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَيَحْنَثُ بِشُرْبِ مَائِهَا كَرْعًا وَغَيْرَهُ.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} إلَى قَوْلِهِ {إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا بِالْيَدِ يُخَالِفُ الشُّرْبَ مِنْهُ فَغَلَطٌ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالِاتِّصَالُ أَوْلَى إذَا أَمْكَنَ وَهُوَ مُمْكِنٌ بَلْ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ اُبْتُلُوا بِتَرْكِ الشُّرْبِ مِنْ النَّهْرِ شُرْبَ كِفَايَةٍ وَرِيٍّ، فَإِنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مُطْلَقًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا كَافِيًا فَلَيْسَ مِنِّي إلَّا مَنْ شَرِبَ مِنْهُ قَدْرَ كَفِّهِ تَحْقِيقًا بِأَنَّ اغْتَرَفَهَا. وَاَلَّذِي انْتَظَمَ عَلَيْهِ رَأْيُ أَصْحَابِنَا فِي الدَّرْسِ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ اسْمَ الدِّجْلَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِ النَّهْرِ دُونَ الْمَاءِ.

وَإِرَادَةُ وَضْعِ فَمِهِ عَلَى نَفْسِ أَجْزَائِهِ مُنْتَفٍ، فَالْمُرَادُ لَيْسَ إلَّا وَضْعُهُ عَلَى الْمَاءِ الْكَائِنِ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ جَازَ كَوْنُ الِاسْمِ حَقِيقَةً فِيهِ مُشْتَرَكًا أَوْ مَجَازًا، فَإِنْ فُرِضَ مُشْتَرَكًا فَلَا إشْكَالَ أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ: أَعْنِي مَجْمُوعَ التَّرْكِيبِ بِوَضْعِ الْفَمِ فِي مَائِهَا حَالَ كَوْنِهِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْمَحِلِّ وَإِنْ فُرِضَ مَجَازًا فِي هَذَا الْمَاءِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ لِلَّفْظِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ إلَخْ أَنَّ التَّرْكِيبَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْلِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلَا أَشْرَبُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِدِجْلَةَ وَهُوَ الْمَاءُ الْكَائِنُ فِي النَّهْرِ الْخَالِصِ وَحِينَئِذٍ جَازَ كَوْنُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى: لَا أَشْرَبُ بَعْضَ دِجْلَةَ: أَيْ الْمَاءَ الْخَاصَّ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ، فَظَهَرَ إمْكَانُ كَوْنِهَا

ص: 137

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لِلتَّبْعِيضِ مَعَ صِحَّةِ قَوْلِهِ لِلَّفْظِ: أَيْ التَّرْكِيبُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ هِيَ الشُّرْبُ مِنْ نَفْسِ الْمَاءِ الْكَائِنِ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ مَجَازُهُ فِي الْمُفْرَدِ: أَعْنِي دِجْلَةَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي مَائِهَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ النَّهْرِ عَلَى مَجَازِهِمَا وَهُوَ دِجْلَةُ فِي مَائِهَا لَا بِهَذَا الْقَيْدِ حَتَّى حَنِثَ بِالشُّرْبِ مِنْهُ بِإِنَاءٍ وَمِنْ نَهْرٍ صَغِيرٍ يَأْخُذُ مِنْهَا بِأَنَّهُ مَجَازٌ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ: أَعْنِي دِجْلَةَ بِمَعْنَى النَّهْرِ.

وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْكُوزِ فَصَبَّ الْمَاءَ الَّذِي فِيهِ فِي كُوزٍ آخَرَ فَشَرِبَ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ قَالَ مِنْ مَاءِ هَذَا الْكُوزِ فَصَبَّ فِي كُوزٍ آخَرَ فَشَرِبَ مِنْهُ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ مِنْ هَذَا الْحُبِّ أَوْ مِنْ مَاءِ هَذَا الْحُبِّ فَنَقَلَ إلَى حُبٍّ آخَرَ. وَلَوْ قَالَ مِنْ هَذَا الْحُبِّ أَوْ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ قَالَ أَبُو سَهْلٍ الشَّرْعِيُّ: لَوْ كَانَ الْحُبُّ أَوْ الْبِئْرُ مَلْآنُ فَيَمِينُهُ عَلَى الْكَرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَهُمَا عَلَى الِاعْتِرَافِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الِاعْتِرَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلْآن فَيَمِينُهُ عَلَى الِاغْتِرَاف. وَلَوْ تَكَلَّفَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَكَرَعَ مِنْ أَسْفَلِ الْحُبِّ وَالْبِئْرِ اخْتَلَفُوا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ الْعُرْفِ بِالْكَرْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

[فُرُوعٌ]

لَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ أَخَذَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ إجْمَاعًا، أَمَّا عِنْدَهُ، فَلِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى الْكَرْعِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ مِثْلُ الْفُرَاتِ فِي إمْسَاكِ الْمَاءِ فَيَقْطَعُ النِّسْبَةَ فَخَرَجَ عَنْ عُمُومِ الْمَجَازِ. أَمَّا لَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ أَخَذَ مِنْهُ حَنِثَ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى مَاءٍ مَنْسُوبٍ إلَى الْفُرَاتِ، وَالنِّسْبَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِالْأَنْهَارِ الصِّغَارِ. وَلَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مَاءً فُرَاتًا يَحْنَثُ بِكُلِّ مَاءٍ عَذْبٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ فَجَرَتْ الدِّجْلَةُ بِمَاءِ الْمَطَرِ فَشَرِبَ لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ شَرِبَ مِنْ مَاءِ وَادٍ سَالَ مِنْ الْمَطَرِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَاءٌ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ مِنْ مَاءِ مَطَرٍ مُسْتَنْقَعٍ حَنِثَ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فَانْجَمَدَ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ ذَابَ فَشَرِبَ حَنِثَ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ فَجَعَلَهُ خُرْجًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ فَتَقَهُ فَصَارَ بِسَاطًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ حَنِثَ. وَفِي فَتَاوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ: لَا يَحْنَثُ إذَا شَرِبَهُ لِانْقِطَاعِهِ النِّسْبَةَ الْأُولَى لِانْتِسَابِهِ إلَى الْجَمْدِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْحِلِّ حَنِثَ لِأَنَّ النِّسْبَةَ لَا تَنْقَطِعُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ وَسَطِ دِجْلَةَ فَوَسَطُهُ مَا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّطِّ وَذَلِكَ قَدْرُ ثُلُثِ النَّهْرِ أَوْ رُبُعِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي النِّيلِ لِأَنَّ الشَّطَّ يَنْتَفِي قَبْلَ الرُّبُعِ أَيْضًا لِسِعَتِهِ.

وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا فَهُوَ الْمُسْكِرُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَلَوْ مَطْبُوخًا لِأَنَّ الصَّالِحِينَ يُسَمُّونَهُ شَارِبَ خَمْرٍ، وَلَوْ نَوَى الْمُسْكِرَ يَحْنَثُ بِكُلِّ مُسْكِرٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا حَنِثَ بِشُرْبِ الْمَاءِ وَالنَّبِيذِ، وَكَذَا بِالْمُسَمَّى عِنْدَنَا أَقْسِمَةً وَفُقَّاعًا لَا يَشْرَبُ الْخَلَّ وَالسَّمْنَ وَالزَّيْتَ وَالْعَسَلَ. وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ بِالْمَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي اسْمِ الشَّرَابِ لِغَيْرِ الْمَاءِ وَيَحْنَثُ بِشُرْبِ اللِّينُوفَرِ.

وَقِيلَ لَا يَقَعُ عَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ. حَلَفَ لَا يَشْرَبُ بِغَيْرِ إذْنِ فُلَانٍ فَأَعْطَاهُ فُلَانٌ وَلَمْ يَأْذَنْ بِلِسَانِهِ. فِي الْخُلَاصَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ، وَهَذَا دَلِيلُ الرِّضَا وَلَيْسَ بِإِذْنٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ خَمْرًا فَمَزَجَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا كَالْأَقْسِمَةِ وَنَحْوِهِ يُعْتَبَرُ بِالْغَالِبِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ الْغَلَبَةُ بِاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ مِنْهُمَا، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا فَصَبَّ عَلَيْهِ مَاءً وَشَرِبَهُ يَحْنَثُ إنْ كَانَ اللَّوْنُ لَوْنَ اللَّبَنِ وَيُوجَدُ طَعْمُهُ، وَإِنْ كَانَ لَوْنَ الْمَاءِ لَا يَحْنَثُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بِالْأَجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَ سِوَاهُ حَنِثَ اسْتِحْسَانًا.

وَأَمَّا إذَا خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ بِأَنْ حَلَفَ عَلَى لَبَنِ بَقَرَةٍ فَخَلَطَهُ بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ كَالْجِنْسَيْنِ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْجِنْسَ عِنْدَهُ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ بَلْ يَتَكَثَّرُ بِجِنْسِهِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا يَمْتَزِجُ بِالْمَزْجِ،

ص: 138

(مَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ) يَعْنِي إذَا مَضَى الْيَوْمُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَأَصْلُهُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَبَقَائِهِ تُصَوَّرُ الْبِرِّ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْبِرِّ لِيُمْكِنَ إيجَابُهُ. وَلَهُ أَنَّهُ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ مُوجِبًا لِلْبِرِّ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ. قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ لِيَنْعَقِدَ فِي حَقِّ الْخُلْفِ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ الْغَمُوسُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ (وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً؛ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)

أَمَّا فِيمَا لَا يَمْتَزِجُ كَالدُّهْنِ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الدُّهْنِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) سَوَاءٌ عَلِمَ وَقْتَ الْحَلِفِ أَنَّ فِيهِ مَاءً أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إذَا مَضَى الْيَوْمُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ) أَيْ أَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ تَصَوُّرَ الْبِرِّ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ وَلِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْوَقْتِ عِنْدَهُمَا إلَى وُجُوبِ الْبِرِّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ تَصَوُّرُ الْبِرِّ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا لِبَقَاءِ الْمُقَيَّدَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ.

وَمِمَّا ابْتَنَى عَلَى الْخِلَافِ: لَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَن زَيْدًا الْيَوْمَ فَمَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا، وَيَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنهُ وَهُوَ مَيِّتٌ وَالْحَالِفُ جَاهِلٌ بِمَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا جَهْلَهُ بِمَوْتِهِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ انْعَقَدَتْ وَحَنِثَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى إزَالَةِ حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى حَيَاتِهِ الْقَائِمَةِ فِي ظَنِّهِ وَالْوَاقِعُ انْتِفَاؤُهَا فَكَانَ الْبِرُّ غَيْرَ مُتَصَوَّرٍ كَمَسْأَلَةِ الْكُوزِ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ إحْدَاثُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَاءَ فِيهِ لَكِنَّهُ مَاءٌ آخَرُ غَيْرُ

ص: 139

فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُوَقَّتِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ التَّوْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ فَلَا يَجِبُ الْفِعْلُ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ، وَفِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ وَقَدْ عَجَزَ فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ وَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْمُطْلَقِ يَجِبُ الْبِرُّ كَمَا فُرِغَ، فَإِذَا فَاتَ الْبِرُّ بِفَوَاتِ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ وَالْمَاءُ بَاقٍ؛ أَمَّا فِي الْمُؤَقَّتِ فَيَجِبُ الْبِرُّ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْقَ مَحَلِّيَّةُ الْبِرِّ لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ فَلَا يَجِبُ الْبِرُّ فِيهِ فَتَبْطُلُ الْيَمِينُ كَمَا إذَا عَقَدَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.

فَإِنَّ الْحَلِفَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ الْكَائِنِ فِيهِ حَالَ الْحَلِفِ وَلَا مَاءَ فِيهِ إذْ ذَاكَ فَلِذَا لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَيَأْكُلَن هَذَا الرَّغِيفَ الْيَوْمَ فَأَكَلَ قَبْلَ اللَّيْلِ أَوْ لَيَقْضِيَن فُلَانًا دِينَهُ غَدًا وَفُلَانٌ قَدْ مَاتَ وَلَا عِلْمَ لَهُ أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الْغَدِ أَوْ قَضَاهُ قَبْلَهُ أَوْ أَبْرَأهُ فُلَانٌ قَبْلَهُ لَمْ تَنْعَقِدْ عِنْدَهُمَا وَانْعَقَدَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِزَيْدٍ إنْ رَأَيْت عَمْرًا فَلَمْ أُعْلِمْك فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ زَيْدٌ فَسَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا أَوْ قَالَ هُوَ عَمْرٌو لَا يُعْتَقُ عِنْدَهُمَا لِفَوَاتِ الْإِعْلَامِ فَلَمْ تَبْقَ الْيَمِينُ، وَعِنْدَهُ يُعْتَقُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ وَفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.

وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ ثُمَّ أَعْطَاهُ لَمْ يَحْنَثْ خِلَافًا لَهُ، وَكَذَا لَيَضْرِبَنهُ أَوْ لَيُكَلِّمَنهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تُعْقَدُ لِلْبِرِّ حَمْلًا أَوْ مَنْعًا أَوْ لِإِظْهَارِ مَعْنَى الصِّدْقِ فَكَانَ مَحِلُّهَا خَبَرًا يُمْكِنُ فِيهِ الْبِرُّ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاتَ وَلَا انْعِقَادَ إلَّا فِي مَحِلِّهَا، وَإِذَا لَمْ تَنْعَقِدْ فَلَا حِنْثَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهَا مُنْعَقِدَةً لِلْبِرِّ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ فِي الْخُلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَلِفِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا حَيْثُ يَنْعَقِدُ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ عَادَةً، ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ لِمَا قُلْنَا.

قُلْنَا لَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ لِيَنْعَقِدَ فِي حَقِّ الْخُلْفِ لِأَنَّهُ فَرْعُ الْأَصْلِ فَيَنْعَقِدُ أَوَّلًا فِي حَقِّهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْخُلْفِ لِلْعَجْزِ الظَّاهِرِ، وَلِذَا لَمْ تَنْعَقِدْ الْغَمُوسُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ حَيْثُ كَانَ لِلْبِرِّ مُسْتَحِيلًا فِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً عَنْ الْوَقْتِ بِأَنْ لَمْ يَذْكُرْ الْيَوْمَ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ انْعِقَادِهَا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ لِلْحَالِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُهْرِيقَ يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا (قَوْلُهُ فَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ إلَخْ) لَا شَكَّ أَنَّ هُنَا أَرْبَعُ صُوَرٍ: صُورَتَانِ فِي الْمُقَيَّدَةِ بِالْيَوْمِ أَوْ وَقْتٍ آخَرَ جُمُعَةٍ أَوْ شَهْرٍ وَهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَصُورَتَانِ فِي الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُمَا هَاتَانِ أَيْضًا؛ فَفِي الْمُقَيَّدَةِ وَلَا مَاءَ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ وَتَنْعَقِدُ عِنْدَهُ وَيَحْنَثُ لِلْحَالِ لِلْعَجْزِ الدَّائِمِ عَنْ

ص: 140

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا) وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَأَشْبَهَ الْمُسْتَحِيلَ حَقِيقَةً فَلَا يَنْعَقِدُ. وَلَنَا أَنَّ الْبِرَّ مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الصُّعُودَ إلَى السَّمَاءِ مُمْكِنٌ حَقِيقَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصْعَدُونَ السَّمَاءَ وَكَذَا تَحَوُّلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا بِتَحْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ

الْبِرِّ مِنْ وَقْتِ الْحَلِفِ إلَى الْمَوْتِ، وَفِي الْمُقَيَّدَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ تَنْعَقِدُ بِهِ اتِّفَاقًا، فَإِذَا أُهْرِيقَ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ بَطَلَتْ عِنْدَهُمَا لِانْعِقَادِهَا ثُمَّ طَرَأَ الْعَجْزُ عَنْ الْفِعْلِ قَبْلَ آخِرِ الْمُدَّةِ لِفَوَاتِ شَرْطِ بَقَائِهَا وَهُوَ تَصَوُّرُ الْبِرِّ حَالَ الْبَقَاءِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَعِنْدَهُ يَتَأَخَّرُ الْحِنْثُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ فَهُنَاكَ يَحْنَثُ.

وَفِي الْمُطْلَقَةِ وَلَا مَاءَ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ تَنْعَقِدُ، وَيَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْحَالِيِّ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، وَفِي الْمُطْلَقَةِ وَفِيهِ مَاءٌ تَنْعَقِدُ اتِّفَاقًا لِإِمْكَانِ الْبِرِّ عِنْدَهُمَا، فَإِذَا أُرِيقَ حَنِثَ اتِّفَاقًا. أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَبِطَرِيقٍ أَوْلَى مِمَّا قَبْلَهُ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبِرِّ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْمُطْلَقَةِ إلَّا لِانْعِقَادِهَا فَقَطْ وَقَدْ وُجِدَ حَالَ الِانْعِقَادِ لِفَرْضِ وُجُودِ الْمَاءِ حَالَ الْحَلِفِ، فَقَدْ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُقَيَّدَةِ فَأَوْجَبَ الْحِنْثَ مُطْلَقًا آخِرَ الْوَقْتِ وَبَيْنَ الْمُطْلَقَةِ إذَا كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا حَالَ الْحَلِفِ فَأَوْجَبَ الْحِنْثَ حَالَ الْإِرَاقَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَالْحِنْثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْيَمِينِ.

وَلَا فَرْقَ أَنَّ التَّأْقِيتَ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْفِعْلِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ عَلَيْهِ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا يُرْجَى لَهُ فَائِدَةٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ لَكِنَّ اللَّفْظَ مَا أَوْجَبَ انْعِقَادَ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْفِعْلِ مُضَيَّقًا مُتَعَيَّنًا إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْهُ فَلَا يَحْنَثُ قَبْلَهُ. وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَصُبَّ لِهَذَا بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا مَاءَ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِ الْحِنْثِ. وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ لَا يَقَعُ الْحِنْثُ فِيهَا إلَّا بِمَوْتِ الْحَالِفِ أَوْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ حَلِفِهِ عَلَى ضَرْبِهِ أَوْ طَلَاقِهَا.

فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْبِرُّ مَرْجُوًّا وَلَا رَجَاءَ لَهُ هُنَا. وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا لَا يَثْبُتُ هَذَا الْيَأْسُ إلَّا عِنْدَ الْإِرَاقَةِ فَيَحْنَثُ إذْ ذَاكَ، وَهُمَا أَيْضًا يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا إذَا ذَكَرَ الْوَقْتَ فَأُهْرِيقَ قَبْلَ آخِرِهِ. وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ فَأُهْرِيقَ يَحْنَثُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَقْتَ إذَا ذُكِرَ كَانَ الْبِرُّ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَعِنْدَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَائِتٌ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ إذْ ذَاكَ لَيَشْرَبَن مَا فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ.

وَعَلِمْت بِهَذَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُمَا بَقَاءَ التَّصَوُّرِ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ هُوَ فِي الْمَعْنَى اشْتِرَاطُ التَّصَوُّرِ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ فَإِنَّ الْبِرَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا فَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وُجُوبُ الْبِرِّ فِي الْمُطْلَقَةِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ بِمَعْنَى تُعِنْهُ حَتَّى يَحْنَثَ فِي ثَانِي الْحَالِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ إلَى الْمَوْتِ فَيَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فَالْمُؤَقَّتَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَذَلِكَ الْجُزْءُ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فَلِأَيِّ شَيْءٍ تَبْطُلُ الْيَمِينُ عِنْدَ آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فِي الْمُؤَقَّتَةِ وَلَمْ تَبْطُلْ عِنْدَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْحَيَاةِ فِي الْمُطْلَقَةِ.

وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ مَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ تَهَبِي لِي صَدَاقَك الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَ أَبُوهَا إنْ وَهَبْت لَهُ صَدَاقَك فَأُمُّك طَالِقٌ، فَحِيلَةُ عَدَمِ حِنْثِهِمَا أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْهُ بِمَهْرِهَا ثَوْبًا مَلْفُوفًا وَتَقْبِضَهُ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ لَمْ يَحْنَثْ أَبُوهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَهَبْ صَدَاقَهَا وَلَا الزَّوْجُ لِأَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ الْهِبَةِ عِنْدَ الْغُرُوبِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ إذَا أَرَادَتْ عَوْدَ الصَّدَاقِ رَدَّتْهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَيَصْعَدَن السَّمَاءَ أَوْ لَيَقْلِبَن هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ عَقِيبَهَا) يَعْنِي إذَا حَلَفَ

ص: 141

مُتَصَوَّرًا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ مُوجِبًا لِخُلْفِهِ ثُمَّ يَحْنَثُ بِحُكْمِ الْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً. كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ مَعَ احْتِمَالِ إعَادَةِ الْحَيَاةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْحَلِفِ وَلَا مَاءَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَمْ يَنْعَقِدْ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ)

مُطْلَقًا كَمَا هِيَ فِي الْكِتَابِ. أَمَّا إذَا وَقَّتَ فَقَالَ لَأَصْعَدَن غَدًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذْ لَا حَنِثَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَيُجْعَلُ كَالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً كَمَاءِ الْكُوزِ فَلَا تَنْعَقِدُ. وَلَنَا أَنَّ صُعُودَ السَّمَاءِ مُمْكِنٌ وَلِذَا صَعِدَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَبَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا تَحْوِيلُ الْحَجَرِ ذَهَبًا بِتَحْوِيلِ اللَّهِ بِخَلْعِهِ صِفَةَ الْحَجَرِيَّةِ وَإِلْبَاسِ صِفَةِ الذَّهَبِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَوَاهِرَ كُلَّهَا مُتَجَانِسَةٌ مُسْتَوِيَةٌ فِي قَبُولِ الصِّفَاتِ أَوْ بِإِعْدَامِ الْأَجْزَاءِ الْحَجَرِيَّةِ وَإِبْدَالِهَا بِأَجْزَاءٍ ذَهَبِيَّةٍ.

وَالتَّحْوِيلُ فِي الْأَوَّلِ أَظْهَرُ وَهُوَ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَعَلَّهُ مِنْ إثْبَاتِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَانَ لَا الْبِرُّ مُتَصَوَّرًا فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ مُوجِبَةً لِخُلْفِهِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ لِلْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً فَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا مَاتَ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ كَمَا قُلْنَا مَعَ احْتِمَالِ إعَادَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَثْبُتُ مَعَهُ احْتِمَالُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ بِخِلَافِ الْعَادَةِ فَحُكِمَ بِالْحِنْثِ إجْمَاعًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ الَّذِي لَا مَاءَ فِيهِ لَا يُمْكِنُ وَلَا تَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِهِ فَلِذَا لَمْ تَنْعَقِدْ. فَمَحَطُّ الْخِلَافِ أَنَّهُ أَلْحَقَ الْمُسْتَحِيلَ عَادَةً بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً وَنَحْنُ نَمْنَعُهُ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ لَفْظٍ مُتَصَوَّرٍ فَمَعْنَاهُ مُمْكِنٌ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَعَقَّلًا مُتَفَهَّمًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَهَمُّ مِنْ الْكَلَامِ كَالْأَكْلِ وَالسُّكْنَى وَتَوَابِعِهِمَا شَرَعَ فِي الْكَلَامِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إيصَالِ مَا فِي نَفْسِهِ إلَى غَيْرِهِ لِتَحْصِيلِ مَقَاصِدِهِ. وَبَدَأَ بِالْكَلَامِ الْأَعَمِّ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ

ص: 142

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى سَمْعِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِنَوْمِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ شَرْطٌ أَنْ يُوقِظَهُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَنَبَّهْ كَانَ إذَا نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ.

الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا لِتَقَدُّمِ الْأَعَمِّ عَلَى الْخُصُوصِيَّاتِ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ) لِقُرْبِ مَكَانِهِ مِنْهُ (إلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى سَمْعِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِنَوْمِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ: أَيْ لِغَفْلَتِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوُصُولِ صَوْتِهِ إلَى صِمَاخِهِ غَيْرُ ثَابِتٍ فَأُدِيرَ عَلَى مَظِنَّةِ ذَلِكَ فَحُكِمَ بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مُصْغَيَا سَالِمًا وَلِهَذَا لَوْ كَانَ أَصَمَّ حَنِثَ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ شَرْطٌ أَنْ يُوقِظَهُ، فَإِنَّهُ فِي بَعْضِهَا فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ، وَفِي بَعْضِهَا فَنَادَاهُ وَأَيْقَظَهُ.

قَالَ: وَاخْتَارَهُ مَشَايِخُنَا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْتَبِهْ بِكَلَامِهِ صَارَ كَمَا إذَا نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ جِدًّا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَيِّزَ حُرُوفَهُ، وَفِي ذَلِكَ يَكُونُ لَاغِيًا لَا مُتَكَلِّمًا مُنَادِيًا، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ مَيِّتًا لَا يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ، بِخِلَافِ الْأَصَمِّ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كَلَّمَهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْلَا الصَّمَمُ سَمِعَ، لَا يُقَالُ: يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا فِي الْمَيِّتِ. لِأَنَّا نَقُولُ: يَمِينُهُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا عَلَى الْحَيِّ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ هُوَ الْكَلَامُ مَعَهُ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ إظْهَارُ الْمُقَاطَعَةِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ وَالْبَعِيدِ الَّذِي لَا شُعُورَ لَهُ بِنِدَائِهِ وَكَلَامِهِ، لَكِنَّ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إذَا نَادَى الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْحَرْبِ بِالْأَمَانِ مِنْ مَوْضِعٍ يَسْمَعُونَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِشُغْلِهِمْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ أَمَانٌ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَيْمَانِ الْحِنْثُ وَإِنْ لَمْ يُوقِظْهُ انْتَهَى.

وَقَدْ فَرَّقَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ الْأَمَانَ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ. وَقِيلَ يُحْكَمُ فِيهَا بِالْخِلَافِ، فَعِنْدَهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يَجْعَلَ النَّائِمَ كَالْمُسْتَيْقِظِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ، وَالْمُرَادُ بِمَا نُسِبَ إلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ مِنْ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا مَرَّ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى مَاءٍ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهِ يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ مَا فِيهَا مِنْ الِاسْتِبْعَادِ لِلْمَشَايِخِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا حَقِيقَةً وَإِلَى جَانِبِهِ حَفِيرَةُ مَاءٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا لَا يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُ فَكَيْف بِالنَّائِمِ حَتَّى حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّاعِسِ، وَأُضِيفَ إلَى هَذِهِ مَسَائِلُ تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ جُعِلَ فِيهَا النَّائِمُ كَالْمُسْتَيْقِظِ.

وَفِي الذَّخِيرَةِ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُ بِكَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ بَعْدَ الْيَمِينِ مُنْقَطِعٌ عَنْهَا لَا مُتَّصِلٌ، فَلَوْ قَالَ مَوْصُولًا إنْ كَلَّمْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاذْهَبِي أَوْ اُخْرُجِي أَوْ قُومِي أَوْ شَتَمَهَا أَوْ زَجَرَهَا مُتَّصِلًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَكُونُ مُرَادًا بِالْيَمِينِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا، وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَظْهَرِ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ وَفِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ فَاذْهَبِي أَوْ اذْهَبِي لَا تَطْلُقُ، وَلَوْ قَالَ اذْهَبِي طَلُقَتْ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ الْيَمِينِ.

وَأَمَّا مَا فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَا أُكَلِّمُك الْيَوْمَ أَوْ غَدًا حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ الْيَوْمَ بِقَوْلِهِ أَوْ غَدًا فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُقَالُ إلَّا كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِآخَرَ إنْ ابْتَدَأْتُك بِكَلَامٍ فَعَبْدِي حُرٌّ فَالْتَقَيَا فَسَلَّمَ كُلٌّ عَلَى الْآخَرِ مَعًا لَا يَحْنَثُ وَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً. وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ ابْتَدَأْتُك بِكَلَامٍ وَقَالَتْ هِيَ لَهُ كَذَلِكَ لَا يَحْنَثُ إذَا كَلَّمَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْهَا، وَلَا تَحْنَثُ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ابْتِدَائِهَا.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ لَا أَنْ لَا يَقْصِدَهُ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَضَاءً أَيْضًا. أَمَّا لَوْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ صُدِّقَ قَضَاءً عِنْدَنَا، وَلَوْ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ إمَامًا قِيلَ إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ يَسَارِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْأُولَى وَاقِعَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَحْنَثُ بِهَا بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ.

وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ بِهَا لِأَنَّهَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَحْنَثُ بِهِمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَصَحُّ مَا فِي الشَّافِي أَنَّهُ يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ. وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ إمَامًا يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَعَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَحْنَثُ مُطْلَقًا لِأَنَّ سَلَامَ الْإِمَامِ يُخْرِجُ الْمُقْتَدِي عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَلَوْ دَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ حَنِثَ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ كَيَّسَتْ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ كَيْ ترحنث، وَبِهِ أَخَذَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَوْ نَادَاهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَبَّيْكَ أَوْ لَبَّى حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ الْحَالِفُ بِكَلَامٍ لَا يَفْهَمُهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ.

وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِشَيْءٍ فَقَالَ وَقَدْ مَرَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَا حَائِطَ اسْمَعْ افْعَلْ كَيْتَ وَكَيْتَ فَسَمِعَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَفَهِمَهُ لَا يَحْنَثُ قَالَهُ فِي الذَّخِيرَةِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَنَاوَلَ امْرَأَتَهُ شَيْئًا وَقَالَهَا حَنِثَ. وَلَوْ جَاءَ كَافِرٌ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَبَيَّنَ الْإِسْلَامَ مُسْمِعًا لَهُ وَلَمْ يُوَجِّهْ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَفِي الْمُحِيطِ.

لَوْ سَبَّحَ الْحَالِفُ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لِلسَّهْوِ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ وَهُوَ مُقْتَدٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَخَارِجُ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ. وَلَوْ كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا عُرْفًا خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ فَلَا يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ وَلَا الْكِتَابَةِ، وَالْإِخْبَارُ وَالْإِقْرَارُ وَالْبِشَارَةُ تَكُونُ بِالْكِتَابَةِ لَا بِالْإِشَارَةِ، وَالْإِيمَاءِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِعْلَامِ يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ أَيْضًا.

فَإِنْ نَوَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: أَيْ فِي الْإِظْهَارِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ كَوْنَهُ بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابَةِ دُونَ الْإِشَارَةِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُحَدِّثُهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يُشَافِهَهُ، وَكَذَا لَا يُكَلِّمُهُ يُقْتَصَرُ عَلَى الْمُشَافَهَةِ. وَلَوْ قَالَ لَا أُبَشِّرُهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ حَنِثَ. وَفِي قَوْلِهِ إنْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ وَنَحْوَهُ يَحْنَثُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ.

وَلَوْ قَالَ بِقُدُومِهِ وَنَحْوِهِ فَعَلَى الصِّدْقِ خَاصَّةً، وَكَذَا إنْ أَعْلَمْتنِي، وَكَذَا الْبِشَارَةُ وَمِثْلُهُ إنْ كَتَبْت إلَيَّ أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَكَتَبَ قَبْلَ قُدُومِهِ فَوَصَلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ حَنِثَ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهِ قَبْلَ قُدُومِهِ أَوْ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ إنْ كَتَبْت إلَيَّ بِقُدُومِهِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكْتُبَ بِقُدُومِهِ الْوَاقِعَ. وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: سَأَلَنِي هَارُونُ الرَّشِيدُ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ مَنْ يَكْتُبُ إلَيْهِ بِإِيمَاءٍ أَوْ إشَارَةٍ هَلْ يَحْنَثُ؟ فَقُلْت نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا كَانَ مِثْلُك. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَكْتُبُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْأَمْرُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَيَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ لَا عَيْنَ التَّلَفُّظِ بِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَمْ يَحْنَثْ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كُلًّا مِنْهُمَا فَيَحْنَثُ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَإِنْ ذُكِرَ خِلَافُهُ

ص: 144

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى كَلَّمَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ، أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّمَاعِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِطْلَاقُ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ كَالرِّضَا. قُلْنَا: الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ مِنْ حِينِ حَلَفَ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَتَأَبَّدَ الْيَمِينُ فَذَكَرَ الشَّهْرَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَ الَّذِي يَلِي يَمِينَهُ

فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى كَلَّمَهُ حَنِثَ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ) أَيْ بِالِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ (أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّمَاعِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ) وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحِهِ حَيْثُ قَالَ ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ يَحْنَثُ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْنَثُ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِطْلَاقُ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْآذِنِ كَالرِّضَا، فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِرِضَا فُلَانٍ فَرَضِيَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْحَالِفُ حَتَّى كَلَّمَهُ لَا يَحْنَثُ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الرِّضَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ، نَعَمْ هُوَ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا ظَاهِرًا لَكِنَّ مَعْنَاهُ الْإِعْلَامُ بِالرِّضَا فَلَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الرِّضَا، وَمَا نُوقِضَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ يَصِحُّ الْإِذْنُ حَتَّى إذَا عَلِمَ يَصِيرُ مَأْذُونًا.

دُفِعَ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَقْصُودِ الْمَوْرِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ الْإِذْنِ قَبْلَ الْعِلْمِ حَيْثُ قَالَ: حَتَّى إذَا عَلِمَ صَارَ مَأْذُونًا فَعَرَفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ حُكْمُ الْإِذْنِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الشَّامِلِ فِي قِسْمِ الْمَبْسُوطِ: أَذِنَ لِعَبْدِهِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَلِمَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ، غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ الْإِذْنَ يَثْبُتُ مَوْقُوفًا عَلَى الْعِلْمِ فَسَقَطَ تَكَلُّفُ جَوَابِهِ. وَقَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ: يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ إلَخْ

(قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ) أَيْ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ (مِنْ حِينِ حَلَفَ) لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِهِ وَهُوَ غَيْظُهُ الْبَاعِثُ عَلَى الْحَلِفِ يُوجِبُ تَرْكَ الْكَلَامِ مِنْ الْآنِ، وَنَظِيرُهُ إذَا أَجَّرَهُ شَهْرًا لِأَنَّ الْعُقُودَ تُرَادُ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ الْقَائِمَةِ فِي الْحَالِ ظَاهِرًا، فَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ

ص: 145

دَخْلًا عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَمْ تَتَأَبَّدْ الْيَمِينُ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ بِهِ وَأَنَّهُ مُنَكِّرٌ فَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ

(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي صَلَاتِهِ لَا يَحْنَثُ. وَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ صَلَاتِهِ حَنِثَ) وَعَلَى هَذَا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةٌ. وَلَنَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا، قَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بَلْ قَارِئًا وَمُسَبِّحًا

مِنْ الْحَالِ فَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ بِجَهَالَةِ ابْتِدَائِهَا وَكَذَا آجَالُ الدُّيُونِ، وَأَمَّا الْأَجَلُ فِي قَوْلِهِ كَفَلْت لَك بِنَفْسِهِ إلَى شَهْرٍ؛ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا لِبَيَانِ ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ لِانْتِهَائِهَا، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لِانْتِهَاءِ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَلْزَمُ بِإِحْضَارِهِ بَعْدَ الشَّهْرِ وَأَلْحَقَاهَا بِآجَالِ الدُّيُونِ فَجَعَلَاهَا لِبَيَانِ ابْتِدَائِهَا فَلَا يَلْزَمُ بِإِحْضَارِهِ قَبْلَ الشَّهْرِ، وَهُوَ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي مِثْلِهِ لِلتَّرْفِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا فَإِنَّهُ نَكِرَةً فِي الْإِثْبَاتِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ شَهْرًا شَائِعًا يُعَيِّنُهُ الْحَلِفُ وَلَا مُوجِبَ لِصَرْفِهِ إلَى الْحَالِ وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ تَتَأَبَّدُ فَكَانَ ذِكْرُ الشَّهْرِ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَ مَا يَلِي يَمِينُهُ دَاخِلًا عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ حَيْثُ لَمْ يَعْطِفْ قَوْلَهُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ بِالْوَاوِ، وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَرَّرَهُ وَجْهَيْنِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ وَحْدَهَا تَسْتَقِلُّ بِصَرْفِ الِابْتِدَاءِ إلَى مَا يَلِي الْحَلِفَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَا قَبْلَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ تَأَبَّدَ مُتَّصِلًا بِالْإِيجَابِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَ الشَّهْرِ لَا دَلَالَةَ لَهُ سِوَى عَلَى تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ الْخَاصَّةِ ثُمَّ الزَّائِدُ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ بِالْأَصْلِ لَا بِدَلَالَتِهِ عَلَى النَّفْي، وَلَوْ فُرِضَ لَهُ دَلَالَةً عَلَى نَفْيِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ ذَلِكَ الزَّائِدِ هُوَ مَا يَلِي شَهْرًا ابْتِدَاؤُهُ مِنْ الْحَالِ فَلِذَا جَعَلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ عَمَلًا بِدَلَالَةِ حَالِهِ هُوَ الْمُعَيَّنُ لِابْتِدَائِهَا فَكَانَ وَجْهًا وَاحِدًا، إلَّا أَنَّك عَلِمْت مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ لُزُومِ التَّأْبِيدِ وَالْإِخْرَاجِ.

وَأَمَّا مَا فَرَّعَ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْإِخْرَاجِ مِمَّا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ مِنْ قَوْلِهِ إنْ تَرَكْت الصَّوْمَ شَهْرًا أَوْ كَلَامَهُ شَهْرًا تَنَاوَلَ شَهْرًا مِنْ حِينِ حَلَفَ لِأَنَّ تَرْكَ الصَّوْمِ وَالْكَلَامِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْأَبَدَ فَذَكَرَ الْوَقْتَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ، وَكَذَا إنْ لَمْ أُسَاكِنْهُ فَالْكُلُّ مُشْكِلٌ بَلْ لَوْ تَرَكَ الصَّوْمَ شَهْرًا فِي عُمْرِهِ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْهُ مُتَّصِلًا بِالْحَلِفِ وَهُوَ تَحْمِيلُ اللَّفْظِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ. نَعَمْ إنْ كَانَ فِي مِثْلِهِ عُرْفٌ يَصْرِفُهُ إلَى الْوَصْلِ بِالْحَلِفِ وَإِلَّا فَلَا

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ حَنِثَ، وَعَلَى هَذَا التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ) إذَا فَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَحْنَثُ وَخَارِجِهَا يَحْنَثُ، وَهَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ. وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَيْ الْقُرْآنَ وَالذَّكَرَ كَلَامٌ حَقِيقَةٌ. وَلَنَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» فَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّمَا نَفَى عَنْهَا كَلَامَ النَّاسِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَلَامِ مُطْلَقًا، وَهَذَا التَّفْصِيلُ جَوَابُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَلَمَّا كَانَ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَفِي الْعُرْفِ الْمُتَأَخِّرِ لَا يُسَمَّى التَّسْبِيحُ وَالْقُرْآنُ أَيْضًا وَمَا مَعَهُ كَلَامًا حَتَّى إنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ سَبَّحَ طُولَ يَوْمِهِ أَوْ قَرَأَ لَمْ يَتَكَلَّمْ الْيَوْمَ بِكَلِمَةٍ اخْتَارَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَاخْتِيرَ

ص: 146

(وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَأَمْرَأَتْهُ طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ (وَإِنْ عَنِيَ النَّهَارَ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ) لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ أَيْضًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ

لِلْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ: أَيْ تَفْرِيقٍ بَيْنَ عَقْدِ الْيَمِينِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ.

وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ كُلَّمَا تَكَلَّمْت بِكَلَامٍ حَسَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَتْ بِلَا عَطْفٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ اللَّهُ أَكْبَرُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُتَعَدِّدٌ بِالِاسْتِئْنَافِ كُلٌّ بِخِلَافِ الْمَعْطُوفِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ. وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُطْلَقِ الْكَلَامِ عُرْفًا لَا فِيمَا قُيِّدَ بِقَيْدٍ أَصْلًا.

وَأَمَّا الشِّعْرُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مَنْظُومٌ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ

وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ

»

وَعُرِفَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِيمَاءِ وَنَحْوِهِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) فَإِنْ كَلَّمَهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا حَنِثَ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِهِ: لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّوْلِيَةِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَالْكَلَامُ لَا يَمْتَدُّ؛ قِيلَ فِي وَجْهِهِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَقْبَلُ الِامْتِدَادَ إلَّا بِتَجَدُّدِ الْأَمْثَالِ كَالضَّرْبِ وَالْجُلُوسِ وَالسَّفَرِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ صُورَةٌ وَمَعْنَى، وَالْكَلَامُ الثَّانِي يُفِيدُ مَعْنًى غَيْرَ مُفَادِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ مِثْلًا.

وَمَا قِيلَ الْكَلَامُ يَتَنَوَّعُ إلَى خَبَرٍ وَاسْتِخْبَارٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ مُمْتَدٌّ، فَقَدْ يُقَالُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَدٍّ إذْ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ عَلَى هَذَا مُمْتَدٌّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ الْكَلَامِ لَيْسَ إلَّا الْأَلْفَاظُ مُفِيدَةً مَعْنًى كَيْفَمَا كَانَ فَتَحَقَّقَتْ الْمُمَاثَلَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُفَادُ مِنْ نَوْعِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْقَوْلَانِ، وَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ الطَّلَاقُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ لِأَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا يَمْتَدُّ يُقَالُ كَلَّمْته يَوْمًا، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَظْرُوفِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا الْأَصْلِ فِي الطَّلَاقِ وَاخْتِلَافِ عِبَارَاتِهِمْ فِيهِ.

وَأَنَّ الْأَوْلَى الِاعْتِبَارُ بِالْعَامِلِ الْمُعْتَبَرِ وَاقِعًا فِيهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ مَعْنَى مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الظَّرْفُ وَعَدَمُهُ لِجَعْلِ الْيَوْمِ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، بِخِلَافِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا إلَّا لِتَعْيِينِ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَا قُصِدَ إلَى إثْبَاتِ مَعْنَاهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا الْيَوْمَ وَلَا غَدًا وَلَا بَعْدَ غَدٍّ فَكَلَّمَهُ لَيْلًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَمْ يَدْخُلْ، وَكَذَا لَوْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَمْ يَدْخُلْ اللَّيْلُ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي التَّتِمَّةِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهَذَا لَا يُرَدُّ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّرْكِيبِ كَمَا ذَكَرْنَا بَلْ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ.

وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ فِيهِ النَّهَارُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِدَلَالَةِ إعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ عِنْدَ ذِكْرِ الْغَدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍّ تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ كَقَوْلِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ذِكْرُ كَلِمَةِ " فِي " فِي كُلِّ يَوْمٍ لِتَجْدِيدِ الْكَلَامِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ قَالَ كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُقُ وَاحِدَةً، وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّجْدِيدُ لَوْ أُرِيدَ بِالْيَوْمِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ (قَوْلُهُ وَإِنْ عَنِيَ النَّهَارَ خَاصَّةً) أَيْ بِلَفْظِ الْيَوْمِ (دِينَ) أَيْ صُدِّقَ (فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ) أَيْ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ كَثِيرًا فَيَقْبَلُهُ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّهَارِ وَمُطْلَقِ الْوَقْتِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ فَكَانَ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ

ص: 147

(وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ كَالنَّهَارِ لِلْبَيَاضِ خَاصَّةً، وَمَا جَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ (وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ قَبْلَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ غَايَةٌ

قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي سَوَادِهِ كَالنَّهَارِ لِلْبَيَاضِ خَاصَّةً، وَمَا نَافِيَةٌ، وَجَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ كَمَا جَاءَ فِي لَفْظِ الْيَوْمِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ قَوْلَ الْقَائِلِ:

وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً

لَيَالِي لَاقَيْنَا جِذَامًا وَحِمْيَرَا

سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سُقِينَا بِمِثْلِهَا

وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا

وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْحَرْبَ لَمْ تَكُنْ لَيْلًا.

أَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ اللَّيَالِيَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ يَنْتَظِمُ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْآخَرِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُفْرَدُ: يَعْنِي ذِكْرَ اللَّيَالِيِ يَنْتَظِمُ النُّهُرَ الَّتِي بِإِزَائِهَا، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ يَنْتَظِمُ اللَّيَالِي الَّتِي بِإِزَائِهَا. قَالَ تَعَالَى {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} وَفِي آيَةٍ أُخْرَى ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا فِي الْمُفْرَدِ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّيْلَةِ لَا يَسْتَتْبِعُ الْيَوْمَ وَلَا بِالْقَلْبِ. وَنَظَرَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّاعِرَ قَصَدَ أَنَّ الْمُلَاقَاةَ كَانَتْ مُسْتَوْعِبَةً لِلَّيَالِيِ تَتْبَعُهَا أَيَّامٌ بِقَدْرِهَا، وَالْمُتَعَارَفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْوَقْتُ لَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْوَاقِعَ قَدْ يَكُونُ أَنَّ الْحَرْبَ دَامَتْ بَيْنَهُمْ أَيَّامًا وَلَيَالِيهَا، وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ، فَأَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ بِالْوَاقِعِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَا يُفِيدُهُ وَلَا دَخْلَ لِذَلِكَ فِي خُصُوصِ عُرِفَ.

(قَوْلِهِ وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ قَالَ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ أَوْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ قَبْلَ الْقُدُومِ أَوْ الْإِذْنِ حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ وَالْإِذْنِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ غَايَةٌ) أَيْ لِأَنَّ الْقُدُومَ وَالْإِذْنَ غَايَةٌ لِعَدَمِ الْكَلَامِ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ الْمُثْبَتِ فِي الْيَمِينِ يَكُونُ لِلْمَنْعِ مِنْهُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَنْفِيِّ بِهِ وَبِالْقَلْبِ؛ فَقَوْلُهُ إنْ كَلَّمْته حَتَّى يَقْدَمَ بِمَعْنَى لَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى يَقْدَمَ وَإِنْ وَقَعَ خِلَافُ ذَلِكَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَإِذَا كَانَ غَايَةٌ لِعَدَمِ الْكَلَامِ فَالْيَمِينُ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْكَلَامِ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ فَتَبْقَى الْيَمِينُ مَا بَقِيَ عَدَمُ الْإِذْنِ الْوَاقِعِ غَايَةً فَيَقَعُ الْحِنْثُ بِالْكَلَامِ حَالَ عَدَمِهِ وَيَنْتَهِي بَعْدَ الْغَايَةِ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِهِ فَلَا يَحْنَثُ: الْكَلَامُ بَعْدَ مَجِيئِهِ وَإِذْنِهِ، أَمَّا أَنَّ حَتَّى غَايَةٌ فَظَاهِرٌ،

ص: 148

وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْغَايَةِ وَمُنْتَهِيَةٌ بَعْدَهَا فَلَا يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْيَمِينِ (وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فَسَقَطَتْ الْيَمِينُ. وَعِنْدَهُ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ.

وَإِمَّا أَنَّ إلَّا أَنْ غَايَةٌ فَلِأَنَّ بِهِ يَنْتَهِي مَنْعُ الْكَلَامِ فَشَابَهَتْ الْغَايَةَ إذَا كَانَتْ الْغَايَةُ لِمَنْعِهِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا اسْمَهَا، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أَيْ إلَى مَوْتِهِمْ.

وَقِيلَ هِيَ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى حَالِهَا وَفِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَوْ الْأَحْوَالِ عَلَى مَعْنَى " امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ أَوْ الْأَحْوَالِ إلَّا وَقْتَ قُدُومِ فُلَانٍ أَوْ إذْنِهِ وَإِلَّا حَالَ قُدُومِهِ أَوْ إذْنِهِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ إلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ يَقْدَمَ وَأَنْ يَأْذَنَ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ إلَّا إذْنُهُ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَقْيِيدَ الْكَلَامِ بِوَقْتِ الْإِذْنِ وَالْقُدُومِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْقُدُومِ أَوْ الْإِذْنِ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَوْقَاتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ إلَّا ذَلِكَ الْوَقْتَ وَهُوَ غَيْرُ الْوَاقِعِ، ثُمَّ أَوْرَدَ أَنَّ " إلَّا أَنْ شَرْطٌ لَا غَايَةٌ لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي قَوْلِهِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ زَيْدٌ فَإِنَّ الْمَعْنَى إنْ لَمْ يَقْدَمْ زَيْدٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لِلْغَايَةِ فِيمَا يُحْتَمَلُ التَّأْقِيتُ وَالطَّلَاقُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ: يَعْنِي فَتَكُونُ فِيهِ لِلشَّرْطِ اهـ.

وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا يَمْتَدُّ لِأَنَّهُ الشَّرْطُ هُنَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَلِمَا كَانَ مَظِنَّةُ أَنْ يَعْتَرِضَ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ مُثْبَتٌ فَالْمَفْهُومُ أَنَّ الْقُدُومَ شَرْطُ الطَّلَاقِ لَا عَدَمُهُ. وَجَّهَهُ شَارِحٌ آخَرُ فَقَالَ وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى إنْ لَمْ يَقْدَمْ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لَا عَلَى أَنْ قَدِمَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُدُومَ رَافِعًا لِلطَّلَاقِ فَيَكُونُ الْقُدُومُ عَلَمًا عَلَى الْوُقُوعِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَعْنَى التَّرْكِيبِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ مُسْتَمِرٌّ إلَى قُدُومِ فُلَانٍ فَيَرْتَفِعُ فَيَكُونُ قُدُومُهُ عَلَمًا عَلَى الْوُقُوعِ قَبْلَهُ، وَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ حَالَ قُدُومِ فُلَانٍ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِنَا إنْ لَمْ يَقْدَمْ، فَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ ارْتِفَاعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِالْقُدُومِ وَأَمْكَنَ وُقُوعُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدُومِ اُعْتُبِرَ الْمُمْكِنُ فَجُعِلَ عَدَمُ الْقُدُومِ شَرْطًا وَهُوَ حَاصِلُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَقْدَمْ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ أَوْ يَأْذَنَ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ أُطَلِّقُك فَأَنْتِ طَالِقٌ.

قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْمَصِيرُ إلَى هَذَا الْمَجَازِ: يَعْنِي الْغَايَةَ لَا يُصَارُ إلَى ذَلِكَ الْمَجَازِ: يَعْنِي الشَّرْطَ لِأَنَّ فِي هَذَا إجْرَاءُ الْمَجَازِ فِي مُجَرَّدِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي ذَلِكَ إجْرَاؤُهُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْقُدُومِ، لِأَنَّا نَجْعَلُ اسْتِثْنَاءَ الْقُدُومِ مَجَازًا عَنْ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْقُدُومِ وَإِجْرَاءِ الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ (قَوْلُهُ وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ سَقَطَتْ الْيَمِينُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ كَلَامٌ يَنْتَهِي) الْمَنْعُ مِنْهُ (بِالْإِذْنِ وَالْقُدُومِ وَلَمْ يَبْقَ) الْإِذْنُ وَلَا الْقُدُومُ (بَعْدَ مَوْتِ مَنْ إلَيْهِ الْإِذْنُ وَالْقُدُومُ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ) فَلَمْ يَبْقَ الْبِرُّ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ، وَبَقَاءُ تَصَوُّرِهِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَهَذَا الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ الْإِذْنِ وَالْقُدُومِ إذْ بِهِمَا يُتَمَكَّنُ مِنْ الْبِرِّ إذْ يُتَمَكَّنُ مِنْ الْكَلَامِ بِلَا حِنْثٍ فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِ تَصَوُّرِ الْبِرِّ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ التَّصَوُّرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَعِنْدَ سُقُوطِ الْغَايَةِ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ، فَأَيُّ وَقْتٍ كَلَّمَهُ فِيهِ يَحْنَثُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَصَوُّرِ الْبِرِّ بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى إعَادَةِ فُلَانٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَقْدَمَ وَيَأْذَنَ.

ص: 149

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ امْرَأَةَ فُلَانٍ أَوْ صَدِيقَ فُلَانٍ فَبَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ أَوْ عَادَى صَدِيقَهُ فَكَلَّمَهُمْ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ وَاقِعٍ فِي مَحَلٍّ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ، إمَّا إضَافَةُ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةُ نِسْبَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَحْنَثُ، قَالَ هَذَا فِي إضَافَةِ الْمِلْكِ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ كَالْمَرْأَةِ

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَيَاةَ الْمُعَادَةَ غَيْرُ الْحَيَاةِ الْمَحْلُوفِ عَلَى إذْنِهِ فِيهَا وَقُدُومِهِ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْقَائِمَةُ حَالَةَ الْحَلِفِ لِأَنَّ تِلْكَ عَرَضٌ تَلَاشِي لَا يُمْكِنُ إعَادَتُهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ أُعِيدَتْ الرُّوحُ فَإِنَّ الْحَيَاةَ غَيْرُ الرُّوحِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِلرُّوحِ فِيمَا لَهُ رُوحٌ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ عَبْدًا لَهُ بِعَيْنِهِ) إنَّمَا أَرَادَ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْعُبُودِيَّةِ أَوْ امْرَأَةَ فُلَانٍ إلَخْ.

اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى هِجْرَانِ مَحَلِّ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ كَلَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ لَا يَدْخُلُ دَارِهِ أَوْ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَهُ أَوْ لَا يَرْكَبُ فَرَسَهُ أَوْ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ فِي الْكُلِّ مَعْرِفَةٌ لِعَيْنِ مَا عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى هَجْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ إضَافَةَ مِلْكٍ كَعَبْدِهِ وَدَارِهِ وَدَابَّتِهِ أَوْ إضَافَةَ نِسْبَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَلِكِ كَزَوْجَتِهِ وَصَدِيقِهِ، فَالْإِضَافَةُ مُطْلَقًا تُفِيدُ النِّسْبَةَ وَالنِّسْبَةُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا نِسْبَةُ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُ إضَافَةِ النِّسْبَةِ تُقَابِلُ إضَافَةَ الْمَلِكِ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ تَقَابُلٌ بَيْنَ الْأَعَمِّ وَالْأَخَصِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِخُصُوصِ عُرْفٍ اصْطِلَاحِيٍّ وَهُوَ مَحْمَلُ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ لِلْمُصَنِّفِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ مُطْلَقًا لِلتَّعْرِيفِ فَبَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يُقْرِنَ بِهِ لَفْظَ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَهُ هَذَا أَوْ زَوْجَتَهُ هَذِهِ أَوْ لَا، فَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْإِشَارَةِ الظَّاهِرُ أَنَّ الدَّاعِي فِي الْيَمِينِ كَرَاهَتُهُ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ وَإِلَّا لَعَرَّفَهُ بِاسْمِ الْعَلَمِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالْإِضَافَةِ أَنَّ عَرَضَ اشْتِرَاكِ مِثْلِ لَا أُكَلِّمُ رَاشِدًا عَبْدَ فُلَانٍ لِيُزِيلَ الِاشْتِرَاكَ الْعَارِضَ فِي اسْمِ رَاشِدٍ أَوْ فُلَانَةَ زَوْجَةَ فُلَانٍ كَذَلِكَ، فَلَمَّا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِضَافَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِمَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَهْجُرَ بَعْضَهَا لِذَاتِهِ أَيْضًا كَالزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ، وَحِينَئِذٍ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى هَجْرِ الْمُضَافِ حَالَ قِيَامِ الْإِضَافَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ بِأَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْيَمِينِ وَدَامَتْ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ أَوْ انْقَطَعَتْ ثُمَّ وُجِدَتْ بِأَنْ بَاعَ وَطَلَّقَ ثُمَّ اسْتَرَدَّ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ الْيَمِينِ فَاشْتَرَى عَبْدًا فَكَلَّمَهُ حَنِثَ، وَكَذَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ فَاسْتَحْدَثَ زَوْجَةً يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ ارْتَفَعَتْ النِّسْبَةُ الثَّابِتَةُ الَّتِي عَنْهَا صُحِّحَتْ الْإِضَافَةُ بِأَنْ بَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ وَدَارَهُ وَثَوْبَهُ وَدَابَّته وَعَادَى صَدِيقَهُ وَطَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَكَلَّمَ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا إذَا لَبِسَ الثَّوْبَ أَوْ دَخَلَ الدَّارَ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لَا يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ وَالْحَالُ أَنَّهَا زَائِلَةٌ عِنْدَهُ وَهَذَا الْأَصْلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ فِي الْمَمْلُوكِ عَلَى الْإِضَافَةِ الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ عَلَى الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ، فَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَعَادَى صَدِيقَهُ وَاسْتَحْدَثَ زَوْجَةً وَصَدِيقًا فَكَلَّمَ الْمُسْتَحْدَثَ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَلَّمَ الْمَتْرُوكَةَ حَنِثَ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ مِنْ الزِّيَادَاتِ. وَوَجْهُهُ مَا جَوَّزْنَاهُ فِي أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُمَا

ص: 150

وَالصِّدِّيقِ. قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالصَّدِيقَ مَقْصُودَانِ بِالْهِجْرَانِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْإِشَارَةِ. وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ هِجْرَانَهُ لِأَجْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَا يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ بِالشَّكِّ (وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ

يَقْصِدَانِ بِالْهَجْرِ لِأَنْفُسِهَا لَا لِغَيْرِهِمَا، فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِمُجَرَّدِ تَعْرِيفِ الذَّاتِ الْمَهْجُورَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا أَوْ وُجُودُهَا وَقْتَ الْفِعْلِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ أَيْ الْهَجْرُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْإِشَارَةِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ زَوْجَةُ فُلَانٍ هَذِهِ وَنَحْوهَا مِمَّا إضَافَتُهُ إضَافَةَ نِسْبَةٍ فَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا كَمَا سَيُذْكَرُ وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ. لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْهَجْرَ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهِ، وَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ جَوَازُ كَوْنِ هَجْرِهِ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْنَثُ وَعَلَى الثَّانِي لَا فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَوْلِهِ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ فِي مَحَلٍّ مَنْسُوبٍ إلَى الْغَيْرِ بِالْمِلْكِ يُرَاعَى لِلْحِنْثِ وُجُودُ النِّسْبَةِ وَقْتَ وُجُودِ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالنِّسْبَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ إذَا لَمْ تُوجَدْ وَقْتَ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الْغَيْرِ لَا بِالْمِلْكِ يُرَاعَى وُجُودُ النِّسْبَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا وَقْتَ الْفِعْلِ.

ثُمَّ وَجَّهَ الْفَرْقَ بِأَنَّ فِي إضَافَةِ الْمِلْك الْحَامِلِ عَلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمَالِكِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَادَى لَعَيْنِهَا. وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ مَعْنًى فِيهِمْ لِأَنَّ الْأَذَى يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْأَذَى. أُجِيبَ بِأَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ ذَكَرَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِهَذَا. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْعَبْدَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ الْأَحْرَارِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ كَالْحِمَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْهُ أَذًى إنَّمَا يُقْصَدُ هِجْرَانُ سَيِّدِهِ بِهِجْرَانِهِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ أَعْنِي هَذَا الْأَصْلَ لَا يَصِحُّ إلَّا لِمُحَمَّدٍ فَقَطْ، فَإِطْلَاقُ جَعْلِهِ أَصْلًا لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ يُوهِمُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ الْأَصْلُ لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ. هَذَا، وَرُوِيَ أَنَّ هِشَامًا أَخْبَرَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: لَا يَحْنَثُ هَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْ الْإِشَارَةَ، فَأَمَّا إنْ عَيَّنَهُ فَذَكَرَ الْإِشَارَةَ بِأَنْ قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا أَوْ دَارُهُ هَذِهِ أَوْ امْرَأَتُهُ هَذِهِ أَوْ صَدِيقُهُ هَذَا فَبَاعَ الْعَبْدَ وَالدَّارَ وَطَلَّقَ وَعَادَى فَكَلَّمَهُ وَدَخَلَ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْمَمْلُوكِ مِنْ الْعَبْدِ وَالدَّارِ وَحَنِثَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبَى يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَحْنَثُ فِي الْكُلِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِي الْكُلِّ لِلتَّعْرِيفِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ، بِخِلَافِ التَّعْرِيفِ الْآخَرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا وَسُقُوطُ الْأُخْرَى

ص: 151

قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا أَوْ امْرَأَةُ فُلَانٍ بِعَيْنِهَا أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْعَبْدِ وَحَنِثَ فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ فَبَاعَهَا ثُمَّ دَخَلَهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ) وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةِ أَبْلَغُ مِنْهَا فِيهِ لِكَوْنِهَا قَاطِعَةً لِلشَّرِكَةِ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ فَاعْتُبِرَتْ الْإِشَارَةُ وَلُغِيَتْ الْإِضَافَةُ وَصَارَ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ الدَّاعِي إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَا تُهْجَرُ وَلَا تُعَادَى لِذَوَاتِهَا، وَكَذَا الْعَبْدُ لِسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي مُلَّاكِهَا فَتَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِحَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ نِسْبَةٍ كَالصَّدِيقِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعَادَى لِذَاتِهِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَالدَّاعِي الْمَعْنَى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ، مَا تَقَدَّمَ

وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ عَلَى خُصُوصِ الْعَيْنِ فَلَزِمَ الْحِنْثُ بِتَرْكِ هِجْرَانِهَا بَعْدَ الْإِضَافَةِ كَمَا قَبْلَهُ، وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ هِجْرَانَ الْمُضَافِ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَيْسَ لِذَاتِهِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا فَتَقَيَّدَ بِبَقَاءِ النِّسْبَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ وَعَدَمِهَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِمَّا يُعَادَى لِنَفْسِهِ كَمَا يُعَادَى لِغَيْرِهِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ اسْتَوَى الْحَالُ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ وَمَعَ زِيَادَةِ الْإِشَارَةِ تَرَجَّحَ كَوْنُ هَجْرِهِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ الْحِنْثُ بِدَوَامِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الدَّاعِي إلَى الْيَمِينِ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ إضَافَةُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الدَّاعِي كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مَعْنًى فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ يَجُوزُ كَوْنُهُ نَفْسُ الْمُضَافِ حَيْثُ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يُعَادَى لِنَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ لَغَتْ الْإِضَافَةَ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهَا فَائِدَةٌ أُخْرَى لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ لَهَا فَائِدَةً وَهِيَ إفَادَةُ أَنَّ الْهِجْرَانَ مَنُوطٌ بِنِسْبَتِهِ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ لِغَيْظٍ مِنْهُ فَيُعْتَبَرُ كُلٌّ مِنْهَا لِفَائِدَتِهِ.

وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ الْعِزِّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ بِأَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ سَاقِطَ الْمَنْزِلَةِ قَدْ يُقْصَدُ بِالْهِجْرَانِ وَالْحَالِفُ لَوْ أَرَادَ هِجْرَانَهُ لِأَجْلِ سَيِّدِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِشَارَةِ، فَلَمَّا أَشَارَ

ص: 152

قَالَ (وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا التَّعْرِيفَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادَى لِمَعْنًى فِي الطَّيْلَسَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَشَارَ إلَيْهِ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ وَقَدْ صَارَ شَيْخًا حَنِثَ) لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ إذْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ.

إلَيْهِ بِقَوْلِهِ هَذَا عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ قَصْدُهُ بِالْهِجْرَانِ، وَقَالَ وَكَذَلِكَ الدَّارُ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ أَظْهَرُ لِظُهُورِ صِحَّةِ قَصْدِهِ بِالْهِجْرَانِ كَمَا فِي الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ انْتَهَى.

وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ كُلَّ فَائِدَةٍ؛ فَفَائِدَةُ الْإِشَارَةِ التَّعْرِيفُ، وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ بَيَانُ مَنَاطِ الْهَجْرِ. قَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَتَيْنِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا تُعَرِّفُ الشَّخْصَ الْمَحْلُوفَ عَلَى هَجْرِهِ كَمَا تُفِيدُ الْآخَرَ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ كَمَا تُفِيدُ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِهَا التَّخْصِيصُ أَيْضًا، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْإِضَافَةِ وَحْدَهَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ عَبْدُ فُلَانٍ انْعَقَدَتْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لَهُ، وَفِي قَوْلِهِ عَبْدُ فُلَانٍ هَذَا لَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ عَبْدٍ آخَرَ لِفُلَانٍ وَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ تُفِيدُ أَنَّ سَبَبَ هَجْرِ الْعَبْدِ نِسْبَتُهُ لِسَيِّدِهِ، وَلَكِنَّ الْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِفِعْلِ عَيْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَتُعْطِيَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ لِفَقْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ مِنْ الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، أَمَّا لَوْ نَوَى أَنْ لَا يَدْخُلَهَا مَا دَامَتْ لِفُلَانٍ أَوْ لَا يَدْخُلَهَا وَإِنْ زَالَتْ الْإِضَافَةُ فَعَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الثَّانِي وَنَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ فِي الْأَوَّلِ، وَرُوِيَ شُذُوذًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي دَارِ فُلَانٍ هَذِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَعَنْهُ أَيْضًا لَا يَحْنَثُ بِالدَّارِ الْمُتَجَدِّدِ مِلْكِهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يُسْتَحْدَثُ فِيهَا عَادَةً فَإِنَّهَا آخِرُ مَا يُبَاعُ وَأَوَّلُ مَا يُشْتَرَى عَادَةً فَتَقَيَّدَتْ الْيَمِينُ بِالْقَائِمَةِ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ، فَإِنَّ الدَّارَ قَدْ تُبَاعُ وَتُشْتَرَى مِرَارًا فَلَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْيَمِينَ تَتَقَيَّدُ فِي الْكُلِّ بِالْقَائِمِ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ، رَوَاهُ بِشْرٌ عَنْهُ قَالَ: إذَا قَالَ دَارَ فُلَانٍ لَا يَتَنَاوَلُ مَا يُسْتَحْدَثُ مِلْكُهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ دَارًا لِفُلَانٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارَ فُلَانٍ تَمَامُ الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْإِضَافَةِ وَإِلَّا كَانَ مُجْمَلًا فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ وَقْتَ يَمِينِهِ. وَفِي قَوْلِهِ دَارًا لِفُلَانٍ الْكَلَامُ تَامٌّ بِلَا ذِكْرِ فُلَانٍ فَكَانَ ذِكْرُ فُلَانٍ تَقْيِيدًا لِلْيَمِينِ بِمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى فُلَانٍ وَقْتَ السُّكْنَى، ثُمَّ فِي الْحَلِفِ لَا يَسْكُنُ دَارًا لِفُلَانٍ لَا يَحْنَثُ بِسُكْنَى دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ فُلَانٍ وَغَيْرِهِ وَإِنْ قَلَّ نَصِيبُ غَيْرِهِ.

وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: لَا أَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ لَا يَحْنَثُ بِالْبِنْتِ الَّتِي تُولَدُ بَعْدَ الْيَمِينِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مُشْكَلٌ فَإِنَّهَا إضَافَةُ نِسْبَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْعَقِدَ عَلَى الْمَوْجُودَةِ حَالَ التَّزَوُّجِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي التَّفَارِيقِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ تَزَوَّجْت بِنْتَ فُلَانٍ أَوْ أَمَتَهُ أَنَّهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ

(قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ صَاحِبُهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ) بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَى التَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادَى لِمَعْنًى فِي الطَّيْلَسَانِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى صَاحِبِ الطَّيْلَسَانِ بِأَنْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِعَيْنِهِ وَالطَّيْلَسَانُ مُعَرَّبُ تَيْلَسَانَ أَبْدَلُوا التَّاءَ طَاءً مِنْ لِبَاسِ الْعَجَمِ مُدَوَّرٌ أَسْوَدُ لُحْمَتُهُ وَسُدَاهُ صُوفٌ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا صَارَ شَيْخًا حَنِثَ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ إذْ الصِّفَةُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ) وَلَا تَتَقَيَّدُ بِشَبِيبَتِهِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَمْرًا لَا يَحْنَثُ مَعَ أَنَّ الصِّفَةَ

ص: 153

(فَصْلٌ)

قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ) لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الزَّمَانُ الْقَلِيلُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} وَقَدْ يُرَادُ بِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} وَهَذَا هُوَ الْوَسَطُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ لِوُجُودِ

فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ.

فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَخْ: يَعْنِي أَنَّ الصِّفَةَ تُعْتَبَرُ فِي الْحَاضِرِ إذَا كَانَتْ دَاعِيَةً وَصِفَةُ الرُّطْبِيَّةِ مِمَّا تَدْعُو بَعْضَ النَّاسِ إلَى الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِهِ فَتُقَيَّدُ بِهِ، بِخِلَافِ الشَّبِيهِ هُنَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْوَجِيزِ لِبُرْهَانِ الدِّينِ مَحْمُودِ الْبُخَارِيِّ: حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَبِيًّا أَوْ غُلَامًا أَوْ شَابًّا أَوْ كَهْلًا فَالْكَلَامُ فِي مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعُرْفِ. أَمَّا اللُّغَةُ قَالُوا الصَّبِيُّ يُسَمَّى غُلَامًا إلَى تِسْعَ عَشَرَةَ، وَمِنْ تِسْعَ عَشَرَةَ شَابٌّ إلَى أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، وَمِنْ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ كَهْلًا إلَى إحْدَى وَخَمْسِينَ، وَمِنْ إحْدَى وَخَمْسِينَ شَيْخٌ إلَى آخَرِ عُمُرِهِ. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْغُلَامُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْبُلُوغِ مَعْلُومٌ، فَإِذَا بَلَغَ صَارَ شَابًّا وَفَتًى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ الْكُهُولَةَ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسِينَ فَهُوَ شَيْخٌ.

قَالَ الْقُدُورِيُّ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الشَّابُّ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ إلَى خَمْسِينَ سَنَةً إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الشَّمْطُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْكَهْلُ مِنْ ثَلَاثِينَ إلَى آخَرِ عُمْرِهِ، وَالشَّيْخُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ. وَكَانَ يَقُولُ قَبْلَ هَذَا: الْكَهْلُ مِنْ ثَلَاثِينَ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ، وَالشَّيْخُ مِنْ أَرْبَعِينَ إلَى مِائَةٍ، وَهُنَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى وَانْتِشَارٌ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا بِهِ الْإِفْتَاءُ.

(فَصْلٌ فِي يَمِينِ مَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ حِينًا أَوْ زَمَانًا)

لَمَّا كَانَ مَا فِيهِ كَالتَّبَعِ لِمَا تَقَدَّمَ تَرْجَمَهُ بِالْفَصْلِ (وَقَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ الْحِينُ أَوْ الزَّمَانُ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي النَّفْيِ) كَلَا أُكَلِّمُهُ الْحِينَ أَوْ حِينًا (وَالْإِثْبَاتِ) نَحْوُ لَأَصُومَنَّ حِينًا أَوْ الْحِينَ أَوْ الزَّمَانَ أَوْ زَمَانًا،

ص: 154

الِامْتِنَاعِ فِيهِ عَادَةً، وَالْمُؤَبَّدُ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَدِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ يَتَأَبَّدُ فَيَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرْنَا.

وَكَذَا الزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ زَمَانٍ بِمَعْنَى وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، أَمَّا إذَا نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ (وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ) وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْأَبَدُ عُرْفًا. لَهُمَا أَنَّ دَهْرًا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ دَهْرٍ بِمَعْنَى وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَقَّفَ فِي تَقْدِيرِهِ لِأَنَّ اللُّغَاتِ لَا تُدْرَكُ قِيَاسًا وَالْعُرْفُ لَمْ يُعْرَفْ اسْتِمْرَارُهُ لِاخْتِلَافٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ

كُلُّ هَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنْ الزَّمَانِ، فَإِنْ نَوَى مِقْدَارًا صُدِّقَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْحِينِ وَالزَّمَانِ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَفِي الْقَلِيلِ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:

فَبِتُّ كَأَنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ

مِنْ الرَّقْشِ فِي أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعُ

تَبَادَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سُمِّهَا

تُطْلِقُهُ حِينًا وَحِينًا تُرَاجِعُ

يُرِيدُ أَنَّ السُّمَّ تَارَةً يَخِفُّ أَلَمُهُ وَتَارَةً يَشْتَدُّ، وَأَمَّا فِي الْكَثِيرِ فَالْمُفَسِّرُونَ فِي هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً.

وَأَمَّا فِي الْمُتَوَسِّطِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، لِأَنَّ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ الطَّلْعُ إلَى أَنْ يَصِيرَ رُطَبًا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلَمَّا وَقَعَ الِاسْتِعْمَالُ كَذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ مُعَيَّنَةَ لِلْحَالِفِ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يُقْصَدُ بِالْحَلِفِ وَإِلَّا لَمْ يَحْلِفْ لِتَحَقُّقِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ عَادَةً بِلَا يَمِينٍ. وَالْمَدِيدُ هُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً لَا يُقْصَدُ بِالْحَلِفِ عَادَةً لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَبَدِ، فَمُرِيدُهُ خَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ إذْ لَمْ يُسْمَعْ مَنْ يَقُولُ لَا أُكَلِّمُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مُقَيَّدًا بِهَا، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ الْحِينِ وَمَا مَعَهُ تَأَبَّدَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَنْ يَرِدَ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ الزَّمَانِ وَلَا الْأَبَدِ وَلَا الْأَرْبَعِينَ فَيُحَكَّمُ الْوَسَطُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالشَّافِعِيُّ يَصْرِفُهُ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ سَاعَةٌ وَعَرَفْت أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَإِلَّا تَرَكَ ذِكْرُهُ وَيَحْصُلُ بِلَا حَلِفٍ، وَالزَّمَانُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ، يُقَالُ مَا رَأَيْتُك مُنْذُ زَمَانٍ كَمَا يُقَالُ مُنْذُ حِينٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِأَرْبَعِينَ سَنَةً وَلِأَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، بَلْ إنَّهُ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَدِيدِ وَالْقَصِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ، وَهُوَ أَخُو الْحِينِ فِي الْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي خُصُوصِ الْمُدَّةِ فَيُصْرَفُ إلَى مَا سُمِعَ مُتَوَسِّطًا.

ثُمَّ قِيلَ: هَذَا إنْ تَمَّ فِي زَمَانِ الْمُنَكَّرِ لَمْ يَتِمَّ فِي الْمُعَرَّفِ، بَلْ الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ لِلْأَبَدِ كَالدَّهْرِ وَالْعُمْرِ وَلِذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، فَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الزَّمَانَ إلَّا سَنَةً صَحَّ، وَعَهْدِيَّةُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي لَفْظِ الْحِينِ وَكَوْنُ الزَّمَانِ مِثْلُهُ إنْ أُرِيدَ فِي الْوَضْعِ فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَيَّنِ لِخُصُوصِ مُدَّةٍ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي اُسْتُعْمِلَ فِيهَا وَسَطًا، وَإِنْ أُرِيد فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَبْتٍ مِنْ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ، بِخِلَافِ لَأَصُومَنَّ حِينًا أَوْ زَمَانًا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ شَاءَ وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) يَعْنِي الْمُنَكَّرَ يَنْصَرِفُ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي مِقْدَارٍ مِنْ الزَّمَانِ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ

ص: 155

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اتِّفَاقًا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُنَكَّرِ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا فَرْقَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ قَوْلِهِ دَهْرًا وَالدَّهْرُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِالِاتِّفَاقِ يُصْرَفُ إلَى الْأَبَدِ، وَإِنَّمَا تَوَقُّفُهُ فِي الْمُنَكَّرِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَاتِهِ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى الْأَنْحَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَدِيدُ وَالْقَصِيرُ وَالْوَسَطُ، فَلَمْ يَدْرِ بِمَاذَا يُقَدِّرُ، وَتَقْدِيرُهُ بِالْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّمَانِ فِيهِ مِنْ الِاسْتِبْعَادِ مَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَثْبُتْ تَوْقِيتٌ فِيهِ زَائِدٌ عَلَيْهِ فَلَزِمَ التَّوَقُّفُ.

وَقِيلَ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ» فَإِذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الدَّهْرَ اُحْتُمِلَ أَنَّ الْيَمِينَ مُؤَبَّدَةٌ، وَالْمَعْنَى وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ وَاَللَّهِ، فَإِنَّك عَلِمْت أَنَّ حَرْفَ الْقَسَمِ يُحْذَفُ وَيَنْصِبُ الِاسْمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الظَّرْفَ وَهُوَ الْأَبَدُ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

هَلْ الدَّهْرُ إلَّا لَيْلَةٌ وَنَهَارُهَا

وَإِلَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَارُهَا

فَالنَّكِرَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْإِثْبَاتِ فَهِيَ لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةٍ: أَيْ كُلُّ طُلُوعٍ وَكُلُّ غُرُوبٍ إلَخْ، وَعُرِفَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةٍ مِثْلُ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ وَهَذَا الْوَجْهُ يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ فِي الْمُعَرَّفِ أَيْضًا لِأَنَّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ اللَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الْمُعَرَّفُ مِنْهُ لَا الْمُنَكَّرُ، وَتَوَقُّفُهُ دَلِيلُ فِقْهِهِ وَدِينِهِ وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهِ نَفْسِهِ، رَحِمَنَا اللَّهُ بِهِ، وَقَدْ نَظَمَ جُمْلَةَ مَا تَوَقَّفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:

مَنْ قَالَ لَا أَدْرِي لِمَا لَمْ يَدْرِهِ

فَقَدْ اقْتَدَى فِي الْفِقْهِ بِالنُّعْمَانِ

فِي الدَّهْرِ وَالْخُنْثَى كَذَاك جَوَابُهُ

وَمَحَلُّ أَطْفَالٍ وَوَقْتُ خِتَانِ

وَالْمُرَادُ بِالْأَطْفَالِ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْجَنَائِزِ.

ص: 156

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ ذُكِرَ مُنَكَّرًا فَيُتَنَاوَلُ أَقَلَّ الْجَمْعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لِأَنَّ اللَّامَ لِلْمَعْهُودِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهَا. وَلَهُ أَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ

فَرْعٌ]

إذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ الْعُمْرَ فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ. وَاخْتَلَفَ جَوَابُ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي الْمُنَكَّرِ نَحْوُ عُمْرًا، فَمَرَّةً قَالَ فِي لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ عُمْرٍ يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَرَّةً قَالَ هُوَ مِثْلُ الْحِينِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ قَالَ وَأَجْمَعُوا فِيمَنْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُك دُهُورًا أَوْ أَزْمِنَةً أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ أَوْ جُمَعًا أَوْ أَيَّامًا يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّهَا أَدْنَى الْجُمَعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّهَا عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَهُ كَالْمُعَرَّفِ.

قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ أَصَحُّ. وَوَجَّهَهُ الْمُصَنَّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ مُنَكَّرٍ فَيَتَنَاوَلُ أَقَلَّ الْجُمَعِ وَهُوَ الثَّلَاثُ كَمَا يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْهُ، لَكِنْ لَا مُعَيِّنَ لِلزَّائِدِ فَلَزِمَ الْمُتَيَقَّنُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي عَبِيدًا وَلَا يَتَزَوَّجُ نِسَاءً يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَأَوْرَدَ أَنَّ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ فِي الْمُثُلِ الْمَذْكُورَةِ تُوجِبُ عَدَمَ تَوَقُّفِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَعْنَى الدَّهْرِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَدْرِي مَعْنَى الْمُفْرَدِ لَا يَدْرِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ قَوْلُهُ الدُّهُورُ لِثَلَاثَةٍ مِمَّا يُرَادُ بِهِ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا هُوَ، نَعَمْ يَلْزَمُ لِكُلِّ عَاقِلٍ نَفْيُ أَنْ يُرَادَ بِهِ اللَّهُ سبحانه وتعالى لِمَكَانِ الْجَمْعِ.

وَمِنْ فُرُوعِ الْمُنَكَّرِ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمًا إنْ حَلَفَ قَبْلَ الطُّلُوعِ فَهُوَ عَلَى مَا مِنْ الطُّلُوعِ إلَى الْغُرُوبِ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْدَهُ فَهُوَ عَلَى مَا مِنْ وَقْتِ حَلِفِهِ إلَى مِثْلِهِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي وَيَدْخُلُ اللَّيْلُ فَإِنْ كَلَّمَهُ لَيْلًا حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ الْيَوْمُ وَقَعَ عَلَى بَقِيَّةِ يَوْمِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ دَخَلَ اللَّيْلُ سَوَاءٌ حَلَفَ بَعْدَ الطُّلُوعِ أَوْ قَبْلَهُ، وَالْجَوَابُ فِي اللَّيْلِ مِثْلُهُ فِي الْيَوْمِ (قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَكَذَلِكَ الْجُمَعُ وَالشُّهُورُ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورُ وَالْأَزْمِنَةُ لِلتَّعْرِيفِ يَنْصَرِفُ إلَى عَشَرَةٍ مِنْ تِلْكَ

ص: 157

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْمَعْدُودَاتِ، فَفِي غَيْرِ الْأَزْمِنَةِ ظَاهِرٌ، وَفِي الْأَزْمِنَةِ يَلْزَمُهُ خَمْسُ سِنِينَ لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ.

وَقَالَا: فِي الْأَيَّامِ يَنْصَرِفُ إلَى أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَفِي الشُّهُورِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَفِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورِ وَالْأَزْمِنَةِ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْعُمُرِ وَهُوَ الْأَبَدُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ إذَا أَمْكَنَ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ صُرِفَتْ إلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعَهْدُ ثَابِتٌ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ فَانْصَرَفَتْ الْأَيَّامُ إلَيْهَا، وَفِي الشُّهُورِ شُهُورُ السَّنَةِ فَيَنْصَرِفُ التَّعْرِيفُ إلَيْهَا، وَلَا عَهْدَ فِي خُصُوصٍ فِيمَا سِوَاهُمَا فَيَنْصَرِفُ إلَى اسْتِغْرَاقِ الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ وَالدُّهُورِ وَالْأَزْمِنَةِ وَذَلِكَ هُوَ جَمِيعُ الْعُمُرِ أَوْ هِيَ لِلْعَهْدِ فِيهَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَعْهُودَ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا لَيْسَ إلَّا الْعُمُرُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَا مَعْهُودَ دُونَهُ: أَيْ دُونَ الْعُمُرِ، وَحَاصِلُهُ اسْتِغْرَاقُ سِنِي الْعُمُرِ وَجُمَعِهِ. وَلَهُ أَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فَيَنْصَرِفُ إلَى أَقْصَى مَا عُهِدَ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ لَفْظُ الْجُمَعِ عَلَى الْيَقِينِ وَذَلِكَ عَشْرَةٌ، وَعَهْدِيَّتُهُ كَذَلِكَ فِيمَا إذَا وَقَعَ مُمَيِّزُ الْعَدَدِ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَيَكُونُ لَفْظُ أَيَّامٍ مُرَادًا بِهَا الثَّلَاثَةُ بِيَقِينٍ، وَكَذَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ إلَى عَشَرَةٍ، فَكَانَتْ الْعَشَرَةُ مُنْتَهَى مَا قُطِعَ بِإِرَادَتِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ الِاسْتِعْمَالَاتِ فَكَانَ مَعْهُودًا مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ، بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} وَ {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} فَإِنَّ الْجَمْعَ هُنَا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ يَقِينًا مَا يَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ لَكِنَّهُ بِوُجُودِ ذَلِكَ مُرَادًا مَرَّةً لَا يَصِيرُ مَعْهُودًا مِنْ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يُصْرَفُ إلَيْهِ مَتَى ذُكِرَ بِلَا مُعَيِّنٍ وَكَانَ الْمَعْهُودُ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الْجَمْعِ يَقِينًا مُسْتَمِرًّا لَيْسَ إلَّا الْعَشَرَةُ فِيمَا دُونَهَا، وَالْعَشَرَةُ مُنْتَهَى مَا عُهِدَ شَائِعًا إرَادَتُهُ بِهِ قَطْعًا فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقَعْ مُمَيِّزًا لِعَدَدٍ نَحْوُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ الْأَيَّامِ فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّامِ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْمُقَرَّرَ أَنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْعَهْدُ حُمِلَ عَلَيْهِ دُونَ الْجِنْسِ وَالِاسْتِغْرَاقِ، وَالْعَهْدُ ثَابِتٌ فِيمَا يُرَادُ بِالْجَمْعِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةٍ.

وَالْفَرْضُ أَنَّ الْحَالِفَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ الْمُسْتَمِرِّ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ أَقْصَى الْمَعْهُودِ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ مَعْهُودًا أَيْضًا لِأَنَّهُ كَمَا عُهِدَ اسْتِعْمَالُهُ مُمَيَّزًا فِي الْعَشَرَةِ عُهِدَ فِيمَا دُونَهَا لِاسْتِغْرَاقِ اللَّامِ، وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ الَّذِي حُكِمَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِأَنَّ مَدْخُولَ اللَّامِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ وَلَا قَرِينَةٌ تَعَيَّنَ غَيْرُ الِاسْتِغْرَاقِ مِنْ الْمَرَاتِبِ حَتَّى صُرِفَ إلَى الْجِنْسِ الصَّالِحِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ لَمَّا انْصَرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ، وَالْمَعْهُودُ كُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ الْمَرَاتِبِ الَّتِي أَوَّلُهَا ثَلَاثَةٌ وَأَقْصَاهَا عَشَرَةٌ وَلَا مُعَيِّنَ كَانَتْ لِاسْتِغْرَاقِ الْمَعْهُودِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْعِزِّ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَذَا أَيْ كَوْنُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِهِ الْعَشَرَةُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ يُسَمَّى الزَّائِدُ عَلَيْهِ بِالْجَمْعِ بِلَا رَيْبٍ، وَذَكَرَ شَاهِدُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا} .

وَ {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} قَالَ: وَلَيْسَ فِي قَوْلِ الْحَالِفِ لَا أُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ اسْمُ الْعَدَدِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ أَقْصَى مَا يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَكَذَلِكَ الْأَيَّامُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ انْدَفَعَ لِأَنَّك عَلِمَتْ أَنَّ الْقَصْدَ تَعْيِينُ مَا عُهِدَ مُرَادًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِمْرَارِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْجَمْعِ الْخَاصِّ عِنْدَ عَدَمِ إرَادَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَكَوْنُ لَفْظٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا عُهِدَ مُسْتَمِرًّا كَثِيرًا لَا يُوجِبُ نَفْيَ عَهْدِيَّتِهِ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا مُشَاحَّتُهُ الْخَبَّازِيَّ حَيْثُ قَالَ الْخَبَّازِيُّ اسْمُ الْجَمْعِ لِلْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهَا إلَى الثَّلَاثَةِ حَقِيقَةُ حَالَتَيْ الْإِطْلَاقِ وَاقْتِرَانِهِ بِالْعَدَدِ، وَلَمَّا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْعَدَدِ وَالِاسْمِ مَتَى كَانَ لِلشَّيْءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَانَ أَثْبَتَ مِمَّا هُوَ اسْمٌ لَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ دَفَعَ كَلَامَهُ هَذَا بِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَمْعِ وَاسْمِ الْجَمْعِ فَلِهَذَا قَالَ إنَّهُ لِلْعَشَرَةِ وَمَا

ص: 158

(وَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ) وَعِنْدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْعُمُرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْهُودَ دُونَهُ

(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَشَرَةُ أَيَّامٍ) لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ، وَقَالَا: سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ. وَقِيلَ لَوْ كَانَ الْيَمِينُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ فِيهَا بِلَفْظِ الْفَرْدِ دُونَ الْجَمْعِ.

دُونَهَا حَقِيقَةً فِي حَالَيْنِ وَلِمَا فَوْقَهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا فِي بَعْضِ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ أَنَّهُ يُطْلَقُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ كَمَا فِي رَهْطٍ وَذَوْدٍ وَنَفَرٍ إلَى آخَرِ مَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِ الْخَبَّازِيِّ اسْمُ الْجَمْعِ بَيَانِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى الِاسْمُ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ، وَمِثْلُ هَذَا فِي عِبَارَاتِ جَمِيعِ أَهْلِ الْفُنُونِ أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى نَاظِرٍ فِي الْعِلْمِ، فَحَاصِلُ كَلَامِ الْخَبَّازِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ فِي الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا أَثْبَتُ مِنْهُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرَادُ بِهِ فِي حَالَتَيْنِ وَالثَّانِي فِي حَالَةٍ، يَعْنِي فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا عُهِدَ لَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَيَّنِ لَازِمًا، وَحَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَبْدَإِ التَّقْرِيرِ شَرْحٌ لَهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يُرَجِّحَ قَوْلَهُمَا فِي الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ بِأَنَّ عَهْدَهُمَا أَعْهَدُ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَهْدِيَّةَ الْعَشَرَةِ إنَّمَا هُوَ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَادَّةٍ خَاصَّةٍ: يَعْنِي الْجَمْعَ مُطْلَقًا عَهْدٌ لِلْعَشَرَةِ، فَإِذَا عَرَضَ فِي خُصُوصِ مَادَّةٍ مِنْ الْجَمْعِ كَالْأَيَّامِ عَهْدِيَّةَ عَدَدٍ غَيْرِهِ كَانَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْهُودِ أَوْلَى، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَفِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ صَرْفُ خُصُوصِ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ إلَيْهِمَا أَوْلَى، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْجُمُوعِ كَالسِّنِينَ وَالْأَزْمِنَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي مَادَّتَيْهِمَا عَدَدٌ آخَرُ فَيُصْرَفُ إلَى مَا اسْتَقَرَّ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا مِنْ إرَادَةِ الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا.

فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ مُغَالَطَةٌ فَإِنَّ السَّبْعَةَ الْمَعْهُودَةَ نَفْسُ الْأَزْمِنَةِ الْخَاصَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِيَوْمِ السَّبْتِ وَيَوْمِ الْأَحَدِ إلَى آخِرِهِ، وَالْكَلَامُ فِي لَفْظِ أَيَّامٍ إذَا أُطْلِقَ عَلَى عَهْدٍ مِنْهُ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الْخَاصَّةِ لِلسَّبْعَةِ لَا شَكَّ فِي عَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ كَثْرَةُ إطْلَاقِ لَفْظِ أَيَّامٍ وَشُهُورٍ وَيُرَادُ بِهِ يَوْمُ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرَ إلَى آخِرِهَا عَلَى الْخُصُوصِ، بَلْ الْأَزْمِنَةُ الْخَاصَّةُ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَكَرِّرَةٌ وَغَيْرُ مُتَكَرِّرَةٍ وَغَيْرُ بَالِغَةٍ السَّبْعَةِ بِحَسَبِ الْمُرَادَاتِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ، فَالْجَوَابُ مَنْعُ تَوَقُّفِ انْصِرَافِ اللَّامِ إلَى الْعَهْدِ عَلَى تَقَدُّمِ الْعَهْدِ عَنْ لَفْظِ النَّكِرَةِ بَلْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْعَهْدِ بِالْمَعْنَى عَنْ اللَّفْظِ أَوْ لَا عَنْهُ فَإِنَّهُ إذَا صَارَ الْمَعْنَى مَعْهُودًا بِأَيِّ طَرِيقِ فَرْضٍ ثُمَّ أُطْلِقَ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لَهُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ انْصَرَفَ إلَيْهِ.

وَقَدْ قَسَّمَ الْمُحَقِّقُونَ الْعَهْدَ إلَى ذِكْرِي وَعِلْمِي وَمَثَّلَ لِلثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} فَإِنَّ ذَاتَ الْغَارِ هِيَ الْمَعْهُودَةُ لَا مِنْ لَفْظٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ بَلْ مِنْ وُجُودٍ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ جَعْلُ مَا سَمَّاهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ أَعَمُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ عَهْدٌ بِغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُنَا الْعَامُّ يَخُصُّ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ الْعَهْدَ لَيْسَتْ إلَّا عَمَلًا عُهِدَ مُسْتَمِرًّا ثُمَّ يُطْلَقُ اللَّفْظُ الَّذِي يَعُمُّهَا وَغَيْرُهَا فَيُقَيَّدُ بِهَا لِعَهْدِيَّتِهَا عَمَلًا لَا لَفْظًا وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتنِي أَيَّامًا كَثِيرَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ الْأَيَّامِ) عَلَى الْيَقِينِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَقَالَا: سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا تَكْرَارٌ) وَقَدْ يُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ أَنَّ الْكَثْرَةَ بِالدُّخُولِ

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَمُقْتَضَاهُ إنْ نُظِرَ إلَى الْكَثْرَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا أَنْ لَا يَحْنَثَ إلَّا بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْكَثْرَةِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ مُخْتَلِفٌ، فَرُبَّمَا يُقَالُ فِي السَّبْعَةِ كَثِيرَةٌ وَرُبَّمَا يُقَالُ قَلِيلَةٌ، وَكَذَا الْعَشَرَةُ وَالْعِشْرُونَ فَإِنَّهُ يُقَالُ بِاعْتِبَارَاتٍ وَنِسَبٍ لَمْ تَنْضَبِطْ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا نِيَّةَ لِلْقَائِلِ فِي مِقْدَارِ الْكَثِيرِ، فَفَرَّعَ كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: أَمَّا بِلِسَانِنَا فَلَا يَجِيءُ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَلْ يُصْرَفُ إلَى أَيَّامِ الْجُمُعَةِ بِالِاتِّفَاقِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اكرخدمت كنى مراروزهاي بِسَيَّارِ توازاذي إذَا خَدَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يُعْتَقُ لِأَنَّ فِي لِسَانِنَا تُسْتَعْمَلُ مَعَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ لَفْظَةً روز فَلَا يَجِيءُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ انْتِهَاءِ الْأَيَّامِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَهَذَا حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فُرُوعٌ]

قَالَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ فَهُوَ عَلَى السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ، وَآخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ، وَجُمَعٌ وَسُنُونَ مُنَكَّرٌ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثٍ بِالِاتِّفَاقِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوْ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ أَوْ إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا وَيَوْمُهَا، وَإِنْ نَوَى السَّاعَةَ الَّتِي أَهَلَّ فِيهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ الشَّهْرِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى خَامِسَ عَشَرِهِ، وَإِنْ قَالَ آخِرُ الشَّهْرِ فَمِنْ سَادِسَ عَشَرِهِ إلَى آخِرِهِ، أَوْ غُرَّةِ الشَّهْرِ فَاللَّيْلَةُ الْأُولَى وَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ فِي الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ لِلْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ سَلْخُ الشَّهْرِ فَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ، وَإِنْ قَالَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ كُلِّهِ، وَعِنْدَ طُلُوعُ الشَّمْسِ لَهُ مِنْ حِينَ تَبْدُو إلَى أَنْ تَبْيَضَّ، وَإِنْ قَالَ وَقْتَ الضَّحْوَةِ فَمِنْ حِينَ تَبْيَضُّ إلَى أَنْ تَزُولَ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَ بَرَّ، وَإِنْ قَالَ الْمَسَاءُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَاءَ مَسَاءَانِ، وَلَوْ قَالَ فِي الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُمْ حِسَابٌ يَعْرِفُونَ بِهِ الشِّتَاءَ وَالرَّبِيعَ وَالصَّيْفَ وَالْخَرِيفَ فَهُوَ عَلَى حِسَابِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالشِّتَاءُ مَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْبَرْدُ عَلَى الدَّوَامِ، وَالصَّيْفُ مَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْحَرُّ عَلَى الدَّوَامِ؛ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ: الْخَرِيفُ مَا يَنْكَسِرُ فِيهِ الْحَرُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَالرَّبِيعُ مَا يَنْكَسِرُ فِيهِ الْبَرْدُ عَلَى الدَّوَامِ.

وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: قَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ فِي مَعْرِفَةِ الصَّيْفِ، إنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ النَّاسِ، فَإِذَا قَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ ذَهَبَ الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ فَهُوَ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ.

وَفِي الْوَاقِعَاتِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْحَالِفُ فِي بَلَدٍ لَهُمْ حِسَابٌ يَعْرِفُونَ بِهِ الصَّيْفَ وَالشِّتَاءَ مُسْتَمِرًّا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَأَوَّلُ الشِّتَاءِ مَا يَلْبَسُ النَّاسُ فِيهِ الْحَشْوَ وَالْفَرْوَ، وَآخِرُهُ مَا يَسْتَغْنِي النَّاسُ فِيهِ عَنْهُمَا، وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ إذَا اسْتَثْقَلَ ثِيَابَ الشِّتَاءِ وَاسْتَخَفَّ ثِيَابَ الصَّيْفِ، وَالرَّبِيعُ مِنْ آخَرِ الشِّتَاءِ إلَى أَوَّلِ الصَّيْفِ، وَالْخَرِيفُ مِنْ آخِرِ الصَّيْفِ إلَى أَوَّلِ الشِّتَاءِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا أَيْسَرُ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ إذَا كَانَ عَلَى الْأَشْجَارِ أَوْرَاقٌ وَثِمَارٌ فَهُوَ صَيْفٌ، وَإِذَا بَقِيَ الْأَوْرَاقُ دُونَ

ص: 160

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ)

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَوْلُودٌ فَيَكُونُ وَلَدًا حَقِيقَةً وَيُسَمَّى بِهِ فِي الْعُرْفِ، وَيُعْتَبَرُ وَلَدًا فِي الشَّرْعِ حَتَّى

الثِّمَارِ فَخَرِيفٌ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا أَوْرَاقٌ فَالشِّتَاءُ، وَإِذَا خَرَجَتْ الْأَوْرَاقُ دُونَ الثِّمَارِ فَالرَّبِيعُ وَهُوَ إذَا خَرَجَتْ الْأَزْهَارُ.

وَلَوْ قَالَ إلَى وُقُوعِ الثَّلْجِ أَرَادَ وَقْتَ وُقُوعِهِ فَعَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَذَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى حَقِيقَةَ وُقُوعِهِ فَعَلَى حَقِيقَةِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَنْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ مَا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَمَا لَا يَسْتَبِينُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَلَوْ وَقَعَ الثَّلْجُ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْحَالِفِ لَا يُعْتَبَرُ بَلْ الْمُعْتَبَرُ وُقُوعُهُ فِي بَلْدَتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَالِفُ فِي بَلْدَةٍ لَا يَقَعُ بِهَا ثَلْجٌ تَأَبَّدَتْ الْيَمِينُ. وَلَوْ قَالَ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ فَقَدِمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ، وَلَوْ ذَكَرَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، فَعَلَى السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهَا، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعْرُوفٌ بَيْنَ عُلَمَائِنَا، فَإِنْ كَانَ حَلَفَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ هُمَا حَتَّى يَجِيءَ مِثْلُهُ مِنْ رَمَضَانَ الْقَابِلِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَمْضِي كُلَّ رَمَضَانَ الْقَابِلِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْكُلِّ لَكِنَّهُ يَقُولُ تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ، وَعِنْدَهُمَا فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ لَكِنْ لَا تُعْرَفُ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ)

لَمَّا كَثُرَ وُقُوعُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ قَدَّمَهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا طَلُقَتْ) وَكَذَا إذَا عَلَّقَ بِهِ عِتْقَ أَمَةٍ لِأَنَّ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وُلِدَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَشَرْعًا حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ فَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَتَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي السِّقْطِ «يَظَلُّ مُحْبَنْطِئًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُدْخِلَ أَبَوَاهُ الْجَنَّةَ» يُرْوَى بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الْعَظِيمُ الْبَطْنِ الْمُنْتَفِخُ: أَيْ يُنْفَخُ بَطْنُهُ مِنْ الِامْتِلَاءِ مِنْ الْغَضَبِ، وَبِلَا هَمْزٍ هُوَ الْمُتَغَضَّبُ الْمُسْتَبْطِئُ لِلشَّيْءِ وَالْفِعْلُ مِنْهُمَا احْبَنْطَأَ مَهْمُوزًا وَاحْبَنْطَى مَقْصُورًا، وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ أَنَّ السِّقْطَ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْحُكْمِ، فَلَوْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ طَلُقَتْ وَعَتَقَتْ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَلَدٌ حَتَّى

ص: 161

تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، وَالدَّمُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ

(وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْجَزَاءُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْوَلَدِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ جَزَاءً وَهِيَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ تَظْهَرُ فِي دَفْعِ تَسَلُّطِ الْغَيْرِ وَلَا تَثْبُتُ فِي الْمَيِّتِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ الْحَيَاةِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ وَحُرِّيَّةِ الْأُمِّ

صَارَتْ الْأَمَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لَا يُعْتَبَرْ، وَتَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْحَيْضِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ آخَرَ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ وَحْدُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ بِوِلَادَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا) آنِفًا لَكِنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِهِ وَلَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبَانَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَدَخَلَتْ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَلَا يَحْنَثُ، حَتَّى لَوْ رَجَعَتْ فَدَخَلَتْ لَا يَقَعُ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ إلَّا الْوَلَدُ الْحَيُّ هُنَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجَزَاءَ وَصْفًا لِلْمَوْصُوفِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْوَلَدُ، وَهَذَا الْوَصْفُ الْخَاصُّ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْحَيِّ فَتَقَيَّدَ الْمَوْصُوفُ بِالشَّرْطِ بِالْحَيَاةِ وَإِلَّا لُغِيَ الْكَلَامُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ إذَا وَلَدْت وَلَدًا حَيًّا، بِخِلَافِ جَزَاءِ الطَّلَاقِ لِلْأُمِّ وَحُرِّيَّتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا لِلْوَلَدِ بِالْحَيِّ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالطَّلَاقَ وَاقِعٌ وَصْفًا لِغَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُ تَقْيِيدُهُ بِهِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قِيلَ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا لِغَيْرِهِ ثُمَّ عَبْدًا لِنَفْسِهِ لَا يُعْتَقُ الثَّانِي لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَقَيَّدْ ضَرُورَةُ وَصْفِهِ بِالْحُرِّيَّةِ بِعَبْدٍ لِنَفْسِهِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُشْتَرِي لِغَيْرِهِ مَحَلٌّ لِلْإِعْتَاقِ لِصِحَّةِ ثُبُوتِهِ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ مَالِكِهِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ بِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى إضْمَارِ الْمِلْكِ فِيهِ. أَمَّا الْمَيِّتُ فَلَا يَصِحُّ إيجَابُ الْعِتْقِ فِيهِ لَا مَوْقُوفًا وَلَا غَيْرَهُ، وَبِهَذَا يَقَعُ الْجَوَابُ عَمَّا قَدْ يُورَدُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْجَزَاءِ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالشَّرْطِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَبَانَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَدَخَلَتْ انْحَلَّتْ وَلَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَلَمْ يُضْمِرْ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فِي عِصْمَتِي وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَحَلٌّ لِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ صَحَّ وَتَوَقَّفَ عَلَى نِكَاحِهَا فَتَطْلُقُ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ.

وَفِي الْإِيضَاحِ لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيَّ فَهُوَ حُرٌّ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ عَبْدٌ مَيِّتٌ ثُمَّ عَبْدٌ حَيٌّ يُعْتَقُ الْحَيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ. وَالصَّحِيحُ

ص: 162

لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا

(وَإِذَا قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ (فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ آخَرَ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) لِانْعِدَامِ التَّفَرُّدِ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَالسَّبَقِ فِي الثَّالِثِ فَانْعَدَمَتْ الْأَوَّلِيَّةُ (وَإِنْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه وَحْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ الثَّالِثُ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّفَرُّدُ فِي حَالَةِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ وَحْدَهُ لِلْحَالِ لُغَةً وَالثَّالِثُ سَابِقٌ فِي هَذَا الْوَصْفِ (وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ الْآخَرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَلَا سَابِقَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَاحِقًا (وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ الْآخَرُ) لِأَنَّهُ فَرْدٌ لَاحِقٌ فَاتَّصَفَ بِالْآخِرِيَّةِ (وَيُعْتَقُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله حَتَّى يَعْتَبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَالَا: يُعْتَقُ يَوْمَ مَاتَ)

أَنَّهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا وَنِصْفًا مَعًا عَتَقَ التَّامُّ. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَوَّلُ كُرٍّ أَمْلِكُهُ فَهُوَ هَدْيٌ فَمَلَك كُرًّا وَنِصْفًا كَذَلِكَ لَمْ يُهْدِ شَيْئًا لِأَنَّ النِّصْفَ يُزَاحِمُ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ الْكُرِّ لِأَنَّهُ مَعَ كُلِّ نِصْفٍ مِنْهُ كُرٍّ بِخِلَافِ نِصْفِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ فَيَكْمُلُ الْعَبْدُ بِنِصْفَيْهِ، ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ والمرغيناني

(قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ) فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ فَتَحَقَّقَ بِشِرَائِهِ شَرْطُ الْعِتْقِ فَيُعْتَقُ، فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ آخَرَ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِانْعِدَامِ التَّفَرُّدِ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَالسَّبَقِ فِي الثَّالِثِ فَانْعَدَمَتْ الْأَوَّلِيَّةُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه وَحْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ الثَّالِثُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّفَرُّدُ بِهِ فِي حَالَةِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ وَحْدَهُ لِلْحَالِ لُغَةً فَيُقَيَّدُ عَامِلُهُ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِمَعْنَاهُ فَيُفِيدُ أَنَّ الشِّرَاءَ فِي حَالِ تَفَرُّدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ صَادِقٌ فِي الثَّالِثِ فَيُعْتَقُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ وَاحِدًا لَا يُعْتَقُ الثَّالِثُ لِأَنَّ وَاحِدًا يُحْتَمَلُ التَّفَرُّدَ فِي الذَّاتِ فَيَكُونُ حَالًا مُؤَكَّدَةً لِأَنَّ الْوَاقِعَ كَوْنُهُ كَذَلِكَ فِي ذَاتِهِ فَلَا يُعْتَقُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْأَوَّلَيْنِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ فِي ذَاتِهِ فَرْدٌ وَاحِدٌ وَسَابِقٌ عَلَى مَنْ يَكُونُ بَعْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ الثَّالِثُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ هَذَا الْمَعْنَى يُعْتَقُ كُلٌّ مِنْ الِاثْنَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِهِ فَتَكُونُ مُؤَسِّسَةً فَيُعْتَقُ لِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلَيْنِ فَلَا يُعْتَقُ بِالشَّكِّ.

وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْعَبْدِ وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْمَالِكِ: أَيْ حَالَ كَوْنِي مُنْفَرِدًا فَلَا يُعْتَقُ بِالشَّكِّ، إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ (قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا وَمَاتَ الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ لِأَنَّ الْآخَرَ فَرْدٌ لَاحِقٌ) وَالْفَرْضُ أَنْ لَا سَابِقَ لِهَذَا

ص: 163

حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْآخِرِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ فَكَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرَّفٌ فَأَمَّا اتِّصَافُهُ بِالْآخِرِيَّةِ فَمِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَثْبُتُ مُسْتَنِدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَعْلِيقُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِهِ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي جَرَيَانِ الْإِرْثِ وَعَدَمِهِ

الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ لَاحِقًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَنَاطُ الْعِتْقِ فَلَمْ يُعْتَقْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَحَقُّقِ الْآخِرِيَّةِ وُجُودٌ سَابِقٌ بِالْفِعْلِ، وَفِي الْأَوَّلِيَّةِ عَدَمُ تَقَدُّمِ غَيْرِهِ لَا وُجُودُ آخِرِ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ، وَإِلَّا لَمْ يُعْتِقْ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ إذْ لَمْ يَشْتَرِ بَعْدَهُ غَيْرَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا فِي قَوْلِهِ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الْآخَرُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ فَرْدٌ لَاحِقٌ لَمْ يَعْقُبْهُ غَيْرُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ عِتْقِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ مِنْ يَوْمِ اشْتَرَاهُ حَتَّى يُعْتَبَرَ عِتْقُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الصِّحَّةِ وَإِلَّا عَتَقَ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَالَا: يُعْتَقُ يَوْمَ مَاتَ الْمَوْلَى حَتَّى يُعْتَبَرَ عِتْقُهُ مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْآخِرِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ بَعْدَهُ إلَى الْمَوْتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ أَشْتَرِ بَعْدَك آخَرُ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَوْ قَالَهُ كَانَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فَكَذَا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ ثَابِتًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْتَ مُعَرِّفٌ لِلشَّرْطِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ اتِّصَافًا بِالْآخِرِيَّةِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ حَصَلَتْ لَهُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بِعَرْضِيَّةِ الزَّوَالِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بَعْدَهُ غَيْرَهُ، فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَشْتَرِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ آخِرًا مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ عَتَقَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا يُحْكَمُ بِطَلَاقِهَا فِي الْحَالِ بَلْ حَتَّى يَمْتَدَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِذَا امْتَدَّ ظَهَرَ أَنَّهَا طَلُقَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ حَيْثُ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ كَانَ حَيْضًا وَكَوْنُ صِفَةِ الْآخِرِيَّةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِعَدَمِ شِرَاءِ غَيْرِهِ وَأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَوْتِ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْطَ عَدَمَ الشِّرَاءِ بَلْ أَمْرٌ آخَرُ لَا يَتَحَقَّقُ ظُهُورُهُ إلَّا بِهِ فَلَا يَقَعُ عِنْدَهُ مُقْتَصِرًا إلَّا لَوْ كَانَ هُوَ نَفْسُ الشَّرْطِ، فَإِذَا كَانَ الْمَظْهَرُ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ ثَبَتَ عِنْدَهُ مُسْتَنِدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ يَقَعُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُقْتَصِرًا عِنْدَهُمَا وَمُسْتَنِدًا عِنْدَهُ.

وَفَائِدَتُهُ: أَيْ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حِرْمَانِ الْإِرْثِ وَعَدَمِهِ؛ فَعِنْدَهُمَا تَرِثُ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ فَارًّا حَيْثُ حَكَمَا بِطَلَاقِهَا فِي آخِرِ نَفَسٍ مِنْ حَيَاتِهِ وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ وَاحِدٍ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لِانْتِهَاءِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ، وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ لَا غَيْرُ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا كَانَ عَلَيْهَا عِدَّةُ

ص: 164

(وَمَنْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ مُتَفَرِّقِينَ عَتَقَ الْأَوَّلُ) لِأَنَّ الْبِشَارَةَ اسْمٌ لِخَبَرٍ يُغَيِّرُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ سَارًّا بِالْعُرْفِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَوَّلِ (وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا) لِأَنَّهَا تَحَقَّقَتْ مِنْ الْكُلِّ

الْوَفَاةِ، وَعِنْدَهُ لَا تَرِثُ لِأَنَّهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَقْتَ تَزَوُّجِهَا، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِهَا لَزِمَهُ مَهْرٌ بِالدُّخُولِ وَنِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَتُعْتَبَرُ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك، فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ يُقْتَصَرُ طَلَاقُهَا عَلَى الْحَالِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِكَوْنِ الشَّرْطِ عَدَمُ التَّزَوُّجِ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهُ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الشَّرْطُ، وَلَيْسَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ الْعَدَمِ الْمَجْعُولِ شَرْطًا فَلَمْ يَكُنْ الْعَدَمُ السَّابِقُ تَمَامَ الشَّرْطِ، إذْ مَا لَمْ يَتِمَّ آخِرُ الشَّرْطِ لَا يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ، بِخِلَافِ الْآخِرِيَّةِ فَإِنَّهَا تَتِمُّ بِذَلِكَ الشَّرْطِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَلَوْ قَالَ آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ أُخْرَى ثُمَّ طَلَّقَ الْأُولَى وَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْلُقْ هِيَ وَتَطْلُقُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا مَرَّةً، لِأَنَّ الَّتِي أَعَادَ عَلَيْهَا التَّزَوُّجَ اتَّصَفَتْ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَلَا تَتَّصِفُ بِالْآخِرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ آخِرُ عَبْدٍ أَضْرِبُهُ وَضَرَبَ عَبْدًا ثُمَّ آخَرَ ثُمَّ أَعَادَ الضَّرْبَ عَلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ الَّذِي ضَرَبَهُ ثَانِيًا لَا الْمَعَادُ عَلَيْهِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ بَشَّرَنِي بِوِلَادَةِ فُلَانَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ ثَلَاثَةٌ مُتَفَرِّقِينَ) أَيْ مُتَعَاقِبِينَ عَتَقَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ فَقَطْ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ إنَّمَا تَحَقَّقَتْ مِنْهُ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِخَبَرٍ يُغَيِّرُ بَشَرَةَ الْوَجْهِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ سَارًّا فِي الْعُرْفِ، وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مَا يُغَيِّرُ الْبَشَرَةَ سَارًّا كَانَ أَوْ ضَارًّا، قَالَ تَعَالَى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ بِمَا يُكْرَهُ قُرِنَ بِذِكْرِ مَا بِهِ الْوَعِيدُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا خَاصٌّ بِالْمَحْبُوبِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْمَكْرُوهِ فَمَجَازٌ دُفِعَ بِمَادَّةِ اشْتِقَاقِهِ وَهِيَ الْبَشَرَةُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ لِذَلِكَ الْخَبَرَ أَثَرًا فِي الْبَشَرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِمَا يَخَافُهُ الْإِنْسَانُ يُوجِبُ تَغَيُّرَ بَشَرَتِهِ فِي الْمُشَاهَدِ الْمَعْرُوفِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِالْمَحْبُوبِ إلَّا أَنَّ عَلَى الْعُرْفِ بِنَاءَ الْأَيْمَانِ، وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَحَقَّقَتْ مِنْ الْكُلِّ.

قَالَ تَعَالَى {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} فَنَسَبَهَا إلَى جَمَاعَةٍ فَحَقِيقَتُهَا تَتَحَقَّقُ بِالْأَوَّلِيَّةِ مِنْ فَرْدٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدِ، فَابْتَدَرَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِالْبِشَارَةِ، فَسَبَقَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَتَى ذَكَرَ: بَشَّرَنِي أَبُو بَكْرٍ وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ» وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْبِشَارَةِ إخْبَارٌ بِأَنْ قَالَ إنْ أَخْبَرَنِي وَالْبَاقِي بِحَالِهِ عَتَقَ الْكُلُّ، ثُمَّ إنْ عَدَّى بِالْبَاءِ بِأَنْ قَالَ إنْ

ص: 165

(وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَشَرْطُهُ (وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ. لَهُمَا أَنَّ الشِّرَاءَ شَرْطُ الْعِتْقِ، فَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْقَرَابَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَتُهُ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ. وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» جَعَلَ نَفْسَ الشِّرَاءِ إعْتَاقًا لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ غَيْرُهُ وَصَارَ نَظِيرُ قَوْلِهِ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ

أَخْبَرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ اشْتَرَطَ فِيهِ الصِّدْقَ لِإِفَادَتِهَا إلْصَاقَ الْخَبَرِ بِنَفْسِ الْقُدُومِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ لُصُوقُهَا الْإِخْبَارَ بِنَفْسِهِ: يَعْنِي بِنَفْسِ الْقُدُومِ لَفْظًا وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي الْكَذِبِ، فَاشْتِرَاطُ الصِّدْقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَحَقُّقَ الْإِلْصَاقِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِلْصَاقِ الْإِخْبَارِ بِنَفْسِ الْوَاقِعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ أَخْبَرَنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ عَتَقَ كُلُّ مَنْ أَخْبَرَهُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا.

وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى اشْتِرَاطِ الصِّدْقِ فِي الْبِشَارَةِ أَنَّ تَغَيُّرَ الْبَشَرَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْأَخْبَارِ السَّارَّةِ صِدْقًا كَذَلِكَ يَحْصُلُ كَذِبًا. وَأُجِيبَ بِمَا لَيْسَ بِمُفِيدٍ، وَالْوَجْهُ فِيهِ نَقْلُ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ) لِأَنَّ وُقُوعَهُ كَفَّارَةٌ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ يُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِعِلَّةِ الْعِتْقِ وَهِيَ الْيَمِينُ، وَهَذَا تَسَاهُلٌ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هُوَ قَوْلُهُ هُوَ حُرٌّ وَهُوَ جُزْءُ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ هُوَ مَجْمُوعُ التَّرْكِيبِ التَّعْلِيقِيِّ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ ذَلِكَ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِهِ بَلْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ لَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَجُزْ عَنْهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ وَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَنْزِلُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ السَّابِقُ فَإِنَّهُ الْعِلَّةُ، أَمَّا الشِّرَاءُ فَشَرْطُ عَمَلِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّيَّةِ عِنْدَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ بِلَا نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى عَنْ كَفَّارَةٍ لَا يَجْزِيه لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ مُتَقَدِّمٌ لَا مُتَأَخِّرٌ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ فِي الصَّوْمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ حَتَّى لَوْ كَانَ نَوَى عِنْدَهُ إذَا اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي فَاشْتَرَاهُ عَتَقَ عَنْهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ يَوْمَ أَشْتَرِيه يُرِيدُ عَنْ كَفَّارَتِي.

وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَزَاءَ الْمُعَلَّقَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ عِلَّةً عِنْدَ الشَّرْطِ، وَالشِّرَاءُ هُوَ الشَّرْطُ، وَقَدْ قُرِنَتْ النِّيَّةُ بِالْعِلَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَنْهَا لِقِرَانِ النِّيَّةِ بِالْعِلَّةِ.

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَبْلَ الشَّرْطِ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً اعْتَبَرَ الشَّرْعُ لَهُ حُكْمَ الْعِلِّيَّةِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَهُ اتِّفَاقًا، فَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَمْ يُعْتَبَرْ أَصْلًا فَلِذَا يَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ النِّيَّةُ عِنْدَهُ (قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِيه عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا لِأَنَّ الْعِلَّةَ لِلْعِتْقِ هِيَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرَّمَةُ لَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ لِأَنَّهَا الَّتِي ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي وُجُوبِ الصِّلَةِ كَالنَّفَقَةِ فَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ شَرْطُ عَمَلِهَا سَوَاءٌ حَصَلَ بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ كَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ نَفْسُ الْعِلَّةِ فَلَا لِأَنَّهُ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْعِتْقُ لِإِزَالَتِهِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَلَا يَكُونُ الْعِتْقُ مُقْتَضَاهُ.

وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، لِمَا رَوَى السِّتَّةُ إلَّا الْبُخَارِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه

ص: 166

(وَلَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ) وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ لِأَمَةٍ قَدْ اسْتَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ:

عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» يُرِيدُ فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَ هُوَ عِنْدَ ذَلِكَ الشِّرَاءِ، وَهَذَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ عِتْقِهِ إلَى إعْتَاقٍ زَائِدٍ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَرَابَةَ ظَاهِرَةُ الْأَثَرِ فِيهِ شَرْعًا، وَقَدْ رَتَّبَ عِتْقَهُ عَلَى شِرَائِهِ بِالْفَاءِ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى فَيُعْتِقَ هُوَ فَهُوَ مِثْلُ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ، وَالتَّرْتِيبُ بِالْفَاءِ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ عَلَى مَا عُرِفَ مِثْلُ سَهَا فَسَجَدَ وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ كَمَا بَيَّنَّا فِي وَجْهِ قَوْلِ زُفَرَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ أَيْضًا كَذَلِكَ بِالنَّصِّ مَعَ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى عَيْنِ حِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي تَرْتِيبِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ تَحْصِيلًا لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ الْقَطِيعَةِ الْحَاصِلَةِ بِمِلْكِهِ إيَّاهُ كَالْبَهَائِمِ وَالْأَمْتِعَةِ وَلِمَصْلَحَةِ الصِّلَةِ، وَهَذِهِ عَيْنُ حِكْمَةِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بِهَا كَانَتْ عِلَّةُ الْعِتْقِ فَوَجَبَ كَوْنُ مَجْمُوعِ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ عِلَّةُ الْعِتْقِ وَلِذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا، وَاشْتُهِرَتْ عِبَارَتُنَا الْقَائِلَةُ شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ غَيْرَ أَنَّ الشِّرَاءَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ، أَيْ عِلَّةُ جُزْءِ الْعِلَّةِ.

وَلَمَّا كَانَ الشِّرَاءُ الِاخْتِيَارِيُّ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَلَزِمَتْ النِّيَّةُ عِنْدَهُ، فَإِذَا نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ صَحَّ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَ الْأَبَ وَغَيْرَهُ بِالْإِرْثِ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِ بِلَا اخْتِيَارٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ النِّيَّةُ فِيهِ فَلَا يُعْتَقُ عَنْ كَفَّارَتِهِ إذَا نَوَاهُ لِأَنَّهَا نِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْعِتْقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ مَا إذَا وُهِبَ لَهُ أَوْ أُوصِيَ لَهُ بِهِ أَوْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَنَوَى عِنْدَ الْقَبُولِ أَنْ يُعْتِقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِسَبْقِهَا مُخْتَارًا فِي السَّبَبِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّرْتِيبِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ الْعِتْقُ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ تَمَامِ الْعِلَّةِ.

وَأَمَّا الْمُنَافَاةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِمْ الشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَتُهُ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِنَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ إنَّمَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْقَرِيبِ وَمِلْكُ الْقَرِيبِ عِلَّةُ الْعِتْقِ فَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ إضَافَةٌ إلَى عِلَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَالْمُنَافَاةُ إنَّمَا تَثْبُتُ لَوْ كَانَ إزَالَةُ الْمِلْكِ نَفْسُ مُوجِبِ الشِّرَاءِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ؛ وَكَانَ الْأَلْيَقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا بَعْدَهَا فَصْلُ الْكَفَّارَةِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ تُجِزْهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ) وَإِنْ نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ كَوْنَ عِتْقِهَا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، قَالُوا: وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَ أَمَةً لِغَيْرِهِ

ص: 167

إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالِاسْتِيلَادِ فَلَا تَنْضَافُ إلَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِقِنَّةٍ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي حَيْثُ يَجْزِيه عَنْهَا إذَا اشْتَرَاهَا لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى فَلَمْ تَخْتَلَّ الْإِضَافَةُ إلَى الْيَمِينِ وَقَدْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ

(وَمَنْ)(قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ)

فَأَوْلَدَهَا بِالنِّكَاحِ ثُمَّ يَقُولُ لَهَا (إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ) وَهُوَ الشِّرَاءُ (وَلَا تَجْزِيه عَنْ الْكَفَّارَةِ) وَإِنَّمَا صُوِّرَتْ هَكَذَا لِأَنَّهُ يُرِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ شِرَاءِ الْقَرِيبِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَشِرَاءِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَإِلَّا فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِتْقَ أُمِّ الْوَلَدِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجْزِي مُعَلَّقًا أَوْ مُنْجَزًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشِّرَاءَيْنِ مَعَ أَنَّ الشِّرَاءَ فِي الْفَصْلَيْنِ مَسْبُوقٌ بِمَا يُوجِبُ الْعِتْقَ مِنْ وَجْهٍ وَهُمَا الْقَرَابَةُ وَالِاسْتِيلَادُ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ اسْتَحَقَّتْ الْعِتْقَ بِالِاسْتِيلَادِ حَتَّى جُعِلَ إعْتَاقًا مِنْ وَجْهٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَهِيَ قَبْلَ الشِّرَاءِ قَدْ عَتَقَتْ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ عِتْقُهَا بِالشِّرَاءِ أَوْ تَنْجِيزًا إعْتَاقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.

وَالْوَاجِبُ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إعْتَاقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ فَإِنَّهُ إعْتَاقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الشِّرَاءِ أُعْتِقَ مِنْ وَجْهٍ (بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِقِنَّةٍ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي حَيْثُ تَجْزِيه إذَا اشْتَرَاهَا لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى فَلَمْ تَخْتَلَّ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى الْكَفَّارَةِ وَقَدْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ) فَكَمُلَ الْمُوجِبُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ) اعْلَمْ أَنَّ التَّسَرِّي هُنَا تَفَعُّلٌ مِنْ السُّرِّيَّةِ وَهُوَ اتِّخَاذُهَا، وَالسُّرِّيَّةُ إنْ كَانَتْ مِنْ السُّرُورِ فَإِنَّهَا تُسَرُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَيُسَرُّ هُوَ بِهَا أَوْ مِنْ السُّرِّ وَالسِّيَادَةِ فَضَمُّ سِينِهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ السِّرِّ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ أَوْ بِمَعْنَى ضِدِّ الْجَهْرِ فَإِنَّهَا قَدْ تَخْفَى عَنْ الزَّوْجَاتِ الْحَرَائِرِ فَضَمُّهَا مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ كَمَا قَالُوا دُهْرِيٌّ بِالضَّمِّ فِي النِّسْبَةِ إلَى الدَّهْرِ وَفِي النِّسْبَةِ إلَى السَّهْلِ مِنْ الْأَرْضِ سُهْلِيٌّ بِالضَّمِّ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ مَصْدَرِهِ، فَإِنْ اُعْتُبِرَ التَّسَرِّي قِيلَ تَسَرَّى بِإِبْدَالِ الْيَاءِ أَلِفًا

ص: 168

فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ فِي حَقِّهَا لِمُصَادَفَتِهَا الْمِلْكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مُنَكَّرَةٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ جَارِيَةٍ عَلَى الِانْفِرَادِ (وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَمْ تُعْتَقْ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ الْمِلْكِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا

لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ التَّسَرُّرُ قِيلَ تَسَرَّرَ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقَالَ أَلَّا تُسِرِّي فِي الْمَصْدَرَيْنِ لِأَنَّهُ اتِّخَاذُ السُّرِّيَّةِ، لَكِنْ لُوحِظَ فِيهِ أَصْلُ السُّرِّيَّةِ وَهُوَ السُّرُورُ أَوْ السِّرُّ فَاسْتُعْمِلَ بِرَاءَيْنِ بِإِبْدَالِ الْيَاءِ رَاءً، وَخُصَّتْ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ، وَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ عَنْ عَائِشَةَ وَسُئِلَتْ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَتْ " لَا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا النِّكَاحَ وَالِاسْتِسْرَارَ " وَالْقِيَاسُ الِاسْتِسْرَاءُ بِهَمْزَةٍ هِيَ بَدَلُ الْيَاءِ الْوَاقِعَةِ طَرَفًا بَعْدَ أَلْفٍ سَاكِنَةٍ كَهَمْزَةِ كِسَاءٍ، وَمَعْنَى التَّسَرِّي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنْ يُحْصِنَ أَمَتَهُ وَيَعُدُّهَا لِلْجِمَاعِ أَفْضَى إلَيْهِ بِمَائِهِ أَوْ عَزَلَ عَنْهَا.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَعْزِلَ مَاءَهُ مَعَ ذَلِكَ، فَعُرِفَ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَةً لَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّحْصِينِ وَالْإِعْدَادِ لَا يَكُونُ تَسَرِّيًا وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ.

لَنَا أَنَّ مَادَّةَ اشْتِقَاقِهِ سَوَاءٌ اُعْتُبِرَتْ مِنْ السُّرُورِ أَوْ مَا يَرْجِعُ إلَى الْجِمَاعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الْإِنْزَالَ فِيهَا لِأَنَّ الْجِمَاعَ وَالسُّرُورَ وَالسِّيَادَةَ كُلٌّ مِنْهَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ، فَأَخَذَهُ فِي الْمَفْهُومِ وَاعْتِبَارُهُ بِلَا دَلِيلٍ، وَكَوْنُ الْعُرْفِ فِي التَّسَرِّي تَحْصِينُهَا لِطَلَبِ الْوَلَدِ دَائِمًا مَمْنُوعٌ بَلْ الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ فِي الْمُشَاهَدِ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلِدَ لَهُ إذَا عُرِفَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَتَسَرَّى فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَحَصَّنَهَا وَوَطِئَهَا حَنِثَ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي التَّجْرِيدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَلَوْ قَالَ إنْ تُسُرِّيت جَارِيَةً فَعَبْدِي حُرٌّ فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا عَتَقَ الْعَبْدُ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ عَبْدٌ فَمَلَك عَبْدًا ثُمَّ اشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَا يُعْتَقُ هَذَا الْعَبْدُ الْمُسْتَحْدَثُ. وَلَوْ قَالَ إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ عَتَقَتْ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ إجْمَاعِيَّةٌ.

وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَعْدَ الْحَلِفِ فَتَسَرَّاهَا لَا تُعْتَقُ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رحمهم الله. وَقَالَ زُفَرُ: تُعْتَقُ لِأَنَّ التَّسَرِّي لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرُ الْمِلْكِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ مَلَكْت أَمَةً فَتَسَرَّيْتهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ يَصِيرُ التَّزَوُّجُ مَذْكُورًا، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا عَتَقَ الْعَبْدُ

ص: 169

وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ يَصِيرُ مَذْكُورًا ضَرُورَةٌ صِحَّةُ التَّسَرِّي وَهُوَ شَرْطٌ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ،

وَلَنَا أَنَّهُ لَوْ عَتَقَتْ الْمُشْتَرَاةُ لَزِمَ صِحَّةُ تَعْلِيقِ عِتْقِ مَنْ لَيْسَ فِي الْمِلْكِ بِغَيْرِ الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّسَرِّي لَيْسَ نَفْسُ الْمِلْكِ وَلَا سَبَبُهُ بَلْ قَدْ يَتَّفِقُ بَعْدَهُ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ لَيْسَ إلَّا إعْدَادُ أَمَةٍ حَصَّنَهَا لِلْجِمَاعِ، فَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ وُجُودَ الْمِلْكِ سَابِقًا عَلَى ابْتِدَاءِ التَّحْصِينِ وَالْإِعْدَادِ أَوْ مُقَارِنًا، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ إخْطَارَهُ عِنْدَ التَّكَلُّمِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ خُطُورِهِ، ثُمَّ تَقْدِيرُهُ مُرَادًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا بَيِّنًا لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ فِي الذِّهْنِ بَلْ لَازِمٌ لِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ، وَاللَّوَازِمُ الْخَارِجِيَّةُ لَا يَلْزَمُ تَعَلُّقُهَا تَعَقُّلُ مَا هُوَ مَلْزُومُهَا فِي الْخَارِجِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ مَلَكْت أَمَةً فَتَسَرَّيْتهَا إلَخْ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِجَعْلِ الشَّرْطِ الْمِلْكَ، وَبِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ لِأَنَّ عِتْقَ عَبْدِهِ الْقَائِمِ فِي مِلْكِهِ لَيْسَ لِاعْتِبَارِنَا الشَّرْطَ مَجْمُوعٌ إنْ تَزَوَّجْتُك ثُمَّ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ، بَلْ لِاقْتِضَاءِ الشَّرْطِ الْمِلْكَ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ إذَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَاهُ ثَبَتَ الْجَزَاءُ وَهُوَ عِتْقُ عَبْدِهِ، أَمَّا هَاهُنَا لَوْ ثَبَتَ التَّسَرِّي لَا يَثْبُتُ عِتْقُ الْمُتَسَرَّى بِهَا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّرْطِ شَرْعًا وَهُوَ كَوْنُهُ نَفْسُ الْمِلْكِ أَوْ سَبَبُهُ فَلِهَذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ هَاهُنَا ضَرُورَةُ صِحَّةِ التَّسَرِّي بِهِ فَقَطْ لِأَنَّ الثَّابِتَ ضَرُورَةٌ أَمْرٌ لَا يَتَجَاوَزُهَا، ثُمَّ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ التَّسَرِّي عِتْقُهَا لِاحْتِيَاجِ عِتْقِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْإِعْتَاقِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ مِلْكِهَا إلَى كَوْنِهِ مُعَلَّقًا بِالْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ وِزَانَ مَسْأَلَتِنَا، وَإِنَّمَا وِزَانُهَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةِ إنْ طَلَّقْتُك وَاحِدَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً.

وَنَحْنُ نَقُولُ فِي هَذِهِ لَا تَطْلُقُ الْأُخْرَيَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ بِالتَّطْلِيقِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ كَوْنُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ. نَعَمْ قَدْ يُقَدَّرُ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى الْمَعْنَى فَيَصِيرُ مُعْتَبَرًا لَفْظًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا لِتَصْحِيحِ الْجَزَاءِ فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ غَرَضَ الْيَمِينِ الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ قَصْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِيُوجَدَ الْجَزَاءُ كَمَا قَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لَفْظَ حَيًّا فِي قَوْلِهِ إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ لِتَصْحِيحِ الْجَزَاءِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ غَرَضَهُ وُجُودُ الشَّرْطِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا وَتَخْفِيفُهَا عَلَيْهَا، فَفِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُعْرَفُ أَنَّ الْغَرَضَ مَنْعُ الشَّرْطِ بِمَنْعِ

ص: 170

وَفِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّرْطِ دُونَ الْجَزَاءِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا فَهَذِهِ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا

(وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ تُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ) لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ، إذْ الْمِلْكُ ثَابِتٌ فِيهِمْ رَقَبَةً وَيَدًا

نَفْسِهِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ التَّقْدِيرُ لِتَصْحِيحِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ، وَحَلَفَ التَّسَرِّي مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى زُفَرَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْمُقْتَضَى حَتَّى حَكَمَ فِي قَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَنْ الْمَأْمُورِ فَكَيْفَ خَالَفَ هُنَا وَحَكَمَ بِاعْتِبَارِهِ وَتَقْدِيرِهِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا إصْلَاحُهُ لَهُ فَإِنَّ مُنَاقَضَتَهُ لَا تَضُرُّنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى بَلْ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ حَيْثُ كَانَ فَهْمُ الْمِلْكِ ثَابِتًا عِنْدَ فَهْمِ مَعْنَى التَّسَرِّي.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ صُورَةِ أَصْلٍ وَفَرْعٍ وَعِلَّةٍ حَتَّى قِيلَ هِيَ قِيَاسٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ إلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ. فَالْوَجْهُ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْعُرْفِ بِمَعْنَى إنْ وَطَئْتُ مَمْلُوكَةً لِي فَكَانَتْ الدَّلَالَةُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ، وَقَدْ نَقَلْنَا فِي تَحْرِيرِ الْأُصُولِ عَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ تَفْسِيرًا لِلدَّلَالَةِ بِمَعْنَى دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَإِنْ لَمْ تَرْضَهُ، هَذَا وَالتَّحْقِيقُ أَنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ الْمُقْتَضَى، لِأَنَّ الْمُقْتَضَى مَا يَكُونُ ثُبُوتُهُ لِضَرُورَةِ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ الظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّتِهِ لُغَةً مِثْلُ " رَفْعِ الْخَطَأِ " أَوْ شَرْعًا مِثْلُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي. وَقَوْلُ الْقَائِلِ إنْ تَسَرَّيْت لَا يَتَبَادَرُ كَذِبُهُ فَيَحْتَاجُ فِي تَصْحِيحِهِ إلَى التَّقْدِيرِ إزَالَةً لِلْخَطَأِ تَصْحِيحًا لِمَا لَمْ يَصِحَّ ظَاهِرُهُ، وَهَذَا عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَاهُ فِي إنْ أَكَلْت بَلْ الْحَقُّ أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَاحِدٌ وَهُوَ إعْدَادُ الْمَمْلُوكَةِ إلَخْ لَا الْإِعْدَادُ الْأَعَمُّ مِنْهَا وَمِنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا فَهُوَ مَدْلُولُ تَضَمُّنِيٌّ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَارَةِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ تُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَعَبِيدُهُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَؤُلَاءِ) أَيْ إضَافَةُ الْمِلْكِ الْكَامِلِ فِي هَؤُلَاءِ إلَى السَّيِّدِ ثَابِتَةٌ رَقَبَةً وَيَدًا فَدَخَلُوا فَيُعْتَقُونَ، وَيَدْخُلُ الْإِمَاءُ وَالذُّكُورُ، وَلَوْ نَوَى الذُّكُورَ فَقَطْ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَلَوْ نَوَى السُّودَ دُونَ غَيْرِهِمْ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ بِوَصْفٍ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ ذِكْرُهُ وَلَا عُمُومٌ إلَّا اللَّفْظُ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ لِأَنَّ لَفْظَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِلرِّجَالِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ تَعْمِيمُ مَمْلُوكٍ وَهُوَ لِلذَّكَرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْأُنْثَى مَمْلُوكَةً، وَلَكِنْ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يُسْتَعْمَلُ لَهُمَا الْمَمْلُوكُ عَادَةً: يَعْنِي إذَا عَمَّمَ (مَمْلُوكٍ) بِإِدْخَالِ (كُلُّ) وَنَحْوِهِ يَشْمَلُ الْإِنَاثَ حَقِيقَةً كَمَا ذُكِرَ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ كَالْمُسْلِمِينَ.

وَالْوَاوُ فِي فَعَلُوا عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْكُلِّ فَلِذَا كَانَ نِيَّةُ الذُّكُورِ خَاصَّةً خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً،

ص: 171

(وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ) لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ ثَابِتٍ يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمُكَاتَبَةِ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ الْإِضَافَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ

(وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ) لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا بَيْنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ ثُمَّ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْحُكْمِ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا عَتَقَ الْأَخِيرُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلَيْنِ) لِمَا بَيَّنَّا.

وَلَوْ نَوَى النِّسَاءَ وَحْدَهُنَّ لَا يُصَدَّقُ لَا دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً، وَلَوْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ، فِي رِوَايَةٍ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُصَدَّقُ لَا دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً (قَوْلُهُ وَلَا يُعْتَقُ مُكَاتَبُوهُ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ ثَابِتٍ) يَدًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمُكَاتَبَةِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَاخْتَلَّتْ إضَافَةُ الْمِلْكِ إلَيْهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْوِيَهُمْ بِلَفْظِ كُلُّ مَمْلُوكٍ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لَوْ قَالَ كُلُّ مَرْقُوقٍ لِي حُرٌّ أَنْ يُعْتَقَ الْمُكَاتَبُونَ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِمْ كَامِلٌ، وَلَا تُعْتَقُ أُمُّ الْوَلَدِ إلَّا بِالنِّيَّةِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِنِسْوَةٍ لَهُ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقَدْ أَدْخَلَهَا بَيْنَ الْأَوَّلِيَّيْنِ ثُمَّ عَطَفَ الثَّالِثَةَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ) مِنْهُمَا وَالْعَطْفُ يُشْرَكُ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَحُكْمُهُ هُنَا الطَّلَاقُ الْمُنْجَزُ وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي التَّعْيِينِ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَهَذِهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا عَتَقَ الْأَخِيرُ، وَيُتَخَيَّرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا) وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ كَانَ نِصْفُ الْأَلْفِ لِلثَّالِثِ وَعَلَيْهِ بَيَانُ مَنْ لَهُ النِّصْفُ الْآخَرُ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ.

وَقَدْ يُقَالُ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ كَمَا يَصِحُّ عَلَى الْأَحَدِ الْمَفْهُومِ مِنْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ يَصِحُّ عَلَى هَذِهِ الثَّانِيَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ فِي الثَّالِثَةِ لِأَنَّ التَّرْدِيدَ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْأُولَى فَقَطْ وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مَعًا فَيَلْزَمُهُ الْبَيَانُ لِذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

‌(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالضَّرْبِ)

وَلَمَّا كَانَتْ الْأَيْمَانُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَمَا بَعْدَهَا قَدَّمَهَا عَلَيْهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ بَابٍ عَقَدَهُ فَوُقُوعُهُ أَقَلُّ مِمَّا قَبْلَهُ وَأَكْثَرُ مِمَّا بَعْدَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الْمُبَاشِرِ وَيَسْتَغْنِي الْوَكِيلُ فِيهِ عَنْ نِسْبَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ لِوُجُودِهِ مِنْ الْمَأْمُورِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ كَالْحَلِفِ وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي وَلَا يُؤَجِّرُ وَلَا يَسْتَأْجِرُ وَلَا يُصَالِحُ عَنْ مَالٍ وَلَا يُقَاسِمُ، وَكَذَا الْفِعْلُ الَّذِي يُسْتَنَابُ فِيهِ وَيَحْتَاجُ الْوَكِيلُ إلَى النِّسْبَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُخَاصِمُ فُلَانًا فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَقُولُ أَدَّعِي لِمُوَكِّلِي، وَكَذَا الْفِعْلُ الَّذِي يَقْتَصِرُ أَصْلَ الْفَائِدَةِ فِيهِ عَلَى مَحَلِّهِ كَضَرْبِ الْوَلَدِ فَلَا يَحْنَثُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الْمُبَاشِرِ بَلْ هُوَ فِيهِ سَفِيرٌ وَنَاقِلُ عِبَارَةٍ يَحْنَثُ فِيهِ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ كَمَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَوَكَّلَ بِهِ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يُعْتِقُ بِمَالٍ أَوْ بِلَا مَالٍ أَوْ لَا يُكَاتِبُ أَوْ لَا يَهَبُ أَوْ لَا يَتَصَدَّقُ أَوْ لَا يُوصِي أَوْ لَا يَسْتَقْرِضُ أَوْ لَا يُصَالِحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ لَا يُودِعُ أَوْ لَا يَقْبَلُ الْوَدِيعَةَ أَوْ لَا يُعِيرُ أَوْ لَا يَسْتَعِيرُ.

وَكَذَا كُلُّ فِعْلٍ تَرْجِعُ مَصْلَحَتُهُ إلَى الْآمِرِ كَحَلِفِهِ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ وَلَا يَذْبَحُ شَاتَه فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَمِنْهُ قَضَاءُ

ص: 173

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يُؤَاجِرُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ لَهُ مِنْ الْعَاقِدِ حَتَّى كَانَتْ الْحُقُوقُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ الشَّرْطُ وَهُوَ الْعَقْدُ مِنْ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا أَوْ يَكُونَ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ لَا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا يَعْتَادُهُ

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يُعْتِقُ فَوَكَّلَ بِذَلِكَ حَنِثَ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذَا سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ وَلِهَذَا لَا يُضِيفُهُ إلَى نَفْسِهِ بَلْ إلَى الْآمِرِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْآمِرِ لَا إلَيْهِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَدِينَ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) وَسَنُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

الدَّيْنِ وَقَبْضُهُ وَالْكِسْوَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى دَابَّتِهِ وَخِيَاطَةُ الثَّوْبِ وَبِنَاءُ الدَّارِ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يُؤَاجِرُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ مِنْ الْعَاقِدِ) لَا مِنْ الْحَالِفِ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَحُكْمًا حَتَّى رَجَعَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ وَكَانَ هُوَ الْمُطَالَبُ بِالتَّسْلِيمِ لِلثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ وَالْمُخَاصِمُ بِالْعَيْبِ وَبِالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ وَالْأُجْرَةِ (وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَاقِدُ) بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ (هُوَ الْحَالِفُ) لَا يَبِيعُ إلَخْ (يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ) لِصِدْقِ أَنَّهُ بَاعَ وَاشْتَرَى وَاسْتَأْجَرَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَظْهَرِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ يَحْنَثُ لِأَنَّ بِالْأَمْرِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ فَأَمَرَ مَنْ حَلَقَهُ لَهُ حَنِثَ.

قُلْنَا: لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَهُوَ الشَّرْطُ لِلْحِنْثِ بَلْ مِنْ الْعَاقِدِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا (وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ) الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ لَا كُلُّ حُكْمٍ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْأَعَمِّ، بِخِلَافِ الْحَلْقِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ فِيهِ عَلَى حَلْقِهِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ عَلَى الْحَلْقِ مُطْلَقًا فَيَحْنَثُ بِفِعْلِ الْغَيْرِ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَفْعَلُهُ.

وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَحْنَثْ: يَعْنِي فَإِذَا نَوَى الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ يَحْنَثُ بِبَيْعِ الْوَكِيلِ (أَوْ يَكُونَ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ لَا يَتَوَلَّى الْعُقُودَ بِنَفْسِهِ) فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْفِعْلِ لَيْسَ إلَّا الْأَمْرُ بِهِ فَيُوجَدُ سَبَبُ الْحِنْثِ بِوُجُودِ الْأَمْرِ بِهِ لِلْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ رُبَّمَا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ عَقْدَ بَيْعِ الْمَبِيعَاتِ، ثُمَّ لَوْ فَعَلَ الْآمِرُ بِنَفْسِهِ يَحْنَثُ أَيْضًا لِانْعِقَادِهِ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ مَأْمُورِهِ، وَلَوْ كَانَ رَجُلًا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ مَرَّةً وَيُوَكِّلُ أُخْرَى تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ، وَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَعْتَادُهُ الْحَالِفُ كَائِنًا مَنْ كَانَ كَحَلِفِهِ لَا يَبْنِي وَلَا يُطَيِّنُ الْعَقْدُ كَذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يَعْتِقُ فَوَكَّلَ بِذَلِكَ حَنِثَ) يَعْنِي إذَا فَعَلَهُ الْوَكِيلُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَوَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِهِمْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِنَّمَا نِسْبَتُهُ إلَى الْآمِرِ مَجَازٌ، ثُمَّ إنَّهُ يَحْنَثُ عِنْدَكُمْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ كَمَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَأَنْتُمْ تَأْبُونَهُ. قُلْنَا: لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ إضَافَتَهُ إلَى نَفْسِهِ بَلْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَتِهِ إلَى مُوَكِّلِهِ كَانَ نَاقِلًا عِبَارَةً لِلْمُوَكِّلِ فَانْضَافَ الْعَقْدُ كُلُّهُ لَفْظًا وَحُكْمًا إلَيْهِ فَيَحْنَثُ بِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ شَعْرٍ أَوْ حِكْمَةٍ هَذَا لَيْسَ كَلَامُ هَذَا الرَّجُلِ بَلْ كَلَامُ فُلَانٍ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَدَمَ لُزُومِ أَحْكَامِ هَذَا الْعُقُودِ نَظَرًا إلَى الْفَرْضِ وَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا يَلْزَمُ بِمُبَاشَرَتِهِ أَوْ مُبَاشَرَةِ مَأْمُورِهِ وَلَيْسَ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَدِينَ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَدِينُ، وَلَوْ خَلَعَهَا أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ حَنِثَ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ حَتَّى

ص: 174

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أَوْ لَا يَذْبَحُ شَاتَه فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ وَذَبْحِ شَاتِه فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ فَيَجْعَلُ هُوَ مُبَاشِرًا إذْ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِي دِينَ فِي الْقَضَاءِ) بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ إلَّا تَكَلُّمًا بِكَلَامٍ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلُ التَّكَلُّمِ بِهِ وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ فَقَدْ نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعَامِّ فَيَدِينُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، أَمَّا الذَّبْحُ وَالضَّرْبُ فَفِعْلٌ حِسِّيٌّ يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ، وَالنِّسْبَةُ إلَى الْآمِرِ بِالتَّسْبِيبِ مَجَازٌ، فَإِذَا نَوَى الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً

بَانَتْ حَنِثَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَعِنْدَ مُضِيِّهَا يَقَعُ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا وَقَعَ حُكْمًا دَفْعًا لِضَرَرِهَا فَلَا يَكُونُ شَرْطُ الْحِنْثِ مَوْجُودًا.

وَلَوْ كَانَ عِنِّينًا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْمُدَّةِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ زُفَرَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَلَوْ زَوَّجَهُ فُضُولِيٌّ فَأَجَازَ بِالْقَوْلِ حَنِثَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَحْنَثُ. وَفِي الْإِجَازَةِ بِالْفِعْلِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُجِيزِ بِالْفِعْلِ عَاقِدًا لَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ التَّوْكِيلِ بَعْدَ الْيَمِينِ أَوْ قَبْلَهُ. وَلَوْ وَكَّلَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقَ ثُمَّ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ وَلَا يَعْتِقُ ثُمَّ طَلَّقَ الْوَكِيلُ أَوْ أَعْتَقَ يَحْنَثُ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْوَكِيلِ هُنَا مَنْقُولَةٌ إلَيْهِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أَوْ لَا يَذْبَحُ شَاتَه فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ حَنِثَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ وَذَبْحِ شَاتِه فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ) فَلِمِلْكِهِ إيَّاهُ انْتَقَلَ فِعْلُ الضَّرْبِ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْأَمْرِ بِهِ (ثُمَّ مَنْفَعَتُهُ رَاجِعَةٌ إلَى الْآمِرِ) عَلَى الْخُصُوصِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مِنْ أَدَبِهِ وَانْزِجَارِهِ فَيُجْعَلُ مُبَاشِرًا إذْ لَا حُقُوقَ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ وَفَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي ضَرْبِ عَبْدِهِ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ حُرًّا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْأَمْرِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ سُلْطَانًا أَوْ قَاضِيًا لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ ضَرْبَ الْأَحْرَارِ حَدًّا وَتَعْزِيرًا فَمَلَكَا الْأَمْرَ بِهِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِي دِينَ فِي الْقَضَاءِ)، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ إلَّا تَكَلُّمًا بِكَلَامٍ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ أَثَرًا شَرْعِيًّا فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْفُرْقَةُ (وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلُ التَّكَلُّمِ بِهِ) لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ كَالرَّسُولِ بِهِ وَلِسَانُ الرَّسُولِ كَلِسَانِ الْمُرْسِلِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ خَاصَّةً فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ دَاخِلٍ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمُرْسِلِ مَعَ فَرْضِ أَنَّ مُقْتَضَيَاتِهِ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ وَهِيَ الْحُقُوقُ، وَحَقِيقَةُ الْمُرَادِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَمَا مَعَهُ لَمَّا كَانَ لَفْظًا يَثْبُتُ عِنْدَهُ أَثَرٌ شَرْعِيٌّ فَالْحَلِفُ عَلَى تَرْكِهِ حَلِفٌ عَلَى أَنْ لَا تُوجَدَ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِمُبَاشَرَتِهِ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ فَنِيَّةُ أَحَدِهِمَا خِلَافُ الظَّاهِرِ (أَمَّا الذَّبْحُ وَالضَّرْبُ فَفِعْلٌ حِسِّيٌّ) لَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ أَثَرِهِ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَثْبُتُ مَعَ أَثَرِهِ مِنْ الْفَاعِلِ بِلَا إذْنٍ مِنْهُ، فَنِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْآمِرِ مَجَازِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَسَبُّبِهِ فِيهِ، فَإِذَا نَوَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمَجْعُولِ أَسْبَابًا شَرْعِيَّةً لِآثَارٍ شَرْعِيَّةٍ لَا تَثْبُتُ تِلْكَ الْآثَارُ إلَّا بِإِذْنٍ عَنْ وِلَايَةٍ، فَلَمَّا كَانَ لِلْإِذْنِ فِيهَا أَثَرٌ نَقَلَهَا إلَى الْحَالِفِ، قَالُوا: وَثُبُوتُ تَصْدِيقِهِ قَضَاءٌ فِي ضَرْبِ الْعَبْدِ رِوَايَةٌ فِي تَصْدِيقِهِ بِ قَضَاءٌ فِي الطَّلَاقِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ الْمُبَاشَرَةُ فِيهِمَا فَيُصَدَّقُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ

ص: 175

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَضَرَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ) فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ فَلَمْ يَنْسِبْ فَعَلَهُ إلَى الْآمِرِ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِضَرْبِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ عَائِدَةٌ إلَى الْآمِرِ فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَدَسَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ فِي ثِيَابِ الْحَالِفِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْبَيْعِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ بِأَمْرِهِ إذْ الْبَيْعُ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَمْ تُوجَدْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ بِعْت ثَوْبًا لَك حَيْثُ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مَمْلُوكًا لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فَيَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَنَظِيرُهُ الصِّيَاغَةُ وَالْخِيَاطَةُ وَكُلُّ مَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَضَرْبِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِيهِ فِي الْوَجْهَيْنِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ وَلَكِنَّ تَأْثِيرَهُ فِي اخْتِلَافِ الْحُكْمِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ يَتَحَقَّقُ أَثَرُهُ بِلَا إذْنٍ وَالْقَوْلُ لَا يَتَحَقَّقُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ إلَّا بِإِذْنٍ لَا يَجْزِمُ عِنْدَهُ بِلُزُومِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَضَرَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَى الْوَلَدِ) الْمَضْرُوبِ (وَهِيَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ) أَيْ التَّقَوُّمُ وَتَرْكُ الِاعْوِجَاجِ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ وَالْأَخْلَاقُ (فَلَمْ يُنْسَبْ فِعْلُ الْمَأْمُورِ إلَى الْآمِرِ) وَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ إلَى الْأَبِ أَيْضًا، لَكِنَّ أَصْلَ الْمَنَافِعِ وَحَقِيقَتَهَا إنَّمَا تَرْجِعُ إلَى الْمُتَّصِفِ بِهَا فَلَا مُوجِبَ لِلنَّقْلِ.

وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا وَعُرْفِ عَامَّتِنَا فَإِنَّهُ يُقَالُ ضَرَبَ فُلَانٌ الْيَوْمَ وَلَدَهُ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ، وَيَقُولُ الْعَامِّيُّ لِوَلَدِهِ غَدًا أَسْقِيَك عَلَقَةً ثُمَّ يَذْكُرُ لِمُؤَدِّبِ الْوَلَدِ أَنْ يَضْرِبَهُ فَيَعُدُّ الْأَبَ نَفْسَهُ قَدْ حَقَّقَ إيعَادَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكْذِبْ، فَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى مَعْنَى لَا يَقَعُ بِك ضَرْبٌ مِنْ جِهَتِي وَيَحْنَثُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ إلَخْ) لَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ وَبِعْت هَذَا الثَّوْبَ لَك بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَمَّا عَلَى جَعْلِ الْمُخَاطَبِ مُشْتَرِيًا لَهُ فِيهِمَا فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَأَمَّا عَلَى

ص: 176

(وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْمِلْكُ فِيهِ قَائِمٌ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ

جَعْلِهَا فِيهِمَا لِلتَّعْلِيلِ: أَيْ بِعْته لِأَجَلِك فَهِيَ أَيْضًا تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ عَلَى مَا ذَكَرُوا، لَكِنَّ الْوَجْهَ الظَّاهِرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ إذَا وَلِيَتْ اللَّامُ الْفِعْلَ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَفْعُولِ نَحْوُ بِعْت لَك هَذَا كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ.

وَوَجْهُ إفَادَتِهَا الِاخْتِصَاصُ هُوَ أَنَّهَا تَضْعِيفٌ مُتَعَلِّقُهَا لِمَدْخُولِهَا وَمُتَعَلِّقُهَا الْفِعْلُ وَمَدْخُولُهَا كَافُّ الْمُخَاطَبِ، فَتُفِيدُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ مُخْتَصٌّ بِالْفِعْلِ، وَكَوْنُهُ مُخْتَصًّا بِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ إطْلَاقُ فِعْلِهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَمْرِهِ، وَإِذَا بَاعَ بِأَمْرِهِ كَانَ بَيْعُهُ إيَّاهُ مِنْ أَجْلِهِ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ فَصَارَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَإِذَا دَسَّ الْمُخَاطَبُ ثَوْبَهُ بِلَا عِلْمِهِ فَبَاعَهُ لَمْ يَكُنْ بَاعَهُ مِنْ أَجْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِأَمْرِهِ بِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ كَالصِّيَاغَةِ نَحْوُ إنْ صُغْت لَك خَاتَمًا، وَكَذَا إنْ خِطْت لَك وَإِنْ بَنَيْت لَك بَيْتًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ بِعْت ثَوْبًا لَك حَيْثُ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مَمْلُوكًا لِلْمُخَاطَبِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يُوجَدُ مَعَ أَمْرِهِ وَعَدَمِ أَمْرِهِ وَهُوَ بَيْعُ ثَوْبٍ مُخْتَصٍّ بِالْمُخَاطَبِ لِأَنَّ اللَّامَ هُنَا أَقْرَبُ إلَى الِاسْمِ الَّذِي هُوَ الثَّوْبُ مِنْهُ لِلْفِعْلِ، وَالْقُرْبُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَيُوجِبُ إضَافَتُهَا الثَّوْبَ إلَى مَدْخُولِهَا عَلَى مَا سَبَقَ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وَلِيَتْ فِعْلًا لَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَضَرْبِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، فَلَوْ قَالَ إنْ أَكَلْت لَك طَعَامًا أَوْ طَعَامًا لَك أَوْ شَرِبْت لَك شَرَابًا أَوْ شَرَابًا لَك أَوْ ضَرَبْت لَك غُلَامًا أَوْ غُلَامًا لَك أَوْ دَخَلْت لَك دَارًا أَوْ دَارًا لَك فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِدُخُولِ دَارٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُخَاطَبُ: أَيْ تُنْسَبُ إلَيْهِ وَأَكْلِ طَعَامٍ يَمْلِكُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ أَوْ دُونَهُمَا.

ثُمَّ ذَكَرَ ظَهِيرُ الدِّينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغُلَامِ الْوَلَدُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْعَبْدِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَالْوَكَالَةَ فَكَانَ كَالْإِجَارَةِ، قَالَ تَعَالَى {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وَقَالَ قَاضِي خَانْ الْمُرَادُ بِهِ الْعَبْدُ لِلْعُرْفِ، وَلِأَنَّ الضَّرْبَ مِمَّا لَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَلَا يَلْزَمُ وَمَحَلُّ الضَّرْبِ يُمْلَكُ بِهِ فَانْصَرَفَ اللَّامُ إلَى مَا يُمْلَكُ لَا إلَى مَا لَا يُمْلَكُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَ) الْفَرْضُ أَنَّ (الْمِلْكَ فِيهِ قَائِمٌ) لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ لَا يُوجِبُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ (فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ)

ص: 177

(وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ) أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ بِتَعْلِيقِهِ وَالْمُعَلَّقُ كَالْمُنْجَزِ، وَلَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ سَابِقًا عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا

لِوُجُودِ الْمَحَلِّ وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ غَصَبَهُ لَا يَعْتَقُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْبَاتِّ لِأَنَّهُ كَمَا تَمَّ الْبَيْعُ يَزُولُ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ قِيلَ وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ مَعَ الْعِلَّةِ فِي الْخَارِجِ وَعَقِيبَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ كَمَا هُوَ عِلَّةٌ لِلْمِلْكِ هُوَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ لِذَلِكَ الْعَبْدِ فَكَانَ الْمَعْلُولُ وَهُوَ الْمِلْكُ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْ الْمَشْرُوطِ الَّذِي هُوَ الْعِتْقُ حَيْثُ وُجِدَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وُجُودِ الْعِتْقِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ إنَّمَا قَارَنَ الْإِعْتَاقَ زَوَالُ الْمِلْكِ فَلَمْ يَنْزِلْ الْعِتْقُ لِأَنَّهُ بَعْدَهُ فَلَمْ يُصَادِفْ الْمِلْكَ وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا لَلْمُصَنِّفِ فَتَذَّكَّرْهُ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ عَقِيبُ الْعِلَّةِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْمُصَنِّفِ، فَعُرِفَ بِهَذَا وَجْهُ تَقْيِيدِهِ الْمَسْأَلَةَ بِكَوْنِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَبَاعَهُ بَيْعًا بَاتًّا لَا يَعْتِقُ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ) يَعْنِي لِلْمُشْتَرِي (يُعْتَقُ أَيْضًا) أَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا بَاتًّا فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَضْمُونًا بِأَنْ كَانَ غَصَبَهُ عَتَقَ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَقًا مِلْكَ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ شِرَاءً صَحِيحًا بَاتًّا عَتَقَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ الْوَاقِعَ فِي هَذَا الْعَبْدِ بِسَبَبِ تَعْلِيقِ هَذَا الْمُشْتَرِي وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَهُ، وَهُوَ لَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَأَعْتَقَهُ قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ يُعْتَقُ وَثَبَتَ الْمِلْكُ سَابِقًا لَهُ شَرْطًا اقْتِضَائِيًّا فَكَذَا هَذَا.

وَأَوْرَدَ طَلَبَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْبَيْعِ وَبَيْنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَا يَقَعُ بِهِ الْعِتْقُ فِيمَا إذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَزَوَّجَ نِكَاحًا فَاسِدًا مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْعَ

ص: 178

(وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ عَدَمُ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ

(وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا تَزَوَّجْت عَلَيَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ ثَلَاثًا طَلُقَتْ هَذِهِ الَّتِي حَلَّفَتْهُ فِي الْقَضَاءِ)

وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْقِبْ الْمِلْكَ فَهُوَ بَيْعٌ تَامٌّ عَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَحَلِّهِ فَكَانَ وُجُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ كَانَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ إذْ الْحُرِّيَّةُ تَنْفِي وُرُودَ الْمِلْكِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمِلْكُ فَاسِدًا فَلَا يُحْكَمُ بِهَذَا الشَّرْطِ إلَّا إذَا صَحَّ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا وُرُودَ لِهَذَا السُّؤَالِ فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَإِنْ كَانَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَعْقُبُ الْمِلْكَ لَهُ بِسَبَبٍ خَاصٍّ فِيهِ وَهُوَ تَعْلِيقُهُ السَّابِقُ عِتْقَ مَنْ يَشْتَرِيه فَإِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُنْزِلَ الْعِتْقَ عِنْدَ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ الشَّرْطُ وَيَسْتَلْزِمُ سَبْقَ الْمِلْكِ اقْتِضَاءً وَمِثْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي النِّكَاحِ. وَأَوْرَدَ مَنْعَ كَوْنِ الْمُعَلَّقِ كَالْمُنْجَزِ لِأَنَّ الْمُنْجَزَ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْخِيَارِ وَالْحُكْمِ بِتَقَدُّمِهِ يَلْغُو، وَالْمُعَلَّقُ لَا يَلْزَمُ إلْغَاؤُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَيَنْزِلُ إذْ ذَاكَ وَلَا يَلْغُو.

وَأُجِيبَ لَمَّا أَمْكَنَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ مَا يَجْرِي فِي الْمُنْجَزِ وَالْعِتْقُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ إذْ ذَاكَ وَإِلَّا جَازَ أَنْ يُفْسَخَ قَبْلَ الْمُدَّةِ فَلَا يُعْتَقُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ تَمْضِيَ الْمُدَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَكَلُّمٌ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ حَتَّى يَسْقُطَ خِيَارُهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الْقَرِيبِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، وَالشَّارِعُ إنَّمَا عَلَّقَ عِتْقَهُ فِي قَوْلِهِ " مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ " بِالْمِلْكِ لَا بِالشِّرَاءِ، أَمَّا هُنَا فَالْإِيجَابُ الْمُعَلَّقُ صَارَ مُنْجَزًا عِنْدَ الشَّرْطِ وَصَارَ قَائِلًا أَنْتَ حُرٌّ فَيَنْفَسِخُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ) تَدْبِيرًا مُطْلَقًا (طَلُقَتْ لِأَنَّ الشَّرْطَ) وَهُوَ عَدَمُ بَيْعِهِ (قَدْ تَحَقَّقَ) بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ بِالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِعَدَمِهِ بِلَفْظِ إنْ فَمَاتَ أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَنْعَ وُقُوعِ الْيَأْسِ فِي الْعِتْقِ مُطْلَقًا بَلْ فِي الْعَبْدِ، أَمَّا فِي الْأَمَةِ فَجَازَ أَنْ تَرْتَدَّ بَعْدَ الْعِتْقِ فَتُسْبَى فَيَمْلِكُهَا هَذَا الْحَالِفُ فَيُعْتِقُهَا. وَفِي التَّدْبِيرِ مُطْلَقًا لِجَوَازِ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِبَيْعِ الْمُدَبَّرِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ لَا تَطْلُقُ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَطْلُقُ لِأَنَّ مَا فُرِضَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْهُومَةِ الْوُقُوعُ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَلِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى بَيْعِ هَذَا الْمِلْكِ لَا كُلِّ مِلْكٍ. وَأُجِيبَ أَيْضًا عَنْ الْمُدَبَّرِ بِأَنَّ بَيْعَهُ بَيْعُ قِنٍّ لِانْفِسَاخِ التَّدْبِيرِ بِالْقَضَاءِ فَيُعْتَقُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْلِمًا، وَيَجْرِي فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ وَالتَّصْحِيحُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا تَزَوَّجْت عَلِيَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ ثَلَاثًا طَلُقَتْ هَذِهِ الَّتِي حَلَّفَتْهُ فِي الْقَضَاءِ) وَإِنْ قَالَ نَوَيْت

ص: 179

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ جَوَابًا فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ غَرَضَهُ إرْضَاؤُهَا وَهُوَ بِطَلَاقِ غَيْرِهَا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ عُمُومُ الْكَلَامِ وَقَدْ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدِئًا، وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ إيحَاشُهَا حِينَ اعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ فِيمَا أَحَلَّهُ الشَّرْعُ وَمَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ.

غَيْرَهَا صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَطْلُقُ فِي الْقَضَاءِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا.

وَذَكَرُوا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ، وَاخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ جَوَابًا فَيَنْطَبِقُ عَلَى السُّؤَالِ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي غَيْرُك طَالِقٌ دَلَالَةً (وَلِأَنَّ غَرَضَهُ إرْضَاؤُهَا) لَا إيحَاشُهَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَلَا مُخَصَّصٌ مُتَيَقَّنٌ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فَهُوَ غَرَضُ إرْضَائِهَا. وَجَازَ كَوْنُ غَرَضِهِ إيحَاشُهَا لِاعْتِرَاضِهَا عَلَيْهِ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، فَالْحُكْمُ بِمُعَيَّنٍ تَحَكُّمٌ، وَلِأَنَّهُ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ إذْ يَكْفِيه أَنْ يَقُولَ إنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ فَهِيَ طَالِقٌ فَلَمَّا لَمْ يَقْتَصِرْ جُعِلَ مُبْتَدِئًا تَحَرُّزًا عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فُرُوعٌ]

قَالَ: لِي إلَيْك حَاجَةٌ أَتَقْضِيهَا لِي؟ فَقَالَ نَعَمْ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ تُطَلِّقَ زَوْجَتَك ثَلَاثًا، لَهُ أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ. وَلَوْ حَلَفَ لَيُطِيعَنهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَيَنْهَاهُ عَنْهُ ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ جِمَاعِ امْرَأَتِهِ فَجَامَعَهَا الْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا كَانَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَحْلِيفِهِ عَلَى الطَّاعَةِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُرِيدُونَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ جِمَاعِ الْمَرْأَةِ عَادَةً كَمَا لَا يُرِيدُونَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.

حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَكُلُّ طَلَاقٍ يُضَافُ إلَيْهِ يَحْنَثُ بِهِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا طَلَاقٌ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ يَحْنَثُ لَا بِمَا لَا يُضَافُ إلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي لِلَّعْنَةِ وَاللِّعَانِ وَلَا بِإِجَازَةِ خُلْعِ الْفُضُولِيِّ بِالْفِعْلِ، وَيَحْنَثُ لَوْ أَجَازَهُ بِالْقَوْلِ. قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ الْيَوْمَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ دَخَلَهَا الْيَوْمَ فَقَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ كَانَا رَأَيَانِي دَخَلْت لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ بِقَوْلِهِمَا رَأَيْنَاهُ دَخَلَ حَتَّى يَشْهَدَ آخَرَانِ غَيْرَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ رَأَيَاهُ دَخَلَ. ادَّعَتْ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَحَلَفَ بِطَلَاقِ زَوْجَةٍ أُخْرَى لَهُ مَا هِيَ امْرَأَتُهُ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَقَالَ كَانَتْ امْرَأَتِي فَطَلَّقْتهَا قَالَ لَا يَحْنَثُ. حَلَفَ مَا لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَشَهِدَا أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا وَقَضَى بِهَا الْقَاضِي يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَلِفُ بِطَلَاقٍ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمَا.

حَلَفَ بِطَلَاقٍ وَلَا يَدْرِي حَلَفَ بِوَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَتَحَرَّى وَيَعْمَلُ بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ لِلتَّحَرِّي، فَإِنْ اسْتَوَى ظَنُّهُ يَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا. قَالَ: عَمْرَةُ طَالِقٌ السَّاعَةَ أَوْ زَيْنَبُ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُمَا حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ، فَإِذَا دَخَلَتْ إحْدَاهُمَا خُيِّرَ فِي إيقَاعِهِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. وَلَوْ اتَّهَمَتْ امْرَأَةٌ بِالسَّرِقَةِ فَأَمَرَتْ زَوْجَهَا أَنْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِهَا أَنَّهَا لَمْ تَسْرِقْ فَحَلَفَ فَقَالَتْ قَدْ كُنْت سَرَقْت فَلِلزَّوْجِ أَنْ

ص: 180

‌بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ

(وَمَنْ قَالَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ وَلَا مَقْصُودَةٍ فِي الْأَصْلِ، مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ زِيَارَةُ

لَا يُصَدِّقَهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ مُتَنَاقِضَةٌ. حَلَفَ إنْ لَمْ يُجَامِعْ امْرَأَتَهُ أَلْفَ مَرَّةٍ فَهِيَ طَالِقٌ، قَالُوا هَذَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ وَالسَّبْعُونَ كَثِيرٌ.

حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ ابْنَ فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ ابْنٌ فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ فَكَلَّمَهُ يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَلَدِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ) قَدَّمَهَا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ فَتَتَرَجَّحُ فِي نَفْسِهَا، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ إنْ تَقَدَّمَ، إلَّا أَنْ يَعْرِضَ مَا يُوجِبُ تَقْدِيمَ غَيْرِهَا مِنْ كَثْرَةِ الْوُقُوعِ الْمُقْتَضِيَةِ لِأَهَمِّيَّةِ التَّقْدِيمِ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ وَهُوَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ) وَكَذَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ بَكَّةَ بِالْبَاءِ (فَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا)

ص: 181

الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَنَاسِكِ (وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ أَوْ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْتِزَامَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ (وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ) وَلَوْ قَالَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ. لَهُمَا أَنَّ الْحَرَمَ شَامِلٌ عَلَى الْبَيْتِ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَذِكْرِهِ، بِخِلَافِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ. وَلَهُ أَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا

وَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِهِ فِي الْكَعْبَةِ مَذْكُورٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِيُفِيدَ أَنَّ وُجُوبَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَإِلَّا لَغَا لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الْمَشْيَ إلَّا لِيَصِلَ إلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ اسْتَحَالَ التَّسَبُّبُ لِحُصُولِهِ. وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ مَدْلُولَ الْمَشْيِ لَيْسَ هُوَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، بَلْ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ لِجَوَازِ أَنْ

ص: 182

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ وَلَا يَفْعَلَ نُسُكًا، إمَّا ابْتِدَاءُ مَعْصِيَةٍ وَإِمَّا بِأَنْ يَقْصِدَ مَكَانًا فِي الْحِلِّ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ غَيْرُ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِهِ، وَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالْبَيْتَ بِلَا إحْرَامٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ وَيُوجِبُ الْمَشْيَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى فَيَلْزَمُهُ إذَا خَرَجَ أَنْ يَعُودَ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ، وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذَا الْبَيْتَ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ ثُمَّ يَدْخُلَ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُ الْإِحْرَامِ صَوْنًا لَهُ عَنْ اللَّغْوِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَقْصِدَ بِسَيْرِهِ مَكَانًا دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ غَيْرُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا بِالنَّظَرِ إلَى الْغَالِبِ وَهُوَ أَنَّ الذَّهَابَ إلَى هُنَاكَ يَكُونُ لِقَصْدِ الْإِحْرَامِ لِمَا عُرِفَ مِنْ إلْغَاءِ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ مَا إذَا نَذَرَ الذَّهَابَ إلَى مَكَّةَ كَأَنْ قَالَ: عَلَيَّ الذَّهَابُ أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى مَكَّةَ أَوْ السَّفَرُ إلَيْهَا أَوْ الرُّكُوبُ إلَيْهَا أَوْ الْمَسِيرُ أَوْ الْمُضِيُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ فِيهَا صَوْنًا عَنْ اللَّغْوِ، بَلْ لِأَنَّهُ تُعُورِفَ إيجَابُ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ بِهِ فَصَارَ فِيهِ مَجَازًا لُغَوِيًّا وَحَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، مِثْلُ مَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنْ لَا يَجِبَ بِهَذَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ وَهُوَ الْمَشْيُ وَلَا مَقْصُودَةٍ فِي الْأَصْلِ. وَلَوْ قِيلَ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فَإِنَّ الْمَكِّيَّ إذَا قَدِرَ عَلَى الْمَشْيِ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ مَاشِيًا، أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ لِلُزُومِ النَّذْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ بَعْدَ كَوْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ النَّذْرُ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالْمَشْيِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ كَذَلِكَ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ مَرْكَبًا وَيَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ الطَّوَافَ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ لَا شَرْطَ لِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ جِنْسِ الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ. وَأُورِدَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمَ وَمِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ إيجَابَ الْمَشْرُوطِ إيجَابُ الشَّرْطِ، وَلَا خَفَاءَ فِي بُعْدِهِ فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ فَرْعُ وُجُوبِ الِاعْتِكَافِ بِالنَّذْرِ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي صِحَّةِ وُجُوبِ الْمَتْبُوعِ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَى لُزُومِهِ بِلُزُومِهِ وَلُزُومُ الشَّرْطِ فَرْعُ لُزُومِ الْمَشْرُوطِ، وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه الِاعْتِكَافُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلْ يَصْرِفُونَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُمْ وَالشَّافِعِيَّ لَا يُصَحِّحُونَ نَذْرَ الْكَافِرِ. ثُمَّ قَدْ يُقَالُ تَحَقُّقُ الْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِ الِاعْتِكَافِ بِالنَّذْرِ يُوجِبُ إهْدَارَ اشْتِرَاطِ وُجُودِ وَاجِبٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِذَا تَعَارَفُوهُ لِلْإِيجَابِ صَارَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِذَلِكَ، وَلَوْ أَرَادَ بِبَيْتِ اللَّهِ بَعْضَ الْمَسَاجِدِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ. وَأُورِدَ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَشْيُ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْحَجُّ لَا يَلْزَمُهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى حِجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مَاشِيًا لِأَنَّ الْمَشْيَ لَمْ يُهْدَرْ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا، فَإِنَّهُ رُوِيَ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَسَنَدُهُ حُجَّةٌ، وَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ «لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ» فَمَحْمُولٌ إمَّا عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ الْمَرْوِيِّ، وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ: يَعْنِي أَنَّ مَحَلَّ الْإِشْكَالِ جَوَازُ رُكُوبِهَا وَلَوْ أَهْدَتْ؛ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّوْمَ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ وَيَتَصَدَّقَ، بَلْ لَوْ فَرَّقَ لَزِمَ اسْتِئْنَافُهُ فَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى ذَلِكَ لِيُفِيدَ دَفْعَ ذَلِكَ، وَعُرِفَ لُزُومُ الْفِدْيَةِ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ «وَإِنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ» ثُمَّ يُعْرَفُ لُزُومُ الْفِدْيَةِ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَقِيَّتَهُ هُنَاكَ ذَيْلًا طَوِيلًا وَفُرُوعًا جَمَّةً، وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ بَيْتِهِ

ص: 183

(وَمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ، وَقَالَ: حَجَجْتُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ ضَحَّى الْعَامَ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

لَا مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ فِيهِ مِنْ الْمِيقَاتِ: يَعْنِي فَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْهُ أَوْ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ فِيهِ مِنْ الْمِيقَاتِ، أَمَّا لَوْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ لَزِمَهُ الْمَشْيُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أُخْتِ عُقْبَةَ قَالَ «وَلْتُهْدِ بَدَنَةً» لَكِنَّهُمْ عَمِلُوا بِإِطْلَاقِ الْهَدْيِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ «عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ، وَقَالَ: إنَّ مِنْ الْمُثْلَةِ أَنْ يَنْذِرَ الرَّجُلُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا، فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَلْيُهْدِ هَدْيًا وَلْيَرْكَبْ» وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، لَكِنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا كَانَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ وَاجِبٌ فَتَجِبُ الْبَدَنَةُ، ثُمَّ الْمُصَنِّفُ ذَكَرَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَلِيٍّ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ عَلَى الْمَشْيِ قَالَ: يَمْشِي، فَإِنْ عَجَزَ رَكِبَ وَأَهْدَى بَدَنَةً. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ قَالَ: يَمْشِي، فَإِذَا أَعْيَا رَكِبَ وَأَهْدَى جَزُورًا. وَأُخْرِجَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ. وَأَمَّا وُرُودُ الْبَدَنَةِ فِي خُصُوصِ حَدِيثِ أُخْتِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَأَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عز وجل غَنِيٌّ عَنْ نَذْرِ أُخْتِكَ، لِتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً» وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّاذِرُ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَحَدَ الَّذِي لَزِمَهُ حَجًّا فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ وَيَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ مَاشِيًا إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ كَغَيْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ إسْقَاطَهُ بِعُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ فَيُحْرِمَ مِنْهُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَشْيُ فِي ذَهَابِهِ إلَى الْحِلِّ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْهُ مُحْرِمًا. وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَجِّ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ بَلْدَتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مُحْرِمًا مِنْهَا بَلْ هُوَ ذَاهِبٌ إلَى مَحِلِّ الْإِحْرَامِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ: أَعْنِي الْمَوَاقِيتَ فِي الْأَصَحِّ لِمَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ أَنَّ بَغْدَادِيًّا قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا فَلَقِيَهُ بِالْكُوفَةِ فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ مِنْ بَغْدَادَ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ السَّفَرُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَعَ إخْوَانِهِ، وَمِثْلُهُ الشَّدُّ وَالْهَرْوَلَةُ وَالسَّعْيُ إلَى مَكَّةَ، وَكَذَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ أَوْ مِيزَابِهَا أَوْ أُسْطُوَانَةِ الْبَيْتِ أَوْ الصَّفَا أَوْ الْمَرْوَةِ إلَى عَرَفَاتٍ وَمُزْدَلِفَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: يَلْزَمُهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ. وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ تُعُورِفَ بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إيجَابُ النُّسُكِ بِهِمَا فَقَالَا بِهِ كَمَا تُعُورِفَ بِالْمَشْيِ إلَى الْكَعْبَةِ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَإِلَّا فَالْوَجْهُ الَّذِي ذُكِرَ لَهُمَا مُتَضَائِلٌ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَمَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْكَعْبَةِ فَذِكْرُ الْمُشْتَمِلِ ذِكْرٌ لِلْمَشْمُولِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ، وَلَوْ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْكَعْبَةِ لَزِمَهُ، فَكَذَا ذِكْرُ الْمُشْتَمِلِ لِأَنَّ إيجَابَ اللَّفْظِ لِتَعَارُفِ عَيْنِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ عَيْنُ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ عَيْنِهِ وَهُوَ وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ فَقَالَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ: حَجَجْتُ وَأَقَامَ الْعَبْدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ ضَحَّى الْعَامَ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ)

ص: 184

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُعْتَقُ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْحَجِّ فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ. وَلَهُمَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ الْحَجِّ لَا إثْبَاتُ التَّضْحِيَةِ لِأَنَّهُ لَا مَطَالِبَ لَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ. غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ مِمَّا يُحِيطُ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ تَيْسِيرًا

وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمُخْتَلِفِ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُعْتَقُ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ مُشَاهَدٍ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ) وَكَيْفَ لَا يُقْبَلُ (وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْحَجِّ) ذَلِكَ الْعَامَ (فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ) فَيُعْتَقُ (وَلَهُمَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ) مَعْنًى (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ الْحَجِّ لَا إثْبَاتُ التَّضْحِيَةِ) فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى التَّضْحِيَةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ وَهُوَ الْعَبْدُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا يَطْلُبُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يُعَلَّقْ بِهَا، وَمَا لَا مَطَالِبَ لَهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّضْحِيَةِ بَقِيَتْ فِي الْحَاصِلِ عَلَى نَفْيِ الْحَجِّ مَقْصُودًا وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُطْلَقًا بَاطِلَةٌ بَلْ النَّفْيُ إذَا كَانَ مِمَّا يَعْلَمُ وَيُحِيطُ بِهِ الشَّاهِدُ صَحَّتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ النَّصَارَى وَالرَّجُلُ يَقُولُ وَصَلْتُ بِهِ ذَلِكَ قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَبَانَتْ امْرَأَتُهُ لِإِحَاطَةِ عِلْمِ الشَّاهِدِ بِهِ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا نَفْيٌ يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ الشَّاهِدِ لَكِنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ). فِي عَدَمِ الْقَبُولِ، بِأَنْ يُقَالَ: النَّفْيُ إذَا كَانَ كَذَا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَذَا لَا تَصِحُّ (تَيَسُّرًا) وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ فِي تَمْيِيزِ نَفْيٍ مِنْ نَفْيٍ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ السِّيَرِ فَالْقَبُولُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى السُّكُوتِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ وَصَارَ كَشُهُودِ الْإِرْثِ إذَا قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ حَيْثُ يُعْطِي لَهُ كُلَّ التَّرِكَةِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى الْإِرْثِ وَالنَّفْيُ فِي ضِمْنِهِ وَالْإِرْثُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ، فَأَمَّا النَّحْرُ وَإِنْ كَانَ وُجُودِيًّا وَنَفْيُ الْحَجِّ فِي ضِمْنِهِ لَكِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ كَمَا ذُكِرَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ كَعَدَمِهَا فِي حَقِّهِ فَبَقِيَ النَّفْيُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا، وَأَمَّا مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ تُقْبَلُ فِي الشُّرُوطِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا قُبِلَتْ وَيُقْضَى بِعِتْقِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الشُّرُوطِ. فَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهَا قَامَتْ بِأَمْرٍ ثَابِتٍ مُعَايَنٍ وَهُوَ كَوْنُهُ خَارِجًا فَيَثْبُتُ النَّفْيُ ضِمْنًا وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ كَمَا لَا حَقَّ لَهُ فِي التَّضْحِيَةِ إذْ لَمْ تَكُنْ

ص: 185

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ حَنِثَ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ إذْ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا أَوْ صَوْمًا فَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ لَا يَحْنَثُ)

هِيَ شَرْطَ الْعِتْقِ فَلَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ بِهَا، كَذَلِكَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْخُرُوجِ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ الشَّرْطُ بَلْ عَدَمُ الدُّخُولِ كَعَدَمِ الْحَجِّ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا هُوَ وُجُودِيٌّ مُتَضَمِّنٌ لِلْمُدَّعَى بِهِ مِنْ النَّفْيِ الْمَجْعُولِ شَرْطًا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدَّعًى بِهِ لِتَضَمُّنِهِ الْمُدَّعَى بِهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ قَبُولُ شَهَادَةِ التَّضْحِيَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلنَّفْيِ الْمُدَّعَى بِهِ فَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوْجَهُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَأَمْسَكَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ) وَهُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ إذْ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَلَى الْمُفْطِرَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ وَقَدْ وُجِدَ تَمَامُ حَقِيقَتِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى أَدْنَى إمْسَاكٍ فِي وَقْتِهِ تَكْرَارٌ لِلشَّرْطِ، وَلِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ إذَا تَمَّتْ حَقِيقَتُهُ يُسَمَّى فَاعِلًا، وَلِذَا أَنْزِلَ إبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم ذَابِحًا حَيْثُ أَمَرَّ السِّكِّينَ فِي مَحَلِّ الذَّبْحِ فَقِيلَ لَهُ {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالصَّلَاةِ، فَلِذَا قَالَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي أَنَّهُ إذَا قَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ حَنِثَ إذَا قَطَعَ، فَلَوْ قَطَعَ بَعْدَ الرُّكُوعِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ تَمَامُ حَقِيقَتِهَا (قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا أَوْ صَوْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِصَوْمِ سَاعَةٍ) بَلْ بِإِتْمَامِ الْيَوْمِ، أَمَّا فِي " يَوْمًا " فَظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي " صَوْمًا " لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا فَلِذَا قُلْنَا: لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: عَلَيَّ صَلَاةٌ تَجِبُ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا لَا يُقَالُ: الْمَصْدَرُ مَذْكُورٌ بِذِكْرِ الْفِعْلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَلِفِهِ لَا يَصُومُ وَلَا يَصُومُ صَوْمًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ فِي الْأَوَّلِ إلَّا بِيَوْمٍ. لِأَنَّا نَقُولُ: الثَّابِتُ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي غَيْرِ تَحْقِيقِ الْفِعْلِ، بِخِلَافِ الصَّرِيحِ فَإِنَّهُ اخْتِيَارِيٌّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُطْلَقِ فَيُوجِبُ الْكَمَالَ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ: لَأَصُومَنَّ هَذَا الْيَوْمَ وَكَانَ بَعْدَ أَنْ أَكَلَ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ تُصَلِّ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ مِنْ سَاعَتِهَا أَوْ بَعْدَ مَا صَلَّتْ رَكْعَةً صَحَّتْ الْيَمِينُ وَطَلُقَتْ فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّهُ مَقْرُونٌ بِذِكْرِ الْيَوْمِ وَلَا كَمَالَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْيَمِينَ تَعْتَمِدُ التَّصَوُّرَ، وَالصَّوْمُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلُ مُتَصَوَّرٌ كَمَا فِي صُورَةِ النَّاسِي، وَكَذَا الصَّلَاةُ مِنْ الْحَائِضِ لِأَنَّ دُرُورَ الدَّمِ لَا يَمْنَعُ كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَشْرَعْ مَعَ دُرُورٍ هُوَ حَيْضٌ فَفَاتَ شَرْطُ أَدَائِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَاءُ غَيْرُ قَائِمٍ أَصْلًا فَلَا يُتَصَوَّرُ بِوَجْهٍ، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ إنَّمَا تَصْلُحَانِ مُبْتَدَأَتَيْنِ لِأَنَّ كَلَامَنَا كَانَ فِي الْمُطْلَقِ وَهُوَ لَفْظُ " يَوْمًا "، وَلَفْظُ " هَذَا الْيَوْمِ " لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ مُعَرَّفٌ وَالْمُطْلَقَاتُ هِيَ النَّكِرَاتُ وَهِيَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ وَإِلَّا فَزَيْدٌ وَعَمْرٌو مُطْلَقٌ وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ. وَالْمَسْأَلَتَانِ مُشْكِلَتَانِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ التَّصَوُّرَ شَرْعًا مُنْتَفٍ، وَكَوْنُهُ مُمْكِنًا فِي صُورَةٍ أُخْرَى وَهِيَ صُورَةُ النِّسْيَانِ وَالِاسْتِحَاضَةِ لَا يُفِيدُ، فَإِنَّهُ حَيْثُ كَانَ فِي صُورَةِ الْحَلِفِ مُسْتَحِيلًا شَرْعًا لَمْ يُتَصَوَّرْ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ إلَّا عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّيْنِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُمَا تَنْعَقِدَانِ ثُمَّ يَحْنَثُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التُّمُرْتَاشِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَهُوَ عَلَى الْجَائِزِ لِأَنَّهُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْفَاسِدِ إلَّا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِي الْمَاضِي، وَظَاهِرُهُ يُشْكِلُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ

ص: 186

لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا وَذَلِكَ بِإِنْهَائِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ بِهِ

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ سَجَدَ مَعَ ذَلِكَ ثُمَّ قَطَعَ حَنِثَ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِالِافْتِتَاحِ اعْتِبَارًا بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِهَا لَا يُسَمَّى صَلَاةً، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَيَتَكَرَّرُ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي

حَنَّثَهُ بَعْدَ مَا قَالَ ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ لَكِنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ أَصَحُّ لِأَنَّهَا نَصُّ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ ثُمَّ قَطَعَ لَمْ يَحْنَثْ وَالْقِيَاسُ) يَعْنِي عَلَى الصَّوْمِ (أَنْ يَحْنَثَ بِالِافْتِتَاحِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً) يَعْنِي لَمْ يُوجَدْ تَمَامُ حَقِيقَتِهَا وَالْحَقِيقَةُ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ (بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَيَتَكَرَّرُ بِالْجُزْءِ الثَّانِي) وَلِذَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ صَوْمِ سَاعَةٍ مُكَرَّرٌ مِنْ جِنْسِ مَا مَضَى فَصَارَ صَوْمُ سَاعَةٍ كَالصَّلَاةِ رَكْعَةً، يَعْنِي لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا تَمَامُ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَإِنْ سَجَدَ مَعَ ذَلِكَ) يَعْنِي الرُّكُوعَ وَمَا قَبْلَهُ (ثُمَّ قَطَعَ حَنِثَ) وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ: حَلَفَ لَا يُصَلِّي يَقَعُ عَلَى الْجَائِزِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ إلَّا إذَا كَانَ الْيَمِينُ فِي الْمَاضِي: أَيْ حَلَفَ مَا صَلَّيْت وَكَانَ قَدْ صَلَّى فَاسِدَةً لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمَاضِيَةَ يُرَادُ الْخَبَرُ عَنْهَا لَا التَّقَرُّبُ بِهَا وَيَصِحُّ الْخَبَرُ عَنْ الْفَاسِدَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْفَاسِدَةِ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَيَكُونَ مَا فِي الذَّخِيرَةِ بَيَانًا لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّيَ فَصَلَّى صَلَاةً فَاسِدَةً بِأَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَثَلًا لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ مَا بِهِ حُصُولُ الثَّوَابِ وَسُقُوطُ الْفَرْضِ. قَالَ: وَلَوْ نَوَى الْفَاسِدَةَ صُدِّقَ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِأَنَّ الْفَاسِدَ صَلَاةٌ صُورَةً، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى صُورَتِهِ مَجَازًا جَائِزٌ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَعَ هَذَا يَحْنَثُ بِالصَّحِيحَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ أَنَّ فِي الصَّحِيحِ مَا فِي الْفَاسِدَةِ وَزِيَادَةً عَلَى شَرْطِ الْحِنْثِ فَلَا يَمْنَعُ الْحِنْثَ، وَلَوْ كَانَ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ: إنْ كُنْت صَلَّيْت فَهِيَ عَلَى الْجَائِزَةِ وَالْفَاسِدَةِ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ لَا أُصَلِّي وَلَا أُصَلِّي صَلَاةً حَيْثُ يَحْنَثُ بِرَكْعَةٍ فَقَالَ: وَفِي صُورَةٍ: حَذْفُ الْمَفْعُولِ الْمَنْفِيِّ فِعْلُ الصَّلَاةِ لَا كَوْنُ الْمَفْعُولِ صَلَاةً، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالرَّكْعَةِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَطَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ انْتَقَضَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَلَكِنْ بَعْدَ صِحَّتِهِ، وَالِانْتِقَاضُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حُكْمٍ يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ، وَالْحِنْثُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ فَظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْفَاسِدَةِ هِيَ الَّتِي لَمْ يُوصَفْ مِنْهَا شَيْءٌ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ فِي وَقْتٍ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الشُّرُوعِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الصَّوْمِ وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ هُنَاكَ أَيْضًا. وَأُورِدَ أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَعْدَةُ وَلَيْسَتْ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ

ص: 187

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ.

فَيَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَعْدَةَ مَوْجُودَةٌ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ السَّجْدَةِ، وَهَذَا أَوَّلًا مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَقُّفِ الْحِنْثِ عَلَى الرَّفْعِ مِنْهَا وَفِيهِ خِلَافُ الْمَشَايِخِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي ذَلِكَ. وَمَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ. وَالْأَوْجَهُ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ لِتَمَامِ حَقِيقَةِ السُّجُودِ بِوَضْعِ بَعْضِ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ فَلَيْسَتْ تِلْكَ الْقَعْدَةُ هِيَ الرُّكْنَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَرْكَانَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ الْخَمْسَةُ، وَالْقَعْدَةُ رُكْنٌ زَائِدٌ عَلَى مَا تَحَرَّرَ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِلْخَتْمِ فَلَا تُعْتَبَرُ رُكْنًا فِي حَقِّ الْحِنْثِ (قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي لَا يَصُومُ صَوْمًا (وَأَقَلُّ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ) نَهْيًا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ لَوْ فُعِلَتْ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ صَلَّيْتَ رَكْعَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ تَكَلَّمَ لَا يُعْتَقُ. وَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَتَقَ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مَا صَلَّى رَكْعَةً لِأَنَّهَا بُتَيْرَاءُ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: تَبَيَّنَ بِهَذِهِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ: يَعْنِي وَحْدَهُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: حَلَفَ لَا يُصَلِّي رَكْعَةً وَصَلَاةُ الرَّكْعَةِ حَقِيقَةً دُونَ مُجَرَّدِ الصُّورَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِضَمِّ أُخْرَى إلَيْهَا. وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ: حَلَفَ لَا يُصَلِّي وَلَمْ يَقُلْ رَكْعَةً، وَالْبُتَيْرَاءُ تَصْغِيرُ الْبَتْرَاءِ تَأْنِيثُ الْأَبْتَرِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ ثُمَّ صَارَ يُقَالُ لِلنَّاقِصِ. وَفِي الْبَيْعِ يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْفَرْقُ غَيْرُ خَافٍ. ثُمَّ إذَا حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً فَهَلْ يَتَوَقَّفُ حِنْثُهُ عَلَى قُعُودِهِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ وَهُوَ إذَا حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً يَحْنَثُ قَبْلَ الْقَعْدَةِ لَمَا ذَكَرْته، وَإِنْ عَقَدَهَا عَلَى الْفَرْضِ كَصَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ حَتَّى يَقْعُدَ. [فُرُوعٌ] حَلَفَ لَا يَؤُمُّ أَحَدًا فَصَلَّى فَجَاءَ نَاسٌ وَاقْتَدَوْا بِهِ فَقَالَ نَوَيْت أَنْ لَا أَؤُمَّ أَحَدًا صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً إلَّا إنْ أَشْهَدَ أَنِّي إنَّمَا أُصَلِّي لِنَفْسِي، وَكَذَا لَوْ صَلَّى هَذَا الْحَالِفُ الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ وَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ لِنَفْسِهِ الْجُمُعَةَ جَازَتْ الْجُمُعَةُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْجَمَاعَةُ وَقَدْ وُجِدَ وَحَنِثَ قَضَاءً لَا دِيَانَةً. وَيَنْبَغِي إذَا أَمَّهُمْ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ كَالْأَوَّلِ إنْ أَشْهَدَ صُدِّقَ فِيهِمَا وَإِلَّا فَفِي الدِّيَانَةِ. وَلَوْ قَالَ مَا صَلَّيْت الْيَوْمَ صَلَاةً يُرِيدُ فِي جَمَاعَةٍ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ. وَلَوْ قَالَ مَا صَلَّيْت الْيَوْمَ الظُّهْرَ يُرِيدُ فِي جَمَاعَةٍ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَسَعُهُ النِّيَّةُ فِي هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ قَالَهُ بِمَعْنَى ظُهْرِ مُقِيمٍ وَسِعَتْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي مَا أَخَّرْت صَلَاةً عَنْ وَقْتِهَا وَقَدْ نَامَ فَقَضَاهَا، اخْتَلَفُوا بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتُهَا بِالْحَدِيثِ فَيَصِحُّ أَوَّلًا بَلْ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ.

ص: 188

‌بَابُ الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَبِسْتِ مِنْ غَزْلِكِ فَهُوَ هَدْيٌ فَاشْتَرَى قُطْنًا فَغَزَلَتْهُ وَنَسَجَتْهُ فَلَبِسَهُ فَهُوَ هَدْيٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ حَتَّى تَغْزِلَ مِنْ قُطْنٍ مَلَكَهُ يَوْمَ حَلَفَ) وَمَعْنَى الْهَدْيِ التَّصَدُّقُ بِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهَا. لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ اللُّبْسَ وَغَزْلَ الْمَرْأَةِ لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ مِلْكِهِ. وَلَهُ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَكُونُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ

بَابُ الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

قَدَّمَهُ عَلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ لِأَنَّ اللُّبْسَ أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْهُ لَا بِقَيْدِ خُصُوصِ الْمَلْبُوسِ، أَوْ لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ أَوْسَعُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ. وَالْحُلِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ حَلْيٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ كَثُدِيٍّ وَثَدْيٍ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَبِسْتِ مِنْ غَزْلِكِ) أَيْ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِك أَيْ مَغْزُولِك (فَهُوَ هَدْيٌ) فَغَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ الْحَلِفِ فَلَبِسَهُ فَهُوَ هَدْيٌ اتِّفَاقًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قُطْنٌ أَوْ كَانَ لَكِنْ لَمْ تَغْزِلْ مِنْهُ بَلْ غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْحَلِفِ فَلَبِسَهُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ هَدْيٌ (وَقَالَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ حَتَّى تَغْزِلَهُ مِنْ قُطْنِ مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ) أَيْ وَقْتَ الْحَلِفِ (وَمَعْنَى الْهَدْيِ) هُنَا (مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهَا) فَإِنْ كَانَ نَذَرَ هَدْيَ شَاةٍ أَوْ بَدَنَةٍ فَإِنَّمَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْعُهْدَةِ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ هُنَاكَ فَلَا يُجْزِيهِ إهْدَاءُ قِيمَتِهِ. وَقِيلَ فِي إهْدَاءِ قِيمَةِ الشَّاةِ رِوَايَتَانِ: فَلَوْ سُرِقَ بَعْدَ الذَّبْحِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ نَذَرَ ثَوْبًا جَازَ التَّصَدُّقُ فِي مَكَّةَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ نَذَرَ إهْدَاءَ مَا لَا يُنْقَلُ كَإِهْدَاءِ دَارٍ وَنَحْوِهَا فَهُوَ نَذْرٌ بِقِيمَتِهَا (وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ) فِيمَا هُوَ (فِي الْمِلْكِ) «قَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». (أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ) مِثْلُ إنْ اشْتَرَيْت كَذَا فَهُوَ هَدْيٌ أَوْ فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللُّبْسَ الْمَجْعُولَ شَرْطًا لَيْسَ سَبَبًا لَمِلْكِ الْمَلْبُوسِ وَلَا مُتَعَلَّقُهُ الَّذِي هُوَ غَزْلُ الْمَرْأَةِ سَبَبًا لِمِلْكِهِ إيَّاهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقُطْنَ، وَلَيْسَ الْغَزْلُ سَبَبًا لِمَلْكِ الْقُطْنِ لِأَنَّ غَزْلَهَا يَكُونُ مِنْ قُطْنِهَا وَيَكُونُ مِنْ قُطْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ فِي الْمُشْتَرَى مِنْ الْقُطْنِ إذَا غُزِلَ.

(وَلَهُ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَكُونُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ) لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْقُطْنَ وَيَجْعَلَهُ فِي الْبَيْتِ وَهِيَ تَغْزِلُهُ فَيَكُونُ الْمَغْزُولُ مَمْلُوكًا لَهُ (وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ) بِالْأَلْفَاظِ، فَالتَّعْلِيقُ بِغَزْلِهَا تَعْلِيقٌ بِسَبَبِ مِلْكِهِ لِلثَّوْبِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَمْلِكُهُ بِسَبَبِ غَزْلِك قُطْنَهُ فَهُوَ هَدْيٌ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ مِلْكِ الْقُطْنِ وَلَا إلَى الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ لَا يَمْلِكُ الْمَغْزُولَ بِالْغَزْلِ إلَّا إذَا كَانَ الْقُطْنُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَ الْقُطْنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ فِي حَالِ الْحَلِفِ، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ عَلَى أَنَّ غَزْلَهَا

ص: 189

وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ النَّذْرِ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا.

سَبَبٌ عَادِيٌّ لِمِلْكِهِ الْمَغْزُولَ بِقَوْلِهِ (وَلِهَذَا يَحْنَثُ إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ النَّذْرِ) بِالِاتِّفَاقِ (مَعَ أَنَّ الْقُطْنَ غَيْرُ مَذْكُورٍ) وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَوْنِ ذِكْرِ الْغَزْلِ ذِكْرَ سَبَبِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْزُولِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ سَبَبًا كَوْنُهُ كُلَّمَا وَقَعَ ثَبَتَ الْحُكْمُ عَنْهُ، وَكَوْنُ الْغَزْلِ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ كُلَّمَا وَقَعَ ثَبَتَ عِنْدَهُ مِلْكُ الزَّوْجِ فِي الْمَغْزُولِ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَسْأَلَةَ التَّسَرِّي حَيْثُ لَا يَحْنَثُ فِيهَا بِالشِّرَاءِ بَعْدَ الْحَلِفِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى التَّسَرِّي لَيْسَتْ إضَافَةً إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يُثْبِتُ عِنْدَ التَّسَرِّي أَثَرًا لَهُ بَلْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا بَطَلَ قَوْلُ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ زُفَرَ فِي مَسْأَلَةِ التَّسَرِّي هَذَا، وَالْوَاجِبُ فِي دِيَارِنَا أَنْ يُفْتَى بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَغْزِلُ إلَّا مِنْ كَتَّانِ نَفْسِهَا أَوْ قُطْنِهَا فَلَيْسَ الْغَزْلُ سَبَبًا لِمِلْكِهِ لِلْمَغْزُولِ عَادَةً فَلَا يَسْتَقِيمُ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ.

[وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِاللُّبْسِ] حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِهَا فَلَبِسَ فَلَمَّا بَلَغَ الذَّيْلُ السُّرَّةَ تَذَكَّرَ فَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ وَرِجْلَاهُ بَعْدُ فِي اللِّحَافِ حَنِثَ. حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِ الْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ وَلَمْ يَقُلْ ثَوْبًا حَنِثَ وَالسَّرَاوِيلُ ثَوْبٌ يَحْنَثُ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: هَذَا الثَّوْبَ فَاتَّخَذَ مِنْهُ قَلَنْسُوَةً حَنِثَ.

وَلَوْ ائْتَزَرَ أَوْ ارْتَدَى حَنِثَ سَوَاءٌ الْقَمِيصُ وَغَيْرُهُ، بِخِلَافِ لَا أَلْبَسُ قَمِيصًا لَا يَحْنَثُ إذَا ائْتَزَرَ بِهِ أَوْ ارْتَدَى فَيَنْعَقِدُ عَلَى اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ، وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ فَائْتَزَرَ بِهِ أَوْ تَعَمَّمَ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ هَذَا السَّرَاوِيلَ فَائْتَزَرَ بِهِ أَوْ تَعَمَّمَ حَنِثَ، وَلَوْ وَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ يُرِيدُ حَمْلَهُ لَا يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ الْقَبَاءَ أَوْ قَبَاءً وَلَمْ يُعَيِّنْ فَوَضَعَهُ عَلَى كَتِفِهِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ لَا يَحْنَثُ، وَفِي " هَذَا الْقَبَاءِ " يَحْنَثُ لِأَنَّ فِي الْمُنْكَرِ يُعْتَبَرُ اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ، وَفِي الْمُعَيَّنِ الْوَصْفِ لَغْوٌ فَلَا يُعْتَبَرُ اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ بَلْ مُطْلَقُ اللُّبْسِ. وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الْوَالِدُ الْحِنْثَ فِي الْمُنْكَرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُلْبَسُ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَلَوْ وَضْع الْقَبَاءَ عَلَى اللِّحَافِ وَنَامَ تَحْتَهُ قِيلَ لَا يَحْنَثُ، وَقِيلَ: بَلْ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْقَبَاءَ فَوْقَ الدِّثَارِ حَالَةَ النَّوْمِ يَحْنَثُ، وَالْمُرَادُ بِالدِّثَارِ مَا يُلْبَسُ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَهُوَ الشِّعَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ» وَفِي ثَوْبِ فُلَانٍ فَوَضَعَ قَبَاءَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ يَحْنَثُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَابِسٌ لَكِنْ لَبِسَ الرِّدَاءَ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ لَفْظَ الْقَبَاءِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ الْمُخْتَارُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُلْبَسٌ لَا لَابِسٌ، فَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ إذَا حَلَفَ لَا يُدْخِلُ فَحُمِلَ وَأُدْخِلَ، فَلَوْ انْتَبَهَ فَأَلْقَاهُ كَمَا انْتَبَهَ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ تَرَكَ يَحْنَثُ عَلِمَ أَنَّهُ الثَّوْبُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَوْ لَا، وَكَذَا لَوْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْتَبِهٌ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ أَوْ خُفًّا فَأَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ لَا يَحْنَثُ بِالزِّيقِ وَالزِّرِّ وَالْعُرْوَةِ، وَلَوْ لَبِسَ مِنْ غَزْلِهَا وَغَزْلِ غَيْرِهَا حَنِثَ. أَمَّا لَوْ قَالَ: ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ رُقْعَةٌ مِنْ غَزْلِ غَيْرِهَا حَنِثَ، وَكَذَا إنْ كَانَ فِيهِ وَصْلَةٌ مِنْ كُمِّهِ أَوْ دِخْرِيصِهِ أَوْ عَلِمَ مِنْ غَزْلِ غَيْرِهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِهَا فَلَبِسَ مَا خِيطَ مِنْهُ أَوْ مَا فِيهِ سِلْكَةٌ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ لَبِسَ تِكَّةً مِنْ غَزْلِهَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ فَلَبِسَ ثَوْبًا نَسَجَهُ غِلْمَانُهُ وَفُلَانٌ هُوَ الْمُتَقَبِّلُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ لَا يَحْنَثُ وَإِلَّا حَنِثَ. لَا يَلْبَسُ حَرِيرًا أَوْ إبْرَيْسَمًا

ص: 190

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا حَتَّى أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ وَالتَّخَتُّمُ بِهِ لِقَصْدِ الْخَتْمِ (وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ. (وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ غَيْرِ مُرَصَّعٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً حَتَّى سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَلَهُ أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ عُرْفًا إلَّا مُرَصَّعًا، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ. وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ،

لَا يَحْنَثُ إلَّا بِثَوْبٍ كُلِّهِ أَوْ لُحْمَتِهِ مِنْهُ لَا مَا سُدَاهُ أَوْ عَلِمَهُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ. لَا يَلْبَسُ هَذَا الْقُطْنَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ انْصَرَفَ إلَى الثَّوْبِ الْمُتَّخَذِ مِنْهُ، فَلَوْ حَشَا بِهِ ثَوْبًا وَهُوَ الْمُضَرَّبُ لَا يَحْنَثُ

وَكَذَا لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ هُوَ عَلَى الثَّوْبِ، وَإِنْ نَوَى عَيْنَ الْغَزْلِ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ يَلْبَسُ الثَّوْبَ لَا الْغَزْلَ وَلَا يَلْبَسُ عَيْنَ الْغَزْلِ. لَا يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يَبِيعُ الثِّيَابَ فَاشْتَرَى مِنْهُ وَلَبِسَ يَحْنَثُ. لَا يَلْبَسُ كَتَّانًا فَلَبِسَ ثَوْبًا فِيهِ كَتَّانٌ وَغَيْرُهُ حَنِثَ. لَا يَكْسُو فُلَانًا فَكَسَاهُ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ جَوْرَبَيْنِ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَنِثَ إلَّا إنْ نَوَى كِسْوَتَهُ بِيَدِهِ، وَلَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَلَبِسَهُ لَا يَحْنَثُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ) عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يَحْنَثُ (لَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا) بِدَلِيلِ أَنَّهُ أُبِيحَ لِلرِّجَالِ مَعَ مَنْعِهِمْ مِنْ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمْ لِقَصْدِ التَّخَتُّمِ لَا لِلزِّينَةِ فَلَمْ يَكُنْ حُلِيًّا كَامِلًا فِي حَقِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ الزِّينَةُ لَازِمَ وُجُودِهِ لَكِنَّهَا لَمْ تُقْصَدْ بِهِ فَكَانَ عَدَمًا خُصُوصًا فِي الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ مَبْنَى الْأَيْمَانِ. قَالَ الْمَشَايِخُ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَصُوغًا عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ النِّسَاءِ بِأَنْ كَانَ لَهُ فَصٌّ، فَإِنْ كَانَ حَنِثَ لِأَنَّهُ لُبْسُ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الزِّينَةُ لَا التَّخَتُّمُ فَكَمُلَ مَعْنَى التَّحَلِّي بِهِ وَصَارَ كَلُبْسِهِ سِوَارًا أَوْ خَلْخَالًا أَوْ قِلَادَةً أَوْ قُرْطًا أَوْ دُمْلُوجًا حَيْثُ يَحْنَثُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَلَوْ مِنْ الْفِضَّةِ. وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ بِخَاتَمِ الْفِضَّةِ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلْبَسُهُ النِّسَاءُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ يَنْفِي كَوْنَهُ حُلِيًّا، وَإِنْ كَانَ زِينَةً (وَلَوْ كَانَ) الْخَاتَمُ (مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ) مُطْلَقًا بِفَصٍّ وَبِلَا فَصٍّ اتِّفَاقًا (قَوْلُهُ وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ غَيْرَ مُرَصَّعٍ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَحْنَثُ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ عِقْدُ زَبَرْجَدٍ أَوْ زُمُرُّدٍ أَوْ يَاقُوتٍ، وَبِقَوْلِهِمَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ يَتَزَيَّنُ بِهِ وَسُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى:{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ هُوَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (وَلَهُ أَنَّهُ لَا يُتَحَلَّى بِهِ) فِي الْعَادَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (عُرْفًا إلَّا مُرَصَّعًا) بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ (وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ) لَا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُرَصَّعِ فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهِ. قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: قِيَاسُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ الْغِلْمَانُ وَالرِّجَالُ اللُّؤْلُؤَ (وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ)

ص: 191

وَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ التَّحَلِّيَ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ مُعْتَادٌ

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَنَامَ عَلَيْهِ وَفَوْقَهُ قِرَامٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ تَبَعُ الْفِرَاشِ فَيُعَدُّ نَائِمًا عَلَيْهِ (وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْ الْأَوَّلِ

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِبَاسُهُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ بِسَاطٌ أَوْ حَصِيرٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ فِي الْعَادَةِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ سَرِيرًا آخَرَ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْهُ.

فِي زَمَانِهِ كَانَ لَا يُتَحَلَّى بِهِ إلَّا مُرَصَّعًا، وَفِي عُرْفِهِمَا تَحَلَّوْا بِالسَّاذَجِ (وَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا) لِأَنَّ الْعُرْفَ الْقَائِمَ أَنَّهُ يُتَحَلَّى بِهِ سَاذَجًا كَمَا يُتَحَلَّى بِهِ مُرَصَّعًا

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ) أَيْ فِرَاشٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ، وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ نَكِرَةً بِأَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ حَنِثَ بِوَضْعِ الْفِرَاشِ عَلَى الْفِرَاشِ لِأَنَّهُ نَامَ عَلَى فِرَاشٍ نَكِرَةٍ، ثُمَّ إذَا نَامَ عَلَيْهِ (وَفَوْقَهُ قِرَامٌ حَنِثَ) لِأَنَّ الْقِرَامَ تَبَعٌ لِلْفِرَاشِ لِأَنَّهُ سَاتِرٌ رَقِيقٌ يُجْعَلُ فَوْقَهُ كَاَلَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِنَا الْمُلَى: أَيْ الْمِلَاءَةُ الْمَجْعُولَةُ فَوْقَ الطَّرَّاحَةِ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا لَهُ لَمْ يُعْتَبَرْ وَصَارَ كَأَنَّهُ نَامَ عَلَى نَفْسِ الْفِرَاشِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا نَامَ عَلَى الْأَعْلَى لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِمِثْلِهِ فَتَنْقَطِعُ النِّسْبَةُ إلَى الْأَسْفَلِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نَائِمًا عَلَى فِرَاشَيْنِ فَلَمْ تَنْقَطِعْ النِّسْبَةُ وَلَمْ يُصَرِّحْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ لَيْسَ تَبَعًا لِمِثْلِهِ وَلَا يَضُرُّنَا نَفْيُهُ فِي الْفِرَاشَيْنِ بَلْ كُلُّ أَصْلٍ بِنَفْسِهِ وَيَتَحَقَّقُ الْحِنْثُ بِتَعَارُفِ قَوْلِنَا نَامَ عَلَى فِرَاشَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْأَعْلَى

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ) عُرْفًا فَاعْتَبَرَ الْعُرْفُ كُلًّا مِنْ الْأَرْضِ وَالْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ أَصْلًا، وَلِهَذَا يُقَالُ: اجْلِسْ عَلَى الْبِسَاطِ لَا تَجْلِسْ عَلَى الْحَصِيرِ، وَتَارَةً اجْلِسْ عَلَى الْحَصِيرِ لَا تَجْلِسْ عَلَى الْأَرْضِ فَجَعَلَ الْجَالِسَ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرَ جَالِسٍ عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَلَسَ عَلَى ذُيُولِهِ حَيْثُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: جَلَسَ فُلَانٌ عَلَى الْأَرْضِ فَيَحْنَثُ، وَسِرُّهُ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ اللِّبَاسُ تَبَعًا لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا بَلْ كَأَنَّهُ جَلَسَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْأَرْضِ. نَعَمْ لَوْ خَلَعَ ثَوْبَهُ فَبَسَطَهُ وَجَلَسَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ لِارْتِفَاعِ التَّبَعِيَّةِ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ بِسَاطٌ أَوْ حَصِيرٌ) أَوْ فِرَاشٌ (حَنِثَ لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَيْهِ وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ فِي الْعَادَةِ كَذَلِكَ) أَيْ عَلَى مَا يُفْرَشُ عَلَيْهِ، يُقَالُ جَلَسَ الْأَمِيرُ عَلَى السَّرِيرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَوْقَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُرُشِ (بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ سَرِيرًا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْآخَرَ الْأَعْلَى (مِثْلُ الْأَوَّلِ) الْأَسْفَلِ فَلَمْ يُجْعَلْ تَابِعًا لَهُ فِي الْعُرْفِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ. وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي الْفِرَاشِ بِالْعُرْفِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ نَامَ عَلَى فِرَاشَيْنِ وَلَا يُقَالُ جَلَسَ عَلَى سَرِيرَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ، بَلْ يُقَالُ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَ سَرِيرٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي هَذَا الدُّكَّانِ وَهَذَا السَّطْحِ إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَبَسَطَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ حَنِثَ. وَلَوْ بَنَى دُكَّانًا فَوْقَ الدُّكَّانِ

ص: 192

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ)

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ فَضَرَبَهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ) لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ، وَالْإِيلَامُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ، وَمَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ تُوضَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ فِي قَوْلِ الْعَامَّةِ

أَوْ سَطْحًا عَلَى السَّطْحِ إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى أَحَدِهِمَا انْقَطَعَتْ النِّسْبَةُ عَنْ الْأَسْفَلِ فَلَا يَحْنَثُ بِالْجُلُوسِ عَلَى الْأَعْلَى، وَلِذَا كُرِهَتْ الصَّلَاةُ عَلَى سَطْحِ الْكَنِيفِ وَالْإِسْطَبْلِ. وَلَوْ بَنَى عَلَى ذَلِكَ سَطْحًا آخَرَ فَصَلَّى عَلَيْهِ لَا يُكْرَهُ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ. وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ: حَلَفَ لَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ فَمَشَى عَلَيْهَا بِنَعْلٍ أَوْ خُفٍّ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بِسَاطٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ مَشَى عَلَى أَحْجَارٍ حَنِثَ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَرْضِ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) مِنْ الْغُسْلِ وَالْكِسْوَةِ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ: إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ) حَتَّى إذَا مَاتَ فَضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ (لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ) أَوْ اسْتِعْمَالِ آلَةِ التَّأْدِيبِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلتَّأْدِيبِ، (وَالْإِيلَامُ) وَالْأَدَبُ (لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ) لِأَنَّهُ لَا يَحِسُّ وَلِذَا كَانَ الْحَقُّ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ تُوضَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ بِقَدْرِ مَا يَحِسُّ بِالْأَلَمِ. وَالْبِنْيَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُتَفَرِّقَ الْأَجْزَاءِ بِحَيْثُ لَا تَتَمَيَّزُ الْأَجْزَاءُ بَلْ هِيَ مُخْتَلِطَةٌ بِالتُّرَابِ فَعُذِّبَ جُعِلَتْ الْحَيَاةُ فِي تِلْكَ الْأَجْزَاءِ

ص: 193

وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يَتَحَقَّقُ

الَّتِي لَا يَأْخُذُهَا الْبَصَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لَقَدِيرٌ. وَالْخِلَافُ فِيهِ إنْ كَانَ بِنَاءً عَلَى إنْكَارِ عَذَابِ الْقَبْرِ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ عَاقِلٍ الْقَوْلُ بِالْعَذَابِ مَعَ عَدَمِ الْإِحْسَاسِ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى أَخْذِ الْإِيلَامِ فِي تَعْرِيفِ الضَّرْبِ قَوْله تَعَالَى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فَقَدْ بَرَّ بِضَرْبِ الضِّغْثِ وَهِيَ حُزْمَةٌ مِنْ رَيْحَانٍ وَنَحْوِهِ وَلَا إيلَامَ فِيهِ. وَأُجِيبَ أَوَّلًا بِمَنْعِ عَدَمِ الْأَلَمِ فِي ضَرْبِ أَيُّوبَ عليه السلام بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَبْضَةٌ مِنْ الشَّجَرِ، وَإِنْ سَلِمَ فَمَخْصُوصٌ بِأَيُّوبَ. وَدُفِعَ بِأَنَّهُ تَمَسَّك بِهِ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ فِي جَوَازِ الْحِيلَةِ فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ.

وَفِي الْكَشَّافِ: هَذِهِ الرُّخْصَةُ بَاقِيَةٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْبِرَّ بِضَرْبٍ بِضِغْثٍ بِلَا أَلَمٍ أَصْلًا خُصُوصِيَّةٌ رَحْمَةً لِزَوْجَةِ أَيُّوبَ عليه السلام، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ بَقَاءُ شَرْعِيَّةِ الْحِيلَةِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى قُلْنَا: إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَضَرَبَهُ بِهَا مَرَّةً لَا يَحْنَثُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُصِيبَ بَدَنَهُ كُلُّ سَوْطٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَطْرَافِهَا قَائِمَةً أَوْ بِأَعْرَاضِهَا مَبْسُوطَةً، وَالْإِيلَامُ شَرْطٌ فِيهِ، أَمَّا عَدَمُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا. وَلَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ لَهُ شُعْبَتَانِ خَمْسِينَ مَرَّةً يَبَرُّ، وَلَوْ ضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَخَفَّفَ بِحَيْثُ لَمْ يَتَأَلَّمْ بِهِ لَا يَبَرُّ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ صُورَةً لَا مَعْنًى. وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْنَاهُ، فَلَا يَبَرُّ إلَّا بِأَنْ يَتَأَلَّمَ، حَتَّى إنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ شَرَطَ فِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ رُءُوسِ الْأَعْوَادِ وَضَرَبَ بِهَا كَوْنَ كُلِّ عُودٍ بِحَالِ لَوْ ضَرَبَ مُنْفَرِدًا بِهِ لَأَوْجَعَ الْمَضْرُوبَ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا بِالْحِنْثِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَلَمِ. [فُرُوعٌ] قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ حَتَّى أَقْتُلَك هُوَ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، وَمِثْلُهُ حَتَّى أَتْرُكَك لَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ، وَحَتَّى تَسْتَغِيثَ فَهُوَ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ، وَكَذَا حَتَّى تَبُولَ أَوْ حَتَّى تَبْرُكَ. وَعِنْدِي أَيْضًا عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ لَأَضْرِبَنَّكَ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَمُوتَ، وَلَأَضْرِبَنَّ وَلَدَك عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَنْشَقَّ نِصْفَيْنِ، فَهُوَ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ بِهِ الْأَرْضَ وَيَرْكُلَهُ فَقَطْ، وَخِلَافُ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ بِالسَّيْفِ حَنِثَ بِضَرْبِهِ بِغِلَافِهِ وَهُوَ فِيهِ، وَكَذَا بِالسَّوْطِ فَلَفَّهُ بِخِرْقَةٍ وَضَرَبَهُ حَنِثَ. حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ بِنَصْلِ هَذَا السِّكِّينِ أَوْ بِزُجِّ هَذَا الرُّمْحِ فَنَزَعَهُ وَرَكَّبَ غَيْرَهُ وَضَرَبَهُ بِهِ لَا يَحْنَثُ

وَلَوْ قَالَ: إنْ لَقِيتُك فَلَمْ أَضْرِبْك فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ عَلَى سَطْحٍ أَوْ مِنْ بَعِيدٍ بِحَيْثُ لَا تَصِلُ إلَيْهِ يَدُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرْبِهِ لَا يَحْنَثُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ قَدْرُ مِيلٍ أَوْ أَكْثَرُ فَلَمْ يَلْقَهُ. حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَضَرَبَ أَمَتَهُ: يَعْنِي فَأَصَابَ ضَرْبُهُ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ قَصْدٍ حَنِثَ. حَلَفَ لَا أُعَذِّبُهُ فَحَبَسَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحَبْسَ تَعْذِيبٌ قَاصِرٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُطْلَقِ (قَوْلُهُ وَكَذَا الْكِسْوَةُ) إذَا حَلَفَ لَيَكْسُوَنَّهُ فَأَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْبًا بَعْدَ مَوْتِهِ يَحْنَثُ وَتَقْتَصِرُ

ص: 194

إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ السَّتْرَ، وَقِيلَ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ (وَكَذَا الْكَلَامُ وَالدُّخُولُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يُزَارُ قَبْرُهُ لَا هُوَ

(وَلَوْ قَالَ: إنْ غَسَّلْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَغَسَّلَهُ بَعْدَ مَا مَاتَ يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْغُسْلَ هُوَ الْإِسَالَةُ وَمَعْنَاهُ التَّطْهِيرُ

الْكِسْوَةُ عَلَى الْحَيَاةِ لِاعْتِبَارِ التَّمْلِيكِ فِي مَفْهُومِهَا، وَلِذَا لَوْ قَالَ: كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ كَانَ هِبَةً، وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ إحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا فِيمَا سِوَى الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ أَهْلًا لَلتَّمَلُّكِ لِيَصِحَّ التَّمْلِيكُ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِالْفَارِسِيَّةِ يُرَادُ بِهِ اللُّبْسُ دُونَ التَّمْلِيكِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُنْوَى بِهِ السَّتْرَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّتْرَةَ تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ كَمَا فِي الْحَيِّ فَتَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى حَالَتَيْ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، وَذِكْرُ ضَمِيرٍ بِهِ وَهُوَ الْكِسْوَةُ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: كَسَوْتُك، وَقِيلَ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِكْسَاءِ وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي اللُّغَةِ (قَوْلُهُ وَكَذَا الْكَلَامُ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَيَاةِ، فَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ فَلَا يَفْهَمُ. وَأُورِدَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَهْلِ الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَتُكَلِّمُ الْمَوْتَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِي مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ مِنْهُمْ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ: يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَإِلَّا فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها رَدَّتْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وَبِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَهُ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَوْعِظَةِ لِلْأَحْيَاءِ لَا لِإِفْهَامِ الْمَوْتَى، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:" السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، أَمَّا نِسَاؤُكُمْ فَنُكِحَتْ وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَقُسِمَتْ، وَأَمَّا دُورُكُمْ فَقَدْ سُكِنَتْ، فَهَذَا خَبَرُكُمْ عِنْدَنَا فَمَا خَبَرُنَا عِنْدَكُمْ " وَبِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِأُولَئِكَ تَضْعِيفًا لِلْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ بَقِيَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إذَا انْصَرَفُوا» وَلْيُنْظَرْ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ (قَوْلُهُ وَالدُّخُولُ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ تَقَيَّدَ بِالْحَيَاةِ، فَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَيِّتًا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ أَوْ خِدْمَتُهُ حَتَّى لَا يُقَالَ دَخَلَ عَلَى حَائِطٍ وَلَا عَلَى دَابَّةٍ، وَالزِّيَارَةُ لِلْمَيِّتِ لَيْسَتْ حَقِيقَةً بَلْ إنَّمَا الْمَزُورُ قَبْرُهُ، وَلِهَذَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» وَلَمْ يَقُلْ عَنْ زِيَارَةِ الْمَوْتَى

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: إنْ غَسَّلْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ انْعَقَدَ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لِأَنَّ الْغُسْلَ الْإِسَالَةُ) وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ التَّطْهِيرُ أَوْ إزَالَةُ الْوَسَخِ وَالْكُلُّ يَتَحَقَّقُ فِي حَالَةِ الْمَوْتِ كَالْحَيَاةِ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فِي الْأَصْلِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يُلِذُّ وَيُؤْلِمُ وَيَغُمُّ وَيَسُرُّ يَقَعُ عَلَى الْحَيَاةِ دُونَ الْمَمَاتِ كَالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْجِمَاعِ وَالْكِسْوَةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ اهـ. وَمِثْلُهُ التَّقْبِيلُ إذَا حَلَفَ لَا يُقَبِّلُهَا فَقَبَّلَهَا بَعْدَ

ص: 195

وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْإِيلَامُ، (وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ) لِأَنَّهُ يُسَمَّى مُمَازَحَةً لَا ضَرْبًا

الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ. وَتَقْبِيلُهُ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَا أُدْرِجَ فِي الْكَفَنِ مَحْمُولٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الشَّفَقَةِ أَوْ التَّعْظِيمِ. وَقِيلَ إنْ عَقَدَ عَلَى تَقْبِيلِ مُلْتَحٍ يَحْنَثُ أَوْ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَحْنَثُ وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُغَسِّلُ فُلَانًا أَوْ لَا يَحْمِلُهُ أَوْ لَا يَمَسُّهُ أَوْ لَا يُلْبِسُهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ) وَكَذَا لَوْ وَجَأَهَا أَوْ قَرَصَهَا، وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَارَفُ ضَرْبًا. وَأُجِيبَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِهِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَذَلِكَ. وَفِي الْمُنْتَقَى: حَلَفَ لَا يَضْرِبُ فُلَانًا فَنَفَضَ ثَوْبَهُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ أَوْ نُشَّابَةٍ فَأَصَابَهُ لَا يَحْنَثُ. وَاسْتَشْكَلَ يَمِينُ الضَّرْبِ بِأَنَّهَا إنْ تَعَلَّقَتْ بِصُورَةِ الضَّرْبِ عُرْفًا فَهُوَ إيقَاعُ آلَةِ التَّأْدِيبِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالْخَنْقِ وَمَدِّ الشَّعْرِ وَالْعَضِّ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَارَفُ ضَرْبًا أَوْ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِيلَامُ فَيَجِبُ أَنْ يَحْنَثَ بِالرَّمْيِ بِالْحَجَرِ أَوْ بِهِمَا فَيَحْنَثُ بِالضَّرْبِ مَعَ الْإِيلَامِ مُمَازَحَةً لَكِنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَهُوَ إشْكَالٌ وَارِدٌ. وَمَا أُجِيبَ بِهِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ حُصُولُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الضَّرْبُ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا. مِثَالُهُ حَلَفَ لَا يَبِيعُ كَذَا بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهُ بِتِسْعَةٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ عُرْفًا

ص: 196

(وَمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ حَنِثَ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ فَيَنْعَقِدُ ثُمَّ يَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْعَادِيِّ (فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ كَانَتْ فِيهِ وَلَا تُتَصَوَّرُ فَيَصِيرُ قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلُ الْعِلْمِ هُوَ الصَّحِيحَ.

‌بَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ

لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ لَفْظًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ بِعَشَرَةٍ أَوْ بِأَقَلَّ بَلْ بِأَكْثَرَ. وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ لَفْظًا لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ فَقَدْ بَاعَهُ بِعَشَرَةٍ أَيْضًا لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عُرْفًا فَلَا يَحْنَثُ غَيْرُ دَافِعٍ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ. ثُمَّ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ: هَذَا يَعْنِي الْحِنْثَ إذَا كَانَ فِي الْغَضَبِ، أَمَّا إذَا فَعَلَ فِي الْمُمَازَحَةِ فَلَا يَحْنَثُ، وَلَوْ أَدْمَاهَا لَكِنْ لَا عَلَى قَصْدِ الْإِدْمَاءِ بَلْ وَقَعَ الْخَطَأُ فِي الْمُمَازَحَةِ بِالْيَدِ. وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا إذَا كَانَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَحْنَثُ بِمَدِّ الشَّعْرِ وَالْخَنْقِ وَالْعَضِّ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ

(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَالْحَالِفُ عَالِمٌ بِمَوْتِهِ حَنِثَ) لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ حَلِفِهِ وَالْقَتْلُ إزَالَةُ الْحَيَاةِ بِسَبَبٍ عَادِيٍّ مَخْصُوصٍ لَزِمَ أَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى إزَالَةِ حَيَاةِ يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ فَيَنْعَقِدُ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ لِلْعَجْزِ الْحَالِي الْمُسْتَمِرِّ عَادَةً (وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ لَا مَحَالَةَ عَلَى إزَالَةِ الْحَيَاةِ الْقَائِمَةِ فِيهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إزَالَةُ الْقَائِمَةِ وَلَا حَيَاةَ قَائِمَةٌ (فَكَانَ قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى الِاخْتِلَافِ) السَّابِقِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَهُمَا، فَعِنْدَهُ يَنْعَقِدُ وَيَحْنَثُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَا حِنْثَ إذْ لَا انْعِقَادَ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ) أَيْ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ (تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ) بَلْ الْحُكْمُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ مَاءً وَقْتَ الْحَلِفِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْكُوزَ لَا مَاءَ فِيهِ فَحَلَفَ فَقَالَ: إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنْ لَا مَاءَ فِي هَذَا الْكُوزِ فَحَلَفَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ عِنْدَهُمَا عَلَى مَاءٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُوزِ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ ثُمَّ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ الْمُسْتَمِرُّ يُوجِبُ حِنْثَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي الْكُوزِ مَاءً؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ انْعَقَدَتْ عَلَى مَاءٍ فِي الْكُوزِ، وَلَوْ أَوْجَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مَاءً كَانَ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ شُرْبُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ) التَّقَاضِي: الْمُطَالَبَةُ وَهُوَ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ وَهِيَ مَسَائِلُ الْبَابِ فَتُرْجِمَ الْبَابُ بِمَا هُوَ سَبَبُ مَسَائِلِهِ وَخَصَّ الدَّرَاهِمَ

ص: 197

(وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إلَى قَرِيبٍ فَهُوَ عَلَى مَا دُونَ الشَّهْرِ، وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ) لِأَنَّ مَا دُونَهُ يُعَدُّ قَرِيبًا، وَالشَّهْرُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يُعَدُّ بَعِيدًا، وَلِهَذَا يُقَالُ عِنْدَ بُعْدِ الْعَهْدِ مَا لَقِيتُك مُنْذُ شَهْرٍ

(وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ) لِأَنَّ الزِّيَافَةَ عَيْبٌ وَالْعَيْبُ لَا يُعْدِمُ الْجِنْسَ، وَلِهَذَا لَوْ تَجُوزُ بِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا،

بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ دَوْرًا فِي الْمُعَامَلَاتِ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إلَى قَرِيبٍ) أَوْ عَاجِلًا (فَهُوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ) فَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى الشَّهْرِ حَنِثَ (وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ) أَوْ آجِلًا (فَهُوَ عَلَى أَكْثَرِ) مِنْ شَهْرٍ وَعَلَى (الشَّهْرِ) أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ قَصَدَ الطِّبَاقَ بَيْنَ قَوْلِهِ مَا دُونَ الشَّهْرِ وَمَا فَوْقَهُ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْمَوْتِ إذَا مَاتَ لِشَهْرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ حَلَفَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ بِلَا غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ إلَى الْمَوْتِ، فَإِنْ مَاتَ لِأَقَلَّ مِنْهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرُوا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَيْسَ فِي يَمِينِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ تَقْدِيرٌ؛ لِأَنَّهُ إضَافِيٌّ، فَكُلُّ مُدَّةٍ قَرِيبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَعْدَهَا وَبَعِيدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا دُونَهَا، وَمُدَّةُ الدُّنْيَا كُلِّهَا قَرِيبَةٌ بِاعْتِبَارٍ وَبَعِيدَةٌ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِحِنْثِهِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ. وَقُلْنَا: هُنَا وَجْهَانِ مِنْ الِاعْتِبَارِ اعْتِبَارُ الْإِضَافَةِ وَلَا ضَبْطَ فِيهَا كَمَا ذَكَرْت، وَاعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَعَلَيْهِ مَبْنَى الْأَيْمَانِ. وَالْعُرْفُ يَعُدُّ الشَّهْرَ بَعِيدًا فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ شَهْرٍ عِنْدَ اسْتِبْعَادِ مُدَّةِ الْغَيْبَةِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ النِّيَّةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا نَوَى بِقَوْلِهِ إلَى قَرِيبٍ وَإِلَى بَعِيدٍ مُدَّةً مُعَيَّنَةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى حَتَّى لَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ إلَى قَرِيبٍ أَوْ عَاجِلًا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ صَحَّتْ، وَكَذَا إلَى آخِرِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ، وَتَقَدَّمَتْ فُرُوعٌ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ ضُحًى أَوْ عِنْدَ الْهِلَالِ وَنَحْوَهَا

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ فِيهِ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا) أَيْ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ (زُيُوفًا) وَهِيَ الْمَغْشُوشَةُ غِشًّا قَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَجَوَّزُ التُّجَّارُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ (أَوْ نَبَهْرَجَةً) وَغِشُّهَا أَكْثَرُ مِنْ الزُّيُوفِ يَرُدُّهُ مِنْ التُّجَّارِ الْمُسْتَقْصِي، وَيَقْبَلُهُ السَّهْلُ مِنْهُمْ (أَوْ مُسْتَحِقُّهُ لَمْ يَحْنَثْ) بِذَلِكَ سَوَاءٌ رَدَّ بَدَلَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ لَا؛ (لِأَنَّ الزَّيْفَ عَيْبٌ) وَكَذَا نَبَهْرَجَةٌ وَلَفْظُ الزِّيَافَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ غَيْرُ عَرَبِيٍّ بَلْ هُوَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ (وَالْعَيْبُ) فِي الْجِنْسِ (لَا يُعْدِمُ الْجِنْسَ) أَيْ جِنْسَ الدَّرَاهِمِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ وَصْفِ الزِّيَافَةِ لَا يُعْدِمُ اسْمَ الدَّرَاهِمِ (لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا) فِي الصَّرْفِ: أَيْ لَوْ جُعِلَتْ بَدَلًا فِي الصَّرْفِ بِالْجِيَادِ أَوْ جُعِلَتْ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ صَحَّ مَعَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ عَنْ

ص: 198

فَوُجِدَ شَرْطُ الْبِرِّ وَقَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ وَلَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ الْبِرَّ الْمُتَحَقِّقَ (وَإِنْ وَجَدَهَا رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّجَوُّزُ بِهِمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ (وَإِنْ بَاعَهُ بِهَا عَبْدًا وَقَبَضَهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ طَرِيقُهُ الْمُقَاصَّةُ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْقَبْضَ لِيَتَقَرَّرَ بِهِ

غَيْرِ قَبْضٍ مُفْسِدٌ لَهُمَا، فَعُرِفَ أَنَّهُمَا لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُمَا جِنْسُ الدَّرَاهِمِ فَيَبَرُّ فِي الْيَمِينِ بِهِمَا سَوَاءٌ حَلَفَ عَلَى الْقَبْضِ أَوْ الدَّفْعِ (وَ) كَذَا قَبْضُ الدَّرَاهِمِ (الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ) وَلِذَا لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ قَبْضَهَا جَازَ، وَإِذَا بَرَّ فِي دَفْعِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَلَوْ رَدَّ الزُّيُوفَ أَوْ النَّبَهْرَجَةَ أَوْ اُسْتُرِدَّتْ الْمُسْتَحَقَّةُ لَا يَرْتَفِعُ الْبِرُّ، وَإِنْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ فَإِنَّمَا يُنْتَقَضُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ، وَمِثْلُهُ لَوْ دَفَعَ الْمُكَاتَبُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ وَعَتَقَ فَرَدَّهَا مَوْلَى الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ أَنَّهَا زَيْفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ أَوْ مُسْتَحَقَّةٌ لَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ (وَلَوْ كَانَتْ رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ) إذَا انْقَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يَرُدَّ بَدَلَهَا دَرَاهِمَ. وَالسَّتُّوقَةُ الْمَغْشُوشَةُ غِشًّا زَائِدًا وَهُوَ تَعْرِيبُ سِيّ تُوقَةَ: أَيْ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ طَبَقَتَا الْوَجْهَيْنِ فِضَّةٌ وَمَا بَيْنَهُمَا نُحَاسٌ وَنَحْوُهُ؛ (لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَا يَتَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ) وَلَا يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ بِأَدَائِهَا، فَلَوْ رَدَّهَا الْمَوْلَى ظَهَرَ عَدَمُ عِتْقِ الْعَبْدِ (قَوْلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ) أَيْ إنْ بَاعَ الْحَالِفُ الْمَدْيُونُ رَبَّ الدَّيْنِ الَّذِي حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ الْيَوْمَ دَيْنَهُ فِي الْيَوْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَى قَضَائِهِ فِيهِ (عَبْدًا وَقَبَضَهُ) رَبُّ الدَّيْنِ (بَرَّ) الْمَدْيُونُ (فِي يَمِينِهِ)؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ لَوْ وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ. وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِي ذِمَّةِ الْقَابِضِ وَهُوَ الدَّائِنُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ لِيَتَمَلَّكَهُ وَلِلدَّائِنِ مِثْلُهُ عَلَى الْمُقْبَضِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، فَكَذَا هُنَا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُقَاصَصُ بِهِ فَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ بِإِعْطَاءِ الْعَبْدِ قِصَاصًا وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ ثَمَنُ الْعَبْدِ وَلَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، ثُمَّ الْبِرُّ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ قَبَضَ الدَّائِنُ الْعَبْدَ أَوْ لَا، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمَدْيُونِ الْحَالِفِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَعَادَ الدَّيْنُ، وَلَا يُنْتَقَضُ الْبِرُّ فِي الْيَمِينِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ تَأْكِيدًا لِلْبَيْعِ لِيَتَقَرَّرَ الدَّيْنُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَإِنْ وَجَبَ بِالْبَيْعِ لَكِنَّهُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ لِجَوَازِ أَنْ يَهْلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَقَبَضَهُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ تَفِي بِالدَّيْنِ بَرَّ وَإِلَّا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، هَذَا إذَا حَلَفَ الْمَدْيُونُ، وَكَذَا إذَا حَلَفَ

ص: 199

(وَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ) يَعْنِي الدَّيْنَ (لَمْ يَبَرَّ) لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَعَلَهُ، وَالْهِبَةُ إسْقَاطٌ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ.

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ

رَبُّ الدَّيْنِ فَقَالَ: إنْ لَمْ أَقْبِضْ مَالِي عَلَيْك الْيَوْمَ أَوْ إنْ لَمْ أَسْتَوْفِ. قَالَ مُحَمَّدٌ (فَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ لَمْ يَبَرَّ) يَعْنِي إذَا وَهَبَ رَبُّ الدَّيْنِ الدَّرَاهِمَ الدَّيْنَ فِي الْيَوْمِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ فَقَبِلَ لَمْ يَبَرَّ الْمَدْيُونُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُوجَدْ (لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ) وَلِأَنَّ فِعْلَ الْمَدْيُونِ وَالْهِبَةِ فِعْلُ الدَّائِنِ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُ هَذَا فِعْلَ الْآخَرِ. قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا عِنْدَهُمَا لِفَوَاتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: يَعْنِي تَعَذُّرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ. وَتَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ أَنَّ بَقَاءَ التَّصَوُّرِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَهَذِهِ كَذَلِكَ إذْ الْكَلَامُ هُنَا فِي يَمِينٍ مُؤَقَّتَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَمْ يَذْكُرْ الْيَوْمَ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ارْتِفَاعَ النَّقِيضَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ نَقِيضُ الْحِنْثِ فَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَيْنِ اللَّذَيْنِ يَجِبُ صِدْقُ أَحَدِهِمَا دَائِمًا هُمَا فِي الْأُمُورِ الْحَقِيقِيَّةِ كَوُجُودِ زَيْدٍ وَعَدَمِهِ، أَمَّا فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا تَعَلَّقَ قِيَامُ النَّقِيضَيْنِ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُمَا مَا دَامَ السَّبَبُ قَائِمًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ قِيَامَ الْيَمِينِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ مِنْ الْحِنْثِ أَوْ الْبِرِّ شَرْعًا، فَإِنْ فُرِضَ انْتِفَاؤُهُ انْتَفَى الْحِنْثُ وَالْبِرُّ كَمَا هُوَ قَبْلَ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا بِرَّ وَلَا حِنْثَ، فَإِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُهُ كَانَ الْحَالُ كَمَا هُوَ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَجَمِيعُ مَا أُورِدَ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ مِثْلُ قَوْلِ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ لَمْ يَحْنَثْ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ، وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَحْنَثْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ لَهُ قَالُوا بَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْبِرُّ وَهُوَ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْهِبَةِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْحَالِفِ عَلَى يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَمَا أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْمُطْلَقَةُ بِأَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ فَأَبْرَأَهُ أَوْ وَهَبَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ التَّصَوُّرَ لَا يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ بَلْ فِي الِابْتِدَاءِ، وَحِينَ حَلَفَ كَانَ الدَّيْنُ قَائِمًا فَكَانَ تَصَوُّرُ الْبِرِّ ثَابِتًا فَانْعَقَدَتْ ثُمَّ حَنِثَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْيَأْسِ مِنْ الْبِرِّ بِالْهِبَةِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ

ص: 200

لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَ جَمِيعَهُ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبْضُ الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ إلَى دَيْنٍ مُعَرَّفٍ مُضَافٍ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى كُلِّهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِهِ (فَإِنْ قَبَضَ دَيْنَهُ فِي وَزَنَيْنَ لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَهُمَا إلَّا بِعَمَلِ الْوَزْنِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَفْرِيقٍ) لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ قَبْضُ الْكُلِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَادَةً فَيَصِيرُ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى عَنْهُ

(وَمَنْ قَالَ: إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا نَفْيُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَيْرَ مِائَةٍ أَوْ سِوَى مِائَةٍ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ.

لَمْ يَحْنَثْ) بِمُجَرَّدِ قَبْضِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بَلْ يَتَوَقَّفُ حِنْثُهُ عَلَى قَبْضِ بَاقِيهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ حَنِثَ (لِأَنَّ الشَّرْطَ) أَيْ شَرْطَ الْحِنْثِ (قَبْضُ الْكُلِّ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ) الْمُتَفَرِّقَ (إلَى كُلِّ الدَّيْنِ) حَيْثُ قَالَ: لَا أَقْبِضُ دَيْنِي وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِتَمَامِهِ مُتَفَرِّقًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّفَرُّقُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِتَعَدُّدِ الْوَزْنِ لَا يَحْنَثُ إذَا كَانَ لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَ الْوَزْنَتَيْنِ إلَّا بِعَمَلِ الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ فَكَانَ الْوَزْنَتَانِ كَوَزْنَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَشَاغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَخْتَلِفُ مَجْلِسُ الْقَبْضِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ قَبْضُهُ بِوَزْنَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَثْرَتِهِ فَجُعِلَ التَّفْرِيقُ الْكَائِنُ بِهَذَا السَّبَبِ مُسْتَثْنًى. وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مُؤَقَّتَةٌ هَكَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَقَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ أَخَذْتُهَا مِنْك الْيَوْمَ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ مِنْهَا خَمْسَةً وَلَمْ يَأْخُذْ مَا بَقِيَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ أَخْذُ كُلِّ الْمِائَةِ عَلَى التَّفْرِيقِ. وَلَوْ قَالَ: إنْ أَخَذْتُ مِنْهَا الْيَوْمَ مِنْك دِرْهَمَيْنِ دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ خَمْسَةً وَلَمْ يَأْخُذْ مَا بَقِيَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَخْذَ بَعْضِ الْمِائَةِ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ وُجِدَ

(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ: إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَلَمْ يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا نَفْيُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ) فَيَصْدُقُ عَلَى الْخَمْسِينَ، إذْ يَصْدُقُ أَنَّ الْخَمْسِينَ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى الْمِائَةِ. وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى اللَّفْظِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى جَعْلِ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عَلَى حُكْمِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ لَيْسَ لِي مَالٌ إلَّا مِائَةٌ فَالْمِائَةُ مُخْرَجَةٌ مِنْ نَفْيِ الْمَالِ، فَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتٌ فَتَكُونُ الْمِائَةُ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ بَلْ وَلَا مُتَعَرَّضًا لَهَا بِإِثْبَاتٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ. وَأَمَّا عَلَى جَعْلِهِ مُثْبَتًا بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَهُوَ مُخْتَارُنَا، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَيَحْنَثُ لَفْظًا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَنَّ لَهُ مِائَةً. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا) فَظَاهِرُهُ

ص: 201

‌مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ]

(وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا) لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَعَمَّ الِامْتِنَاعُ ضَرُورَةَ عُمُومِ النَّفْيِ (وَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَفَعَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ فِعْلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ، إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ الْإِثْبَاتِ فَيَبَرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمَوْتِهِ أَوْ بِفَوْتِ مَحَلِّ الْفِعْلِ.

أَنَّهُ وَجْهٌ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا إلَخْ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولًا لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إخْرَاجَهَا لَيْسَ إلَّا مِنْ النَّفْيِ، وَحَاصِلُهُ إخْرَاجُ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمِائَةِ مِنْ عَدَمِ الْمِلْكِ، فَلَوْ صَحَّ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ خَمْسِينَ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ يَحْنَثُ فَلَيْسَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ إلَّا وَجْهَ الْعُرْفِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَعْطَى زَيْدًا مِائَةً مَثَلًا فَقَالَ زَيْدٌ: لَمْ يُعْطِنِي إلَّا خَمْسِينَ فَقَالَ: إنْ كُنْت أَعْطَيْته إلَّا مِائَةً فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْأَقَلِّ، وَكَذَا إذَا اُخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ فَقَالَ: لِي عَلَيْهِ مِائَةٌ وَقَالَ الْآخَرُ: خَمْسُونَ فَقَالَ: إنْ كَانَ لِي عَلَيْهِ إلَّا مِائَةٌ فَهَذَا لِنَفْيِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِيَمِينِهِ الرَّدَّ عَلَى الْمُنْكَرِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ كُنْتُ أَمْلِكُ إلَّا خَمْسِينَ فَمَلَكَ عَشَرَةً لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى، وَلَوْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى الْخَمْسِينَ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَالِ الزَّكَاةِ حَنِثَ وَإِلَّا لَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ أَوْ حَلَفَ مَا لِي مَالٌ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِمَالِ الزَّكَاةِ. وَفِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ: لَوْ قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَهُ عُرُوضٌ وَضِيَاعٌ وَدُورٌ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ لَمْ يَحْنَثْ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ] أَيْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ لِأَمْرٍ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ أَوْ تَأَخَّرَ وَضْعُ التَّرْجَمَةِ عَنْ وَضْعِ الْمَسَائِلِ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ تَقَدُّمُ التَّرْجَمَةِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا لِمَا شَذَّ عَنْ الْأَبْوَابِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ وَنَحْوَهَا (قَوْلُهُ: وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ فَعَمَّ الِامْتِنَاعُ) فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبِلَةِ (ضَرُورَةَ عُمُومِ النَّفْيِ) لِلْفِعْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَصْدَرِ النَّكِرَةِ فَلَوْ وُجِدَ مَرَّةً لَمْ يَكُنْ النَّفْيُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ثَابِتًا (وَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا بَرَّ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ فِعْلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ، إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ الْإِثْبَاتِ فَيَبَرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ) سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا فِيهِ أَوْ نَاسِيًا أَصِيلًا أَوْ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَا يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الْحِنْثِ حَتَّى يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْفِعْلِ (وَذَلِكَ بِمَوْتِ الْحَالِفِ) قَبْلَ الْفِعْلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْكَفَّارَةِ (أَوْ بِفَوْتِ مَحِلِّ الْفِعْلِ) كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا أَوْ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ فَمَاتَ زَيْدٌ أَوْ أَكَلَ الرَّغِيفَ قَبْلَ أَكْلِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً كَمَا أَرَيْنَاك، فَلَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً مِثْلُ لَآكُلَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ سَقَطَتْ بِفَوَاتِ مَحِلِّ الْفِعْلِ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا سَلَفَ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ

ص: 202

(وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْبَلَدَ فَهَذَا عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ شَرِّهِ أَوْ شَرِّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ سَلْطَنَتِهِ، وَالزَّوَالُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْعَزْلِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

(وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ

مُضِيِّهِ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ، وَلَوْ جُنَّ الْحَالِفُ فِي يَوْمِهِ حَنِثَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَحْمَدَ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْمَدِينَةَ) وَهُوَ بِالدَّالِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ كُلُّ مُفْسِدٍ وَجَمْعُهُ دُعَّارٌ مِنْ الدَّعْرِ وَهُوَ الْفَسَادُ، وَمِنْهُ دَعِرَ الْعَوْدَ يَدْعَرُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ إذَا فَسَدَ (فَهُوَ عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) فَلَوْ عُزِلَ لَا يَلْزَمُهُ إخْبَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهَذَا التَّخْصِيصُ فِي الزَّمَانِ يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاسْتِحْلَافِ زَجْرُهُ بِمَا يَدْفَعُ شَرَّهُ أَوْ شَرَّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا زُجِرَ دَاعِرٌ انْزَجَرَ دَاعِرٌ آخَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي حَالِ وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ (فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ سَلْطَنَتِهِ وَالزَّوَالُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْعَزْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَإِذَا سَقَطَتْ الْيَمِينُ لَا تَعُودُ وَلَوْ عَادَ إلَى الْوِلَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ بَعْدَ الْعَزْلِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعَادَ فَيَزْجُرَهُ لِتَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ بِحَالِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ أَيْضًا: ثُمَّ إنَّ الْحَالِفَ لَوْ عَلِمَ بِالدَّاعِرِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا إذَا مَاتَ هُوَ أَوْ الْمُسْتَحْلَفُ أَوْ عُزِلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ إلَّا بِالْيَأْسِ إلَّا إذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً فَيَحْنَثُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ اهـ. وَلَوْ حُكِمَ بِانْعِقَادِ هَذِهِ لِلْفَوْرِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ لِزَجْرِهِ وَدَفْعِ شَرِّهِ، فَالدَّاعِي يُوجِبُ التَّقْيِيدَ بِالْفَوْرِ: أَيْ فَوْرِ عِلْمِهِ بِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَّفَ رَبُّ الدَّيْنِ غَرِيمَهُ أَوْ الْكَفِيلَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ الْبَلَدِ إلَّا بِإِذْنِهِ يَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الدَّيْنِ وَالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْمَنْعِ، وَكَذَا لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ تَقَيُّدًا بِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِذَا زَالَ الدَّيْنُ وَالزَّوْجِيَّةُ سَقَطَتْ ثُمَّ لَا تَعُودُ الْيَمِينُ بِعَوْدِهِمَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ مِنْ الدَّارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ، إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِذْنَ فَلَا مُوجِبَ لِتَقْيِيدِهِ بِزَمَانِ الْوِلَايَةِ فِي الْإِذْنِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي حَلِفِهِ عَلَى الْعَبْدِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا بِغَيْرِ إذْنِك طَالِقٌ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِهَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَقَيَّدْ يَمِينُهُ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَقَيَّدُ بِهِ لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَسْتَفِيدُ وِلَايَةَ الْإِذْنِ وَالْمَنْعِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَيَهَبَنَّ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) الْأَصْلُ أَنَّ اسْمَ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّهْنِ وَالْخُلْعِ

ص: 203

لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وُهِبَ وَلَمْ يَقْبَلْ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَذَلِكَ

بِإِزَاءِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا، وَفِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ بِإِزَاءِ الْإِيجَابِ فَقَطْ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْعَطِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعُمْرِيِّ وَالنِّحْلِيِّ وَالْإِقْرَارِ وَالْهَدِيَّةِ. وَقَالَ زَفَرُ: هِيَ كَالْبَيْعِ. وَفِي الْبَيْعِ وَمَا مَعَهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لِلْمَجْمُوعِ. فَلِذَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُك أَمْسِ هَذَا الثَّوْبَ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ: بَلْ قَبِلْت أَوْ آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ بَلْ قَبِلْت الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْبَيْعِ تَضَمَّنَ إقْرَارَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ تَقْبَلْ رُجُوعٌ عَنْهُ، وَكَذَا عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَأَوْجَبَ فَقَطْ، وَعَلَى الْحِنْثِ إذَا حَلَفَ لَيَبِيعَنَّ الْيَوْمَ فَأَوْجَبَ فِيهِ فَقَطْ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، فَعِنْدَنَا يَبَرُّ الْإِيجَابُ، وَعِنْدَهُ يَحْنَثُ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِزُفَرَ بِاعْتِبَارِهِ بِالْبَيْعِ (لِأَنَّهُ) أَيْ عَقْدَ الْهِبَةِ (تَمْلِيكُ مِثْلِهِ) حَتَّى يَتَوَقَّفَ تَمَامُ سَبَبِيَّتِهِ عَلَى الْقَبُولِ فَلَا يَكُونُ هُوَ: أَيْ عَقْدُ الْهِبَةِ بِلَا قَبُولٍ كَالْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بَلْ بِمُجَرَّدِ إيجَابِ الْهِبَةِ وَالْقَبُولِ مِنْ الْآخَرِ بَرَّ لِتَمَامِ السَّبَبِ، وَإِنَّمَا الْقَبْضُ شَرْطُ حُكْمِهِ وَالسَّبَبُ يَتِمُّ دُونَهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: يُشْتَرَطُ مَعَهُ الْقَبْضُ فَلَا يَبَرُّ حَتَّى يَقْبِضَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ بِلَا حُكْمٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ) أَيْ الْهِبَةُ اسْمٌ لِلتَّبَرُّعِ، فَإِذَا تَبَرَّعَ وُجِدَ الْمُسَمَّى فَيَحْنَثُ، وَلَا يُرَادُ تَمَامُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ إلَّا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، إلَّا أَنَّ بِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ بِلَا اخْتِيَارٍ وَنَحْوِهِ مِنْ فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجَةِ الْمَرْقُوقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَوِّلَ وَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ لِتَمَامِ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي احْتِيَاجِهِ إلَى الْقَبُولِ فِي تَمَامِ الْعَقْدِ وَوُقُوعِهِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ بِهِ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ بِلَا بَدَلٍ حَتَّى يَظْهَرَ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِلَفْظِهِ الْمُفِيدِ لَهُ فَهُوَ كَالْبَيْعِ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِي تَعْيِينِ مُسَمَّيَاتٍ شَرْعِيَّةٍ لِأَلْفَاظٍ هِيَ لَفْظُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَخَوَاتِهِمَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْلِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ بَاعَ فُلَانٌ كَذَا أَوْ بِعْت كَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حُكِمَ بِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ لِلْمَجْمُوعِ، ثُمَّ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي اسْمِ الْهِبَةِ فَقَالَ زُفَرُ هُوَ كَذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِالنَّقْلِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» فَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْإِهْدَاءِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَقَطْ لِفَرْضِ أَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَهْدَى إمَّا حِكَايَةُ قَوْلِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَهْدَيْتُ لَك هَذَا أَوْ حِكَايَةُ فِعْلٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُفِيدُ أَنَّ اسْمَ الْهِدَايَةِ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْآخَرِ أَوْ لَا. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِنَا: وَهَبْت لِفُلَانٍ فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظَ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ بِقَرِينَةٍ كَقَوْلِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ فَقَطْ كَمَا يُقَالُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَكَوْنُهُ ظَهَرَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ بِقَرِينَةٍ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْته هَذَا الثَّوْبَ بِأَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا وَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِاسْمِ الْكُلِّ

ص: 204

يَتِمُّ بِهِ، أَمَّا الْبَيْعُ فَمُعَاوَضَةٌ فَاقْتَضَى الْفِعْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ

(وَمَنْ حَلَفَ

فِي الْجُزْءِ، فَلَوْ دَلَّ صِحَّةُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَهَبْت فَلَمْ يَقْبَلْ عَلَى أَنَّ وَضْعَ لَفْظِ الْهِبَةِ لِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ: بِعْته فَلَمْ يَقْبَلْ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْإِثْبَاتِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِ الصِّدِّيقِ لِعَائِشَةَ رضي الله عنهما: كُنْت نَحَلْتُك عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِ الْعَالِيَةِ وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ. فَسَمَّاهُ نِحْلًى قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّمَا يَنْتَهِضُ عَلَى إحْدَى رِوَايَتَيْ زُفَرَ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِيهِ الْقَبْضُ أَيْضًا، وَلَسْنَا نُصَحِّحُهَا بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ الْحُكْمِ لَا مِنْ تَمَامِ السَّبَبِ وَمُسَمَّى اللَّفْظِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الْقَائِلُ: إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَهُوَ يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ: يَعْنِي فَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْمَ بِإِزَاءِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِلَّا كَانَتْ أَسْمَاءُ الْأُمُورِ الَّتِي لَهَا غَايَاتٌ أَسْمَاءً لِتِلْكَ الْغَايَاتِ. وَأَيْضًا فَقَصْدُ الْإِظْهَارِ لِلسَّمَاحَةِ هُوَ عَيْنُ الْمُرَاءَاةِ، وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ فِعْلِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهِ، بَلْ اللَّازِمُ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وُصُولَ النَّفْعِ لِلْحَبِيبِ وَالْفَقِيرِ الْأَجْنَبِيِّ، وَهَذَا أَلْيَقُ أَنْ يُجْعَلَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِهِ لَا يَتَحَقَّقُ الْوُصُولُ إلَّا بِمَجْمُوعِ الْقَبُولِ وَالْإِيجَابِ، وَأَقَرَّ بِهَا أَنَّهُ اسْمٌ لِلتَّبَرُّعِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَإِنْ كَانَ تَمَامُ السَّبَبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، فَهُوَ اسْمٌ لِجُزْءِ السَّبَبِ إنْ سَلِمَ هَذَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْقَرْضُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَبُولَ الْمُسْتَقْرِضِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِي حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفًا فَلَمْ أَقْبَلْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَالْإِبْرَاءُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِاللَّفْظِ دُونَ قَبْضٍ. وَالْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ فِي الْقَرْضِ وَالْإِبْرَاءِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ فِيهَا كَالْهِبَةِ.

قِيلَ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَلْحَقَ الْإِبْرَاءُ الْهِبَةَ لِعَدَمِ الْعِوَضِ، وَالْقَرْضُ بِالْبَيْعِ لِلْعِوَضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَهُ شَبَهَانِ: شَبَهٌ بِالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ لَا عَيْنُ مَالٍ، فَبِاعْتِبَارِهِ قُلْنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ. وَشَبَهٌ بِالتَّمْلِيكَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَآلَهُ إلَى عَيْنِ الْمَالِ حَتَّى جَرَتْ أَحْكَامُ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَلِهَذَا قُلْنَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يُقْبَلُ التَّعْلِيقُ، وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ كَالْهِبَةِ. [فُرُوعٌ] حَلَفَ لَا يُوصِي بِوَصِيَّةٍ فَوَهَبَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى أَبَاهُ فِي مَرَضِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَهَبَنَّهُ الْيَوْمَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَوَهَبَهُ مِائَةً لَهُ عَلَى آخَرَ وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهَا بَرَّ، وَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ. وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْعَتَّابِيِّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْوَصِيَّةَ وَالْإِقْرَارَ وَالِاسْتِخْدَامَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدٍ: إنْ وَهَبَك فُلَانٌ مِنِّي فَأَنْتَ حُرٌّ فَوَهَبَهُ مِنْهُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ لَا يَعْتِقُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ أَوْ لَا، وَإِنْ كَانَ وَدِيعَةً فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إنْ بَدَأَ الْوَاهِبُ فَقَالَ: وَهَبْتُكَهُ لَا يُعْتَقُ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ، وَإِنْ بَدَأَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَالَ وُهِبْتُهُ مِنْك عَتَقَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ فَوَهَبَهُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ فَأَجَازَ الْحَالِفُ الْهِبَةَ حَنِثَ كَذَا رَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَلَا يَهَبُ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ لَهُ عَلَى عِوَضٍ حَنِثَ. حَلَفَ لَا يَسْتَدِينُ دَيْنًا فَتَزَوَّجَ لَا يَحْنَثُ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يُشَارِكُهُ ثُمَّ شَارَكَهُ بِمَالٍ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَالشَّرِيكُ هُوَ الِابْنُ لَا الْأَبُ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبْحَ لِلْأَبِ فِي الْمَالِ، وَتَنْعَقِدُ يَمِينُ نَفْيِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَادَاتُ النَّاسِ مِنْ الشَّرِكَةِ فِي التِّجَارَاتِ دُونَ الْأَعْيَانِ، فَلَوْ اشْتَرَيَا عَبْدًا لَمْ يَحْنَثْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ حَيْثُ يَحْنَثُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَرِثَا شَيْئًا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشَارِكْهُ مُخْتَارًا إنَّمَا لَزِمَهُ حُكْمًا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ

ص: 205

لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ وَلَهُمَا سَاقٌ

(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى دُهْنِهِ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَلِهَذَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَالشِّرَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ

لَا يَشَمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَمْ يَحْنَثْ) وَيَشَمُّ هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالشِّينِ مُضَارِعُ شَمِمْت الطِّيبَ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي الْمَاضِي هَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَأَمَّا شَمَمْت الطِّيبَ أَشُمُّهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا فِي الْمُضَارِعِ فَقَدْ أَنْكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ هُوَ خَطَأٌ وَصُحِّحَ عَدَمُهُ فَقَدْ نَقَلَهَا الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ بِفَصِيحَةٍ. ثُمَّ يَمِينُ الشَّمِّ تَنْعَقِدُ عَلَى الشَّمِّ الْمَقْصُودِ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ طِيبًا فَوَجَدَ رِيحَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ وَصَلَتْ الرَّائِحَةُ إلَى دِمَاغِهِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: الرَّيْحَانُ كُلُّ مَا طَابَ رِيحُهُ مِنْ النَّبَاتِ. وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَا لِسَاقِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ كَمَا لِوَرَقِهِ. وَقِيلَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ مِنْ الْبُقُولِ مِمَّا لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ. وَقِيلَ اسْمٌ لِمَا لَيْسَ لَهُ شَجَرٌ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ثُمَّ قَالَ {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} وَلِأَنَّ الرَّيْحَانَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْبُتُ مِنْ بَزْرِهِ مِمَّا لَا شَجَرَ لَهُ وَلِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ، وَشَجَرُ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ إنَّمَا الرَّائِحَةُ لِلزَّهْرِ خَاصَّةً، هَذَا وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي دِيَارِنَا إهْدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الرَّيْحَانَ مُتَعَارَفٌ لِنَوْعٍ وَهُوَ رَيْحَانُ الْحَمَاحِمِ، وَأَمَّا كَوْنُ الرَّيْحَانِ التَّرْنَجِيِّ مِنْهُ فَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يُلْزِمُونَهُ التَّقْيِيدَ فَيُقَالُ رَيْحَانٌ تُرُنْجِيٌّ، وَعِنْدَنَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الرَّيْحَانِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْحَمَاحِمُ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِعَيْنِ ذَلِكَ النَّوْعِ

(قَوْلُهُ: وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَهُوَ عَلَى دُهْنِهِ) دُونَ وَرَقِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِوَرَقِهِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ أَيْضًا بِعُمُومِ الْمَجَازِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ فَكَانَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بَائِعُ الْوَرَقِ لَا يُسَمَّى بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ بَائِعَ الدُّهْنِ ثُمَّ صَارَ كُلٌّ يُسَمَّى بِهِ فِي أَيَّامِ الْكَرْخِيِّ فَقَالَ بِهِ، وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا فَيَجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إلَّا عَلَى نَفْسِ النَّبَاتِ فَلَا يَحْنَثُ بِالدُّهْنِ أَصْلًا كَمَا قَالَ فِي الْوَرْدِ وَالْحِنَّاءِ إنَّ الْيَمِينَ عَلَى شِرَائِهِمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْوَرَقِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْمٌ لِلْوَرَقِ وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ بِخِلَافِهِ فِي الْبَنَفْسَجِ.

[فُرُوعٌ مُتَفَرِّقَةُ الْأَصْنَافِ] إذَا حَلَفَ عَلَى الدَّجَاجِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا وَكَذَا الْحَمَلُ وَالْإِبِلُ وَالْبَعِيرُ وَالْجَزُورُ وَالْبَقَرُ وَالْبَقَرَةُ وَالْبَغْلُ وَالْبَغْلَةُ وَالشَّاةُ وَالْغَنَمُ وَالْحِمَارُ وَالْخَيْلُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ، قَالَ قَائِلُهُمْ:

لَمَّا مَرَرْت بِدَيْرِ هِنْدٍ أَرَّقَنِي

صَوْتُ الدَّجَاجِ وَضَرْبٌ بِالنَّوَاقِيسِ

ص: 206

وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ (وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَرْدِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَرَقِ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ، وَفِي الْبَنَفْسَجِ قَاضٍ عَلَيْهِ.

وَالصَّوْتُ إنَّمَا هُوَ لِلدِّيكِ، وَفِي الْحَدِيثِ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْبَقَرَةُ: لَا تَتَنَاوَلُ الثَّوْرَ وَلَيْسَ بِذَلِكَ، وَالثَّوْرُ وَالْكَبْشُ وَالدِّيكُ لِلذَّكَرِ، وَالْبِرْذَوْنُ لِلْعَجَمِيِّ، وَالْبَقَرُ لَا يَتَنَاوَلُ الْجَامُوسَ لِلْعُرْفِ.

حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَلَا كَذَا فَفَعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ النَّفْيِ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَكَذَلِكَ يَحْنَثُ.

حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ فُلَانٌ فَجَاءَ بِحِمَّصٍ فَطَبَخَ فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ وَفِيهِ طَعْمُ الْحِمَّصِ حَنِثَ، ذَكَرَهَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ. وَعَلَى هَذَا يَجِبُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ أَنْ يُقَيِّدَ بِمَا إذَا لَمْ يَجِدْ طَعْمَ اللَّحْمِ.

حَلَفَ لَا يَشْرَبُ حَرَامًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَقَاءَ وَشَرِبَ قَيْأَهُ لَا يَحْنَثُ.

قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ سَقَيْت الْحِمَارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَذَهَبَ بِهِ فَسَقَاهُ فَلَمْ يَشْرَبْ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ سَقَاهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ.

حَلَفَ لَا يَشْرَبُ عَصِيرًا فَعُصِرَ عُنْقُودٌ فِي حَلْقِهِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ عَصَرَهُ فِي كَفِّهِ فَحَسَاهُ حَنِثَ، أَمَّا لَوْ قَالَ: لَا يَدْخُلُ حَلْقِي حَنِثَ فِيهِمَا. وَفِي الْفَتَاوَى: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، أَمَّا عُرْفُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ حَانِثًا؛ لِأَنَّ مَاءَ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى عَصِيرًا فِي أَوَّلِ مَا يُعْصَرُ.

حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَا تَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهِيَ فِيهَا وَبَابُهَا مُغْلَقٌ وَلِلدَّارِ حَافِظٌ فَهِيَ مَعْذُورَةٌ حَتَّى يُفْتَحَ الْبَابُ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَسَوَّرَ الْحَائِطَ. قَالَ الْفَقِيهُ: وَبِهِ نَأْخُذُ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَقُيِّدَ وَمُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ.

وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ فِي بَيْتِ وَالِدِهَا: إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ فَمَنَعَهَا الْوَالِدُ مِنْ الْحُضُورِ مَنْعًا حِسِّيًّا حَنِثَ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: هَذَا فِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ، وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ عَدَمِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَجْعَلُ الْمَوْجُودَ مَعْدُومًا بِالْعُذْرِ كَالْإِكْرَاهِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُجْعَلُ الْمَعْدُومُ مَوْجُودًا وَإِنْ وُجِدَ الْعُذْرُ اهـ. يَعْنِي وَقَدْ أُكْرِهَتْ عَلَى السُّكْنَى وَهُوَ فِعْلٌ، وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِجَوَابِ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ فِيمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْيَوْمَ فَقُيِّدَ الْحَالِفُ وَمُنِعَ أَيَّامًا أَنَّهُ يَحْنَثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ سَكَنْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَ لَيْلًا فَهِيَ مَعْذُورَةٌ حَتَّى تُصْبِحَ. وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَهُوَ الصَّحِيحُ إلَّا لِخَوْفِ لِصٍّ وَغَيْرِهِ وَهَذَا مَا سَلَفَ الْوَعْدُ بِهِ.

قَالَ كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ وَلَهُ عَبْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يُعْتَقُ لِانْصِرَافِهِ إلَى التَّامِّ، وَمِثْلُهُ لَا آكُلُ مِمَّا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَاشْتَرَاهُ مَعَ آخَرَ فَصَارَ مُشْتَرَكًا لَا يَحْنَثُ لَوْ أَكَلَ مِنْهُ، وَيَعْتِقُ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا يَعْتِقُ عَبْدُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ عَبْدُهُ مُسْتَغْرِقًا كَسْبَهُ وَرَقَبَتَهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ نَوَى الْمَوْلَى عِتْقَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إنْ نَوَاهُ عَتَقَ وَإِلَّا فَلَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ نَوَاهُ عَتَقَ وَإِلَّا فَلَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَتَقُوا جَمِيعًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا.

قَالَ لِغَيْرِهِ وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ حَالِفٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ

ص: 207

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْمُخَاطَبُ حَنِثَ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِحْلَافَ فَهُوَ اسْتِحْلَافٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَفْعَلْ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَقْسَمْت أَوْ أَقْسَمْت بِاَللَّهِ عَلَيْك لَتَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ قَالَ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ عَلَيْك أَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَيْك فَالْحَالِفُ هُوَ الْمُبْتَدِئُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الِاسْتِفْهَامَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَلَوْ قَالَ: عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ إنْ فَعَلْت فَقَالَ: نَعَمْ فَالْحَالِفُ الْمُجِيبُ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَإِنْ نَوَاهُ.

اشْتَرَى مَنًّا مِنْ اللَّحْمِ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: هُوَ أَقَلُّ مِنْ مَنٍّ وَحَلَفَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ مَنًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يُطْبَخُ قَبْلَ أَنْ يُوزَنَ فَلَا يَحْنَثُ هُوَ وَلَا الْمَرْأَةُ.

حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ خُبْزِ خَتْنِهِ فَسَافَرَ الْخَتْنُ وَخَلَّفَ لِامْرَأَتِهِ دَقِيقًا نَفَقَةً فَأَكَلَ مِنْهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذَا إذَا لَمْ يُفْرِزْ قَدْرًا لَكِنْ قَالَ لَهَا: كُلِي مِنْ دَقِيقِي بِقَدْرِ مَا يَكْفِيكِ، أَمَّا إذَا أَفْرَزَ قَدْرًا مِنْ الدَّقِيقِ وَأَعْطَاهَا إيَّاهُ صَارَ مِلْكًا لَهَا فَلَا يَحْنَثُ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَفِي الْفَتَاوَى: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَتَنَاهَدَا فَأَكَلَ الْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آكِلٌ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي الْعُرْفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. قَالَ: قُلْت لِلْقَاضِي الْإِمَامِ: لَوْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ صَبِيًّا لَا يَجُوزُ هَذَا، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ آكِلًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، قَالَ: نَعَمْ اسْتَصْوَبَنِي وَلَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْخِلَافِ اهـ. وَأَقُولُ: الْفَرْقُ أَنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ لِأَكْلِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَنَاهِدَيْنِ مَالَ نَفْسِهِ عُرْفًا لَا حَقِيقَةَ، وَعَلَى الْعُرْفِ تَبْتَنِي الْأَيْمَانُ فَلَمْ يَحْنَثْ، وَعَدَمُ جَوَازِ التَّنَاهُدِ مَعَ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ آكِلٍ مَالَ نَفْسِهِ حَقِيقَةً بَلْ بَعْضُ مَالِ الصَّبِيِّ أَيْضًا. وَفِي الْخُلَاصَةِ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ خُبْزِ فُلَانٍ فَأَكَلَ خُبْزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ يَحْنَثُ. وَقَالَ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ حِصَّتَهُ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَمَاتَ فُلَانٌ وَهُوَ وَارِثُهُ فَأَكَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ أَوْ كَانَ فَأَكَلَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا يَحْنَثُ وَإِلَّا حَنِثَ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَغِيفًا لِفُلَانٍ فَأَكَلَ رَغِيفَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَحْنَثُ.

فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: وَكَذَا دَارٌ بَيْنَ أُخْتَيْنِ قَالَ زَوْجُ إحْدَاهُمَا إنْ دَخَلْت إلَّا فِي نَصِيبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ فَدَخَلَتْ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا مَا دَخَلَتْ فِي غَيْرِ نَصِيبِهَا.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا لِفُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يَحْنَثُ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَزْرَعُ أَرْضَ فُلَانٍ فَزَرَعَ أَرْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَرْضِ يُسَمَّى أَرْضًا وَنِصْفَ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِنْ حَبٍّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَنِثَ. وَلَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُشْتَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَبِيخِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِمَّا طَبَخَهُ مَعَ غَيْرِهِ حَنِثَ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ قِدْرِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِنْ قِدْرٍ طَبَخَهَا فُلَانٌ لَمْ يَحْنَثْ.

وَفِي الْأَصْلِ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ مَعَ غَيْرِهِ حَنِثَ إلَّا إذَا نَوَى شِرَاءَهُ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ أَوْ يَمْلِكُهُ فَلَبِسَ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يَقَعُ عَلَى الْبَعْضِ. وَمِثْلُهُ لَا يَدْخُلُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ فَدَخَلَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ مَعَ غَيْرِهِ لَا يَحْنَثُ.

وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: امْرَأَةٌ وَهَبَتْ طَيْرًا فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا: إكراز نرددايكي تَوّ بحرم فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَهَبَتْ مِنْ آخَرَ فَأَكَلَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ. قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: وَعَلَى قِيَاسِ مَا يَأْتِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ. صُورَتُهَا فِي الْفَتَاوَى: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ ثَمَنِ غَزْلِ فُلَانَةَ فَبَاعَتْ غَزْلَهَا وَوَهَبَتْ الثَّمَنَ لِابْنِهَا ثُمَّ وَهَبَ الِابْنُ لِلْحَالِفِ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ. قَالَ وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْت الْيَوْمَ إلَّا رَغِيفًا أَوْ إنْ تَغَدَّيْت بِرَغِيفٍ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَكَلَ رَغِيفًا ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَهُ تَمْرًا أَوْ فَاكِهَةً حَنِثَ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْيَوْمَ إلَّا رَغِيفًا مَعَ الْخَلِّ أَوْ الزَّيْتِ أَوْ اللَّبَنِ لَا يَكُونُ حَانِثًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ

ص: 208

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تُجَانِسُ الرَّغِيفَ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ.

وَلَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْت الْيَوْمَ أَكْثَرَ مِنْ رَغِيفٍ فَهُوَ عَلَى الْخُبْزِ خَاصَّةً. وَفِي الْفَتَاوَى: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْخَابِيَةَ الَّتِي فِيهَا الزَّيْتُ فَأَكَلَ بَعْضَهَا حَنِثَ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَكْلِ بَيْعٌ فَبَاعَ النِّصْفَ لَا يَحْنَثُ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْبَيْضَةَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَأْكُلَ كُلَّهَا وَكَذَا فِي الْبَيْضَتَيْنِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الشَّيْءَ كَالرَّغِيفِ مَثَلًا فَأَكَلَ بَعْضَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: إنْ كَانَ شَيْئًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَهُ كُلَّهُ فِي مَرَّةٍ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا أَكَلَ بَعْضَ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ فِي مَجْلِسِهِ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ يَشْرَبُهُ فِي شَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْحَلِفُ عَلَى جَمِيعِهِ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ، لَكِنْ فِي الْفَتَاوَى لِلْقَاضِي: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ وَبَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ يَحْنَثُ، فَإِنْ نَوَى كُلَّهُ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَلْ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِيهِ رِوَايَتَانِ اهـ. وَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا قَلِيلًا جِدًّا بِحَيْثُ لَا يُقَالُ إلَّا أَنَّ فُلَانًا أَكَلَ جَمِيعَ الرَّغِيفِ لِقِلَّةِ الْمَتْرُوكِ وَإِلَّا فَقَدْ سَمِعْت مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَنَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْبَعْضِ. وَتَقَدَّمَ مِنْ النُّصُوصِ لَوْ قَالَ: هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَنِثَ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ مِنْهُ. قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: قَالَ مَشَايِخُنَا: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْبَعْضِ.

قَالَ إبْرَاهِيمُ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِيمَنْ قَالَ كُلَّمَا أَكَلْت اللَّحْمَ أَوْ كُلَّمَا شَرِبْت الْمَاءَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَأَكَلَ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ مِنْ اللَّحْمِ فِي كُلِّ نَفَسٍ مِنْ الْمَاءِ دِرْهَمٌ.

حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُمَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْحِنْثَ بِأَحَدِهِمَا فَيَحْنَثُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُمَا أَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ: اين دوكس سحون نكويم وَنَوَى وَاحِدًا لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ. قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُثَنَّى يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ، فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ يَصِحُّ اهـ. فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ فِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا حَنِثَ بِأَحَدِهِمَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا. وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ لَا يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا ثَلَاثَةً فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دَارِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْيَمِينِ الِامْتِنَاعُ عَنْ جَمِيعِ الْمَأْكُولَاتِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ جَمِيعَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، أَمَّا لَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا شَكَّ فِي تَنَاوُلِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ.

حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ مِنْ امْرَأَتِهِ مِنْ جَنَابَةٍ فَجَامَعَهَا ثُمَّ جَامَعَ أُخْرَى أَوْ عَلَى الْعَكْسِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى الْجِمَاعِ كِنَايَةً. وَلَوْ نَوَى حَقِيقَةَ الْغُسْلِ حَنِثَ أَيْضًا إذَا اغْتَسَلَ؛ لِأَنَّهُ اغْتَسَلَ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فَيَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الرُّعَافِ وَغَيْرِهِ حَنِثَ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحِلُّ تِكَّتَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُجَامِعُ صَحَّ وَهُوَ مُولٍ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ إنْ فَتَحَ سَرَاوِيلَهُ لِلْبَوْلِ ثُمَّ جَامَعَهَا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ فَتْحَ سَرَاوِيلِهِ عَلَيْهَا أَنْ يَفْتَحَ لِأَجْلِ جِمَاعِهَا، وَإِنْ فَتَحَهُ لِجِمَاعِهَا وَلَمْ يُجَامِعْ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَانِثًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحِلُّ تِكَّتَهُ فِي الْغُرْبَةِ فَجَامَعَ مِنْ غَيْرِ حَلِّ التِّكَّةِ إنْ نَوَى عَيْنَ حَلِّهَا لَا يَحْنَثُ وَصُدِّقَ قَضَاءً، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَحْنَثُ وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُهُ: إنْ اغْتَسَلْت مِنْ الْحَرَامِ فَعَانَقَ أَجْنَبِيَّةً فَأَنْزَلَ قَالُوا: يُرْجَى أَنْ لَا يَكُونَ حَانِثًا وَيَكُونَ يَمِينُهُ عَلَى الْجِمَاعِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ حَلَفَتْ لَا تَغْسِلُ رَأْسَهَا مِنْ جَنَابَةِ زَوْجِهَا فَجَامَعَهَا مُكْرَهَةً قَالَ الصَّفَّارُ:

ص: 209

‌كِتَابُ الْحُدُودِ

أَرْجُو أَنْ لَا تَحْنَثَ. فَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: لِأَنَّ قَوْلَهَا كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ، فَإِذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً عَلَيْهِ لَا تَحْنَثْ. وَلَوْ قَالَ لَهَا عِنْدَ إرَادَتِهِ الْجِمَاعَ: إنْ لَمْ تُمَكِّنِينِي أَوْ لَمْ تَدْخُلِي مَعِي فِي الْبَيْتِ فَلَمْ تَفْعَلْ أَوْ فَعَلَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ إنْ كَانَ بَعْدَ سُكُونِ شَهْوَتِهِ حَنِثَ وَإِلَّا لَا

وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: حَلَفَ لَا يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فَجَامَعَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَحْنَثُ بِهِمَا.

وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ فَعَلْت حَرَامًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَهَذَا عَلَى الْجِمَاعِ، فَإِنْ عَلِمَتْهُ بِأَنَّ فِعْلَهُ بِمُعَايَنَتِهَا بِتَدَاخُلِ الْفَرْجَيْنِ وَتَعْرِفُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَلَا زَوْجَةً أَوْ شَهِدَ عِنْدَهَا أَرْبَعَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى الزِّنَا وَالزِّنَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِذَلِكَ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهَا كَفَى مَرَّةً لَا يَسَعُهَا الْمُقَامُ مَعَهُ، فَإِنْ جَحَدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ فَعَلَ وَلَيْسَ لِامْرَأَتِهِ بَيِّنَةٌ حَلَّفَتْهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِنْ حَلَفَ وَسِعَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ. قُلْت: فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُقَيِّدُ مَسْأَلَةَ مَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقِينًا ثُمَّ أَنْكَرَ فَإِنَّهَا لَا تُمَكِّنُهُ أَبَدًا، وَإِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ مَنْعَهُ عَنْهَا لَهَا أَنْ تَسُمَّهُ.

وَلَوْ قَالَ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: اكرتو باكسي حرام كِنْهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبَانَهَا فَجَامَعَهَا فِي الْعِدَّةِ طَلُقَتْ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ عُمُومَ اللَّفْظِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ الْغَرَضَ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ لَا يَحْنَثُ فَلَا تَطْلُقُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا.

وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ إنْ فَعَلْت فَلَمْ أَفْعَلْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ يَفْعَلْ عَلَى فَوْرِ فِعْلِهِ حَنِثَ.

حَلَفَ لَا يَعْرِفُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ شَخْصَهُ وَنَسَبَهُ وَلَا يَعْرِفُ اسْمَهُ، فَفِي الْبَالِغِ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْبَالِغِ كَذَلِكَ، وَيَحْنَثُ فِي الصَّغِيرِ، وَعَلَيْهِ فُرِّعَ مَا لَوْ وُلِدَ لِرَجُلٍ وَلَدٌ فَأَخْرَجَهُ إلَى جَارٍ لَهُ وَلَمْ يُسَمِّهِ بَعْدُ فَرَآهُ الْجَارُ ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الصَّبِيَّ يَحْنَثُ.

وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَدَخَلَ بِهَا وَلَا يَدْرِي اسْمَهَا فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ دُونَ اسْمِهِ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ مَعْرِفَةَ وَجْهِهِ فَيَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ مَا دَامَ فُلَانٌ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ فَخَرَجَ فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ فُلَانٌ فَفَعَلَهُ ثَانِيًا لَا يَحْنَثُ.

حَلَفَ لَا أَتْرُكُ فُلَانًا يَفْعَلُ كَذَا كَلَا يَمُرُّ أَوْ لَا يَذْهَبُ مِنْ هُنَا أَوْ لَا يَدْخُلُ يَبَرُّ بِقَوْلِهِ لَهُ لَا تَفْعَلْ لَا تَخْرُجْ لَا تَمُرَّ أَطَاعَهُ أَوْ عَصَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

(كِتَابُ الْحُدُودِ) لَمَّا اشْتَمَلَتْ الْأَيْمَانُ عَلَى بَيَانِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ أَوَّلَاهَا الْحُدُودَ الَّتِي هِيَ عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ انْدِفَاعًا إلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ بِتَدْرِيجٍ، وَلَوْلَا مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ لُزُومِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ لَكَانَ

ص: 210

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إيلَاءُ الْحُدُودِ الصَّوْمَ أَوْجَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ الْمُغَلَّبِ فِيهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ حَتَّى تَدَاخَلَتْ عَلَى مَا عُرِفَ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ الْمُغَلَّبِ فِيهَا جِهَةُ الْعِبَادَةِ، لَكِنْ كَانَ يَكُونُ التَّرْتِيبُ حِينَئِذٍ الصَّلَاةَ ثُمَّ الْأَيْمَانَ ثُمَّ الصَّوْمَ ثُمَّ الْحُدُودَ ثُمَّ الْحَجَّ، فَيَقَعُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ بِالْأَجْنَبِيِّ مَا يُبْعِدُ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَيُوجِبُ اسْتِعْمَالَ الشَّارِعِ لَهَا كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ قَالَ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ، ثُمَّ مَحَاسِنُ الْحُدُودِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ بِبَيَانٍ وَتُكْتَبُ بِبَيَانٍ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ وَغَيْرَهُ يَسْتَوِي فِي مَعْرِفَةِ أَنَّهَا لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسَادِ؛ فَفِي الزِّنَا ضَيَاعُ الذُّرِّيَّةِ وَإِمَاتَتُهَا مَعْنًى بِسَبَبِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ، وَلَا يَلْزَمُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تُهْمَةِ النَّاسِ الْبُرَآءِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِذَا نُدِبَ عُمُومُ النَّاسِ إلَى حُضُورِ حَدِّهِ وَرَجْمِهِ.

وَفِي بَاقِي الْحُدُودِ زَوَالُ الْعَقْلِ وَإِفْسَادُ الْأَعْرَاضِ وَأَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَقُبْحُ هَذِهِ الْأُمُورِ مَرْكُوزٌ فِي الْعُقُولِ وَلِذَا لَمْ تُبَحْ الْأَمْوَالُ وَالْأَعْرَاضُ وَالزِّنَا وَالسُّكْرُ فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ وَإِنْ أُبِيحَ الشُّرْبُ، وَحِينَ كَانَ فَسَادُ هَذِهِ الْأُمُورِ عَامًّا كَانَتْ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ مَانِعَةٌ مِنْهَا حُقُوقَ اللَّهِ عَلَى الْخُلُوصِ، فَإِنَّهَا حُقُوقُهُ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ أَبَدًا تُفِيدُ مَصَالِحَ عَامَّةً، وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ لِلِانْزِجَارِ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ؛ وَالْعِبَارَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ شَرْعِيَّتِهَا الزَّجْرُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الزَّجْرُ يُرَادُ لِلِانْزِجَارِ عَدَلَ الْمُصَنِّفُ إلَى قَوْلِهِ الِانْزِجَارَ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ بِأَصْلِيَّةٍ إلَى آخِرِهِ: أَيْ الطَّهَارَةُ مِنْ ذَنْبٍ بِسَبَبِ الْحَدِّ يُفِيدُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ أَيْضًا مِنْ شَرْعِيَّتِهَا لَكِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ الِانْزِجَارِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَعْمَلُ فِي سُقُوطِ إثْمٍ قَبْلَ سَبَبِهِ أَصْلًا، بَلْ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ، وَأَمَّا ذَلِكَ فَقَوْلُ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ «إنَّ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ذَلِكَ أَيْ التَّقْتِيلُ وَالصَّلْبُ وَالنَّفْيُ بِأَنَّ {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} فَأَخْبَرَ أَنَّ جَزَاءَ فِعْلِهِمْ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَعُقُوبَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ، إلَّا مَنْ تَابَ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ.

وَبِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا، وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى مَا إذَا تَابَ فِي الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ضَرْبَهُ أَوْ رَجْمَهُ يَكُونُ مَعَهُ تَوْبَةٌ مِنْهُ لِذَوْقِهِ مُسَبَّبَ فِعْلَهُ فَيُقَيَّدُ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَتَقْيِيدُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْقَطْعِيِّ لَهُ مُتَعَيِّنٌ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لِلطُّهْرَةِ فَأَدَّاهُ بِعِبَارَةٍ غَيْرِ جَيِّدَةٍ، وَلِذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِشَرْعِيَّتِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَلَا طُهْرَةَ فِي حَقِّهِ مِنْ الذَّنْبِ بِالْحَدِّ: يَعْنِي أَنَّ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ لَمْ تَرْتَفِعْ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ بَلْ بِالتَّوْبَةِ مَعَهُ إنْ وُجِدَ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِبَادَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.

وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحَدَّ بِمُجَرَّدِهِ يُسْقِطُ إثْمَ ذَلِكَ السَّبَبِ الْخَاصِّ الَّذِي حُدَّ بِهِ، فَإِنْ قَالَ: إنَّ الْحَدَّ لَا يُسْقِطُ عَنْ الْكَافِرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ فِي ذَلِكَ إذْ السَّمْعُ إنَّمَا يُوجِبُ لُزُومَ عُقُوبَةِ الْكُفْرِ فِي حَقِّهِ لَا بِتَضَاعُفِ عَذَابِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْحَدَّ مُسْقِطًا لِعُقُوبَةِ مَعْصِيَةٍ صَارَ الْفَاعِلُ لَهَا إذَا حُدَّ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا لَمْ يَفْعَلْهَا فَلَا يُضَمُّ إلَى عَذَابِ الْكُفْرِ عَذَابُ تِلْكَ

ص: 211

قَالَ: الْحَدُّ لُغَةً: هُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ. وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ، وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ أَصْلِيَّةً فِيهِ بِدَلِيلِ شَرْعِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ.

الْمَعْصِيَةِ إذَا حُدَّ بِهَا الْكَافِرُ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الْحَدِّ مُسْقِطًا بِأَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ التَّكْفِيرِ بِمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْمَكَارِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ تَحْقِيقُ الْعِبَارَةِ مَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّهَا مَوَانِعُ قَبْلَ الْفِعْلِ زَوَاجِرُ بَعْدَهُ: أَيْ الْعِلْمُ بِشَرْعِيَّتِهَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِيقَاعُهَا بَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْعَوْدِ إلَيْهِ

(قَوْلُهُ الْحَدُّ لُغَةً الْمَنْعُ) وَعَلَيْهِ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:

إلَّا سُلَيْمَانَ إذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ

قُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنْ الْفَنَدِ

وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلَامُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَعْلَمُ فِي شَرْحِ دِيوَانِهِ، وَكُلُّ مَانِعِ شَيْءٍ فَهُوَ حَادٌّ لَهُ، وَحَدَّادٌ إذَا صِيغَ لِلْمُبَالَغَةِ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَوَّابِ لِمَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ وَالسَّجَّانُ حَدَّادٌ لِمَنْعِهِ مِنْ الْخُرُوجِ بِلَا شَكٍّ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ لَا يُفِيدُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

يَقُولُ لِي الْحَدَّادُ وَهُوَ يَقُودُنِي

إلَى السِّجْنِ لَا تَجْزَعْ فَمَا بِك مِنْ بَاسِ

فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْقَائِلِ الَّذِي كَانَ يَقُودُهُ هُوَ السَّجَّانَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُوصِلُهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ حَدَّادٌ لَهُ إذْ يَمْنَعُهُ مِنْ الذَّهَابِ إلَى حَالِ سَبِيلِهِ، وَلِلْخَمَّارِ حَدَّادٌ لِمَنْعِهِ الْخَمْرَ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:

فَقُمْنَا وَلَمَّا يَصِحْ دِيكُنَا

إلَى جَوْنَةٍ عِنْدَ حَدَّادِهَا

وَسَمَّى أَهْلُ الِاصْطِلَاحِ الْمُعَرِّفَ لِلْمَاهِيَّةِ حَدًّا لِمَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَحُدُودُ الدَّارِ نِهَايَاتُهَا لِمَنْعِهَا عَنْ دُخُولِ مِلْكِ الْغَيْرِ فِيهَا وَخُرُوجِ بَعْضِهَا إلَيْهِ.

وَفِي الشَّرْعِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ، فَلَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ نَوْعٌ مِنْهُ وَهُوَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ لَكِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي الضَّرْبِ بَلْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنْ حَبْسٍ وَعَرْكِ أُذُنٍ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْمَشْهُورُ.

وَفِي اصْطِلَاحٍ آخَرَ لَا يُؤْخَذُ الْقَيْدُ الْأَخِيرُ فَيُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا، فَالْحَدُّ هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ شَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الْحَدَّ عَلَى هَذَا قِسْمَانِ: مَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ، وَمَا لَا يَقْبَلُهُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ الْحَدُّ مُطْلَقًا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَعَلَيْهِ ابْتَنَى عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِيهِ فَإِنَّهَا طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَلِذَا أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالَ «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَأَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْإِمَامِ وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّام وَقَالَ: إذَا بَلَغَ إلَى الْإِمَامِ فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ إنْ عَفَا، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، فَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ

ص: 212

قَالَ (الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ لِأَنَّ الصِّدْقَ فِيهِ مُرَجَّحٌ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِهِ مَضَرَّةٌ وَمَعَرَّةٌ، وَالْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مُتَعَذِّرٌ، فَيُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ.

بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ بَلْ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُ

(قَوْلُهُ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) ابْتَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا لِكَثْرَةِ وُقُوعِ سَبَبِهِ مَعَ قَطْعِيَّتِهِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكْثُرُ كَثْرَتَهُ، وَالشُّرْبُ وَإِنْ كَثُرَ فَلَيْسَ حَدُّهُ بِتِلْكَ الْقَطِيعَةِ، وَالزِّنَا مَقْصُورٌ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} وَتُمَدُّ فِي لُغَةِ نَجْدٍ، وَعَلَيْهَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

أَبَا طَاهِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِنَاؤُهُ

وَمَنْ يَشْرَبْ الْخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسْكِرًا

بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِهَا مِنْ التَّسْكِيرِ، وَالْخُرْطُومُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، أَمَّا ثُبُوتُهُ فِي نَفْسِهِ فَبِإِيجَادِ الْإِنْسَانِ لِلْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ تَعْرِيفَ الزِّنَا فِي بَابِ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَهُنَاكَ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَخُصَّ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ لِنَفْيِ ثُبُوتِهِ بِعِلْمِ الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَا سَائِرُ الْحُدُودِ.

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَنَقَلَ قَوْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ دُونَ الْحَاصِلِ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ. قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ اعْتِبَارَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وَنُقِلَ فِيهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ تَعْلِيلٌ لِلْوَاقِعِ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ فَإِنَّهَا يَثْبُتُ بِهَا غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَحَاصِلُهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَطْعُ اكْتَفَى بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ فِي الْبَيِّنَةِ وَفِي الْإِقْرَارِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِسَبَبِ الْحَدِّ يَسْتَلْحِقُ مَضَرَّةً فِي الْبَدَنِ وَمَعَرَّةً فِي الْعَرْضِ تُوجِبُ نِكَايَةً فِي الْقَلْبِ فَلَمْ يَكُنْ

ص: 213

قَالَ (فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِالزِّنَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} «وَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِكَ» وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى السَّتْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَالْإِشَاعَةُ ضِدُّهُ

الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا مَعَ الصِّدْقِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْآخِرَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِسُقُوطِهِ بِالْحَدِّ إنْ لَمْ يَتُبْ وَقَصْدًا إلَى تَحْقِيقِ النِّكَايَةِ لِنَفْسِهِ إذْ وَرْطَتُهُ فِي أَسْبَابِ سُخْطِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَنَالَ دَرَجَةَ أَهْلِ الْعَزْمِ

(قَوْلُهُ فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ) لَيْسَ فِيهِمْ امْرَأَةٌ (عَلَى رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِالزِّنَا)، وَيَجُوزُ كَوْنُ الزَّوْجِ مِنْهُمْ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقُولُ هُوَ مُتَّهَمٌ وَنَحْنُ نَقُولُ: التُّهْمَةُ مَا تُوجِبُ جَرَّ نَفْعٍ، وَالزَّوْجُ مُدْخِلٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لُحُوقَ الْعَارِ وَخُلُوَّ الْفِرَاشِ خُصُوصًا إذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الشُّهُودُ أَرْبَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا: يَعْنِي هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ «ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِكَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَلَمْ يُحْفَظْ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَاَلَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» نَعَمْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:«أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَرَفَعَتْهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَرْبَعَةَ شُهُودٍ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» وَالْمَسْأَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعَةِ قَطْعِيَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ حِكْمَةَ اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ تَحْقِيقُ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِنَفْيِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ حِكْمَتَهُ أَنَّ شَهَادَةَ الزِّنَا تَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ عَلَى اثْنَيْنِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ يَحْتَاجُ إلَى اثْنَيْنِ فَلَزِمَتْ الْأَرْبَعَةُ، أَمَّا إنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ مَعْنَى السَّتْرِ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَثُرَتْ شُرُوطُهُ قَلَّ وُجُودُهُ، فَإِنَّ وُجُودَهُ إذَا تَوَقَّفَ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَيْسَ كَوُجُودِهِ إذَا تَوَقَّفَ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ الِانْدِرَاءُ. وَأَمَّا إنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَلِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً» وَإِذَا كَانَ السَّتْرُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِهِ خِلَافَ الْأُولَى الَّتِي مَرْجِعُهَا إلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّهَا فِي رُتْبَةِ النَّدْبِ فِي جَانِبِ الْفِعْلِ وَكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فِي جَانِبِ التَّرْكِ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدْ الزِّنَا وَلَمْ يَتَهَتَّكْ بِهِ، أَمَّا إذَا وَصَلَ الْحَالُ إلَى إشَاعَتِهِ

ص: 214

(، وَإِذَا شَهِدُوا سَأَلَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَمَتَى زَنَى وَبِمَنْ زَنَى؟) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ،

وَالتَّهَتُّكِ بِهِ بَلْ بَعْضُهُمْ رُبَّمَا افْتَخَرَ بِهِ فَيَجِبُ كَوْنُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ إخْلَاءُ الْأَرْضِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ بِالْخِطَابَاتِ الْمُفِيدَةِ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ الْفَاعِلِينَ وَالزَّجْرِ لَهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ حَالُ الشَّرَهِ فِي الزِّنَا مَثَلًا وَالشُّرْبِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِهِ وَإِشَاعَتُهُ فَإِخْلَاءُ الْأَرْضِ الْمَطْلُوبِ حِينَئِذٍ بِالتَّوْبَةِ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ ظُهُورُ عَدَمِهَا مِمَّنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ تَحْقِيقُ السَّبَبِ الْآخَرِ لِلْإِخْلَاءِ وَهُوَ الْحُدُودُ، بِخِلَافِ مَنْ زَنَى مَرَّةً أَوْ مِرَارًا مُتَسَتِّرًا مُتَخَوِّفًا مُتَنَدِّمًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الشَّاهِدِ. «وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِهُزَالٍ فِي مَاعِزٍ لَوْ كُنْت سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ» الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي كَانَ فِي مِثْلِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

وَعَلَى هَذَا ذِكْرُهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ فِيهِ يَحْرُمُ مِنْهُ مَا يَحْرُمُ مِنْهَا وَيَحِلُّ مِنْهُ مَا يَحِلُّ مِنْهَا. وَأَمَّا إنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْحِكْمَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلِأَنَّ شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ كَمَا تَكُونُ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً عَلَى أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةَ قَتَلُوا فُلَانًا وَنَحْوَهُ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا سَأَلَهُمْ الْحَاكِمُ) عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ (عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَمَتَى زَنَى وَبِمَنْ زَنَى) ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ الْمَطْلُوبَ شَرْعًا فِي ذَلِكَ فَهَذَا الْوَجْهُ يَعُمُّ الْخَمْسَةَ، وَالسَّمْعِيُّ مُقْتَصِرٌ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا.

فَحَاصِلُهُ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا بِدَلِيلَيْنِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ فِي اسْتِفْسَارِ الشُّهُودِ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِاسْتِفْسَارِ الْمُقِرِّ وَهُوَ مَاعِزٌ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ عِلَّةَ اسْتِفْسَارِهِ بِعَيْنِهِمَا ثَابِتَةٌ فِي الشُّهُودِ كَمَا سَتُسْمَعُ فَوَجَبَ اسْتِفْسَارُهُمْ. أَمَّا إنَّهُ اسْتَفْسَرَهُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ فَفِيمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ، فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ فَقَالَ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا، قَالَ نَعَمْ؟ قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَكَمَا يَغِيبُ الرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ حَلَالًا، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اُنْظُرْ إلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَقَالَا: نَحْنُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ، فَقَالَا: وَمَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عَرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ الْأَكْلِ مِنْهُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا»

وَأَمَّا اسْتِفْسَارُهُ عَنْ الْمُزَنِيَّةِ فَفِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هُزَالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ فِي حِجْرِ أَبِي فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنْ:

ص: 215

وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ عَسَاهُ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْفَرْجِ عَنَاهُ أَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ لَا يَعْرِفُهَا هُوَ وَلَا الشُّهُودُ

الْحَيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعَادَ حَتَّى قَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَبِمَنْ؟ قَالَ بِفُلَانَةَ قَالَ: هَلْ ضَاجَعْتَهَا؛ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: هَلْ بَاشَرْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ جَامَعْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ، فَأُخْرِجَ إلَى الْحَرَّةِ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ فَنَزَعَ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فَقَالَ فِيهِ «فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ فَرُجِمَ، فَلَمْ يُقْتَلْ حَتَّى رَمَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِلَحْيِ بَعِيرِهِ فَأَصَابَ رَأْسَهُ فَقَتَلَهُ» وَأَمَّا إنَّ فِي الِاسْتِفْسَارِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الِاحْتِيَاطَ فَمَا قَالَ: لِأَنَّهُ عَسَاهُ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْفَرْجِ عَنَاهُ بِأَنْ ظَنَّ مُمَاسَّةَ الْفَرْجَيْنِ حَرَامًا زِنًا، أَوْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ مُحَرَّمٍ زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَشْهَدُ بِالزِّنَا، فَلِهَذَا الِاحْتِمَالِ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ كَانَ مُكْرَهًا وَيَرَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ فَيَكُونُ مُخْتَارًا فِيهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَشْهَدُ بِهِ فَلِهَذَا سَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّتِهِ.

وَفِي التَّحْقِيقِ هُوَ حَالَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالزَّانِي نَفْسِهِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ عِنْدَنَا فَلِهَذَا سَأَلَهُمْ أَيْنَ زَنَى، وَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ فِي زَمَانٍ مُتَقَادِمٍ وَلَا حَدَّ فِيهِ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ فِي زَمَنِ صِبَاهُ فَلِهَذَا سَأَلَهُمْ مَتَى زَنَى، وَحَدُّ التَّقَادُمِ سَيَأْتِي، ثُمَّ يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْمُزْنَى بِهَا مِمَّنْ لَا يُحَدُّ بِزِنَاهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَجَارِيَةِ ابْنِهِ أَوْ كَانَتْ جَارِيَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ وَلَا يَعْلَمُهَا الشُّهُودُ كَمَا قَالَ الْمُغِيرَةُ حِينَ شُهِدَ عَلَيْهِ كَيْفَ حَلَّ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي بَيْتِي وَكَانَتْ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمْ كُوَّةٌ يَبْدُو مِنْهَا لِلنَّاظِرِ مَا فِي بَيْتِ الْمُغِيرَةِ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَشَهِدُوا، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: وَاَللَّهِ مَا أَتَيْت إلَّا امْرَأَتِي، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَرَأَهُ عَنْهُ بِعَدَمِ قَوْلِ زِيَادٍ وَهُوَ الرَّابِعُ رَأَيْته كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ فَحَدَّ عُمَرُ رضي الله عنه الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يَحُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَ إلَيْهِ الزِّنَا، بَلْ قَالَ رَأَيْت قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً وَلَحَافًا يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ يَتُوبُوا فَتَابَ اثْنَانِ فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَتُوبَ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ لَا تُقْبَلُ حَتَّى مَاتَ وَعَادَ مِثْلَ الْعُضْوِ مِنْ الْعِبَادَةِ اهـ. فَلِهَذَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ الْمُزْنَى بِهَا مَنْ هِيَ، وَقِيَاسُهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى زِنَا امْرَأَةٍ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ الزَّانِي بِهَا مَنْ هُوَ، فَإِنَّ فِيهِ أَيْضًا الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ وَزِيَادَةً، وَهُوَ جَوَازُ كَوْنِهِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا إنْ مَكَّنَتْ أَحَدَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَدٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَوْ سَأَلَهُمْ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُمَا زَنَيَا لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزِّنَا وَلَمْ يَثْبُتْ قَذْفُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا مَا يَنْفِي كَوْنَ مَا ذَكَرُوهُ زِنًا لِيَظْهَرَ قَذْفُهُمْ لِغَيْرِ الزَّانِي بِالزِّنَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَفُوهُ

ص: 216

كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَسْتَقْصِي فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ (فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ) وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْحُدُودِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، «قَالَ عليه الصلاة والسلام ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَتَعْدِيلُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ نُبَيِّنُهُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ فِي الْأَصْلِ: يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلِاتِّهَامِ بِالْجِنَايَةِ

بِغَيْرِ صِفَتِهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ فُسَّاقٌ بِالزِّنَا لَا يُقْضَى بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا يُحَدُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُقْبَلُونَ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَأَبَى الرَّابِعُ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا قَذْفٌ، لَكِنْ عِنْدَ تَمَامِ الْحُجَّةِ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، فَلَمَّا لَمْ يَتِمَّ بِامْتِنَاعِهِ بَقِيَ كَلَامُ الثَّلَاثَةِ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ، وَلَوْ شَهِدُوا فَسَأَلَهُمْ فَبَيَّنَ ثَلَاثَةٌ وَلَمْ يَزِدْ وَاحِدٌ عَلَى الزِّنَا لَا يُحَدُّ، وَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الرَّابِعَ لَوْ قَالَ: إنَّهُ زَانٍ فَسُئِلَ عَنْ صِفَتِهِ فَلَمْ يَصِفْهُ أَنَّهُ يُحَدُّ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ لِلْقَاضِي فِي مَجْلِسٍ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ الثَّلَاثَةُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ) وَهِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْحَاءِ، وَهُوَ حَاصِلُ جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الزِّنَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ، بِأَنْ يَبْعَثَ وَرَقَةً فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ مَحَلَّتِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَيَّزُ كُلٌّ مِنْهُمْ لِمَنْ يَعْرِفُهُ فَيَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ هُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، وَالْعَلَانِيَةُ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ فَيَقُولَ هَذَا هُوَ الَّذِي عَدَّلْته حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَهُوَ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ حَدِّهِ، وَهَذَا مَا وَعَدَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَهُ فِي الشَّهَادَاتِ، وَبَقِيَ شَرْطٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَنَقَلَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الزِّنَا إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْلِمًا لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ فِسْقٌ كَمَا اكْتَفَى بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَمْوَالِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ. وَلَمَّا كَانَ لُزُومُ هَذَا عَلَى الْحَاكِمِ مَوْقُوفًا عَلَى ثُبُوتِ إيجَابِ الدَّرْءِ مَا أَمْكَنَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ وَيَزِيدُ ضَعِيفٌ. وَأَسْنَدَ فِي عِلَلِهِ عَنْ الْبُخَارِيِّ يَزِيدُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ذَاهِبٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِهِ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَوْقُوفُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ دَرْءُ الْحَدِّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ أَقْوَى، وَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ ذِكْرًا لِمُسْتَنِدِ الْإِجْمَاعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يُغْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْحَاصِلِ لَهُ مِنْ تَعْدِيلِ الْمُزَكَّى، وَلَوْلَا مَا ثَبَتَ مِنْ إهْدَارِ الشَّرْعِ عِلْمُهُ بِالزِّنَا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ بِالسَّمْعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَكَانَ يَحُدُّهُ بِعِلْمِهِ، لَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ هُنَاكَ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ إهْدَارُ عِلْمِهِ بِعَدَالَتِهِمْ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ (قَوْلُهُ قَالَ فِي الْأَصْلِ) أَيْ قَالَ إذَا وَصَفَ الشُّهُودُ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ يَحْبِسُ الْقَاضِي الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا

ص: 217

وَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ، بِخِلَافِ الدُّيُونِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَسَيَأْتِيك الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ، كَمَا أَقَرَّ رَدَّهُ الْقَاضِي) فَاشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ. وَاشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ مَذْهَبُنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكْتَفِي بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ، وَتَكْرَارُ الْإِقْرَارِ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الظُّهُورِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ. وَلَنَا حَدِيثُ مَاعِزٍ «فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَخَّرَ الْإِقَامَةَ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ» فَلَوْ ظَهَرَ بِمَا دُونَهَا لَمَا أَخَّرَهَا

إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ وَقَدْ يَهْرُبُ، وَلَا وَجْهَ لِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ وَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ. أَجَابَ بِأَنَّ حَبْسَهُ لَيْسَ لِلِاحْتِيَاطِ بَلْ هُوَ تَعْزِيرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالْفَوَاحِشِ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ بَعْدُ، وَحَبْسُ الْمُتَّهَمِينَ تَعْزِيرًا لَهُمْ جَائِزٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا بِالدَّيْنِ لَا يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ أَقْصَى الْعُقُوبَاتِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَالْقَضَاءِ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ الْحَبْسُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ، بِخِلَافِ مَا هُنَا فَإِنَّ بَعْدَ الثُّبُوتِ عُقُوبَتَهُ أَغْلَظُ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ الَّذِي وَعَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَسَيَأْتِيك الْفَرْقُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ حَبَسَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ «ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:«أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي غِفَارٍ حَتَّى نَزَلَا بِضَجِنَانَ مِنْ مِيَاهِ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُمَا نَاسٌ مِنْ غَطَفَانَ مَعَهُمْ ظَهْرٌ لَهُمْ، فَأَصْبَحَ الْغَطَفَانِيُّونَ وَقَدْ فَقَدُوا بَعِيرَيْنِ مِنْ إبِلِهِمْ وَاتَّهَمُوا الْغِفَارِيَّيْنِ، فَأَتَوْا بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَبَسَ أَحَدَ الْغِفَارِيَّيْنِ وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ فَلَمْ يَكُ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ بِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَحَدِ الْغِفَارِيَّيْنِ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام: وَلَكَ وَقَتَلَكَ فِي سَبِيلِهِ، فَقَالَ: فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ»

(قَوْلُهُ وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) قَدَّمَ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَا أَقْوَى حَتَّى لَا يَنْدَفِعَ الْحَدُّ بِالْفِرَارِ وَلَا بِالتَّقَادُمِ، وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْإِقْرَارُ قَاصِرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا وَلَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ، وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ أَقَرَّ الْأَخْرَسُ بِالزِّنَا بِكِتَابَةٍ أَوْ إشَارَةٍ لَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ بِعَدَمِ الصَّرَاحَةِ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَدَّعِيَ شُبْهَةً كَمَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى مَجْنُونٍ أَنَّهُ زَنَى فِي حَالِ إفَاقَتِهِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى صَحَّ إقْرَارُهُ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ فَظَهَرَ مَجْبُوبًا أَوْ أَقَرَّتْ فَظَهَرَتْ رَتْقَاءَ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُخْبِرَ النِّسَاءَ بِأَنَّهَا رَتْقَاءُ قَبْلَ الْحَدِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إخْبَارَهُنَّ بِالرَّتْقِ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَبِالشُّبْهَةِ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِخَرْسَاءَ أَوْ أَقَرَّتْ أَنَّهَا زَنَتْ بِأَخْرَسَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ تَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ فَنَفَاهُ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْعَسِيفِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: «وَاغْدُ

ص: 218

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَلَمْ يَقُلْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمْ تُقِرَّ أَرْبَعًا وَإِنَّمَا رَدَّ مَاعِزًا؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ لَهُ أَبِك جُنُونٌ.

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ. وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ، فَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَنَفَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ، وَاكْتَفَوْا بِالْأَرْبَعِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.

وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرٌ فِيهِ وَهُوَ مَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى بَيَّنَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ» فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ لَكِنْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إفَادَةِ أَنَّهَا فِي مَجَالِسَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ مِنْ الْغَدِ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ هَلْ تَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا؟

ص: 219

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَقَالُوا مَا نَعْلَمُهُ إلَّا وَفِي الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً فَرَجَمَهُ»

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ «أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ مَرَّةً فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ الثَّانِيَةَ فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ الثَّالِثَةَ فَرَدَّهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إنْ اعْتَرَفْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ، قَالَ: فَاعْتَرَفَ الرَّابِعَةَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» فَصَرَّحَ بِتَعْدَادِ الْمَجِيءِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ غَيْبَتَهُ، وَنَحْنُ إنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ إذَا تَغَيَّبَ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ مَجْلِسٌ آخَرُ.

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ الْأَبْعَدَ زَنَى، فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ وَمَا يُدْرِيكَ مَا الزِّنَا فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ وَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ وَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ وَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَدْخَلْتَ وَأَخْرَجْتَ؟ قَالَ نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ» فَهَذِهِ وَغَيْرُهَا مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ ظَاهِرٌ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَيْهَا وَأَنَّ قَوْلَهُ فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ مَعْدُودٌ مَعَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إقْرَارًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.

وَقَوْلُهُ حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَيْ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الْمُكْتَفِينَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَأَمَّا كَوْنُ الْغَامِدِيَّةِ لَمْ تُقِرَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَمْنُوعٌ، بَلْ أَقَرَّتْ أَرْبَعًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ أَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ «قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَمْ يَطْلُبْهُمَا، وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بَعْدَ الرَّابِعَةِ». فَهَذَا نَصٌّ فِي إقْرَارِهَا أَرْبَعًا، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ تَفَاصِيلَهَا، وَالرُّوَاةُ كَثِيرًا مَا يَحْذِفُونَ بَعْضَ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى أَنَّهُ رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ سُلَيْمٍ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ «أَنَّهَا أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَهُوَ يَرُدُّهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي» الْحَدِيثَ غَيْرَ أَنَّهُ فِيهِ مَجْهُولًا تَتَمَيَّزُ جَهَالَتُهُ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ رَدَّ مَاعِزًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَانَ لِاسْتِرَابَتِهِ فِي عَقْلِهِ، فَإِنْ سَلِمَ لَا يَتَوَقَّفُ عِلْمُ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَالثَّلَاثَةُ مَوْضُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ جُعِلَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهَا لَا يُعْذَرُ الْمَغْبُونُ، وَالْمُرْتَدُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ ثَلَاثًا لِيُرَاجِعَ نَفْسَهُ فِي شُبْهَتِهِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَرْبَعَةُ عَدَدًا مُعْتَبَرًا فِي اعْتِبَارِ إقْرَارِهِ لَمْ يُؤَخَّرْ رَجْمُهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَرْتِيبُهُ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّتِهَا، وَكَذَا الصَّحَابَةُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ هُزَالٍ «إنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْتَ» وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ هُزَالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ فِي حِجْرِ أَبِي فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنْ الْحَيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ. وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ. قَالَ هِشَامٌ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِينَ رَآهُ: وَاَللَّهِ يَا هُزَالُ لَوْ كُنْت سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك مِمَّا صَنَعْت بِهِ» قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إسْنَادُهُ صَالِحٌ، وَيَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَأَبُوهُ نُعَيْمٌ ذُكِرَ فِي الثِّقَاتِ أَيْضًا وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ. وَقَدْ رَوَى تَرْتِيبَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَرْبَعِ جَمَاعَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ: فَمِنْهَا مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهَا فِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «إنَّك قَدْ شَهِدْت عَلَى نَفْسِك

ص: 220

لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ اخْتَصَّتْ فِيهِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَكَذَا الْإِقْرَارُ إعْظَامًا لِأَمْرِ الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا،

أَرْبَعَ مَرَّاتٍ»

وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ «أَلَيْسَ إنَّك قَدْ قُلْتهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ» وَتَقَدَّمَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لَهُ بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم «إنْ اعْتَرَفْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك» إلَّا أَنَّ فِي إسْنَادِهِ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ، وَكَوْنُهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ رَدَّهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَمِنْ اخْتِصَارِ الرَّاوِي، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقَرَّ أَرْبَعًا. وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ «شَهِدْت عَلَى نَفْسِك» يُؤْنَسُ مِنْهُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَةِ، فَكَمَا أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا أَرْبَعًا عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ فِي غَيْرِهِ فَكَذَا يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِهِ إنْزَالًا لِكُلِّ إقْرَارٍ مَنْزِلَةَ شَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَكَانَ النَّظَرُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ، وَإِذَنْ فَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ «فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» مَعْنَاهُ الِاعْتِرَافُ الْمَعْهُودُ فِي الزِّنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ خَاصَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ، هَذَا وَنُقِلَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اسْتِفْسَارِ مَاعِزٍ أَنَّهُ رَجَمَهُ بَعْدَ الْخَامِسَةِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ عَدَّ آحَادَ الْأَقَارِيرِ فَإِنَّ فِيهَا إقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْجَمْعِ فَكَانَتْ خَمْسًا.

فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ كَوْنُ رَدِّهِ لِيَرْجِعَ. قُلْنَا: يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَهُ بِالرُّجُوعِ وَلَكِنْ فِي مَجْلِسِ الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ. وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ الْمُوجِبُ هُوَ الْأَوَّلَ لَلَقَّنَهُ بَعْدَهُ لَا أَنَّهُ يُطْلِقُهُ مُخْتَارًا فِي إطْلَاقِهِ لِيَذْهَبَ، وَقَدْ لَا يَرْجِعُ هَكَذَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَهَذَا لِمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِقَامَةَ مُخَاطَبٌ بِهَا الْإِمَامُ بِالنَّصِّ إذَا ثَبَتَ السَّبَبُ عِنْدَهُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ وَإِلَّا فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِيجَابِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَإِيجَابُ السَّبَبِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الرُّجُوعِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ جَوَازَ رَدِّهِ وَإِخْرَاجِهِ لِيَذْهَبَ وَيَرْجِعَ وَقَدْ لَا يَرْجِعُ بَلْ يَذْهَبُ إلَى حَالِ سَبِيلِهِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْإِقْرَارِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: إنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذَا الْحَقِّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا عَلَى الْإِمَامِ فَيَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ مُصِرًّا عَلَى إقْرَارِهِ غَيْرَ رَاجِعٍ عَنْهُ خُصُوصًا فِي زَمَنٍ لَمْ تُعْرَفْ فِيهِ تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلنَّاسِ بَعْدُ.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ «أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ قَالَتْ لَهُ عليه الصلاة والسلام: أَتُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْت مَاعِزًا؟ وَاَللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى مِنْ الزِّنَا» ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِأَحَدٍ بَلْ لَمَّا قَالَتْهُ قَالَ:«أَمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِصَبِيٍّ فِي خِرْقَةٍ فَقَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْته، قَالَ: فَاذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ قَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْته وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحَفَرَ لَهَا إلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْجُمُوهَا فَرَجَمُوهَا، فَنَقَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّهُ إيَّاهَا فَقَالَ: مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُ اعْتَبَرَ قَوْلَهَا فَلَمْ يَرُدَّهَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ رَدَّهَا وَغَيَّاهُ إلَى وِلَادَتِهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى فِطَامِهَا

ص: 221

وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ؛ فَعِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي. وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ، هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ.

قَالَ (فَإِذَا تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ) لِتَمَامِ الْحُجَّةِ، وَمَعْنَى السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ. وَقِيلَ لَوْ سَأَلَهُ جَازَ لِجَوَازِ أَنَّهُ زَنَى فِي صِبَاهُ

(فَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ)

لِاتِّفَاقِ الْحَالِ بِأَنْ تَثْبُتَ مَعَ ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّدِّ مُطْلَقًا سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي خُصُوصِ هَذَا الرَّدِّ، وَلَعَلَّهَا كُلَّمَا رَجَعَتْ إلَيْهِ يَصْدُرُ مِنْهَا مَا هُوَ إقْرَارٌ. إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي مَجْلِسِهَا شَيْءٌ مِمَّا هِيَ بِصَدَدِهِ، هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ إقْرَارَهَا كَانَ أَرْبَعًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلْمُتَفَرِّقَاتِ حَتَّى يُعَدَّ الْوَاقِعُ فِيهِ وَاحِدًا وَكَانَ الْمُقَامُ مَقَامَ الِاحْتِيَاطِ فِي الدَّرْءِ اُعْتُبِرَ فِي الْحُكْمِ بِتَعَدُّدِ الْأَقَارِيرِ بِعَدَدِ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ الْإِقْرَارُ وَبِهِ فَارِقُ الشَّهَادَةِ. فَإِنَّ الْأَرْبَعَ فِيهَا اُعْتُبِرَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، حَتَّى لَوْ جَاءُوا فِي مَجَالِسَ حُدُّوا؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ جَمَاعَةٍ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا وَاحِدًا، بِخِلَافِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ فَإِنَّهُ مِنْ وَاحِدٍ فَأَمْكَنَ فِيهِ اعْتِبَارُ الِاتِّحَادِ فِي اتِّحَادِ الْمَجَالِسِ فَاعْتُبِرَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ تَحْقِيقًا لِلِاحْتِيَاطِ.

وَأَمَّا مَا قِيلَ: إنَّ اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعِ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُتَّهَمُ بِخِلَافِ الْمُقِرِّ فَالتُّهْمَةُ بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَالصَّلَاحِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ لَا شَكَّ فِي الصِّدْقِ وَأَصْلِ التَّعَدُّدِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ حَتَّى لَزِمَ الِاثْنَانِ لِإِمْكَانِ النِّسْيَانِ فَيَذْكُرُهُ الْآخَرُ لَا لِلتُّهْمَةِ وَزَوَالِهَا بِالْآخَرِ، وَيُشْتَرَطُ فِي النِّسَاءِ كَذَلِكَ أَيْضًا بِالنَّصِّ، قَالَ تَعَالَى {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا تُخَالِطُ الْمَرْأَةَ لَا الرَّجُلَ الْأَجْنَبِيَّ فَلَزِمَتْ الْأُخْرَى لِتُذَكِّرَهَا (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ) لَا يُعْرَفُ بِهَذَا اللَّفْظِ.

وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ طُرِدَ وَأُخْرِجَ فَارْجِعْ إلَيْهِ

(قَوْلُهُ فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ) أَيْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَمَّنُ دَافِعًا لِلْحَدِّ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ فَلَا يَقُولُ مَتَى زَنَيْت، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لِتِلْكَ الْفَائِدَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّقَادُمُ مُسْقِطًا لَمْ يَكُنْ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ فَائِدَةٌ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ فِي ذَلِكَ سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ سُؤَالِ بِمَنْ زَنَيْت؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُبَيِّنُ مَنْ لَا يُحَدُّ بِوَطْئِهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي جَوَابِهِ: لَا أَعْرِفُ الَّتِي زَنَيْت بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُسْقِطُ كَوْنَ فِعْلِهِ زِنًا بَلْ تَضَمَّنَ إقْرَارُهُ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمُزَنِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَعَرَفَهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْهَلُ زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ.

ص: 222

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: لِأَنَّهُ وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ كَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ. بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لِوُجُودِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلَا كَذَلِكَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الشَّرْعِ

(وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ فَيَقُولَ لَهُ: لَعَلَّك لَمَسْت أَوْ قَبَّلْت)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِمَاعِزٍ لَعَلَّك لَمَسْتهَا أَوْ قَبَّلْتهَا» قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ الْإِمَامُ: لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا يُحَدُّ، وَكَذَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا «لِحَدِيثِ الْعَسِيفِ أَنَّهُ حَدَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَ: فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، وَلِأَنَّ انْتِظَارَ حُضُورِهَا إنَّمَا هُوَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَذْكُرَ مُسْقِطًا عَنْهُ وَعَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ كَمَا يُؤَخَّرُ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْجِعَ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَبِهِ لَا يَنْدَرِئُ الْحَدُّ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَكَذَّبَتْهُ وَقَالَتْ لَا أَعْرِفُهُ لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يُحَدُّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا زَنَتْ بِفُلَانٍ فَأَنْكَرَ فُلَانٌ تُحَدُّ هِيَ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ

(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْمَسْطُورُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ بَعْدَمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ سَقَطَ. وَعَنْ أَحْمَدَ كَقَوْلِنَا. وَعَنْ مَالِكٍ فِي قَبُولِ رُجُوعِهِ رِوَايَتَانِ، فَاسْتَغْنَيْنَا عَنْ تَحْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ. وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَقَوْلُهُ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ تَحْرِيرُ الْجَامِعِ فِيهِ أَنَّهُ إنْكَارٌ بَعْدَ الثُّبُوتِ، كَمَا لَوْ فَرَضَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ الْحَاكِمُ الْأَسْئِلَةَ الْخَمْسَةَ وَتَمَّتْ الْحُجَّةُ أَنْكَرَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَكَلَّفَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ مَحِلٌّ وَصِحَّتُهُ شَرْعًا حُكْمٌ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ رُجُوعًا عَنْ إقْرَارٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ لَيْسَ مُمْتَنِعًا فِي الشَّهَادَةِ. نَعَمْ فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ: يَعْنِي لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ لَا يُقْبَلُ، فَكَذَا لَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَا. وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ بِهِ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ السَّابِقِ عَلَيْهِ فَيَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ الْإِقْرَارِ السَّابِقِ فَافْهَمْ بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُكَذِّبُهُ فِي إخْبَارِهِ الثَّانِي فَيَنْعَدِمُ أَثَرُهُ فِي إخْبَارِهِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ

(قَوْلُهُ وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِمَاعِزٍ «لَعَلَّك لَمَسْتهَا» رُوِيَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ «لَعَلَّك مَسِسْتهَا لَعَلَّك قَبَّلْتهَا» وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ «لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت» وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُلَقِّنَهُ مَا يَكُونُ ذِكْرُهُ دَارِئًا لِلْحَدِّ لِيَذْكُرَهُ كَائِنًا مَا كَانَ كَمَا «قَالَ أَيْضًا عليه الصلاة والسلام لِلسَّارِقِ الَّذِي جِيءَ بِهِ إلَيْهِ أَسَرَقْت وَمَا إخَالُهُ سَرَقَ» .

ص: 223

‌فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَدِّ وَإِقَامَتِهِ

(وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا رَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَجَمَ مَاعِزًا وَقَدْ أَحْصَنَ» . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ»

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ إقَامَةِ الْحَدِّ) بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَدِّ تَكُونُ إقَامَتُهُ فَذَكَرَ كَيْفِيَّتَهُ (قَوْلُهُ وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا) هَذَا مِنْ الْأَحْرُفِ الَّتِي جَاءَ الْفَاعِلُ مِنْهَا عَلَى مُفْعَلٍ بِفَتْحٍ الْعَيْنِ، يَقُولُ أَحْصَنَ يُحْصِنُ فَهُوَ مُحْصَنٌ فِي أَلْفَاظٍ مَعْدُودَةٍ هِيَ أَسْهَبَ فَهُوَ مُسْهَبٌ إذَا طَالَ وَأَمْعَنَ فِي الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي خُطْبَةِ الْكِتَابِ مُعْرِضًا عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِسْهَابِ، وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: اُدْعُ اللَّهَ لَنَا، فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْهَبِينَ، بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَأَلْفَجَ بِالْفَاءِ وَالْجِيمِ: افْتَقَرَ فَهُوَ مُلْفَجٌ، الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ فِيهِ سِيَّانِ، وَيُقَالُ بِكَسْرِهَا أَيْضًا إذَا أَفْلَسَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ (قَوْلُهُ رَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ) عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْكَارُ الْخَوَارِجِ الرَّجْمَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَنْكَرُوا حُجِّيَّةَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَجَهْلٌ مُرَكَّبٌ بِالدَّلِيلِ بَلْ هُوَ إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ، وَإِنْ أَنْكَرُوا وُقُوعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِنْكَارِهِمْ حُجِّيَّةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَهُوَ بَعْدَ بُطْلَانِهِ بِالدَّلِيلِ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الرَّجْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاتِرُ الْمَعْنَى كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وُجُودِ حَاتِمٍ وَالْآحَادُ فِي تَفَاصِيلِ صُوَرِهِ وَخُصُوصِيَّاتِهِ. أَمَّا أَصْلُ الرَّجْمِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَلَقَدْ كُوشِفَ بِهِمْ عُمَرُ رضي الله عنه وَكَاشَفَ بِهِمْ حَيْثُ قَالَ: خَشِيت أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّهُ خَطَبَ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا مِنْ بَعْدِهِ. وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ فَيَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجَدُ الرَّجْمَ، الْحَدِيثَ.

وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ عُمَرَ زَادَ فِي الْكِتَابِ لَكَتَبْتهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: أَيْ الْمَشْهُورِ الْمَرْوِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ «عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الدَّارِ وَقَالَ: أُنْشِدُكُمْ بِاَللَّهِ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، وَارْتِدَادٌ بَعْدَ إسْلَامٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ فَعَلَامَ تَقْتُلُونِي» الْحَدِيثَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ

ص: 224

وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. قَالَ (وَيُخْرِجُهُ إلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ وَيَبْتَدِئُ الشُّهُودُ بِرَجْمِهِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَى الْأَدَاءِ ثُمَّ يَسْتَعْظِمُ الْمُبَاشَرَةَ فَيَرْجِعُ فَكَانَ فِي بُدَاءَتِهِ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُشْتَرَطُ بُدَاءَتُهُ اعْتِبَارًا بِالْجَلْدِ. قُلْنَا: كُلُّ أَحَدٍ لَا يُحْسِنُ الْجَلْدَ فَرُبَّمَا يَقَعُ مُهْلِكًا وَالْإِهْلَاكُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّجْمُ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ.

عَنْ عُثْمَانَ «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا مِنْ إحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ، وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارِمِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ «قَوْلِ أَبِي قِلَابَةَ حَيْثُ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا قَطُّ إلَّا فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، وَرَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ، وَرَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ». وَلَا شَكَّ فِي رَجْمِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْمُخَرِّجِ حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُرَادُ بِهِ الْمَتْنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاقِعٌ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ السَّنَدِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الشُّهْرَةَ وَقَطْعِيَّةَ الثُّبُوتِ بِالتَّظَافُرِ وَالْقَبُولِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إنْكَارَهُ إنْكَارُ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الْخَوَارِجَ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالْمُتَوَاتِرِ مَعْنًى أَوْ لَفْظًا كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّ انْحِرَافَهُمْ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِالصَّحَابَةِ وَالْمُسْلِمِينَ وَتَرْكَ التَّرَدُّدِ إلَى عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّوَاةِ أَوْقَعَهُمْ فِي جَهَالَاتٍ كَثِيرَةٍ لِخَفَاءِ السَّمْعِ عَنْهُمْ وَالشُّهْرَةِ، وَلِذَا حِينَ عَابُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَوْلَ بِالرَّجْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَلْزَمَهُمْ بِأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ، فَقَالُوا: ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَهَذَا أَيْضًا فَعَلَهُ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ

(قَوْلُهُ وَيُخْرِجُهُ إلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ)؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «قَالَ فَرَجَمْنَاهُ يَعْنِي مَاعِزًا بِالْمُصَلَّى» . وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد «فَانْطَلَقْنَا بِهِ إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ» ؛ لِأَنَّ الْمُصَلَّى كَانَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ فَيَتَّفِقُ الْحَدِيثَانِ.

وَأَمَّا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ قَوْلِهِ «فَأَمَرَ بِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَأُخْرِجَ إلَى الْحَرَّةِ فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ» فَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ عَلَى أَنَّهُ اُتُّبِعَ حِينَ هَرَبَ حَتَّى أُخْرِجَ إلَى الْحَرَّةِ وَإِلَّا فَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الصِّحَاحَ وَالْحِسَانَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ إلَيْهَا هَارِبًا لَا أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ إلَيْهَا ابْتِدَاءً لِيُرْجَمَ بِهَا، وَلِأَنَّ الرَّجْمَ بَيْنَ الْجُدَرَانِ يُوجِبُ ضَرَرًا مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضٍ لِلْمَضِيقِ (قَوْلُهُ وَيَبْتَدِئُ الشُّهُودُ بِرَجْمِهِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) وَهَذَا شَرْطٌ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ عَنْ الِابْتِدَاءِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يُحَدُّونَ هُمْ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ لَيْسَ صَرِيحًا فِي رُجُوعِهِمْ.

ص: 225

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَلَوْ كَانَ ظَاهِرًا فِيهِ فَفِيهِ احْتِمَالُ كَوْنِهِمْ تَضْعُفُ نُفُوسُهُمْ عَنْ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ كَمَا تَرَاهُ فِي الْمُشَاهَدِ مِنْ امْتِنَاعِ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ الْحَلَالِ لِلْأَكْلِ وَالْأُضْحِيَّةِ بَلْ وَمِنْ حُضُورِهَا، فَكَانَ امْتِنَاعُهُمْ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ شُبْهَةٌ فِي امْتِنَاعِ الْحَدِّ عَنْهُمْ. وَقِيلَ يُحْدَوُنَّ وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَيْسَ شَرْطًا اعْتِبَارًا بِالْجَلْدِ: يَعْنِي إذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِالشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنِ لَا يُشْتَرَطُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ ابْتِدَاءُ الشُّهُودِ. وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْجَلْدَ لَا يُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَقَدْ يَقَعُ لِعَدَمِ الْخِبْرَةِ مُهْلِكًا وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ، بِخِلَافِ الرَّجْمِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِهْلَاكُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ابْتِدَائِهِمْ بِالْجَلْدِ عَدَمُهُ فِي الرَّجْمِ، وَهَذَا دَفْعٌ لِإِلْحَاقِهِ.

وَأَمَّا إثْبَاتُ الْمَذْهَبِ فَبِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ مَعْنَاهُ لِيُحْمَلَ عَلَى السَّمَاعِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَهُ بِأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ رُبَّمَا يَتَسَاهَلُ فِي الْأَدَاءِ فَعِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ يَتَعَاظَمُ ذَلِكَ فَيَنْدَفِعُ الْحَدُّ بِتَحَقُّقِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ شُبْهَةُ الرُّجُوعِ حَقِيقَةً وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ فَاحْتِمَالُهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَبِهَا لَا يَنْدَرِئُ الْحَدُّ عَلَى مَا عُرِفَ وَسَيَأْتِي، إنَّمَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الِابْتِدَاءِ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي الرُّجُوعِ بَلْ يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا. فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ خَوْرُ الطِّبَاعِ عَنْ الْقَتْلِ حَتَّى يَمْتَنِعَ كَثِيرٌ عَنْ ذَبْحِ الْمُبَاحِ كَالْأُضْحِيَّةِ وَالدَّجَاجَةِ فَكَيْفَ بِالْأَعْلَى، فَالِامْتِنَاعُ عَنْ قَتْلِهِ لَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي الرُّجُوعِ، بَلْ ظَاهِرٌ فِيمَا هُوَ الْغَالِبُ وَهُوَ عَدَمُ قَتْلِ الْإِنْسَانِ فَكَانَ فِي الِامْتِنَاعِ شُبْهَةُ الرُّجُوعِ لَا دَلَالَتُهُ، وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّا لَمْ نَشْتَرِطْ الِابْتِدَاءَ بِقَتْلِهِ بَلْ بِرَمْيِهِ، حَتَّى لَوْ رَمَاهُ بِحَصَاةٍ صَغِيرَةٍ حَصَلَ الشَّرْطُ فَامْتِنَاعُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ دَلِيلُ رُجُوعِهِ، لَكِنَّهُ دَلِيلٌ فِيهِ شُبْهَةٌ فَإِنَّهُ أَمَارَةٌ لَا يُقْطَعُ بِوُجُودِ الْمَدْلُولِ مَعَهُ فَكَانَ ثُبُوتُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالرُّجُوعُ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةُ رُجُوعٍ بِخِلَافِ شُبْهَةِ الرُّجُوعِ وَاحْتِمَالِهِ. لَا يُقَالُ: احْتِمَالُ الرُّجُوعِ رُجُوعٌ وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ شُبْهَةٌ فِي الشَّهَادَةِ لَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ فِيهَا، وَحِينَ لَزِمَ كَوْنُ الثَّابِتِ بِالِامْتِنَاعِ رُجُوعًا فِيهِ شُبْهَةٌ كَانَ الثَّابِتُ قَذْفًا فِيهِ شُبْهَةٌ، بِخِلَافِ صَرِيحِ الرُّجُوعِ فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ قَذْفٌ بِلَا شُبْهَةٍ فَيُحَدُّ بِهِ هُنَاكَ وَلَا يُحَدُّ بِدَلَالَةِ الرُّجُوعِ إذَا لَمْ تَكُنْ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً يُوجَدُ مَعَهَا الْمَدْلُولُ قَطْعًا لِثُبُوتِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَذْفِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.

وَأَمَّا ثُبُوتُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ رحمه الله قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ عَلَى الزِّنَا أَمَرَ الشُّهُودَ أَنْ يَرْجُمُوا ثُمَّ يَرْجُمَ هُوَ ثُمَّ يَرْجُمَ النَّاسُ، فَإِذَا كَانَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ هُوَ فَرَجَمَ ثُمَّ رَجَمَ النَّاسُ بَعْدَهُ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَيُّهَا النَّاسِ إنَّ الزِّنَا زِنَاءَانِ زِنَا السِّرِّ، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ، فَزِنَا السِّرِّ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ فَيَكُونَ الشُّهُودُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ فَيَكُونَ الْإِمَامُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، قَالَ: وَفِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ فَأَصَابَ صُدْغَهَا فَاسْتَدَارَتْ وَرَمَى النَّاسُ بَعْدَهُ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «كَانَ لِشُرَاحَةَ زَوْجٌ غَائِبٌ بِالشَّامِ وَأَنَّهَا حَبِلَتْ، فَجَاءَ بِهَا مَوْلَاهَا إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ زَنَتْ، فَاعْتَرَفَتْ فَجَلَدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحَفَرَ لَهَا إلَى السُّرَّةِ وَأَنَا شَاهِدٌ، ثُمَّ قَالَ: الرَّجْمُ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ شَهِدَ عَلَى هَذِهِ أَحَدٌ لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي الشَّاهِدُ يَشْهَدُ ثُمَّ يُتْبِعُ شَهَادَتَهُ حَجَرَهُ، وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ فَأَنَا

ص: 226

(فَإِنْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ مِنْ الِابْتِدَاءِ سَقَطَ الْحَدُّ) لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ،

أَوَّلُ مَنْ يَرْمِيهَا فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ ثُمَّ رَمَاهَا النَّاسُ». وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْأَجْلَحِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، وَفِيهِ " أَنَّهُ قَالَ لَهَا: لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْك وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، قَالَتْ لَا، قَالَ: فَلَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَك، قَالَتْ لَا، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَحُبِسَتْ، فَلَمَّا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا أَخْرَجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ فَضَرَبَهَا مِائَةً وَحَفَرَ لَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّحْبَةِ وَأَحَاطَ النَّاسُ بِهَا " الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَيْضًا " أَنَّهُ صَفَّهُمْ ثَلَاثَ صُفُوفٍ ثُمَّ رَجَمَهَا ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَرَجَمَ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ ". وَأَوْرَدَ أَنَّ إثْبَاتَ اشْتِرَاطِ الْبُدَاءَةِ بِهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ بِمَا هُوَ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِصْلَاحُ الْإِيرَادِ أَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْقَطْعِيِّ الْمُطْلَقِ فَكَانَ كَتَقْيِيدِ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِهِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحُكْمَ الْقَطْعِيَّ هُنَا هُوَ مَجْمُوعُ وُجُوبِ الرَّجْمِ وَدَرْئِهِ بِالشُّبْهَةِ، فَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ عَلَى أَنَّ الْبُدَاءَةَ شَرْطٌ لَزِمَ أَنَّ عَدَمَهَا شُبْهَةٌ فَيَنْدَرِئُ بِهِ الْحَدُّ بِحُكْمِ الْقَطْعِ بِوُجُوبِ دَرْءِ هَذَا الْحُكْمِ الْقَطْعِيِّ بِالشُّبْهَةِ، وَمَوْتُ الشُّهُودِ مُسْقِطٌ أَوْ أَحَدِهِمْ، وَكَذَا إذَا غَابُوا أَوْ غَابَ أَحَدُهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بُدَاءَتَهُمْ مُسْتَحَبَّةٌ لَا مُسْتَحَقَّةٌ، فَإِذَا امْتَنَعُوا أَوْ غَابُوا أَوْ مَاتُوا يُقِيمُ الْحَدَّ، وَكَذَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِاعْتِرَاضِ مَا يَخْرُجُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، كَمَا لَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمْ أَوْ عَمِيَ أَوْ خَرِسَ أَوْ فَسَقَ أَوْ قَذَفَ فَحُدَّ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُحْصَنًا. وَفِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْمَوْتِ وَالْغَيْبَةِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ وَحَضَرُوا يَرْمِي الْقَاضِي، وَلَوْ قُطِعَتْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ امْتَنَعَتْ الْإِقَامَةُ. وَقَدْ يُقَالُ: إذَا كَانَ شَرْطًا فَفَوَاتُ الشَّرْطِ كَيْفَ كَانَ يَمْنَعُ الْمَشْرُوطَ. وَأَيْضًا عَجْزُهُمْ بِالضَّعِيفِ لَيْسَ فَوْقَ عَجْزِهِمْ بِالْمَوْتِ، إلَّا أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ فَرَّقَ بِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي لَمْ تَسْتَحِقَّ الْبُدَاءَةَ بِهِمْ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ اسْتَحَقَّتْ، فَإِذَا تَعَذَّرَ بِالْمَوْتِ أَوْ الْغَيْبَةِ صَارَ كَمَا لَوْ امْتَنَعُوا، وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِشَرْطِيَّتِهِ بِكَوْنِ الشُّهُودِ قَادِرِينَ عَلَى الرَّجْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُسْقِطَ

ص: 227

وَكَذَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ

(وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. «وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَامِدِيَّةَ بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ وَكَانَتْ قَدْ اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا»

(وَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي مَاعِزٍ اصْنَعُوا بِهِ كَمَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ» وَلِأَنَّهُ قُتِلَ بِحَقٍّ فَلَا يَسْقُطُ الْغُسْلُ كَالْمَقْتُولِ قِصَاصًا «وَصَلَّى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا رُجِمَتْ»

يَجْمَعُهَا. وَمِمَّا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ وَيُسْقِطُ الْحَدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ اعْتَرَفَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ عَنْ الْبَيِّنَةِ مَرَّةً يُسْقِطُهُ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّهَادَةِ عَدَمُ الْإِقْرَارِ فَفَاتَ الشَّرْطُ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي الْحُدُودِ فَكَانَ كَالْأَوَّلِ، وَخَالَفَ مُحَمَّدٌ رحمه الله

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا يَبْدَأُ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَوْلُهُ «وَرَمَى عليه الصلاة والسلام الْغَامِدِيَّةَ بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْت شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ فَحَفَرَ لَهَا إلَى السُّرَّةِ» ثُمَّ ذَكَرَ إسْنَادًا آخَرَ وَزَادَ «ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ ثُمَّ قَالَ: ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ، فَلَمَّا طَفَتْ أَخْرَجَهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ وَفِيهِ مَجْهُولٌ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ تَمَّ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاشْتِرَاطِ. فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ الْإِمَامُ لَا يَحِلُّ لِلْقَوْمِ رَجْمُهُ وَلَوْ أَمَرَهُمْ لِعِلْمِهِمْ بِفَوَاتِ شَرْطِ الرَّجْمِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِرَجْمِ مَاعِزٍ، فَإِنَّ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَحْضُرْهُ بَلْ رَجَمَهُ النَّاسُ عَنْ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ حَقِيقَةَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِابْتِدَاءِ اخْتِبَارًا لِثُبُوتِ دَلَالَةِ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ، وَأَنْ يَبْتَدِئَ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ لِيَنْكَشِفَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي أَمْرِ الْقَضَاءِ بِأَنْ لَمْ يَتَسَاهَلْ فِي بَعْضِ شُرُوطِ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ، فَإِذَا امْتَنَعَ حِينَئِذٍ ظَهَرَتْ أَمَارَةُ الرُّجُوعِ فَامْتَنَعَ الْحَدُّ لِظُهُورِ شُبْهَةِ تَقْصِيرِهِ فِي الْقَضَاءِ وَهِيَ دَارِئَةٌ فَكَأَنَّ الْبُدَاءَةَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ إذْ لَزِمَ عَنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لَا أَنَّهُ جَعَلَ شَرْطًا بِذَاتِهِ، وَهَذَا فِي حَقِّهِ عليه الصلاة والسلام مُنْتَفٍ فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ رَجْمِهِ دَلِيلًا عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ إذَا لَمْ يَبْدَأْهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ بَدَأَ الشُّهُودُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ يَجِبُ أَنْ يُثَنِّيَ الْإِمَامُ، فَلَوْ لَمْ يُثَنِّ الْإِمَامُ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِاتِّحَادِ الْمَأْخَذِ فِيهِمَا. قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ رَجَمَ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، وَلِأَنَّهُ تَيْسِيرٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا يَقْصِدُهُ وَيَكْتَفِي بِغَيْرِهِ فِيهِ

(قَوْلُهُ وَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَاعِزٍ «اصْنَعُوا بِهِ» الْحَدِيثَ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ قَالَ «لَمَّا رُجِمَ مَاعِزٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ مِنْ الْغُسْلِ

ص: 228

(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَكَانَ حُرًّا فَحَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَعْمُولًا بِهِ.

وَالْكَفَنِ وَالْحَنُوطِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ»

وَأَمَّا صَلَاتُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْغَامِدِيَّةِ فَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حُبْلَى مِنْ الزِّنَا فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، إلَى أَنْ قَالَ «فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وُجِدَتْ تَوْبَةٌ أَفْضَلُ مِنْ أَنَّهَا جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَمْرِ مَاعِزٍ «قَالَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ» قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: قِيلَ لِلْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ «وَصَلَّى عَلَيْهِ» قَالَهُ غَيْرُ مَعْمَرٍ؟ قَالَ لَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحُوهُ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَاعِزٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ» فَفِيهِ مَجَاهِيلُ فَإِنَّ فِيهِ عَنْ أَبِي بِشْرٍ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ. نَعَمْ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي مَاعِزٍ «وَقَالَ لَهُ خَيْرًا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ» مُعَارِضٌ صَرِيحٌ فِي صَلَاتِهِ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْمُثْبِتَ أَوْلَى مِنْ النَّافِي، لَكِنْ عَلَى أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ النَّفْيَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ يُسَاوِي الْإِثْبَاتَ وَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ بِغَيْرِهِ لَا يَنْتَهِضُ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّفْيَ وَهُوَ كَوْنُهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا شَهِدَ الصَّلَاةَ بِتَمَامِهَا يَعْلَمُ عَدَمَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام أَوْ صَلَاتَهُ فَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُ الْإِمَامِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا شَكَّ فِيهَا، فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ بِحَقٍّ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْمَقْتُولِ قِصَاصًا، بِخِلَافِ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يُغَسَّلُ لِيَكُونَ الْأَثَرُ شَاهِدًا لَهُ، وَالْإِظْهَارُ زِيَادَةُ تَشْرِيفِهِ بِقِيَامِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى مَاعِزٍ فَفِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ. وَالْغَامِدِيَّةُ مِنْ بَنِي غَامِدٍ حَيٌّ مِنْ الْأَزْدِ. قَالَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ. وَفِي كِتَابِ أَنْسَابِ الْعَرَبِ غَامِدٌ بَطْنٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَقَدْ سَمِعْت فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «أَتَتْ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ»

(قَوْلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَكَانَ حُرًّا فَحَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَإِنَّمَا قَدَّمَ الزَّانِيَةَ مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ عَكْسُهُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ إذْ الدَّاعِيَةُ فِيهَا أَكْثَرُ وَلَوْلَا تَمْكِينُهَا لَمْ يَزْنِ، وَهَذَا

ص: 229

قَالَ (يَأْمُرُ الْإِمَامُ بِضَرْبِهِ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا) لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ كَسَرَ ثَمَرَتَهُ.

عَامٌّ فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ نُسِخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ قَطْعًا، وَيَكْفِينَا فِي تَعَيُّنِ النَّاسِخِ الْقَاطِعِ بِرَجْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ. الْقَطْعِيَّةِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ ادِّعَاءِ كَوْنِ النَّاسِخِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لِعَدَمِ الْقَطْعِ بِثُبُوتِ كَوْنِهَا قُرْآنًا ثُمَّ انْتِسَاخُ تِلَاوَتِهَا وَإِنْ ذَكَرَهَا عُمَرُ وَسَكَتَ النَّاسُ، فَإِنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ حُجَّةً مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَبِتَقْدِيرِ حُجِّيَّتِهِ لَا يُقْطَعُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا إذْ ذَاكَ حُضُورًا؛ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ ظَنِّيٌّ، وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ: إنَّ الرَّجْمَ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى الْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ، وَعُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَائِلٌ بِعَدَمِ نَسْخِ عُمُومِ الْآيَةِ فَيَكُونُ رَأْيُهُ أَنَّ الرَّجْمَ حُكْمٌ زَائِدٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ قِيلَ بِهِ، وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ» وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا) قِيلَ الْمُرَادُ بِثَمَرَةِ السَّوْطِ عَذْبَتُهُ وَذَنَبُهُ مُسْتَعَارٌ مِنْ وَاحِدَةِ ثَمَرِ الشَّجَرِ.

وَفِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ عَقْدُ أَطْرَافِهِ. وَرَجَّحَ الْمُطَرِّزِيُّ إرَادَةَ الْأَوَّلِ هُنَا لِمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً فَكَانَتْ الضَّرْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ. وَفِي الْإِيضَاحِ مَا يُوَافِقُهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُضْرَبَ بِسَوْطٍ لَهُ ثَمَرَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ إذَا ضُرِبَ بِهَا تَصِيرُ كُلُّ ضَرْبَةٍ ضَرْبَتَيْنِ. وَفِي الدِّرَايَةِ: لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْكُتُبِ لَا ثَمَرَةَ لَهُ: أَيْ لَا عُقْدَةَ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ كَسَرَ ثَمَرَتَهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَصْلًا، بَلْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْعُقْدَةُ وَإِمَّا تَلْيِينُ طَرَفِهِ بِالدَّقِّ إذَا كَانَ يَابِسًا وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ حَنْظَلَةَ السَّدُوسِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ فَتُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى يَلِينَ ثُمَّ يُضْرَبَ بِهِ. قُلْنَا لَهُ: فِي زَمَنِ مَنْ كَانَ هَذَا؟ قَالَ: فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا يُضْرَبَ بِهِ وَفِي طَرَفِهِ يُبْسٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْرَحُ أَوْ يُبْرِحُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِيهِ عُقْدَةٌ، وَيُفِيدُ ذَلِكَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا عليه الصلاة والسلام بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ شَدِيدٍ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَقَالَ: سَوْطٌ دُونَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ لَيِّنٍ

ص: 230

وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمُبَرِّحِ وَغَيْرِ الْمُؤْلِمِ لِإِفْضَاءِ الْأَوَّلِ إلَى الْهَلَاكِ وَخُلُوِّ الثَّانِي عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ (وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ) مَعْنَاهُ دُونَ الْإِزَارِ لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّجْرِيدِ فِي الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ التَّجْرِيدَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْأَلَمِ إلَيْهِ. وَهَذَا الْحَدُّ مَبْنَاهُ عَلَى الشِّدَّةِ فِي الضَّرْبِ وَفِي نَزْعِ الْإِزَارِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فَيَتَوَقَّاهُ (وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهِ) لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ. قَالَ (إلَّا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَفَرْجَهُ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِلَّذِي أَمَرَهُ بِضَرْبِ الْحَدِّ اتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ» وَلِأَنَّ الْفَرْجَ مَقْتَلٌ وَالرَّأْسَ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ، وَكَذَا الْوَجْهُ وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ أَيْضًا فَلَا يُؤْمَنُ فَوَاتُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالضَّرْبِ وَذَلِكَ إهْلَاكٌ مَعْنًى فَلَا يُشْرَعُ حَدًّا.

فَقَالَ: سَوْطٌ فَوْقَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ فَقَالَ: هَذَا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ»

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَوْطٍ» فَذَكَرَهُ، وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. وَالْحَاصِلُ أَنْ يُجْتَنَبَ كُلٌّ مِنْ الثَّمَرَةِ بِمَعْنَى الْعُقْدَةِ وَمَعْنَى الْفَرْعِ الَّذِي يَصِيرُ ذَنَبَيْنِ تَعْمِيمًا لِلْمُشْتَرِكِ فِي النَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْعَدَدَ مِائَةً، وَلَوْ تُجُوِّزَ بِالثَّمَرَةِ فِيمَا يُشَاكِلُ الْعُقْدَةَ لِيَعُمَّ الْمَجَازُ مَا هُوَ يَابِسُ الطَّرَفِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ أَوْلَى، فَإِنَّهُ لَا يُضْرَبُ بِمِثْلِهِ حَتَّى يُدَقَّ رَأْسُهُ فَيَصِيرَ مُتَوَسِّطًا

(قَوْلُهُ بَيْنَ الْمُوجِعِ وَغَيْرِ الْمُؤْلِمِ) فَيَكُونُ مُؤْلِمًا غَيْرَ مُوجِعٍ، فَلَزِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُوجِعِ الْمُبَرِّحَ وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِمْ، وَوَجْهُ هَذَا ظَاهِرٌ. وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ فَخِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ يُجْلَدُ جَلْدًا خَفِيفًا يَحْتَمِلُهُ (قَوْلُهُ وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ) إلَّا الْإِزَارَ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُتْرَكُ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ قَمِيصَانِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْجَلْدِ لَا يَقْتَضِي التَّجْرِيدَ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّجْرِيدِ فِي الْحُدُودِ زَادَ عَلَيْهِ شَارِحُ الْكَنْزِ فَقَالَ: صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّجْرِيدِ فِي الْحُدُودِ فَأُبْعِدَ عَمَّا قَالَ الْمُخَرِّجُ إنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ عَلِيٍّ بَلْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنْهُ " أَنَّهُ أَتَى بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ فَضَرَبَهُ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ قَسْطَلَّانِيٌّ قَاعِدًا ". وَأَسْنَدَ إلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْمَحْدُودِ: أَيُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ فَرْوًا أَوْ مَحْشُوًّا. وَأَسْنَدَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَحِلُّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ تَجْرِيدٌ وَلَا مَدٌّ.

قَوْلُهُ (وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهِ)؛ لِأَنَّ جَمْعَهُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْسِدُهُ، وَاسْتَثْنَى الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ وَالْفَرْجَ. وَذَكَرَ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِضَرْبِ الْحَدِّ اتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ» وَلَمْ يَحْفَظْهُ الْمُخَرِّجُونَ مَرْفُوعًا بَلْ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه " أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ أَوْ فِي حَدٍّ فَقَالَ اضْرِبْ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ " رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ: اضْرِبْ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ. قَالَ: رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ رضي الله عنهم.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُرَادًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِي حَالِ قِيَامِ الْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ لَوْ تَوَجَّهَ لِأَحَدٍ ضَرْبُ وَجْهِ مَنْ يُبَارِزُهُ وَهُوَ فِي مُقَابَلَتِهِ حَالَةَ الْحَمَلَةِ لَا يَكُفُّ عَنْهُ، إذْ قَدْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَقْتُلُهُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا مَنْ يُضْرَبُ صَبْرًا فِي حَدٍّ قَتْلًا أَوْ غَيْرَ قَتْلٍ. وَفِي الْقَتْلِ صَرِيحُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا إلَى الثَّنْدُوَةِ ثُمَّ قَالَ: ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ» وَحِينَئِذٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما: أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَكَذَا مُخْتَصَرًا عَلَيْهِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُرِيدَانِ قَطْعًا ضَرْبَ الْوَجْهِ وَالْمَذَاكِيرِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الْمَخْصُوصِ، عَلَى أَنَّهُ

ص: 231

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَضْرِبُ الرَّأْسَ أَيْضًا رَجَعَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ سَوْطًا لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا. قُلْنَا: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِيمَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ. وَيُقَالُ: إنَّهُ وَرَدَ فِي حَرْبِيٍّ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الْكَفَرَةِ وَالْإِهْلَاكُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ (وَيُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا، وَلِأَنَّ مَبْنَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ، وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ. ثُمَّ قَوْلُهُ: غَيْرَ مَمْدُودٍ، فَقَدْ قِيلَ الْمَدُّ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ

ذُكِرَ فِي رِوَايَةٍ غَيْرِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه كَمَا حَكَيْنَاهُ آنِفًا.

وَبِمَا سَمِعْته تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ دَلِيلٌ عَلَى بَعْضِ الْمَطْلُوبِ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ وَهُوَ ضَرْبُ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ أَنَّهُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ فَرُبَّمَا تَفْسُدُ وَهُوَ إهْلَاكٌ مَعْنًى. وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرٌ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَقْلَ فِي الرَّأْسِ إلَّا أَنْ يَئُولَ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَمَا قِيلَ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالْكَافِي إنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله يَخُصُّ الظُّهُورَ وَاسْتِدْلَالُ الشَّارِحِينَ عَلَيْهِ «بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك» غَيْرُ ثَابِتٍ فِي كُتُبِهِمْ، بَلْ الَّذِي فِيهَا كَقَوْلِنَا.

وَإِنَّمَا تِلْكَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ خَصَّ الظَّهْرَ وَمَا يَلِيهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّهْرِ نَفْسُهُ: أَيْ حَدٌّ عَلَيْك بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، وَمَا اسْتَنْبَطْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ» وَأَنَّهُ فِي نَحْوِ الْحَدِّ فَمَا سِوَاهُ دَاخِلٌ فِي الضَّرْبِ، ثُمَّ خَصَّ مِنْهُ الْفَرْجَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي التَّعْزِيرِ: يُضْرَبُ الظَّهْرُ وَفِي الْحُدُودِ الْأَعْضَاءُ وَالْمَذَاكِيرُ جَمْعُ ذَكَرٍ بِمَعْنَى الْعُضْوِ فَرَّقُوا فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الذَّكَرِ بِمَعْنَى الرَّجُلِ حَيْثُ قَالُوا ذُكْرَانٌ وَذُكُورَةٌ وَذِكَارَةٌ وَبِمَعْنَى الْعُضْوِ. ثُمَّ جَمَعَهُ بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ مَا حَوْلَهُ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ ذَكَرًا كَمَا قَالُوا: شَابَتْ مَفَارِقُهُ وَإِنَّمَا لَهُ مَفْرِقٌ وَاحِدٌ (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُضْرَبُ الرَّأْسُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً رَجَعَ إلَيْهِ) بَعْدَ أَنْ كَانَ أَوَّلًا يَقُولُ: لَا يُضْرَبُ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي ذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أُتِيَ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ: اضْرِبْ الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا. وَالْمَسْعُودِيُّ مُضَعَّفٌ. وَلَكِنْ رَوَى الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ صُبَيْغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ وَأَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صُبَيْغٌ، فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ، وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك فَقَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْت أَجِدُ فِي رَأْسِي. وَهَذَا يُنَافِي جَوَابَ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مُسْتَحِقِّ الْقَتْلِ.

وَلَوْ قُلْنَا: إنَّ وَاقِعَةَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَتْ فِيهِ فَإِنَّ ضَرْبَ عُمَرَ الرَّأْسَ كَانَ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَكَذَا ضَرْبُ أَبِي بَكْرٍ لِلَّذِي انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ. هَذَا وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا الصَّدْرَ وَالْبَطْنَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ الصَّدْرُ مِنْ الْمَحَامِلِ، وَالضَّرْبُ بِالسَّوْطِ الْمُتَوَسِّطِ عَدَدًا يَسِيرًا لَا يَقْتُلُ فِي الْبَطْنِ فَكَيْفَ بِالصَّدْرِ. نَعَمْ إذَا فُعِلَ بِالْعَصَا كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا فِي بُيُوتِ الظَّلَمَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُضْرَبَ الْبَطْنُ (قَوْلُهُ: وَيُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا) وَكَذَا التَّعْزِيرُ (قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه إلَخْ) رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنِّفِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: يُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةً فِي الْحُدُودِ (وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ) زَجْرًا لِلْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِهِ (وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ) وَالْمَرْأَةُ مَبْنَى أَمْرِهَا عَلَى السَّتْرِ فَيُكْتَفَى بِتَشْهِيرِ الْحَدِّ فَقَطْ بِلَا زِيَادَةٍ (وَقَوْلُهُ غَيْرَ مَمْدُودٍ قِيلَ الْمَدُّ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ

ص: 232

وَيُمَدَّ كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّ السَّوْطَ فَيَرْفَعَهُ الضَّارِبُ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّهُ بَعْدَ الضَّرْبِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُفْعَلُ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ

(وَإِنْ كَانَ عَبْدًا جَلَدَهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنْقِصٌ لِلنِّعْمَةِ فَيَكُونُ مُنْقِصًا لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ فَيَكُونُ أَدْعَى إلَى التَّغْلِيظِ

(وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ تَشْمَلُهُمَا (غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُنْزَعُ مِنْ ثِيَابِهَا إلَّا الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ)

كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّ السَّوْطُ بِأَنْ يَرْفَعَهُ الضَّارِبُ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى جَسَدِ الْمَضْرُوبِ عَلَى الْجَسَدِ) وَفِيهِ زِيَادَةُ أَلَمٍ وَقَدْ يُفْضِي إلَى الْجُرْحِ (وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُفْعَلُ) فَلَفْظُ مَمْدُودٍ مُعَمَّمٌ فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ؛ لِأَنَّهُ فِي النَّفْيِ فَجَازَ تَعْمِيمُهُ، وَإِنْ امْتَنَعَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَقِفْ وَيَصْبِرْ لَا بَأْسَ بِرَبْطِهِ عَلَى أُسْطُوَانَةٍ أَوْ يُمْسَكُ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ عَبْدًا جَلَدَهُ خَمْسِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ) وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ فَيَرْجِعُ بِهِ إلَى دَلَالَةِ النَّصِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّلَالَةِ أَوْلَوِيَّةُ الْمَسْكُوتِ بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَذْكُورِ، بَلْ الْمُسَاوَاةُ تَكْفِي فِيهِ.

وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ يَدْخُلُونَ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ عَكْسُ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ تَغْلِيبُ الذُّكُورِ وَالنَّصُّ عَلَيْهِنَّ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ فِي تَزَوُّجِ الْإِمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} إلَى قَوْلِهِ {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ثُمَّ تَمَّمَ حُكْمَهُنَّ إذَا زَنَيْنَ، وَلِأَنَّ الدَّاعِيَةَ فِيهِنَّ أَقْوَى وَهُوَ حِكْمَةُ تَقْدِيمِ الزَّانِيَةِ عَلَى الزَّانِي فِي الْآيَةِ، وَهَذَا الشَّرْطُ: أَعْنِي الْإِحْصَانَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَإِنَّ عَلَى الْأَرِقَّاءِ نِصْفَ الْمِائَةِ أَحْصَنُوا أَوْ لَمْ يُحْصِنُوا. وَأَسْنَدَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدٍ بْنِ خَالِدَ الْجُهَنِيَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ: إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ وَهُوَ الْحَبْلُ» وَالْقَائِلُونَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ يُجَوِّزُونَ أَنْ لَا يُرَادَ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مَنْ أَحْصَنَ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ» وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا حَتَّى تُحْصِنَ بِزَوْجٍ، وَعَلَى هَذَا هُوَ مُعْتَبَرُ الْمَفْهُومِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقُرِئَ إذَا أَحْصَنَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَتُؤُوِّلَ عَلَى مَعْنَى أَسْلَمْنَ، وَحِينَ أَلْزَمَ سُبْحَانَهُ نِصْفَ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ إذَا أَحْصَنَّ لَزِمَ أَنْ لَا رَجْمَ عَلَى الرَّقِيقِ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ لَا يَتَنَصَّفُ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِلنِّعْمَةِ فَتَنْقُصُ الْعُقُوبَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ فَيَكُونُ أَدْعَى إلَى التَّغْلِيظِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ سبحانه وتعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}

(قَوْلُهُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) لِشُمُولِ النُّصُوصِ إيَّاهُمَا، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْصَنًا رُجِمَ وَإِلَّا فَعَلَى كُلٍّ الْجَلْدُ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا فَعَلَى الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ وَعَلَى الْآخَرِ

ص: 233

لِأَنَّ فِي تَجْرِيدِهَا كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ يَمْنَعَانِ وُصُولَ الْأَلَمِ إلَى الْمَضْرُوبِ وَالسَّتْرُ حَاصِلٌ بِدُونِهِمَا فَيُنْزَعَانِ (وَتُضْرَبُ جَالِسَةً) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا (وَإِنْ حُفِرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ)؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ إلَى ثُنْدُوَتِهَا، وَحَفَرَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ وَإِنْ تَرَكَ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا، وَالْحَفْرُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَيُحْفَرُ إلَى الصَّدْرِ لِمَا رَوَيْنَا (وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ)؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَا حَفَرَهُ لِمَاعِزٍ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْإِقَامَةِ عَلَى التَّشْهِيرِ فِي الرِّجَالِ، وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ

الْجَلْدُ، وَكَذَلِكَ فِي ظُهُورِ الزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ يَكُونُ عَلَى مَا شُرِطَ. وَقَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إلَخْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: سَوَاءٌ فَلَا يُنْزَعُ عَنْ الْمَرْأَةِ ثِيَابُهَا إلَّا الْمَحْشُوِّ وَالْفَرْوِ (وَلِأَنَّ فِي تَجْرِيدِهَا كَشْفَ الْعَوْرَةِ)؛ لِأَنَّ بَدَنَهَا كُلَّهُ عَوْرَةٌ إلَّا مَا عُرِفَ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ (وَتُضْرَبُ) الْمَرْأَةُ (جَالِسَةً لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ (وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا) قَوْلُهُ (وَإِنْ حَفَرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ) لِهَذَا وَلِذَلِكَ حَفَرَ عليه الصلاة والسلام لِلْغَامِدِيَّةِ إلَى ثُنْدُوَتِهَا. وَالثَّنْدُوَةُ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْهَمْزَةِ مَكَانَ الْوَاوِ وَبِفَتْحِهَا مَعَ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً، وَالدَّالُ مَضْمُومَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ: ثَدْيُ الرَّجُلِ أَوْ لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ، وَمَا قِيلَ الثَّدْيُ لِلْمَرْأَةِ وَالثَّنْدُوَةُ لِلرَّجُلِ هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ بِحَدِيثِ الَّذِي وَضَعَ سَيْفَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ (وَلِذَا حَفَرَ عَلِيٌّ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ) بِسُكُونِ الْمِيمِ وَهِيَ قَبِيلَةٌ كَانَتْ عَيْبَةَ عَلِيٍّ، وَقَدْ مَدَحَهُمْ وَقَالَ فِي مَدِيحِهِ لَهُمْ:

فَلَوْ كُنْت بَوَّابًا عَلَى بَابِ جَنَّةٍ

لَقُلْت لِهَمْدَانَ اُدْخُلِي بِسَلَامِ

وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ شُرَاحَةَ وَفِيهِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ حَفَرَ لَهَا إلَى السُّرَّةِ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَإِنْ تَرَكَ) الْحَفْرَ (لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ) يَعْنِي لَمْ يُوجِبْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ هُوَ الْإِيجَابُ، وَقَالَ: إنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ.

وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ مَجَازًا عَنْ أَمْرِهِ، وَإِلَّا كَانَتْ مُنَاقَضَةً غَرِيبَةً، فَإِنَّ مِثْلَهَا إنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ بُعْدِ الْعَهْدِ، أَمَّا مَعَهُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ فَغَرِيبٌ وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (قَوْلُهُ وَلَا يَحْفِرُ لِلرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَحْفِرْ لِمَاعِزٍ) تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَتِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ حَفَرَ لَهُ وَهُوَ مُنْكَرٌ لِمُخَالَفَتِهِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الْمَشْهُورَةَ وَالرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ الْمُتَضَافِرَةَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ فِي الرِّجَالِ) لَا حَاجَةَ إلَى التَّخْصِيصِ، بَلْ الْحَدُّ مُطْلَقًا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّشْهِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُزَادُ فِي شُهْرَتِهِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَيَكْتَفِي فِي الْمَرْأَةِ بِالْإِخْرَاجِ وَالْإِتْيَانِ بِهَا إلَى مُجْتَمَعِ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ وَخُصُوصًا فِي الرَّجْمِ. وَأَمَّا فِي الْجَلْدِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ الزَّانِيَةَ وَالزَّانِي، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ طَائِفَةً: أَيْ جَمَاعَةً أَنْ يَحْضُرُوا إقَامَةَ الْحَدِّ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاحِدَةٌ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ اثْنَانِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَشَرَةٌ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَرْبَعَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ) فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ تَجْرِيدٌ وَلَا مَدٌّ، وَلِأَنَّ مَاعِزًا انْتَصَبَ لَهُمْ قَائِمًا لَمْ يُمْسَكْ وَلَمْ يُرْبَطْ، إلَّا أَنْ لَا يَصْبِرَ

ص: 234

(وَلَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً مُطْلَقَةً عَلَيْهِ كَالْإِمَامِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ فَصَارَ كَالتَّعْزِيرِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْحُدُودَ» وَلِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا إخْلَاءُ الْعَالِمِ عَنْ الْفَسَادِ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ فَيَسْتَوْفِيهِ مَنْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الشَّرْعِ وَهُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِهَذَا يُعَزَّرُ الصَّبِيُّ، وَحَقُّ الشَّرْعِ مَوْضُوعٌ عَنْهُ.

وَأَعْيَاهُمْ فَحِينَئِذٍ يُمْسَكُ فَيُرْبَطُ، فَإِذَا هَرَبَ فِي الرَّجْمِ، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا لَا يُتْبَعُ وَتُرِكَ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُودًا عَلَيْهِ اُتُّبِعَ وَرُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّ هَرَبَهُ رُجُوعٌ ظَاهِرًا وَرُجُوعُهُ يَعْمَلُ فِي إقْرَارِهِ لَا فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ صِفَةَ الرَّجْمِ أَنْ يُصَفُّوا ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ كَصُفُوفِ الصَّلَاةِ كُلَّمَا رَجَمَهُ صَفٌّ تَنَحَّوْا. وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ، بَلْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ شُرَاحَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ الْأَجْلَحِ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَفِيهِ: أَحَاطَ النَّاسُ بِهَا وَأَخَذُوا الْحِجَارَةَ قَالَ: لَيْسَ هَكَذَا الرَّجْمُ إذَنْ يُصِيبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، صُفُّوا كَصَفِّ الصَّلَاةِ صَفًّا خَلْفَ صَفٍّ، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ رَجَمَهَا ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَرَجَمَ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ. وَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي مَسْجِدٍ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَلَا تَعْزِيرٌ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّأْدِيبِ فِي الْمَسْجِدِ خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَقَامَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَجَمِّرُوهَا فِي جُمَعِكُمْ وَصُفُّوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ» وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ الْمَحْدُودِ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ الْمَسْجِدِ

(قَوْلُهُ وَلَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُقِيمُهُ بِلَا إذْنٍ، وَعَنْ مَالِكٍ إلَّا فِي الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ. وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ امْرَأَةً. وَهَلْ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَتْلًا بِسَبَبِ الرِّدَّةِ أَوْ قَطْعَ الطَّرِيقِ أَوْ قَطْعًا لِلسَّرِقَةِ، فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ نَعَمْ لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ، وَفِي التَّهْذِيبِ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ إلَى الْإِمَامِ لَهُمْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ: إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ. وَالضَّفِيرُ الْحَبْلُ. وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَعْزِيرَهُ صِيَانَةً لِمِلْكِهِ عَنْ الْفَسَادِ فَكَذَا الْحَدُّ، وَلِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً مُطْلَقَةً عَلَيْهِ حَتَّى مَلَكَ مِنْهُ مَا لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَمِلْكُهُ لِلْإِقَامَةِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْإِمَامِ.

وَلَنَا مَا رَوَى الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ: الْحُدُودُ، وَالصَّدَقَاتُ. وَالْجُمُعَاتُ، وَالْفَيْءُ» وَلِأَنَّ الْحَدَّ خَالِصُ

ص: 235

قَالَ (وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ) فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ شَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ إذْ لَا خِطَابَ دُونَهُمَا، وَمَا وَرَاءَهُمَا يُشْتَرَطُ لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ إذْ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ يَتَغَلَّظُ عِنْدَ تَكَثُّرِهَا،

حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إلَّا نَائِبُهُ وَهُوَ الْإِمَامُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَوْنُهُ حَقَّ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ نَائِبُهُ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ الِاسْتِنَابَةَ تُعْرَفُ بِالسَّمْعِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَقِّهِ الْمُتَوَجِّهِ مِنْهُ عَلَى الْأَرِقَّاءِ مَوَالِيَهُمْ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِقَامَةَ بِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ كَانَ مُمْتَثِلًا فَجَازَ كَوْنُ الْمُرَادِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهِ، لَكِنْ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُعَارِضُ الْمَذْكُورُ لَا يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَقَامَ فُلَانٌ الْحَدَّ عَلَى فُلَانٍ أَوْ جَلَدَ فُلَانٌ فُلَانًا، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ بَاشَرَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ، عَلَى أَنَّ الْمُتَبَادَرَ أَحَدٌ دَائِرٌ فِيهِمَا لَا فِي ثَلَاثَةٍ وَهُمَا هَذَانِ مَعَ رَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ لِيَحُدَّهُ، نَعَمْ مَنْ اسْتَقَرَّ اعْتِقَادُهُ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ فَالْمُتَبَادَرُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ الْأَخِيرِ بِخُصُوصِهِ

(قَوْلُهُ وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ) قَيَّدَ بِإِحْصَانِ الرَّجْمِ؛ لِأَنَّ إحْصَانَ الْقَذْفِ غَيْرُ هَذَا كَمَا سَيَأْتِي. وَالْإِحْصَانُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، قَالَ تَعَالَى {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} وَأَطْلَقَ فِي اسْتِعْمَالِ الشَّارِحِ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ وَبِمَعْنَى الْعَقْلِ وَبِمَعْنَى الْحُرِّيَّةِ مِنْهُ {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} وَبِمَعْنَى التَّزْوِيجِ وَبِمَعْنَى الْإِصَابَةِ فِي النِّكَاحِ وَبِمَعْنَى الْعِفَّةِ، يُقَالُ أَحْصَنَتْ: أَيْ عَفَّتْ وَأَحْصَنَهَا زَوْجُهَا.

قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: الْمُتَقَدِّمُونَ يَقُولُونَ: إنَّ شَرَائِطَ الْإِحْصَانِ سَبْعَةٌ، وَعَدَّ مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَهُمَا شَرْطَا الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ، وَإِلَى

ص: 236

وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ. وَقَدْ شُرِعَ الرَّجْمُ بِالزِّنَا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهِ.

ذَلِكَ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ شَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ، وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ لَا شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَشَرْطُ الدُّخُولِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» وَالثِّيَابَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالدُّخُولِ اهـ. وَاخْتُلِفَ فِي اثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ: الْإِسْلَامُ وَسَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ فِي شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ وَقْتَ الْإِصَابَةِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ أَمَةً أَوْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ كِتَابِيَّةً وَدَخَلَ بِهَا لَا يَصِيرُ الزَّوْجُ مُحْصَنًا بِهَذَا الدُّخُولِ، حَتَّى لَوْ زَنَى بَعْدَهُ لَا يُرْجَمُ عِنْدَنَا، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ الْمُسْلِمَةُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ صَبِيٍّ وَدَخَلَ بِهَا لَا تَصِيرُ مُحْصَنَةً فَلَا تُرْجَمُ لَوْ زَنَتْ. وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً فَأَسْلَمَتْ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا فَقَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ: أَيْ أَنْ يَطَأَهَا إذَا زَنَى لَا يُرْجَمُ، وَكَذَا لَوْ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ الَّتِي هِيَ زَوْجَةُ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا لَا يُرْجَمُ لَوْ زَنَى مَا لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ بَلَغَتْ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ وَهُمَا مُحْصَنَانِ فَارْتَدَّا مَعًا بَطَلَ إحْصَانُهُمَا، فَإِذَا أَسْلَمَا لَا يَعُودُ إحْصَانُهُمَا حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُنَا يَدْخُلُ بِهَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ: يَعْنِي تَكُونُ الصِّحَّةُ قَائِمَةً حَالَ الدُّخُولِ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ مَنْ عُلِّقَ طَلَاقُهَا بِتَزَوُّجِهَا يَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَلَوْ دَخَلَ بِهَا عَقِيبَهُ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِنَا شَرَائِطُ الْإِحْصَانِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً: أَيْ الشَّرَائِطُ الَّتِي هِيَ الْإِحْصَانُ، وَكَذَا شَرْطُ الْإِحْصَانِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِحْصَانَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الرَّجْمِ هُوَ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ، فَهِيَ أَجْزَاؤُهُ، وَهُوَ هَيْئَةٌ تَكُونُ بِاجْتِمَاعِهَا فَهِيَ أَجْزَاءُ عِلَّةٍ، وَكُلُّ جُزْءٍ عِلَّةٌ، فَكُلُّ وَاحِدٍ حِينَئِذٍ شَرْطُ وُجُوبِ الرَّجْمِ، وَالْمَجْمُوعُ عِلَّةٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ الْمُسَمَّى بِالْإِحْصَانِ، وَالشَّرْطُ يَثْبُتُ سَمْعًا أَوْ قِيَاسًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ. لَا يُقَالُ: كَمَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ قِيَاسًا فَكَذَا شُرُوطُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ يَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ شُرُوطُهُ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ نَفْسِ الْحَدِّ إمَّا لِعَدَمِ الْمَعْقُولِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِمَا ازْدَادَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَإِثْبَاتُ الشَّرْطِ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ لَا لِإِيجَابِهِ بَقِيَ الشَّأْنُ فِي تَحْقِيقِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْمُصَنِّفُ شَرْطَ اتِّفَاقِهِمَا فِي صِفَةِ الْإِحْصَانِ مَعَ غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ:(وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ) فَإِنَّ مِنْ النِّعَمِ كَوْنَ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مُكَافِئًا لِلْآخَرِ فِي صِفَاتِهِ الشَّرِيفَةِ ثُمَّ قَالَ: (وَقَدْ شُرِعَ الرَّجْمُ بِالزِّنَا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهِ) أَيْ بِاسْتِجْمَاعِهَا، وَإِذَا نِيطَ بِكُلِّهَا يَلْزَمُ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحَدُّ بِانْتِفَاءِ كُلٍّ مِنْهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا كَوْنُ كُلٍّ مِثْلَ الْآخَرِ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاطُهُ لِظُهُورِ أَثَرِ وُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَعَدَمُ تَمَاثُلِهِمَا شُبْهَةٌ فِي تَصَوُّرِ الصَّارِفِ فَيَنْدَرِئُ بِهِ، وَبَيَانُهُ مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ كَوْنِهَا مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ الصَّارِفَةِ عَنْ الزِّنَا بِكَمَالِ انْدِفَاعِ حَاجَتِهِ إلَى الْوَطْءِ عِنْدَهَا، فَكَوْنُهُ بَالِغًا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا تَكْمُلُ فِيهِ رَغْبَةُ الْكَبِيرَةِ وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ لَا يُرْغَبُ فِيهَا بَلْ هِيَ مَحَلُّ نَفْرَةِ الطِّبَاعِ، وَكَذَا يَنْفِرُ الْمُسْلِمُ عَنْ صُحْبَةِ مَنْ يُفَارِقُهُ فِي دِينِهِ مِنْهُ وَمِنْهَا، وَكَذَا يَرَى الْحُرُّ انْحِطَاطًا بِتَزَوُّجِ الرَّقِيقِ

ص: 237

بِخِلَافِ الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُمْكِنَةٌ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ مُمْكِنٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ، وَالْإِصَابَةُ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ، وَالْإِسْلَامُ يُمَكِّنُهُ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَيُؤَكِّدُ اعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً عَنْ الزِّنَا. وَالْجِنَايَةُ بَعْدَ تَوَفُّرِ الزَّوَاجِرِ أَغْلَظُ وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام «رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ قَدْ زَنَيَا» قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ نُسِخَ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» .

فَلَا تَكْمُلُ الرَّغْبَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِذَا ظَهَرَ تَكَامُلُ الصَّارِفِ وَفِيهِ تَكَامُلُ النِّعْمَةِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عِنْدَهَا أَفْحَشَ فَنَاسَبَ كَوْنَ الْعُقُوبَةِ أَغْلَظَ فَشُرِعَتْ لِذَلِكَ وَهِيَ الرَّجْمُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَنِيطَ بِهِ: أَيْ بِالِاسْتِجْمَاعِ لَهَا (بِخِلَافِ الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُمْتَنِعٌ) وَوَجْهُ عَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا فِي تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ أَنَّهُمَا لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي تَكْمِيلِ الصَّارِفِ وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَأَوْرَدَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الزَّوْجِ كَافِرًا وَهِيَ مُسْلِمَةٌ كَمَا يُفِيدُهُ مَا ذُكِرَ فِي نَفْرَةِ الْمُسْلِمِ. وَأُجِيبَ بِأَنْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ فَتُسْلِمَ هِيَ فَيَطَأَهَا قَبْلَ عَرْضِ الْقَاضِي الْإِسْلَامَ عَلَيْهِ وَإِبَائِهِ، وَمَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِإِبَائِهِ هُمَا زَوْجَانِ (قَوْلُهُ وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ) أَيْ فِي الْإِحْصَانِ (وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَقَوْلُ مَالِكٍ كَقَوْلِنَا: فَلَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ الثَّيِّبُ الْحُرُّ، يُجْلَدُ عِنْدَنَا وَيُرْجَمُ عِنْدَهُمْ. لَهُمْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلًا قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الزِّنَا؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا

ص: 238

وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ.

بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ارْفَعْ يَدَك، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا»

وَاَلَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا. وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ إنَّمَا رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَإِنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا، وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ عِنْدَمَا قَدِمَ عليه الصلاة والسلام الْمَدِينَةَ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ حَدِّ الزِّنَا وَلَيْسَ فِيهَا اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ فِي الرَّجْمِ، ثُمَّ نَزَلَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِالرَّجْمِ بِاشْتِرَاطِهِ لِلْإِحْصَانِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَتْلُوٍّ، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» فَقَالَ إِسْحَاقُ رَفَعَهُ مَرَّةً فَقَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَقَّفَهُ مَرَّةً. وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَيُقَالُ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَلَفْظُ إِسْحَاقَ كَمَا تَرَاهُ لَيْسَ فِيهِ رُجُوعٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ عَنْ الرَّاوِي أَنَّهُ مَرَّةً رَفَعَهُ وَمَرَّةً أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْفَتْوَى فَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَهُ بَعْدَ صِحَّةِ الطَّرِيقِ إلَيْهِ مَحْكُومٌ بِرَفْعِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الرَّفْعُ وَالْوَقْفُ حُكِمَ بِالرَّفْعِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إذَا خُرِّجَ مِنْ طُرُقٍ فِيهَا ضَعْفٌ لَمْ يَضُرَّ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ» فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَمَعْنَاهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم لَا تَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك» وَضُعِّفَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَمْ يُدْرِكْ كَعْبًا، لَكِنْ رَوَاهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الِانْقِطَاعَ عِنْدَنَا دَاخِلٌ فِي الْإِرْسَالِ بَعْدَ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ، وَبَقِيَّةُ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ أَوَّلَ هَذَا الشَّرْحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ شَاهِدٌ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَيُحْتَجُّ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِفَصْلِ الْمُصَنِّفِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِالْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَهُمَا مَعًا فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ وَمَنْ مَعَهُ بَلْ كَانَ الْوَجْهُ جَمْعُهُمَا ثُمَّ يَقُولُ هُنَا لِمَا ذَكَرْنَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْهَلَ مِمَّا ادَّعَى أَنْ يُقَالَ: حِينَ رَجَمَهُمَا كَانَ الرَّجْمُ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ» ثُمَّ الظَّاهِرُ كَوْنُ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَإِلَّا لَمْ يَرْجُمْهُمْ لِانْتِسَاخِ شَرِيعَتِهِمْ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَأَلَهُمْ عَنْ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ لِيُبَكِّتَهُمْ بِتَرْكِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَحَكَمَ بِرَجْمِهِمَا بِشَرْعِهِ الْمُوَافِقِ لِشَرْعِهِمْ، وَإِذَا لَزِمَ كَوْنُ الرَّجْمِ كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِنَا حَالَ رَجْمِهِمْ بِلَا اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ الْمُفِيدُ لِاشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ تَارِيخٌ يُعْرَفُ بِهِ تَقَدُّمُ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَوْ تَأَخُّرُهُ، فَيَكُونُ رَجْمُهُ الْيَهُودِيَّيْنِ وَقَوْلُهُ الْمَذْكُورُ مُتَعَارِضَيْنِ فَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ، وَالْقَوْلُ يُقَدَّمُ عَلَى الْفِعْلِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيمَ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ وَتَقْدِيمَ ذَلِكَ الْفِعْلِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ فِي إيجَابِ الْحَدِّ، وَالْأَوْلَى فِي الْحُدُودِ تَرْجِيحُ الدَّافِعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ مُرَجَّحٍ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِتَأَخُّرِهِ اجْتِهَادًا، وَلَقَدْ طَاحَ بِهَذَا دَفْعُ بَعْضِ الْمُعْتَرِضِينَ (قَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ) الْمُحَقِّقِ لِلْإِحْصَانِ (إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ) وَهُوَ بِغَيْبُوبَةِ الْحَشَفَةِ

ص: 239

وَشَرْطُ صِفَةِ الْإِحْصَانِ فِيهِمَا عِنْدَ الدُّخُولِ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ أَوْ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الْمَجْنُونَةِ أَوْ الصَّبِيَّةِ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ وَهِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بِذَلِكَ لَا تَتَكَامَلُ إذْ الطَّبْعُ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَةِ الْمَجْنُونَةِ، وَقَلَّمَا يَرْغَبُ فِي الصَّبِيَّةِ لِقِلَّةِ رَغْبَتِهَا فِيهِ وَفِي الْمَمْلُوكَةِ حَذَرًا عَنْ رِقِّ الْوَلَدِ وَلَا ائْتِلَافَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ. وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله يُخَالِفُهُمَا فِي الْكَافِرَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ»

قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَجْمَعْ،

فَقَطْ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ.

وَقَوْلُهُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ إلَخْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ

(قَوْلُهُ وَلَا يُجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَيُجْمَعُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يُجْمَعُ. لِلْجُمْهُورِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُجْمَعْ، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ فِي مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَصَاحِبَةِ الْعَسِيفِ، وَقَدْ تَظَافَرَتْ الطُّرُقُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنْ الْإِحْصَانِ وَتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَمْرِ بِالرَّجْمِ فَقَالَ:«اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» وَقَالَ: «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَلَمْ يَقُلْ فَاجْلِدْهَا ثُمَّ اُرْجُمْهَا.

وَقَالَ فِي بَاقِي الْحَدِيثِ «فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ» وَكَذَا فِي الْغَامِدِيَّةِ وَالْجُهَنِيَّةِ إنْ كَانَتْ غَيْرَهَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَمْرِ بِرَجْمِهَا وَتَكَرَّرَ، وَلَمْ يَزِدْ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فَقَطَعْنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَ الرَّجْمِ، فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «خُذُوا عَنِّي فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ

ص: 240

وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يَعْرَى عَنْ الْمَقْصُودِ مَعَ الرَّجْمِ؛ لِأَنَّ زَجْرَ غَيْرِهِ يَحْصُلُ بِالرَّجْمِ إذْ هُوَ فِي الْعُقُوبَةِ أَقْصَاهَا وَزَجْرُهُ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ هَلَاكِهِ.

قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ) وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَدًّا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ بَابِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْمُوجَبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ وَإِلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ،

وَرَجْمٌ أَوْ رَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ» يَجِبُ قَطْعًا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا.

قَالَ (وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يُعْرِي عَنْ الْمَقْصُودِ) وَهُوَ الِانْزِجَارُ أَوْ قَصْدُ الِانْزِجَارِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا كَانَ لَاحِقًا كَانَ الْجَلْدُ خُلُوًّا عَنْ الْفَائِدَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي شُرِعَ لَهَا الْحَدُّ وَالنَّسْخُ قَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّ الزِّنَا فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلًا الْأَذَى بِاللِّسَانِ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} ثُمَّ نُسِخَ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» وَإِلَّا لَقَالَ خُذُوا عَنْ اللَّهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ. وَالصَّوَابُ

مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَلَزِمَ نَسْخُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ خُصُوصُ النَّاسِخِ. وَأَمَّا جَلْدُ عَلِيٍّ رضي الله عنه شُرَاحَةَ ثُمَّ رَجْمُهَا فَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ إحْصَانُهَا إلَّا بَعْدَ جَلْدِهَا، أَوْ هُوَ رَأْيٌ لَا يُقَاوِمُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَطْعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(قَوْلُهُ وَلَا يُجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَلَهُ فِي الْعَبْدِ أَقْوَالٌ يُغَرَّبُ سَنَةً، نِصْفَ سَنَةٍ، لَا يُغَرَّبُ أَصْلًا. وَأَمَّا تَغْرِيبُ الْمَرْأَةِ فَمَعَ مَحْرَمٍ وَأُجْرَتُهُ عَلَيْهَا فِي قَوْلٍ، وَفِي بَيْتِ الْمَالِ فِي قَوْلٍ. وَلَوْ امْتَنَعَ فَفِي قَوْلٍ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ، وَفِي قَوْلٍ لَا.

وَلَوْ كَانَتْ الطَّرِيقُ آمِنَةً فَفِي تَغْرِيبِهَا بِلَا مَحْرَمٍ قَوْلَانِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خُذُوا عَنِّي» الْحَدِيثَ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ») أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «خُذُوا عَنِّي» الْحَدِيثَ، وَتَقَدَّمَ (وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاعِيَةُ إلَى ذَلِكَ، وَلِذَا قِيلَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْعَرَبِ: مَا حَمَلَك عَلَى الزِّنَا مَعَ فَضْلِ عَقْلِك؟ قَالَتْ: طُولُ السَّوَادِ وَقُرْبُ الْوِسَادِ.

وَالسَّوَادُ الْمُسَارَّةُ مِنْ سَاوَدَهُ إذَا سَارَّهُ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}

ص: 241

وَلِأَنَّ فِي التَّغْرِيبِ فَتْحَ بَابِ الزِّنَا لِانْعِدَامِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ فِيهِ قَطْعُ مَوَادِّ الْبَقَاءِ، فَرُبَّمَا تَتَّخِذُ زِنَاهَا مَكْسَبَةً وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ وُجُوهِ الزِّنَا، وَهَذِهِ الْجِهَةُ مُرَجَّحَةٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةٌ، وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ كَشَطْرِهِ،

شَارِعًا فِي بَيَانِ حُكْمِ الزِّنَا مَا هُوَ. فَكَانَ الْمَذْكُورُ تَمَامَ حُكْمِهِ وَإِلَّا كَانَ تَجْهِيلًا، إذْ يُفْهَمُ أَنَّهُ تَمَامُ الْحُكْمِ وَلَيْسَ تَمَامَهُ فِي الْوَاقِعِ فَكَانَ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْبَيَانِ أَبْعَدَ مِنْ تَرْكِ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ يُوقِعُ فِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ وَذَلِكَ فِي الْبَسِيطِ وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْهُومُ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ فَيُفِيدُ أَنَّ الْوَاقِعَ هَذَا فَقَطْ، فَلَوْ ثَبَتَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ كَانَ شُبْهَةً مُعَارِضَةً لَا مُثْبِتَةً لِمَا سَكَتَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ الْمَمْنُوعَةُ. وَأَمَّا مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ بَعْضِهِمْ مِنْ أَنَّ الزِّيَادَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إثْبَاتُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ الْقُرْآنُ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وَإِلَّا بَطَلَتْ أَكْثَرُ السُّنَنِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ نَسْخًا وَتَسْمِيَتُهَا نَسْخًا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ، وَلِذَا زِيدَ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْإِحْدَادُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ التَّرَبُّصُ، فَهُوَ يُفِيدُ عَدَمَ مَعْرِفَةِ الِاصْطِلَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الزِّيَادَةِ إثْبَاتَ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَنْفِهِ.

لَا يَقُولُ بِهَذَا عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ، بَلْ تَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ مِمَّا يُرَادُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ، وَبِاللَّفْظِ يُفَادُ الْمَعْنَى، فَأَفَادَ أَنَّ الْإِطْلَاقَ مُرَادٌ وَبِالتَّقْيِيدِ يَنْتَفِي حُكْمُهُ عَنْ بَعْضِ مَا أَثْبَتَهُ فِيهِ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ. ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا نَسْخٌ، وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ، وَظَنَّ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْإِحْدَادَ زِيَادَةُ غَلَطٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَقْيِيدًا لِلتَّرَبُّصِ وَإِلَّا لَوْ تَرَبَّصَتْ وَلَمْ تُحَدَّ فِي تَرَبُّصِهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ الْعِدَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَكُونُ عَاصِيَةً بِتَرْكِ وَاجِبٍ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْحَدِيثَ وَاجِبًا لَا أَنَّهُ قَيَّدَ مُطْلَقَ الْكِتَابِ. نَعَمْ وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ اتِّفَاقًا، وَالْمُصَنِّفُ رحمه الله عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إلَى ادِّعَاءِ نَسْخِ هَذَا الْخَبَرِ مُسْتَأْنِسًا لَهُ بِنَسْخِ شَطْرِهِ

ص: 242

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الثَّانِي وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْجَمِيعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَكَذَا نِصْفُهُ الْآخَرُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُرْوَى جُمَلٌ بَعْضُهَا نُسِخَ وَبَعْضُهَا لَا. وَلَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ وَادَّعَى أَنَّهُ آحَادٌ لَا مَشْهُورٌ وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ إنْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَمَمْنُوعٌ لِظُهُورِ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى صِحَّتِهِ بِمَعْنَى صِحَّةِ سَنَدِهِ فَكَثِيرٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَذَلِكَ فَلَمْ تَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا آحَادًا، وَقَدْ خُطِّئَ مَنْ ظَنَّهُ يَصِيرُ قَطْعِيًّا فَادَّعَى فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ وَغَلِطَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِذَا كَانَ آحَادًا وَقَدْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ احْتِمَالُ النَّسْخِ بِقَرِينَةِ نَسْخِ شَطْرِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَنْ الْآحَادِ الَّتِي لَمْ يَتَطَرَّقْ ذَلِكَ إلَيْهَا فَأَحْرَى أَنْ لَا يُنْسَخَ بِهِ مَا أَفَادَهُ الْكِتَابُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُوجِبِ الْجَلْدُ فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ فِيهِ، لَا أَنَّ الْكِتَابَ سَاكِتٌ عَنْ نَفْيِ التَّغْرِيبِ فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ التَّغْرِيبِ بِطَرِيقِ الْحَدِّ، فَإِنَّ أَقْصَى مَا فِيهِ دَلَالَةُ قَوْلِهِ «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَهُوَ عَطْفُ وَاجِبٍ عَلَى وَاجِبٍ وَهُوَ لَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ بِنَفْيِ عَامٍ» وَإِقَامَةُ الْحَدِّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِي الْحَدِّ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ اسْتَعْمَلَ الْحَدَّ فِي جُزْءِ مُسَمَّاهُ وَعَطَفَهُ عَلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ بَعِيدٌ وَلَا دَلِيلَ يُوجِبُهُ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يُفِيدُهُ فَجَازَ كَوْنُهُ تَغْرِيبًا لِمَصْلَحَةٍ.

وَأَمَّا مَالِكٌ رحمه الله فَرَأَى أَنَّ الْحَدِيثَ مَا دَلَّ إلَّا عَلَى الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ» فَلَمْ تَدْخُلْ الْمَرْأَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُثْبِتُ الْأَحْكَامَ فِي النِّسَاءِ بِالنُّصُوصِ الْمُفِيدَةِ إيَّاهَا لِلرِّجَالِ بِتَنْقِيحِ الْمُنَاطِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ نَفْسَ الْحَدِيثِ يَجِبُ أَنْ يَشْمَلَهُنَّ فَإِنَّهُ قَالَ «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ» الْحَدِيثَ، فَنَصَّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ وَالْجَلْدَ سَبِيلٌ لَهُنَّ، وَالْبِكْرُ يُقَالُ عَلَى الْأُنْثَى؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ «الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ» ثُمَّ عَارَضَ مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمَعْنَى بِأَنَّ فِي النَّفْيِ فَتْحَ بَابِ الْفِتْنَةِ لِانْفِرَادِهَا عَنْ الْعَشِيرَةِ وَعَمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُمْ إنْ كَانَ لَهَا شَهْوَةٌ قَوِيَّةٌ فَتَفْعَلُهُ، وَقَدْ تَفْعَلُهُ لِحَامِلٍ آخَرَ وَهُوَ حَاجَتُهَا إلَى مَا يَقُومُ بِأَوَدِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى فِي إفْضَائِهِ إلَى الْفَسَادِ أَرْجَحُ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ إفْضَاءِ قِلَّةِ الْمَعَارِفِ إلَى عَدَمِ الْفَسَادِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ لِمَنْ يُشَاهِدُ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْبِكْرِ يَزْنِي بِالْبِكْرِ يُجْلَدَانِ مِائَةً وَيُنْفَيَانِ سَنَةً. قَالَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: حَسْبُهُمَا مِنْ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: غَرَّبَ عُمَرُ رضي الله عنه رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الشَّرَابِ إلَى خَيْبَرَ فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ فَتَنَصَّرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا. نَعَمْ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ مَصْلَحَةٌ فِي التَّغْرِيبِ تَعْزِيرًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَهُوَ مَحْمَلُ التَّغْرِيبِ الْوَاقِعِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِلصَّحَابَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. فَفِي التِّرْمِذِيِّ: حَدَّثَنَا كُرَيْبٌ وَيَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ وَغَرَّبَ» إلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

وَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَرَفَعُوهُ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ إدْرِيسَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ الْحَدِيثَ. وَهَكَذَا رُوِيَ

ص: 243

وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ (إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً فَيُغَرِّبَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى) وَذَلِكَ تَعْزِيرٌ وَسِيَاسَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّفْيُ الْمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ

مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إدْرِيسَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَقُولُوا فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ ابْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ ابْنِ إدْرِيسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ الْحَدِيثَ. لَمْ يَقُلْ فِيهِ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هِيَ الصَّوَابُ، لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ بِهِ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ جِهَةِ النَّسَائِيّ وَقَالَ: رِجَالُهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُسْأَلُ عَنْهُ لِثِقَتِهِ وَشُهْرَتِهِ، وَقَالَ أَيْضًا: عِنْدِي أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ابْنِ إدْرِيسَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي ثُبُوتِهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم اخْتِلَافًا عَنْ الْحُفَّاظِ

ص: 244

(وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ وَحَدُّهُ الرَّجْمُ رُجِمَ)؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ (وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ لَمْ يُجْلَدْ حَتَّى يَبْرَأَ) كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى الْهَلَاكِ وَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْقَطْعُ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ

(وَإِنْ زَنَتْ الْحَامِلُ لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ وَهُوَ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ (وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ لَمْ تُجْلَدْ حَتَّى تَتَعَالَى مِنْ نِفَاسِهَا) أَيْ تَرْتَفِعَ يُرِيدُ بِهِ تَخْرُجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ فَيُؤَخَّرُ إلَى زَمَانِ الْبُرْءِ. بِخِلَافِ الرَّجْمِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ وَقَدْ انْفَصَلَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ

وَأَمَّا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُمَا أَيْضًا فِي الْمُوَطَّأِ. وَأَمَّا رِوَايَتُهُ عَنْ عُثْمَانَ فَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ ابْنِ يَسَارٍ مَوْلًى لِعُثْمَانَ قَالَ: جَلَدَ عُثْمَانُ امْرَأَةً فِي زِنًا ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ الْمَهْرِيُّ إلَى خَيْبَرَ نَفَاهَا إلَيْهِ. فَهَذَا التَّغْرِيبُ الْمَرْوِيُّ عَمَّنْ ذَكَرْنَا كَتَغْرِيبِ عُمَرَ رضي الله عنه نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ وَغَيْرَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ لِجَمَالِهِ اُفْتُتِنَ بِهِ بَعْضُ النِّسَاءِ حَتَّى سَمِعَ قَوْلَ قَائِلَةٍ:

هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا

أَوْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ

إلَى فَتًى مَاجِدِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبَلٍ

سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ

وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَفْيًا، وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ السُّلُوكِ الْمُحَقِّقِينَ رضي الله عنهم وَرَضِيَ عَنَّا بِهِمْ وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ كَانُوا يُغَرِّبُونَ الْمُرِيدَ إذَا بَدَا مِنْهُ قُوَّةُ نَفْسٍ وَلَجَاجٍ لِتَنْكَسِرَ نَفْسُهُ وَتَلِينَ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُرِيدُ أَوْ مَنْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ الْقَاضِي فِي التَّغْرِيبِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي نَدَمٍ وَشِدَّةٍ، وَإِنَّمَا زَلَّ زَلَّةً لِغَلَبَةِ النَّفْسِ. أَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَحِ وَلَهُ حَالٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِغَلَبَةِ النَّفْسِ فَنَفْيُهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُوَسِّعُ طُرُقَ الْفَسَادِ وَيُسَهِّلُهَا عَلَيْهِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ وَحَدُّهُ الرَّجْمُ) بِأَنْ كَانَ مُحْصَنًا حُدَّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ قَتْلُهُ وَرَجْمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ لَا يُجْلَدُ حَتَّى يَبْرَأَ)؛ لِأَنَّ جَلْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِهِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَرَضُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالسُّلِّ أَوْ كَانَ خَدْلَجًا ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُضْرَبُ بِعِثْكَالٍ فِيهِ مِائَةٌ شِمْرَاخٍ فَيُضْرَبُ بِهِ دُفْعَةً، وَقَدْ سَمِعْت فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِ كُلِّ شِمْرَاخٍ إلَى بَدَنِهِ، وَكَذَا قِيلَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حِينَئِذٍ مَبْسُوطَةً، وَلِخَوْفِ التَّلَفِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى اعْتِدَالِ الزَّمَانِ، وَهَذَا فِي الْبَرْدِ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَجْرِيدَ الْمَحْدُودِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ، أَمَّا الْحَرُّ فَلَا. نَعَمْ لَوْ كَانَ ضَرْبُ الْحَدِّ مُبَرِّحًا صَحَّ ذَلِكَ لَكِنَّهُ شَدِيدٌ غَيْرُ مُبَرِّحٍ وَلَا جَارِحٍ فَلَا يَقْتَضِي الْحَالُ تَأْخِيرَ حَدِّهِ لِلْبَرْدِ وَالْحَرِّ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَإِنَّهُ جُرْحٌ عَظِيمٌ يُخَافُ مِنْهُ السِّرَايَةُ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْفَصْلَيْنِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا زَنَتْ الْحَامِلُ) لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَلَوْ جَلْدًا (كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ)؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَا جَرِيمَةَ مِنْهُ، فَلَوْ وَلَدَتْ أَوْ كَانَتْ نُفَسَاءَ فَحَتَّى تَتَعَالَى

ص: 245

صِيَانَةَ الْوَلَدِ عَنْ الضَّيَاعِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا وَضَعَتْ ارْجِعِي حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُك» ثُمَّ الْحُبْلَى تُحْبَسُ إلَى أَنْ تَلِدَ إنْ كَانَ الْحَدُّ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ كَيْ لَا تَهْرُبَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ عَامِلٌ فَلَا يُفِيدُ الْحَبْسُ.

(بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ)

مِنْ نِفَاسِهَا فِي الْجَلْدِ، وَلَوْ أَطَالَتْ فِي التَّأْخِيرِ وَتَقُولُ لَمْ أَضَعْ بَعْدُ أَوْ شُهِدَ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا فَقَالَتْ أَنَا حُبْلَى تُرَى لِلنِّسَاءِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ حَامِلٌ أَجَّلَهَا حَوْلَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَلِدْ رَجَمَهَا (ثُمَّ الْحُبْلَى تُحْبَسُ إنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ إلَى أَنْ تَلِدَ) وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا تُحْبَسُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ لَهَا الرُّجُوعَ مَتَى شَاءَتْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا وَلَدَتْ لَا تُحَدُّ حَتَّى تَفْطِمَ الْوَلَدَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُرَبِّيهِ. وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ «أَنَّهُ رَدَّهَا حَتَّى يَسْتَغْنِيَ فَرَجَعَتْ ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ وَفِي يَدِهِ كِسْرَةٌ وَقَالَتْ هَا قَدْ فَطَمْته» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ «اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِك، قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتْ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ: إذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إلَيَّ رَضَاعُهُ، قَالَ: فَرَجَمَهَا» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَجَمَهَا حِينَ وَضَعَتْ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَالطَّرِيقَانِ فِي مُسْلِمٍ وَهَذَا أَصَحُّ طَرِيقًا؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ وَفِيهِ مَقَالٌ. وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتَيْنِ وَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ نِسْبَتُهَا إلَى الْأَزْدِ. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ:«جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ رَجَمَهَا بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ» .

(بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ) لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ إنَّمَا هُوَ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ الْحُدُودِ كَانَ الْحَدُّ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ، فَلَزِمَ الِابْتِدَاءُ بِتَعْرِيفِهِ لُغَةً وَشَرْعًا فَفَعَلَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ تَقْدِيمَ حَدِّ الزِّنَا فَقَدَّمَهُ وَأَعْطَى أَحْكَامَهُ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَذَلِكَ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ. وَحَاصِلُ أَحْكَامِهِ كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِهِ وَشُرُوطُهَا وَكَيْفِيَّةُ إقَامَتِهِ وَشُرُوطُهَا فَكَانَ تَصَوُّرُ حَقِيقَةِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الزِّنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَقْصُودِ الْكِتَابِ ثَانِيًا، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّحَقُّقِ فِي الْوُجُودِ أَوَّلًا فَأَخَّرَ الْمُصَنِّفُ تَعْرِيفَهُ إلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ، وَذَكَرَ أَنَّ الزِّنَا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ: يَعْنِي لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ قَيْدٌ وَعَرَّفَهُ عَلَى هَذَا

ص: 246

قَالَ (الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الزِّنَا) وَإِنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاللِّسَانِ: وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ التَّعَرِّي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ،

التَّقْدِيرِ بِأَنَّهُ (وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ) وَهَذَا لِأَنَّ فِي اللُّغَةِ مَعْنَى الْمِلْكِ أَمْرٌ ثَابِتٌ قَبْلَ مَجِيءِ هَذَا الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا، لَكِنْ ثُبُوتُهُ بِالشَّرْعِ الْأَوَّلِ بِالضَّرُورَةِ، وَالنَّاسُ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْمِلْكِ أَمْرًا مَشْرُوعًا مِنْ بَعْثِ آدَمَ عليه السلام، أَوْ مِنْ قَبْلِ بَعْثِهِ بِوَحْيٍ يَخُصُّهُ: أَيْ يَخُصُّ الْمِلْكَ فَكَانَ ثُبُوتُهُ شَرْعًا مَعَ اللُّغَةِ مُطْلَقًا فِي الْوُجُودِ الدُّنْيَوِيِّ سَوَاءٌ كَانَتْ اللُّغَةُ عَرَبِيَّةً أَمْ غَيْرَهَا مَخْصُوصَةً بِالدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ قَبْلَهَا فَثُبُوتُ الْمُسَمَّى فِي الدُّنْيَا وَالْوَضْعِ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ قَبْلَ تَحَقُّقِهِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِلزِّنَا فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَخُصَّ اسْمَ الزِّنَا بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْهُ بَلْ هُوَ أَعَمُّ، وَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ»

وَلَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يُحَدُّ لِلزِّنَا وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِالزِّنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ زِنًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُحَدُّ بِهِ، فَلَوْلَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الزِّنَا وَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ إلَخْ لَصَحَّ تَعْرِيفُهُ وَلَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ كَانَ ظَاهِرًا فِي قَصْدِهِ إلَى تَعْرِيفِ الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ، وَحِينَئِذٍ يُرَدُّ عَلَى طَرْدِهِ وَطْءُ الصَّبِيَّةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى وَوَطْءُ الْمَجْنُونِ وَالْمُكْرَهِ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّ الْجِنْسَ وَطْءُ الرَّجُلِ، فَالْأَوْلَى فِي تَعْرِيفِهِ أَنَّهُ وَطْءٌ مُكَلَّفٌ طَائِعٌ مُشْتَهَاةٌ حَالًا أَوْ مَاضِيًا فِي الْقُبُلِ بِلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَخَرَجَ زِنَا الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُكْرَهِ وَبِالصَّبِيَّةِ الَّتِي تُشْتَهَى وَالْمَيِّتَةِ وَالْبَهِيمَةِ وَدَخَلَ وَطْءُ

ص: 247

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْعَجُوزِ، وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَى عَكْسِهِ زِنَا الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ زِنًا وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ جِنْسُ التَّعْرِيفِ. وَمَا أُجِيبَ بِهِ مِنْ أَنَّ زِنَاهَا يَدْخُلُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ بِسَبَبِ التَّمْكِينِ طَوْعًا، إنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهَا زِنًا حَقِيقَةً وَأَنَّ ذَلِكَ التَّمْكِينَ هُوَ مُسَمَّى زِنًا لُغَةً وَتُسَمَّى هِيَ زَانِيَةً حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً بِالتَّمْكِينِ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَشْمَلُهُ الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ وَطْءُ الْمُكَلَّفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ فَفَسَادُ الْحَدِّ بِحَالِهِ.

وَكَوْنُ فِعْلِهَا تَبَعًا لِفِعْلِهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، وَالْكَلَامُ فِي تَنَاوُلِ اللَّفْظِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى زَانِيَةً حَقِيقَةً أَصْلًا وَأَنَّ تَسْمِيَتَهَا فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنَّهُ تَبَعٌ بَلْ لَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِي التَّعْرِيفِ. وَعَلَى هَذَا كَلَامُ السَّرَخْسِيِّ وَالْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا مَكَّنَتْ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ الْمُسْلِمَةُ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَبِمَا ذَكَرْنَا يَظْهَرُ فَسَادُ مَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِعْلَ الْوَطْءِ أَمْرٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا وُجِدَ فِعْلُ الْوَطْءِ بَيْنَهُمَا يَتَّصِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِهِ وَتُسَمَّى هِيَ وَاطِئَةً وَلِذَا سَمَّاهَا سُبْحَانَهُ زَانِيَةً. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ عَلَى التَّعْرِيفِ مُغَالَطَةٌ، وَالْقَطْعُ بِأَنَّ وَطْأَهُ لَيْسَ يَصْدُقُ عَلَى تَمْكِينِهَا بِهُوَ هُوَ، فَإِذَا جَعَلَ الْجِنْسَ وَطْءَ الرَّجُلِ فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ اللَّفْظُ تَمْكِينَ الْمَرْأَةِ وَكَوْنُ الْفِعْلِ الْجُزْئِيِّ الْخَارِجِيِّ إذَا وُجِدَ مِنْ الرَّجُلِ فِي الْخَارِجِ يَسْتَدْعِي فِعْلًا آخَرَ مِنْهَا إذَا كَانَتْ طَائِعَةً لَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّفْظَ الْخَاصَّ بِفِعْلِهِ يَشْمَلُهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

فَالْحَقُّ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ زَانِيَةً حَقِيقَةً وَأُرِيدَ شُمُولُ التَّعْرِيفِ لِزِنَاهَا فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ قَوْلِهِ أَوْ تَمْكِينِهَا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَيُقَالُ: إدْخَالُ الْمُكَلَّفِ الطَّائِعِ قَدْرَ حَشَفَتِهِ قُبُلَ مُشْتَهَاةٍ حَالًا أَوْ مَاضِيًا بِلَا مِلْكٍ وَشُبْهَةٍ أَوْ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ تَمْكِينُهَا لِيَصْدُقَ عَلَى مَا لَوْ كَانَ مُسْتَلْقِيًا فَقَعَدَتْ عَلَى ذَكَرِهِ فَتَرَكَهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَيْسَ الْمَوْجُودُ مِنْهُ سِوَى التَّمْكِينِ.

وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ إلَخْ تَعْلِيلٌ لِأَخْذِ عَدَمِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ فِي الزِّنَا: أَيْ إنَّمَا شُرِطَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزِّنَا مَحْظُورٌ فَلَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ يُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ: أَيْ يُؤَيِّدُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَفَادَ عَدَمَ الْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ بِسَبَبِ دَرْءِ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ أَفَادَ عَدَمَهَا، وَدَرْءُ الْحَدِّ عِنْدَ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرِكَةِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى فَهُوَ بِدَلَالَتِهِ، ثُمَّ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ قِيلَ لَمْ يُحْفَظْ مَرْفُوعًا، وَذُكِرَ أَنَّهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ هُوَ النَّخَعِيُّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَأَنْ أُعَطِّلَ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُقِيمَهَا بِالشُّبُهَاتِ.

وَأُخْرِجَ عَنْ مُعَاذٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنهم قَالُوا: إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك الْحَدُّ فَادْرَأْهُ. وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ أَصْحَابِهِمْ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحِلُّ أَنْ يُدْرَأَ بِشُبْهَةٍ، وَشَنَّعَ بِأَنَّ الْآثَارَ الْمَذْكُورَةَ لِإِثْبَاتِ الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ لَيْسَ فِيهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ بَلْ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ طُرُقٍ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَأَعَلَّ مَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ وَهُوَ غَيْرُ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَإِنَّهَا مَعْلُولَةٌ بِإِسْحَاقَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ.

وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ أَوْ شَكَّ أَنْ يُوقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ تَعَالَى» مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ جَهِلَ حُرْمَةَ شَيْءٍ وَحِلَّهُ فَالْوَرَعُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُ، وَمَنْ جَهِلَ وُجُوبَ أَمْرٍ وَعَدَمَهُ فَلَا يُوجِبُهُ، وَمَنْ جَهِلَ أَوْجَبَ الْحَدَّ أَمْ لَا وَجَبَ أَنْ يُقِيمَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْإِرْسَالَ لَا يَقْدَحُ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ

ص: 248

يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ثُمَّ الشُّبْهَةُ نَوْعَانِ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً.

لِأَنَّ إسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لَا يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ، فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ. وَأَيْضًا فِي إجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ «الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ» كِفَايَةٌ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ. وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ مَا يُقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَقَدْ عَلِمْنَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمَاعِزٍ لَعَلَّك قَبَّلْت، لَعَلَّك لَمَسْت، لَعَلَّك غَمَزْت» كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إلَّا كَوْنُهُ إذَا قَالَهَا تُرِكَ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ. وَلَمْ يَقُلْ لِمَنْ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَك فَضَاعَتْ وَنَحْوُهُ، وَكَذَا قَالَ لِلسَّارِقِ الَّذِي جِيءَ بِهِ إلَيْهِ «أَسَرَقْت مَا إخَالُهُ سَرَقَ» وَلِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِشُرَاحَةَ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْك وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَك، لَعَلَّ مَوْلَاك زَوَّجَك مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ، وَتُتْبَعُ مِثْلُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ يُوجِبُ طَوْلًا.

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلُّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ، وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَائِلِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا فِي بَعْضٍ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ أَوْ لَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الشُّبْهَةُ مَا يُثْبِتُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَا لِلْفُقَهَاءِ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحَاتٌ؛ فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: الشُّبْهَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: فِي الْمَحَلِّ، وَالْفَاعِلِ، وَالْجِهَةِ. أَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فَوَطْءُ

ص: 249

فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا وَلَا بُدَّ مِنْ الظَّنِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ.

وَالثَّانِيَةُ تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ. وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالنَّوْعَيْنِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِيَةِ إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأُولَى وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًا فِي الْأُولَى؛ وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِبَاهُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَمَحَّضْ فِي الثَّانِيَةِ فَشُبْهَةُ الْفِعْلِ فِي ثَمَانِيَةِ

زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ وَالْمُحْرِمَةِ وَأَمَتِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ وَلَا حَدَّ فِيهِ، وَلَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ كَأُخْتِهِ أَوْ بِنْتِهِ مِنْهُمَا أَوْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ مَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْأَظْهَرِ.

وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَيَطَأَهَا ظَانًّا أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَلَا حَدَّ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ قَالَ الْأَصْحَابُ كُلُّ جِهَةٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا لَا حَدَّ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبِلَا شُهُودٍ. وَأَصْحَابُنَا قَسَّمُوا الشُّبْهَةَ قِسْمَيْنِ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ، وَشُبْهَةُ مُشَابَهَةٍ: أَيْ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ. وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً وَشُبْهَةَ مِلْكٍ: أَيْ الثَّابِتُ شُبْهَةُ حُكْمِ الشَّرْعِ بِحِلِّ الْمَحَلِّ (قَوْلُهُ فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إلَخْ) أَيْ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَلَا دَلِيلَ فِي السَّمْعِ يُفِيدُ الْحِلَّ، بَلْ ظُنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا كَمَا يُظَنُّ أَنَّ جَارِيَةَ زَوْجَتِهِ تَحِلُّ لَهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ اسْتِخْدَامٌ وَاسْتِخْدَامُهَا حَلَالٌ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الظَّنِّ، وَإِلَّا فَلَا شُبْهَةَ أَصْلًا لِفَرْضِ أَنْ لَا دَلِيلَ أَصْلًا لِتَثْبُتَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ الْحِلَّ ثَابِتًا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ أَصْلًا

(وَالثَّانِيَةُ) وَهِيَ الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ (تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ) كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» سَوَاءٌ ظَنَّ الْحِلَّ أَوْ عَلِمَ الْحُرْمَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ بِثُبُوتِ الدَّلِيلِ قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلِمَهَا أَحَدٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهَا (قَوْلُهُ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ) يَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ، (وَقَوْلُهُ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِي) أَيْ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ (إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًا) لِفَرْضِ أَنْ لَا شُبْهَةَ

ص: 250

مَوَاضِعَ: جَارِيَةُ أَبِيهِ وَأُمُّهُ وَزَوْجَتُهُ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَبَائِنًا بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَأُمُّ وَلَدٍ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَجَارِيَةُ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَالْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ.

مِلْكٍ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِظَنِّهِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَيْهِ: أَيْ إلَى الْوَاطِئِ لَا إلَى الْمَحَلِّ، فَكَانَ الْمَحَلُّ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حِلٍّ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبٌ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ عِدَّةٌ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ مِنْ الزَّانِي. قِيلَ هَذَا غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ فَيَكْفِي ذَلِكَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ. وَفِي الْإِيضَاحِ: الْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ وَالْمُخْتَلِعَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا. قَالَ شَارِحٌ: بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ.

وَثُبُوتُ نَسَبِ الْمَبْتُوتَةِ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ خُلْعٍ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ وَطْءٍ فِي الْعِدَّةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ عُلُوقٍ سَابِقٍ عَلَى الطَّلَاقِ، وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا يَثْبُتُ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ: يَعْنِي لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْعُلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِتَمَامِهِمَا، وَأَنْتَ عَلِمْت فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ إنَّمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إذَا لَمْ يَدَّعِهِ، أَمَّا إذَا ادَّعَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ نُصَّ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ وَيُحْمَلُ عَلَى وَطْءٍ فِي الْعِدَّةِ بِشُبْهَةٍ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا مُطْلَقٌ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مُعَلَّلًا بِأَنَّهُ زِنًا مَحْضٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بِحَمْلِ أَحَدِ النَّصَّيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فِي النَّظَرِ، وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شُبْهَةِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ بَاقِي مَحَالِّ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ كَجَارِيَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ لَا شُبْهَةَ عَقْدٍ فِيهِمَا فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالدَّعْوَةِ فَشُبْهَةُ الْفِعْلِ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ: أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ وَكَذَا جَدُّهُ وَجَدَّتُهُ، وَإِنْ عَلَيَا أَوْ زَوْجَتُهُ، أَوْ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا

ص: 251

فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا قَالَتْ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي. وَلَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَجَبَ الْحَدُّ. وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: جَارِيَةُ ابْنِهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ، وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ. فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ.

فِي الْعِدَّةِ، أَوْ بَائِنًا عَلَى مَالٍ، وَكَذَا الْمُخْتَلِعَةُ بِخِلَافِ الْبَيْنُونَةِ بِلَا مَالٍ فَهِيَ مِنْ الْحُكْمِيَّةِ، أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي أَعْتَقَهَا وَهِيَ فِي عِدَّتِهِ وَالْعَبْدُ يَطَأُ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ، وَالْمُرْتَهِنُ يَطَأُ الْمَرْهُونَةَ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ (فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا حَدَّ إذَا قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، وَلَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ وَجَبَ الْحَدُّ) وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الظَّنَّ وَالْآخَرُ لَمْ يَدَّعِ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا حَتَّى يُقِرَّا جَمِيعًا بِعِلْمِهِمَا الْحُرْمَةَ

لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إذَا ثَبَتَتْ فِي الْفِعْلِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَعَدَّتْ إلَى الْآخَرِ ضَرُورَةً.

وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: جَارِيَةُ ابْنِهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ، وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ إذَا وَطِئَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي، وَالْمَجْعُولَةُ مَهْرًا إذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إلَى الزَّوْجَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلزَّوْجَةِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَالِكُ كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى وَطْئِهَا بِتِلْكَ الْيَدِ مَعَ الْمِلْكِ، وَمِلْكُ الْيَدِ ثَابِتٌ وَالْمِلْكُ الزَّائِلُ مُزَلْزَلٌ وَالْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَرْهُونَةُ إذَا وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ وَعَلِمْت أَنَّهَا لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ (فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ)

ص: 252

ثُمَّ الشُّبْهَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا يَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إذَا عَرَفْنَا هَذَا

(وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ) لِزَوَالِ الْمِلْكِ الْمُحَلَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مُنْتَفِيَةً

لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ وَهِيَ هَاهُنَا قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ: أَيْ الْحُرْمَةِ الْقَائِمَةِ فِيهَا شُبْهَةُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ نَظَرًا إلَى دَلِيلِ الْحِلِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَنَحْوُهُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهَا. وَفِي الْإِيضَاحِ فِي الْمَرْهُونَةِ إذَا قَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ذَكَرَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَفِي كِتَابِ الْحُدُودِ يُحَدُّ، فَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ لِأَنَّهُ لَا اسْتِيفَاءَ مِنْ عَيْنِهَا بَلْ مِنْ مَعْنَاهَا، فَلَمْ يَكُنْ الْوَطْءُ حَاصِلًا فِي مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا فَلَا شُبْهَةَ فِعْلٍ وَصَارَ كَالْغَرِيمِ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ الْمَيِّتِ.

وَجْهُ عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ انْعَقَدَ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا وَمَالِكًا بِالْهَلَاكِ مِنْ وَقْتِ الرَّهْنِ فَصَارَ كَجَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ.

وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ فَهِيَ كَالْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْخِدْمَةِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ، وَإِنْ اشْتَبَهَ إلَّا أَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الرَّهْنِ سَبَبًا، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ حَالَ قِيَامِ الْجَارِيَةِ، بِخِلَافِ الْمَرْهُونَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إلَّا مَعَ هَلَاكِهَا، فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ مِلْكِهَا سَبَبًا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَكَانَ كَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ. هَذَا وَقَدْ دَخَلَ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ صُوَرٌ مِثْلُ وَطْءِ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ وَالْمَدْيُونِ وَمُكَاتَبِهِ وَوَطْءِ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَاَلَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ جَارِيَتَهُ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَجَارِيَتَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُك غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا كَالزَّوْجَةِ الَّتِي حَرُمَتْ بِرِدَّتِهَا أَوْ بِمُطَاوَعَتِهَا لِابْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ أُمَّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَاذِفِهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُحَرِّمْ بِهِ فَاسْتُحْسِنَ أَنْ يُدْرَأَ بِذَلِكَ الْحَدُّ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى السِّتَّةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ

(قَوْلُهُ ثُمَّ الشُّبْهَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ) فَصَارَتْ الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةً: شُبْهَةُ الْفِعْلِ، وَشُبْهَةُ الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ، وَكَذَا قَسَّمَهَا فِي الْمُحِيطِ. وَذَكَرَ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ أَنْ يَطَأَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَهِيَ أَمَةٌ أَوْ وَطِئَ الْعَبْدُ مَنْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ. قَالَ: وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ خَمْسًا فِي عَقْدٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ بِوَطْءٍ وَقَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ الْحَدُّ.

ص: 253

وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِانْتِفَاءِ الْحِلِّ وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ، وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّ أَثَرَ الْمِلْكِ قَائِمٌ فِي حَقِّ النَّسَبِ وَالْحَبْسِ وَالنَّفَقَةِ فَاعْتُبِرَ ظَنُّهُ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَالْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ عَلَى مَالٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَقِيَامِ بَعْضِ الْآثَارِ فِي الْعِدَّةِ

(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِّيَّةٌ أَوْ أَمْرُك بِيَدِك فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يُحَدَّ) لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِيهِ؛ فَمِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ

قَوْلُهُ وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِانْتِفَاءِ الْمَحَلِّ) إذْ قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يَعْنِي الثَّالِثَةَ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَحَلِّ وَهُمْ الْإِمَامِيَّةُ وَالزَّيْدِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ بِكَلِمَةٍ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ فَتَكُونُ حَلَالًا لِزَوْجِهَا (لِأَنَّهُ خِلَافٌ) بَعْدَ تَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يُعْتَبَرُ (لَا اخْتِلَافٌ) كَائِنٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ حَالَ تَرَدُّدِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُمْ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ لِيُعْتَبَرَ، وَهَذَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَنَّ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ تَقَرَّرَ فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي أَنَّهَا تَكُونُ وَاحِدَةً يَجِبُ كَوْنُهَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً إلَى آخِرِ مَا يُعْلَمُ فِيمَا أَسْلَفْنَاهُ، وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وُقُوعُ الثَّلَاثِ خِلَافَ مَا نَقَلُوا عَنْهُ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْمُصَنِّفِ بِالْفَاءِ قَوْلَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْهُ وَمِنْ قَوْلِهِ نَطَقَ الْكِتَابُ بِانْتِفَاءِ الْحِلِّ لِأَنَّ مَحَلَّ انْتِفَاءِ الْحِلِّ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا أَوْقَعَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ تَقَدُّمِ ثِنْتَيْنِ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهَا، إنَّمَا خِلَافُهُمْ فِي الثَّلَاثِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ هُوَ مُتَنَاوَلَ النَّصِّ

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْمِلْكِ قَائِمٌ) بِقِيَامِ الْعِدَّةِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ إذَا وَلَدَتْ، وَلَهُ حَبْسُهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَلِذَا يَحْرُمُ عِنْدَنَا نِكَاحُ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا وَتَمْتَنِعُ شَهَادَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَأَمْكَنَ أَنْ نَقِيسَ حِلَّ الْوَطْءِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَنَجْعَلَ الِاشْتِبَاهَ عَلَيْهِ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي أَوْ جَارِيَةً أَجْنَبِيَّةً عَلَى مَا يَأْتِي لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ (قَوْلُهُ وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا) وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ (وَالْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ عَلَى مَالٍ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْإِجْمَاعِ) يُرِيدُ حُرْمَةَ أَنْ يَطَأَهَا فِي الْعِدَّةِ، بِخِلَافِ الرَّجْعِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا إجْمَاعَ فِي حُرْمَتِهِ،

وَبِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا بِالْكِنَايَةِ كَأَنْ (قَالَ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ أَمْرُك بِيَدِك فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا) وَنَحْوُهُ (ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يُحَدُّ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ) فِي الْكِنَايَةِ (فَمِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ أَنَّهَا) أَيْ الْكِنَايَاتِ (رَجْعِيَّةٌ) وَكَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَفِي مُصَنِّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ: جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي كَلَامٌ فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ الَّذِي بِيَدِك مِنْ أَمْرِي بِيَدِي لَعَلِمْت كَيْفَ أَصْنَعُ، قَالَ: فَقُلْت لَهَا: قَدْ جَعَلْت أَمْرَك بِيَدِك فَقَالَتْ: أَنَا طَالِقٌ ثَلَاثًا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَرَاهَا وَاحِدَةً وَأَنْتَ

ص: 254

وَكَذَا إذَا نَوَى ثَلَاثًا لِقِيَامِ الِاخْتِلَافِ مَعَ ذَلِكَ

(وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ) لِأَنَّ الشُّبْهَةَ حُكْمِيَّةٌ لِأَنَّهَا نَشَأَتْ عَنْ دَلِيلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَنْتِ وَمَالُك لِأَبِيك» وَالْأُبُوَّةُ

أَحَقُّ بِالرَّجْعَةِ، وَسَأَلْنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: مَاذَا قُلْت؟ قَالَ: قُلْت أَرَاهَا وَاحِدَةً وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، قَالَ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ، وَزَادَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ: وَلَوْ رَأَيْت غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ تُصِبْ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْبَرِّيَّةِ وَالْخَلِيَّةِ هِيَ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَمْلَكُ بِرَجْعَتِهَا. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَرْأَةِ إذَا خَيَّرَهَا زَوْجُهَا فَاخْتَارَتْهُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ وَزَوْجُهَا أَمْلَكُ بِهَا.

وَمِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ فِي خَلِيَّةٍ وَبَرِّيَّةٍ أَنَّهَا ثَلَاثٌ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا أَنَّهَا وَاحِدَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ خَطَأُ مَنْ بَحَثَ فِي الْمُخْتَلِعَةِ وَقَالَ: يَنْبَغِي كَوْنُهَا مِنْ ذَوَاتِ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي الْخُلْعِ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِيهِ إنَّمَا هُوَ فِي كَوْنِهِ فَسْخًا أَوْ طَلَاقًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ الْمُخْتَلِعَةَ عَلَى مَالٍ تَقَعُ فُرْقَتُهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَكَذَا لَوْ نَوَى ثَلَاثًا بِالْكِنَايَةِ فَوَقَعْنَ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ عَنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ لَا يُحَدُّ لِتَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَعُرِفَ أَنَّ تَحَقُّقَهَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ، وَالثَّابِتُ هُنَا قِيَامُ الْخِلَافِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ أَبُو حَنِيفَةَ حَتَّى لَمْ يُخَفِّفْ النَّجَاسَةَ بِهِ؛ فَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُخَالِفِ عَنْ دَلِيلٍ قَائِمٍ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْمُولٍ بِهِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:«أَنْت وَمَالُك لِأَبِيك» غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ فِي إثْبَاتِ حَقِيقَةِ مِلْكِ الْأَبِ لِمَالِ ابْنِهِ نَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُلْغَزُ بِهَا فَيُقَالُ: مُطَلَّقَةٌ ثَلَاثًا وُطِئَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ عَلِمْت حُرْمَتَهَا لَا يُحَدُّ، وَهِيَ مَا وُقُوعُ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا بِالْكِنَايَةِ

(قَوْلُهُ وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ)، وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ حَيًّا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِ ابْنِهِ حَالَ قِيَامِ ابْنِهِ، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ ثُمَّ فِي الِاسْتِيلَادِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ حُكْمِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا عَنْ دَلِيلٍ هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالْمُنْذِرِيُّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا وَأَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك».

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَصْغَرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ جَابِرٍ «جَاءَ رَجُلٌ إلَيْهِ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِيهْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِيَهْ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: اُدْعُهُ لِيَهْ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: إنَّ ابْنَك يَزْعُمُ أَنَّك تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ، فَقَالَ: سَلْهُ هَلْ هُوَ إلَّا عَمَّاتِهِ أَوْ قَرَابَاتِهِ أَوْ مَا أُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِي وَعِيَالِي، قَالَ: فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الشَّيْخَ قَالَ فِي نَفْسِهِ شِعْرًا لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ، فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: قُلْت فِي نَفْسِك شِعْرًا لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاك فَهَاتِهِ، فَقَالَ: لَا يَزَالُ يَزِيدُنَا اللَّهُ بِك بَصِيرَةً وَيَقِينًا، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

غَذَوْتُك مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا

تَعُلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْك وَتَنْهَلُ

إذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْك بِالسَّقَمِ لَمْ أَبَتْ

لِسَقَمِك إلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ

ص: 255

قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ. قَالَ (وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ

(وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَاذِفِهِ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ) لِأَنَّ بَيْنَ هَؤُلَاءِ انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ فَظَنَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَكَانَ شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ إلَّا أَنَّهُ زِنًا

تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْهَا وَإِنَّهَا

لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ مُوَكَّلُ

كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَك بِاَلَّذِي

طَرَقْت بِهِ دُونِي فَعَيْنِي تُهْمِلُ فَلَمَّا

بَلَغْت السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي

إلَيْك مَرَامًا فِيك كُنْت أُؤَمِّلُ

جَعَلْت جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً

كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ

فَلَيْتُك إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي

فَعَلْت كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ

فَأَوْلَيْتَنِي حَقَّ الْجِوَارِ وَلَمْ تَكُنْ

عَلَيَّ بِمَالٍ دُونَ مَالِكِ تَبْخَلُ

قَالَ: فَبَكَى صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَخَذَ بِتَلْبِيبِ ابْنِهِ وَقَالَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك». وَرُوِيَ حَدِيثُ جَابِرٍ الْأَوَّلُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ هَذَا (وَيَثْبُتُ النَّسَبُ) يَقْتَضِي بِإِطْلَاقِهِ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِ الْجَارِيَةِ مِنْ وَطْءِ وَالِدِ سَيِّدِهَا وَجَدِّهِ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ الْأَمَةِ حَيًّا فَإِنَّهُ قَالَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ: لَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَثْبُتُ النَّسَبُ: أَيْ مِنْ وَاطِئِ جَارِيَةِ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، لَكِنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ فَقَطْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَهُوَ فَرْعُ تَمَلُّكِهَا وَالْجَدُّ لَا يَتَمَلَّكُهَا حَالَ حَيَاةِ الْأَبِ. وَمَا وَقَعَ فِي نُسَخِ النِّهَايَةِ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ خِزَانَةِ الْفِقْهِ لِأَبِي اللَّيْثِ: إذَا زَنَى بِجَارِيَةِ نَافِلَتِهِ وَالْأَبُ فِي الْأَحْيَاءِ، وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يُحَدُّ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ يَجِبُ الْحُكْمُ بِغَلَطِهِ، وَأَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ لَفْظَةُ لَا لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّارِحِينَ لِهَذَا الْمَكَانِ مُصَرِّحُونَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ، وَنَفْسُ أَبِي اللَّيْثِ صَرَّحَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْأَبِ. وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: أَنَّ مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا لَمْ تَثْبُتْ دَعْوَةُ الْجَدِّ إذَا كَذَّبَهُ. وَكَذَا الْوَلَدُ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِيلَادِ تَبْتَنِي عَلَى وِلَايَةِ نَقْلِ الْجَارِيَةِ إلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْجَدِّ وِلَايَةُ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْأَبِ، وَلَكِنْ إنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَدُ الْوَلَدِ عَتَقَ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْجَدِّ وَأَنَّهُ عَمُّهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَدِّ مِنْ قِيمَةِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا، وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ وَسَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْبُنُوَّةُ فَيَجِبُ الْعُقْرُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي حَيَاةِ الْأَب وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْجَدِّ عِنْدَ ذَلِكَ وِلَايَةُ نَقْلِهَا إلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الدَّعْوَةِ، صَدَّقَهُ ابْنُ الِابْنِ أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ كَالْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا إلَى نَفْسِهِ بِدَعْوَةِ الِاسْتِيلَادِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت حِلَّهَا لِي فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَاذِفِهِ) وَزُفَرُ يَحُدُّهُ لِقِيَامِ الْوَطْءِ الْخَالِي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ عَلَى ظَنِّ الْحِلِّ (وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ) فَقَالَ: ظَنَنْت حِلَّهَا لِي لَا يُحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت حُرْمَتَهَا حُدَّ (لِأَنَّ بَيْنَ هَؤُلَاءِ) أَيْ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَزَوْجَتِهِ وَالْعَبْدِ وَأَمَةِ سَيِّدِهِ (انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ فَظُنَّ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعُ) بِخِلَافِ مَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ وَعَمِّهِ عَلَى مَا يَأْتِي (فَكَانَ شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ إلَّا أَنَّهُ زِنًا

ص: 256

حَقِيقَةً فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ: ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي وَالْفَحْلُ لَمْ يَدَّعِ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ

(وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ) لِأَنَّهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَذَا سَائِرُ الْمَحَارِمِ سِوَى الْوِلَادِ لِمَا بَيَّنَّا.

حَقِيقَةً فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ) وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الْجَارِيَةُ) أَيْ إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ ظَنَنْت أَنَّ عَبْدَ مَوْلَايَ أَوْ ابْنَ مَوْلَايَ أَوْ مَوْلَاتِي يَحِلُّ لِي أَوْ زَوْجَ سَيِّدَتِي وَكَذَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ (وَالْفَحْلُ لَمْ يَدَّعِ) ذَلِكَ لَا يُحَدُّ (فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحَدُّ الْفَحْلُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تَمَكَّنَتْ فِي التَّبَعِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ فِي الزِّنَا فَلَا تَكُونُ مُتَمَكِّنَةً فِي الْأَصْلِ، بِخِلَافِ ثُبُوتِهَا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إذَا قَالَ: ظَنَنْت حِلَّهَا لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي الْأَصْلِ يَسْتَتْبِعُ التَّبَعَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا كَانَ وَاحِدًا لَهُ نِسْبَةٌ إلَيْهِمَا كَانَ مَا يَثْبُت فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنْ طَرَفَيْهِ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ يُحَدُّ هُوَ دُونَهَا. أُجِيبَ بِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْ الصَّبِيَّةِ لَا لِلشُّبْهَةِ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ شُبْهَةٌ فَوَجَبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ إيجَابُهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْعُقُوبَةِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الشُّبْهَةَ لَمَّا تَحَقَّقَتْ فِي الْفِعْلِ نَفَتْ الْحَدَّ عَنْ طَرَفَيْهِ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ كَانَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ لِزَوْجَتِهِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا لَوْ جَاءَتْ بِهِ جَارِيَةُ الزَّوْجَةِ وَغَيْرُهَا، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ وَلَدُهُ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ) وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ قَرَابَةٍ غَيْرِ الْوِلَادِ كَالْخَالِ وَالْخَالَةِ (وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ) لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي الْمِلْكِ وَلَا فِي الْفِعْلِ لِعَدَمِ انْبِسَاطِ كُلٍّ فِي مَالِ الْآخَرِ، فَدَعْوَى ظَنِّهِ الْحِلَّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ لَكِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ وَطْأَهُ هَذِهِ لَيْسَ زِنًا مُحَرَّمًا فَلَا يُعَارِضُ مَا فِي الْمُحِيطِ مِنْ قَوْلِهِ: شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يَنْفِيهِ مَسْأَلَةُ الْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فَزَنَى وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهُ حَلَالٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَيُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ فَعَلَهُ أَوَّلَ يَوْمٍ دَخَلَ الدَّارَ لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ لَا تَخْتَلِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إذَا ادَّعَى مُسْلِمٌ أَصْلِيٌّ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حُرْمَةَ الزِّنَا لَا يُحَدُّ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ الْحَدِّ، وَلَوْ أَرَادَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ شَرْطَ الْحَدِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِلْمُهُ بِالْحُرْمَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ كَانَ قَلِيلَ الْجَدْوَى أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحُدَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي ثَبَتَ زِنَاهُ عِنْدَهُ عَرَفَ ثُبُوتَ الْوُجُوبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ وَاجِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا وُجُوبُهُ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّانِي أَنْ يَحُدَّ نَفْسَهُ وَلَا أَنْ يُقِرَّ بِالزِّنَا، بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ، ثُمَّ إذَا اتَّصَلَ بِالْإِمَامِ ثُبُوتُهُ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْإِمَامِ. هَذَا وَأُورِدَ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ أَخِيهِ وَعَمِّهِ وَنَحْوِهِمْ لَا يُقْطَعُ، فَظَهَرَ أَنَّ بَيْنَهُمَا انْبِسَاطًا. أُجِيبَ بِأَنَّ الْقَطْعَ مَنُوطٌ بِالْأَخْذِ مِنْ الْحِرْزِ وَدُخُولِهِ فِي بَيْتِ هَؤُلَاءِ بِلَا حِشْمَةٍ وَاسْتِئْذَانٍ عَادَةً

ص: 257

(وَمَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ وَقَالَتْ النِّسَاءُ: إنَّهَا زَوْجَتُك فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ) قَضَى بِذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَبِالْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ الْإِخْبَارُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّ الْمِلْكَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً

(وَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ بَعْدَ طُولِ الصُّحْبَةِ فَلَمْ يَكُنْ الظَّنُّ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ، وَهَذَا

يَنْفِي مَعْنَى الْحِرْزِ فَانْتَفَى الْقَطْعُ. أَمَّا الْحَدُّ فَمَنُوطٌ بِعَدَمِ الْحِلِّ وَشُبْهَتِهِ وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا

(قَوْلُهُ وَمَنْ زُفَّتْ) أَيْ بُعِثَتْ (إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ وَقَالَ النِّسَاءُ هِيَ زَوْجَتُك فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ) وَهَذِهِ إجْمَاعِيَّةٌ لَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ، ثُمَّ الشُّبْهَةُ الثَّابِتَةُ فِيهَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ. وَدُفِعَ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ وَلَا يَثْبُتُ مِنْ الْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ نَسَبٌ. فَالْأَوْجَهُ أَنَّهَا شُبْهَةُ دَلِيلٍ، فَإِنَّ قَوْلَ النِّسَاءِ: هِيَ زَوْجَتُك دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مُبِيحٌ لِلْوَطْءِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلِذَا حَلَّ وَطْءُ الْأَمَةِ إذَا جَاءَتْ إلَى رَجُلٍ وَقَالَتْ: مَوْلَايَ أَرْسَلَنِي إلَيْك هَدِيَّةً، فَإِذَا كَانَ دَلِيلًا غَيْرَ صَحِيحٍ فِي الْوَاقِعِ أَوْجَبَ الشُّبْهَةَ الَّتِي يَثْبُتُ مَعَهَا النَّسَبُ وَعَلَى الْمَزْفُوفَةِ الْعِدَّةُ (قَوْلُهُ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) فَإِنَّ إحْصَانَهُ لَا يَسْقُطُ عِنْدَهُ بِهَذَا الْوَطْءِ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا عَلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ مُعْتَمَدًا دَلِيلًا وَلِذَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْمَهْرُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ وَطْئًا حَلَالًا ظَاهِرًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ خِلَافُ الظَّاهِرِ بَقِيَ الظَّاهِرُ مُعْتَبَرًا فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَبِالشُّبْهَةِ سَقَطَ الْحَدُّ. لَكِنْ سَقَطَ إحْصَانُهُ لِوُقُوعِ الْفِعْلِ زِنًا، وَهَذَا التَّوْجِيهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى كَوْنِهَا شُبْهَةَ مَحَلٍّ لِأَنَّ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ زِنًا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ أَشْكَلَ عَلَيْهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَأَطْلَقُوا أَنَّ فِيهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ شُبْهَةَ مَحَلٍّ اقْتَضَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلِمْتهَا حَرَامًا عَلَيَّ لِعِلْمِي بِكَذِبِ النِّسَاءِ لَا يُحَدُّ وَيُحَدُّ قَاذِفًا. وَالْحَقُّ أَنَّهُ شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَكَوْنُ الْإِخْبَارِ يُطْلِقُ الْجِمَاعَ شَرْعًا لَيْسَ هُوَ الدَّلِيلَ الْمُعْتَبَرَ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ هُوَ مَا مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ نَحْوُ «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَالْمِلْكُ الْقَائِمُ لِلشَّرِيكِ لَا مَا يُطْلَقُ شَرْعًا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ غَيْرَ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ: أَعْنِي عَدَمَ ثُبُوتِ النَّسَبِ لِلْإِجْمَاعِ فِيهِ. وَبِهَذِهِ وَالْمُعْتَدَّةِ ظَهَرَ عَدَمُ انْضِبَاطِ مَا مَهَّدُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الشُّبْهَتَيْنِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ قَاسُوهَا عَلَى الْمَزْفُوفَةِ بِجَامِعِ ظَنِّ الْحِلِّ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ

ص: 258

لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ الَّتِي فِي بَيْتِهَا، وَكَذَا إذَا كَانَ أَعْمَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ، إلَّا إنْ كَانَ دَعَاهَا فَأَجَابَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ وَقَالَتْ: أَنَا زَوْجَتُك فَوَاقَعَهَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ دَلِيلٌ

(وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَوَطِئَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَيَلْغُو كَمَا إذَا أُضِيفَ إلَى الذُّكُورِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ، وَحُكْمُهُ الْحِلُّ وَهِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يُقْبَلُ مَقْصُودُهُ، وَالْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِلتَّوَالُدِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ،

شُبْهَةُ الْحِلِّ وَلَا شُبْهَةَ هَاهُنَا أَصْلًا سِوَى أَنْ وَجَدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، وَمُجَرَّدُ وُجُودِ امْرَأَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْحِلِّ لِيَسْتَنِدَ الظَّنُّ إلَيْهِ (وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى الْفِرَاشِ غَيْرُ الزَّوْجَةِ) مِنْ حَبَائِبِهَا الزَّائِرَاتِ لَهَا وَقَرَابَاتِهَا فَلَمْ يَسْتَنِدْ الظَّنُّ إلَى مَا يَصْلُحُ دَلِيلَ حِلٍّ، فَكَانَ كَمَا لَوْ ظَنَّ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِلْخِدْمَةِ وَالْمُودَعَةَ حَلَالًا فَوَطِئَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ.

قَالَ (وَكَذَا إذَا كَانَ أَعْمَى) لِأَنَّ الْوُجُودَ عَلَى الْفِرَاشِ كَمَا ذَكَرْنَا لَيْسَ صَالِحًا لِاسْتِنَادِ الظَّنِّ إلَيْهِ (وَغَيْرَهُ) مِثْلُ مَا يَحْصُلُ بِالنِّعْمَةِ وَالْحَرَكَاتِ الْمَأْلُوفَةِ فَيُحَدُّ أَيْضًا (إلَّا إذَا دَعَاهَا فَأَجَابَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ وَقَالَتْ أَنَا زَوْجَتُك فَوَاقَعَهَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ دَلِيلٌ) وَجَازَ تَشَابُهُ النَّغْمَةِ خُصُوصًا لَوْ لَمْ تَطُلْ الصُّحْبَةُ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَقَالَتْ: أَنَا زَوْجَتُك لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَقُلْهُ بَلْ اقْتَصَرَتْ عَلَى الْجَوَابِ بِنَعَمْ وَنَحْوِهِ فَوَطِئَهَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَالُ مُتَوَسِّطًا فِي اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ إلَى أَنَّهَا هِيَ

(قَوْلُهُ وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا) بِأَنْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِ بِنَسَبٍ كَأُمِّهِ أَوْ ابْنَتِهِ (فَوَطِئَهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَزُفَرَ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لَا حَدًّا مُقَدَّرًا شَرْعًا إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَا حَدَّ وَلَا عُقُوبَةَ تَعْزِيرٍ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ) وَكَذَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ (يَجِبُ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ) وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُوَسَّطَ الضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ فَيَقُولَ وَقَالَا هُمَا وَالشَّافِعِيُّ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُتَّصِلِ

ص: 259

وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ حَقِيقَةِ الْحِلِّ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ لَا نَفْسَ الثَّابِتِ، إلَّا أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ

لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَفْصِلَ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى قَوْلٍ وَإِلَّا فَشَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مُحَرَّمَةٍ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَفِي الْكَافِي لِحَافِظِ الدِّينِ: مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ وَمُعْتَدَّتُهُ وَمُطَلَّقَتُهُ الثَّلَاثَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ كَالْمُحَرَّمِ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبِلَا شُهُودٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْكُلِّ، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً أَوْ أَمَةً بِلَا إذْنِ سَيِّدِهَا أَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِلَا إذْنِ سَيِّدِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، أَمَّا عِنْدَهُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ.

وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: أَرَادَ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا نِكَاحَ الْمَحَارِمِ وَالْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ وَمَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ وَمُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ وَنِكَاحَ الْخَامِسَةِ وَأُخْتِ الْمَرْأَةِ فِي عِدَّتِهَا وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ وَنِكَاحَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ بِلَا إذْنِ الْمَوْلَى وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، فَفِي كُلِّ هَذَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَعِنْدَهُمْ يَجِبُ إذَا عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ وَإِلَّا فَلَا، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنَّهُمَا قَالَا فِيمَا لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَقَدْ تَعَارَضَا حَيْثُ جَعَلَ فِي الْكَافِي الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةَ وَالْأَمَةَ بِلَا إذْنِ السَّيِّدِ، وَتَزَوُّجَ الْعَبْدِ بِلَا إذْنِ السَّيِّدِ مَحَلَّ الِاتِّفَاقِ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ، وَجَعَلَهَا هَذَا الشَّارِحُ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ وَأَضَافَ إلَى ذَلِكَ مَا سَمِعْت، ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي عِبَارَتِهِ مِنْ عَدَمِ التَّحْرِيرِ، ثُمَّ قَوْلُ حَافِظِ الدِّينِ فِي الْكَافِي فِي تَعْلِيلِ سُقُوطِ الْحَدِّ فِي تَزَوُّجِ الْمَجُوسِيَّةِ وَمَا مَعَهَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَهُمَا: يَعْنِي حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ إذَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ يَقْتَضِي حِينَئِذٍ أَنْ لَا يُحَدَّ عِنْدَهُمَا فِي تَزَوُّجِ مَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ وَمَا مَعَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُقَيَّدَةٌ بِبَقَاءِ نِكَاحِهَا وَعِدَّتِهَا؛ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْمَجُوسِيَّةِ مُغَيَّاةٌ بِتَمَجُّسِهَا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَتْ حَلَّتْ، كَمَا أَنَّ تِلْكَ لَوْ طَلُقَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَلَّتْ وَأَنَّهُ لَا يُحَدُّ عِنْدَهُمَا إلَّا فِي الْمَحَارِمِ فَقَطْ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي. وَاَلَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَى نَقْلِهِمْ وَتَحْرِيرِهِمْ مِثْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ كَذَلِكَ ذَكَرُوا، فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمَا أَنَّهُ يُحَدُّ فِي ذَاتِ الْمَحْرَمِ وَلَا يُحَدُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ: مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً أَوْ خَامِسَةً أَوْ مُعْتَدَّةً.

وَعِبَارَةُ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ تُفِيدُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَدَخَلَ بِهَا قَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَلَى عِلْمٍ لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا وَيَوْجَعُ عُقُوبَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ إلَى هُنَا لَفْظُهُ، فَعُمِّمَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ خَصَّ مُخَالَفَتَهُمَا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ، فَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الرِّوَايَاتِ.

وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَحَارِمِ رِوَايَةً عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ يُضْرَبُ عُنُقُهُ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَقَصَرَ ابْنُ حَزْمٍ قَتْلَهُ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ امْرَأَةَ أَبِيهِ قَصْرًا لِلْحَدِيثِ الْآتِي عَلَى مَوْرِدِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ تُضْرَبُ عُنُقُهُ، وَيُؤْخَذُ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ قَالَ: «لَقِيت خَالِي وَمَعَهُ رَايَةٌ فَقُلْت لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ

ص: 260

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ». وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَاقْتُلُوهُ» وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَقَدَ مُسْتَحِلًّا فَارْتَدَّ بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ ضَرْبَ الْعُنُقِ وَأَخْذَ الْمَالِ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لِلْكُفْرِ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَنْ «مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَدَّهُ مُعَاوِيَةَ إلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ وَيُخَمِّسَ مَالَهُ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَارْتَدَّ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَرَّسَ بِهَا وَتَعْرِيسُهُ بِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ وَطْأَهُ إيَّاهَا، وَغَيْرُ الْوَطْءِ لَا يُحَدُّ بِهِ فَضْلًا عَنْ الْقَتْلِ فَحَيْثُ كَانَ الْقَتْلُ كَانَ لِلرِّدَّةِ. وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَمَّا كَانَ عَدَمُ الْحَدِّ وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ كَانَ قَتْلُهُ جَائِزًا كَوْنُهُ لِوَطْئِهِ وَكَوْنُهُ لِرِدَّتِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لِلرِّدَّةِ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لِلْوَطْءِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ يَكْفِينَا. وَقَالُوا: جَازَ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ لِلِاسْتِحْلَالِ، أَوْ أَمَرَ بِذَلِكَ سِيَاسَةً وَتَعْزِيرًا.

وَجْهُ الْقَائِلِ بِالْحَدِّ أَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ وَالْوَاطِئُ أَهْلٌ لِلْحَدِّ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ فَيَجِبُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ وَلَيْسَ الْعَقْدُ شُبْهَةً لِأَنَّهُ نَفْسَهُ جِنَايَةٌ هُنَا تُوجِبُ الْعُقُوبَةَ انْضَمَّتْ إلَى الزِّنَا فَلَمْ تَكُنْ شُبْهَةً كَمَا لَوْ أَكْرَهَهَا وَعَاقَبَهَا ثُمَّ زَنَى بِهَا؛ وَمَدَارُ الْخِلَافِ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يُوجِبُ شُبْهَةً أَمْ لَا، فَعِنْدَهُمْ لَا كَمَا ذُكِرَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ وَزُفَرَ نَعَمْ، وَمَدَارُ كَوْنِهِ يُوجِبُ شُبْهَةً عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَا هُوَ مَحَلُّهُ أَوْ لَا، فَعِنْدَهُمْ لَا لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مَا يُقْبَلُ حُكْمُهُ وَحُكْمُهُ الْحِلُّ، وَهَذِهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي سَائِرِ الْحَالَاتِ فَكَانَ الثَّابِتُ صُورَةَ الْعَقْدِ لَا انْعِقَادَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا انْعِقَادَ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ كَمَا لَوْ عُقِدَ عَلَى ذَكَرٍ، وَعِنْدَهُ نَعَمْ لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ لَيْسَتْ لِقَبُولِ الْحِلِّ بَلْ لِقَبُولِ الْمَقَاصِدِ مِنْ الْعَقْدِ وَهُوَ ثَابِتٌ وَلِذَا صَحَّ مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهَا، وَبِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ يَظْهَرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَارَدُوا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدَةٍ فِي الْمَحَلِّيَّةِ، فَهُمْ حَيْثُ نَفَوْا مَحَلِّيَّتَهَا أَرَادُوا بِالنِّسْبَةِ إلَى خُصُوصِ هَذَا الْعَاقِدِ: أَيْ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِعَقْدِ هَذَا الْعَاقِدِ وَلِذَا عَلَّلُوهُ بِعَدَمِ حِلِّهَا، وَلَا شَكَّ فِي حِلِّهَا لِغَيْرِهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ لَا مَحَلِّيَّتِهَا لِلْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْعَقْدُ، وَهُوَ حَيْثُ أَثْبَتَ مَحَلِّيَّتَهَا أَرَادَ مَحَلِّيَّتَهَا لِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى خُصُوصِ عَاقِدٍ وَلِذَا عَلَّلَ بِقَبُولِهَا مَقَاصِدَهُ.

فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ أَطْلَقَ الْكُلَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ عَدَمُ مَحَلِّيَّةِ الْمَحَارِمِ لِنِكَاحِ الْمُحَرَّمِ. فَفِي الْأُصُولِ حَيْثُ قَالُوا: إنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ مَجَازٌ عَنْ النَّفْيِ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ، وَفِي الْفِقْهِ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَحَلُّ النِّكَاحِ أُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْمَحَلِّيَّةِ لِعَقْدِ النَّاكِحِ الْخَاصِّ. وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا أَثْبَتَ مَحَلِّيَّتَهَا لِلنِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى خُصُوصِ نَاكِحٍ وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ. بَقِيَ النَّظَرُ فِي أَنَّ أَيُّ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي ثُبُوتِ الْمَحَلِّيَّةِ أَوْلَى كَوْنُهُ قَابِلًا لِلْمَقَاصِدِ أَوْ كَوْنُهُ حَلَالًا، إنْ نَظَرْنَا إلَى الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَتْبَعَ الْحِلُّ قِيَامَ الْحَاجَةِ لِتُدْفَعَ بِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ تَرَجَّحَ قَوْلُهُ، أَوْ إلَى السَّمْعِ أَعْنِي مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ قَوْلُ الْكُلِّ: إنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مَعَ أَنَّهَا إنَّمَا فِيهَا عَدَمُ الْحِلِّ تَرَجَّحُوا، وَقَدْ رُجِّحَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» حُكِمَ بِالْبُطْلَانِ وَأَوْجَبَ الْمَهْرَ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَوْنُهُ لَا يَعْتَقِدُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِتَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ آيِلٌ إلَى الْبُطْلَانِ بِاعْتِرَاضِ الْوَلِيِّ بِأَنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ وَالْآخَرُ تَخْصِيصُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهَا كَالْأَمَةِ وَالصَّبِيَّةِ، عَلَى هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ

ص: 261

(وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يُعَزَّرُ) لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ

(وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ عليه السلام فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُعَزَّرُ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ، وَقَالَا: هُوَ كَالزِّنَا فَيُحَدُّ) وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ،

أَقْرَبُ التَّأْوِيلَيْنِ لِنُدْرَةِ فَسْخِ وَلِيٍّ بِسَبَبِ عَدَمِ كَفَاءَةِ مَنْ زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْهُ وَقَدْ حُكِمَ فِيهِ بِالْمَهْرِ إنْ دَخَلَ، لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ تَحَقُّقَ الشُّبْهَةِ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْحِلِّ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا مَحَالَةَ شُبْهَةُ الْحِلِّ لَكِنْ حِلُّهَا لَيْسَ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ وَإِلَّا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ وَثَبَتَ النَّسَبُ. وَدُفِعَ بِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ الْتَزَمَ ذَلِكَ.

وَعَلَى التَّسْلِيمِ فَثُبُوتُ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ أَقَلُّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ وُجُودُ الْحِلِّ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْمَحَارِمِ، وَشُبْهَةُ الْحِلِّ لَيْسَ ثُبُوتَ الْحِلِّ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَلَا ثُبُوتَ لِمَا لَهُ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْزَمَ عُقُوبَتَهُ بِأَشَدَّ مَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُثْبِتْ عُقُوبَةً هِيَ الْحَدُّ فَعُرِفَ أَنَّهُ زِنًا مَحْضٌ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةً فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ.

وَمِنْ شُبْهَةِ الْعَقْدِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْنِيَ بِهَا فَفَعَلَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ، وَقَالَ: هُمَا وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُحَدُّ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ ثُمَّ زَنَى بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ اتِّفَاقًا. وَلَهُ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالزِّنَا الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْحَقِيقَةِ تَكُونُ مَحَلًّا لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ لِلطَّبْخِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُضَفْ إلَى الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَالْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ يُورِثُ الشُّبْهَةَ فِيهِ لَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ.

وَفِي الْكَافِي: لَوْ قَالَ أَمْهَرْتُك كَذَا لِأَزْنِيَ بِكَ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك أَوْ خُذِي هَذِهِ الدَّرَاهِمَ لِأَطَأَك. وَالْحَقُّ فِي هَذَا كُلِّهِ وُجُوبُ الْحَدِّ إذْ الْمَذْكُورُ مَعْنًى يُعَارِضُهُ كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} فَالْمَعْنَى الَّذِي يُفِيدُ أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا مَعَ قَوْلِهِ: أَزْنِي بِك لَا يُجْلَدُ مَعَهُ لِلَفْظَةِ الْمَهْرِ مُعَارِضٌ لَهُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ) بِأَنْ أَوْلَجَ فِي مَغَابِنِ بَطْنِهَا وَنَحْوِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يَعُمُّ الدُّبُرَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْآتِيَةُ (يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ) مُحَرَّمٌ (لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ) فَفِيهِ التَّعْزِيرُ، وَمِثْلُهُ مَا إذَا أَتَتْ امْرَأَةٌ امْرَأَةً أُخْرَى فَإِنَّهُمَا يُعَزَّرَانِ لِذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً) أَيْ أَجْنَبِيَّةً (فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ) أَيْ دُبُرِهَا (أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ) وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ، وَلَوْ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ قَتَلَهُ الْإِمَامُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ سِيَاسَةً، أَمَّا الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ وَقَالَا هُوَ كَالزِّنَا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُفِيدُ اعْتِرَافَهُمَا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الزِّنَا بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَا فَيُحَدُّ جَلْدًا إنْ لَمْ يَكُنْ أَحْصَنَ وَرَجْمًا إنْ أَحْصَنَ. وَذَكَرَ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْغُلَامِ. أَمَّا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا حُدَّ بِلَا خِلَافٍ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا بِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ لَا يُحَدُّ إجْمَاعًا، كَذَا فِي الْكَافِي. نَعَمْ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّعْزِيرِ وَالْقَتْلِ لِمَنْ اعْتَادَهُ إنْ رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ، لَكِنْ

ص: 262

وَقَالَ فِي قَوْلٍ يُقْتَلَانِ بِكُلِّ حَالٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ» وَيُرْوَى «فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا لِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ. وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي مُوجِبِهِ مِنْ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ بِاتِّبَاعِ الْأَحْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَاعَةُ الْوَلَدِ وَاشْتِبَاهُ الْأَنْسَابِ، وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّاعِي إلَى الزِّنَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ عِنْدَهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ

لِلشَّافِعِيِّ فِي عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَمَنْكُوحَتِهِ قَوْلَانِ، وَهَلْ تَكُونُ اللِّوَاطَةُ فِي الْجَنَّةِ: أَيْ هَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا فِيهَا، قِيلَ إنْ كَانَ حُرْمَتُهَا عَقْلًا وَسَمْعًا لَا تَكُونُ، وَإِنْ كَانَ سَمْعًا فَقَطْ جَازَ أَنْ تَكُونَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِيهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى اسْتَبْعَدَهُ وَاسْتَقْبَحَهُ فَقَالَ {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} وَسَمَّاهُ خَبِيثَةً فَقَالَ {كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} وَالْجَنَّةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْهُمَا (وَقَالَ) الشَّافِعِيُّ (فِي قَوْلٍ: يُقْتَلَانِ) فَفِي وَجْهٍ بِالسَّيْفِ (بِكُلِّ حَالٍ) أَيْ بِكْرَيْنِ كَانَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ، وَفِي قَوْلٍ يُرْجَمَانِ بِكُلِّ حَالٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ مِنْ مَذْهَبِهِ يُحَدُّ جَلْدًا وَتَغْرِيبًا إنْ كَانَ بِكْرًا وَرَجْمًا إنْ أَحْصَنَ.

وَجْهُ الْقَتْلِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوهُ، الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فَقَالَ «مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْقَتْلَ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ رَوَاهُ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ

ص: 263

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَبِي صَالِحٍ غَيْرُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ الْعُمْرِيُّ، وَهُوَ يُضَعِّفُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَبْلِ حِفْظِهِ، وَبِسَنَدِ السُّنَنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو صَدُوقٌ، لَكِنَّهُ رَوَى عَنْ عِكْرِمَةَ مَنَاكِيرَ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْجَمَاعَةُ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَسَكَتَ عَنْهُ. وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيَّ سَاقِطٌ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ التَّرَدُّدِ فِي أَمْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَى الْقَتْلِ مُسْتَمِرًّا عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ، وَلَوْ سَلِمَ حُمِلَ عَلَى قَتْلِهِ سِيَاسَةً. وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ بَلْ أَبْلَغُ حُرْمَةً وَتَضْيِيعًا لِلْمَاءِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَدْ تَنْكَشِفُ فِي الزِّنَا بِالْعَقْدِ وَقَدْ يُتَوَهَّمُ الْوَلَدُ فِيهِ، بِخِلَافِ اللِّوَاطَةِ فِيهِمَا فَيَثْبُتُ حُكْمُ الزِّنَا لَهُ بِدَلَالَةِ نَصِّ حَدِّ الزِّنَا لَا بِالْقِيَاسِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا وَلَا مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَدٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ التَّحْرِيقَ بِالنَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُهْدَمُ عَلَيْهِ الْجِدَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْقِيهِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ مَعَ إتْبَاعِ الْأَحْجَارِ، فَلَوْ كَانَ زِنًا فِي اللِّسَانِ أَوْ فِي مَعْنَاهُ لَمْ يَخْتَلِفُوا بَلْ كَانُوا يَتَّفِقُونَ عَلَى إيجَابِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهِ. فَاخْتِلَافُهُمْ فِي مُوجِبِهِ وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُسَمَّى لَفْظِ الزِّنَا لُغَةً وَلَا مَعْنَاهُ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِ الْقَائِلِ:

مِنْ كَفِّ ذَاتِ حِرٍ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ

لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ وَزَنَّاءٌ

فَلِعَدَمِ مَعْرِفَةِ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْبَيْتُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ حَيْثُ قَالَ قَائِلُهُمْ وَذِكْرُ الْبَيْتِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ بَلْ هُوَ مِنْ شِعْرِ أَبِي نُوَاسٍ مِنْ قَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا:

دَعْ عَنْك لَوْمِي فَإِنَّ اللُّوَّمَ إغْرَاءُ

وَدَاوِنِي بِاَلَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ

وَهِيَ قَصِيدَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي دِيوَانِهِ، وَهُوَ مُوَلَّدٌ لَا تَثْبُتُ اللُّغَةُ بِكَلَامِهِ مَعَ أَنَّهُ يَنْبَغِي تَطْهِيرُ كُتُبِ الشَّرِيعَةِ عَنْ أَمْثَالِهِ.

وَأَيْضًا لَا يُثْبِتُ دَلَالَةً لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمَ فِي الزِّنَا لَيْسَ إضَاعَةَ الْمَاءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إضَاعَتُهُ لِجَوَازِ إضَاعَتِهِ بِالْعَزْلِ بَلْ إفْضَاؤُهُ إلَى إضَاعَةِ الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ إهْلَاكٌ مَعْنًى، فَإِنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَيْسَ لَهُ أَبٌ يُرَبِّيهِ وَالْأُمُّ بِمُفْرَدِهَا عَاجِزَةٌ عَنْهُ فَيَشِبُّ عَلَى أَسْوَإِ الْأَحْوَالِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَدَّعِيهِ بَعْضُ السُّفَهَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ شَرْعًا لِيَخْتَصَّ بِهِ وَيَنْفَعَهُ وَيَشْتَبِهَ عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ فَيَقَعَ التَّقَاتُلُ وَالْفِتْنَةُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي اللِّوَاطِ (وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا مِنْ الزِّنَا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ) عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، بِخِلَافِ الزِّنَا لِتَحَقُّقِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِمْرَارِ لِنُدْرَةِ وُقُوعِ الزِّنَا بِصَبِيَّةٍ لَا تُشْتَهَى أَصْلًا إذْ قَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ، وَلَا عِبْرَةَ بِأَوْكَدِيَّةِ الْحُرْمَةِ فِي ثُبُوتِ عَيْنِ مُوجِبِ الْآخَرِ، وَلِذَا لَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْبَوْلِ الْمُجْمَعِ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَيُحَدُّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحَدُّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْمُسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دُونَ الْأَعْلَى بَلْ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لَهُ زَاجِرٌ قَوِيٌّ وَقَدْ لَا إلَّا إيعَادَ عِقَابِ الْآخِرَةِ.

وَأَمَّا تَخْرِيجُ مَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعُزَيْرِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ دَاوُد بْنِ بَكْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ: أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، فَجَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحَابَةَ فَسَأَلَهُمْ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلًا عَلِيٌّ رضي الله عنه قَالَ: هَذَا ذَنْبٌ لَمْ يَعْصِ بِهِ إلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ، نَرَى أَنْ نُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ

ص: 264

(وَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً لَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً وَفِي وُجُودِ الدَّاعِي لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْهُ وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ نِهَايَةُ السَّفَهِ أَوْ فَرْطُ الشَّبَقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّهُ تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَتُحْرَقُ فَذَلِكَ لِقَطْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ

قَالَ: وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ فِي آخِرِ رِدَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ مُضَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا حَدُّ اللِّوَاطَةِ؛ قَالَ: يُنْظَرُ إلَى أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْقَرْيَةِ فَيُرْمَى مِنْهُ مُنَكَّسًا ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَكَأَنَّ مَأْخَذَ هَذَا أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ أُهْلِكُوا بِذَلِكَ حَيْثُ حُمِلَتْ قُرَاهُمْ وَنُكِّسَتْ بِهِمْ، وَلَا شَكَّ فِي اتِّبَاعِ الْهَدِيمِ بِهِمْ وَهُمْ نَازِلُونَ. وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ يُحْبَسَانِ فِي أَنْتَنِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَمُوتَا نَتِنًا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَسْمِيَتِهَا فَاحِشَةً فِي قَوْله تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْفَاحِشَةَ لَا تَخُصُّ لُغَةً الزِّنَا، قَالَ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ " إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّا " أَيْ مِنْ أَنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ

(قَوْلُهُ وَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) وَكَذَا إذَا زَنَى بِمَيِّتَةٍ لِأَنَّهُ لِلزَّجْرِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا طَرِيقُ وُجُودِهِ مُنْفَتِحٌ سَالِكٌ. وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ وَلَا السُّفَهَاءُ، وَإِنْ اتَّفَقَ لِبَعْضِهِمْ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الزَّاجِرِ لِزَجْرِ الطَّبْعِ عَنْهُ (وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ فِي الْبَهِيمَةِ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ (وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّهُ تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَتُحْرَقُ فَذَلِكَ لِقَطْعِ) امْتِدَادِ (التَّحَدُّثِ بِهِ) كُلَّمَا رُئِيَتْ فَيَتَأَذَّى الْفَاعِلُ بِهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.

وَإِذَا ذُبِحَتْ وَهِيَ مِمَّا لَا تُؤْكَلُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا إنْ كَانَ مَالِكُهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهَا ذُبِحَتْ لِأَجْلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْكَلُ أُكِلَتْ، وَضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تُؤْكَلُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرْوِيِّ مَا رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا» قُلْت لَهُ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ قَالَ: مَا أَرَاهُ قَالَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا أَوْ يُنْتَفَعُ بِهَا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا مَا عَمِلَ. وَلَعَلَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا هُوَ الْمُتَمَسِّكُ لِأَبِي يُوسُفَ فِي عَدَمِ أَكْلِهَا إلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ الْأَصْحَابُ مِنْ قَطْعِ التَّعْيِيرِ أَقْرَبُ إلَى النَّفْسِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْبَاقُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عَمْرٍو هَذَا، وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ أَحْمَدُ ثِقَةٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ، وَضَعَّفَ أَبُو دَاوُد هَذَا الْحَدِيثَ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ:" لَيْسَ عَلَى الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ حَدٌّ " وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ الرَّفْعُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِمَا وَتَأْوِيلِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَمُحَالٌ أَنْ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَتْلُ ثُمَّ يُخَالِفُهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَفْظُهُ «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو

ص: 265

وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ

(وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ). وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَهُ أَيْنَمَا كَانَ مَقَامُهُ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ فِيهِمَا فَيُعَرَّى الْوُجُوبُ عَنْ الْفَائِدَةِ، وَلَا تُقَامُ بَعْدَ

بِزِيَادَةٍ. وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا) فَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِهِ (لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٍ (يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ أَيْنَمَا كَانَ مَقَامُهُ) قُلْنَا: سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُلْتَزَمٌ لِلْأَحْكَامِ، لَكِنَّ الْحَدَّ لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ مُلْتَزَمَهُ بِالْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، بَلْ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ الْتِزَامُهُ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْقَاضِي فَقَضَى بِإِقَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا بَلْ فِي نَفْسِ وُجُوبِ الْحَدِّ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ فَهَذَا الدَّلِيلُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ.

فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْإِقَامَةُ عَلَى الزَّانِي مُطْلَقًا أَيْنَمَا كَانَ زِنَاهُ. وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: امْتَنَعَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ وَلَا قُدْرَةَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا وُجُوبَ، وَإِلَّا عُرِّيَ عَنْ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ لِيَحْصُلَ الزَّجْرُ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَرَجَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْإِيجَابِ حَالَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا لَهُ حَالَ عَدَمِهِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ» لَمْ يُعْلَمْ لَهُ وُجُودٌ.

وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ» ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَدَّثَنَا بَعْضُ أَشْيَاخِنَا عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ

ص: 266

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قَالَ: لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ أَهْلُهَا بِالْعَدُوِّ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَإِلَى عُمَّالِهِ: أَنْ لَا تُقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ حَتَّى يَخْرُجُوا إلَى أَرْضِ الْمُصَالَحَةِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ هَذَا الشَّيْخُ وَمَكْحُولٌ لَمْ يُدْرِكْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا نَوْعُ انْقِطَاعٍ، وَمُعْتَقَدُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْإِرْسَالِ، وَأَنَّ حَذْفَ الشَّيْخِ لَا يَكُونُ مِنْ الْعَدْلِ الْمُجْتَهَدِ إلَّا لِلْعِلْمِ بِثِقَتِهِ فَلَا يَضُرُّ عَلَى رَأْيِ مُثْبِتِي الْمُرْسَلِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ كَوْنِ الْمُرْسَلِ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّأْنِ وَالْعَدَالَةِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْن أَبِي مَرْيَمَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ، وَزَادَ: لِئَلَّا تَحْمِلَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ أَنْ يَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ انْتَهَى. أَثَرٌ آخَرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا: حَدَّثَتَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ رُومَانٍ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ» انْتَهَى. وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ " فِي الْغَزْوِ " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ يَرَوْنَ أَنْ لَا يُقَامَ الْحَدُّ فِي الْغَزْوِ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ مَنْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالْعَدُوِّ، فَإِذَا رَجَعَ الْإِمَامُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَعَ الْأَوْزَاعِيِّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، فَمَذْهَبُهُمْ تَأْخِيرُ الْحَدِّ إلَى الْقُفُولِ، وَبُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ وَيُقَالُ ابْنُ أَبِي أَرْطَاةَ اُخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُنْكِرُونَ سَمَاعَ بُسْرٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَقُولُ: بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ رَجُلُ سُوءٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَذَلِكَ لِمَا اُشْتُهِرَ مِنْ سُوءِ فِعْلِهِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْحَرَّةِ اهـ.

فَلَوْ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ رَضِيَ مَا وَقَعَ عَامَ الْحَرَّةِ وَكَانَ مِنْ أَعْوَانِهَا. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ لَوْ ثَبَتَتْ بِطَرِيقٍ مُوجِبٍ لِلْعَمَلِ مُعَلَّلَةً بِمَخَافَةِ لَحَاقِ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَنَّهُ يُقَامُ إذَا خَرَجَ وَكَوْنُهُ يُقِيمُهُ إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَتَّى يَخْرُجُوا إلَى أَرْضِ الْمُصَالَحَةِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَا الَّذِي كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَلْ إنَّهُ إذَا صَارَ إلَى أَرْضِ الْمُصَالَحَةِ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا إذَا زَنَى.

قُلْنَا: أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلُ، وَلَوْ سَلِمَ احْتِمَالُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يَتَرَجَّحُ الثَّانِي، وَعَلَى اعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ هُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ «أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَلَا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ. قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ فِي السُّنَنِ فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ مِنْ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا مُعَارِضٌ إطْلَاقَ {فَاجْلِدُوا} وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ زِيَادَةً. فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ مَوَاضِعُ الشُّبْهَةِ فَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الزِّنَا نَفْسَهُ مَأْخُوذٌ فِيهِ عَدَمُهَا فَإِنَّهُ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَشُبْهَتِهِ، فَتَرْتِيبُهُ سُبْحَانَهُ إيجَابَ الْحَدِّ عَلَى الزِّنَا تَرْتِيبُ ابْتِدَاءٍ عَلَى مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مُخَصِّصًا أَوَّلُ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ الْمَذْكُورُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَجْزَ الْإِمَامِ عَنْ الْإِقَامَةِ حَالَ دُخُولِ الزِّنَا فِي الْوُجُودِ يُوجِبُ أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِيجَابِ، إنَّمَا ذَلِكَ لَوْ عَجَزَ مُطْلَقًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْوُجُوبُ فِي الْحَالِ مُعَلَّقًا بِالْقُدْرَةِ، وَلَكِنَّهُ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِهَذَا الْكَلَامِ.

وَتَصْحِيحُهُ أَنْ يُقَالَ: جَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْحَالِ تَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِالْقُدْرَةِ: أَيْ إذَا قَدَرْت فَأَقِمْ عَلَيْهِ، فَالْوُجُوبُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ وَمَوْجُودٌ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ فِي الْمَأْكَلِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُمْكِنٌ لَكِنْ أَيْنَ دَلِيلُهُ، فَإِنَّ الْآيَاتِ

ص: 267

مَا خَرَجَ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً.

وَلَوْ غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ مِصْرَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي مُعَسْكَرِهِ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُفَوَّضْ إلَيْهِمَا الْإِقَامَةُ.

(وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَزَنَى بِذِمِّيَّةٍ أَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِحَرْبِيَّةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ وَالْحَرْبِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الذِّمِّيِّ) يَعْنِي إذَا زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ، فَأَمَّا إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ بِذِمِّيَّةٍ لَا يُحَدَّانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَوَّلًا (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ) وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ. لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَلِهَذَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا،

إنَّمَا تُفِيدُ تَنْجِيزَ الْوُجُوبِ لَا تَعْلِيقَهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ فَنَعْلَمُ انْتِفَاءَ مُقْتَضَاهَا فِي الزَّانِي فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَيْنَ دَلِيلُ تَعْلِيقِ الْإِيجَابِ حَالَ زِنَا الزَّانِي فِي دَارِ الْحَرْبِ بِاقْتِدَارِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَثْبُتْ تَعْلِيقُهُ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ تَنْجِيزُهُ. فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّ تَعْلِيقَهُ يَثْبُتُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآثَارِ الْمُفِيدَةِ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَقَامَهُ يُدْفَعُ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد وَهُوَ يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْمُخَالِفَ لِلْمَذْهَبِ مِنْ ذَيْنِك الِاحْتِمَالَيْنِ. وَأَيْضًا قَدْ يُقَالُ عَلَيْهِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَالَ الزِّنَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الْإِقَامَةُ، بَلْ إنَّمَا يَجِبُ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، فَقَبْلَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبٌ أَصْلًا. وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بَعْدَ الْخُرُوجِ أَوْ شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ تَقَادُمٍ وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ إيجَابُ الْإِقَامَةِ وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ (وَلَوْ غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ الْمِصْرِ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي مُعَسْكَرِهِ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ فَالْقُدْرَةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ) بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمُعَسْكَرِ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَزَنَى ثُمَّ عَادَ إلَى الْمُعَسْكَرِ لَا يُقِيمُهُ. وَيُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ زَنَى فِي الْعَسْكَرِ وَالْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَيَّامِ الْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِلْوِلَايَةِ حِينَئِذٍ، أَمَّا أَمِيرُ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ فَلَا يُقِيمُهُ لِأَنَّهُ لَمْ تُفَوَّضْ إلَيْهِمَا الْإِقَامَةُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ) وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ (فَزَنَى بِذِمِّيَّةٍ إلَخْ) حَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوْ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا: لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: عَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ، فَصَارَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ تُحَدُّ الْمَزْنِيُّ بِهَا الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ يُحَدُّ كُلُّهُمْ. وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ

ص: 268

بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مَا دَخَلَ لِلْقَرَارِ بَلْ لِحَاجَةٍ كَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِهِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مِنْ الْحُكْمِ مَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَمِعَ فِي الْإِنْصَافِ يَلْتَزِمْ الِانْتِصَافَ، وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِهِمْ، أَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَمَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ. وَلِمُحَمَّدٍ رحمه الله وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي بَابِ الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ، أَمَّا الِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ التَّبَعِ لَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ. نَظِيرُهُ إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ وَتَمْكِينُ الْبَالِغَةِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ

يَحُدَّانِ.

ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَلِفِ، وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحُدَّانِ جَمِيعًا. وَالْأَصْلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَرْبِيِّ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ زِنًا وَلَا سَرِقَةٍ وَلَا شُرْبِ خَمْرٍ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الْكُلُّ إلَّا حَدَّ الشُّرْبِ، فَحَدُّ الشُّرْبِ لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ يَجِبُ اتِّفَاقًا لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَلِهَذَا يُحَدُّ لِلْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيُمْنَعُ مِنْ الزِّنَا وَشِرَاءِ

ص: 269

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْحُرُمَاتِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا وَالتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَا يُخَاطَبَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا زَنَى الْمُكْرَهُ بِالْمُطَاوِعَةِ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا تُحَدُّ.

الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِمَا، بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ مُعْتَقِدٌ إبَاحَتَهُ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ لِلْقَرَارِ بَلْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا وَيَرْجِعُ وَعَلَيْنَا أَنْ نُمَكِّنَهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِشَرْطِهِ لَمْ يَكُنْ بِالِاسْتِئْمَانِ مُلْتَزِمًا جَمِيعَ أَحْكَامِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، بَلْ مَا يَرْجِعُ مِنْهَا إلَى تَحْصِيلِ مَقْصِدِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ مُلْتَزِمًا الْإِنْصَافَ وَكَفَّ الْأَذَى، إذْ قَدْ الْتَزَمْنَا لَهُ بِأَمَانِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِهِمْ فَلَزِمَاهُ، أَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَخَالِصُ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكَذَا الْمُغَلَّبُ فِي السَّرِقَةِ حَقُّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَصَاحِبُهُ تَعَالَى مَنَعَنَا مِنْ اسْتِيفَائِهِ عِنْدَ إعْطَاءِ أَمَانِهِ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ وَالْإِجْبَارِ عَلَى بَيْعِهِمَا فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ فِي اسْتِخْدَامِهِ قَهْرًا وَإِذْلَالًا لِلْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ فِي اسْتِخْفَافِهِ بِالْمُصْحَفِ وَالزِّنَا مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّ عُهُودِهِمْ.

وَلِمُحَمَّدٍ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ إذَا زَنَى بِمُسْتَأْمَنَةٍ حَيْثُ يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَى الْفَاعِلِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمَةِ أَوْ الذِّمِّيَّةِ إذَا زَنَتْ بِمُسْتَأْمَنٍ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَيْهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَبَعٌ لِكَوْنِهَا مَحَلًّا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ

ص: 270

قَالَ (وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ بِامْرَأَةٍ طَاوَعَتْهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا). وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ

(وَإِنْ زَنَى صَحِيحٌ بِمَجْنُونَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا حُدَّ الرَّجُلُ خَاصَّةً) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ الْعُذْرَ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ.

وَلَنَا أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَلِهَذَا يُسَمَّى هُوَ وَاطِئًا وَزَانِيًا وَالْمَرْأَةُ مَوْطُوءَةً وَمَزْنِيًّا بِهَا، إلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ زَانِيَةً مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَالرَّاضِيَةِ فِي مَعْنَى

امْتِنَاعَهُ فِي التَّبَعِ، بِخِلَافِ امْتِنَاعِهِ فِي التَّبَعِ لَا يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ أَيْ دَلِيلُهُ إذَا زَنَى الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ يُحَدُّ هُوَ دُونَهَا، وَفِي تَمْكِينِ الْبَالِغَةِ الصَّبِيَّ أَوْ الْمَجْنُونَ لَا تُحَدُّ، وَتَمْكِينُهَا إنَّمَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا إذَا مَكَّنَتْ مِنْ فِعْلٍ مُوجِبٍ لَهُ وَفِعْلُ الْحَرْبِيِّ لَيْسَ مُوجِبًا لَهُ فَلَا يَكُونُ تَمْكِينُهَا مُوجِبًا عَلَيْهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِعْلَ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِالْحُرُمَاتِ كَحُرْمَةِ الْكُفْرِ وَالزِّنَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ حَدُّهُ لِأَنَّ إقَامَتَهُ بِالْوِلَايَةِ وَالْوِلَايَةُ مُنْدَفِعَةٌ عَنْهُ بِإِعْطَاءِ الْأَمَانِ إلَّا فِيمَا الْتَزَمَهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَقَدْ مَكَّنَتْ مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا لَا قُصُورَ فِيهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا وَصَارَ كَمَا لَوْ مَكَّنَتْ مُسْلِمًا فَهَرَبَ تُحَدُّ هِيَ لِأَنَّ الْمَانِعَ خَصَّهُ وَتَبَعِيَّتُهَا فِي الْفِعْلِ لَا فِي حُكْمِهِ، بِخِلَافِ تَمْكِينِهَا صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يُخَاطَبَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمَا زِنًا فَلَمْ تُمَكِّنْ مِنْ الزِّنَا، وَنَظِيرُهُ لَوْ زَنَى مُكْرَهٌ بِمُطَاوِعَةٍ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُحَدُّ

(قَوْلُهُ وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ بِامْرَأَةٍ طَاوَعَتْهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَهُوَ) أَيْ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ (رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ

، (وَإِنْ زَنَى صَحِيحٌ) أَيْ عَاقِلٌ بَالِغٌ (بِمَجْنُونَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا حُدَّ الرَّجُلُ خَاصَّةً)، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ الْعُذْرَ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ مِنْ جَانِبِهَا (وَهَذَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ) وَقَدْ فَعَلَتْ مَا هِيَ بِهِ زَانِيَةٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ زِنَاهَا انْقِضَاءُ شَهْوَتِهَا بِآلَتِهِ وَقَدْ وُجِدَ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ سبحانه وتعالى سَمَّاهَا زَانِيَةً وَهُوَ لَيْسَ إلَّا بِذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا زَانِيَةٌ حَقِيقَةً كَوْنُهَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا، فَلَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ زِنَاهَا لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهَا كَالْمَجْبُوبِ (وَلَنَا أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ) لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَخَذُوا جِنْسَ تَعْرِيفِهِ وَطْءَ الرَّجُلِ فَكَانَتْ خَارِجَةً (وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلٌّ وَلِهَذَا يُسَمَّى هُوَ وَاطِئًا وَزَانِيًا وَهِيَ مَوْطُوءَةً وَمَزْنِيًّا بِهَا إلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ زَانِيَةً مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ) كَ {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} وَ {مَاءٍ

ص: 271

الْمَرْضِيَّةِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مُسَبِّبَةً بِالتَّمْكِينِ فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ فِي حَقِّهَا بِالتَّمْكِينِ مِنْ قَبِيحِ الزِّنَا وَهُوَ فِعْلُ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالْكَفِّ عَنْهُ وَمُؤْتَمٌّ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُنَاطُ بِهِ الْحَدُّ.

دَافِقٍ} أَيْ مُرْضَيَةٍ وَمَدْفُوقٍ (أَوْ لِكَوْنِهَا مُسَبِّبَةً) لِزِنَا الزَّانِي (بِالتَّمْكِينِ فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ حِينَئِذٍ فِي حَقِّهَا بِالتَّمْكِينِ) مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنَاهَا وَالزِّنَا فِعْلُ مَنْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ آثِمٌ بِهِ (وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يُنَاطُ بِهِ الْحَدُّ) وَعَلَى هَذَا لَوْ قُلْنَا: إنَّهَا بِالتَّمْكِينِ زَانِيَةٌ حَقِيقَةً لُغَةً لَا يَضُرُّنَا لِأَنَّهَا إنَّمَا تُسَمَّى زَانِيَةً حَقِيقَةً بِالتَّمْكِينِ مِمَّا هُوَ زِنًا وَهُوَ مُنْتَفٍ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا زَانِيَةٌ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَزْنِيٌّ بِهَا حَقِيقَةً فَيَلْزَمُ كَوْنُ إطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً وَهُوَ بَاطِلٌ؟ فَالْجَوَابُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْطُلُ لَوْ كَانَ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهَا زَانِيَةً بِاعْتِبَارِ تَمْكِينِهَا طَائِعَةٌ لِقَضَاءِ شَهْوَتِهَا مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا وَمُزْنِيَةٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَحَلًّا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ زِنًا، فَلَوْ مَنَعَ وَقِيلَ بَلْ تَرَتُّبُ الْحَدِّ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَمْكِينِهَا مِنْ الْوَطْءِ الْمُفْضِي إلَى اشْتِبَاهِ النَّسَبِ وَتَضْيِيعِ الْوَلَدِ وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُحَرِّمُ لِلزِّنَا سَوَاءٌ وَقَعَ زِنًا أَوْ لَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا زَانِيَةً حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا كَوْنُهُ بِالتَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا أَنْسَبُ مِنْ كَوْنِهِ بِمَا لَيْسَ زِنًا، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ جَازَ كَوْنُهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَدَارَ تَمْكِينُهَا الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ بَيْنَ كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُوجِبٍ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِوُجُوبِ الدَّرْءِ فِي مِثْلِهِ بِذَلِكَ، لَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: كَوْنُ الزِّنَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ مِمَّنْ هُوَ مُخَاطَبٌ مَمْنُوعٌ بَلْ إدْخَالُ الرَّجُلِ قَدْرَ حَشَفَتِهِ قُبُلَ مُشْتَهَاةٍ حَالًا أَوْ مَاضِيًا بِلَا مِلْكٍ وَشُبْهَةٍ، وَكَوْنُهُ بَالِغًا عَاقِلًا لِاعْتِبَارِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ شَرْعًا فَقَدْ مَكَّنَتْ مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا لُغَةً، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى فَاعِلِهِ حَدٌّ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يُوجِبُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ تَمْكِينِهَا صَبِيًّا فَلَا تُحَدُّ وَمَجْنُونًا فَتُحَدُّ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ وَطِئَ الرَّجُلُ يَخُصُّ الْبَالِغَ لَكِنْ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ. وَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ قُوَّةِ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ فِعْلَ الْمَجْنُونِ زِنًا وَلَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ احْتِيَاطٍ فِي الدَّرْءِ لَا فِي الْإِيجَابِ فَلَا تُحَدُّ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّا ذَكَرْنَاهُ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ لَوْ كَانَ تَمْكِينُ الْمَرْأَةِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَمْنَعُ الْحَدَّ عَنْهَا لَاسْتَفْسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَامِدِيَّةَ حِينَ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا هَلْ زَنَى بِك مَجْنُونٌ أَوْ صَبِيٌّ، كَمَا أَنَّهُ اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا فَقَالَ: أَبِك جُنُونٌ حِينَ كَانَ جُنُونُهُ يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ: زَنَيْت فَقَدْ اعْتَرَفَتْ بِتَمْكِينِ غَيْرِ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِفْسَارِهَا عَنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ

ص: 272

قَالَ (وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ حَتَّى زَنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ أَوَّلًا يُحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ. ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ قَصْدٍ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا كَمَا فِي النَّائِمِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَدُومُ إلَّا نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا

(وَمَنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَقَالَتْ هِيَ: تَزَوَّجَنِي أَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَقَالَ الرَّجُلُ تَزَوَّجْتهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي ذَلِكَ) لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا

اسْتَرَابَ أَمْرَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلِذَا لَمْ يَسْأَلْ الْغَامِدِيَّةَ أَبِك جُنُونٌ مَعَ أَنَّهَا مِثْلُ مَاعِزٍ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِجُنُونِهَا.

وَأُورِدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْعُقْرُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمَلِكِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا، أَمَّا الْعُقْرُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوْ الْحَدُّ كَمَا لَوْ زَنَى الصَّبِيُّ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مُكْرَهَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَهُنَا لَا يَجِبُ.

أُجِيبَ بِالْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّ الْإِيجَابَ عَلَيْهِ هُنَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لَرَجَعَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا طَاوَعَتْهُ صَارَتْ آمِرَةً لَهُ بِالزِّنَا مَعَهَا وَقَدْ لَحِقَ الصَّبِيُّ غُرْمٌ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَصَحَّ الْأَمْرُ مِنْهَا لِوِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَلَا يُفِيدُ الْإِيجَابُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ صَبِيَّةً لَا يَرْجِعُ وَلِيُّ الصَّبِيِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِعَدَمِ صِحَّةِ أَمْرِهَا لِعَدَمِ وِلَايَتِهَا، وَفِي الْمُكْرَهَةِ عَدَمُ الْأَمْرِ أَصْلًا فَكَانَ الْإِيجَابُ مُفِيدًا.

وَأَمَّا إيرَادُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّمَا انْتَفَى الْحَدُّ عَنْ الرَّجُلِ انْتَفَى عَنْ الْمَرْأَةِ وَهِيَ مَنْقُوضَةٌ بِزِنَا الْمُكْرَهِ بِالْمُطَاوَعَةِ وَالْمُسْتَأْمَنِ بِالذِّمِّيَّةِ وَالْمُسْلِمَةِ فَوُرُودُهُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ هَذِهِ قَاعِدَةً وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِيرَادِ ثُمَّ تَكَلُّفِ الدَّفْعِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ حَتَّى زَنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ يُحَدُّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ) وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ (لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْآلَةِ وَهَذَا آيَةُ الطَّوَاعِيَةِ) فَاقْتُرِنَ بِالْإِكْرَاهِ مَا يَنْفِيهِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ كَانَ حَالَ فِعْلِهِ إيَّاهُ غَيْرَ مُكْرَهٍ فَبَطَلَ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ السَّابِقِ وَوَجَبَ الْحَدُّ، بِخِلَافِ إكْرَاهِ الْمَرْأَةِ عَلَى الزِّنَا فَإِنَّهُ بِالتَّمْكِينِ وَلَيْسَ مَعَ التَّمْكِينِ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ فَلَا تُحَدُّ إجْمَاعًا (ثُمَّ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ الْمُكْرَهُ أَيْضًا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُلْجِئَ إلَى الْفِعْلِ قَائِمٌ ظَاهِرًا) وَهُوَ قِيَامُ السَّيْفِ وَنَحْوِهِ، وَالِانْتِشَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّوَاعِيَةَ بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لَهُ إذْ يَكُونُ مَعَهُ وَيَكُونُ طَبْعًا لِقُوَّةِ الْفُحُولِيَّةِ. وَقَدْ يَكُونُ لِرِيحٍ تُسْفَلُ إلَى الْحَجَرِ حَتَّى يُوجَدَ مِنْ النَّائِمِ وَلَا قَصْدَ مِنْهُ فَلَا يُتْرَكُ أَثَرُ الْيَقِينِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ إلَى الْمُحْتَمَلِ (فَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ مُخْتَارًا فِي الزِّنَا، وَكَذَا عِنْدَ زُفَرَ وَأَحْمَدَ لِأَنَّهُ، وَإِنْ تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ عِنْدَهُمَا لَكِنْ قَالَا الِانْتِشَارُ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ فَقَالَا يُحَدُّ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُحَدُّ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ) وَالِانْتِشَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّوَاعِيَةَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. قَالَ الْمَشَايِخُ: وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ، وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتْ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا وَعَلَيْهِ مَشَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي الْإِكْرَاهِ حَيْثُ قَالَ: وَالسُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ سِيَّانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ عَلَى إيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إلَخْ) هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقِرَّ الرَّجُلُ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ أَنَّهُ

ص: 273

لِخَطَرِ الْبُضْعِ

(وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ) مَعْنَاهُ: قَتَلَهَا بِفِعْلِ الزِّنَا لِأَنَّهُ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَيُوَفِّرُ عَلَى

زَنَى بِفُلَانَةَ حَتَّى كَانَ إقْرَارُهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَقَالَتْ هِيَ بَلْ تَزَوَّجَنِي أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ كَذَلِكَ بِالزِّنَا مَعَ فُلَانٍ وَقَالَ الرَّجُلُ بَلْ تَزَوَّجْتُهَا لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَبِتَقْدِيرِ صِدْقِ مُدَّعِي النِّكَاحِ مِنْهُمَا يَكُونُ النِّكَاحُ ثَابِتًا فَلَا حَدَّ، وَبِتَقْدِيرِ كَذِبِهِ لَا نِكَاحَ فَيَجِبُ الْحَدُّ فَلَا يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي صُورَتَيْ دَعْوَاهُ النِّكَاحَ وَدَعْوَاهُ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي صُورَةِ دَعْوَاهُ النِّكَاحَ مُعْتَرِفَةً بِأَنْ لَا مَهْرَ لَهَا لِدَعْوَاهَا الزِّنَا لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ الشَّرْعُ بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا مَعَ ثُبُوتِ الْوَطْءِ بِاعْتِرَافِهِمَا بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جِهَتِهِ كَانَتْ مُكَذَّبَةً شَرْعًا، وَالْوَطْءُ لَا يَخْلُو عَنْ عَقْدٍ أَوْ عُقْرٍ فَلَزِمَ لَهَا الْمَهْرُ، وَإِنْ رَدَّتْهُ إلَّا أَنْ تُبْرِئَهُ مِنْهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ الْمُقِرُّ، فَإِنْ حُدَّ ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ النِّكَاحَ لَا مَهْرَ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُنْقَضُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ. ثَانِيهِمَا أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعًا كَذَلِكَ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَقَالَتْ فُلَانَةُ: مَا زَنَى بِي وَلَا أَعْرِفُهُ، أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مَعَ فُلَانٍ وَقَالَ فُلَانٌ: مَا زَنَيْت بِهَا وَلَا أَعْرِفُهَا لَا يُحَدُّ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُحَدُّ الْمُقِرُّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَعَدَمُ ثُبُوتِ الزِّنَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُقِرِّ لَا يُورِثُ شُبْهَةَ الْعَدَمِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَمَا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً وَسَمَّاهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَدَّ انْتَفَى فِي حَقِّ الْمُنْكَرِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلنَّفْيِ عَنْهُ فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ الِانْتِفَاءِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَتِمُّ بِهِمَا، فَإِنْ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ تَعَدَّتْ إلَى طَرَفَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالزِّنَا مُطْلَقًا إنَّمَا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ وَقَدْ دَرَأَ الشَّرْعُ عَنْ فُلَانَةَ وَهُوَ عَيْنُ مَا أَقَرَّ بِهِ فَيَنْدَرِئُ عَنْهُ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْلَقَ فَقَالَ: زَنَيْت فَإِنَّهُ، وَإِنْ احْتَمَلَ كَذِبَهُ لَكِنْ لَا مُوجِبٌ شَرْعِيٌّ يَدْفَعُهُ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً لِأَنَّ الزِّنَا لَمْ يَنْتَفِ فِي حَقِّهَا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ النَّفْيَ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، حَتَّى لَوْ حَضَرَتْ وَأَقَرَّتْ أَرْبَعًا حُدَّتْ فَظَهَرَ أَنَّ الْغَيْبَةَ لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً، بَلْ الِاعْتِبَارُ لِلْإِنْكَارِ وَعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ، فَإِذَا أَنْكَرَتْ ثَبَتَتْ شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ إنْكَارَهَا فَلَا شُبْهَةَ فَيُحَدُّ.

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُمَا كَمَا فِي صُورَةِ دَعْوَى النِّكَاحِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَمَّا سَقَطَ بِإِنْكَارِ وَصْفِ الْفِعْلِ وَهُوَ الزِّنَا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ بِدَعْوَى النِّكَاحِ فَإِنْكَارُ أَصْلِ الْفِعْلِ أَوْلَى. قُلْنَا: خَصَّا تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، فَإِنَّهُ رَوَى «أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِالزِّنَا أَرْبَعًا بِامْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْ، فَحَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَلَوْ لَمْ تَدَّعِ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ وَأَنْكَرَتْ وَادَّعَتْ عَلَى الرَّجُلِ الْقَذْفَ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا

(قَوْلُهُ وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا) أَيْ بِفِعْلِ الزِّنَا (فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا)، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْجَارِيَةِ لِتَكُونَ

ص: 274

كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ سَبَبٌ لَمِلْكِ الْأَمَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا زَنَى بِهَا

صُورَةَ الْخِلَافِ، فَإِنَّهُ لَوْ زَنَى بِحُرَّةٍ فَقَتَلَهَا يُحَدُّ اتِّفَاقًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. وَقَوْلُهُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ) ذَكَرَهُ بِلَفْظِ عَنْ لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ عَنْهُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَعَادَتُهُ إذَا كَانَ خِلَافُهُ ثَابِتًا ذَكَرَهُ، وَكَذَا الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكَافِي خِلَافًا، وَإِنَّمَا نَقَلَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ خِلَافَهُ فَقَالَ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَحَيْثُ نَقَلَ قَوْلَهُ خَاصَّةً ذَكَرَهُ فِي الْمَنْظُومَةِ فِي بَابِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا قَوْلَ لِمُحَمَّدٍ فِيهَا.

وَقِيلَ الْأَشْبَهُ كَوْنُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَا قَوْلَ لَهُ بِأَنْ تُوقَفَ لِذِكْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً لِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ فِي عِدَادِ تَلَامِذَتِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا قَالَهُ قَوْلًا يَنْقُلُهُ هُوَ، وَعَلَى كَوْنِ الْخِلَافِ هَكَذَا مَشَى الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ: وَلَهُمَا أَنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ.

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الزَّانِي بِسَبَبِ أَنَّ قَتْلَهُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْأَمَةِ، وَإِذَا مَلَكَهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ سَقَطَ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ مَلَكَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَطْعِ حَيْثُ يَسْقُطُ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ فِيمَا لَوْ زَنَى بِهَا ثُمَّ قَتَلَهَا أَوْ مَلَكَهَا بِالْفِدَاءِ بِأَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ جَنَتْ عَلَيْهِ فَدُفِعَتْ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ بِالشِّرَاءِ أَوْ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُحَدُّ فِي الْكُلِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِالدَّفْعِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا، وَكَذَا إذَا مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ أَوْ النِّكَاحِ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ سَبَبِ الْمِلْكِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ زَنَى وَجَنَى فَيُؤَاخَذُ بِمُوجِبِ كُلٍّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ، وَلَا مُنَافَاةَ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالضَّمَانِ، وَكَوْنُ الضَّمَانِ يَمْنَعُ الْحَدَّ لِاسْتِلْزَامِهِ الْمِلْكَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ دَمٍ حَتَّى وَجَبَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا تَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَهُوَ يُوجِبُ مِلْكًا لِأَنَّ مَحَلَّ الْمِلْكِ الْمَالُ، وَالدَّمُ لَيْسَ بِمَالٍ، ثُمَّ تَنْزِلُ فَقَالَ مَا حَاصِلُهُ: إنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الضَّمَانَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَكَانَ يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ، وَالِاسْتِنَادُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْفَائِتِ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ الَّتِي اُسْتُوْفِيَتْ فَائِتَةٌ وَلَيْسَ مَحَلُّهَا وَهُوَ الْعَيْنُ قَائِمًا لِيُثْبِتَ شُبْهَةَ قِيَامِ الْمَنَافِعِ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ مِلْكِهَا فَلَمْ يَظْهَرْ الْمِلْكُ فِيهَا لَا شُبْهَتُهُ فَلَمْ يَكُنْ كَالْمَسْرُوقِ، وَلَمْ يُفِدْ

ص: 275

وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَاعْتِرَاضُ سَبَبِ الْمِلْكِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يُوجِبُ سُقُوطَهُ، كَمَا إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَطْعِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ، وَلَوْ كَانَ يُوجِبُهُ فَإِنَّمَا يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ كَمَا فِي هِبَةِ الْمَسْرُوقِ لَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَوْفَى لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا حَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ وَهِيَ عَيْنٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.

الْمِلْكُ الْمُسَبَّبُ عَنْ الضَّمَانِ مِلْكَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ لِيَسْقُطَ الْحَدُّ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّ شَرْطَ إقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ الْخُصُومَةُ وَبِالْهِبَةِ انْقَطَعَتْ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا فَبَطَلَ الْقِيَاسُ، وَمَآلُ هَذَا التَّقْرِيرِ إلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا الضَّمَانِ شُبْهَةُ شُبْهَةِ مِلْكِ تِلْكَ الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ شُبْهَةُ مِلْكِ الْعَيْنِ لَا حَقِيقَتُهُ، وَبِحَقِيقَتِهِ تَثْبُتُ شُبْهَةُ مِلْكِ الْمَنَافِعِ، فَإِذَا كَانَ الثَّابِتُ شُبْهَةَ مِلْكِ الْعَيْنِ فَهُوَ شُبْهَةُ شُبْهَةِ مِلْكِ الْمَنَافِعِ وَشُبْهَةُ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.

وَحَاصِلُ التَّقْرِيرِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَثْبَتَ شُبْهَةَ مِلْكِ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ وَنَحْنُ نَفَيْنَاهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُثْبِتُ بِالضَّمَانِ حَقِيقَةَ مِلْكِ الْمَنَافِعِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ يَظْهَرُ مَا فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ لِلتَّنَزُّلِ مِنْ التَّسَاهُلِ. وَبِالْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَتَّضِحُ حُسْنُ اتِّصَالِ قَوْلِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَمَّةَ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ وَهِيَ عَيْنٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً) أَيْ فِي مِلْكِ الْمَنَافِعِ تَبَعًا فَيَنْدَرِئُ عَنْهَا الْحَدُّ، أَمَّا هَاهُنَا فَالْعَيْنُ فَائِتَةٌ بِالْقَتْلِ فَلَا تُمْلَكُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا التَّمْلِيكُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَلَا يَضُرُّهُ انْتِفَاءُ الْمَمْلُوكِ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُسْتَنَدُ يُثْبَتُ أَوَّلًا ثُمَّ يُسْتَنَدُ، فَاسْتَدْعَى ثُبُوتَ الْمَحَلِّ حَالَ الْأَوَّلِيَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ. وَثَمَرَتُهُ أَنَّ الثَّابِتَ فِي الْمَنَافِعِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ وَلَوْ تَمَّ

ص: 276

قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ وَبِالْأَمْوَالِ) لِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَتُهَا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ وَلِيُّ الْحَقِّ إمَّا بِتَمْكِينِهِ أَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ مِنْهَا.

وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ قَالُوا الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

مِلْكُ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ بَعْضَ الْقِيمَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ بِإِزَاءِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ الَّتِي يَجِبُ الْحَدُّ لِأَجْلِهَا فَيَجِبُ أَنْ لَا يُحَدَّ، وَإِلَّا وَجَبَ ضَمَانَانِ بِإِزَاءِ مَضْمُونٍ وَاحِدٍ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوضَعْ الْفِعْلُ لِلْقَتْلِ كَانَ أَوَّلُهُ كَجِرَاحَةٍ انْدَمَلَتْ ثُمَّ حَدَثَ الْقَتْلُ فَكَانَ الضَّمَانُ كُلُّهُ بِإِزَائِهِ. وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: لَوْ غَصَبَهَا ثُمَّ زَنَى بِهَا ثُمَّ ضَمِنَ قِيمَتَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. أَمَّا لَوْ زَنَى بِهَا ثُمَّ غَصَبَهَا وَضَمِنَ قِيمَتَهَا لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ. وَفِي جَامِعِ قَاضِي خَانَ: لَوْ زَنَى بِحُرَّةٍ ثُمَّ نَكَحَهَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ

(قَوْلُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ) مِمَّا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ (لَا يُؤَاخَذُ بِهِ إلَّا الْقِصَاصُ وَالْمَالُ) فَإِنَّهُ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا أَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ يُؤَاخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمُكَلَّفُ بِإِقَامَتِهِ وَتَعَذَّرَ إقَامَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ إقَامَتَهُ بِطَرِيقِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ. وَفَائِدَةُ الْإِيجَابِ الِاسْتِيفَاءُ. فَإِذَا تَعَذَّرَ لَمْ يَجِبْ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ لِأَنَّ حَقَّ اسْتِيفَائِهَا لِمَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهِ كَغَيْرِهِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْمَنَعَةِ فَالْمُسْلِمُونَ مَنَعَتُهُ فَيُقَدَّرُ بِهِمْ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْوُجُوبُ مُفِيدًا، وَالْمُغَلَّبُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الشَّرْعِ فَكَانَ كَبَقِيَّةِ الْحُدُودِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَضَاءُ لِتَمْكِينِ الْوَلِيِّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ لَا أَنَّهُ شَرْطٌ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ مَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ الْحُكْمَ فِيهِ بِمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا صَحَّتْ هَذِهِ الِاسْتِنَابَةُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلْعَبْدِ اسْتَوْفَاهُ الْعَبْدُ، أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ اسْتَوْفَاهُ ذَلِكَ النَّائِبُ. وَقِيلَ لَا مُخَلِّصَ إلَّا إنْ ادَّعَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} يُفْهِمُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ فِيهِ بِالْجَلْدِ الْإِمَامُ أَنْ يَجْلِدَ غَيْرَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُقَالُ أَيْنَ دَلِيلُ إيجَابِ الِاسْتِنَابَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 277

(بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا)

(وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً)

بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا)

قُدِّمَ أَنَّ الْحَدَّ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَقُدِّمَ كَيْفِيَّةُ الثُّبُوتِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ وُجُودَ مَا ثَبَتَ مِنْهُ بِالْبَيِّنَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَنْدَرُ نَادِرٍ لِضِيقِ شُرُوطِهِ الْمُقْتَضِي لِإِعْدَامِهِ، وَهُوَ أَنْ يُرَى ذَكَرُ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ. وَأَيْضًا لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ الزِّنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَمْ يُحَدُّوا إلَّا بِالْإِقْرَارِ، فَقُدِّمَ مَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَمَا كَانَ الثُّبُوتُ بِهِ عِنْدَهُ عليه الصلاة والسلام وَعِنْدَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم (قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً) فَقَوْلُهُ مُتَقَادِمٌ إسْنَادُهُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى ضَمِيرِ السَّبَبِ: أَيْ مُتَقَادِمٌ سَبَبُهُ وَهُوَ الزِّنَا مَثَلًا وَهُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ. وَقَوْلُهُ شَهِدُوا بِحَدٍّ تَسَاهُلٌ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَشْهَدُونَ بِسَبَبِ الْحَدِّ، وَالتَّقَادُمُ صِفَةٌ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَوْلُهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ إلَخْ جُمْلَةٌ فِي مَحَلِّ جَرٍّ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ وَهِيَ حَدٌّ، وَالْفَاعِلُ بَعْدَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْبُعْدُ عُذْرًا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ نَحْوِ مَرَضٍ أَوْ خَوْفِ طَرِيقٍ وَلَوْ مِنْ بُعْدِ يَوْمَيْنِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الْمُسَارَعَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ عِبَارَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى زِيَادَاتٍ مُفِيدَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ (وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ) ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أَقَرَّ هُوَ بَعْدَ حِينٍ بِذَلِكَ أُخِذَ بِهِ إلَّا الشُّرْبَ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤْخَذُ بِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا، وَلَا يَخْفَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَاتِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ

ص: 278

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ)

خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَفِي الْعِبَارَةِ تَسَاهُلٌ مَشْهُورٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ الشَّهَادَةُ بِأَسْبَابِهَا ثُمَّ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ الْمُوجِبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ الْقَدِيمَةِ وَالْإِقْرَارِ بِهَا أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ:

الْأَوَّلُ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِهَا وَقَبُولُ الْإِقْرَارِ بِمَا سِوَى الشُّرْبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. الثَّانِي رَدُّهَا وَقَبُولُ الْإِقْرَارِ حَتَّى بِالشُّرْبِ الْقَدِيمِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ قَبُولُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ. الرَّابِعُ رَدُّهُمَا، نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِقَلْبِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَاسْتُدِلَّ لِلشَّافِعِيِّ وَالْآخَرَيْنِ بِإِلْحَاقِهِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُمَا حُجَّتَانِ شَرْعِيَّتَانِ يَثْبُتُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْحَدُّ، فَكَمَا لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالتَّقَادُمِ كَذَا الشَّهَادَةُ وَبِحُقُوقِ الْعِبَادِ. وَلَنَا وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَعْدَ التَّقَادُمِ شَهَادَةُ مُتَّهَمٍ وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ.

أَمَّا الْكُبْرَى فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ» أَيْ مُتَّهَمٍ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ قَالَ " أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضَغَنٍ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ ". وَأَمَّا الصُّغْرَى فَلِأَنَّ الشَّاهِدَ بِسَبَبِ الْحَدِّ مَأْمُورٌ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: السَّتْرُ احْتِسَابًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، أَوْ الشَّهَادَةُ بِهِ احْتِسَابًا لِمَقْصِدِ إخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ لِلِانْزِجَارِ بِالْحَدِّ، فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ عَلَى الْفَوْرِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ السَّتْرِ وَإِخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ طَلَبُهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَزِمَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الْفِسْقُ، وَإِمَّا تُهْمَةُ الْعَدَاوَةِ لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْأَصْلِ اخْتَارَ الْأَدَاءَ وَعَدَمَ السَّتْرِ ثُمَّ أَخَّرَهُ لَزِمَ الْأَوَّلُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ السَّتْرَ ثُمَّ شَهِدَ لَزِمَ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ بِاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا، فَانْصِرَافُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الشَّهَادَةِ مَوْضِعُ ظَنِّ أَنَّهُ حَرَّكَهُ حُدُوثُ عَدَاوَةٍ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفِسْقِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا التُّهْمَةِ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ فَلَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ إذْ لَمْ يُوجِبْ تَحَقُّقَ تُهْمَةٍ، وَبِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِيهَا فَتَأْخِيرُ الشَّاهِدِ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فِسْقٌ وَلَا تُهْمَةٌ، وَفِي الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَتَوَقَّفَ عَلَى الدَّعْوَى كَغَيْرِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالتَّقَادُمِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الدَّعْوَى مَانِعًا مِنْ الرَّدِّ بِالتَّقَادُمِ لَزِمَ فِي السَّرِقَةِ أَنْ لَا تُرَدَّ الشَّهَادَةُ بِهَا عِنْدَ التَّقَادُمِ لِاشْتِرَاطِ الدَّعْوَى فِيهَا لَكِنَّهَا تُرَدُّ. أَجَابَ أَوَّلًا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ السَّرِقَةَ فِيهَا أَمْرَانِ الْحَدُّ وَالْمَالُ، فَمَا يَرْجِعُ إلَى الْحَدِّ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ تُشْتَرَطُ، وَالشَّهَادَةُ بِالسَّرِقَةِ لَا تَخْلُصُ لِأَحَدِهِمَا بَلْ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْأَمْرَيْنِ، فَاشْتُرِطَتْ الدَّعْوَى لِلُزُومِ الْمَالِ لَا لِلُزُومِ الْحَدِّ، وَلِذَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِهَا بَعْدَ التَّقَادُمِ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ وَلَا نَقْطَعُهُ لِأَنَّ الْحَدَّ يَبْطُلُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا أَنَّهُ إذَا شَهِدُوا بِهَا عَلَى إنْسَانٍ وَالْمُدَّعِي غَائِبٌ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَالِ يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُدَّعِي لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْقَذْفِ لَا يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى يَحْضُرَ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الْخَالِصَةِ، وَإِنَّمَا لَا يُقْطَعُ قَبْلَ حُضُورِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَرَقَ مِلْكَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَضَمُّنِ الشَّهَادَةِ بِالسَّرِقَةِ الشَّهَادَةَ بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَالشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِإِنْسَانٍ يَتَوَقَّفُ قَبُولُهَا عَلَى حُضُورِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْمِلْكِ وَدَعْوَاهُ، فَإِذَا أُخِّرَ رَدَدْنَاهُ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا الْمَالِ بَلْ أَلْزَمْنَاهُ الْمَالَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: زَنَيْت بِفُلَانَةَ أَوْ قَلَبَهُ وَهِيَ غَائِبَةٌ لَا يَدْرِي جَوَابَهَا يُحَدُّ، وَلَا يُسْتَأْنَى بِالْحَدِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ هُنَاكَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَا تُعْتَبَرُ، وَفِي السَّرِقَةِ لَا تَثْبُتُ

ص: 279

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، هُوَ يَعْتَبِرُهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِالْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ، فَالتَّأْخِيرُ إنْ كَانَ لِاخْتِيَارِ السَّتْرِ فَالْإِقْدَامُ عَلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِضَغِينَةٍ هَيَّجَتْهُ أَوْ لِعَدَاوَةٍ حَرَّكَتْهُ فَيُتَّهَمُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا لِلسَّتْرِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا فَتَيَقَّنَّا بِالْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ، فَحَدُّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ الرُّجُوعُ عَنْهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَكُونَ التَّقَادُمُ فِيهِ مَانِعًا، وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَالتَّقَادُمُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى انْعِدَامِ الدَّعْوَى فَلَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُمْ، بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ

أَصْلًا إلَّا بِثُبُوتِ الْمَالِ، وَلَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِالشَّهَادَةِ إلَّا بِالدَّعْوَى، وَإِنَّمَا يُحْبَسُ لِلتُّهْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ فِي غَيْبَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ الشُّبْهَةُ لِأَنَّ الثَّابِتَ احْتِمَالُ أَنْ يَقُولَ هُوَ مِلْكُهُ، وَقَوْلُهُ هُوَ مِلْكُهُ لَيْسَ شُبْهَةً بَلْ حَقِيقَةُ الْمُبَرِّئِ، بِخِلَافِ دَعْوَاهَا النِّكَاحَ مَثَلًا لَوْ حَضَرَتْ لِأَنَّهُ نَفْسُ الشُّبْهَةِ فَاحْتِمَالُهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَجَابَ ثَانِيًا بِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ بِالتَّقَادُمِ لَمَّا كَانَ لِلتُّهْمَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَأُقِيمَ التَّقَادُمُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ مَقَامَهَا فَلَا يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى وُجُودِ التُّهْمَةِ وَعَدَمِهَا، كَالرُّخْصَةِ لَمَّا كَانَتْ لِلْمَشَقَّةِ وَهِيَ غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ أُدِيرَ عَلَى السَّفَرِ فَلَمْ يُلَاحَظْ بَعْدَ ذَلِكَ وُجُودُهَا وَلَا عَدَمُهَا فَتُرَدُّ بِالتَّقَادُمِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ بِالتَّقَادُمِ لَيْسَ إلَّا لِلتُّهْمَةِ، وَمَحَلُّ التُّهْمَةِ ظَاهِرٌ يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنَاطَتِهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ تَشْبِيهُهُ بِالْمَشَقَّةِ مَعَ السَّفَرِ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ فَلَا تُمْكِنُ الْإِنَاطَةُ بِهِ فَنِيطَ بِمَا هُوَ مُنْضَبِطٌ، فَالْعُدُولُ لِلْحَاجَةِ لِلِانْضِبَاطِ وَلَا حَاجَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. فَإِنْ قُلْت: فَظَاهِرُ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ مَعَ رَدِّ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْحَدِّ فِيمَا لَوْ عَلِمَ الْمُدَّعِي بِالسَّرِقَةِ فَلَمْ يَدَّعِ إلَّا بَعْدَ حِينٍ فَشَهِدُوا فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ بِتَأْخِيرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَا يُقْطَعُ بَلْ يَضْمَنُ الْمَالَ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ تُهْمَةٌ فَالرَّدُّ يُضَافُ إلَيْهَا، وَمَا لَمْ يَكُنْ فَإِلَى الْمُدَّعِي عَلَى مَا قَالَ قَاضِي خَانَ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ فِي السَّرِقَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَا لِتُهْمَةٍ فِي الشُّهُودِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطُ الْقَبُولِ بَلْ لِخَلَلٍ فِي الدَّعْوَى، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَالِ كَانَ مُخْبِرًا فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا أُخِّرَ فَقَدْ اخْتَارَ السَّتْرَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَالْحَدُّ بَلْ بَقِيَ لَهُ حَقُّ دَعْوَى الْمَالِ فَقَطْ فَيُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ؛ كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى السَّرِقَةِ يُقْضَى

ص: 280

لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ لِلْمَالِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ فَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا، ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ

بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ اهـ. فَيُجْعَلُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِيمَا إذَا كَانَ تَأْخِيرُ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى بَعْدَ عِلْمِ صَاحِبِ الْمَالِ بِالسَّرِقَةِ، أَمَّا لَوْ أُخِّرُوا لَا لِتَأْخِيرِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ الدَّعْوَى بَعْدَ عِلْمِهِ وَعِلْمِهِمْ بِعِلْمِهِ بِإِعْلَامِهِمْ أَوْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ شَهِدُوا فَالْوَجْهُ الْأَخِيرُ وَهُوَ قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ، وَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا) يَقْتَضِي أَنْ تُرَدَّ فِي حَقِّ الْمَالِ أَيْضًا لِلْفِسْقِ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا بَعْدَ التَّقَادُمِ تَثْبُتُ التُّهْمَةُ الْمَانِعَةُ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْحَدِّ، لَكِنَّ السَّارِقَ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ لِعَدَمِ تَأْخِيرِ الدَّعْوَى بَعْدَ عِلْمِهِ فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (قَوْلُهُ ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ) وَقَوْلُ زُفَرَ هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ بِعُذْرِ هَرَبِهِ وَقَدْ زَالَ الْعُذْرُ (وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ) أَيْ الِاسْتِيفَاءَ (مِنْ الْقَضَاءِ) بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ حُقُوقِ غَيْرِهِ.

وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اسْتِنَابَتُهُ تَعَالَى الْحَاكِمَ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِلَا شُبْهَةٍ فَكَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ، أَوْ هُوَ هُنَا إذْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ الْقَضَاءِ حَتَّى جَازَ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِهِ، بِخِلَافِهِ فِي حُقُوقِ غَيْرِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ فِيهَا لِإِعْلَامِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِحَقِّيَّةِ حَقِّهِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ اسْتِيفَائِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُمَا فَإِنَّمَا هُوَ فِي حُقُوقِهِ تَعَالَى اسْتِيفَاؤُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قِيَامُ الشَّهَادَةِ شَرْطًا حَالَ الِاسْتِيفَاءِ، كَمَا هُوَ شَرْطٌ حَالَ الْقَضَاءِ بِحَقِّ غَيْرِهِ إجْمَاعًا، وَبِالتَّقَادُمِ لَمْ تَبْقَ الشَّهَادَةُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ الِاسْتِيفَاءُ فَانْتَفَى، وَهَذَا رَدُّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ، فَإِنَّ كَوْنَ قِيَامِ الشَّهَادَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ شَرْطًا صَحِيحٌ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي مَعْنَى قِيَامِهَا، فَعِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَطْرَأْ مَا يَنْقُضُهَا مِنْ الرُّجُوعِ هِيَ قَائِمَةٌ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا ثُمَّ غَابُوا أَوْ مَاتُوا جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَعِنْدَنَا قِيَامُهَا بِقِيَامِهِمْ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ وَالْحُضُورِ. ثُمَّ قَدْ يُقَالُ لَوْ سَلِمَ تَرَجَّحَ هَذَا لَكِنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَبْطُلُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَدَاءِ لِلتُّهْمَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ الشَّهَادَةُ بِلَا تَقَادُمٍ وَوَقَعَتْ صَحِيحَةً مُوجِبَةً فَاتِّفَاقِ تَقَادُمِ السَّبَبِ بِلَا تَوَانٍ مِنْهُمَا لَا يَبْطُلُ الْوَاقِعُ صَحِيحًا، وَلَوْ قُلْنَا: إنَّ رَدَّهَا أُنِيطَ بِالتَّقَادُمِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى التُّهْمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ كَوْنُهُ

ص: 281

الْحُدُودِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِينٍ، وَهَكَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، أَمَّا إذَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ. وَالتَّقَادُمُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَذَلِكَ

أُنِيطَ بِتَقَادُمٍ عَنْ تَوَانٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ وَإِلَّا فَمَمْنُوعٌ، وَنَذْكُرُ فِيمَا يَلِي هَذِهِ الْقَوْلَةَ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

. (قَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ، وَأَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ حَيْثُ قَالَ شَهِدُوا بَعْدَ حِينٍ) وَقَدْ جَعَلُوهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمْ فِي الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حِينًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْهُ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: جَهَدْنَا بِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُقَدِّرَهُ لَنَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَمَا يَرَاهُ بَعْدَ مُجَانَبَةِ الْهَوَى تَفْرِيطًا تَقَادُمٌ، وَمَا لَا يُعَدُّ تَفْرِيطًا غَيْرُ تَقَادُمٍ، وَأَحْوَالُ الشُّهُودِ وَالنَّاسِ وَالْعُرْفِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِنَظَرٍ نُظِرَ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ فِيهَا تَأْخِيرٌ فَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ) عَلَى مَا فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ لَا يَحْنَثُ وَبَعْدَهُ يَحْنَثُ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ) وَمَأْخَذُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِمَّا فِي الْمُجَرَّدِ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ سَأَلَ الْقَاضِي الشُّهُودَ مَتَى زَنَى بِهَا فَقَالُوا مُنْذُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ أُقِيمَ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالُوا شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ دُرِئَ عَنْهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ النَّاطِفِيُّ: فَقَدَّرَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِشَهْرٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (وَهَذَا) أَعْنِي كَوْنَ الشَّهْرِ فَصَاعِدًا يَمْنَعُ قَبُولَهَا (إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَاضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، أَمَّا إذَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ) بَعْدَ الشَّهْرِ (لِأَنَّ الْمَانِعَ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ)

ص: 282

عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةُ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا، وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِ

فَقَدْ نَظَرَ فِي هَذَا التَّقَادُمِ إلَى تَحَقُّقِ التُّهْمَةِ فِيهِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَرِيبٍ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أُنِيطَ بِالتَّقَادُمِ لَا يُرَاعَى وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ الْمَانِعُ الْبُعْدَ أَوْ الْمَرَضَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ حَتَّى تَقَادَمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّقَادُمُ الْمُنَاطَ بِهِ بَلْ هُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَذِهِ الْمَوَانِعُ مِنْ الشَّهَادَةِ.

وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا رُجُوعٌ فِي الْمَعْنَى إلَى اعْتِبَارِ التَّقَادُمِ الْمُنَاطِ بِهِ مَا يَلْزَمُهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفِسْقِ وَالتُّهْمَةِ، ثُمَّ هَذَا التَّقَادُمُ الْمُقَدَّرُ بِشَهْرٍ بِالِاتِّفَاقِ فِي غَيْرِ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَمَّا فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ) فَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ بَعْدَهَا لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُمَا، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ) أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِغَائِبَةٍ يُحَدُّ الرَّجُلُ بِإِجْمَاعِهِمْ لِحَدِيثِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِغَائِبَةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَرَحِمَهُ عليه الصلاة والسلام. وَنَقَلَ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يُحَدُّ حَتَّى تَحْضُرَ الْمَرْأَةُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَحْضُرَ فَتَدَّعِيَ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ مِنْ نِكَاحٍ مَثَلًا وَنَحْوِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْكُلِّ، وَسَيَظْهَرُ وَجْهُ بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ (وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَالدَّعْوَى شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ) لِلْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالسَّرِقَةِ تَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالشَّهَادَةُ لِلْمَرْءِ عَلَى الْمَرْءِ لَا تُقْبَلُ بِلَا دَعْوَى وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِثُبُوتِ الزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقِصَاصِ إذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ لَيْسَ لِلْحَاضِرِ اسْتِيفَاؤُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ فَيُقِرَّ بِالْعَفْوِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ بِزِنَا الْغَائِبَةِ فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ.

أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ الثَّابِتُ فِي صُورَةِ الْقِصَاصِ نَفْسُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ احْتِمَالُ الْعَفْوِ فَإِنَّ الْعَفْوَ لَيْسَ شُبْهَةً بَلْ حَقِيقَةُ الْمُسْقِطِ فَاحْتِمَالُهُ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ لَوْ كَانَ الْعَفْوُ نَفْسُهُ شُبْهَةً فَيَكُونُ احْتِمَالُهُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ، بِخِلَافِ الْغَائِبَةِ فَإِنَّ نَفْسَ دَعْوَاهَا النِّكَاحَ مَثَلًا شُبْهَةٌ، فَاحْتِمَالُ دَعْوَاهَا ذَلِكَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، وَاعْتِبَارُهَا بَاطِلٌ وَإِلَّا أَدَّى إلَى نَفْيِ كُلِّ حَدٍّ فَإِنَّ ثُبُوتَهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَاَلَّذِي يَثْبُتُ بِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، وَكَذَا الشُّهُودُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعُوا، فَلَوْ اُعْتُبِرَتْ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ انْتَفَى كُلُّ حَدٍّ. وَجْهُ أَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ أَنَّ نَفْسَ رُجُوعِ الْمُقِرِّ وَالشَّاهِدِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهُ

ص: 283

(وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ (وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ حُدَّ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمَتُهُ أَوْ امْرَأَتُهُ

(وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَاسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ (وَقَالَا: يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُوجِبِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا. وَلَهُ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا،

يَحْتَمِلُ كَذِبَهُ فِي الرُّجُوعِ فَاحْتِمَالُ الرُّجُوعِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ) فَلَوْ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي رَأَيْتُمُوهَا مَعِي لَيْسَتْ زَوْجَتِي وَلَا أَمَتِي لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ، وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ لَيْسَ إقْرَارًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ فَلَا يُحَدُّ، وَأَمَّا مَا قِيلَ وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا فَبِمَرَّةٍ لَا يُقَامُ الْحَدُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَرْبَعًا حُدَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا حُدَّ) لِأَنَّهُ لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ.

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ تُزَفَّ إلَيْهِ. قُلْنَا: الْإِنْسَانُ كَمَا لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ حَالَ الِاشْتِبَاهِ، فَلَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا كَانَ فَرْعُ عِلْمِهِ أَنَّهَا لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ بِزَوْجَتِهِ الَّتِي لَمْ تُزَفَّ، وَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ أَعْرِفْهَا: أَيْ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا وَلَكِنْ عَلِمْتُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَكَانَ هَذَا كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ لَا يَعْرِفُهَا لَيْسَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ) حَاصِلُهَا أَنَّهُ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ إلَّا أَنَّ رَجُلَيْنِ قَالَا اسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَيْنِ قَالَا طَاوَعَتْهُ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَقَالَا: يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً لِاتِّفَاقِهِمْ) أَيْ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ، كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ الْأَحْسَنُ وَفِي غَالِبِهَا لِاتِّفَاقِهِمَا: أَيْ الْفَرِيقَيْنِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ) أَيْ تَفَرَّدَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ مِنْهُ (هِيَ الْإِكْرَاهُ) وَهُوَ لَا يُوجِبُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ (بِخِلَافِ جَانِبِهَا لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَثْبُتْ) إذْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَتَعَارَضُوا، فَعَدَمُ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا لِمَعْنًى غَيْرِ مُشْتَرِكٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ كَمَا لَوْ زَنَى بِصَغِيرَةٍ مُشْتَهَاةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَرَّرَهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَقَالَ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ اثْنَانِ عَلَى تَقْدِيرٍ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ طَائِعَةً؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ: أَيْ الزِّنَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُبَاشِرٌ لَهُ فَكَانَا مَشْهُودًا عَلَيْهِمَا فَيَجِبُ الْحَدَّانِ، وَوَاحِدٌ عَلَى تَقْدِيرٍ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً

ص: 284

وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا. وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ زِنَاهَا مُكْرَهَةً يُسْقِطُ إحْصَانَهَا فَصَارَا خَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ

(وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالْكُوفَةِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الزِّنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ خِلَافًا لِزُفَرَ

فَإِنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْفِعْلِ فَيَجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً لِلزِّنَا حُكْمًا، وَلِهَذَا لَا تَأْثَمُ بِالتَّمْكِينِ مُكْرَهَةً، فَاخْتِلَافُ الْفِعْلِ الْمَشْهُودِ بِهِ أَوْرَثَ اخْتِلَافَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَاخْتِلَافُ الْفِعْلِ مِنْ أَقْوَى الشُّبْهَةِ اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِهِ عَنْ الرَّجُلِ لَيْسَ إلَّا اخْتِلَافُ الْفِعْلِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِذَلِكَ فَكَوْنُهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةَ عَلَى اثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ بِنِصَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِحَدِّهِ عِنْدَهُمَا، وَلَا فَائِدَةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي إيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ، بَلْ الَّذِي يُفِيدُهُ اخْتِلَافُ الْفِعْلِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَاشْتِغَالُهُ بِزِيَادَةِ كَلَامٍ لَا أَثَرَ لَهُ، وَلَا يُفِيدُ فِي الْمَقْصُودِ فَائِدَةَ بَعِيدٍ، وَكَوْنُهُ عَلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ مَشْهُودًا عَلَيْهَا مَعَهُ، وَالْفَرْضُ أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ وَهُوَ طَوَاعِيَتُهَا غَيْرُ ثَابِتٍ، فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَفْرُوضٌ فَرْضًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا، وَلِذَا حَمَلَ شَارِحُ لَفْظَةِ عَلَيْهِ عَلَى بِهِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ فِي الْكَافِي فَقَالَ: وَلَهُ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ اخْتَلَفَ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا: أَيْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا الِاخْتِلَافُ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي جَانِبِهَا فَيَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي جَانِبِهِ ضَرُورَةً يَعْنِي أَنَّ الزِّنَا بِطَائِعَةٍ غَيْرُ الزِّنَا بِمُكْرَهَةٍ وَشَهَادَتُهُمْ بِزِنًا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَالشَّاهِدَانِ بِزِنَاهُ بِطَائِعَةٍ يَنْفِيَانِ زِنَاهُ بِمُكْرَهَةٍ وَالْآخَرَانِ يَنْفِيَانِ زِنَاهُ بِطَائِعَةٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ عَلَى خُصُوصِ الزِّنَا الْمُتَحَقِّقِ فِي الْخَارِجِ شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَقُومُ بِهِمَا لَا يُرِيدُ قِيَامَ الْعَرْضِ بَعْدَ فَرْضِ أَنَّهُ وَاحِدٌ بِالشَّخْصِ بَلْ إنَّهُ يَتَحَقَّقُ قِيَامُهُ، أَيْ وُجُودُهُ بِهِمَا (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ) لَمَّا انْدَرَأَ الْحَدُّ عَنْهَا (صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا) بِالزِّنَا (فَصَارَا خَصْمَيْنِ لَهَا) وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنْ يُحَدَّا حَدَّ الْقَذْفِ، لَكِنْ سَقَطَ بِشَهَادَةِ الْآخَرَيْنِ بِزِنَاهُ مُكْرَهَةً، فَإِنَّ الزِّنَا مُكْرَهًا يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَالْإِحْصَانُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، فَلَمَّا سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّهَا سَقَطَتْ فِي حَقِّهِ بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِ الْفِعْلِ فَصَارَ عَلَى زِنَاهُ شَاهِدَانِ فَلَا يُحَدُّ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَ فِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يَجِبْ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مُخْرِجٌ لِكَلَامِهِمْ عَنْ كَوْنِهِ قَذْفًا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا لَكِنْ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ أَسْقَطَاهُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا

(قَوْلُهُ: وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ إلَخْ) أَيْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا اثْنَانِ مِنْهُمْ شَهِدَا أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْكُوفَةِ وَالْآخَرَانِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ (دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الزِّنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ) لِأَنَّ الزِّنَا بِالْكُوفَةِ لَيْسَ هُوَ الزِّنَا بِالْبَصْرَةِ (وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ) وَهُوَ شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ (وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ)

ص: 285

لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصُّورَةِ وَالْمَرْأَةِ

(وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ) مَعْنَاهُ: أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الزِّنَى فِي زَاوِيَةٍ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ

لِلْقَذْفِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ، فَعِنْدَهُ يُحَدُّونَ لِلْقَذْفِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَمَّا لَمْ يَتَكَامَلْ بِكُلِّ زِنًا صَارُوا قَذَفَةً، كَمَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً شَهِدُوا بِهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ. قُلْنَا: كَلَامُهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ وَتَمَّ الْعَدَدُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ شُبْهَةَ الِاتِّحَادِ فِي نِسْبَةِ الزِّنَا لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَصِيغَةُ الشَّهَادَةِ ثَابِتَةٌ وَبِذَلِكَ حَصَلَ شُبْهَةُ اتِّحَادِ الزِّنَا الْمَشْهُودِ بِهِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ عَنْهُمْ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الزِّنَا شُبْهَةً أَوْجَبَتْ الدَّرْءَ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَفِي الْقَذْفِ شُبْهَةٌ أَوْجَبَتْ الدَّرْءَ عَنْ الشُّهُودِ. قَالَ قَاضِي خَانَ: وَكَلَامُنَا أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} وَقَدْ وُجِدَ الْإِتْيَانُ بِأَرْبَعَةٍ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتِ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الزِّنَا فِي زَاوِيَةٍ وَهَذَا) أَعْنِي حَدَّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ (اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدُّوا) لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً، وَبِهِ يَخْتَلِفُ الْفِعْلُ الْمَشْهُودُ بِهِ فَتَصِيرُ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا مِنْ الْبَلَدَيْنِ وَالدَّارَيْنِ، وَالْقِيَاسُ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ حَيْثُ نَسَبُوهُ إلَى بَيْتِ وَاحِدٍ صَغِيرٍ إذْ الْكَلَامُ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَبِيرِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَعْيِينُهُمْ زَوَايَاهُ وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهَا لَا يُوجِبُ تُعَدَّدَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْبَيْتَ إذَا

ص: 286

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا) أَمَّا عَنْهُمَا فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍ

كَانَ صَغِيرًا وَالْفِعْلُ وَسَطَهُ فَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي جِهَةٍ يَظُنُّ أَنَّهُ إلَيْهِ أَقْرَبُ فَيَقُولُ: إنَّهُ فِي الزَّاوِيَةِ الَّتِي تَلِيهِ، بِخِلَافِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا فَكَانَ كَالدَّارَيْنِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ صُورَةً لَا حَقِيقَةً أَوْ حَقِيقَةً وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ، بِأَنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ ثُمَّ صَارَ إلَى أُخْرَى بِتَحَرُّكِهِمَا عِنْدَ الْفِعْلِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفُوا نَقْلَهُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَائِمٌ فِي الْبَلْدَتَيْنِ. نَعَمْ إنَّمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِأَنْ يَقُولُوا مَثَلًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْوَجْهُ مَا اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَوْفِيقٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهُوَ احْتِيَاطٌ فِي الْإِقَامَةِ وَالْوَاجِبُ دَرْؤُهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْفِيقَ مَشْرُوعٌ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ عَنْ التَّعْطِيلِ، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ قُبِلُوا مَعَ احْتِمَالِ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى زِنَاهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ، وَقَبُولُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِ الزِّنَا الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي شَهَادَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاخْتِلَافُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَفِي هَذِهِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْفِيقَ مَشْرُوعٌ فِي كُلٍّ مِنْ الِاخْتِلَافِ الْمَنْصُوصِ وَالْمَسْكُوتِ. وَمِنْ الْأَوَّلِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ أَوْ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ أَوْ فِي أَنَّهَا بَيْضَاءُ أَوْ سَمْرَاءُ أَوْ عَلَيْهَا ثَوْبٌ أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ تُقْبَلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ عَلَى هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا شَهِدُوا، فَاخْتَلَفُوا فِي الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةِ، فَإِنَّ هَذَا التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ كُرْهًا وَانْتِهَاؤُهُ طَوَاعِيَةً.

قَالَ فِي الْكَافِي: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ كُرْهًا إذَا كَانَ عَنْ إكْرَاهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَا يَجِبُ وَبِالنَّظَرِ إلَى الِانْتِهَاءِ يَجِبُ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَهُنَا بِالنَّظَرِ إلَى الزَّاوِيَتَيْنِ يَجِبُ فَافْتَرَقَا

(قَوْلُهُ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِالنُّخَيْلَةِ) بِالنُّونِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ تَصْغِيرُ نَخْلَةٍ مَكَانٌ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ يُقَالُ بَجِيلَةٌ بِالْبَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْجِيمِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ بِالْيَمَنِ (وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ فَلَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، أَمَّا عَنْهُمَا فَلِلتَّيَقُّنِ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ) إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الزِّنَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فَلَا يَجِبُ حَدُّهُمَا بِالشَّكِّ، وَأَمَّا فِي الشُّهُودِ فَلِلتَّيَقُّنِ بِصِدْقِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَلَا يُحَدُّونَ بِالشَّكِّ، فَلَوْ كَانَ الْمَكَانَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُ الْأَمْرَيْنِ فِيهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ يُقَالُ لِوَقْتٍ مُمْتَدٍّ امْتِدَادًا عُرْفِيًّا لَا أَنَّهُ يَخُصُّ أَنَّ ظُهُورَهَا مِنْ الْأُفُقِ، وَيَحْتَمِلُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ.

وَدَيْرُ هِنْدٍ: دَيْرٌ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، وَهِنْدٌ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ كَانَتْ تَرَهَّبَتْ وَبَنَتْ هَذَا الدَّيْرَ وَأَقَامَتْ بِهِ، وَخَطَبَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَيَّامَ إمَارَتِهِ عَلَى الْكُوفَةِ فَقَالَتْ: وَالصَّلِيبُ مَا فِي رَغْبَةٍ لِجَمَالٍ وَلَا كَثْرَةِ مَالٍ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَخِرَ بِنِكَاحِي فَيَقُولَ: نَكَحْت بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِلَّا فَأَيُّ رَغْبَةٍ لِشَيْخٍ أَعْوَرَ فِي عَجُوزٍ عَمْيَاءَ؟ فَصَدَّقَهَا الْمُغِيرَةُ وَقَالَ فِي ذَلِكَ:

أَدْرَكْت مَا مَنَّيْت نَفْسِي خَالِيًا

لِلَّهِ دَرُّك يَا ابْنَةَ النُّعْمَانِ

فَلَقَدْ رَدَدْت عَلَى الْمُغِيرَةِ دَهْيَةً

إنَّ الْمُلُوكَ ذَكِيَّةُ الْأَذْهَانِ

ص: 287

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا وَهِيَ بِكْرٌ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ)؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النِّسَاءَ نَظَرْنَ إلَيْهَا فَقُلْنَا إنَّهَا بِكْرٌ، وَشَهَادَتُهُنَّ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي إيجَابِهِ فَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمْ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ) وَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَالُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحَدُّ وَهُمْ لَيْسُوا

إنِّي لِحَلِفِك بِالصَّلِيبِ مُصَدِّقٌ

وَالصَّلْبُ أَصْدَقُ حَلْفَةِ الرُّهْبَانِ

وَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُهَا فَسَأَلَهَا يَوْمًا عَنْ حَالِهَا فَقَالَتْ:

فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا

إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَنْتَصِفُ

فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا

تُقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتُصَرَّفُ

ذَكَرَ هَذَا ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ عَلَى الْقَصِيدَةِ الْمَنَازِلِيَّةِ لِلشَّرِيفِ الرَّضِيِّ الَّتِي أَوَّلُهَا:

مَا زِلْت أَطْرُقُ الْمَنَازِلَ بِاللَّوَى

حَتَّى نَزَلْت مَنَازِلَ النُّعْمَانِ

عِنْدَ قَوْلِهِ:

وَلَقَدْ رَأَيْت بِدَيْرِ هِنْدٍ مَنْزِلًا

أَلْمَى مِنْ الضَّرَّاءِ وَالْحِدْثَانِ

أَغْضَى كَمُسْتَمِعِ الْهَوَانِ تَغَيَّبَتْ

أَنْصَارُهُ وَخَلَا عَنْ الْأَعْوَانِ

بَالِي الْمَعَالِمِ أَطْرَقْت شُرُفَاتُهُ

إطْرَاقَ مُنْجَذِبِ الْقَرِينَةِ عَانِ

وَذَكَرْت مَسْحَبَهَا الرِّيَاطَ بِجَوِّهِ

مِنْ قَبْلِ بَيْعِ زَمَانِهَا بِزَمَانِ

وَبِمَا تَرُدُّ عَلَى الْمُغِيرَةِ دَهْيَهُ

نَزْعَ النَّوَارِ بَطِيئَةَ الْإِذْعَانِ

وَالنَّوَارُ مِنْ النِّسَاءِ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْ الرِّيبَةِ، يُقَالُ نَارَتْ الْمَرْأَةُ تَنُورُ نُورًا إذَا نَفَرَتْ عَنْ الْقَبِيحِ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا وَهِيَ بِكْرٌ) بِأَنْ نَظَرَ النِّسَاءُ إلَيْهَا فَقُلْنَ هِيَ بِكْرٌ (دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا) أَيْ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا (وَعَنْهُمْ) أَيْ وَيُدْرَأُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْ الشُّهُودِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ تُحَدُّ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ، أَمَّا الدَّرْءُ عَنْهُمَا فَلِظُهُورِ كَذِبِ الشُّهُودِ إذْ لَا بَكَارَةَ مَعَ الزِّنَا، وَقَوْلُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَتَثْبُتُ بَكَارَتُهَا بِشَهَادَتِهِنَّ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُ الْحَدِّ. وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ لَمْ تُعَارِضْ شَهَادَتُهُنَّ شَهَادَتَهُمْ تَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِنَّ بَكَارَتُهَا، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الزِّنَا لِجَوَازِ أَنْ تَعُودَ الْعُذْرَةُ لِعَدَمِ الْمُبَالَغَةِ فِي إزَالَتِهَا فَلَا يُعَارِضُ شَهَادَةَ الزِّنَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ، وَإِنْ عَارَضَتْ بِأَنْ لَا يَتَحَقَّقَ عَوْدُ الْعُذْرَةِ يَجِبُ أَنْ تَبْطُلَ شَهَادَتُهُنَّ لِأَنَّهَا لَا تَقْوَى قُوَّةَ شَهَادَتِهِمْ. قُلْنَا: سَوَاءٌ انْتَهَضَتَ مُعَارَضَةٌ أَوْ لَا لَا بُدَّ أَنْ تُورَثَ شُبْهَةٌ بِهَا يَنْدَرِئُ، وَلِذَا يَسْقُطُ بِقَوْلِهِنَّ هِيَ رَتْقَاءُ أَوْ قَرْنَاءُ وَيَقِلُّ فِي ذَلِكَ قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ لِقَوْلِهِنَّ فَقَوْلُهُنَّ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ لَا فِي إيجَابِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يُقْطَعْ بِكَذِبِهِمْ لِجَوَازِ صِدْقِهِمْ وَتَكُونُ الْعُذْرَةُ قَدْ عَادَتْ لِعَدَمِ الْمُبَالَغَةِ فِي إزَالَتِهَا بِالزِّنَا أَوْ لِكَذِبِهِنَّ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمْ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ يُحَدُّ الشُّهُودُ وَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ) الْأَصْلُ أَنَّ الشُّهُودَ بِاعْتِبَارِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ أَنْوَاعٌ:

ص: 288

مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَلَمْ تَثْبُتْ شُبْهَةُ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ (وَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ وَهُمْ فُسَّاقٌ أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ لَمْ يُحَدُّوا)؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالتَّحَمُّلِ وَإِنْ كَانَ فِي أَدَائِهِ نَوْعُ قُصُورٍ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ.

وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ يَنْفُذُ عِنْدَنَا، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ الزِّنَا، وَبِاعْتِبَارِ قُصُورٍ فِي الْأَدَاءِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ يَثْبُتُ شُبْهَةُ عَدَمِ الزِّنَا فَلِهَذَا امْتَنَعَ الْحَدَّانِ، وَسَيَأْتِي فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ كَالْعَبْدِ عِنْدَهُ

(وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا)؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ لَا حِسْبَةَ عِنْدَ

أَهْلٌ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَهُوَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْعَدْلُ. وَأَهْلٌ لَهُمَا عَلَى وَجْهِ الْقُصُورِ كَالْفُسَّاقِ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَمُقَابِلُ الْقِسْمَيْنِ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ وَلَا لِلْأَدَاءِ وَهُمْ الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ وَالْكُفَّارُ. وَأَهْلٌ لِلتَّحَمُّلِ لَا الْأَدَاءِ كَالْمَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ وَالْعُمْيَانِ. فَالْأَوَّلُ يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ وَتَثْبُتُ الْحُقُوقُ بِهَا، وَالثَّانِي يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهَا لِيَظْهَرَ صِدْقُهُ أَوْ لَا فَلَا، وَالثَّالِثُ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا حَتَّى لَمْ يُعْتَبَرْ فِيمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لِلْأَدَاءِ فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِمَا وَشَهَادَتِهِمَا، وَالرَّابِعُ يُعْتَبَرُ فِي هَذَا فَصَحَّ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الْعُمْيَانِ وَالْقَذَفَةِ وَلَوْ شَهِدُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَدَمُ الْحَدِّ لِلزِّنَا ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ: أَيْ الْعُمْيَانِ وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ كَالْمَالِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهَا مَا لَا يَثْبُتُ مَعَهَا مِنْ الْحُدُودِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعُمْيَانَ وَالْمَحْدُودِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْأَدَاءِ، وَالْعَبْدَ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ أَيْضًا فَلَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ الزِّنَا لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ فَصَارُوا قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ، بِخِلَافِ الْفُسَّاقِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى الزِّنَا لَا يُحَدُّونَ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلُوا لِأَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلْأَدَاءِ مَعَ قُصُورٍ، حَتَّى لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ نَفَذَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فَاحْتَطْنَا فِي الْحَدِّ فَسَقَطَ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الثُّبُوتِ وَعَنْ الشُّهُودِ لِثُبُوتِ شُبْهَةِ الثُّبُوتِ، وَيَأْتِي فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ) بِأَنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَأَقَلَّ (حُدُّوا) حَدَّ الْقَذْفِ: يَعْنِي إذَا طَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَتَوَقَّفَ عَلَى طَلَبِهِ، وَهَذِهِ إجْمَاعِيَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَحِينَ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعُ بْنُ عَلْقَمَةَ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ وَلَمْ تَكْمُلْ بِشَهَادَةِ زِيَادٍ حُدَّ عُمَرَ رضي الله عنه الثَّلَاثَةُ الشُّهُودِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا،

ص: 289

نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَخُرُوجِ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَذْفِ بِاعْتِبَارِهَا

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَضُرِبَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ وُجِدَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ)؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ الشُّهُودُ ثَلَاثَةٌ (وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَرْشُ الضَّرْبِ، وَإِنْ رُجِمَ فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: أَرْشُ الضَّرْبِ أَيْضًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ إذَا كَانَ جَرَحَهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ مِنْ الضَّرْبِ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ. لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِشَهَادَتِهِمْ مُطْلَقُ الضَّرْبِ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْجَرْحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ فَيَنْتَظِمُ الْجَارِحُ وَغَيْرُهُ فَيُضَافُ إلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ تَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ فَصَارَ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ.

وَالْأَرْبَعَةُ إخْوَةٌ لِأُمٍّ وَاسْمُ أُمِّهِمْ سُمَيَّةُ. وَأَمَّا وَجْهُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ اللَّفْظَ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ قَذْفٌ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْقَذْفِ إذَا اُعْتُبِرَ شَهَادَةً، وَلَا يُعْتَبَرُ شَهَادَةً إلَّا إذَا كَانُوا نِصَابًا

(قَوْلُهُ: وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَضُرِبَ بِشَهَادَتِهِمْ إلَخْ) حَاصِلُهَا أَنَّهُ إذَا حُدَّ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ جَلْدًا فَجَرَحَهُ الْحَدُّ أَوْ مَاتَ مِنْهُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ إيَّاهُ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُ الشُّهُودِ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ أَعْمَى أَوْ كَافِرًا فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ حِينَئِذٍ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَمَتَى كَانُوا أَقَلَّ حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: أَرْشُ الْجِرَاحَةِ وَدِيَةُ النَّفْسِ فِيمَا إذَا مَاتَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْحَدُّ الرَّجْمَ فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَحَدُ الشُّهُودِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ اتِّفَاقًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ) يَعْنِي بَعْدَ مَا ضُرِبَ فَجُرِحَ أَوْ مَاتَ (لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ) أَرْشَ الْجِرَاحَةِ إنْ لَمْ يَمُتْ وَالدِّيَةَ إنْ مَاتَ. وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ كُلَّ الْحُسْنِ لَفْظ وَعَلَى هَذَا هُنَا لِأَنَّ مِثْلَهُ يُقَالُ إذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهَا كَالْخِلَافِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ هُوَ أَنَّ الْأَرْشَ وَالدِّيَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ وَهُنَا عِنْدَهُمَا عَلَى الشُّهُودِ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: الْأَرْشُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْحَاكِمِ (قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مُطْلَقُ الضَّرْبِ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْجَرْحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ فَيَنْتَظِمُ الْخَارِجُ وَغَيْرُهُ فَيُضَافُ) الْجُرْحُ وَالْمَوْتُ (إلَى شَهَادَتِهِمْ) فَصَارُوا كَالْمُبَاشِرِينَ لِمَا أَوْجَبُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ فَرُجُوعُهُمْ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ جُنَاةٌ فِي شَهَادَتِهِمْ، كَمَنْ ضَرَبَ شَخْصًا بِسَوْطٍ فَجَرَحَهُ أَوْ مَاتَ، وَكَشُهُودِ الْقِصَاصِ وَالْقَطْعِ إذَا رَجَعُوا، هَذَا إذَا رَجَعُوا.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَرْجِعُوا بَلْ ظَهَرَ بَعْضُهُمْ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا إلَخْ وَهُوَ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَعِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بِجِنَايَتِهِمْ فَيَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّهُ الْآمِرُ لَهُ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ عِنْدَ صِحَّةِ

ص: 290

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْجَلْدُ وَهُوَ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ غَيْرُ جَارِحٍ وَلَا مُهْلِكٍ، فَلَا يَقَعُ جَارِحًا ظَاهِرًا إلَّا لِمَعْنًى فِي الضَّارِبِ وَهُوَ قِلَّةُ هِدَايَتِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الصَّحِيحِ كَيْ لَا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ الْإِقَامَةِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ) لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الشُّبْهَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا

الْأَمْرِ فَكَأَنَّهُ ضَرَبَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ، وَفِيهِ يَكُونُ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ الَّتِي لَحِقَتْهُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ لَهُمْ فِي مَالِهِمْ، وَصَارَ الْجُرْحُ وَالْمَوْتُ مِنْ الْجَلْدِ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ إذَا قَضَى بِهِ، فَإِنَّ الضَّمَانَ عِنْدَ ظُهُورِ الشُّهُودِ مَحْدُودِينَ أَوْ عَبِيدًا إلَخْ فِي بَيْتِ الْمَالِ اتِّفَاقًا (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِشَهَادَتِهِمْ هُوَ الْحَدُّ وَهُوَ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ غَيْرُ جَارِحٍ وَلَا مُهْلِكٍ) فَتَضَمَّنَ هَذَا مَنْعَ قَوْلِهِمَا: الْوَاجِبُ مُطْلَقُ الضَّرْبِ، وَقَوْلُهُمَا فِي إثْبَاتِهِ: إنَّ الِاحْتِزَازَ عَنْ الْجَارِحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ مَمْنُوعٌ بَلْ مُمْكِنٌ غَيْرُ عَسِرٍ أَيْضًا (وَلَا يَقَعُ جَارِحًا إلَّا لِحَرْقِ الضَّارِبِ وَقِلَّةِ هِدَايَتِهِ وَتَرْكِ احْتِيَاطِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ) فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى الشُّهُودِ وَلَا الْقَاضِي، بِخِلَافِ الرَّجْمِ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ قَضَى بِهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ وَمَصْلَحَةُ عَمَلِهِ لِلْعَامَّةِ فَيَكُونُ مُوجِبُ ضَرَرِ خَطَئِهِ عَلَيْهِمْ فِي مَا لَهُمْ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ.

أَمَّا الْجَلْدُ الْجَارِحُ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ فَيَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْجَلَّادِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الصَّحِيحِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ، فَلَوْ ضَمَّنَّاهُ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الْإِقَامَةِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ الْغَرَامَةُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ وَلَا عَلَى الْقَاضِي لِتَثْبُتَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَمْ تَجِبْ أَصْلًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ فَلَهُ وَجْهٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهَذَا الْوَجْهِ بَلْ بِضَرْبٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا كَاسِرٍ وَلَا قَاتِلٍ، فَإِذَا وُجِدَ فِعْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. رَجَعَ مُتَعَدِّيًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَهَذَا أَوْجَهُ مِنْ جَعْلِهِ احْتِرَازًا عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْوَاقِعِ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ لِمَا فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ (مِنْ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ) لِتَحَقُّقِهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي تَحْمِيلِ الْأُصُولِ، وَفِي نَقْلِ الْفُرُوعِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَالْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحَدُّ بِهَا إذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُهَا، وَنَحْنُ بَيَّنَّا زِيَادَةَ الشُّبْهَةِ وَهِيَ، وَإِنْ لَمْ تُمْنَعْ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ

ص: 291

(فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُونَ فَشَهِدُوا عَلَى الْمُعَايَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا) مَعْنَاهُ شَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ قَدْ رُدَّتْ مِنْ وَجْهٍ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ بِالْأَمْرِ وَالتَّحْمِيلِ، وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَامْتِنَاعُ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ. وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ

(وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ فَكُلَّمَا رَجَعَ وَاحِدٌ حُدَّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ وَغَرِمَ رُبْعَ الدِّيَةِ) أَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّاجِعِ رُبْعَ الْحَقِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْقَتْلُ دُونَ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْحَدُّ فَمَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ.

وَقَالَ زُفَرُ

الشَّرْعَ اعْتَبَرَ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَلْزَمَ الْقَضَاءَ بِمُوجِبِهَا فِي الْمَالِ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِهَا فِي الْجُمْلَةِ اعْتِبَارُهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ صَحِيحَةٌ لِذَلِكَ وَلَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْحُدُودِ لِزِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ زِيَادَةِ مِثْلِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ مُعْتَبَرَةٌ إلَّا فِي الْحُدُودِ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ رَدُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِنْ الشَّهَادَةِ كَمَا رُدَّتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهَا، وَلِأَنَّهَا بَدَلٌ وَاعْتِبَارُ الْبَدَلِ فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ لَا فِيمَا يُحْتَاطُ فِي إبْطَالِهِ (فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُونَ) يَعْنِي الْأُصُولَ (فَشَهِدُوا بِالْمُعَايَنَةِ) بِنَفْسِ مَا شَهِدَ بِهِ الْفُرُوعُ مِنْ الزِّنَا فَعِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا (لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ الْأُصُولِ قَدْ رَدَّهَا الشَّرْعُ مِنْ وَجْهٍ بِرَدِّهِ شَهَادَةَ الْفُرُوعِ فِي عَيْنِ الْحَادِثَةِ) الَّتِي شَهِدَ بِهَا الْأُصُولُ (إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ) فَصَارَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا (ثُمَّ لَا يُحَدُّ الشُّهُودُ) الْأُصُولُ وَلَا الْفُرُوعُ (لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ) فَلَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمْ قَذْفًا، غَيْرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ) حَاصِلُ وُجُوهِ رُجُوعِ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ: إمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ، أَوْ بَعْدَهُ. ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ كُلَّهَا، فَذَكَرَ أَوَّلًا مَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ وَهُوَ الرَّجْمُ مَثَلًا، وَأَنَّ حُكْمَهُ أَنَّهُ وَحْدَهُ يَغْرَمُ رُبْعَ الدِّيَةِ. أَمَّا غَرَامَةُ رُبْعِ الدِّيَةِ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّاجِعِ رُبْعَهَا لِإِتْلَافِهِ بِهَا رُبْعَ النَّفْسِ حُكْمًا فَيَضْمَنُ بَدَلَ الرُّبْعِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْقَتْلُ لَا الْمَالُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ أَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا يُقْتَلُونَ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الدِّيَاتِ) قِيلَ وَقَعَتْ الْحَوَالَةُ غَيْرَ رَائِجَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِيهِ وَأَمَّا حَدُّ الرَّاجِعِ وَحْدَهُ فَمَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَحُدُّهُ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَاذِفَ حَيٍّ بِرُجُوعِهِ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ فَيُورَثُ شُبْهَةً، وَإِنْ كَانَ قَاذِفَ مَيِّتٍ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ

ص: 292

لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّاجِعُ قَاذِفَ حَيٍّ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفَ مَيِّتٍ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً. وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ بِهِ تُفْسَخُ شَهَادَتُهُ فَجُعِلَ لِلْحَالِ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ وَقَدْ انْفَسَخَتْ الْحُجَّةُ فَيَنْفَسِخُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ فَلَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ

الْقَاضِي وَحُكْمُهُ بِرَجْمِهِ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي إحْصَانِهِ وَلِهَذَا لَا يُحَدُّ الْبَاقُونَ إجْمَاعًا (قَوْلُهُ: وَلَنَا إلَخْ) حَاصِلُهُ اخْتِيَارُ الشِّقِّ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ قَذْفُ مَيِّتٍ ثُمَّ نَفَى الشُّبْهَةَ الدَّارِئَةَ لِحَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ، أَمَّا إنَّهُ قَذْفُ مَيِّتٍ فَلِأَنَّ بِالرُّجُوعِ تَنْفَسِخُ شَهَادَتُهُ فَتَصِيرُ قَذْفًا لِلْحَالِ لَا أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ كَانَتْ قَذْفًا مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا حِينَ وَقَعَتْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً شَهَادَةً غَيْرَ أَنَّ بِالرُّجُوعِ تَنْفَسِخُ فَتَصِيرُ قَذْفًا لِلْحَالِ، كَمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ ثُمَّ وَجَدَ الشَّرْطَ بَعْدَ سَنَةٍ فَوَقَعَ يَقَعُ الْآنَ لَا أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَقَعَ حِينَ التَّكَلُّمِ بِهِ، وَكَذَا إذَا فَسَخَ وَارِثُ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ مَعَ الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْحَالِ لِلْبَائِعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ظَهَرَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا بَعْدَ الْحَدِّ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الرَّاجِعَ وَغَيْرَهُ قَذَفَةٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُودِ نَاقِصًا فَيُحَدُّونَ، وَإِنَّمَا لَا يُحَدُّونَ مِنْ بَعْدِ الرَّجْمِ عِنْدَ ظُهُورِ أَحَدِهِمْ عَبْدًا لِأَنَّهُ قَذَفَ حَيًّا فَمَاتَ، وَأَمَّا إنَّ كَوْنَهُ مَرْجُومًا لَيْسَ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ، فَلِأَنَّهُ لَمَّا انْفَسَخَتْ الْحُجَّةُ انْفَسَخَ مَا بُنِيَ عَلَيْهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ بِرَجْمِهِ فِي حَقِّهِ بِزَعْمِهِ وَاعْتِرَافِهِ، فَإِذَا انْفَسَخَ تَلَاشَى فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَكِنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ خَاصَّةً فَلَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ لِأَنَّ زَعْمَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِذَا حُدَّ الرَّاجِعُ وَلَمْ يُحَدَّ غَيْرُهُ لَوْ قَذَفَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ قَائِمًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ صَارَ الْمَرْجُومُ غَيْرَ مُحْصَنٍ فِي حَقِّهِ.

ثُمَّ

ص: 293

(فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حُدُّوا جَمِيعًا وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حُدَّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا فِي حَقِّ الرَّاجِعِ، كَمَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ حُدُّوا جَمِيعًا. وَقَالَ زُفَرُ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَقِيَ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ (فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ (فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ حُدَّا وَغَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ) أَمَّا الْحَدُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا

ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رُجُوعَ الْوَاحِدِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا حَتَّى رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) أَيْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ (حُدُّوا جَمِيعًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَزُفَرُ: (يُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ) فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إلَى وُقُوعِهَا قَذْفًا. فَالرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فَفَسْخُ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً كَالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ (وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ) أَيْ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ (مِنْ الْقَضَاءِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِ الْإِمْضَاءِ مِنْ الْقَضَاءِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ التَّقَادُمِ فَكَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ كَرُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ كَوْنِ الْإِمْضَاءِ مِنْ الْقَضَاءِ فِيمَا إذَا اعْتَرَضَتْ أَسْبَابُ الْجَرْحِ فِي الشُّهُودِ أَوْ سُقُوطُ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ أَوْ عَزْلُ الْقَاضِي يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ حَدِّ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ رُجُوعَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَقَالَ:(وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ حُدُّوا جَمِيعًا) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَقَالَ زُفَرُ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً) لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَامِلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَتَبْقَى شَهَادَتُهُمْ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا (وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ) وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كَلَامُهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً مَا دَامَ بِصِفَةِ إيجَابِهِ الْقَضَاءَ عَلَى الْقَاضِي وَبِالرُّجُوعِ انْتَفَى فَكَانَ قَذْفًا، وَهَذَا لِأَنَّ كَوْنَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْقَذْفِ إلَى الشَّهَادَةِ إلَّا بِاتِّصَالِهِ بِحَقِيقَةِ الْقَضَاءِ مِمَّا يُمْنَعُ. إذَا عُرِفَ هَذَا قُلْنَا: لَوْ امْتَنَعَ الرَّابِعُ عَنْ الْأَدَاءِ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِسُكُوتِ الرَّابِعِ بَلْ بِنِسْبَةِ الثَّلَاثَةِ إيَّاهُ إلَى الزِّنَا قَوْلًا، فَكَذَا إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ يُحَدُّ ثَلَاثَتُهُمْ بِقَوْلِهِمْ زَنَى (قَوْلُهُ فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً) عَطْفٌ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ (فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ) أَيْ بَعْدَ الرَّجْمِ (لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا حَدَّ وَلَا غَرَامَةَ (لِأَنَّهُ بَقِيَ) بَعْدَ رُجُوعِهِ (مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ سِوَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله غَيْرُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ (وَإِنْ رَجَعَ آخَرُ) مَعَ الْأَوَّلِ (حُدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا وَغَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ) وَلِلشَّافِعِيِّ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهُمَا إنْ قَالَا: أَخْطَأْنَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا قِسْطُهُمَا مِنْ الدِّيَةِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: فِي وَجْهٍ خُمُسَاهَا، وَفِي وَجْهٍ رُبْعُهَا كَقَوْلِنَا وَلَوْ قَالَا: تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ يُقْتَلَانِ (أَمَّا الْحَدُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْقَلِبُ قَذْفًا لِلْحَالِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ

ص: 294

وَأَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ عَلَى مَا عُرِفَ

(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا فَرُجِمَ فَإِذَا الشُّهُودُ مَجُوسٌ أَوْ عَبِيدٌ فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) مَعْنَاهُ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ (وَقَالَا هُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ، لَهُمَا أَنَّهُمْ

يَعْنِي عِنْدَ رُجُوعِ الثَّانِي تَنْفَسِخُ شَهَادَتُهُمَا قَذْفًا لِعَدَمِ بَقَاءِ تَمَامِ الْحُجَّةِ بَعْدَ رُجُوعِ الثَّانِي، لَا أَنَّ رُجُوعَ الثَّانِي هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ، (وَأَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ وَالْمُعْتَبَرُ) فِي قَدْرِ لُزُومِ الْغَرَامَةِ (بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ) لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ عَلَى مَا عُرِفَ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَزُكُّوا) أَيْ بِأَنْ قَالَ الْمُزَكُّونَ: هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ عُدُولٌ، أَمَّا لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى قَوْلِهِمْ عُدُولٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ بِالِاتِّفَاقِ إذَا ظَهَرُوا عَبِيدًا، فَإِذَا زُكُّوا كَمَا قُلْنَا فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُهُمْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا فَإِمَّا أَنْ يَسْتَمِرَّ الْمُزَكُّونَ عَلَى تَزْكِيَتِهِمْ قَائِلِينَ هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ اتِّفَاقًا، وَمَعْنَاهُ بَعْدَ ظُهُورِ كُفْرِهِمْ حُكْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا طَرَأَ كُفْرُهُمْ بَعْدُ، وَإِنْ قَالُوا: أَخْطَأْنَا فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُونَ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَبْقَ لِصُورَةِ الرُّجُوعِ الَّتِي فِيهَا الْخِلَافُ إلَّا أَنْ يَقُولُوا تَعَمَّدْنَا فَقُلْنَا هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ مَعَ عِلْمِنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: الدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا: تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي بَعْدَ قَوْلِهِ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ فِي صُورَةِ الرُّجُوعِ الْخِلَافِيَّةِ قَوْلَيْنِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهَذَا الْوَجْهِ أَوْ بِأَعَمَّ مِنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (لَهُمَا أَنَّهُمْ) لَوْ ضَمِنُوا لَكَانَ ضَمَانَ عُدْوَانٍ وَهُوَ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ التَّسَبُّبِ وَعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا التَّسَبُّبُ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِتْلَافِ الزِّنَا وَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ

ص: 295

أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ شَهِدُوا بِإِحْصَانِهِ. وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ الشَّرْطِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَهِدُوا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَخْبَرُوا، وَهَذَا إذَا أَخْبَرُوا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، أَمَّا إذَا قَالُوا هُمْ عُدُولٌ وَظَهَرُوا عَبِيدًا لَا يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً، وَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا وَقَدْ مَاتَ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ

وَإِنَّمَا (أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارَ كَمَا لَوْ أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ) فَكَمَا لَا يَضْمَنُ شُهُودُ الْإِحْصَانِ بَعْدَ رَجْمِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِهِ إذَا ظَهَرَ غَيْرَ مُحْصَنٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا السَّبَبَ كَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ الْمُزَكُّونَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا (إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً) مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ عَلَى الْحَاكِمِ (بِالتَّزْكِيَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ) لِلْإِتْلَافِ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ مُوجِبِيَّةَ الشَّهَادَةِ لِلْحُكْمِ بِهِ، وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ كَالْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا عَلَى مَا عُرِفَ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ وَلَا لِتَغْلِيظِهَا بَلْ الزِّنَا هُوَ الْمُوجِبُ فَعِنْدَ الْإِحْصَانِ يُوجِبُهَا غَلِيظَةً لِأَنَّهُ كُفْرَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ فَلَمْ تُضَفْ الْعُقُوبَةُ إلَى نَفْسِ الْإِحْصَانِ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ بَلْ إلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِهِ الشَّهَادَةَ بِثُبُوتِ عَلَامَةٍ عَلَى اسْتِحْقَاقِ تَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ، وَالسَّبَبُ وَضْعُ الْكُفْرَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ، ثُمَّ أَفَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّزْكِيَةِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ بِأَنْ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ إلَخْ بَلْ ذَلِكَ أَوْ الْإِخْبَارُ كَأَنْ يَقُولُوا: هُمْ أَحْرَارٌ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ اتِّفَاقًا، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الْمُزَكَّى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَيَشْتَرِطُ الِاثْنَيْنِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَا، وَيَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْإِحْصَانِ ثُمَّ لَا يُحَدُّ الشُّهُودُ حَدَّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا فَمَاتَ وَلَا يُورَثُ اسْتِحْقَاقُ حَدِّ الْقَذْفِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمَنْظُومَةِ قَوْلُهُ:

عَلَى الْمُزَكِّينَ ضَمَانُ مَنْ رُجِمَ

إنْ ظَهَرَ الشَّاهِدُ عَبْدًا وَعُلِمَ

وَأَوْجَبَا ضَمَانَ هَذَا الْمُتْلَفِ

مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَاعْرِفْ

وَفِي الْمُزَكِّينَ إذَا هُمْ رَجَعُوا

كَذَا وَقَالُوا عُزِّرُوا وَأُوجِعُوا

وَفِي الْمُخْتَلَفِ مَا يُوَافِقُ مَا فِي الْمَنْظُومَةِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ الرُّجُوعِ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ. قَالَ فِي الْمُصَفَّى شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ: وَهُنَا إشْكَالٌ هَائِلٌ، فَإِنَّا إنْ أَوَّلْنَا الْمَسْأَلَةَ بِالرُّجُوعِ يَلْزَمْ التَّكْرَارُ، وَإِنْ لَمْ نُؤَوِّلْهَا بِالرُّجُوعِ يَلْزَمْ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ هُنَا، وَفِي الشَّرْحِ خِلَافُهُ ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَوَّلَ بِالرُّجُوعِ

ص: 296

(وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ ثُمَّ وَجَدَ الشُّهُودَ عَبِيدًا فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ) وَفِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ ظَاهِرًا وَقْتَ الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَصِرْ حُجَّةً بَعْدُ، وَلِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُبَاحَ الدَّمِ مُعْتَمِدًا عَلَى دَلِيلٍ مُبِيحٍ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَنَّهُ حَرْبِيًّا وَعَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ، وَالْعَوَاقِلُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ، وَيَجِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ (وَإِنْ رُجِمَ ثُمَّ وُجِدُوا عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ)؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْإِمَامِ فَنَقَلَ فِعْلَهُ

وَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى فِيمَا إذَا ظَهَرَ الشُّهُودُ عَبِيدًا وَرَجَعَ الْمُزَكُّونَ أَيْضًا. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ يَعْنِي الَّتِي فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ فِيمَا إذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ فَحَسْبُ وَالتَّفَاوُتُ ظَاهِرٌ اهـ.

وَعَلَى هَذَا فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ: مَا إذَا ظَهَرُوا عَبِيدًا وَرَجَعُوا، وَمَا إذَا رَجَعُوا فَقَطْ؛ وَأَمَّا تَعْزِيرُهُمْ فَبِاتِّفَاقٍ. وَقَوْلُ صَاحِبِ الْمُجْمَعِ: وَلَوْ شَهِدُوا فَزُكُّوا فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُزَكِّينَ إنْ تَعَمَّدُوا. وَقَالَا: فِي بَيْتِ الْمَالِ.

وَلَوْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عُزِّرَ، وَإِلَّا يُفِيدَ تَحَقُّقَ الْخِلَافِ فِي الضَّمَانِ فِي مُجَرَّدِ رُجُوعِهِمْ، بَلْ أَفَادَ مُجَرَّدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّعْزِيرِ، فَالْإِشْكَالُ قَائِمٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْظُومَةِ عَلَى مَا مَشَى هُوَ عَلَيْهِ. وَحَاصِلُ الْجَمْعِ اشْتِرَاطُ الرُّجُوعِ مَعَ الظُّهُورِ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ فَلَا يَنْفَرِدُ الظُّهُورُ بِالتَّضْمِينِ الْخِلَافِيِّ بَلْ الِاتِّفَاقُ أَنَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا سَيُذْكَرُ، وَيَنْفَرِدُ رُجُوعُ الْمُزَكِّينَ بِالتَّضْمِينِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَهْوَ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ الْعَجَبِ كَوْنَ مُجَرَّدِ رُجُوعِ الْمُزَكِّينَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَا يُذْكَرُ فِي الْأُصُولِ كَالْجَامِعِ وَالْأَصْلِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ إلَخْ) اسْتَوْفَى أَقْسَامَهَا فِي كَافِي حَافِظِ الدِّينِ فَقَالَ: إنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْإِمَامُ بِرَجْمِهِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَكَذَا إذَا قَتَلَهُ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ، وَإِنْ قَضَى بِرَجْمِهِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا بَعْدَ الْقَضَاءِ ثُمَّ وَجَدَ الشُّهُودَ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَحْقُونَ الدَّمَ عَمْدًا، لَكِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَصِرْ مُبَاحَ الدَّمِ وَقَدْ قَتَلَهُ بِفِعْلٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، إذْ الْمَأْمُورُ بِهِ الرَّجْمُ وَهُوَ قَدْ حَزَّ رَقَبَتَهُ فَلَمْ يُوَافِقْ أَمْرَ الْقَاضِي لِيَصِيرَ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إلَيْهِ فَبَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: تَجِبُ الدِّيَةُ بِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالرَّجْمِ نَفَذَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَحِينَ قَتَلَهُ كَانَ الْقَضَاءُ صَحِيحًا فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ نُفِّذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْإِبَاحَةِ، فَإِذَا نُفِّذَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ تَثْبُتُ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَصِرْ حُجَّةً: يَعْنِي فَيُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ فَصَارَ كَمَنْ قَتَلَ إنْسَانًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ وَعَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ.

وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَتَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَمَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ يَجِبُ مُؤَجَّلًا كَالدِّيَةِ، بِخِلَافِ مَا وَجَبَ بِالصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ حَيْثُ يَجِبُ حَالًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْعَقْدِ لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَمَا فِي الْكِتَابِ لَا يَخْفَى بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ:(وَإِنْ رَجَمَ) ضَبَطَهُ

ص: 297

إلَيْهِ، وَلَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ

(وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ)؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لَهُمْ ضَرُورَةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَ الطَّبِيبَ وَالْقَابِلَةَ

(وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَلَهُ امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ) مَعْنَاهُ أَنْ يُنْكِرَ الدُّخُولَ بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِثَبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ وَالْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ

الْأَسَاتِذَةُ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ لِيَرْجِعَ ضَمِيرُهُ إلَى الرَّجُلِ فِي قَوْلِهِ: فَضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ، وَيُطَابِقُ قَوْلُ السَّرَخْسِيِّ فِي الْمَبْسُوطِ مَا فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَتَلَهُ رَجْمًا ثُمَّ وُجِدُوا عَبِيدًا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْجَلَّادِ إذَا جَرَحَ مِنْ قَوْلِهِ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ (كَذَا هَذَا) أَيْ الرَّجُلُ الْقَاتِلُ بِالرَّجْمِ بَعْدَ أَمْرِ الْقَاضِي (بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ) ثُمَّ ظَهَرُوا عَبِيدًا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ كَمَا ذَكَرْنَا (لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ) فَلَمْ يَنْتَقِلْ فِعْلُهُ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَلِهَذَا يُؤَدِّبُهُ عَلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ وَلَا يُؤَدِّبُهُ هُنَا لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ) أَيْ إلَى فَرْجَيْهِمَا (قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنْصُوصِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِأَنَّهُ لِضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عَلَى إقَامَةِ الْحِسْبَةِ، وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا يُوجِبُ فِسْقًا كَنَظَرِ الْقَابِلَةِ وَالْخَافِضَةِ وَالْخَتَّانِ وَالطَّبِيبِ. وَعَدَّ فِي الْخُلَاصَةِ مَوَاضِعَ حِلِّ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ لِلضَّرُورَةِ فَزَادَ الِاحْتِقَانَ وَالْبَكَارَةَ فِي الْعُنَّةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْمَرْأَةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ سَتَرَ مَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالُوا: تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ لِلتَّلَذُّذِ لَا تُقْبَلُ إجْمَاعًا. وَنُسِبَ إلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إلَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنُوا كَيْفِيَّةَ النَّظَرِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا، وَقُلْنَا: إنَّ النَّظَرَ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا قُلْنَا

(قَوْلُهُ: وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَلَهُ امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: (مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْكِرُ الدُّخُولَ بِهَا بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ) أَيْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ (لِأَنَّ الْحُكْمَ) شَرْعًا (بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ) أَيْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ (وَلِذَا لَوْ طَلَّقَهَا) طَلْقَةً (يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ) وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا بَانَتْ بِالْوَاحِدَةِ الصَّرِيحَةِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُمَا مُقِرَّانِ بِالْوَلَدِ، وَلَوْ ثَبَتَ الدُّخُولُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ثَبَتَ الْإِحْصَانُ، فَإِذَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الشَّرْعِ وَبِإِقْرَارِهِمَا أَوْلَى، وَعَلَى كَوْنِ الْمَعْنَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ وُجُودُ سَائِرِ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنَّ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا صَحِيحًا، فَمَا عَنْ الْأَئِمَّةِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ

ص: 298

(فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ رُجِمَ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ؛ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَزُفَرُ يَقُولُ إنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا لَا تُقْبَلُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ،

لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مِنْ دُخُولٍ لَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ لَيْسَ بِخِلَافٍ؛ لِأَنَّ بِفَرْضِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَا يَكُونُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةِ الْغَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ وَلَا مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَسْتَمِرُّ ظَاهِرًا مُوَلَّدًا عَلَى وَجْهِ الدِّيمَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ وَلَهُ امْرَأَةٌ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَشُهِدَ عَلَيْهِ إلَخْ) الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ أَنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، إلَّا أَنَّ الْمَبْنِيَّ مُخْتَلِفٌ، فَعِنْدَهُمْ شَهَادَتُهُنَّ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ لَا تُقْبَلُ.

وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ قُبِلَتْ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: الْإِحْصَانُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَالشَّأْنُ إثْبَاتُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَنَفْيِهِ لِأَنَّهُ الْمَدَارُ فَقَالَ: لِأَنَّ تَغْلِيظَ الْعُقُوبَةِ يَثْبُتُ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ الْمَحْضِ (فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ) وَهُوَ مُحْصَنٌ (أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ زِنَاهُ لَا تُقْبَلُ) مَعَ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْعِتْقِ مَقْبُولَةٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ (لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ فَصَارَ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَى زِنَاهُ إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ، وَلَزِمَ مِنْ أَصْلِهِ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَضْمَنُونَ إذْ كَانَ عَلَامَةً مَحْضَةً (وَلَنَا) فِي نَفْيِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (أَنَّ الْإِحْصَانَ) لَيْسَ إلَّا (عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ) بَعْضُهَا غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَبَعْضُهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ كَالْإِسْلَامِ وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالدُّخُولِ فِيهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهَا سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ وَلَا سَبَبًا لِسَبَبِهِ فَإِنَّ سَبَبَهَا الْمَعْصِيَةُ.

وَالْإِحْصَانُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ مَانِعٌ مِنْ سَبَبٍ لِلْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِضِدِّ سَبَبِهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ وَالشُّكْرُ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْحُكْمِ وَهُوَ مَانِعٌ لِسَبَبِهِ، فَالسَّبَبُ لَيْسَ إلَّا الزِّنَا إلَّا أَنَّهُ مُخْتَلِفُ الْحُكْمِ فَفِي حَالِ الْإِحْصَانِ حُكْمُهُ الرَّجْمُ وَفِي غَيْرِهِ الْجَلْدُ، فَكَانَ الْإِحْصَانُ السَّابِقُ عَلَى الزِّنَا مُعَرَّفًا لِخُصُوصِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالزِّنَا أَعْنِي خُصُوصَ الْعُقُوبَةِ، وَالْعَلَامَةُ الْمَحْضَةُ قَطُّ لَا يَكُونُ لَهَا تَأْثِيرٌ فَلَا تَكُونُ عِلَّةً وَلَا فِي مَعْنَاهَا فَكَيْفَ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا وَظَهَرَ أَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ مَعَهُ بِالزِّنَا عُقُوبَةٌ غَلِيظَةٌ، وَبِالشَّهَادَةِ يَظْهَرُ مَا ثَبَتَ بِالزِّنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَلَمَّا

ص: 299

بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ (فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهُوَ فَرْعُ مَا تَقَدَّمَ.

لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ وَلَا عِلَّةً جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي إثْبَاتِهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، كَمَا لَوْ شَهِدَتَا مَعَ الرَّجُلِ بِالنِّكَاحِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالدُّخُولِ فِي غَرَضٍ آخَرَ كَتَكْمِيلِ الْمَهْرِ حَتَّى يَثْبُتَ إحْصَانُهُ، ثُمَّ اُتُّفِقَ أَنَّهُ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَلَيْسَ أَنَّهُ يُرْجَمُ كَذَا إذَا شَهِدَتَا بَعْدَ ظُهُورِ الزِّنَا بِهِ، فَكَمَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ لِعَدَمِ كَوْنِهِ سَبَبًا كَذَا بَعْدَهُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِظُهُورِ دَيْنٍ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ فَشَهِدَ اثْنَانِ بِالدَّيْنِ عَتَقَ الْعَبْدُ، وَلَا يُضَافُ الْعِتْقُ إلَى الشَّهَادَةِ بِالدَّيْنِ بَلْ إلَى الْمُعَلَّقِ، كَذَا هُنَا لَا يُضَافُ الرَّجْمُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِالْإِحْصَانِ إلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ إلَى الزِّنَا (بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ) عَلَى الذِّمِّيِّ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ (وَإِنَّمَا لَا يُعْتَقُ بِسَبْقِ التَّارِيخِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ) الْعَبْدُ (الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ) فَلَا تَنْفُذُ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَتَغَلَّظُ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ فَتَصِيرُ مِائَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَمْسِينَ.

وَاسْتُشْكِلَ كَوْنُهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلْحَدِّ بِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ صَحَّ رُجُوعُهُ كَالزِّنَا وَلِذَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْإِحْصَانِ حِسْبَةً بِلَا دَعْوَى، فَيَجِبُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ الذُّكُورَةُ كَالتَّزْكِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

أُجِيبَ بِأَنَّ صِحَّةَ الرُّجُوعِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ بَلْ عَلَى كَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ إذَا رَجَعَ عَنْهُ وَلَا مُكَذِّبَ لَهُ فِي سَبَبِ الْحَدِّ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يُكَذِّبُهُ فِي رُجُوعِهِ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ الْحِسْبَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ إظْهَارِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَانِعُ مِنْ شَهَادَةِ النِّسَاءِ لَيْسَ هَذَا الْقَدْرَ بَلْ كَوْنُهُ سَبَبًا لِأَصْلِ الْعُقُوبَةِ، فَحِينَ ثَبَتَتْ الْعُقُوبَةُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ بِسَبَبِهَا كَانَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ تُسْمَعُ بِلَا دَعْوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَضَمُّنِهِ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ.

[فُرُوعٌ مِنْ الْمَبْسُوطِ] شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ، فَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ فَيُرْجَمُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَثْبُتُ فَلَا يُرْجَمُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهَا أَوْ أَتَاهَا فَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الدُّخُولَ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ وَيُرَادُ بِهِ الْخَلْوَةُ وَلَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِالشَّكِّ.

وَلَهُمَا أَنَّ الدُّخُولَ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ عُرْفًا مُسْتَمِرًّا حَتَّى صَارَ يَتَبَادَرُ مَعَ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالنِّسَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فَلَا إجْمَالَ فِيهِ عُرْفًا فَكَانَتْ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَى الْجِمَاعِ. وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الزِّنَا بِفُلَانَةَ وَأَرْبَعَةٌ غَيْرُهُمْ شَهِدُوا بِهِ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى فَرُجِمَ فَرَجَعَ الْفَرِيقَانِ ضَمِنُوا دِيَتَهُ إجْمَاعًا، وَحُدُّوا لِلْقَذْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُحَدُّونَ لِأَنَّ رُجُوعَ كُلِّ فَرِيقٍ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَصَارَ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ كَأَنَّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ ثَابِتٌ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَقُولُ: إنَّهُ عَفِيفٌ قُتِلَ ظُلْمًا وَأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَقَرَّ مَرَّةً بَعْدُ حُدَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَقَعَتْ مُعْتَبَرَةً فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِإِقْرَارٍ مُعْتَبَرٍ وَالْإِقْرَارُ مَرَّةً هُنَا كَالْعَدَمِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُحَدُّ، وَهُوَ

ص: 300

(بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ)

(وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ أَوْ جَاءُوا بِهِ سَكْرَانَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ،

الْأَصَحُّ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ إنْكَارُ الْخَصْمِ وَهُوَ مُقِرٌّ وَلَا حُكْمَ لِإِقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْحَدُّ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ، وَإِنْ فَسَدَ حُكْمًا فَصُورَتُهُ قَائِمَةٌ فَيُورِثُ شُبْهَةً.

(بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ)

قَدَّمَ حَدَّ الزِّنَا عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَعْظَمُ جُرْمًا وَلِذَا كَانَ حَدُّهُ أَشَدَّ، وَأَخَّرَ عَنْهُ حَدَّ الشُّرْبِ لِتَيَقُّنِ سَبَبِهِ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ سَبَبَهُ هُوَ الْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا، وَأَخَّرَ حَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ أَشَدَّ لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَصِيَانَةُ الْأَنْسَابِ وَالْعَقْلِ آكَدُ مِنْ صِيَانَةِ الْمَالِ. بَقِيَ أَنَّهُ أَخَّرَهُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْمَالَ دُونَ الْعِرْضِ فَإِنَّهُ جُعِلَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَا تَكْرَهُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ) أَيْ إلَى الْحَاكِمِ (وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ) وَهُوَ غَيْرُ سَكْرَانَ مِنْهَا وَيُعْرَفُ كَوْنُهُ يُحَدُّ إذَا كَانَ سَكْرَانَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ (أَوْ سَكْرَانَ) أَيْ جَاءُوا بِهِ إلَيْهِ وَهُوَ سَكْرَانُ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ النَّبِيذِ (فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ) أَيْ بِالشُّرْبِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ عَدَمُ السُّكْرِ مِنْهَا. وَفِي الثَّانِي وَهُوَ السُّكْرُ مِنْ غَيْرِهَا (فَإِنَّهُ يُحَدُّ) وَالشَّهَادَةُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مُقَيَّدَةٌ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ فَلَا بُدَّ مَعَ شَهَادَتِهِمَا بِالشُّرْبِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ الرِّيحَ قَائِمٌ حَالَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ بِأَنْ يَشْهَدَا بِهِ وَبِالشُّرْبِ أَوْ يَشْهَدَا بِالشُّرْبِ فَقَطْ فَيَأْمُرَ الْقَاضِي بِاسْتِنْكَاهِهِ فَيُسْتَنْكَهُ وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ رِيحَهَا مَوْجُودٌ، وَأَمَّا إذَا جَاءُوا بِهِ مِنْ بَعِيدٍ فَزَالَتْ الرَّائِحَةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَا بِالشُّرْبِ وَيَقُولَا أَخَذْنَاهُ وَرِيحُهَا مَوْجُودٌ لِأَنَّ مَجِيئَهُمْ بِهِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُمْ أَخَذُوهُ فِي حَالِ قِيَامِ الرَّائِحَةِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى ذِكْرِ

ص: 301

وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ) لِأَنَّ جِنَايَةَ الشُّرْبِ قَدْ ظَهَرَتْ وَلَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ» .

(وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ) وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رِيحُهَا وَالسُّكْرُ لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ، فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ،

ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ خُصُوصًا بَعْدَ مَا حَمَلْنَا كَوْنَهُ سَكْرَانَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ فَإِنَّ رِيحَ الْخَمْرِ لَا تُوجَدُ مِنْ السَّكْرَانِ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِالشَّهَادَةِ مَعَ عَدَمِ الرَّائِحَةِ، فَالْمُرَادُ بِالثَّانِي أَنْ يَشْهَدُوا بِأَنَّهُ سَكِرَ مِنْ غَيْرِهَا مَعَ وُجُودِ رَائِحَةِ ذَلِكَ الْمُسْكِرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْخَمْرِ (وَكَذَلِكَ) عَلَيْهِ الْحَدُّ (إذَا أَقَرَّ وَرِيحُهَا مَوْجُودٌ لِأَنَّ جِنَايَةَ الشُّرْبِ قَدْ ظَهَرَتْ) بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ (وَلَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ. وَالْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الشُّرْبِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ»)

إلَى أَنْ قَالَ «فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ» أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ إلَّا النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «فَإِذَا سَكِرَ فَاجْلِدُوهُ. ثُمَّ إنْ سَكِرَ» إلَخْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى ثُمَّ نُسِخَ الْقَتْلُ. أَخْرَجَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» إلَخْ، قَالَ «ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَجَلَدَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ» وَزَادَ فِي لَفْظٍ «فَرَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَقَعَ وَأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ ارْتَفَعَ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُتِيَ بِالنُّعْمَانِ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثَلَاثًا فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ الْحَدَّ» ، فَكَانَ نَسْخًا وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَنْبَأَنَا قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، وَرَفَعَ الْقَتْلَ وَكَانَتْ رُخْصَةً» وَقَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَ الزُّهْرِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَعِنْدَهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَمِخْوَلُ بْنُ رَاشِدٍ فَقَالَ لَهُمَا: كُونَا وَافِدَيْ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِهَذَا الْحَدِيثِ اهـ. وَقَبِيصَةُ فِي صُحْبَتِهِ خِلَافٌ. وَإِثْبَاتُ النَّسْخِ بِهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا أَثْبَتَهُ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ التَّارِيخِ. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِالنَّسْخِ الِاجْتِهَادِيِّ: أَيْ تَعَارَضَا فِي الْقَتْلِ فَرَجَحَ النَّافِي لَهُ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِنَسْخِهِ فَإِنَّ هَذَا لَازِمٌ فِي كُلِّ تَرْجِيحٍ عِنْدَ التَّعَارُضِ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رِيحُهَا) أَوْ ذَهَبَ السُّكْرُ مِنْ غَيْرِهَا (لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةُ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُحَدُّ، فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ

ص: 302

غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ:

يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْت مُدَامَةً

فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا

وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ.

غَيْرَ أَنَّهُ) أَيْ هَذَا التَّقَادُمُ (مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا) أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي أَوْ بِشَهْرٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ (وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ) بِلَا شَكٍّ (بِخِلَافِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ:

يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْتَ مُدَامَةً

فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا)

وَانْكِهِ بِوَزْنِ امْنَعْ، وَنَكِهَ مِنْ بَابِهِ؛ أَيْ أَظْهَرَ رَائِحَةَ فَمِهِ.

وَقَالَ الْآخَرُ:

سَفَرْجَلَةٌ تَحْكِي ثَدْيَ النَّوَاهِدِ

لَهَا عَرْفٌ ذِي فِسْقٍ وَصُفْرَةِ زَاهِدِ

فَظَهَرَ أَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ مِمَّا تَلْتَبِسُ بِغَيْرِهَا فَلَا يُنَاطُ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بِوُجُودِهَا وَلَا بِذَهَابِهَا، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَا تَلْتَبِسُ عَلَى ذَوِي الْمَعْرِفَةِ فَلَا مُوجِبَ لِتَقْيِيدِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ بِوُجُودِهَا، لِأَنَّ الْمَعْقُولَ تَقَيُّدُ قَبُولِهَا بِعَدَمِ التُّهْمَةِ وَالتُّهْمَةُ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ وُقُوعِهَا بَعْدَ ذَهَابِ الرَّائِحَةِ بَلْ بِسَبَبِ تَأْخِيرِ الْأَدَاءِ تَأْخِيرًا يُعَدُّ تَفْرِيطًا، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي تَأْخِيرِ يَوْمٍ وَنَحْوِهِ وَبِهِ تَذْهَبُ الرَّائِحَةُ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عُرِفَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ الْجَابِرُ عَنْ أَبِي مَاجِدٍ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِابْنِ أَخٍ لَهُ سَكْرَانَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: تَرْتِرُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ، فَفَعَلُوا فَرَفَعَهُ إلَى السِّجْنِ، ثُمَّ عَادَ بِهِ مِنْ الْغَدِ وَدَعَا بِسَوْطٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُقَّتْ ثَمَرَتُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى صَارَتْ دِرَّةً، ثُمَّ قَالَ لِلْجَلَّادِ: اجْلِدْ وَأَرْجِعْ يَدَك وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ.

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَابِرِ بِهِ. وَدُفِعَ بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ كَوْنُ الشَّهَادَةِ لَا يُعْمَلُ بِهَا إلَّا مَعَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِيهِ شَهَادَةٌ مُنِعَ مِنْ الْعَمَلِ بِهَا لِعَدَمِ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَائِهَا بَلْ وَلَا إقْرَارٌ، إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ حَدَّهُ بِظُهُورِ الرَّائِحَةِ بِالتَّرْتَرَةِ وَالْمَزْمَزَةِ. وَالْمَزْمَزَةُ التَّحْرِيكُ بِعُنْفٍ وَالتَّرْتَرَةُ وَالتَّلْتَلَةُ التَّحْرِيكُ، وَهُمَا بِتَاءَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْقُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ بَعِيرًا:

بَعِيدُ مَسَافِ الْخَطْوِ غَوْجٌ شَمَرْدَلُ

تُقَطِّعُ أَنْفَاسَ الْمَهَارَى تَلَاتِلُهُ

أَيْ حَرَكَاتُهُ. وَالْمَسَافُ جَمْعُ مَسَافَةٍ وَالْغَوْجُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْوَاسِعُ الصَّدْرِ.

وَمَعْنَى تَقْطِيعِ تَلَاتِلِهِ أَنْفَاسَ الْمَهَارَى: أَنَّهُ إذَا بَارَاهَا فِي السَّيْرِ أَظْهَرَ فِي أَنْفَاسِهَا الضِّيقَ وَالتَّتَابُعَ لِمَا يُجْهِدُهَا، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِأَنَّ بِالتَّحْرِيكِ تَظْهَرُ الرَّائِحَةُ مِنْ

ص: 303

وَلِأَنَّ قِيَامَ الْأَثَرِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ، وَإِنَّمَا تَشْتَبِهُ عَلَى الْجُهَّالِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ. وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا.

الْمَعِدَةِ الَّتِي كَانَتْ خَفِيَتْ وَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاَللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحْسَنْت، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إذْ وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ، فَقَالَ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ، فَضَرَبَهُ الْحَدَّ» .

وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ، وَفِي لَفْظٍ رِيحَ شَرَابٍ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الرِّيحِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ الرَّائِحَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْأَصَحُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَفْيُهُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ يُعَارِضُ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ عَزَّرَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ الرَّائِحَةَ، وَيَتَرَجَّحُ لِأَنَّهُ أَصَحُّ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَلَدَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ حَدًّا تَامًّا، وَقَدْ اسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُدُودِ إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا مُقِرًّا أَنْ يُرَدَّ أَوْ يُدْرَأَ مَا اُسْتُطِيعَ فَكَيْفَ يَأْمُرُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالْمَزْمَزَةِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّائِحَةِ لِيَظْهَرَ الرِّيحُ فَيَحُدّهُ، فَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُولَعًا بِالشَّرَابِ مُدْمِنًا عَلَيْهِ فَاسْتَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ قِيَامَ الرَّائِحَةِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْقُرْبِ) ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الرَّائِحَةَ مُشْتَبِهَةٌ بِقَوْلِهِ (وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ. وَإِنَّمَا تُشْتَبَهُ عَلَى الْجُهَّالِ) فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ لِأَنَّ كَوْنَهَا دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْحِصَارَ الْقُرْبِ فِيهَا لِيَلْزَمَ مِنْ انْتِفَائِهَا ثُبُوتُ الْبُعْدِ وَالتَّقَادُمِ، لِأَنَّ الْقُرْبَ يَتَحَقَّقُ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ لَا بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَهُوَ الْمَانِعُ، فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْقُرْبِ بِالرَّائِحَةِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَقَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ الصَّحِيحُ.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا) لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالتَّقَادُمِ اتِّفَاقًا (عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ) مِنْ أَنَّ الْبُطْلَانَ لِلتُّهْمَةِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَّهِمُ عَلَى نَفْسِهِ (وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ) عَلَى الْمُقِرِّ بِالشُّرْبِ (إلَّا) إذَا أَقَرَّ (عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ) رضي الله عنهم (وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْحَدِّ إلَّا إذَا كَانَ مَعَ الرَّائِحَةِ فَيَبْقَى

ص: 304

(وَإِنْ أَخَذَهُ الشُّهُودُ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ أَوْ سَكْرَانُ فَذَهَبُوا بِهِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فِيهِ الْإِمَامُ فَانْقَطَعَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا بِهِ حُدَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشَّاهِدُ لَا يُتَّهَمُ فِي مِثْلِهِ.

(وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ)

انْتِفَاؤُهُ فِي غَيْرِهَا بِالْأَصْلِ لَا مُضَافًا إلَى لَفْظِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا إضَافَةُ ثُبُوتِهِ إلَى الْإِجْمَاعِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام إلَخْ فَقِيلَ لِأَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ، وَبِمِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ الْحَدُّ وَالْإِجْمَاعُ قَطْعِيٌّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ. فَأَمَّا قَوْلُ الْجَصَّاصِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَيَثْبُتُ الْحَدُّ بِالْآحَادِ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَقَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ. فَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ يَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ أَشْكَلَ عَلَيْهِ جَعْلُهُ إيَّاهُ أَوَّلًا الْأَصْلُ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ أَشْكَلَ نِسْبَةُ الْإِثْبَاتِ إلَى الْإِجْمَاعِ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّهُ إنَّمَا أَلْزَمَ قِيَامَهَا عِنْدَ الْحَدِّ بِلَا إقْرَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعَ إقْرَارِهِ فَلْيُبَيِّنْ فِي الرِّوَايَةِ. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: هَذَا أَعْظَمُ عِنْدِي مِنْ الْقَوْلِ أَنْ يَبْطُلَ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ وَأَنَا أُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا

(قَوْلُهُ فَإِنْ أَخَذَهُ الشُّهُودُ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ أَوْ سَكْرَانُ) مِنْ غَيْرِهَا وَرِيحُ ذَلِكَ الشَّرَابِ يُوجَدُ مِنْهُ (وَذَهَبُوا بِهِ إلَى مِصْرٍ فِيهِ الْإِمَامُ) أَوْ مَكَان بَعِيدٍ (فَانْقَطَعَ ذَلِكَ): أَيْ الرِّيحُ (قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا بِهِ) إلَيْهِ (حُدَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى انْقِطَاعِهَا لِعُذْرِ بُعْدِ الْمَسَافَةِ فَلَا يُتَّهَمُ فِي هَذَا التَّأْخِيرِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا عِنْدَ عُثْمَانَ عَلَى عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَكَانَ بِالْكُوفَةِ فَحَمَلَهُ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ

. (قَوْلُهُ وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ) فَالْحَدُّ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ الْأَنْبِذَةِ بِالسُّكْرِ. وَفِي الْخَمْرِ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كُلُّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ وَحُدَّ بِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَذَانِ مَطْلُوبَانِ، وَيَسْتَدِلُّونَ تَارَةً بِالْقِيَاسِ وَتَارَةً بِالسَّمَاعِ. أَمَّا السَّمَاعُ فَتَارَةً بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لُغَةٌ

ص: 305

لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى أَعْرَابِيٍّ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ. وَسَنُبَيِّنُ الْكَلَامَ فِي حَدِّ السُّكْرِ وَمِقْدَارِ حَدِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَتَارَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ.

فَمِنْ الْأَوَّلِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ". وَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ «وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وَأَمَّا مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَكَيْفَ لَهُ بِذَلِكَ وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: كُنْت سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا شَرَابُهُمْ إلَّا الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ.

وَإِذَا ثَبَتَ عُمُومُ الِاسْمِ ثَبَتَ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِالْحَدِيثِ الْمُوجِبِ ثُبُوتَهُ فِي الْخَمْرِ لِأَنَّهُ مُسَمَّى الْخَمْرِ، لَكِنْ هَذِهِ كُلُّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ بِحَذْفِ أَدَاتِهِ فَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، كَزَيْدٌ أَسَدٌ: أَيْ فِي حُكْمِهِ، وَكَذَا الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ أَوْ مِنْ خَمْسَةٍ هُوَ عَلَى الِادِّعَاءِ حِينَ اتَّحَدَ حُكْمُهَا بِهَا جَازَ تَنْزِيلُهَا مَنْزِلَتَهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ تَقُولُ السُّلْطَانُ هُوَ فُلَانٌ إذَا كَانَ فُلَانٌ نَافِذَ الْكَلِمَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَيُعْمَلُ بِكَلَامِهِ أَيْ الْمُحَرَّمُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَاءِ الْعِنَبِ بَلْ كُلِّ مَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ هُوَ لَا يُرَادُ إلَّا الْحُكْمُ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ فِي التَّشْبِيهِ عُمُومُ وَجْهِهِ فِي كُلِّ صِفَةٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ثُبُوتُ الْحَدِّ بِالْأَشْرِبَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْخَمْرِ، بَلْ يُصَحِّحُ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ فِيهَا ثُبُوتُ حُرْمَتِهَا فِي الْجُمْلَةِ إمَّا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا أَوْ كَثِيرُهَا الْمُسْكِرُ مِنْهَا. وَكَوْنُ التَّشْبِيهِ خِلَافَ الْأَصْلِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ فِي اللُّغَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الْخَمْرِ بِالنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا اشْتَدَّ. وَهَذَا مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ تَتَبَّعَ مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالَاتهمْ، وَلَقَدْ يَطُولُ الْكَلَامُ بِإِيرَادِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْخَمْرِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ.

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ مَاءَ الْعِنَبِ لِثُبُوتِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ غَيْرُهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ: وَمَا شَرَابُهُمْ يَوْمَئِذٍ: أَيْ يَوْمَ حُرِّمَتْ إلَّا الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. فَعُرِفَ أَنَّ مَا أَطْلَقَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحَمْلِ لِغَيْرِهَا عَلَيْهَا بِهُوَ هُوَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِ عُمُومِ الِاسْمِ لُغَةً فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرْقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ «فَالْحُسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَأَجْوَدُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ.

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارِ الْمَوْصِلِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِمَا الشَّيْخَانِ، وَحِينَئِذٍ فَجَوَابُهُمْ بِعَدَمِ ثُبُوتِ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكَذَا حَمْلُهُ عَلَى مَا بِهِ حَصَلَ السُّكْرُ وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ لِأَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْقَلِيلُ. وَمَا أُسْنِدَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " قَالَ: هِيَ الشَّرْبَةُ

ص: 306

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الَّتِي أَسْكَرَتْك. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، ضَعِيفٌ فِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ: يَعْنِي النَّخَعِيّ. وَأَسْنَدَ إلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا فَقَالَ: حَدِيثٌ بَاطِلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَسُنَ عَارَضَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَرْفُوعَاتِ الصَّرِيحَةِ الصَّحِيحَةِ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، وَلَوْ عَارَضَهُ كَانَ الْمُحَرَّمُ مُقَدَّمًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ.

نَعَمْ هُوَ مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدَةٍ هِيَ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ ابْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالْمُسْكِرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ. وَفِي لَفْظٍ: وَمَا أَسْكَرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ. قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شُبْرُمَةَ فَهَذَا إنَّمَا فِيهِ تَحْرِيمُ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ، وَإِذَا كَانَتْ طَرِيقُهُ أَقْوَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ، وَلَفْظُ السُّكْرِ تَصْحِيفٌ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ تَرَجَّحَ الْمَنْعُ السَّابِقُ عَلَيْهِ، بَلْ هَذَا التَّرْجِيحُ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ ثُبُوتَ الْحَدِّ بِالْقَلِيلِ إلَّا بِسَمَاعٍ أَوْ بِقِيَاسٍ فَهُمْ يَقِيسُونَهُ بِجَامِعِ كَوْنِهِ مُسْكِرًا، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ مَنْعٌ خُصُوصًا وَعُمُومًا. أَمَّا خُصُوصًا فَمَنَعُوا أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ مُعَلَّلَةٌ بِالْإِسْكَارِ وَذَكَرُوا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ» إلَخْ. وَفِيهِ مَا عَلِمْت.

ثُمَّ قَوْلُهُ بِعَيْنِهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ عَيْنُهَا، بَلْ إنَّ عَيْنَهَا حُرِّمَتْ، وَلِذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ «قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا» وَالرِّوَايَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِيهِ بِالْبَاءِ لَا بِاللَّامِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِمَا ذَكَرَ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ نَفْيِ تَعْلِيلِهَا بِالْإِسْكَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا لِنَفْيِ أَنَّ حُرْمَتَهَا مُقَيَّدَةٌ بِإِسْكَارِهَا: أَيْ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الْإِسْكَارَ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمٌ حَتَّى تَثْبُتَ الْعِلَّةُ وَهِيَ الْإِسْكَارُ أَوْ مَظِنَّتُهُ مِنْ الْكَثِيرِ، لَا أَنَّ حُرْمَتَهَا لَيْسَتْ مُعَلَّلَةً أَصْلًا بَلْ هِيَ مُعَلَّلَةٌ بِأَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ وَإِنْ كَانَ الْقُدُورِيُّ مُصِرًّا عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيلِ أَصْلًا. وَنَقَضَ رحمه الله هَذِهِ الْعِلَّةَ بِأَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي يَضُرُّ كَثِيرُهُ لَا يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَإِنْ كَانَ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مَا يُفِيدُ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي جَوَابِ إلْحَاقِ الشَّافِعِيِّ حُرْمَةَ الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ بِالْخَمْرِ.

وَإِنَّمَا يَحْرُمُ قَلِيلُهُ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ، وَالْمُثَلَّثُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا أَنَّ اعْتِبَارَ دِعَايَةِ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ فِي الْحُرْمَةِ لَيْسَ إلَّا لِحُرْمَةِ السُّكْرِ. فَفِي التَّحْقِيقِ الْإِسْكَارُ هُوَ الْمُحَرَّمُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ الْمَوْقِعُ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَإِتْيَانِ الْمَفَاسِدِ مِنْ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ. كَمَا أَشَارَ النَّصُّ إلَى عِلِّيَّتِهَا، وَلَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَنْعِ عَلَى الْعُمُومِ، وَإِذَنْ فَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالسُّكْرِ مِنْهُ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «فَإِذَا سَكِرَ فَاجْلِدُوهُ» الْحَدِيثَ. فَلَوْ ثَبَتَ بِهِ حِلُّ مَا لَمْ يُسْكِرْ لَكَانَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَهُمْ فَمُوجِبُهُ لَيْسَ إلَّا ثُبُوتُ الْحَدِّ بِالسُّكْرِ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى السُّكْرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ الْخَمْرِ يَنْفِي فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ بِالسُّكْرِ. لِأَنَّ فِي الْخَمْرِ يُحَدُّ بِالْقَلِيلِ مِنْهَا بَلْ يُوهِمُ عَدَمَ التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ مِنْهَا حَتَّى يُسْكِرَ، وَإِذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهَا صَارَ الْحَدُّ مُنْتَفِيًا عِنْدَ عَدَمِ السُّكْرِ بِهِ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْهُ.

وَمِنْهَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَرِبَ مِنْ إدَاوَةِ عُمَرَ نَبِيذًا فَسَكِرَ بِهِ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إنَّمَا شَرِبْته مِنْ إدَاوَتِك، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّمَا جَلَدْنَاك عَلَى السُّكْرِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ بِسَعِيدِ بْنِ ذِي لَعْوَةَ ضُعِّفَ وَفِيهِ جَهَالَةٌ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ حَسَّانِ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَايَرَ رَجُلًا

ص: 307

(وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا) لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ، وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَقَعُ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ اضْطِرَارٍ (وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ

فِي سَفَرٍ وَكَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا أَفْطَرَ أَهْوَى إلَى قِرْبَةٍ لِعُمَرَ مُعَلَّقَةٍ فِيهَا نَبِيذٌ فَشَرِبَهُ فَسَكِرَ فَضَرَبَهُ عُمَرُ الْحَدَّ، فَقَالَ: إنَّمَا شَرِبْته مِنْ قِرْبَتِك، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إنَّا جَلَدْنَا لِسُكْرِك. وَفِيهِ بَلَاغٌ وَهُوَ عِنْدِي انْقِطَاعٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ دَاوَرَ عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ سَكِرَ مِنْ نَبِيذِ تَمْرٍ فَجَلَدَهُ» وَعِمْرَانُ بْنُ دَاوَرَ بِفَتْحِ الْوَاوِ فِيهِ مَقَالٌ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ إدَاوَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِصِفِّينَ فَسَكِرَ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ.

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ: فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي السُّكْرِ مِنْ النَّبِيذِ ثَمَانُونَ. فَهَذِهِ وَإِنْ ضُعِّفَ بَعْضُهَا فَتَعَدُّدُ الطُّرُقِ تُرَقِّيه إلَى الْحَسَنِ، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْحَدِّ بِالْكَثِيرِ فَإِنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَدِّ بِالْقَلِيلِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ كَمَا تَرَى لَا تَفْصِلُ بَيْنَ نَبِيذٍ وَنَبِيذٍ

وَالْمُصَنِّفُ قَيَّدَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِقَوْلِهِ (وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ) فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحُبُوبِ كُلِّهَا وَالْعَسَلِ يَحِلُّ شُرْبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَعْنِي إذَا شَرِبَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَلَا طَرَبٍ فَلَا يُحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنْهَا عِنْدَهُ.

وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا طَلَّقَ وَهُوَ سَكْرَانُ مِنْهَا كَالنَّائِمِ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ قَالَ: وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ مِنْهُ؟ قِيلَ لَا يُحَدُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ، قَالُوا: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ بَلْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْأَلْبَانِ إذَا اشْتَدَّ فَهُوَ عَلَى هَذَا اهـ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ إطْلَاقَ قَوْلِهِ هُنَا لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ حَدًّا غَيْرَ الْمُخْتَارِ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ أَنَّهُمَا سُئِلَا فِيمَنْ شَرِبَ الْبَنْجَ فَارْتَفَعَ إلَى رَأْسِهِ وَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ هَلْ يَقَعُ؟ قَالَا: إنْ كَانَ يَعْلَمُهُ حِينَ شَرِبَهُ مَا هُوَ يَقَعُ (قَوْلُهُ وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ بِهِ رِيحُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ) فَلَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ (وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَكُونُ عَنْ إكْرَاهٍ) فَوُجُودُ عَيْنِهَا فِي الْقَيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّوَاعِيَةِ، فَلَوْ وَجَبَ

ص: 308

وَشَرِبَهُ طَوْعًا) لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ، وَكَذَا شُرْبُ الْمُكْرَهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ (وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ.

الْحَدُّ وَجَبَ بِلَا مُوجِبٍ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ قَرِيبٍ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ فَقُطِعَ الِاحْتِمَالُ وَهُنَا عَكْسٌ.

قَالَ الْمُوَرِّدُ: وَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي تَوْجِيهِهِ، يُرِيدُ بِهِ صَاحِبَ النِّهَايَةِ بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي نَفْسِ الرَّوَائِحِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّمْيِيزِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ. قَالَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ التَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَرْتَفِعُ الِاحْتِمَالُ فِي الرَّائِحَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّ حِينَئِذٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ التَّمْيِيزَ لِمَنْ يُعَايِنُهُ، وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّ مَنْ عَايَنَ الشُّرْبَ يَبْنِي عَلَى يَقِينٍ لَا عَلَى اسْتِدْلَالٍ وَتَخْمِينٍ، وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَثْبَتَ التَّمْيِيزَ فِي صُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ لَا فِي صُورَةِ الْعِيَانِ اهـ.

فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ بِحَالِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مُعَايَنَةُ الشُّرْبِ وَالِاسْتِدْلَالُ لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ الْمَشْرُوبَ جَازَ كَوْنُهُ غَيْرَ الْخَمْرِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ خَمْرٌ بِالرَّائِحَةِ فَكَوْنُ الْمُصَنِّفِ جَعَلَ التَّمْيِيزَ يُفِيدُهُ الِاسْتِدْلَال لَا يُنَافِي حَالَةَ الْعِيَانِ، أَيْ عِيَانِ الشُّرْبِ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُحْتَمَلًا لَا يُنَافِي أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَرَائِنَ بِحَيْثُ يُحْكَمُ بِهِ مَعَ شُبْهَةٍ مَا، فَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ الِاحْتِمَالِ وَعَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، بَلْ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الِاسْتِدْلَال مَعَ ثُبُوتِ ضَرْبٍ مِنْ الِاحْتِمَالِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ أَنَّهُ قَطَعَ الِاحْتِمَالَ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ وَالْمَقْصُودَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ثُبُوتُ طَرِيقِ الدَّرْءِ، أَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ الْحَدِّ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ وَالتَّقَيُّؤِ فَظَاهِرٌ، وَطَرِيقُهُ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحَدُّ لَكَانَ مَعَ شُبْهَةِ عَدَمِهِ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ وَإِنْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا فَإِنَّ فِيهَا مَعَ الدَّلِيلِ شُبْهَةً قَوِيَّةً فَلَا يَثْبُتُ الْحَدُّ مَعَهَا، وَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ فَلَا شَكَّ أَنَّ فِي إثْبَاتِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ التَّقَادُمِ لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ دَرْءًا كَثِيرًا وَاسِعًا، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا الطَّرِيقِ الْكَائِنِ لِلدَّرْءِ إلَّا بِاعْتِبَارِ إمْكَانِ تَمْيِيزِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِهَا، فَحَكَمَ بِاعْتِبَارِ التَّمْيِيزِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَإِنْ كَانَ مَلْزُومًا لِشُبْهَةِ النَّفْيِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْصِيلِ هَذَا الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ لِلدَّرْءِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ التَّمْيِيزُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةٍ لَكَانَ الشَّهَادَةُ وَالْإِقْرَارُ مَعْمُولًا بِهِمَا فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ بِلَا رَائِحَةٍ فَيُقَامُ بِذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْحُدُودِ.

وَحِينَ اشْتَرَطَ ذَلِكَ وَضَحَتْ طَرِيقُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالِاحْتِمَالِ، فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ فَدَرْءُ الْحَدِّ فِي مُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ لِلِاحْتِمَالِ وَرَدَتْ الشَّهَادَةُ بِلَا رَائِحَةٍ، إذْ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ إلَّا مَعَ الِاحْتِمَالِ (قَوْلُهُ وَلَا يُحَدُّ) السَّكْرَانُ (حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ) وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ غَيْبُوبَةَ الْعَقْلِ وَغَلَبَةَ الطَّرَبِ وَالشَّرْحِ يُخَفِّفُ الْأَلَمَ، حَتَّى حُكِيَ لِي أَنَّ بَعْضَ الْمُتَصَابِينَ اسْتَدْعَوْا إنْسَانًا لِيَضْحَكُوا عَلَيْهِ بِهِ أَخْلَاطٌ ثَقِيلَةٌ لَزِجَةٌ بِرُكْبَتَيْهِ لَا يُقِلُّهُمَا إلَّا بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، فَلَمَّا غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ ادَّعَى الْقُوَّةَ وَالْإِقْدَامَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ مُمَازِحًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِلَّا فَضَعْ هَذِهِ الْجَمْرَةَ عَلَى رُكْبَتِك، فَأَقْدَمَ وَوَضَعَهَا حَتَّى أَكَلَتْ مَا هُنَاكَ

ص: 309

(وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ فِي الْحُرِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم

مِنْ لَحْمِهِ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ حَتَّى طَفِئَتْ أَوْ أَزَالَهَا بَعْضُ الْحَاضِرِينَ الشَّكُّ مِنِّي فَلَمَّا أَفَاقَ وَجَدَ مَا بِهِ مِنْ جِرَاحَةِ النَّارِ الْبَالِغَةِ وَوَرِمَتْ رُكْبَتُهُ وَمَكَثَ بِهَا مُدَّةً إلَى أَنْ بَرَأَتْ، فَعَادَتْ بِذَلِكَ الْكَيِّ الْبَالِغِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالنَّظَافَةِ مِنْ الْأَخْلَاطِ وَصَارَ يَقُولُ: يَا لَيْتَهَا كَانَتْ فِي الرُّكْبَتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَطِعْ أَصْلًا فِي حَالِ صَحْوِهِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِالْأُخْرَى لِيَسْتَرِيحَ مِنْ أَلَمِهَا وَمَنْظَرِهَا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُفِيدُ الْحَدُّ فَائِدَتَهُ إلَّا حَالَ الصَّحْوِ وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعُذْرٍ جَائِزٌ

(قَوْلُهُ وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ) أَيْ مِنْ غَيْرِهَا (ثَمَانُونَ سَوْطًا) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَرْبَعُونَ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنْ يَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى تَعَيُّنِ الثَّمَانِينَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَنَقُومُ إلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إذَا عَتَوْا أَوْ فَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنْ الرِّيفِ وَالْقُرَى قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ نَجْعَلَهُ ثَمَانِينَ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ، قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ» .

وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ فِي الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ.

وَعَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَشَارَ بِذَلِكَ فَرَوَى الْحَدِيثَ مَرَّةً مُقْتَصِرًا عَلَى هَذَا وَمَرَّةً عَلَى هَذَا.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الشَّرْبَ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ إلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إذَا شَرِبَ» إلَخْ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَضَرَبَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ الْأَرْبَعِينَ، وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ» فَيُمْكِنُ بِجَرِيدَتَيْنِ مُتَعَاقِبَتَيْنِ بِأَنْ انْكَسَرَتْ وَاحِدَةٌ فَأُخِذَتْ أُخْرَى وَإِلَّا فَهِيَ ثَمَانُونَ، وَيَكُونُ مِمَّا رَأَى عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ. وَقَوْلُ الرَّاوِي بَعْدَ ذَلِكَ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ إلَخْ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فَوَقَعَ اخْتِيَارُهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الثَّمَانِينَ الَّتِي انْتَهَى إلَيْهَا فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ يُبْعِدُهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَلَدَ ثَمَانِينَ، وَمَا تَقَدَّمَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي جَلَدَ الثَّمَانِينَ، بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أُقِيمُ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتُ فِيهِ فَأَجِدُ مِنْهُ فِي نَفْسِي إلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ إنْ مَاتَ وَدْيَتُهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسُنَّهُ، وَالْمُرَادُ لَمْ يَسُنَّ فِيهِ عَدَدًا مُعَيَّنًا، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِهِ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ قَدَّرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى ثَمَانِينَ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا عَلَى تَعَيُّنِهِ، وَالْحُكْمُ الْمَعْلُومُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام عَدَمُ تَعَيُّنِهِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام انْتَهَى إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ لِزِيَادَةِ فَسَادٍ فِيهِ، ثُمَّ رَأَوْا أَهْلَ الزَّمَانِ تَغَيَّرُوا إلَى نَحْوِهِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ السَّائِبِ: حَتَّى إذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا وَعَلِمُوا أَنَّ الزَّمَانَ كُلَّمَا تَأَخَّرَ كَانَ فَسَادُ أَهْلِهِ أَكْثَرَ

ص: 310

(يُفَرَّقُ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ) ثُمَّ يُجَرَّدُ فِي الْمَشْهُودِ مِنْ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ. وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ مَرَّةً فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا (وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ سَوْطًا) لِأَنَّ الرِّقَّ مُتَّصِفٌ عَلَى مَا عُرِفَ.

(وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ ثُمَّ رَجَعَ

فَكَانَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ هُوَ مَا كَانَ حُكْمُهُ عليه الصلاة والسلام فِي أَمْثَالِهِمْ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ جَلْدِ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ بَعْدَ عُمَرَ فَلَمْ يَصِحَّ. وَذَلِكَ مَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُصَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيِّ قَالَ: «شَهِدْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه وَقَدْ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ فَشَهِدَ أَنَّهُ رَآهُ يَشْرَبُهَا وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَسَنِ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقَالَ: وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا، فَقَالَ: عَلِيٌّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَأَخَذَ السَّوْطَ وَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ إلَى أَنْ بَلَغَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: حَسْبُك، جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ» .

(قَوْلُهُ يُفَرِّقُ الضَّرْبَ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا) وَنَقَلَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه لِلضَّارِبِ أَعْطِ كُلَّ ذِي عُضْوٍ حَقَّهُ: يَعْنِي مَا خَلَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالْفَرْجَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْرِبُ الرَّأْسَ أَيْضًا وَتَقَدَّمَ (قَوْلُهُ ثُمَّ يُجَرِّدُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ: وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرِّدُ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ. وَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا) أَيْ الشَّرْعَ أَظْهَرَ (التَّخْفِيفَ مَرَّةً) بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ (فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا) بِعَدَمِ التَّجْرِيدِ وَإِلَّا قَارَبَ الْمَقْصُودَ مِنْ الِانْزِجَارِ الْفَوَاتُ، وَتَقَدَّمَ لَهُ مِثْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ حَيْثُ قَالَ فِي جَوَابِ تَخْفِيفِهِمَا الرَّوْثُ وَالْخَثَى لِلضَّرُورَةِ. قُلْنَا الضَّرُورَةُ قَدْ أَثَّرَتْ فِي النِّعَالِ مَرَّةً فَتَكْفِي مُؤْنَتُهَا: أَيْ فَلَا تُخَفَّفُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَهُ ضِدُّهُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ لِلْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ قَدْ أَثَّرَ فِي إسْقَاطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى. وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الطَّهَارَةِ أَنْ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ نَفْيِ التَّخْفِيفِ ثَانِيًا وَوُجُودِهِ أَوَّلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودُهُ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ الدَّلِيلُ وَعَدَمُهُ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ عَلَى مَا عُرِفَ) مِنْ أَنَّ الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَإِذَا قُلْنَا إنَّ حَدَّ الْحُرِّ ثَمَانُونَ قُلْنَا إنَّ حَدَّ الْعَبْدِ أَرْبَعُونَ، وَمَنْ قَالَ حَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ قَالَ حَدُّ الْعَبْدِ عِشْرُونَ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ عَصِيرُ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ (ثُمَّ رَجَعَ

ص: 311

لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

(وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَ) يَثْبُتُ (بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي السَّرِقَةِ، وَسَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ (وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ) لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ وَتُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ.

(وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِطُ كَلَامُهُ) لِأَنَّهُ هُوَ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ

لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى) وَلَا مُكَذِّبَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ فَيُقْبَلُ، وَلَا يَصِحُّ ضَمُّ سِينِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالسُّكْرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ إمَّا فِي حَالِ سُكْرِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُ السَّكْرَانِ كَمَا سَيَأْتِي أَوْ بَعْدَهُ وَلَا يُعْتَبَرُ لِلتَّقَادُمِ فَلَا يُوجَدُ مَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ

(قَوْلُهُ وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ مَرَّتَيْنِ) وَقَوْلُهُ (سَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ) أَيْ سَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الشَّهَادَاتِ (وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ) وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا (لِأَنَّ فِيهَا) أَيْ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ (شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فَاعْتَبَرَهَا عِنْدَ عَدَمِ الرَّجُلَيْنِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَتَهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَتَا مَعَ رَجُلٍ مَعَ إمْكَانِ رَجُلَيْنِ صَحَّ إجْمَاعًا (وَ) فِيهِ (تُهْمَةُ الضَّلَالِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} فِي الْكَشَّافِ أَنْ تَضِلَّ: أَيْ لَا تَهْتَدِي لِلشَّهَادَةِ، وَفِي التَّيْسِيرِ: الضَّلَالُ هُنَا النِّسْيَانُ. وَقَوْلُهُ فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى أَيْ تُزِيلَ نِسْيَانَهَا

(قَوْلُهُ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ) لِسُكْرِهِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ) زَادَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: وَلَا الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ (وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْلِطُ) وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ غَالِبُ كَلَامِهِ هَذَيَانًا، فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُسْتَقِيمًا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الصُّحَاةِ فِي إقْرَارِهِ بِالْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ السَّكْرَانَ فِي الْعُرْفِ مَنْ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ جَدَّهُ بِهَزْلِهِ فَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ (وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ) وَاخْتَارُوهُ لِلْفَتْوَى لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ إذَا كَانَ

ص: 312

وَلَهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ. وَنِهَايَةُ السَّكْرَانِ يَغْلِبُ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ

يَهْذِي يُسَمَّى سَكْرَانُ وَتَأَيَّدَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ: إذَا سَكِرَ هَذَى (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا) بِدَلِيلِ الْإِلْزَامِ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا أَنْ يَقُولَ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَفِي السَّرِقَةِ بِالْأَخْذِ مِنْ الْحِرْزِ التَّامِّ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ شُبْهَةُ الصَّحْوِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ.

وَأَمَّا فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فَمَا قَالَا فَاحْتَاطَ فِي أَمْرِ الْحَدِّ وَفِي الْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا لِلْفَتْوَى قَوْلَهُمَا لِضَعْفِ وَجْهِ قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَ تُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا فَقَدْ سَلَّمَ أَنَّ السُّكْرَ يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْحَالَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَأَنَّهُ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ هِيَ سُكْرٌ، وَالْحَدُّ إنَّمَا أُنِيطَ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي أَثْبَتَ حَدَّ السُّكْرِ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى سُكْرًا لَا بِالْمَرْتَبَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْهُ، عَلَى أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي ذَكَرَ قَلَّمَا يَصِلُ إلَيْهَا سَكْرَانُ فَيُؤَدِّي إلَى عَدَمِ الْحَدِّ بِالسُّكْرِ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارَ السُّكْرِ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ أَوْ كَانَ حَفِظَهَا فِيمَا حَفِظَ مِنْهُ لَا مَنْ لَمْ يَدْرِ شَيْئًا أَصْلًا. قَالَ بِشْرٌ: فَقُلْت لِأَبِي يُوسُفَ: كَيْفَ أَمَرْت بِهَا مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ فَرُبَّمَا يُخْطِئُ فِيهَا الْعَاقِلُ الصَّاحِي؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي عَجَزَ عَنْ قِرَاءَتِهَا سَكْرَانُ: يَعْنِي بِهِ مَا فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا فَأَكَلْنَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى هَذَا بَلْ وَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ فَإِنَّهُ طَرِيقُ سَمَاعِ تَبْدِيلِ كَلَامِ اللَّهِ عز وجل فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ سَكْرَانَ إذَا قِيلَ لَهُ اقْرَأْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} يَقُولُ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ بَلْ يَنْدَفِعُ قَارِئًا فَيُبَدِّلُهَا إلَى الْكُفْرِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْزَمَ أَحَدٌ بِطَرِيقِ ذِكْرِ مَا هُوَ كُفْرٌ وَإِنْ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ.

نَعَمْ لَوْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِإِقَامَةِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ السَّكْرَانِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ لَهُ طَرِيقٌ مَعْلُومٌ هِيَ مَا ذَكَرْنَا. وقَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} لِمَنْ لَمْ يُحْسِنْهَا لَا يُوجِبُ قَصْرَ الْمُعَرَّفِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ) مَمْنُوعٌ، بَلْ إذَا حَكَمَ الْعُرْفُ وَاللُّغَةُ

ص: 313

وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ ظُهُورَ أَثَرِهِ فِي مِشْيَتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَطْرَافِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَفَاوَتُ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ.

(وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ) لِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ

بِأَنَّهُ سَكْرَانُ بِمِقْدَارٍ مِنْ اخْتِلَافِ الْحَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ سَكْرَانُ بِلَا شُبْهَةِ صَحْوٍ، وَمَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ التَّمْيِيزِ لَمْ يُجْعَلْ شُبْهَةً فِي أَنَّهُ سَكْرَانُ، وَإِذَا كَانَ سَكْرَانَ بِلَا شُبْهَةِ حَدٍّ فَالْمُعْتَبَرُ ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِي سُكْرِهِ فِي نَفْيِ الْحَدِّ لَا ثُبُوتُ شُبْهَةِ صَحْوِهِ.

وَعُرِفَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ مَنْ اسْتَدَلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ هُوَ أَنْ لَا يَعْقِلَ مَنْطِقًا إلَخْ غَرِيقٌ فِي الْخَطَأِ لِأَنَّهَا فِي عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ وَلَمْ يَصِلْ سُكْرُهُمْ إلَى ذَلِكَ الْحَدِّ كَمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْوُجُوبَ وَقَامُوا لِلْإِسْقَاطِ وَجَعَلَهُمْ سُكَارَى فَهِيَ تُفِيدُ ضِدَّ قَوْلِهِ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَعْلَمُوا} الْآيَةَ فَإِنَّمَا أَطْلَقَ لَهُمْ الصَّلَاةَ حَتَّى يَصْحُوا كُلَّ الصَّحْوِ بِأَنْ يَعْلَمُوا جَمِيعَ مَا يَقُولُونَ خَشْيَةَ أَنْ يُبَدِّلُوا بَعْضَ مَا يَقُولُونَ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ مِنْ مَرَاتِبِ السُّكْرِ كَذَا وَكَذَا، بَلْ أَنَّ مَنْ وَصَلَ إلَى ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِي كَانُوا فِيهِ سُمِّيَ سَكْرَانَ، وَكَوْنُ الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِلْحَدِّ مَا هُوَ لَا تَعَرُّضَ لَهُ بِوَجْهٍ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ ظُهُورَ أَثَرِهِ فِي مِشْيَتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَطْرَافِهِ) يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِجْمَاعِ فِي قَوْلِهِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدْحِ الْمُسْكِرُ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ الْإِجْمَاعُ الْمَذْهَبِيُّ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ يُخَالِفُ قَوْلَهُمَا. وَاعْتَرَضَهُ شَارِحٌ بِأَنَّهُ قَلَّدَ فِيهِ فَخْرَ الْإِسْلَامِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُوجِبُ الْحَدَّ فِي شُرْبِ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ جِنْسُهُ وَإِنْ قَلَّ، وَلَا يُعْتَبَرُ السُّكْرُ أَصْلًا.

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ نَقْلِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي تَحْدِيدِ السُّكْرِ مَا هُوَ اعْتِقَادُ النَّاقِلِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَحُدُّ بِالسُّكْرِ، بَلْ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يَحُدُّ بِالسُّكْرِ عِنْدَنَا حَدَّ السُّكْرِ مُطْلَقًا عَنْهُمَا وَعَنْ الشَّافِعِيِّ وَمُفَصَّلًا عَنْ الْإِمَامِ: أَيْ هُوَ بِاعْتِبَارِ اقْتِضَائِهِ الْحَدَّ هُوَ أَقْصَاهُ، وَبِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْحُرْمَةِ هُوَ مَا ذَكَرْتُمْ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَنْ فَسَّرَ السُّكْرَ يَحُدُّ بِلَا سُكْرٍ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ كَأَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَيَشْرَبَنَّ حَتَّى يَسْكَرَ فَيَحُدُّهُ لِيَعْلَمَ مَتَى يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَبْطَلَهُ بِأَنَّ هَذَا يَتَفَاوَتُ: أَيْ لَا يَنْضَبِطُ فَكَمْ مِنْ صَاحٍ يَتَمَايَلُ وَيَزْلِقُ فِي مِشْيَتِهِ وَسَكْرَانُ ثَابِتٌ وَمَا لَا يَنْضَبِطُ لَا يُضْبَطُ بِهِ، وَلِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي كَلَامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ اعْتِبَارٌ بِالْأَقْوَالِ لَا بِالْمَشْيِ حَيْثُ قَالَ إذَا سَكِرَ هَذَى إلَخْ

(قَوْلُهُ وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ، وَقَيَّدَ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا فِي حَالِ سُكْرِهِ وَبِالسَّرِقَةِ يُحَدُّ بَعْدَ الصَّحْوِ وَيُقْطَعُ، وَإِنَّمَا لَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهُ.

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ الْإِقْرَارُ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُهَا. فَهُوَ مَحْكُومٌ بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بَعْدَ سَاعَةٍ بِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ. هَذَا مَعَ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَى

ص: 314

فَيَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

نَفْسِهِ مُجُونًا وَتَهَتُّكًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى السُّكْرِ الْمُتَّصِفِ هُوَ بِهِ فَيَنْدَرِئُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ فَإِنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يُجْعَلَ رَاجِعًا عَنْهُ لَكِنَّ رُجُوعَهُ عَنْهُ لَا يُقْبَلُ. هَذَا وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي السُّكْرِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مَعَهُ الْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُمَا فَيَتَّفِقُونَ فِيهِ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ أَدْرَأُ لِلْحُدُودِ مِنْهُ لَوْ اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ فِيهِ فِي إيجَابِ الْحَدِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ (وَالسَّكْرَانُ كَالصَّاحِي) فِيمَا فِيهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ (عُقُوبَةً عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْآفَةَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْقَذْفِ سَكْرَانُ حُبِسَ حَتَّى يَصْحُوَ فَيُحَدَّ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُحْبَسَ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهُ الضَّرْبُ فَيُحَدَّ لِلسُّكْرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ سَكْرَانُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالسُّكْرِ مِنْ الْأَنْبِذَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ مُطْلَقًا عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَدِّ بِالسُّكْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ، وَإِلَّا فَبِمُجَرَّدِ سُكْرِهِ لَا يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ: بِالسُّكْرِ، وَكَذَا يُؤَاخَذُ بِالْإِقْرَارِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ الْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الرُّجُوعَ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ) أَوْ الِاسْتِخْفَافِ، وَبِاعْتِبَارِ الِاسْتِخْفَافِ حُكِمَ بِكُفْرِ الْهَازِلِ مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِهِ لِمَا يَقُولُ، وَلَا اعْتِقَادَ لِلسَّكْرَانِ وَلَا اسْتِخْفَافَ لِأَنَّهُمَا فَرْعُ قِيَامِ الْإِدْرَاكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي لَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَدِّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَقَوْلِهِمَا، وَلِذَا لَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ السَّكْرَانِ بِتَكَلُّمِهِ مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يُفَسِّرَا السَّكْرَانَ بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُمَا، فَوَجْهُهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا اعْتَبَرَ عَدَمَ الْإِدْرَاكِ فِي السَّكْرَانِ احْتِيَاطًا لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ فِي عَدَمِ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ حَتَّى قَالُوا: إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إلَيْهِ وَيَبْنِي عَلَيْهِ، فَلَوْ اعْتَبَرَ فِي اعْتِبَارِ عَدَمِ رِدَّتِهِ بِالتَّكَلُّمِ بِمَا هُوَ كُفْرٌ أَقْصَى السُّكْرِ كَانَ احْتِيَاطًا لِتَكْفِيرِهِ لِأَنَّهُ يَكْفُرُ فِي جَمِيعِ مَا قَبْلَ تِلْكَ الْحَالَةِ هَذَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ.

أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ذَاكِرًا لِمَعْنَاهُ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الِاعْتِبَارُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَإِنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ دَرْكَهُ قَائِمًا حَتَّى خَاطَبَهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} يَتَضَمَّنُ خِطَابَ السُّكَارَى، لِأَنَّهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ مُخَاطَبٌ بِأَنْ لَا يَقْرَبَهَا كَذَلِكَ وَإِلَّا لَجَازَ لَهُ قُرْبَانُهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لِعَدَمِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ فَلَا يُفِيدُ هَذَا الْخِطَابُ فَائِدَةً أَصْلًا فَهُوَ خِطَابٌ لِلصَّاحِي أَنْ لَا يَقْرَبَهَا إذَا سَكِرَ. فَالِامْتِثَالُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ حَالَ السُّكْرِ سَوَاءٌ كَانَ يَعْقِلُ دَرْكَ شَيْءٍ مَا أَوْ لَا كَالنَّائِمِ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ مُخَاطَبًا حَالَ السُّكْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَحَقُّقَ الْخِطَابِ عَلَيْهِ وَلَا

ص: 315

(بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ)

(وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا

دَرْكَ لَيْسَ إلَّا عُقُوبَةٌ، إذْ تَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ، فَاعْتِبَارُ دَرْكِهِ زَائِلًا فِي حَقِّ الرِّدَّةِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الِاعْتِقَادِ، وَالِاسْتِخْفَافُ اعْتِبَارٌ مُخَالِفٌ لِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ فِي حَقِّهِ.

قُلْنَا: ثَبَتَ مِنْ الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ بَعْدَمَا عَاقَبَهُ بِلُزُومِ الْأَحْكَامِ مَعَ عَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ خَفَّفَ عَنْهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ رَحْمَةً عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ خَاصَّةً، وَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمُتَقَدِّمُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِكُفْرِ الْقَارِئِ مَعَ إسْقَاطِ لَفْظَةِ " لَا " مِنْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ السُّكْرَ الَّذِي كَانَ بِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ لَا دَرْكَ أَصْلًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَقَامُوا إلَى الْأَدَاءِ، فَعِلْمُنَا أَنَّ الشَّارِعَ رَحِمَهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَعَاقَبَهُ فِي فُرُوعِهِ وَلِهَذَا صَحَّحْنَا إسْلَامَهُ، وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَقُلْنَا بِرِدَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَرْكٌ وَلَمْ نُصَحِّحْ مِنْ الْكَافِرِ السَّكْرَانِ إسْلَامَهُ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا يُعْرَفُ صِحَّةُ التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ هَذَا السَّكْرَانَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ كَلِمَةُ رِدَّةٍ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى أَقْصَى السُّكْرِ إنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهَا كَمَا قَرَأَ عَلِيٌّ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَغَيَّرَ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ مُدْرِكًا لَهَا قَاصِدًا مُسْتَحْضِرًا مَعْنَاهَا فَإِنَّهُ كَافِرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ تَكْفِيرِ الْهَازِلِ.

وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي مِنْ حَالِهِ إلَّا أَنَّهُ سَكْرَانُ تَكَلَّمَ بِمَا هُوَ كُفْرٌ فَلَا يَحْكُمُ بِكُفْرِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ)

تَقَدَّمَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. وَالْقَذْفُ لُغَةً الرَّمْيُ بِالشَّيْءِ. وَفِي الشَّرْعِ: رَمْيٌ بِالزِّنَا، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ. وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ. وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ. وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَقَامَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَاجْتَنَبَ السَّبْعَ الْكَبَائِرَ نُودِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَدْخُلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ» وَذَكَرَ مِنْهَا قَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ. وَتَعَلَّقَ الْحَدُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدِينَ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (وَالْمُرَادُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا) حَتَّى لَوْ رَمَاهُ بِسَائِرِ الْمَعَاصِي غَيْرِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بَلْ التَّعْزِيرُ (وَفِي النَّصِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ) أَيْ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا (وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهُودِ) يَشْهَدُونَ عَلَيْهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ لِيَظْهَرَ بِهِ صِدْقُهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، وَلَا شَيْءَ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ إلَّا الزِّنَا، ثُمَّ ثَبَتَ وُجُوبُ جَلْدِ الْقَاذِفِ لِلْمُحْصَنِ بِدَلَالَةِ هَذَا النَّصِّ بِالْقَطْعِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَهُوَ صِفَةُ الْأُنُوثَةِ وَاسْتِقْلَالِ دَفْعِ عَارِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ بِالتَّأْثِيرِ بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ فَهْمُهُ عَلَى ثُبُوتِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا) بِأَنْ قَالَ زَنَيْت أَوْ يَا زَانِي

ص: 316

وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ حُرًّا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلَى أَنْ قَالَ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي النَّصِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ إذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا، وَيُشْتَرَطُ مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ دَفْعُ الْعَارِ وَإِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لِمَا تَلَوْنَا

وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ) الْقَاذِفُ (حُرًّا) وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حُدَّ أَرْبَعِينَ سَوْطًا. شَرْطُ الْإِحْصَانِ فِي الْمَقْذُوفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا عَفِيفًا. وَعَنْ دَاوُد عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ، وَأَنَّهُ يُحَدُّ قَاذِفُ الْعَبْدِ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ بَلْ كَوْنُ الْمَقْذُوفِ بِحَيْثُ يُجَامِعُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَهِيَ خِلَافُ الْمُصَحَّحِ عَنْهُ.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يُحَدُّ بِقَذْفِ الذِّمِّيَّةِ إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَسَيَأْتِي الْوَجْهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (بِصَرِيحِ الزِّنَا) يَحْتَرِزُ عَنْ الْقَذْفِ بِالْكِنَايَةِ كَقَائِلِ صَدَقْت لِمَنْ قَالَ يَا زَانِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هُوَ كَمَا قُلْت فَإِنَّهُ يُحَدُّ. وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّك زَانٍ فَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا أَشْهَدُ لَا حَدَّ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ. وَلَوْ قَالَ وَأَنَا أَشْهَدُ بِمِثْلِ مَا شَهِدْت بِهِ حُدَّ. وَيُحَدُّ بِقَوْلِهِ زَنَى فَرْجُك وَبِقَوْلِهِ زَنَيْتِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَمَا قَطَعَ كَلَامَهُ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ بِخِلَافِهِ مَوْصُولًا.

وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَتْ أُمِّي بِزَانِيَةٍ أَوْ أَبِي فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَسُفْيَانُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ يُحَدُّ بِالتَّعْرِيضِ لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ جَلَدَ رَجُلًا بِالتَّعْرِيضِ، وَلِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِدَلِيلِهِ مِنْ الْقَرِينَةِ صَارَ كَالصَّرِيحِ.

قُلْنَا لَمْ يَعْتَبِرْ الشَّارِعُ مِثْلَهُ، فَإِنَّا رَأَيْنَاهُ حَرَّمَ صَرِيحَ خِطْبَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي الْعِدَّةِ وَأَبَاحَ التَّعْرِيضَ فَقَالَ {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} وَقَالَ {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ الشَّرْعِ نَفْيُ اتِّحَادِ حُكْمِهِمَا فِي غَيْرِ الْحَدِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ مِثْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْحَدَّ الْمُحْتَاطَ فِي دَرْئِهِ.

وَأَمَّا

ص: 317

قَالَ (وَيُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ) لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا (وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ فَلَا يُقَامُ عَلَى الشِّدَّةِ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا (غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ

الِاسْتِدْلَال بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَلْزَمْ الْحَدُّ لِلَّذِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ إلْزَامَ حَدِّ الْقَذْفِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الدَّعْوَى وَالْمَرْأَةُ لَمْ تَدَّعِ. وَقَدْ أَوْرَدَ أَنَّ الْحَدَّ يَثْبُتُ بِنَفْيِ النَّسَبِ وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ، وَوُرُودُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الرِّوَايَاتِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا بِالِاقْتِضَاءِ وَالثَّابِتُ مُقْتَضِي كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ. وَالْحَقُّ أَنْ لَا دَلَالَةَ اقْتِضَاءٍ فِي ذَلِكَ لِمَا سَيُذْكَرُ بَلْ حَدُّهُ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ فَهُوَ وَارِدٌ لَا يَنْدَفِعُ. وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْقَذْفِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِصَرِيحِ الزِّنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيِّ أَوْ النَّبَطِيِّ أَوْ الْفَارِسِيِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يُحَدُّ لَوْ قَالَ لَهَا زَنَيْت بِحِمَارٍ أَوْ بَعِيرٍ أَوْ ثَوْرٍ لِأَنَّ الزِّنَا إدْخَالُ رَجُلٍ ذَكَرَهُ إلَخْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا زَنَيْت بِنَاقَةٍ أَوْ أَتَانٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَرَاهِمَ حَيْثُ يُحَدُّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ زَنَيْت وَأَخَذْت الْبَدَلَ إذْ لَا تَصْلُحُ الْمَذْكُورَاتُ لِلْإِدْخَالِ فِي فَرْجِهَا. وَلَوْ قَالَ هَذَا لِرَجُلٍ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعُرْفُ فِي جَانِبِهِ أَخْذُ الْمَالِ. وَلَوْ قَالَ زَنَيْت وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَوْ جَامَعَك فُلَانٌ جِمَاعًا حَرَامًا لَا يُحَدُّ لِعَدَمِ الْإِثْمِ وَلِعَدَمِ الصَّرَاحَةِ، إذْ الْجِمَاعُ الْحَرَامُ يَكُونُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَكَذَا لَا يُحَدُّ فِي قَوْلِهِ يَا حَرَامْ زَادَهْ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَرَامٍ زِنًا، وَلَا بِقَوْلِهِ أَشْهَدَنِي رَجُلٌ أَنَّك زَانٍ لِأَنَّهُ حَاكٍ لِقَذْفِ غَيْرِهِ، وَلَا بِقَوْلِهِ أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَزَنَى النَّاسِ أَوْ أَزَنَى الزُّنَاةِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ فِي مِثْلِهِ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّرْجِيحِ فِي الْعِلْمِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، وَسَيَأْتِي خِلَافُهُ فِي فُرُوعٍ نَذْكُرُهَا.

وَأَمَّا اشْتِرَاطُ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ فَإِجْمَاعٌ إذَا كَانَ حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَمُطَالَبَةُ مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ ثُمَّ إنَّ نَفْيَهُ عَنْ غَيْرِ الْمَقْذُوفِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَأَوْرَدَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْجَوَابُ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُطْلَقًا يَتَوَقَّفُ النَّظَرُ فِيهِ عَلَى الدَّعْوَى وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا. نَعَمْ يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ قَذْفٌ نَحْوُ الرَّتْقَاءِ وَالْمَجْبُوبِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَعَ صِدْقِ الْقَذْفِ لِلْمُحْصَنَةِ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَكَذَا الْأَخْرَسُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُصَدِّقَهُ لَوْ نَطَقَ. وَفِي الْأَوَّلَيْنِ كَذِبُهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَانْتَفَى إلْحَاقُ الشَّيْنِ إلَّا بِنَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا زَانِيَةً لَا يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَذَفَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ التَّاءَ تُزَادُ لَهُ كَمَا فِي عَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ. وَلَهُمَا أَنَّهُ رَمَاهُ بِمَا يَسْتَحِيلُ مِنْهُ فَلَا يُحَدُّ كَمَا لَوْ قَذَفَ مَجْبُوبًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ مَحَلٌّ لِلزِّنَا لَا يُحَدُّ، وَكَوْنُ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ مَجَازٌ لِمَا عُهِدَ لَهَا مِنْ التَّأْنِيثِ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فَالْحَدُّ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَا زَانٍ حُدَّ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ التَّرْخِيمَ شَائِعٌ (وَيُفَرَّقُ) الضَّرْبُ (عَلَى أَعْضَائِهِ لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا).

(قَوْلُهُ وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ) إلَّا فِي قَوْلِ مَالِكٍ (لِأَنَّ سَبَبَهُ) وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا كَذِبًا (غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ) لِجَوَازِ كَوْنِهِ صَادِقًا غَيْرَ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْبَيَانِ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا لِأَنَّ سَبَبَهُ مُعَايِنٌ لِلشُّهُودِ أَوْ لِلْمُقِرِّ بِهِ، وَالْمَعْلُومُ لَهُمَا هُنَا نَفْسُ الْقَذْفِ، وَإِيجَابُهُ الْحَدَّ لَيْسَ بِذَاتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كَاذِبًا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِعَدَمِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، قَالَ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِثْبَاتِ بِالشُّهَدَاءِ لِأَنَّ فَائِدَةَ النِّسْبَةِ هُنَاكَ تَحْصُلُ، أَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ فَإِنَّمَا هُوَ تَشْنِيعٌ وَلَقْلَقَةٌ تُقَابَلُ بِمِثْلِهَا بِلَا فَائِدَةٍ (بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا غَيْرَ أَنَّهُ يَنْزِعُ

ص: 318

عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ إيصَالَ الْأَلَمِ بِهِ (وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا جُلِدَ أَرْبَعِينَ سَوْطًا لِمَكَانِ الرِّقِّ. وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا عَفِيفًا عَنْ فِعْلِ الزِّنَا) أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} أَيْ الْحَرَائِرِ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا، وَالْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَالْعِفَّةُ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ، وَكَذَا الْقَاذِفُ صَادِقٌ فِيهِ.

عَنْهُ الْفَرْوَ وَالْحَشْوَ) أَيْ الثَّوْبَ الْمَحْشُوَّ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْأَلَمِ إلَيْهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ ذُو بِطَانَةٍ غَيْرُ مَحْشُوٍّ لَا يُنْزَعُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فَوْقَ قَمِيصٍ يُنْزَعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ الْقَمِيصِ كَالْمَحْشُوِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَيَمْنَعُ إيصَالَ الْأَلَمِ الَّذِي يَصْلُحُ زَاجِرًا.

(قَوْلُهُ وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ حُرًّا إلَخْ) قَدَّمْنَا ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ، وَيَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِإِقْرَارِ الْقَاذِفِ أَوْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَتَقَدَّمَتْ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْقَاذِفُ الْإِحْصَانَ وَعَجَزَ الْمَقْذُوفُ عَنْ الْبَيِّنَةِ لَا يَحْلِفُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مُحْصَنَةٌ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْحُرِّيَّةَ لِيُحَدَّ حَدَّ الْأَرِقَّاءِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا يُحَدُّ كَالْأَحْرَارِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ حُرٌّ، وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي يَعْلَمُ حُرِّيَّتَهُ حَدَّهُ ثَمَانِينَ، وَهَذَا قَضَاءٌ يَعْلَمُهُ فِيمَا لَيْسَ سَبَبًا لِلْحَدِّ فَيَجُوزُ (أَمَّا اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ، قَالَ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} أَيْ الْحَرَائِرِ) فَالرَّقِيقُ لَيْسَ مُحْصَنًا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَوْنُهُ مُحْصَنًا بِمَعْنًى آخَرَ كَالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ يُوجِبُ كَوْنُهُ مُحْصَنًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي إحْصَانِهِ تُوجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ عَنْ قَاذِفِهِ فَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَكُونَ مُحْصَنًا بِجَمِيعِ الْمَفْهُومَاتِ الَّتِي أُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْإِحْصَانِ إلَّا مَا أَجْمَعَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي تَحَقُّقِ الْإِحْصَانِ وَهُوَ كَوْنُهَا زَوْجَةً أَوْ كَوْنُ الْمَقْذُوفِ زَوْجًا، فَإِنَّهُ جَاءَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} أَيْ الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي إحْصَانِ الْقَذْفِ بَلْ فِي إحْصَانِ الرَّجْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْصَانَ أُطْلِقَ بِمَعْنَى الْحُرِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِمَعْنَى الْإِسْلَامِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَسْلَمْنَ، وَهَذَا يَكْفِي فِي إثْبَاتِ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْصَانِ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَبِمَعْنَى الْعِفَّةِ عَنْ فِعْلِ الزِّنَا، قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وَالْمُرَادُ بِهِنَّ الْعَفَائِفُ، وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَفِيهِ إجْمَاعٌ، إلَّا مَا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ مُحْصَنٌ فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ

ص: 319

(وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ لِأُمِّهِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَنْفِي عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ.

وَالْأَصَحُّ عَنْهُ كَقَوْلِ النَّاسِ وَقَوْلِ مَالِكٍ فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا خُصُوصًا إذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً، فَإِنَّ الْحَدَّ بِعِلَّةِ إلْحَاقِ الْعَارِ وَمِثْلُهَا يَلْحَقُهُ.

وَالْعَامَّةُ يَمْنَعُونَ كَوْنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يَلْحَقُهُمَا عَارٌ بِنِسْبَتِهِمَا إلَى الزِّنَا بَلْ رُبَّمَا يُضْحَكُ مِنْ الْقَائِلِ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ يَا زَانِي، إمَّا لِعَدَمِ صِحَّةِ قَصْدِهِ. وَإِمَّا لِعَدَمِ خِطَابِهِمَا بِالْحُرُمَاتِ. وَلَوْ فُرِضَ لُحُوقُ عَارٍ لِمُرَاهِقٍ فَلَيْسَ إلْحَاقًا عَلَى الْكَمَالِ فَيَنْدَرِئُ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّنَا الْمُؤَثِّمُ، وَإِلَّا فَهُوَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا إذْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، لَكِنَّ الْقَذْفَ إنَّمَا يُوجِبُ الْحَدَّ إذَا كَانَ بِزِنًا يُؤَثَّمُ صَاحِبُهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِيرَادُ الْقَائِلُ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الزِّنَا مِنْهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّ قَاذِفُ مَجْنُونٍ زَنَى حَالَةَ جُنُونِهِ لَكِنْ لَا يُحَدُّ وَإِنْ كَانَ قَذَفَهُ حِينَ إفَاقَتِهِ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعِفَّةِ فَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ. وَلَوْ لَحِقَهُ عَارٌ آخَرُ فَهُوَ صِدْقٌ. وَحَدُّ الْقَذْفِ لِلْفِرْيَةِ لَا لِلصِّدْقِ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فِي الْعِفَّةِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ وَطِئَ امْرَأَةً بِالزِّنَا وَلَا بِشُبْهَةٍ وَلَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ فِي عُمُرِهِ. فَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً يُرِيدُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ. وَكَذَا لَوْ وَطِئَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ أَوْ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ كَمَا إذَا وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَوْ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً سَقَطَ إحْصَانُهُ كَمَا إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ. وَلَوْ مَسَّ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا فَدَخَلَ بِهَا أَوْ أُمِّهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ. وَلَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِالنِّكَاحِ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا وَدَخَلَ بِهَا سَقَطَ إحْصَانُهُ انْتَهَى لَفْظُهُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ إحْصَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بِنْتِ الْمَمْسُوسَةِ بِشَهْوَةٍ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يُصَحِّحُونَ نِكَاحَهَا

(قَوْلُهُ وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَهَذَا إذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً) وَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي، وَعَلَّلَهُ فِي الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ لِأُمِّهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أُمُّهُ زَانِيَةٌ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَلَا نِكَاحَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ كَانَ عَنْ زِنَاهَا مَعَهُ. قِيلَ فَعَلَى هَذَا كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً حَتَّى يَشْمَلَ جَمِيعَ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ. وَأَوْرَدَ

ص: 320

(وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ سَبًّا لَهُ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ بِنَفْيِ مُشَابَهَتِهِ أَبَاهُ فِي أَسْبَابِ الْمُرُوءَةِ (وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ لَا يُحَدُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَيْهِ مَجَازًا.

عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ وَلَا تَكُونَ أُمُّهُ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةٌ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ. الْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّك لَسْت لِأَبِيك الَّذِي وُلِدْتَ مِنْ مَائِهِ بَلْ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْهُ، وَهَذَا مَلْزُومٌ بِأَنَّ الْأُمَّ زَنَتْ مَعَ صَاحِبِ الْمَاءِ الَّذِي وُلِدَ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَفْيَ نَسَبِهِ عَنْ أَبِيهِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ أَبِيهِ زَانِيًا لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي فَيَلْزَمُ أَنَّ أُمَّهُ زَنَتْ مَعَ أَبِيهِ فَجَاءَتْ بِهِ مِنْ الزِّنَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ كَوْنِ أَبِيهِ زَنَى بِأُمِّهِ مُكْرَهَةً أَوْ نَائِمَةً فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ وَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ فَالْوَجْهُ إثْبَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِعَدَمِ إرَادَةِ الْأَبِ الَّذِي يُدْعَى إلَيْهِ وَيُنْسَبُ بِخُصُوصِهِ، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا وَإِلَّا كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ الَّتِي يَرِدُ عَلَيْهَا السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ، وَجَوَابُهُ مَا سَيَجِيءُ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ الْحَدِّ فِي هَذِهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ بِدَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَإِذَنْ يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأَبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْغَضَبِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْأَبِ الْأَبُ الْمَشْهُورُ، فَيَكُونُ النَّفْيُ مَجَازًا عَنْ نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ فِي مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى إلَيْهِ يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ) أَيْ حَقِيقَةُ نَفْيِهِ عَنْ أَبِيهِ لِأَنَّهُ حَالَةُ سَبٍّ وَشَتْمٍ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَى عَدَمِ تَشَبُّهِهِ بِهِ فِي مَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَيْسَ نِسْبَةُ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا أَمْرًا لَازِمًا لِجَوَازِ نَفْيِهِ عَنْهُ. وَالْقَصْدُ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، فَثُبُوتُ الْحَدِّ بِهِ بِمَعُونَةِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا لَا يُثْبِتُ الْقَذْفَ بِصَرِيحِ الزِّنَا. وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْحَدَّ اسْتِحْسَانًا بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَدَّ إلَّا فِي قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ. ثُمَّ حَمَلُوا الْأَثَرَ عَلَى النَّفْيِ حَالَةَ الْغَضَبِ، وَحَكَمُوا بِأَنَّهُ حَالَةَ عَدَمِهِ لَمْ يَنْفِهِ عَنْ أَبِيهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّخْصِيصِ فِي شَيْءٍ إذْ لَيْسَ قَذْفًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لَوْ كَانَ قَذْفًا أُخْرِجَ مِنْ حُكْمِ الْقَذْفِ. وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ وَلَا ابْنِ فُلَانَةَ لَا يُحَدُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ حَدَّهُ فِي قَوْلِهِ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ، وَإِذَا نَفَى نَسَبَهُ عَنْ أُمِّهِ فَقَدْ نَفَى وِلَادَتَهَا إيَّاهُ فَقَدْ نَفَى زِنَاهَا بِهِ فَكَيْفَ يُحَدُّ. هَذَا، وَأَمَّا إذَا قَالَ يَا وَلَدَ الزِّنَا أَوْ يَا ابْنَ الزِّنَا فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَفْصِيلٌ بَلْ يُحَدُّ أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا حَلِيلَةَ فُلَانٍ لَا يُحَدُّ وَلَا يُعَزَّرُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يُرِيدُ بِفُلَانٍ جَدَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ) وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ: يَعْنِي جَدَّهُ هُوَ صَادِقٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَى الْجَدِّ مَجَازًا مُتَعَارَفًا

ص: 321

(وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ فَطَالَبَ الِابْنُ بِحَدِّهِ حُدَّ الْقَاذِفُ) لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنَةً بَعْدَ مَوْتِهَا (وَلَا يُطَالِبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ وَهُوَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ) لِأَنَّ الْعَارَ يَلْتَحِقُ بِهِ لِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا لَهُ مَعْنًى. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِكُلِّ وَارِثٍ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يُورَثُ عِنْدَهُ عَلَى

وَفِي بَعْضِ أَصْحَابِنَا ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَأَمِيرُ الْحَاجِّ جَدُّهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ ابْنُ فُلَانٍ لِعَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ كَمَا سَيَأْتِي. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الْمَعْرُوفِ لَهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ هُوَ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ وَمَعْنًى حَقِيقِيٌّ هُوَ نَفْيُ كَوْنِهِ مِنْ مَائِهِ مَعَ زِنَا الْأُمِّ بِهِ أَوْ عَدَمِ زِنَاهَا بَلْ بِشُبْهَةٍ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: يُمْكِنُ إرَادَةُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَقَدْ حَكَمُوا بِتَحْكِيمِ الْغَضَبِ وَعَدَمِهِ، فَمَعَهُ يُرَادُ نَفْيُ كَوْنِهِ مِنْ مَائِهِ مَعَ زِنَا الْأُمِّ بِهِ، وَمَعَ عَدَمِهِ يُرَادُ الْمَجَازِيُّ.

وَقَوْلُهُ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ لِجَدِّهِ لَهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ هُوَ نَفْيُ مُشَابَهَتِهِ لِجَدِّهِ، وَمَعْنَيَانِ حَقِيقِيَّانِ أَحَدُهُمَا نَفْيُ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ وَالْآخَرُ نَفْيُ كَوْنِهِ أَبًا أَعْلَى لَهُ، وَهَذَا يَصْدُقُ بِصُورَتَيْنِ: نَفْيُ كَوْنِ أَبِيهِ خُلِقَ مِنْ مَائِهِ بَلْ زَنَتْ جَدَّتُهُ بِهِ، أَوْ جَاءَتْ بِهِ بِشُبْهَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي يَصِحُّ إرَادَةُ كُلٍّ مِنْهَا، وَقَدْ حُكِمَ بِتَعْيِينِ الْغَضَبِ: أَحَدُهَا بِعَيْنِهِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ مَائِهِ مَعَ زِنَا الْأُمِّ بِهِ، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُخْبِرَهُ فِي السِّبَابِ بِأَنَّ أُمَّهُ جَاءَتْ بِهِ بِغَيْرِ زِنًا بَلْ بِشُبْهَةٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ أَيْضًا بِتَعْيِينِ الْغَضَبِ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي هُوَ نَفْيُ نَسَبِ أَبِيهِ عَنْهُ وَقَذْفِ جَدَّتِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِخْبَارِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ بِأَنْ لَمْ تُخْلَقْ مِنْ مَاءِ جَدِّك، وَهُوَ مَعَ سَمَاجَتِهِ أَبْعَدُ فِي الْإِرَادَةِ مِنْ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ أُبُوَّتِهِ لِأَبِيهِ، لِأَنَّ هَذَا كَقَوْلِنَا السَّمَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا إجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ الْحَدِّ بِلَا تَفْصِيلٍ، كَمَا أَنَّ فِي تِلْكَ إجْمَاعًا عَلَى ثُبُوتِهِ بِالتَّفْصِيلِ.

وَلَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ حُدَّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ صَرِيحٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ ابْنَهُ شَرْعًا بِلَا زِنًا عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ سَتَأْتِي فِي الْكِتَابِ لَكِنَّهَا هُنَا أَنْسَبُ

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ كَانَ لِلْوَلَدِ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّهِ) فَإِذَا طَالَبَ بِهِ حُدَّ الْقَاذِفُ (وَلَا يُطَالَبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ) وَهُوَ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلَا وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ، لِأَنَّ الْعَارَ يَلْتَحِقُ بِهِمَا لِلْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا مَعْنًى لَهُمَا فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، لَكِنَّ لُحُوقَهُ لَهُمَا بِوَاسِطَةِ لُحُوقِ الْمَقْذُوفِ بِالذَّاتِ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْخُصُومَةِ، لِأَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُ

ص: 322

مَا نُبَيِّنُ، وَعِنْدَنَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا لِلْمَحْرُومِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْبِنْتِ كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ خِلَافًا لِزُفَرَ.

مَقْصُودًا فَلَا يُطَالَبُ غَيْرُهُ بِمُوجِبِهِ إلَّا عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَلِذَا لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهِ وَلَا لِوَالِدِهِ الْمُطَالَبَةُ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّهُ يُجَوِّزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْغَائِبُ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ يَثْبُتُ لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: رَجُلٌ قَذَفَ مَيِّتًا فَلِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ أَنْ يَأْخُذَ الْقَاذِفَ وَيَحُدَّهُ، وَوَلَدُ الِابْنِ وَوَلَدُ الْبِنْتِ سَوَاءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ أَخٌ وَلَا عَمٌّ وَلَا جَدٌّ أَبُو الْأَبِ وَلَا أُمُّ الْأُمِّ وَلَا عَمَّةٌ وَلَا مَوْلَاهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَيْضًا تَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ لِكُلِّ وَارِثٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ، فَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي قَالَ مُحَمَّدٌ: لِكُلِّ مَنْ يَرِثُهُ وَيُورَثُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَاذِفَ وَيَحُدَّهُ اهـ. وَهَذِهِ رِوَايَةٌ غَرِيبَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَنْ يَرِثُهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَرِثَهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ. وَالثَّانِي غَيْرُ الْوَارِثِ بِالزَّوْجِيَّةِ. وَالثَّالِثُ يَرِثُهُ ذُكُورُ الْعَصَبَاتِ لَا غَيْرُهُمْ (وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ، وَلِذَا لَا يَثْبُتُ لِلْأَخِ عِنْدَنَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. فَاللَّاحِقُ مِنْ الْعَارِ لِلْإِنْسَانِ كَاللَّاحِقِ لِنَفْسِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، بِخِلَافِ الْأَخِ لَا يَلْحَقُهُ ضَرَرُ عَارِ زِنَا أَخِيهِ كَمَا لَا يَلْحَقُهُ النَّفْعُ بِانْتِفَاعِ أَخِيهِ، وَلِعِلْمِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْأَخِ لِأَخِيهِ، فَلَيْسَ لِأَخِي الْمَقْذُوفِ وَلَا لِعَمِّهِ وَخَالِهِ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَلَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ نَفْسِ الْمَشْهُودِ لَهُ (وَلِهَذَا) أَعْنِي لِكَوْنِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلُحُوقِ الْعَارِ غَيْرَ دَائِرٍ مَعَ الْإِرْثِ (يَثْبُتُ لِلْمَحْرُومِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ) أَوْ الرِّقِّ أَوْ الْكُفْرِ فَلِقَاتِلِ أَبِيهِ أَنْ يُطَالِبَ قَاذِفَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله (وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ بِنْتِ الْمَقْذُوفِ كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) وَيَثْبُتُ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ (وَكَذَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ) حَقُّ الْمُطَالَبَةِ (مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ خِلَافًا لِزُفَرَ) وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ لِأَنَّهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.

وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ هِيَ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَوَجْهُهَا أَنَّ نَسَبَهُ إلَى أَبِيهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ جَدَّتِهِ لِأُمِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي لَفْظِ وَلَدِ الْوَلَدِ وَلِذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ لَا يَدْخُلُ ابْنُ الْبِنْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ عَنْهُمْ أَوْ لَا يُمْنَعُ عَدَمُ الدُّخُولِ بَلْ يَدْخُلُ

ص: 323

(وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ) خِلَافًا لِزُفَرَ. هُوَ يَقُولُ: الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى. وَلَنَا أَنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا

كَقَوْلِ الْخَصَّافِ وَقَدْ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ فِي الْوَقْفِ، وَثَانِيًا بِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ أَنَّ الْمَبْنَى مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ مَبْنَى ثُبُوتِ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الْقَذْفِ ثُبُوتُ الْجُزْئِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِرُجُوعِ عَارِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْإِنْسَانِ إلَى الْآخَرِ، وَثُبُوتُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ بِثُبُوتِ تَبَادُرِ وَلَدِ الْبِنْتِ مِنْ قَوْلِنَا أَوْلَادُ فُلَانٍ لِأَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى مَنْ يُسَمَّى بِهِ.

فَإِذَا لَمْ يَتَبَادَرْ لَا يَشْمَلُهُ الْوَقْفُ وَصَارَ كَالْوَصِيَّةِ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِ فُلَانٍ لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ بَنَاتِهِ لِهَذَا. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ مَا يَلْحَقُ الْوَلَدَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ وَلَدَ الْوَلَدِ فَصَارَ وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ الْوَلَدِ كَوَلَدِ الْمَقْذُوفِ مَعَهُ وَاعْتَبَرَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فَإِنَّهُ لَا خُصُومَةَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ. وَالْجَوَابُ مَنَعَ أَنَّ مَا يَلْحَقُ الْأَقْرَبَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْأَبْعَدَ بَلْ لِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِالْجُزْئِيَّةِ لَحِقَهُ مِنْ الْعَارِ مِثْلُ مَا لَحِقَ الْآخَرَ لِاتِّحَادِ الْجِهَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ، بِخِلَافِ الْمَقْذُوفِ مَعَ وَلَدِهِ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ الْعَارُ مَقْصُودًا بِالْإِلْحَاقِ بِهِ دُونَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ.

وَأَمَّا حَقُّ خُصُومَةِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» فَعُلِمَ تَرَتُّبُهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْمَ يُشْعِرُ بِهِ حَيْثُ عُلِمَ أَنَّ حُكْمَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ ظَهَرَ الِاتِّفَاقُ عَلَى وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ بِقَذْفِ جَدِّهِ وَجَدَّتِهِ إنَّمَا خَالَفَ زُفَرُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ فَمَا وَجْهُ مَا فِي قَاضِي خَانَ فَإِذَا قَالَ جَدُّك زَانٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. قُلْنَا: ذَلِكَ لِلْإِيهَامِ لِأَنَّ فِي أَجْدَادِهِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ فَلَا يَكُونُ قَاذِفًا مَا لَمْ يُعَيِّنْ مُسْلِمًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتَ ابْنُ ابْنِ الزَّانِيَةِ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِجَدِّهِ الْأَدْنَى، فَإِنْ كَانَ أَوْ كَانَتْ مُحْصَنَةً حُدَّ

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَلِابْنِهِ الْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ خِلَافًا لِزُفَرَ) وَلِكُلِّ مَنْ قَالَ طَرِيقُهُ لِلْإِرْثِ: يَعْنِي إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا بِأَنْ وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ وَلَا يُطَالَبُ بِهِ الِابْنُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَقْذُوفِ (هُوَ يَقُولُ الْقَذْفُ تَنَاوَلَ الِابْنَ مَعْنًى لَا صُورَةً لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ) وَلَيْسَ الْحَدُّ الْآنَ وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ لِأَجْلِ أُمِّهِ إذْ لَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا.

وَإِذَا تَنَاوَلَهُ مَعْنًى فَغَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْقَذْفِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ لِعَدَمِ إحْصَانِهِ، فَكَذَا إذَا كَانَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَقَطْ (وَلَنَا أَنَّهُ) أَيْ الْقَاذِفُ (عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ) هُوَ أُمُّهُ أَوْ أَبُوهُ (فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي) الْمَقْذُوفِ قَصْدًا وَهُوَ (الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ) لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ تَعْيِيرًا كَامِلًا إلَّا إذَا كَانَ مُحْصَنًا (ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا

ص: 324

التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ، بِخِلَافِ إذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّعْيِيرُ عَلَى الْكَمَالِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا (وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ، وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ) لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ، وَكَذَا الْأَبُ بِسَبَبِ ابْنِهِ، وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَانْعِدَامِ الْمَانِعِ.

التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ) فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِلشَّيْنِ الَّذِي لَحِقَهُ لَا لِلْخِلَافَةِ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى (وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهُ نَفْسَهُ) لِعَدَمِ إحْصَانِهِ فَلَمْ يَقَعْ التَّعْيِيرُ إذْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا عَلَى الْكَمَالِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ لِلتَّعْيِيرِ الْكَامِلِ وَهُوَ بِإِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لَهُ أَوْ مَيِّتًا طَالَبَ بِهِ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ فِي حَقِّهِ.

(قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ) أَيْ الَّتِي قَذَفَهَا فِي حَالِ مَوْتِهَا (وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ) وَإِنْ عَلَا (بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ) الَّتِي قَذَفَهَا فِي حَالِ مَوْتِهَا بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ حُرَّةٌ، أَوْ قَالَ لِابْنِهِ أَوْ لِابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ بَعْدَ وَفَاةِ أُمِّهِ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّ لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِإِطْلَاقِ آيَةِ {فَاجْلِدُوهُمْ} وَلِأَنَّهُ حَدٌّ هُوَ حَقُّ اللَّهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَتِهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا حُدَّ الْأَبُ سَقَطَتْ عَدَالَةُ الِابْنِ لِمُبَاشَرَتِهِ سَبَبَ عُقُوبَةِ أَبِيهِ مَعَ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِطْلَاقَ أَوْ الْعُمُومَ مُخْرَجٌ مِنْهُ الْوَلَدُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارِضَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَالْمَانِعُ مُقَدَّمٌ (وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ) وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ فَانْتَقَضَتْ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ وَصَارَ الْأَصْلُ لَنَا عُمُومَ الْآيَةِ، أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ فَلِشُبْهَةِ الْمِلْكِ لِلْأَبِ فِي الْمَسْرُوقِ فَلَا يُرَدُّ عَلَى مَالِكٍ. نَعَمْ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِ لَا يُقَادُ بِهِ لَازِمَةٌ، فَإِنَّ إهْدَارَ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْوَلَدِ تُوجِبُ إهْدَارَهَا فِي عِرْضِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى مَعَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُتَيَقَّنٌ بِسَبَبِهِ وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فِيهِمَا، وَلِضَعْفِ الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ الْقَطْعِ بِسَبَبِ مَالِ الِابْنِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ) اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مُطَالَبَةِ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ بِقَذْفِ أُمِّهِ، قِيلَ لِأَنَّ حَقَّ عَبْدِهِ حَقُّهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِسَبَبِ حَقِّ نَفْسِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ لَهَا) أَيْ لِزَوْجَتِهِ الْمَيِّتَةِ الَّتِي قَالَ لِوَلَدِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ (وَلَدٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ) بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقُّ الْخُصُومَةِ وَظَهَرَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا

ص: 325

(وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ فَمَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْطُلُ (وَلَوْ مَاتَ بَعْدَمَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ بَطَلَ الْبَاقِي) عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَقُّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا وَمِنْهُ سُمِّيَ حَدًّا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الزَّاجِرِ إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ، وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ وَبِكُلِّ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ. وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ

مَانِعٌ دُونَ الْآخَرِ فَيَعْمَلُ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ فِي الْآخَرِ، وَلِذَا لَوْ كَانَ جَمَاعَةٌ يَسْتَحِقُّونَ الْمُطَالَبَةَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ كَانَ لِلْآخَرِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، بِخِلَافِ عَفْوِ أَحَدِ مُسْتَحَقِّي الْقِصَاصَ بِمَنْعِ اسْتِيفَاءِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ وَاحِدٌ لِلْمَيِّتِ مَوْرُوثٌ لِلْوَارِثِينَ، فَبِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْعَفْوِ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ تُجْزِيهِ، أَمَّا هُنَا فَالْحَقُّ فِي الْحَدُّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِكُلِّ وِلَايَةٍ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمَا.

[فَرْعٌ]

يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ مِنْ الْغَائِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَكَذَا فِي الْقِصَاصِ لِأَنَّ خُصُومَةَ الْوَكِيلِ تَقُومُ مَقَامَ خُصُومَةِ الْمُوَكِّلِ، وَشَرْطُ الْحَدِّ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ، وَالْإِجْمَاعُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ عَفَا أَوْ أَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ صَدَّقَ الْقَاذِفَ أَوْ أَكْذَبَ شُهُودَهُ، وَلَا يَخْفَى قُصُورُ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَفْوِ بَعْدَ ثُبُوتِ السَّبَبِ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ فَمَعَ احْتِمَالِهِ أَوْلَى

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ فَمَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْطُلُ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ بَطَلَ الْبَاقِي عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ) فَيَرِثُ الْوَارِثُ الْبَاقِي فَيُقَامُ لَهُ (وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ) كَالْقِصَاصِ (فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ) أَيْ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ (هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ ثُمَّ) نَعْلَمُ (أَنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا وَمِنْهُ سُمِّيَ حَدًّا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الزَّوَاجِرِ كُلِّهَا إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ) إذْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهَذَا إنْسَانٌ دُونَ غَيْرِهِ (وَبِكُلٍّ) مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ (تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ) فَبِاعْتِبَارِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ شُرِطَتْ الدَّعْوَى فِي إقَامَتِهِ وَلَمْ تَبْطُلْ الشَّهَادَةُ بِالتَّقَادُمِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَيُقِيمُهُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ إذَا عَلِمَهُ فِي أَيَّامِ قَضَائِهِ، وَكَذَا لَوْ قَذَفَهُ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي حَدَّهُ، وَإِنْ عَلِمَهُ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ عِنْدَهُ، وَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ إذَا اجْتَمَعَا.

وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَبِاعْتِبَارِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَوْفَاهُ الْإِمَامُ دُونَ الْمَقْذُوفِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، وَلَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَ سُقُوطِهِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ عَلَيْهِ الْقَاذِفُ وَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَالْعُقُوبَاتِ الْوَاجِبَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ التَّالِفِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلِفِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ وَلَمْ يُمْكِنْ إهْدَارُ مُقْتَضَى إحْدَاهُمَا لَزِمَ اعْتِبَارُهُمَا فِيهِ فَثَبَتَ أَنَّ فِيهِ الْحَقَّيْنِ (إلَّا أَنَّ

ص: 326

فَالشَّافِعِيُّ مَالَ إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ، وَنَحْنُ صِرْنَا إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّاهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًّا بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الشَّرْعِ إلَّا نِيَابَةً عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا مِنْهَا الْإِرْثُ، إذْ الْإِرْثُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي حُقُوقِ الشَّرْعِ. وَمِنْهَا الْعَفْوُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَنَا وَيَصِحُّ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَفْوِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْغَالِبَ حَقُّ الْعَبْدِ

الشَّافِعِيَّ مَالَ إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ، وَنَحْنُ صِرْنَا إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًا) بِتَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لَا مُهْدَرًا (وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ) أَيْ لَوْ غَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ لَزِمَ أَنْ لَا يُسْتَوْفَى حَقُّ الشَّرْعِ إلَّا بِالتَّحْكِيمِ بِجَعْلِ وِلَايَةِ اسْتِيفَائِهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَنْصِبُهُ الشَّرْعُ عَلَى إنَابَةِ الْعَبْدِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، بَلْ الثَّانِي اسْتِنَابَةُ الْإِمَامِ حَتَّى كَانَ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ تَعَالَى عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَفَرَّعَتْ فُرُوعٌ أُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَعْدَ الْفُرُوعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا الشَّاهِدَةِ لِكُلٍّ مِنْ ثُبُوتِ الْجِهَتَيْنِ، مِنْهَا الْإِرْثُ فَعِنْدَهُ يُورَثُ.

وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ إذْ الْإِرْثُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى: أَيْ إنَّمَا يَرِثُ الْعَبْدُ حَقَّ الْعَبْدِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَالًا، أَوْ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَالِ كَالْكَفَالَةِ، أَوْ فِيمَا يَنْقَلِبُ إلَى الْمَالِ كَالْقِصَاصِ، وَالْحَدُّ لَيْسَ شَيْئًا مِنْهَا فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلَى اسْتِخْلَافِ الشَّرْعِ وَارِثَ مَنْ جُعِلَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ أَوْ وَصِيَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ الَّتِي جَعَلَهَا شَرْطًا لِظُهُورِ حَقِّهِ، وَمِنْهَا الْعَفْوُ، فَإِنَّهُ بَعْدَمَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْقَذْفُ وَالْإِحْصَانُ لَوْ عَفَا الْمَقْذُوفُ عَنْ الْقَاذِفِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَيُحَدُّ عِنْدَنَا، وَيَصِحُّ عِنْدَهُ، وَلَا يَسْقُطُ عِنْدَنَا الْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْمَقْذُوفُ لَمْ يَقْذِفْنِي أَوْ كَذَبَ شُهُودِي، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا أَنَّهُ وَقَعَ ثُمَّ سَقَطَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ، وَهَذَا كَمَا إذَا صَدَّقَهُ الْمَقْذُوفُ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِمَعْنَى ظُهُورِ أَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ يَسْقُطُ بَعْدَ وُجُوبِهِ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ.

وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، حَتَّى لَوْ قَذَفَ شَخْصًا مَرَّاتٍ أَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً كَانَ فِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ حَدٌّ بَيْنَ الْقَذْفَيْنِ.

وَلَوْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ فَحُدَّ فَفِي أَثْنَاءِ الْحَدِّ ادَّعَى آخَرُونَ كُمِّلَ ذَلِكَ الْحَدُّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَفْوِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ.

(قَوْلُهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْغَالِبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ إلَخْ) وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ الْأَصْلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَتَفْرِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَالْأَشْهَرُ لِأَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَذَهَبَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ

ص: 327

وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ) لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ، بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ.

(وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْأَخْلَاقِ أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَسْت بِعَرَبِيٍّ لِمَا قُلْنَا.

إلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ (وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ) الْمُخْتَلَفَ فِيهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا تَوْجِيهُ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ غَالِبٌ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ تُبْنَى عَلَيْهِ وَالْمَعْقُولُ يَشْهَدُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ. وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْأَحْكَامِ فَإِنَّمَا فُوِّضَ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَهْتَدِي إلَى الضَّرْبِ الْوَاجِبِ أَوْ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَزِيدُ الْمَقْذُوفَ فِي قُوَّتِهِ لِحَنَقِهِ فَيَقَعُ مُتْلِفًا؛ وَإِنَّمَا لَا يُورَثُ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَقٍّ لَيْسَ مَالًا وَلَا بِمَنْزِلَتِهِ فَهُوَ كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا. وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَمَّا هُوَ مُوَلًّى عَلَيْهِ فِيهِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ، وَلِأَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي الْعَفْوِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَارِ وَالرِّضَا بِالْعَارِ عَارٌ، وَهَذَا كَمَا تَرَى تَخْرِيجٌ لِبَعْضِ الْفُرُوعِ الْمُخْتَلِفَةِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي تَخْرِيجِهِ عَدَمُ صِحَّةِ الْعَفْوِ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْمَقْذُوفِ يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ مَمْنُوعٌ، بَلْ فِيهِ صِيَانَةُ أَعْرَاضِ النَّاسِ عَنْ خُصُوصِ الْقَاذِفِ، وَصِيَانَةُ أَعْرَاضِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى الْعُمُومِ.

وَأَنَّ الْعَفْوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِالْعَارِ بَلْ قَدْ لَا يَرْضَى الْإِنْسَانُ بِمَا يَكْرَهُهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ، وَكَوْنُهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ لِلتُّهْمَةِ بِسَبَبِ حَنَقِهِ فَلَا يَنْفِي أَنْ يَعْفُوَ فَلَا يَعْقِلُ ذَلِكَ أَصْلًا، وَمَا ذَكَرْنَا فِي تَرْجِيحِ تَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْجَهُ مِمَّا فِي الْخَبَّازِيَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إنْ وَقَعَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ حَقُّ النَّاسِ فَقَدْ وَقَعَ فِي آخَرَ أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ) فَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِالْغَيْرِ وَبِالرُّجُوعِ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْغَيْرِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَ حَقَّ الْغَيْرِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فَيُشْكِلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ فِي الْإِقْرَارِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَوْنُهُ أَلْحَقَ الشَّيْنَ لَا أَثَرَ لَهُ، بَلْ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا أَلْحَقَ الشَّيْنَ ثَبَتَ حَقُّ الْآدَمِيِّ فَلَا يُقْبَلُ إبْطَالُهُ، فَإِلْحَاقُ الشَّيْنِ تَأْثِيرُهُ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْآدَمِيِّ لَيْسَ غَيْرُ، ثُمَّ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ لَيْسَ إلَّا لِتَضَمُّنِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ) أَوْ قَالَ لَسْت بِعَرَبِيٍّ (لَا يُحَدُّ) وَكَذَا إذَا قَالَ لَسْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ

ص: 328

(وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ، لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ (وَإِنْ نَسَبَهُ إلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ إلَى زَوْجِ أُمِّهِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى أَبًا، أَمَّا الْأَوَّلُ

وَقَالَ مَالِكٌ: يُحَدُّ إذَا نَوَى الشَّتْمَ، وَعَنْهُ إذَا قَالَ يَا رُومِيُّ لِعَرَبِيٍّ أَوْ فَارِسِيٍّ أَوْ يَا فَارِسِيُّ لِرُومِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ أَوْ يَا ابْنَ الْخَيَّاطِ وَلَيْسَ فِي آبَائِهِ خَيَّاطٌ يُحَدُّ. قُلْنَا: الْعُرْفُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ فِي الْأَخْلَاقِ أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ، وَأَمَّا قَذْفُ أُمِّهِ أَوْ جَدَّةٍ مِنْ جَدَّاتِهِ لِأَبِيهِ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ فَلِذَا أَطْلَقُوا نَفْيَ الْحَدِّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ حَالَةَ الْغَضَبِ أَوْ الرِّضَا، وَهَذَا لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ مِمَّا يُشْتَمُّ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يُتَعَارَفْ مِثْلُهُ فِي الْقَذْفِ أَصْلًا يُجْعَلُ فِي الْغَضَبِ شَتْمًا بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلِأَنَّ النَّبَطِيَّ قَدْ يُرَادُ بِهِ النِّسْبَةُ إلَى الْمَكَانِ عَلَى مَا قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ: النَّبَطُ قَوْمٌ يَنْزِلُونَ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ يَا رُسْتَاقِيُّ يَا رِيفِيُّ فِي عُرْفِنَا: أَيْ يَا قَرَوِيُّ لَا يُحَدُّ بِهِ. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ النَّبَطِيُّ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ) وَكَذَا إذَا قَالَ يَا ابْنَ مُزَيْقِيَاءَ وَيَا ابْنَ جَلَا لِأَنَّ النَّاسَ يَذْكُرُونَ هَذِهِ لِقَصْدِ الْمَدْحِ، فَمَاءُ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ عَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفُ الْأَزْدِيُّ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْقَحْطِ كَانَ يُقِيمُ مَالَهُ مَقَامَ الْقَطْرِ فَهُوَ كَمَاءِ السَّمَاءِ عَطَاءً وُجُودًا. وَمُزَيْقِيَاءُ لُقِّبَ بِهِ ابْنُهُ عَمْرُو لِأَنَّهُ كَانَ يُمَزِّقُ كُلَّ يَوْمٍ حُلَّتَيْنِ يَلْبَسُهُمَا فَيَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى لُبْسِهِمَا وَيَكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَهُمَا غَيْرُهُ وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ، وَعَلَى هَذَا فَالْأَنْسَبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ يَا ابْنَ مُزَيْقِيَاءَ لِلذَّمِّ بِالسَّرَفِ وَالْإِعْجَابِ، لَكِنَّ عُرْفَ الْعَامَّةِ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ جُودُهُ، وَقَدْ لُقِّبَ بِمَاءِ السَّمَاءِ أَيْضًا لِلْحُسْنِ وَالصَّفَاءِ وَبِهِ لُقِّبَتْ أُمُّ ابْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ لِذَلِكَ، وَقِيلَ لِوَلَدِهَا بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ قَالَ زُهَيْرٌ:

وَلَازَمَتْ الْمُلُوكَ مِنْ آلِ نَصْرٍ

وَبَعْدَهُمْ بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ

وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ، وَأَمَّا جَلَا فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ مُرَادًا بِهِ إنْسَانٌ فِي قَوْلِ سُحَيْمٍ:

أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا

مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي

وَكَلَامُ سِيبَوَيْهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَمًا لَهُ بَلْ وَصْفٌ حَيْثُ قَالَ جَلَا هُنَا فِعْلُ مَاضٍ كَأَنَّهُ قَالَ أَنَا ابْنُ الَّذِي جَلَا: أَيْ أَوْضَحَ وَكَشَفَ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَلَّاخِ:

أَنَا الْقَلَّاخُ بْنُ جُنَابِ بْنِ جَلَا

فَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ عَلَمًا لَقَبًا وَكَوْنُهُ وَصْفًا أَيْضًا، ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي كَشْفِ الشَّدَائِدِ وَإِمَاطَةِ الْمَكَارِهِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ اسْمُهُ مَاءُ السَّمَاءِ: يَعْنِي وَهُوَ مَعْرُوفٌ يُحَدُّ فِي حَالِ السِّبَابِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ قَدْ سُمِّيَ بِهِ وَإِنْ كَانَ لِلسَّخَاءِ وَالصَّفَاءِ فَيَنْبَغِي فِي حَالَةِ الْغَضَبِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّفْيِ، لَكِنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لِمَا لَمْ يُعْهَدْ اسْتِعْمَالُهُ لِذَلِكَ الْقَصْدِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ التَّهَكُّمُ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ لَسْت بِعَرَبِيٍّ لَمَّا لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي النَّفْيِ يُحْمَلُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ عَلَى سَبِّهِ بِنَفْيِ الشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ عَنْهُ لَيْسَ غَيْرُ (قَوْلُهُ وَإِنْ نَسَبَهُ لِعَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى أَبًا فَالْأَوَّلُ) وَهُوَ تَسْمِيَةُ الْعَمِّ أَبًا

ص: 329

فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّا لَهُ. وَالثَّانِي لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْخَالُ أَبٌ» . وَالثَّالِثُ لِلتَّرْبِيَةِ.

(وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنَيْتُ صُعُودَ الْجَبَلِ حُدَّ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ:

وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ

وَذِكْرُ الْجَبَلِ يُقَرِّرُهُ مُرَادًا

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا لَهُ) أَيْ لِيَعْقُوبَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَالثَّانِي لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْخَالُ أَبٌ») قَالُوا هُوَ غَرِيبٌ، غَيْرَ أَنَّ فِي كِتَابِ الْفِرْدَوْسِ لِأَبِي شُجَاعٍ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:«الْخَالُ وَالِدُ مَنْ لَا وَالِدَ لَهُ» (وَالثَّالِثُ لِلتَّرْبِيَةِ) وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} إنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ

(وَمَنْ قَالَ بِغَيْرِهِ زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنَيْتُ صَعِدْتَ الْجَبَلَ) وَالْحَالَةُ حَالَةُ الْغَضَبِ وَسَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ مُرَادٌ لَا يُصَدَّقُ (وَيُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةٌ، قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ

وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ)

وَالزِّنَا وَإِنْ كَانَ يُهْمَزُ فَيُقَالُ زَنَأَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكِنَّ ذِكْرَ الْجَبَلِ يُقَرِّرُ الصُّعُودَ مُرَادًا.

وَقَوْلُهُ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ هُوَ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ تُرْقِصُ ابْنًا لَهَا

أَشْبِهْ أَبَا أُمِّك أَوْ أَشْبِهْ عَمَلِ

تُرِيدُ عَمَلِي

وَلَا تَكُونَنَّ كَهِلَّوْفٍ وَكِلِ

يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدْ انْجَدِلْ

وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ شَارِحِ إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ فَقَالَ إنَّمَا هِيَ لِرَجُلٍ رَأَى ابْنًا لَهُ تُرْقِصُهُ أُمُّهُ فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهَا وَقَالَ أَشْبِهْ أَبَا أُمِّك " الْأَبْيَاتَ ". وَهَذَا الرَّجُلُ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمُنْقِرِيُّ: أَيْ كُنْ مِثْلَ أَبِي أُمِّك أَوْ مِثْلَ عَمَلِي فَحُذِفَ الْمُضَافُ إلَيْهِ، وَالْمُرَادُ كُنْ مِثْلَ أَبِي أُمِّك أَوْ مِثْلِي، وَكَانَ أَبُو أُمِّهِ شَرِيفًا سَيِّدًا وَهُوَ زَيْدُ الْفَوَارِسِ بْنُ ضِرَارٍ الضَّبِّيُّ، وَأُمُّهُ مَنْفُوسَةُ بِنْتُ زَيْدِ الْفَوَارِسِ، قَالَ: فَأَخَذَتْهُ أُمُّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَعَلَتْ تُرْقِصُهُ وَتَقُولُ:

أَشْبِهْ أَخِي أَوْ أَشْبِهَنَّ أَبَاكَا

أَمَّا أَبِي فَلَنْ تَنَالَ ذَاكَا

تَقْصُرُ عَنْ مِثْلِهِ يَدَاكَا

وَاَللَّهُ بِالنِّعْمَةِ قَدْ وَالَاكَا

ص: 330

وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَاحِشَةِ مَهْمُوزًا أَيْضًا لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ كَمَا يُلَيِّنُ الْمَهْمُوزَ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ يَا زَانِي أَوْ قَالَ زَنَأْت، وَذِكْرُ الْجَبَلِ إنَّمَا يُعَيِّنُ الصُّعُودَ مُرَادًا إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى إذْ هُوَ لِلْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ لَا يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا، وَقِيلَ يُحَدُّ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتِ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بَلْ أَنْتَ زَانٍ

وَالْهِلَّوْفُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَفْتُوحَةً الثَّقِيلُ، وَالْوَكِلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ قَوْلَهُ أَوْ أَشْبِهْ جَمَلَ بِالْجِيمِ، وَقَالَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ هُوَ أَبُو حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ جَمَلُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْوَكِلُ الْعِيَالُ عَلَى غَيْرِهِ (وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَاحِشَةِ مَهْمُوزًا أَيْضًا) عَلَى مَا أَسْلَفْنَا (لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ) أَيْ اللَّيِّنَ فِي غَيْرِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَقَوْلِ الْعَجَّاجِ

وَخِنْدَفٌ هَأْمَةُ هَذَا الْعَالِمِ

وَمِنْهُ قَوْلُهُ

صَبْرًا فَقَدْ هَيَّجْت شَوْقَ الْمُشْتَئِقِ

لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ وَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ الْكَسْرِ بِالْهَمْزِ، وَأَمَّا نَحْوُ قَطَعَ اللَّهُ أَدِّيهِ: أَيْ يَدَيْهِ، فَالتَّمْثِيلُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِحَرْفِ اللِّينِ أَوْ الْمُلَيَّنِ حَرْفُ الْعِلَّةِ، لَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ عَلَى أَنَّهُ حَرْفُ الْعِلَّةِ بِقَيْدِ السُّكُونِ وَقَدْ يَهْمِزُونَ فِي الِالْتِقَاءِ عَلَى حَدِّهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْجَادَّةِ يُقَالُ دَأْبَةٌ وَشَأْبَةٌ، وَقُرِئَ وَلَا الضَّأْلِينَ شَاذًّا وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُقَالُ بِمَعْنَى الْفَاحِشَةِ وَبِمَعْنَى الصُّعُودِ، فَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا، وَهَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ إرَادَةُ قَيْدٍ لِلْغَضَبِ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ يَا زَانِي أَوْ زَنَأْت فَإِنَّهُ يُحَدُّ اتِّفَاقًا.

وَقَوْلُهُ (وَذِكْرُ الْجَبَلِ بِعَيْنِ الصُّعُودِ مُرَادًا) قُلْنَا إنَّمَا يُعَيَّنُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى فَيُقَالُ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مِمَّا يُمْنَعُ بَلْ يُقَالُ زَنَأْت فِي الْجَبَلِ بِمَعْنَى صَعِدْت ذَكَرَهُ فِي الْجَمْهَرَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْبَيْتُ الْمَذْكُورُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ فِيهِ لَيْسَ إلَّا الصُّعُودُ وَهُوَ بِلَفْظَةِ فِي، بَلْ الْجَوَابُ مَنَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْجَبَلِ يُعَيِّنُ الصُّعُودَ فَإِنَّ الْفَاحِشَةَ قَدْ تَقَعُ فِي الْجَبَلِ: أَيْ فِي بَعْضِ بُطُونِهِ، وَعَلَى الْجَبَلِ: أَيْ فَوْقَهُ، كَمَا قَدْ تَقَعُ عَلَى سَطْحِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ قَرِينَةً مَانِعَةً مِنْ إرَادَةِ الْفَاحِشَةِ فَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ بِحَالِهِ وَتَرَجَّحَ إرَادَةُ الْفَاحِشَةِ بِقَرِينَةِ حَالِ السِّبَابِ وَالْمُخَاصَمَةِ (وَلَوْ قَالَ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ) وَالْبَاقِي بِحَالِهِ: أَيْ فِي حَالِ الْغَضَبِ (قِيلَ لَا يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا) آنِفًا إنْ ذَكَرَ لَفْظَةَ " عَلَى " تَعَيَّنَ كَوْنُ الْمُرَادِ الصُّعُودَ. (وَقِيلَ يُحَدُّ) لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ وَهُوَ الْأَوْجُهُ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ تَقْيِيدِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بِحَالَةِ الْغَضَبِ أَنَّ فِي حَالَةِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ إذْ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ بَلْ لَا دَاعِيَ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ إرَادَةِ السَّبِّ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ لَا بَلْ أَنْتَ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ) إذَا طَالَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ، وَإِذَا طَالَبَ كُلٌّ الْآخَرَ وَأَثْبَتَ مَا طَلَبَ بِهِ عِنْدَ

ص: 331

إذْ هِيَ كَلِمَةُ عَطْفٍ يُسْتَدْرَكُ بِهَا الْغَلَطُ فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِي.

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَا لِعَانَ) لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ وَقَذْفُهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُهَا الْحَدَّ، وَفِي الْبَدَاءَةِ بِالْحَدِّ إبْطَالُ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ وَلَا إبْطَالَ فِي عَكْسِهِ أَصْلًا فَيُحْتَالُ لِلدَّرْءِ، إذْ اللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ (وَلَوْ قَالَتْ زَنَيْت بِكَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) مَعْنَاهُ قَالَتْ بَعْدَمَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ الزِّنَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ وَانْعِدَامِهِ مِنْهُ

الْحَاكِمِ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَدُّ فَلَا يَتَمَكَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ إسْقَاطِهِ فَيُحَدُّ كُلٌّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ مَثَلًا يَا خَبِيثُ فَقَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ تَكَافَآ وَلَا يُعَزَّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ وَقَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلْآخَرِ فَتَسَاقَطَا، أَمَّا كَوْنُ الْأَوَّلِ قَاذِفًا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بَلْ أَنْتَ زَانٍ، وَلِذَا لَوْ كَانَ الْمُجِيبُ عَبْدًا حُدَّ هُوَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ قَاذِفٌ بِقَوْلِهِ بَلْ أَنْتَ وَالْحُرُّ وَإِنْ كَانَ قَاذِفًا أَيْضًا، لَكِنْ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِ الْعَبْدِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (إذْ هِيَ) يَعْنِي بَلْ (كَلِمَةُ عَطْفٍ يُسْتَدْرَكُ بِهَا الْغَلَطُ) يَعْنِي فِي التَّرَاكِيبِ الِاسْتِعْمَالِيَّة (فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ خَبَرِيًّا (مَذْكُورًا فِي الثَّانِي) فَإِذَا قَالَ زَيْدٌ قَامَ أَوْ قَامَ زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو فَقَدْ وَضَعَ عَمْرًا فِي التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ مَوْضِعَ زَيْدٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْخَبَرُ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمُتَأَخِّرُ أَوْ الْمُتَقَدِّمُ خَبَرًا عَنْهُ وَلَمْ يُرِدْ بِالْأَوَّلِ لَفْظَ يَا زَانِي بَلْ هُوَ إعْطَاءُ النَّظِيرِ مَعْنًى: أَيْ هِيَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَيَصِيرُ وَاصِفًا لِلْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ مَعْنًى لِأَنَّ يَا زَانِي فِي مَعْنَى أَدْعُوك وَأَنْتَ زَانٍ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ، حُدَّتْ الْمَرْأَةُ خَاصَّةً) إذَا تَرَافَعَا (وَلَا لِعَانَ لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ وَقَذْفُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُهَا إيَّاهُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَدَّيْنِ إذَا اجْتَمَعَا وَفِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، وَاللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَبِتَقْدِيمِ حَدِّ الْمَرْأَةِ يَبْطُلُ اللِّعَانُ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَحْدُودَةً، فِي قَذْفٍ، وَاللِّعَانُ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمَحْدُودَةِ فِي الْقَذْفِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، وَبِتَقْدِيمِ اللِّعَانِ لَا يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهَا لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَجْرِي عَلَى الْمُلَاعَنَةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ فَخَاصَمَتْهُ الْأُمُّ فَحُدَّ سَقَطَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ، فَلَوْ خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا لَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، فَإِذَا خَاصَمَتْ الْأُمُّ بَعْدَهُ حُدَّ لِلْقَذْفِ فَقَدَّمْنَا الْحَدَّ دَرْءًا لِلِّعَانِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَاهُ (وَلَوْ) كَانَتْ (قَالَتْ) فِي جَوَابِ قَوْلِهِ يَا زَانِيَةً (زَنَيْت بِكَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ الزِّنَا قَبْلَ النِّكَاحِ) فَتَكُونُ قَدْ صَدَقَتْ فِي نِسْبَتِهَا إلَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ اللِّعَانُ وَقَذَفَتْهُ حَيْثُ نَسَبَتْهُ إلَى الزِّنَا وَلَمْ يُصَدِّقْهَا عَلَيْهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (وَانْعِدَامُهُ مِنْهُ) أَيْ انْعِدَامُ التَّصْدِيقِ مِنْهُ فَيَجِبُ الْحَدُّ دُونَ

ص: 332

وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مَعَك بَعْدَ النِّكَاحِ لِأَنِّي مَا مَكَّنْت أَحَدًا غَيْرَك. وَهُوَ الْمُرَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِوُجُودِ الْقَذْفِ مِنْهُ وَعَدَمِهِ مِنْهَا فَجَاءَ مَا قُلْنَا.

(وَمَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ) لِأَنَّ النَّسَبَ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ وَبِالنَّفْيِ بَعْدَهُ صَارَ قَاذِفًا فَيُلَاعَنُ (وَإِنْ نَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ حُدَّ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَطَلَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةَ التَّكَاذُبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ. فَإِذَا بَطَلَ التَّكَاذُبُ يُصَارُ إلَى الْأَصْلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ (وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ) فِي الْوَجْهَيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا،

اللِّعَانِ (وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مِنْ تَمْكِينِي إيَّاكَ بَعْدَ النِّكَاحِ) وَهَذَا كَلَامٌ يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْعَادَةِ مَجْرَى مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، فَإِنَّ فِعْلَهَا مَعَهُ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ لَيْسَ زِنًا، كَمَا أَنَّ الْجَزَاءَ لَيْسَ سَيِّئَةً وَلَكِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُهُ لِلْمُشَاكَلَةِ حِينَ ذُكِرَ مَعَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ هَذَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَقْذِفْهُ، وَيَجِبُ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، فَعَلَى تَقْدِيرٍ يَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ، وَعَلَى تَقْدِيرٍ يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ، وَالْحُكْمُ بِتَعَيُّنِ أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ بِعَيْنِهِ مُتَعَذِّرٌ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي كُلٍّ مِنْ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ فَلَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالشَّكِّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (فَجَاءَ مَا قُلْنَا) أَيْ مِنْ أَنَّهُ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ.

وَلَوْلَا أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهَا مَعْلُومُ الْوُقُوعِ مِنْ الْمَرْأَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْقَصْدَيْنِ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ إيَّاهَا بِالْإِغَاظَةِ لَوَجَبَ حَدُّهَا أَلْبَتَّةَ عَيْنًا بِقَذْفِهَا إيَّاهُ. إذْ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا تَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ تَحْلِفَ الزَّوْجَةُ أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا وَلَمْ تُرِدْ قَذْفَهُ وَيَكْتَفِي بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ فِي وَجْهٍ، وَعَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ دُونَهَا لِأَنَّ هَذَا مِنْهَا لَيْسَ إقْرَارًا صَحِيحًا بِالزِّنَا. وَبِقَوْلِنَا قَالَ أَحْمَدُ. وَلَوْ ابْتَدَأَتْ الزَّوْجَةُ فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا زَنَيْت بِكَ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ. وَهَذَا ظَاهِرٌ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ فَإِنَّ النَّسَبَ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَبِالنَّفْيِ بَعْدَهُ صَارَ قَاذِفًا لِزَوْجَتِهِ فَيُلَاعَنُ) وَإِنْ نَفَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ اللِّعَانِ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَطَلَ اللِّعَانُ الَّذِي كَانَ وَجَبَ بِنَفْيِهِ لِلْوَلَدِ (لِأَنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةَ التَّكَاذُبِ) بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي زِنَا الزَّوْجَةِ (وَالْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِي اللِّعَانِ مَا هُوَ إلَّا (حَدُّ الْقَذْفِ) لِأَنَّهُ قَذَفَهَا (فَإِذَا بَطَلَ) الْحَلِفُ بِبُطْلَانِ (التَّكَاذُبِ صُيِّرَ إلَى الْأَصْلِ) فَيُحَدُّ الرَّجُلُ.

وَقَوْلُهُ (وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ) الَّذِي ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ أَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَتَفْرِيقِ الْقَاضِي حَدَّهُ الْقَاضِي وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ مَا إذَا أَقَرَّ بِالْوَلَدِ ثُمَّ نَفَاهُ وَمَا إذَا نَفَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ (لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا) فَيَثْبُتُ وَلَا يَنْتَفِي بِمَا بَعْدَهُ (أَوْ لَاحِقًا) فِي الثَّانِيَةِ فَيَثْبُتُ بِهِ بَعْدَ النَّفْيِ.

ص: 333

وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ كَمَا يَصِحُّ بِدُونِ الْوَلَدِ (وَإِنْ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ وَبِهِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا.

(وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً وَمَعَهَا أَوْلَادٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ أَبٌ أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ وَالْوَلَدُ حَيٌّ أَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرًا إلَيْهَا وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ

وَقَوْلُهُ (وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ إلَخْ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ لَيْسَ إلَّا نَفْيَ الْوَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يُنْفَ كَيْفَ يَجِبُ اللِّعَانُ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اللِّعَانِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ قَطْعُ النَّسَبِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ بَعْدَ أَنْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ وَلَا يُقْطَعُ النَّسَبُ (كَمَا يَصِحُّ بِلَا وَلَدٍ) أَصْلًا بِأَنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَلَا وَلَدَ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ وَلَا وَلَدَ هُنَاكَ يُقْطَعُ نَسَبُهُ، وَأَمَّا إنَّهُ لَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِ امْرَأَتِهِ الْآيِسَةِ فَإِنَّهُ يَنْتَفِي النَّسَبُ فَيَثْبُتُ انْفِكَاكُ اللِّعَانِ عَنْ قَطْعِ النَّسَبِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَحِيحٌ لَكِنْ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْجَوَابِ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ) أَيْ الزَّوْجُ الَّذِي جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ (لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّهُ) إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ ابْنُهَا (أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ) فَكَانَ نَفْيُ كَوْنِهِ ابْنَهُ لِنَفْيِ وِلَادَتِهَا إيَّاهُ. وَبِنَفْيِ وِلَادَتِهَا لَا يَصِيرُ قَاذِفًا لِأَنَّهُ إنْكَارٌ لِلزِّنَا مِنْهَا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً وَمَعَهَا أَوْلَادٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ أَبٌ أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ وَالْوَلَدُ حَيٌّ) وَقْتَ الْقَذْفِ أَوْ مَيِّتٌ (فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ). أَمَّا لَوْ قَذَفَ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ نَفْسَهُ أَوْ وَلَدَ الزِّنَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَلَوْ أَنَّهُ بَعْدَ اللِّعَانِ ادَّعَى الْوَلَدَ فَحُدَّ أَوْ لَمْ يُحَدَّ حَتَّى مَاتَ فَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ فَقَذَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ قَاذِفٌ غَيْرُهُ أَوْ هُوَ قَبْلَ مَوْتِهِ حُدَّ، وَلَا يُحَدُّ الَّذِي قَذَفَهَا قَبْلَ تَكْذِيبِ نَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ ادَّعَاهُ وَهُوَ يُنْكِرُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَيُحَدُّ.

وَمَنْ قَذَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ صُورَةِ الزَّوَانِي، وَلَوْ قَذَفَهَا الزَّوْجُ فَرَافَعَتْهُ وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ وَجْهِ عَدَمِ الْحَدِّ فِي ذَاتِ الْأَوْلَادِ قِيَامُ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرًا إلَيْهَا: أَيْ إلَى الْإِمَارَةِ (وَهِيَ) أَيْ الْعِفَّةُ (شَرْطٌ) وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنْ صَحَّ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ مِنْ قَوْلِهِ «وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَدَّعِيَ وَلَدَهَا لِأَبٍ وَلَا يَرْمِيَ وَلَدَهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ» ، وَكَذَا

ص: 334

(وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِانْعِدَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا.

فَقَالَ (وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ) لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ، وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ،

مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَلَدِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُ يَرِثُ أُمَّهُ وَتَرِثُهُ أُمُّهُ، وَمَنْ رَمَاهَا بِهِ جُلِدَ ثَمَانِينَ» أَشْكَلَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ جَعَلُوا قَذْفَ الْمُلَاعَنَةِ بِوَلَدٍ كَقَذْفِ الْمُلَاعَنَةِ بِلَا وَلَدٍ (وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ) بِغَيْرِ وَلَدٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الزِّنَا وَثُبُوتِ أَمَارَتِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: اللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا فَكَانَتْ كَالْمَحْدُودَةِ بِالزِّنَا فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا. أُجِيبَ بِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ فَهِيَ مُحْصَنَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّهِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا لَا إلَى غَيْرِهَا حَتَّى قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ إذَا قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي لَاعَنَتْ بِهِ لَا يُحَدُّ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُحَدَّ الزَّوْجُ لَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ اللِّعَانِ، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُحَدُّ بَلْ الْحَقُّ أَنَّهَا لَمْ يَسْقُطْ إحْصَانُهَا بِوَجْهٍ.

وَقَوْلُهُمْ اللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُحَدَّ قَاذِفُهَا لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَجُعِلَ اللِّعَانُ بَدَلَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الزِّنَا عَلَيْهَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إثْبَاتِهِ لِيَسْقُطَ إحْصَانُهَا، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَشْتَفِيَ الصَّادِقُ مِنْهُمَا حَيْثُ يَتَضَاعَفُ بِهِ عَلَى الْكَاذِبِ عَذَابُهُ بِأَنْ يُضَافَ إلَى عَذَابِ الزِّنَا عَذَابُ الشَّهَادَاتِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْأَيْمَانِ الْغَمُوسَةِ، أَوْ يُضَافَ ذَلِكَ إلَى عَذَابِ الِافْتِرَاءِ وَالْقَذْفِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِنَفْيِ الْوَلَدَ لِأَنَّ أَمَارَةَ الزِّنَا قَائِمَةٌ فَأَوْجَبَتْ ذَلِكَ، وَقَدْ أُوِّلَ قَوْلُهُمْ بِمَا لَا يَشْرَحُ صَدْرًا وَلَا يَرْفَعُ إصْرًا، فَالْحَقُّ أَنَّ كَوْنَهُ قَائِمًا مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَأْوِيلٍ وَأَمَّا الْجَانِبُ الْآخَرُ فَفِيهِ تَسَاهُلٌ لَا يَرْتَفِعُ، وَوُرُودُ السُّؤَالِ إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا وُرُودَ لَهُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ) شَبَّهَهُ بِالشَّرْطِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يَحْصُلُ عِنْدَهُ الْإِحْصَانُ بَلْ هُوَ مَجْمُوعُ أُمُورٍ الْعِفَّةُ أَحَدُهَا فَهُوَ جُزْءُ مَفْهُومِ الْإِحْصَانِ بِالْحَقِيقَةِ (وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ) لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ زِنًا كَذَا قِيلَ، وَهُوَ قَاصِرٌ عَلَى مَا إذَا

ص: 335

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لِعَيْنِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا فَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ، وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ

قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ أَوْ أَبْهَمَ، أَمَّا إذَا قَذَفَهُ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ فِيهِ فَيُحَدُّ، وَالْحُكْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَنْصُوصُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ زَانِيًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَذَفَ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِزِنًا آخَرَ أَوْ أَبْهَمَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ خِلَافًا لِإِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى.

وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ رَمَى الْمُحْصَنَاتِ وَفِي مَعْنَاهُ الْمُحْصَنِينَ وَبِالزِّنَا لَا يَبْقَى الْإِحْصَانُ فَرَمْيُهُ رَمْيُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَلَا دَلِيلَ يُوجِبُ الْحَدَّ فِيهِ، نَعَمْ هُوَ مُحَرَّمٌ وَأَذًى بَعْدَ التَّوْبَةِ فَيُعَزَّرُ (وَالْأَصْلُ) فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ الَّذِي يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ الَّذِي لَا يُسْقِطُهُ (أَنَّ مَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لِعَيْنِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ) عَلَى قَاذِفِهِ (لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَيْنِهِ) فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ كَانَ زَانِيًا فَيُصَدَّقُ قَاذِفُهُ فَلَا يَكُونُ فِرْيَةً وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ (وَإِنْ كَانَ) وَطِئَ وَطْئًا (مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ يُحَدُّ) قَاذِفُهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لَيْسَ بِزِنًا إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْمُحَرَّمُ (لِعَيْنِهِ) هُوَ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَوَطْءِ الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُكْرَهَةِ.

وَأَعْنِي أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً يَسْقُطُ إحْصَانُهَا فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا. فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يُسْقِطُ الْإِثْمَ. وَلَا يَخْرُجُ الْفِعْلُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ زِنًا فَلِذَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا كَمَا يَسْقُطُ إحْصَانُ الْمُكْرَهِ الْوَاطِئِ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَأَمَةِ غَيْرِهِ (أَوْ مِنْ وَجْهٍ) كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ كَوَطْءِ أَمَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً كَالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَوَطْءِ أَمَتَيْهِ الْأُخْتَيْنِ أَوْ الزَّوْجَةِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ (وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ) فِي ثُبُوتِ حَدِّ الْقَاذِفِ لِلْوَاطِئِ فِي الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ (كَوْنَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ) كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا الِابْنُ أَوْ اشْتَرَاهَا فَوَطِئَهَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي عُقْدَةٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ جَمَعَهُمَا فِي الْعَقْدِ فَوَطِئَ الْأَمَةَ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَظَرَ إلَى دَاخِلِ فَرْجِ امْرَأَةٍ أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ بِحَيْثُ انْتَشَرَ مَعَهُ ذَكَرُهُ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا أَوْ أُمَّهَا أَوْ اشْتَرَاهَا فَوَطِئَهَا حُدَّ قَاذِفُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يُحَدُّ عِنْدَهُمَا لِتَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلِاخْتِلَافِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَزْنِيَّةَ أَبِيهِ فَوَطِئَهَا فَيَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ إنَّمَا يَعْتَبِرُ الْخِلَافَ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ عَلَى الْحُرْمَةِ بِأَنْ ثَبَتَتْ بِقِيَاسٍ أَوْ احْتِيَاطٍ كَثُبُوتِهَا بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا لِإِقَامَةِ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبِّبِ احْتِيَاطًا فَهِيَ حُرْمَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يَنْتَفِي بِهَا الْإِحْصَانُ الثَّابِتُ بِيَقِينٍ، بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِزِنَا الْأَبِ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَلَا يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَكَذَا وَطِئَ الْأَبُ جَارِيَةَ ابْنِهِ مُسْقِطٌ

ص: 336

أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ لِتَكُونَ ثَابِتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ (وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ (وَكَذَا إذَا قَذَفَ امْرَأَةً زَنَتْ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا) لِتَحَقُّقِ الزِّنَا مِنْهَا شَرْعًا لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ.

(وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا أَتَى أَمَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ مُكَاتَبَةٌ لَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَهِيَ مُؤَقَّتَةٌ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِالْوَطْءِ، وَنَحْنُ نَقُولُ مِلْكُ الذَّاتِ بَاقٍ وَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ إذْ هِيَ مُؤَقَّتَةٌ.

لِلْإِحْصَانِ.

وَقَوْلُهُ (أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ) مِثَالُهُ حُرْمَةُ وَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ لِلْأَبِ بِلَا شُهُودٍ عَلَى الِابْنِ بِنَاءً عَلَى ادِّعَاءِ شُهْرَةِ حَدِيثِ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَلِذَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. وَحُرْمَةُ وَطْءِ أَمَتِهِ الَّتِي هِيَ خَالَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ عَمَّتُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» .

(قَوْلُهُ بَيَانُهُ) شُرُوعٌ فِي تَفْرِيعِ فُرُوعٍ أُخْرَى عَلَى الْأَصْلِ (إذَا قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ) فَالْقَاذِفُ صَادِقٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ الْمُقَارِنَةِ لِثُبُوتِ الْمُوجِبِ. بِخِلَافِ رُجُوعِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لَا يُعْمَلُ هَاهُنَا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقَارِنْهُ بَلْ وَقَعَ مُتَأَخِّرًا. وَالْفَرْضُ أَنَّ بِالْإِقْرَارِ تَقَرَّرَ حَقُّ آدَمِيٍّ لَمْ تَعْمَلُ الشُّبْهَةُ اللَّاحِقَةُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ اللَّاحِقَةَ بَعْدَ تَقَرُّرِ حَقِّ الْآدَمِيِّ لَا تَرْفَعُهُ. فَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ الرُّجُوعُ عَامِلًا فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ.

(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا قَذَفَ امْرَأَةً زَنَتْ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا) أَوْ رَجُلًا زَنَا فِي نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَالْمُرَادُ قَذْفُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِزِنًا كَانَ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا بِأَنْ قَالَ زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِمُعْتَقٍ زَنَى وَهُوَ عَبْدٌ زَنَيْتَ وَأَنْتَ عَبْدٌ لَا يُحَدُّ، كَمَا لَوْ قَالَ قَذَفْتُك بِالزِّنَا وَأَنْتِ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالٍ لَوْ عَلِمْنَا مِنْهُ صَرِيحَ الْقَذْفِ لَمْ يَلْزَمْ حَدُّهُ، لِأَنَّ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ وَلِذَا يُقَامُ الْجَلْدُ عَلَيْهِ حَدًّا، بِخِلَافِ الرَّجْمِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالْإِسْلَامِ، وَكَذَا الْعَبْدُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ بِحَيْثُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ لَا، حَتَّى إنَّ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ إذَا زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الزِّنَا تَحَقَّقَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَكُونُ قَاذِفُهُ صَادِقًا.

وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ الْإِثْمُ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا

(وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا أَتَى أَمَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ) أَوْ مُزَوَّجَةٌ أَوْ الْمُشْتَرَاةُ شِرَاءً فَاسِدًا (أَوْ أَمَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ) أَوْ مُظَاهِرٌ مِنْهَا أَوْ صَائِمَةٌ صَوْمَ فَرْضٍ وَهُوَ عَالِمٌ بِصَوْمِهَا (أَوْ مُكَاتَبَتَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ الْفَاسِدَ يُوجِبُ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ مِلْكٌ فَلِذَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِالْوَطْءِ فِيهِ فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ (لِأَنَّ الْحُرْمَةَ) فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ التَّقَادِيرِ (مُؤَقَّتَةٌ) مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ فِيهَا لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا، لِأَنَّ الزِّنَا مَا كَانَ بِلَا مِلْكٍ قَالَ تَعَالَى {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِأَنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلِهَذَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ الْعُقْرُ) لَهَا، وَلَوْ بَقِيَ الْمِلْكُ شَرْعًا مِنْ وَجْهٍ لِمَا لَزِمَهُ وَإِنْ حَرُمَ كَوَطْءِ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْحَائِضِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنْ قُلْتُمْ إنَّ مِلْكَ الذَّاتِ انْتَفَى مِنْ وَجْهٍ كَالْمُشْتَرَكَةِ فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ مِلْكَ الْوَطْءِ انْتَفَى سَلَّمْنَاهُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْحَدِّ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحُرْمَةَ لِغَيْرِهِ إذْ هِيَ مُؤَقَّتَةٌ، وَوُجُوبُ الْعُقْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْإِحْصَانِ كَالرَّاهِنِ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ وَهِيَ بِكْرٌ يَلْزَمُهُ

ص: 337

(وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً لَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ لِمَكَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ.

(وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَزَوُّجَ الْمَجُوسِيِّ بِالْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا. وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ) لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَيَكُونَ مُلْتَزَمًا أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَمُوجِبُ أَذَاهُ الْحَدُّ (وَإِذَا حُدَّ الْمُسْلِمُ فِي قَذْفٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ إذَا تَابَ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي الشَّهَادَاتِ (وَإِذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ) لِأَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ عَلَى جِنْسِهِ فَتُرَدُّ تَتِمَّةً لَحَدِّهِ (فَإِنْ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ

الْعُقْرُ وَلَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ.

ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ

(وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ) وَقَوْلُهُ (وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِوَطْئِهَا لَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ رحمهم الله لِقِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَ كَوَطْءِ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ. وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْمَجُوسِيَّةِ وَنَحْوِهَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهَا فَكَانَتْ مُؤَقَّتَةً، أَمَّا حُرْمَةُ الرَّضَاعِ لَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهَا فَلَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْحِلِّ أَصْلًا فَكَيْفَ يُجْعَلُ لِغَيْرِهِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ) فِي شَرْطِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْإِحْصَانُ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي إحْصَانِهِ، وَبِهِ يَسْقُطُ الْحَدُّ وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ الْإِحْصَانِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ إلَخْ) يَعْنِي وَلَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيٌّ بِأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ بِنْتِهِ (ثُمَّ أَسْلَمَ) فَفُسِخَ نِكَاحُهُمَا فَقَذَفَهُ مُسْلِمٌ فِي حَالِ إسْلَامِهِ يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ أَنْكِحَتَهُمْ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَا: لَا يُحَدُّ) بِنَاءً عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ، وَقَوْلُهُمَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَيَكُونَ مُلْتَزِمًا بِالضَّرُورَةِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ طَمِعَ أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَكَانَ مُلْتَزِمًا مُوجِبَ أَذَاهُ وَهُوَ الْحَدُّ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا حُدَّ الْمُسْلِمُ فِي قَذْفٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ) عِنْدَنَا لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ عِنْدَنَا مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فَعِنْدَهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ كَالتَّائِبِ مِنْ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي (وَهِيَ) خِلَافِيَّةٌ (تُعْرَفُ فِي الشَّهَادَاتِ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(قَوْلُهُ وَإِذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ) وَهَذَا لِأَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ عَلَى جِنْسِهِ عَلَى مَا عُرِفَ عِنْدَنَا، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ حَدِّ الْقَذْفِ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ (فَإِذَا أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ

ص: 338

تَحْتَ الرَّدِّ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ أُعْتِقَ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا فِي حَالِ الرِّقِّ فَكَانَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ.

(وَإِنْ ضُرِبَ سَوْطًا فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ مَا بَقِيَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ) لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ وَالْمُقَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ

تَحْتَ الرَّدِّ) لِأَنَّ النَّصَّ يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِ الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْقَذْفِ وَلَيْسَتْ فِيهِ تِلْكَ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ الْمَحْدُودُ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ أَبَدًا، وَالرِّدَّةُ مَا زَادَتْهُ إلَّا شَرًّا فَبِالْإِسْلَامِ لَمْ تَحْدُثْ لَهُ شَهَادَةٌ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا قُبِلَتْ مُطْلَقًا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ غَيْرِهِمْ، وَبِهِ انْدَفَعَ مَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَقَدْ رُدَّتْ بِالْقَذْفِ. قُلْنَا: إنَّ هَذِهِ أُخْرَى نَافِذَةٌ عَلَى الْكُلِّ لَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ أَوْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِتَبَعِيَّتِهِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ فَقَطْ أَبَدًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِلرِّقِّ وَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ يُرَدُّ شَهَادَتُهُ مَعَ الْجَلْدِ فَيَنْصَرِفُ إلَى رَدِّ مَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مُقْتَضَى النَّصِّ عَدَمُ قَبُولِ كُلِّ شَهَادَةٍ لَهُ حَادِثَةٍ أَوْ قَائِمَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وَالْحَادِثَةُ شَهَادَةٌ وَاقِعَةٌ فِي الْآبَادِ فَمُقْتَضَى النَّصِّ رَدُّهَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا فِي الْوُسْعِ فَحِينَئِذٍ كُلِّفَ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ، وَالِامْتِثَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ شَهَادَةٍ قَائِمَةٍ إنْ كَانَتْ وَإِلَّا فِيمَا يُحْدِثُ، وَإِذَا كَانَتْ لَهُ شَهَادَةٌ قَائِمَةٌ فَرُدَّتْ تَحَقَّقَ الِامْتِثَالُ وَتَمَّ، فَلَوْ حَدَثَتْ أُخْرَى فَلَوْ رُدَّتْ كَانَ بِلَا مُقْتَضٍ إذْ الْمُوجَبُ أَخْذُ مُقْتَضَاهُ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ ضُرِبَ) يَعْنِي الْكَافِرَ (سَوْطًا فِي) حَدِّ (قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ مَا بَقِيَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ) أَيْ لِلْحَدِّ (وَالْمَقَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ

ص: 339

بَعْضُ الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذْ الْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

قَالَ (وَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ)

بَعْضُ الْحَدِّ) وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَلَمْ يَكُنْ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لَهُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذْ الْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) لِمَا ذَكَرْنَا وَعُرِفَ أَنَّهُ لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأُقِيمَ الْبَاقِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْمُقَامَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْحَدِّ كَذَلِكَ الْمُقَامُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ صِفَةً، وَأَيْضًا جَعْلُهُ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْلَى لَمَّا أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ وَصْفَيْنِ فَالِاعْتِبَارُ لِلْوَصْفِ الْآخَرِ. أُجِيبَ بِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِالْجَلْدِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْقَبُولِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُرَتَّبًا عَلَى الْآخَرِ فَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يُمْكِنُ، وَالْمُمْكِنُ رَدُّ شَهَادَةٍ قَائِمَةٍ لِلْحَالِ فَيَتَقَيَّدُ النَّهْيُ بِهِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى قَوْلِهِ صِفَةً لَهُ بَلْ هُوَ تَقْرِيرٌ آخَرُ. وَأَصْلُ هَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَالْمَبْسُوطِ قَالَ: لَا تَسْقُطُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يُضْرَبْ تَمَامَ الْحَدِّ إذَا كَانَ عَدْلًا، ثُمَّ قَالَ وَالْحَدُّ لَا يَتَجَزَّأُ فَمَا دُونَهُ يَكُونُ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا، وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلشَّهَادَةِ، قَالَ: وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَالثَّانِيَةُ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَدِّ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مُقَامَ الْكُلِّ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَالثَّالِثَةُ إذَا ضُرِبَ سَوْطًا وَاحِدًا سَقَطَتْ، قَالَ وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ فِي النَّصْرَانِيِّ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ) سَوَاءٌ قَذَفَ وَاحِدًا مِرَارًا أَوْ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ كَقَوْلِهِ أَنْتُمْ زُنَاةٌ أَوْ بِكَلِمَاتٍ كَأَنْ يَقُولَ يَا فُلَانُ أَنْتَ زَانٍ وَفُلَانٌ زَانٍ حَتَّى إذَا حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَادَّعَى وَحُدَّ لِذَلِكَ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ فَادَّعَى أَنَّهُ قَذَفَهُ لَا يُقَامُ إذَا كَانَ بِقَذْفٍ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ، لِأَنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ كُلِّهِمْ فَلَا يُحَدُّ ثَانِيًا إلَّا إذَا كَانَ بِقَذْفٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ. وَحُكِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى سَمِعَ مَنْ يَقُولُ لِشَخْصٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَحَدَّهُ حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: يَا لَلْعَجَبِ لِقَاضِي بَلَدِنَا أَخْطَأَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ: أَخَذَهُ بِدُونِ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ خَاصَمَ وَجَبَ حَدٌّ وَاحِدٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُ حَدَّيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَبَّصَ بَيْنَهُمَا يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى يَخِفَّ أَثَرُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. الرَّابِعُ: ضَرَبَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْخَامِسُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّفَ أَنَّ وَالِدَيْهِ فِي الْأَحْيَاءِ أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ فَالْخُصُومَةُ لَهُمَا وَإِلَّا فَالْخُصُومَةُ لِلِابْنِ. وَمِنْ فُرُوعِ التَّدَاخُلِ أَنَّهُ لَوْ ضُرِبَ الْقَاذِفُ تِسْعَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا ثُمَّ قَذَفَ قَذْفًا آخَرَ لَا يُضْرَبُ إلَّا ذَلِكَ السَّوْطَ الْوَاحِدَ لِلتَّدَاخُلِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْحَدَّانِ، لِأَنَّ كَمَالَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ، وَسَنَذْكُرُ مِنْهُ أَيْضًا فِي فُرُوعٍ نَخْتِمُ بِهَا. وَقَوْلُهُ (غَيْرَ مَرَّةٍ) يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ: أَيْ مَنْ زَنَى غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ شَرِبَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ

ص: 340

أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الِانْزِجَارُ، وَاحْتِمَالُ حُصُولِهِ بِالْأَوَّلِ قَائِمٌ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَسَرَقَ وَشَرِبَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَتَدَاخَلُ. وَأَمَّا الْقَذْفُ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ اخْتَلَفَ الْمَقْذُوفُ أَوْ الْمَقْذُوفُ بِهِ وَهُوَ الزِّنَا لَا يَتَدَاخَلُ، لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ.

مَرَّةً فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ مِمَّا سَبَقَ مِنْهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَذْفَ جَمَاعَةٍ بِكَلِمَةٍ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلٍ وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ أَوْ قَذَفَ وَاحِدًا مَرَّاتٍ بِزِنًا آخَرَ يَجِبُ لِكُلِّ قَذْفٍ حَدٌّ. وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ وَلَا تَفْصِيلَ بَلْ لَا تَعَدُّدَ كَيْفَمَا كَانَ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ وَطَاوُسٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا وَاحْتَجَّا بِأَنَّ مُقْتَضَى الْآيَةِ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْعِرِ بِالْعِلِّيَّةِ فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ عَلَى مَا عُرِفَ.

وَفِي الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ لَا يَتَدَاخَلُ وَلَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَلَنَا مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ (أَمَّا الْأَوَّلَانِ) وَهُوَ كُلٌّ مِنْ الزِّنَا وَالشُّرْبِ (فَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الِانْزِجَارُ) عَنْ فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (وَاحْتِمَالُ حُصُولِهِ) بِالْحَدِّ الْوَاحِدِ الْمُقَامِ بَعْدَ الزِّنَا الْمُتَعَدِّدِ مِنْهُ وَالشُّرْبِ الْمُتَعَدِّدِ (قَائِمٌ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي الثَّانِي) وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ بِالْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى يَجِبُ حَدٌّ آخَرُ لِتَيَقُّنِنَا بِعَدَمِ انْزِجَارِهِ بِالْأَوَّلِ، وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمَّا كَانَ عَلَى دَفْعِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ كَانَ مُقَيَّدًا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ التَّكْرَارِ عِنْدَ التَّكَرُّرِ بِالتَّكَرُّرِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ، بَلْ هَذَا ضَرُورِيٌّ فَإِنَّك عَلِمْت أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْإِقَامَةِ فِي قَوْلِهِ {فَاجْلِدُوهُمْ} الْأَئِمَّةُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ هَذَا الْخِطَابُ إلَّا بَعْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُمْ فَكَانَ حَاصِلُ النَّصِّ إيجَابَ الْحَدِّ إذَا ثَبَتَ السَّبَبُ عِنْدَهُمْ أَعَمَّ مِنْ كَوْنِهِ بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ أَوْ الْقِلَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُهُ مِنْهُ كَثِيرًا كَانَ مُوجِبًا لِجَلْدِ مِائَةٍ أَوْ ثَمَانِينَ لَيْسَ غَيْرُ، فَإِذَا جُلِدَ ذَلِكَ وَقَعَ الِامْتِثَالُ، ثُمَّ هُوَ أَيْضًا تَرَكَ مُقْتَضَى التَّكَرُّرِ بِالتَّكَرُّرِ فِيمَا إذَا قَذَفَ وَاحِدًا مَرَّةً ثُمَّ قَذَفَهُ ثَانِيًا بِذَلِكَ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَا يُحِدُّهُ مَرَّتَيْنِ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَهُ بِالْآيَةِ لَا يُخَلِّصُهُ فَإِنَّهُ يُلْجِئُ إلَى تَرْكِ مِثْلِهَا مِنْ آيَةِ حَدِّ الزِّنَا فَيَعُودُ إلَى أَنَّ هَذَا حَقُّ آدَمِيٍّ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَكَانَ الْمَبْنِيُّ إثْبَاتَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقِّ آدَمِيٍّ، فَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَخْصَرُ وَأَصْوَبُ.

وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقَذْفُ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مُلْحَقًا بِهِمَا) لَا حَاجَةَ إلَى إلْحَاقِهِ، بَلْ عَيْنُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ يَجْرِي فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ حَدٌّ شُرِعَ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ عَنْ الْأَعْرَاضِ، فَحَيْثُ أُقِيمَ ثَبَتَتْ شُبْهَةٌ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ، وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي الْخُصُومَةِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ لَيْسَ غَيْرُ.

(قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَشَرِبَ وَسَرَقَ) ثُمَّ أَخَذَ يَعْنِي الْأَسْبَابَ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَيْثُ تَجِبُ الْحُدُودُ الْمُخْتَلِفَةُ كُلُّهَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَدِّ الْخَمْرِ صِيَانَةُ الْعُقُولِ، وَمِنْ حَدِّ الزِّنَا صِيَانَةُ الْأَنْسَابِ، وَمِنْ حَدِّ الْقَذْفِ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ، وَثَبَتَ كُلٌّ بِخِطَابٍ يَخُصُّهُ، فَلَوْ حَدَدْنَا فِي الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ حَدًّا وَاحِدًا عَطَّلْنَا نَصًّا مِنْ النُّصُوصِ عَنْ مُوجِبِهِ.

[فُرُوعٌ]

ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَالشُّرْبَ وَالْقَذْفَ وَفَقْءَ عَيْنِ رَجُلٍ يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ

ص: 341

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إذَا بَرِئَ أَخْرَجَهُ فَحَدَّهُ لِلْقَذْفِ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِحَقِّهِ، فَإِذَا بَرِئَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ، لِأَنَّ كُلًّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ثَابِتٌ بِنَصٍّ يُتْلَى، وَيَجْعَلُ حَدَّ الشُّرْبِ آخِرَهَا فَإِنَّهُ أَضْعَفُ لِأَنَّهُ بِمَا لَا يُتْلَى، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ عَلِيٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسُنَّهُ» وَكُلَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ حَدًّا حَبَسَهُ حَتَّى يَبْرَأَ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ رُبَّمَا يَهْرَبُ فَيَصِيرُ الْإِمَامُ مُضَيِّعًا لِلْحُدُودِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا اقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ وَضَرَبَهُ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ رَجَمَهُ، لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهَا قَتْلُ نَفْسٍ قُتِلَ وَتُرِكَ مَا سِوَى ذَلِكَ.

هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْهُ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا دُونَهُ لَا يُفِيدُ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ لَوْ أَتْلَفَهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلِهَذَا يَضْمَنُهُ فَيُؤْمَرُ بِإِيفَائِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا قَوَدٌ وَلَا تَعْزِيرٌ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ إنْ أَرَادَ أَنْ يُقَامَ بِحَضْرَتِهِ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ «كَمَا فَعَلَ عليه الصلاة والسلام فِي الْغَامِدِيَّةِ» ، أَوْ يَبْعَثُ أَمِينًا «كَمَا فَعَلَ عليه الصلاة والسلام فِي مَاعِزٍ» ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ فِي الْقَذْفِ إذَا أَنْكَرَهُ.

وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِالنُّكُولِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْحُدُودِ لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا بَذْلٌ وَالْبَذْلُ لَا يَكُونُ فِي الْحُدُودِ أَوْ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ، وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِفُ عَلَى سَبَبِهِمَا، وَيَسْتَحْلِفُ فِي السَّرِقَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السَّرِقَةِ أَخْذُ الْمَالِ بِقَيْدٍ فَيَحْلِفُ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ لَا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ، وَعِنْدَ نُكُولِهِ يَقْضِي بِمُوجَبِ الْأَخْذِ وَهُوَ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ ثَبَتَ الْأَخْذُ فَيَضْمَنُ وَلَا يُقْطَعُ، وَإِذَا أَقَامَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً بِالْقَذْفِ سَأَلَهُمَا الْقَاضِي عَنْ الْقَذْفِ مَا هُوَ وَعَنْ خُصُوصِ مَا قَالَ لِأَنَّ الرَّمْيَ بِغَيْرِ الزِّنَا قَدْ يَظُنُّونَهُ قَذْفًا فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِفْسَارِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ قَذَفَهُ لَا يُحَدُّ، وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ قَالَ يَا زَانِي وَهُمْ عُدُولٌ حُدَّ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي عَدَالَتَهُمْ حَبَسَ الْقَاذِفَ حَتَّى يُزَكُّوا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ أَعْرَاضٍ فِي النَّاسِ فَيُحْبَسُ فِي هَذِهِ التُّهْمَةِ وَلَا يَكْفُلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الزِّنَا فَارْجِعْ إلَيْهِ وَلَا تَكَفُّلَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا يَحْبِسُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ، وَلِهَذَا لَا يُحْبَسُ عِنْدَهُمَا فِي دَعْوَى حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تَكْفِيلَ بِنَفْسِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْزِئُ فِي إيفَائِهِمَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَفَالَةِ إقَامَةُ الْكَفِيلِ مُقَامَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي الْإِيفَاءِ. وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ.

فَأَمَّا أَخْذُ الْكَفِيلِ بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ فَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يُلَازِمُهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَا: حَدُّ الْقَذْفِ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ مِثْلُ حُقُوقِ الْعِبَادِ.

وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي مِنْ حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الْخَصْمِ لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: هَذَا احْتِيَاطٌ وَالْحُدُودُ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا لَا فِي إثْبَاتِهَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ: مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرُهُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ، فَأَمَّا إذَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ نَفْسَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَالْكَفِيلُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهَذَا الْقَدْرِ، فَأَمَّا إنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي بِالْعَدَالَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُقِمْ أَحَدًا وَلَا يُلَازِمُهُ إلَّا إلَى آخَرِ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ حَبَسَهُ إذَا قَالَ إنَّ لَهُ شَاهِدًا آخَرَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً هَذَا الْمِقْدَارُ اسْتِحْسَانٌ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

ص: 342

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ، وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْبِسُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْقَذْفِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا يُمْنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، فَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ لَا يُقْضَى بِهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي إقْرَارِهِ بِالْقَذْفِ وَإِنْشَائِهِ لَهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْقَذْفُ قَوْلٌ قَدْ يُكَرَّرُ فَيَكُونُ حُكْمُ الثَّانِي حُكْمَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ، إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ هُنَاكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْإِنْشَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ كَانَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ، وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي اللُّغَةِ الَّتِي وَقَعَ الْقَذْفُ بِهَا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللُّغَةِ يَتَمَكَّنُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّرَاحَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا لَوْ أَشْهَدَ أَحَدَهُمَا أَنَّهُ قَالَ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَالْآخَرَ لَسْت لِأَبِيك، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَا يُحَدُّ، وَلَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ كِتَابُ الْقَاضِي وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ.

وَلَوْ قَالَ الْقَاذِفُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَذْفِ عِنْدَ الْقَاضِي عِنْدِي بَيِّنَةٌ تُصَدِّقُ قَوْلِي أُجِّلَ مِقْدَارَ قِيَامِ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ وَيُقَالُ لَهُ ابْعَثْ إلَى شُهُودِك. وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَأْتِي بِهِمْ أُطْلِقَ عَنْهُ وَبَعَثَ مَعَهُ بِوَاحِدٍ مِنْ شُرَطِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يُفْتَقَرْ إلَى هَذَا لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَدَّ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِتَأْخِيرِ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَإِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ قَلِيلٌ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ كَالتَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْجَلَّادُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُسْتَأْنَى بِهِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِأَنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِشَرْطِ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ وَالْعَجْزُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِمْهَالِ، كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ادَّعَى طَعْنًا فِي الشُّهُودِ يُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي. وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا، وَعُرِفَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا أَرْبَعَةٌ، فَلَوْ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ حُدَّ هُوَ وَالثَّلَاثَةُ، قَالَ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} فَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى إقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا يُدْرَأُ عَنْ الْقَاذِفِ الْحَدُّ وَعَنْ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَكَأَنَّا سَمِعْنَا إقْرَارَهُ بِالزِّنَا، إلَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِقْرَارِ إسْقَاطُ الْحَدِّ لَا إقَامَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ وَلَوْ كَثُرَتْ الشُّهُودُ، وَلَوْ زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ أَوْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْ ارْتَدَّ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَكَذَا إذَا خَرِسَ أَوْ عَتِهَ وَلَكِنْ لَا لِزَوَالِ إحْصَانِهِ بَلْ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا صَدَّقَهُ، وَلَا يُلَقِّنُ الْقَاضِي لِلشُّهُودِ مَا تَتِمُّ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي الْحُدُودِ.

(جِنْسٌ آخَرُ)

تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَزَنَى النَّاسِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ الْمَبْسُوطِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ قَالَ: أَنْتِ أَزَنَى النَّاسِ أَوْ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ أَزَنَى مِنِّي لَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ أَنْتَ أَزَنَى مِنِّي حُدَّ الرَّجُلُ وَحْدَهُ.

وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ مَا رَأَيْت زَانِيَةً خَيْرًا مِنْك لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ وَطِئَكِ فُلَانٌ وَطْئًا حَرَامًا أَوْ فَجَرَ بِكَ أَوْ جَامَعَك حَرَامًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّك زَانٍ أَوْ أُشْهِدْتُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ زَنَيْت وَفُلَانٌ مَعَك يَكُونُ قَاذِفًا لَهُمَا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ لَا مَعِيَّةَ حَالَ الزِّنَا فَانْصَرَفَ إلَى مَعِيَّةِ الْفِعْلِ دُونَ الْحُضُورِ، وَمَنْ قَالَ لَسْت لِأَبَوَيْك لَا يَكُونُ قَاذِفًا وَهُوَ ظَاهِرٌ لَسْت لِإِنْسَانٍ لَسْت لِرَجُلٍ لَيْسَ قَذْفًا. رَجُلٌ قَذَفَ وَلَدَهُ أَوْ وَلَدَ وَلَدِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ أَخَاهُ أَوْ عَمَّهُ حُدَّ. قَالَ لِرَجُلٍ قُلْ لِفُلَانٍ يَا زَانِي

ص: 343

‌فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ

فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ لِلْمُرْسَلِ إلَيْهِ فُلَانٌ يَقُولُ لَك يَا زَانِي لَا حَدَّ عَلَى الرَّسُولِ وَلَا عَلَى الْمُرْسِلِ، وَإِنْ قَالَ لَهُ يَا زَانِي حُدَّ الرَّسُولُ خَاصَّةً. وَلَوْ قَذَفَ مَيِّتَةً فَصَدَّقَهُ ابْنُهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِقَذْفِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ أَوْ يَا ابْنَ الْحَائِكِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنِي لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَلَطُّفٌ. وَكَذَا لَوْ قَالَ يَا ابْنَ النَّصْرَانِيِّ أَوْ يَا ابْنَ الْيَهُودِيِّ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: رَجُلٌ قَالَ فِي مَيِّتٍ لَمْ يَشْرَبْ الْخَمْرَ وَلَمْ يَزْنِ فَقَالَ أحرجه كُرْده سِتّ لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِشَارَةٍ إلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَلَوْ قَالَ أَيْنَ حمه كُرْده سِتّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ وَلَمْ يُكَنِّهِ. وَلَوْ قَالَ وَلَا أَيْنَ حمه كُرْده است يَكُونُ قَذْفًا، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ فِعْلُ الْكُلِّ. وَمَعْنَى الثَّانِي فِعْلُ هَذِهِ كُلِّهَا. وَمَعْنَى الثَّالِثِ هُوَ فِعْلُ هَذِهِ كُلِّهَا.

وَفِي الْفَتَاوَى: قَالَ لِرَجُلَيْنِ: أَحَدُكُمَا زَانٍ، فَقَالَ لَهُ هَذَا هُوَ لِأَحَدِهِمَا فَقَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَذْفِ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا. وَلَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ كُلُّكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْقَذْفَ فِيهِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمُسْتَثْنَى.

وَمِنْ فُرُوعِ تَدَاخُلِ حَدِّ الْقَذْفِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: عَبْدٌ قَذَفَ حُرًّا فَأَعْتَقَ فَقَذَفَ آخَرَ فَاجْتَمَعَا ضُرِبَ ثَمَانِينَ، وَلَوْ قَذَفَ الْأَوَّلَ فَضُرِبَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ الْآخَرُ تَمَّمَ لَهُ الثَّمَانِينَ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ وَقَعَ لَهُمَا يَبْقَى الْبَاقِي أَرْبَعِينَ، وَلَوْ قَذَفَ آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الثَّانِي تَكُونُ الثَّمَانُونَ لَهُمَا جَمِيعًا، وَلَا يُضْرَبُ ثَمَانِينَ مُسْتَأْنَفًا لِأَنَّ مَا بَقِيَ تَمَامُهُ حَدُّ الْأَحْرَارِ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْأَحْرَارُ وَهَذَا مَا وَعَدْنَاهُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَا رُوسِيَّ يُحَدُّ. وَلَوْ قَالَ يَا قَحْبَةَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ.

(فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ)

لَمَّا قَدَّمَ الْحُدُودَ الْمُقَدَّرَةَ بِالنُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ وَهِيَ أَوْكَدُ أَتْبَعَهَا التَّعْزِيرَ الَّذِي هُوَ دُونَهَا فِي الْمِقْدَارِ وَالدَّلِيلِ

ص: 344

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَالتَّعْزِيرُ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالرَّدْعِ. وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} أَمَرَ بِضَرْبِ الزَّوْجَاتِ تَأْدِيبًا وَتَهْذِيبًا. وَفِي الْكَافِي قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا تَرْفَعْ عَصَاك عَنْ أَهْلِك» وَرُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَزَّرَ رَجُلًا قَالَ لِغَيْرِهِ يَا مُخَنَّثُ». وَفِي الْمُحِيطِ: رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَلَّقَ سَوْطَهُ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُهُ» وَأَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرٍ إلَّا فِي حَدٍّ» وَسَيَأْتِي.

وَقَوْلُهُ «وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ» فِي الصِّبْيَانِ، فَهَذَا دَلِيلُ شَرْعِيَّةِ التَّعْزِيرِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ. وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الزَّجْرَ عَنْ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ كَيْ لَا تَصِيرَ مَلَكَاتٌ فَيَفْحُشُ وَيَسْتَدْرِجُ إلَى مَا هُوَ أَقْبَحُ وَأَفْحَشُ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ عَنْ السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْزَجِرُ بِالصَّيْحَةِ وَمِنْهُمْ يَحْتَاجُ إلَى اللَّطْمَةِ وَإِلَى الضَّرْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحَبْسِ.

وَفِي الشَّافِي: التَّعْزِيرُ عَلَى مَرَاتِبَ: تَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْعَلَوِيَّةُ بِالْإِعْلَامِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي بَلَغَنِي أَنَّك تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَنْزَجِرُ بِهِ، وَتَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالدَّهَاقِينُ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ، وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ وَهُمْ السُّوقَةُ بِالْجَرِّ وَالْحَبْسِ، وَتَعْزِيرُ الْأَخِسَّةِ بِهَذَا كُلِّهِ وَبِالضَّرْبِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ التَّعْزِيرُ لِلسُّلْطَانِ بِأَخْذِ الْمَالِ، وَعِنْدَهُمَا وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ. وَمَا فِي الْخُلَاصَةِ سَمِعْت مِنْ ثِقَةٍ أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ إنْ رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ، أَوْ الْوَالِي جَازَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ يَجُوزُ تَعْزِيرُهُ بِأَخْذِ الْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِيَارِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ الْمَشَايِخِ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: يَجُوزُ التَّعْزِيرُ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِكُلِّ

ص: 345

(وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ)

أَحَدٍ بِعِلَّةِ النِّيَابَةِ عَنْ اللَّهِ.

وَسُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَمَّنْ وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ أَيَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ عَنْ الزِّنَا بِالصِّيَاحِ وَالضَّرْبِ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ لَا يَقْتُلُهُ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِالْقَتْلِ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ يَحِلُّ قَتْلُهَا أَيْضًا. وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الضَّرْبَ تَعْزِيرٌ يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَسِبًا، وَصَرَّحَ فِي الْمُنْتَقَى بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ. وَالشَّارِعُ وَلَّى كُلَّ أَحَدٍ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ» الْحَدِيثَ. بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ تَوْلِيَتُهَا إلَّا لِلْوُلَاةِ، وَبِخِلَافِ التَّعْزِيرِ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ بِالْقَذْفِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الدَّعْوَى لَا يُقِيمُهُ إلَّا الْحَاكِمُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَا فِيهِ، ثُمَّ التَّعْزِيرُ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّعْزِيرُ إذَا رَآهُ الْإِمَامُ وَاجِبًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ إنِّي لَقِيت امْرَأَةً فَأَصَبْت مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَطَأَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَصَلَّيْت مَعَنَا؟ قَالَ نَعَمْ، فَتَلَا عَلَيْهِ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}» وَقَالَ فِي الْأَنْصَارِيِّ: «اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» «وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِلزُّبَيْرِ فِي سَقْيِ أَرْضِهِ فَلَمْ يُوَافِقْ غَرَضَهُ إنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُعَزِّرْهُ» .

وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ مِنْ التَّعْزِيرِ كَمَا فِي وَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ يَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ إذَا رَأَى الْإِمَامُ بَعْدَ مُجَانَبَةِ هَوَى نَفْسِهِ الْمَصْلَحَةَ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُزْجَرُ إلَّا بِهِ وَجَبَ لِأَنَّهُ زَاجِرٌ مَشْرُوعٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ كَالْحَدِّ، وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِدُونِهِ لَا يَجِبُ وَهُوَ مَحْمَلُ حَدِيثِ الَّذِي ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَصَابَ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا وَهُوَ نَادِمٌ مُنْزَجِرٌ، لِأَنَّ ذِكْرَهُ لَهُ لَيْسَ إلَّا لِلِاسْتِعْلَامِ بِمُوجِبِهِ لِيَفْعَلَ مَعَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الزُّبَيْرِ فَالتَّعْزِيرُ لِحَقٍّ آدَمِيٍّ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيَجُوزُ تَرْكُهُ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: التَّعْزِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ يَجُوزُ فِيهِ الْإِبْرَاءُ وَالْعَفْوُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَيَجْرِي فِيهِ الْيَمِينُ: يَعْنِي إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ سَبَبُهُ يَحْلِفُ وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ وَحَقُّ اللَّهِ، فَحَقُّ الْعَبْدِ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ مَا ذُكِرَ.

وَأَمَّا مَا وَجَبَ مِنْهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَرْكُهُ إلَّا فِيمَا عَلِمَ أَنَّهُ انْزَجَرَ الْفَاعِلُ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِمُدَّعٍ شَهِدَ بِهِ فَيَكُونُ مُدَّعِيًا شَاهِدًا إذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ. فَإِنْ قُلْت: فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ: إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا مُرُوءَةٍ وَكَانَ أَوَّلُ مَا فَعَلَ يُوعَظُ اسْتِحْسَانًا فَلَا يُعَزَّرُ. فَإِنْ عَادَ وَتَكَرَّرَ مِنْهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُضْرَبُ وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي فِيهَا مِنْ إسْقَاطِ التَّعْزِيرِ. قُلْت: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ مَا قُلْت مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مُنَاقَضَةَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَا مُرُوءَةٍ فَقَدْ حَصَلَ تَعْزِيرُهُ بِالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالدَّعْوَى فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِحَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى فِي التَّعْزِيرِ.

وَقَوْلُهُ وَلَا يُعَزَّرُ: يَعْنِي بِالضَّرْبِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ حِينَئِذٍ بِالضَّرْبِ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ مَحْمَلِهِ حَقِّ آدَمِيٍّ مِنْ الشَّتْمِ وَهُوَ مُمْكِنٌ يَكُونُ تَعْزِيرُهُ بِمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّجُلِ يَشْتُمُ النَّاسَ: إذَا كَانَ لَهُ مُرُوءَةٌ وُعِظَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ حُبِسَ. وَإِنْ كَانَ سَبَّابًا ضُرِبَ وَحُبِسَ: يَعْنِي الَّذِي دُونَ ذَلِكَ، وَالْمُرُوءَةُ عِنْدِي فِي الدِّينِ وَالصَّلَاحِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ) بِالْإِجْمَاعِ إلَّا عَلَى قَوْلِ دَاوُد فِي الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِهِ. وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الذِّمِّيَّةِ الَّتِي لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ قَالَ: يُحَدُّ بِهِ،

ص: 346

لِأَنَّهُ جِنَايَةُ قَذْفٍ، وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ (وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ) لِأَنَّهُ آذَاهُ وَأَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ، إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَفِي الثَّانِيَةِ: الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ (وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ) لِأَنَّهُ مَا أُلْحِقَ الشَّيْنُ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ. وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا، وَقِيلَ إنْ كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنْ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ،

وَإِنَّمَا عُزِّرَ (لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْكَلَامَ (جِنَايَةُ قَذْفٍ وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ) وَمِثْلُهُ يَا لِصُّ أَوْ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا زِنْدِيقُ أَوْ يَا مَقْبُوحُ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ يَا قَرْطَبَانُ يَا مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ أَوْ يَا لُوطِيُّ أَوْ قَالَ أَنْتَ تَلْعَبُ بِالصِّبْيَانِ يَا آكِلَ الرِّبَا يَا شَارِبَ الْخَمْرِ يَا دَيُّوثُ يَا مُخَنَّثُ يَا خَائِنُ يَا مَأْوَى الزَّوَانِي يَا مَأْوَى اللُّصُوصِ يَا مُنَافِقُ يَا يَهُودِيُّ عُزِّرَ هَكَذَا مُطْلَقًا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.

وَذَكَرَهُ النَّاطِفِيُّ وَقَيَّدَهُ بِمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ صَالِحٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ لِفَاسِقٍ يَا فَاسِقُ أَوْ لِلِّصِّ يَا لِصُّ أَوْ لِلْفَاجِرِ يَا فَاجِرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالتَّعْلِيلُ يُفِيدُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُنَا إنَّهُ آذَاهُ بِمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ الشَّيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ لَمْ يُعْلَمْ اتِّصَافُهُ بِهَذِهِ، أَمَّا مَنْ عُلِمَ فَإِنَّ الشَّيْنَ قَدْ أَلْحَقَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ.

وَقِيلَ فِي يَا لُوطِيُّ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ عُزِّرَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ إنْ كَانَ فِي غَضَبٍ، قُلْت: أَوْ هَزْلٍ مِمَّنْ تَعَوَّدَ بِالْهَزْلِ بِالْقَبِيحِ، وَلَوْ قَذَفَهُ بِإِتْيَانِ مَيْتَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ عُزِّرَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى) وَهُوَ مَا إذَا قَذَفَ غَيْرَ الْمُحْصَنِ بِالزِّنَا (لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ) وَهُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا (وَفِي الثَّانِيَةِ) وَهُوَ مَا إذَا قَذَفَهُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ الْمَعَاصِي (الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ)(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ) لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى شَيْنِ مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْنٌ أَصْلًا، بَلْ إنَّمَا أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ كَانَ كَذِبُهُ ظَاهِرًا، وَمِثْلُهُ يَا بَقَرُ يَا ثَوْرُ يَا حَيَّةُ يَا تَيْسُ يَا قِرْدُ يَا ذِئْبُ يَا حَجَّامُ يَا بَغَّاءُ يَا وَلَدَ حَرَامٍ يَا عَيَّارُ يَا نَاكِسُ يَا مَنْكُوسُ يَا سُخْرَةُ يَا ضُحَكَةُ يَا كَشْحَانُ يَا أَبْلَهُ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ وَأَبُوهُ لَيْسَ بِحَجَّامٍ يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ يَا كَلْبُ يَا رُسْتَاقِيُّ يَا مُؤَاجِرُ يَا مُوَسْوِسُ لَمْ يُعَزَّرْ.

وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعَزَّرُ فِي الْكَشْحَانِ إذْ قِيلَ إنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْقَرْطَبَانِ وَالدَّيُّوثِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وَبِالْقَرْطَبَانِ فِي الْعُرْفِ الرَّجُلُ الَّذِي يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ الْمُعَرِّصُ وَالْقُوَّادُ، وَعَدَمُ التَّعْزِيرِ فِي الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ بَيْنَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَاخْتَارَ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يُعَزَّرُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُذْكَرُ لِلشَّتِيمَةِ فِي عُرْفِنَا. فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي يَا كَلْبُ لَا يُعَزَّرُ. قَالَ: وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَتِيمَةً ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ قَطْعًا انْتَهَى. وَفِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّهُ شَتِيمَةً وَلِهَذَا يُسَمُّونَ بِكَلْبٍ وَذِئْبٍ.

وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ عَنْ أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ فِي يَا خِنْزِيرُ يَا حِمَارُ يُعَزَّرُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدِ لَا يُعَزَّرُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْمُصَنِّفُ اسْتَحْسَنَ التَّعْزِيرَ إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْأَشْرَافِ فَتَحَصَّلَتْ ثَلَاثَةٌ: الْمَذْهَبُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا يُعَزَّرُ مُطْلَقًا، وَمُخْتَارُ الْهِنْدُوَانِيُّ يُعَزَّرُ مُطْلَقًا. وَالْمُفَصَّلُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ مِنْ الْأَشْرَافِ فَيُعَزَّرُ قَائِلُهُ

ص: 347

وَهَذَا أَحْسَنُ. .

وَالتَّعْزِيرُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» وَإِذَا تَعَذَّرَ تَبْلِيغُهُ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى أَدْنَى الْحَدِّ وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَوْطًا فَنَقَصَا مِنْهُ سَوْطًا. وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ الْحَدِّ فِي الْأَحْرَارِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَقَصَ خَمْسَةً وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ فَقَلَّدَهُ

أَوْ لَا فَلَا، وَيُعَزَّرُ فِي مُقَامِرٍ وَفِي قَذِرٍ، قِيلَ وَفِي بَلِيدٍ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُشْبِهُ يَا أَبْلَهُ وَلَمْ يَعْزِرُوا بِهِ

(قَوْلُهُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَبْلُغُ بِهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا وَالْأَصْلُ)

فِي نَقْصِهِ عَنْ الْمَحْدُودِ (قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ») ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ نَاجِيَةَ فِي فَوَائِدِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُصَيْنٍ الْأَصْبَحِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ بَلَغَ " الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ مُرْسَلًا فَقَالَ: أَخْبَرَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ بَلَغَ " الْحَدِيثَ، وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعَمَلِ وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِذَا لَزِمَ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى صِرَافَةِ عُمُومِ النَّكِرَةِ فِي النَّفْيِ فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ فَنَحَّاهُ عَنْ حَدِّ الْأَرِقَّاءِ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا حَدٌّ فَلَا يَبْلُغُ إلَيْهِمَا بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ، خُصُوصًا وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ احْتِيَاطٍ فِي الدَّرْءِ (وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ حُدُودِ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةِ) هِشَامٍ عَنْهُ (وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ) لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُنَا لَيْسَ حَدًّا فَيَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْكُوتِ عَنْ النَّهْيِ عَنْهُ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ.

قِيلَ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنًى مَعْقُولٌ، وَذُكِرَ أَنَّ سَبَبَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ فِي تَعْزِيرِ رَجُلٍ بِتِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ يَعْقِدُ لِكُلِّ خَمْسَةٍ عَقْدًا بِأَصَابِعِهِ فَعَقَدَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلَمْ يَعْقِدْ لِلْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ لِنُقْصَانِهَا عَنْ الْخَمْسَةِ فَظَنَّ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِتِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ، قَالَ: وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ: يَعْنِي خَمْسَةً وَسَبْعِينَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ: وَنُقِلَ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ قَالَ:

ص: 348

ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ

قِيلَ إنَّ أَبَا يُوسُفَ أَخَذَ النِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَأَكْثَرُهُ مِائَةٌ، وَالنِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْعَبِيدِ وَأَكْثَرُهُ خَمْسُونَ فَتَحْصُلُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ.

وَمَنَعَ صِحَّةَ اعْتِبَارِ هَذَا الْأَخْذِ وَهُوَ لَا يَضُرُّهُ بَعْدَ أَنْ أَثَرَهُ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ قَلَّدَ عَلِيًّا فِيهِ، وَكَوْنُهُ لَا يَعْقِلُ يُؤَكِّدُهُ، إذْ الْغَرَضُ أَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ يَجِبُ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ جَوَابُهُ بِمَنْعِ ثُبُوتِهِ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ إنَّهُ غَرِيبٌ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحُرِّ، وَقَالَ فِي الْعَبْدِ تِسْعَةَ عَشَرَ لِأَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ وَفِي الْأَحْرَارِ أَرْبَعُونَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَدِّ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ مُجَانِبًا لِهَوَى النَّفْسِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ عَمِلَ خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ جَاءَ بِهِ لِصَاحِبِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا، فَبَلَغَ عُمَرَ ذَلِكَ فَضَرَبَهُ مِائَةً وَحَبَسَهُ، فَكُلِّمَ فِيهِ فَضَرَبَهُ مِائَةً أُخْرَى، فَكُلِّمَ فِيهِ فَضَرَبَهُ مِائَةً وَنَفَاهُ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ لِلشُّرْبِ وَعِشْرِينَ سَوْطًا لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ.

وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ الزِّنَا فَوْقَ مَا فُرِضَ بِالزِّنَا، وَحَدِيثُ مَعْنٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ ذُنُوبًا كَثِيرَةً أَوْ كَانَ ذَنْبُهُ يَشْتَمِلُ كَثْرَةً مِنْهَا لِتَزْوِيرِهِ وَأَخْذِهِ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَفَتْحِهِ بَابَ هَذِهِ الْحِيلَةِ مِمَّنْ كَانَتْ نَفْسُهُ عَارِيَّةً عَنْ اسْتِشْرَافِهَا، وَحَدِيثُ النَّجَاشِيِّ ظَاهِرٌ أَنْ لَا احْتِجَاجَ فِيهِ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ ضَرْبَهُ الْعِشْرِينَ فَوْقَ الثَّمَانِينَ لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الْقَائِلَةُ إنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ ثُمَّ ضَرَبَهُ مِنْ الْغَدِ عِشْرِينَ، وَقَالَ: ضَرَبْنَاك الْعِشْرِينَ بِجُرْأَتِك عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْطَارِك فِي رَمَضَانَ، فَأَيْنَ الزِّيَادَةُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَدِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لَمَّا اُشْتُهِرَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ قَالَ «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ وَبَعْضُ الثِّقَاتِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِدَلِيلِ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارِ أَحَدٍ.

وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى رضي الله عنهما أَنْ لَا تَبْلُغَ بِنَكَالٍ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَوْطًا، وَيُرْوَى ثَلَاثِينَ إلَى الْأَرْبَعِينَ. وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ أَكْثَرِهِ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يُعْرَفُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعْزِيرِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ: أَيْ مِنْ أَنْوَاعِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَمَّا إنْ اقْتَضَى رَأْيُهُ الضَّرْبَ فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَزِيدُ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ (قَوْلُهُ ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ (بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ، لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ) وَجْهُ مُخَالَفَةِ هَذَا الْكَلَامِ لِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ اكْتَفَى بِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ فَقَالَ: وَاخْتِيَارُ التَّعْزِيرِ إلَى الْقَاضِي مِنْ وَاحِدٍ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ التَّعْزِيرُ بِنَوْعِ الضَّرْبِ فَرَأَى الْإِمَامُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ يُكْمِلُ لَهُ ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُ حَيْثُ وَجَبَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُ أَقَلُّهُ إذْ لَيْسَ وَرَاءَ الْأَقَلِّ شَيْءٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْزَجِرُ بِعِشْرِينَ كَانَتْ الْعِشْرُونَ أَقَلَّ مَا يَجِبُ تَعْزِيرُهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ نَقْصُهُ عَنْهُ.

فَلَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ بِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ كَانَ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ

ص: 349

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ، وَعَنْهُ أَنْ يُقَرَّبَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ بَابِهِ؛ فَيُقَرَّبُ الْمَسُّ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا، وَالْقَذْفُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ. .

قَالَ (وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ) لِأَنَّهُ صَلُحَ تَعْزِيرًا وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ فَجَازَ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَمَا شُرِعَ فِي الْحَدِّ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ.

أَقَلُّ مَا يَجِبُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ وَتَبْقَى فَائِدَةُ تَقْدِيرِ أَكْثَرِهِ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَنْ لَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ لَا يَبْلُغُ قَدْرَ ذَلِكَ وَيَضْرِبُهُ الْأَكْثَرَ فَقَطْ. نَعَمْ يُبَدِّلُ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِنَوْعٍ آخَرَ وَهُوَ الْحَبْسُ مَثَلًا (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ) وَاحْتِمَالِ الْمَضْرُوبِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ (وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقَرِّبُ كُلَّ نَوْعٍ) مِنْ أَسْبَابِ التَّعْزِيرِ (مِنْ بَابِهِ) فَيُقَرِّبُ بِالْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ لِلْأَجْنَبِيَّةِ وَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالرَّمْيِ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ الْمَعَاصِي مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ.

وَكَذَا السُّكْرُ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ قِيلَ: مَعْنَاهُ يُعَزَّرُ فِي اللَّمْسِ الْحَرَامِ وَالْقُبْلَةِ أَكْثَرَ جَلَدَاتِ التَّعْزِيرِ، وَيُعَزَّرُ فِي قَوْلِهِ نَحْوَ يَا كَافِرُ وَيَا خَبِيثُ أَقَلَّ جَلَدَاتِ التَّعْزِيرِ، وَلَكِنْ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ أَسْبَابَ التَّعْزِيرِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ يَبْلُغُ أَقْصَى التَّعْزِيرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَجِبُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ أَقْصَاهُ فَيَكُونُ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ لَا يَنْزَجِرُ بِهَا أَوْ هُوَ فِي شَكٍّ مِنْ انْزِجَارِهِ بِهَا يُضَمُّ إلَيْهِ الْحَبْسُ (لِأَنَّ الْحَبْسَ صَلُحَ تَعْزِيرًا) بِانْفِرَادِهِ حَتَّى لَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ لَا يَضْرِبَهُ وَيَحْبِسَهُ أَيَّامًا عُقُوبَةً لَهُ فَعَلَ، ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى وَغَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ (وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْجُمْلَةِ) وَهُوَ مَا سَلَفَ مِنْ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» (فَجَازَ أَنْ يَضُمَّهُ) إذَا شَكَّ فِي انْزِجَارِهِ بِدُونِهِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْحَبْسَ بِمُفْرَدِهِ يَقَعُ تَعْزِيرًا تَامًّا (لَمْ يُشْرَعْ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ) أَيْ لَمْ يُشْرَعْ الْحَبْسُ بِتُهْمَةِ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ حَتَّى لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ شَتِيمَةً فَاحِشَةً أَوْ أَنَّهُ ضَرَبَهُ وَأَقَامَ شُهُودًا لَا يُحْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَيُحْبَسَ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا عَدَلَتْ الشُّهُودُ كَانَ الْحَبْسُ تَمَامَ مُوجِبِ مَا شَهِدُوا بِهِ، فَلَوْ حُبِسَ قَبْلَهُ لَزِمَ إعْطَاءُ حُكْمِ السَّبَبِ لَهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ، بِخِلَافِ الْحَدِّ، لِأَنَّهُ إذَا شَهِدُوا بِمُوجِبِهِ

ص: 350

قَالَ (وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ) لِأَنَّهُ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ قَالَ (ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا) لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، وَحَدُّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ جِنَايَةً حَتَّى شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ (ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ (ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُحْتَمِلٌ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَادِقًا وَلِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ مِنْ حَيْثُ رَدُّ الشَّهَادَةِ فَلَا يُغَلَّظُ مِنْ حَيْثُ

وَلَمْ يَعْدِلُوا حُبِسَ، لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ سَبَبُهُ بِالتَّعْدِيلِ كَانَ الْوَاجِبُ بِهِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الْحَبْسِ فَيُحْبَسُ تَعْزِيرًا لِلتُّهْمَةِ.

(قَوْلُهُ وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّخْفِيفُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ) مِنْ الِانْزِجَارِ (وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ) لِجَرَيَانِ التَّخْفِيفِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ. وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي حُدُودِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ. وَذَكَرَ فِي أَشْرِبَةِ الْأَصْلِ يُضْرَبُ التَّعْزِيرَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ بَلْ مَوْضُوعُ مَا ذُكِرَ فِي الْحُدُودِ إذَا وَجَبَ تَبْلِيغُ التَّعْزِيرِ إلَى أَقْصَى غَايَاتِهِ بِأَنْ أَصَابَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ كُلَّ مُحَرَّمٍ غَيْرَ الْجِمَاعِ أَوْ أَخَذَ السَّارِقُ بَعْدَمَا جَمَعَ الْمَتَاعَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، وَإِذَا بَلَغَ غَايَةَ التَّعْزِيرِ فُرِّقَ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَإِلَّا أَفْسَدَ الْعُضْوَ لِمُوَالَاةِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ الْكَثِيرِ عَلَيْهِ.

وَمَوْضُوعُ مَا فِي الْأَشْرِبَةِ مَا إذَا عُزِّرَ أَدْنَى التَّعْزِيرِ كَثَلَاثَةٍ وَنَحْوِهَا، وَإِذَا حُدَّ عَدَدًا يَسِيرًا فَالْإِقَامَةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا تُفْسِدُهُ، وَتَفْرِيقُهَا أَيْضًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَقْصُودُ الِانْزِجَارِ فَيُجْمَعُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى شِدَّةِ الضَّرْبِ قُوَّتُهُ لَا جَمْعُهُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ كَمَا قِيلَ إذَا صَحَّ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ مُطْلَقًا (ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا) يَلِي التَّعْزِيرَ فِي الشِّدَّةِ (لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَأَعْظَمُ جِنَايَةٍ حَتَّى شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ) وَهُوَ إتْلَافُ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ (ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَكِنْ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ، وَفِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام كَانَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَلِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ) فَيَكُونُ سَبَبِيَّتُهُ لَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّرْبَ مُتَيَقَّنُ السَّبَبِيَّةِ لِلْحَدِّ لَا مُتَيَقَّنُ الثُّبُوتِ لِأَنَّهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ وَهُمَا لَا يُوجِبَانِ الْيَقِينَ. فَإِنْ قِيلَ: يُفِيدُ أَنَّهُ شَرْعًا بِمَعْنَى أَنَّ عِنْدَهُمَا يَسْتَيْقِنُ لُزُومَ الْحَدِّ أَوْ أَنَّ الثَّابِتَ بِهِمَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ. قُلْنَا: كَذَلِكَ الْقَذْفُ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَقَعُ فَرْقٌ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ الْقَذْفِ لِأَنَّ سَبَبَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِرْيَةً وَبِالْبَيِّنَةِ لَا يُتَيَقَّنُ بِذَلِكَ لِجَوَازِ صِدْقِهِ فِيمَا نَسَبَهُ إلَيْهِ (وَلِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ فَلَا يَغْلُظُ) مَرَّةً أُخْرَى (مِنْ حَيْثُ

ص: 351

الْوَصْفُ.

(وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ) لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْفِصَادِ وَالْبَزَّاغِ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِيهِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ تَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ خَطَأٌ فِيهِ، إذْ التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ غَيْرَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ فِي مَالِهِمْ. قُلْنَا لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ صَارَ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ. .

الْوَصْفُ) وَهُوَ شِدَّةُ الضَّرْبِ، وَلِأَنَّ الشُّرْبَ يَنْتَظِمُ الْقَذْفَ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إذَا شَرِبَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَيَجْتَمِعُ عَلَى الشَّارِبِ حَدُّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ فَيَزْدَادُ الْعَدَدُ نَظَرًا إلَى الْمَظِنَّةِ فَلَا يُغَلَّظُ بِالشِّدَّةِ.

فَأَشَدُّهَا التَّعْزِيرُ وَأَخَفُّهَا حَدُّ الْقَذْفِ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ أَشَدُّ الضَّرْبِ حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ ثُمَّ التَّعْزِيرُ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْكُلُّ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّهُ يُحَدُّ وَيُعَزَّرُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: يُضْرَبُ فِي التَّعْزِيرِ قَائِمًا عَلَيْهِ ثِيَابُهُ، وَيُنْزَعُ الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ وَلَا يُمَدُّ فِي التَّعْزِيرِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَضْمَنُ ثُمَّ فِي قَوْلٍ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِسَبَبٍ عَمِلَهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَفِي قَوْلٍ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ لِأَنَّ أَصْلَ التَّعْزِيرِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَلَوْ وَجَبَ فَالضَّرْبُ غَيْرُ مُتَعَيِّنِ فِي التَّعْزِيرِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُبَاحًا فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهَذَا يَخُصُّ التَّعْزِيرَ وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرُ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ الِانْزِجَارِ لَهُ فِي التَّعْزِيرِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَمَا فِي الْفِصَادِ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِعْلِ وَإِلَّا عُوقِبَ، وَالسَّلَامَةُ خَارِجَةٌ عَنْ وُسْعِهِ، إذْ الَّذِي فِي وُسْعِهِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِسَبَبِهَا الْقَرِيبِ، وَهُوَ بَيْنَ أَنْ يُبَالِغَ فِي التَّخْفِيفِ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِهِ عَنْهُ، أَوْ يَفْعَلَ مَا يَقَعُ زَاجِرًا وَهُوَ مَا هُوَ مُؤْلِمٌ زَاجِرٌ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَمُوتَ

ص: 352

‌كِتَابُ السَّرِقَةِ

الْإِنْسَانُ بِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ الْمُؤْلِمِ الزَّاجِرِ مَعَ اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّهَا رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي الْفِعْلِ وَإِطْلَاقِهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِهِ فَصَحَّ تَقْيِيدُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ وَالِاصْطِيَادِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ إذَا عَزَّرَ امْرَأَتَهُ فَمَاتَتْ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَمَنْفَعَتُهُ تَرْجِعُ إلَيْهِ كَمَا تَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ اسْتِقَامَتُهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَيَضْرِبُ ابْنَهُ، وَكَذَا الْمُعَلِّمُ إذَا أَدَّبَ الصَّبِيَّ فَمَاتَ مِنْهُ يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيِّ، أَمَّا لَوْ جَامَعَ زَوْجَتَهُ فَمَاتَتْ أَوْ أَفْضَاهَا لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ مَعَ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْمَهْرَ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ؛ فَلَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ وَجَبَ ضَمَانَانِ بِمَضْمُونٍ وَاحِدٍ. .

[تَتِمَّةٌ]

الْأَوْلَى لِلْإِنْسَانِ فِيمَا إذَا قِيلَ لَهُ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ أَنْ لَا يُجِيبَهُ، قَالُوا: لَوْ قَالَ لَهُ يَا خَبِيثُ، الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، وَلَوْ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي لِيُؤَدِّبَهُ يَجُوزُ، وَلَوْ أَجَابَ مَعَ هَذَا فَقَالَ بَلْ أَنْتَ لَا بَأْسَ، وَإِذَا أَسَاءَ الْعَبْدُ الْأَدَبَ حَلَّ لِمَوْلَاهُ تَأْدِيبُهُ وَكَذَا الزَّوْجَةُ. وَفِي فَتَاوَى الشَّافِعِيِّ: مَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُحْبَسُ وَيُجْلَدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يُظْهِرَ التَّوْبَةَ، وَفِيهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَيَشْتَرِي وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ يُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ ثُمَّ يَخْرُجُ، وَالسَّاحِرُ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَفْعَلُ إنْ تَابَ وَتَبَرَّأَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ يُقْتَلُ وَكَذَا السَّاحِرَةُ تُقْتَلُ بِرِدَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا، لَكِنَّ السَّاحِرَةَ تُقْتَلُ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ اُقْتُلُوا السَّاحِرَ وَالسَّاحِرَةَ، زَادَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. وَإِنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ السَّحَرَ وَيَجْحَدُ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَقُولُ فَإِنَّ هَذَا السَّاحِرَ يُقْتَلُ إذَا أُخِذَ وَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.

وَفِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ يَتَّخِذُ لُعْبَةً لِلنَّاسِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ بِتِلْكَ اللُّعْبَةِ فَهَذَا سِحْرٌ وَيُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ وَيُقْتَلُ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُطْلَقًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ أَثَرًا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ هَذَا الرَّجُلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: أَعْنِي عَدَمَ الْحُكْمِ بِارْتِدَادِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ أَنْ يُضْرَبَ وَيُحْبَسَ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً. وَهَلْ تَحِلُّ الْكِتَابَةُ بِمَا عَلِمَ أَنَّ فُلَانًا يَتَعَاطَى مِنْ الْمَنَاكِيرِ لِأَبِيهِ؟ قَالُوا: إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ أَبَاهُ يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى ابْنِهِ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِهِ لَا يَكْتُبُ، وَكَذَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ وَالرَّعِيَّةِ، وَيُعَزَّرُ مَنْ شَهِدَ شُرْبَ الشَّارِبِينَ وَالْمُجْتَمِعُونَ عَلَى شِبْهِ الشُّرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبُوا وَمَنْ مَعَهُ رَكْوَةُ خَمْرٍ، وَالْمُفْطِرُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي يَبِيعُ الْخَمْرَ أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ، وَكَذَا الْمُغَنِّي وَالْمُخَنَّثِ وَالنَّائِحَةُ يُعَزَّرُونَ وَيُحْبَسُونَ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً، وَكَذَا الْمُسْلِمُ إذَا شَتَمَ الذِّمِّيَّ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً، وَمَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُحْبَسُ وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ تَظْهَرَ التَّوْبَةُ، وَكَذَا يُسْجَنُ مَنْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ عَانَقَهَا أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

(كِتَابُ السَّرِقَةِ)

لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحُدُودِ الِانْزِجَارَ عَنْ أَسْبَابِهَا بِسَبَبِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ رُوعِيَ فِي تَرْتِيبِهَا

ص: 353

السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُرَاعًى فِيهَا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً لَا غَيْرَ،

فِي التَّعْلِيمِ تَرَتُّبُ أَسْبَابِهَا فِي الْمَفَاسِدِ، فَمَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَعْظَمَ يُقَدَّمُ عَلَى مَا هُوَ أَخَفُّ لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ وَتَعَلُّمَهُ أَهَمُّ. وَأَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ مَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ النَّفْسِ وَهُوَ الزِّنَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهِ كَوْنِهِ قَتْلًا مَعْنًى. وَيَلِيهِ مَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْعَقْلِ وَهُوَ الشُّرْبُ لِأَنَّهُ كَفَوَاتِ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ عَدِيمَ الْعَقْلِ لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ كَعَدِيمِ النَّفْسِ. وَيَلِيهِ مَا يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ الْعَرْضِ وَهُوَ الْقَذْفُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الذَّاتِ يُؤَثِّرُ فِيهَا وَيَلْزَقُ أَمْرًا قَبِيحًا. وَيَلِيهِ مَا يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الْمَخْلُوقُ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَالْعِرْضِ فَكَانَ آخِرًا فَأَخَّرَهُ. وَلِلسَّرِقَةِ تَفْسِيرٌ لُغَةً وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَمِعَ مُسْتَخْفِيًا.

وَفِي الشَّرِيعَةِ هِيَ هَذَا أَيْضًا، وَإِنَّمَا زِيدَ عَلَى مَفْهُومِهَا قُيُودٌ فِي إنَاطَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهَا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ أَقَلِّ مِنْ النِّصَابِ خُفْيَةً سَرِقَةٌ شَرْعًا لَكِنْ لَمْ يُعَلِّقْ الشَّرْعُ بِهِ حُكْمَ الْقَاطِعِ فَهِيَ شُرُوطٌ لِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَإِذْ قِيلَ السَّرِقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْأَخْذُ خُفْيَةً مَعَ كَذَا وَكَذَا لَا يَحْسُنُ، بَلْ السَّرِقَةُ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الشَّرْعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ هِيَ أَخْذُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مِقْدَارَهَا خُفْيَةً عَمَّنْ هُوَ مُتَصَدٍّ لِلْحِفْظِ مِمَّا لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْمَالِ الْمُتَمَوَّلِ لِلْغَيْرِ مِنْ حِرْزٍ بِلَا شُبْهَةٍ، وَتُعَمَّمُ الشُّبْهَةُ فِي التَّأْوِيلِ قِيلَ: فَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ السَّارِقِ وَلَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ ذِي الرَّحِمِ الْكَامِلَةِ، وَالنَّقْلُ خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِمَا لَا مَرَدَّ لَهُ كَالصَّلَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَا قِيلَ هِيَ فِي مَفْهُومِهَا اللُّغَوِيِّ وَالزِّيَادَاتُ شُرُوطٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.

وَالْقَطْعُ بِأَنَّهَا لِلْأَفْعَالِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا وَلَوْ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهَا فِي الشَّرْعِ لِلدُّعَاءِ وَالْأَفْعَالُ شَرْطُ قَبُولِهِ؛ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يَتَبَادَرُ الدُّعَاءُ قَطُّ، هَذَا وَسَيَأْتِي فِي السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ خِلَافٌ (قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ) يَعْنِي الْخُفْيَةَ (مُرَاعًى فِيهَا إمَّا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً) وَذَلِكَ فِي سَرِقَةِ النَّهَارِ فِي الْمِصْرِ (أَوْ ابْتِدَاءً لَا غَيْرَ) وَهِيَ فِي سَرِقَةِ اللَّيْلِ، فَلِذَا إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ لَيْلًا خُفْيَةً ثُمَّ أَخَذَ الْمَالَ مُجَاهَرَةً وَلَوْ بَعْدَ مُقَاتَلَةٍ مِمَّنْ فِي يَدِهِ قُطِعَ بِهِ

ص: 354

كَمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَالِكِ مُكَابَرَةً عَلَى الْجِهَارِ. وَفِي الْكُبْرَى: أَعْنِي قَطْعَ الطَّرِيقِ مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِحِفْظِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ. وَفِي الصُّغْرَى: مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ.

قَالَ (وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَجَبَ الْقَطْعُ) وَالْأَصْلُ فِيهِ

لِلِاكْتِفَاءِ بِالْخُفْيَةِ الْأُولَى، وَإِذَا كَابَرَهُ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا وَأَخَذَ مَالَهُ لَا يُقْطَعُ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ كَانَ دَخَلَ خُفْيَةً، وَالْقِيَاسُ كَذَلِكَ فِي اللَّيْلِ، لَكِنْ يُقْطَعُ إذْ غَالِبُ السَّرِقَاتِ فِي اللَّيْلِ تَصِيرُ مُغَالَبَةً إذْ قَلِيلًا مَا يَخْتَفِي فِي الدُّخُولِ وَالْأَخْذِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَرْعٌ إذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ يَعْلَمُ دُخُولَهُ وَاللِّصُّ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ فِيهَا أَوْ يَعْلَمُهُ اللِّصُّ وَصَاحِبُ الدَّارِ لَا يَعْلَمُ دُخُولَهُ أَوْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِ قُطِعَ، وَلَوْ عَلِمَا لَا يَقْطَعُ.

وَلَمَّا كَانَتْ السَّرِقَةُ تَشْمَلُ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالْخُفْيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الصُّغْرَى هِيَ الْخُفْيَةُ عَنْ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ كَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالضَّارِبِ وَالْغَاصِبِ وَالْمُرْتَهِنِ كَانَتْ الْخُفْيَةُ مُعْتَبَرَةً فِي الْكُبْرَى مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ وَمَنَعَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُلْتَزَمِ حِفْظُ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادِهِمْ وَرُكْنُهَا نَفْسُ الْأَخْذِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَمِنْهَا تَفْصِيلُ النِّصَابِ فَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَجَبَ الْقَطْعُ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ قَوْله تَعَالَى

ص: 355

قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهُمَا وَالْقَطْعُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ تَفْتُرُ فِي الْحَقِيرِ، وَكَذَا أَخْذُهُ لَا يَخْفَى فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُهُ وَلَا حِكْمَةُ الزَّجْرِ لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلِبُ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَذْهَبُنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّقْدِيرُ بِرُبْعِ دِينَارٍ. وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. لَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَأَقَلُّ مَا نُقِلَ فِي تَقْدِيرِهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَالْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ أَوْلَى،

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهُمَا) لِأَنَّهَا بِالْمُخَالَفَةِ وَالْمُخَالَفَةُ فَرْعُ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ (قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ) اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُقْطَعُ بِكُلِّ مِقْدَارٍ مِنْ الْمَالِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَا يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُد وَالْخَوَارِجُ وَابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَعُلَمَاءِ الْأَقْطَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ إلَّا بِمَالٍ مُقَدَّرٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَزِمَ فِي الْأَوَّلِ التَّأْوِيلُ بِالْحَبْلِ الَّذِي يَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَبِالْبَيْضَةِ الْبَيْضَةَ مِنْ الْحَدِيدِ أَوْ النَّسْخِ، وَلَوْ قِيلَ وَنَسْخُهُ أَيْضًا لَيْسَ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ مَا رَوَيْتُمْ. قُلْنَا: لَا تَارِيخَ؛ بَقِيَ وَجْهُ أَوْلَوِيَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ مَعَ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ، ثُمَّ قَدْ نُقِلَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَبِهِ يَتَقَيَّدُ إطْلَاقُ الْآيَةِ وَبِالْعَقْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقِيرَ مُطْلَقًا تَفْتُرُ الرَّغَبَاتُ فِيهِ فَلَا يُمْنَعُ أَصْلًا كَحَبَّةِ قَمْحٍ وَهُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ إطْلَاقُ الْآيَةِ (وَكَذَا لَا يَخْفَى أَخْذُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ) بِأَخْذِهِ (رُكْنُ السَّرِقَةِ) وَهُوَ الْأَخْذُ خُفْيَةً (وَلَا حِكْمَةَ الزَّجْرِ) أَيْضًا (لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلِبُ) فَإِنَّ مَا لَا يَغْلِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَاطَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ، فَهَذَا مُخَصِّصٌ عَقْلِيٌّ بَعْدَ كَوْنِهَا مَخْصُوصَةً بِمَا لَيْسَ مِنْ حِرْزٍ بِالْإِجْمَاعِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّارِطُونَ لِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ فِي تَعْيِينِهِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ إلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، لِمَا رُوِيَ مِنْ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أُتْرُجَّةً فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ.

قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إلَى ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ سَوَاءٌ ارْتَفَعَ الصَّرْفُ

ص: 356

غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله يَقُولُ: «كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا» وَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا. وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ. وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَقَلِّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ، أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»

أَوْ اتَّضَعَ، وَذَلِكَ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» ، وَعُثْمَانُ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْت إلَيَّ انْتَهَى. وَكَوْنُ الْمِجَنِّ بِثَلَاثَةٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» (غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ:«كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا» فَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا) وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ» وَكَانَ رُبْعُ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَطْعَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَنَّهُ مَا كَانَ إلَّا فِي مِقْدَارِ ثَمَنِهِ لَا حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَهِيَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ كَانَ نَفْسَ ثَمَنِهِ فَقُطِعَ بِهِ إذْ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمَسْرُوقُ كَانَ نَفْسَ الْمِجَنِّ فَقُطِعَ بِهِ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ (وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ) فَعُرِفَ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ حَدِيثَ أَيْمَنَ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُجَاهِدٍ «عَنْ أَيْمَنَ قَالَ: لَمْ تُقْطَعْ الْيَدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَثَمَنُهُ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ» وَسَكَتَ عَنْهُ.

وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رضي الله عنه: هَذِهِ «سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطَعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» ، فَكَيْفَ قُلْت: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا؟ فَقَالَ: قَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَيْمَنَ بْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أَخِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: لِأُمِّهِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَابَ بِأَنَّ أَيْمَنَ بْنَ أُمِّ أَيْمَنَ قَاتَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ مُجَاهِدٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْمَرَاسِيلِ: وَسَأَلْت أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ أَيْمَنَ وَكَانَ فَقِيهًا قَالَ: «تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا» ، قَالَ أَبِي: هُوَ مُرْسَلٌ، وَأَرَى أَنَّهُ وَالِدُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ، وَظَهَرَ بِهَذَا الْقَدْرِ أَنَّ أَيْمَنَ اسْمٌ لِلصَّحَابِيِّ فَهُوَ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَأَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُنَيْنٍ وَاسْمٌ لِتَابِعِيٍّ آخَرَ. وَقَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي كِتَابِهِ: أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، رَوَى عَنْ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ، ثُمَّ قَالَ أَيْمَنُ مَوْلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي عُمَرَ.

عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّرِقَةِ إلَى أَنْ قَالَ: وَعَنْهُ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، قَالَ النَّسَائِيّ: مَا أَحْسَبُ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً، فَقَدْ جَعَلَهُ اسْمًا لِتَابِعِيَّيْنِ، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فَجَعَلَاهُمَا وَاحِدًا، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى ابْنِ أَبِي عُمَرَ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ، رَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَيْمَنَ وَالِدِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: مَكِّيٌّ ثِقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَبَشِيُّ مَوْلًى لِابْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَخْزُومِيِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ، وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ،

ص: 357

وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا فَهَذَا يُبَيِّنُ لَك اشْتِرَاطَ الْمَضْرُوبِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ رِعَايَةً لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ،

وَكَانَ أَخَا أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ لِأُمِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَيْمَنَ بْنَ أُمِّ أَيْمَنَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً فَقَدْ وَهَمَ، حَدِيثُهُ فِي الْقَطْعِ مُرْسَلٌ، فَهَذَا يُخَالِفُ الشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّ أَيْمَنَ بْنَ أُمِّ أَيْمَنَ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَأَنَّهُ صَحَابِيٌّ حَيْثُ جَعَلَهُ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهَكَذَا فَعَلَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، أَيْمَنُ لَا صُحْبَةَ لَهُ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَرْوِي «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ دِينَارٌ» رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي أَيْمَنَ رَاوِي قِيمَةِ الْمِجَنِّ هَلْ هُوَ صَحَابِيٌّ أَوْ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، فَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا فَلَا إشْكَالَ. وَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا ثِقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ الْإِمَامُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ وَابْنُ حِبَّانَ فَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ. وَالْإِرْسَالُ لَيْسَ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ قَادِحًا بَلْ هُوَ حُجَّةٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَقْوِيمِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَهُوَ ثَلَاثَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ هُنَا لِإِيجَابِ الشَّرْعِ الدَّرْءَ مَا أَمْكَنَ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ يَقْوَى بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ:«كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ دَرَاهِمَ» ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَكَذَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ.

، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ قَطَعْت: يَدَ صَاحِبِهِ» وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم، «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ عَنْهُ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَمِنْ طَرِيقِهِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ. وَأَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ فَقَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَهُوَ مُرْسَلٌ رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَسْمَعُ مِنْ ابْنِ مَسْعُودٍ انْتَهَى.

وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْكُلَّ مَا رَوَوْهُ إلَّا عَنْ الْقَاسِمِ، لَكِنْ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مُقَاتِلٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ قَطْعُ الْيَدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»، وَهَذَا مَوْصُولٌ وَفِي رِوَايَةِ خَلَفِ بْنِ يَاسِينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ:«إنَّمَا كَانَ الْقَطْعُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حَرْبٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْفَعُهُ «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» فَهَذَا مَوْصُولٌ مَرْفُوعٌ، وَلَوْ كَانَ مَوْقُوفًا لَكَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لَا دَخْلَ لِلْعَقْلِ فِيهَا فَالْمَوْقُوفُ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ (قَوْلُهُ وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ) يَعْنِي فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا) فَإِذَا أُطْلِقَ بِلَا قَيْدٍ، فَهُوَ وَجْهُ اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا مَضْرُوبَةً فِي الْقَطْعِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقُدُورِيِّ (وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ) لِلظَّاهِرِ مِنْ الْحَدِيثِ وَ (رِعَايَةً لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ) لِأَنَّهَا شَرْطُ الْعُقُوبَةِ، وَشُرُوطُ الْعُقُوبَاتِ يُرَاعَى وُجُودُهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ.

وَلِهَذَا شَرَطْنَا الْجَوْدَةَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ زُيُوفًا لَا يُقْطَعُ

ص: 358

حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً تِبْرًا قِيمَتُهَا أَنْقَصُ مِنْ عَشَرَةٍ مَضْرُوبَةٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ، وَالْمُعْتَبَرُ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ. وَقَوْلُهُ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا، وَلَا بُدَّ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ دَارِئَةٌ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. .

بِهَا، وَلَوْ تَجَوَّزَ بِهَا لِأَنَّ نُقْصَانَ الْوَصْفِ بِنُقْصَانِ الذَّاتِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ بِهَا إذَا كَانَتْ رَائِجَةً (حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً تِبْرًا) أَيْ فِضَّةً غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ صَكًّا (قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ مَصْكُوكَةٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ) عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِلْإِطْلَاقِ الْمَذْكُورِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ (قَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ وَزْنُ سَبْعَةٍ) يَعْنِي الْمُعْتَبَرُ فِي وَزْنِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي يُقْطَعُ بِعَشَرَةٍ مِنْهَا مَا يَكُونُ وَزْنُ عَشَرَةٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ (كَمَا قِيلَ) كَمَا فِي الزَّكَاةِ. وَتَقَدَّمَ بَحْثُنَا فِيهَا فِي الزَّكَاةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى أَقَلُّ مَا كَانَ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَا قَالُوا، وَأَمَّا هُنَا فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ «الدَّرَاهِمَ كَانَتْ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ. صِنْفٌ وَزْنُ خَمْسَةٍ، وَصِنْفٌ وَزْنُ سِتَّةٍ. وَصِنْفٌ وَزْنُ عَشَرَةٍ» أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْقَطْعِ وَزْنُ عَشَرَةٍ، فَهَذَا مُقْتَضَى أَصْلِهِمْ فِي تَرْجِيحِ تَقْدِيرِ الْمِجَنِّ بِعَشَرَةٍ بِأَنَّهُ أَدْرَأُ لِلْحَدِّ، وَمَا كَانَ دَارِئًا كَانَ أَوْلَى.

لَا يُقَالُ: هَذَا إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا تَحَقَّقْنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ قَدَّرَ نِصَابَ الْقَطْعِ بِعَشْرَةٍ قَدَّرَ الْعَشَرَةَ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مِمَّنْ نَقَلَ تَقْدِيرَهُ بِعَشَرَةٍ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَلَمْ يُنْقَلْ تَقْدِيرُهُمَا بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ لُزُومُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، ثُمَّ هَذَا الْبَحْثُ إلْزَامٌ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّ وَزْنَ سَبْعَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا إنْ قِيلَ كَالشَّافِعِيَّةِ إنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا (قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ (أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةً إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا) حَتَّى لَوْ سَرَقَ دِينَارًا قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ لَا يُقْطَعُ. ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ مِنْ الدِّينَارِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا بِهِ لَا قِيمَةَ الْوَقْتِ، أَيْ يَكُونُ دِينَارًا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ

ص: 359

قَالَ (وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ) لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ، وَلِأَنَّ التَّنْصِيفَ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَكَامَلُ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ.

(وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ) وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمَا فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّهُ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأُخْرَى وَهِيَ الْبَيِّنَةُ كَذَلِكَ اعْتَبَرْنَا فِي الزِّنَا. وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً

دَرَاهِمَ فِضَّةٍ جِيَادٍ بِوَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ أَوْ أَكْثَرَ سَوَاءٌ كَانَا فِي الْوَقْتِ كَذَلِكَ أَوْ لَا فَلَا اعْتِبَارَ لِلْوَقْتِ لِأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فِيهِ السِّعْرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ قِيمَةِ غَيْرِ الْفِضَّةِ بِعَشَرَةٍ يَوْمَ السَّرِقَةِ وَوَقْتَ الْقَطْعِ حَتَّى لَوْ نَقَصَ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَطْعِ عَنْ عَشَرَةٍ لَمْ يُقْطَعْ، إلَّا إنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ عَيْبٍ دَخَلَهُ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِ الْعَيْنِ، فَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ فِي بَلَدٍ مَا قِيمَتُهُ فِيهَا عَشَرَةٌ فَأُخِذَ فِي أُخْرَى وَقِيمَتُهَا فِيهَا أَقَلُّ لَا يُقْطَعُ، وَفِي قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ فَقَطْ.

وَلَوْ سَرَقَ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ عَشَرَةِ فِضَّةٍ تُسَاوِي عَشَرَةً مَصْكُوكَةً لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ النَّصَّ. وَهُوَ قَوْلُهُ «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» فِي مَحَلِّ النَّصِّ، وَهُوَ أَنْ يَسْرِقَ وَزْنَ عَشَرَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ دَلَالَةِ الْقَصْدِ إلَى النِّصَابِ الْمَأْخُوذِ، وَعَلَيْهِ ذُكِرَ فِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ النَّوَازِلِ: سَرَقَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ دُونَ الْعَشَرَةِ وَعَلَى طَرَفِهِ دِينَارٌ مَشْدُودٌ لَا يُقْطَعُ، وَذَكَرَ مِنْ عَلَامَةِ فَتَاوَى أَئِمَّةِ سَمَرْقَنْدَ: إذَا سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً وَفِيهِ دَرَاهِمُ مَضْرُوبَةٌ لَا يُقْطَعُ، وَقَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ وِعَاءً لِلدَّرَاهِمِ عَادَةً، فَإِنْ كَانَ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ يَقَعُ عَلَى سَرِقَةِ الدَّرَاهِمِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ كِيسًا فِيهِ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ الْكِيسُ يُسَاوِي دِرْهَمًا، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ وَلَوْ لِعَشَرَةِ رِجَالٍ يُقْطَعُ، بِخِلَافِ السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ عَلَى الْخِلَافِ وَأَنْ يُخْرِجَهُ ظَاهِرًا حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ دِينَارًا فِي الْحِرْزِ وَخَرَجَ لَا يُقْطَعُ، وَلَا يُنْتَظَرُ أَنْ يَتَغَوَّطَهُ بَلْ يَضْمَنُ مِثْلَهُ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ وَهُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ لِلْحَالِ وَأَنْ يُخْرِجَ النِّصَابَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَهُ ثُمَّ دَخَلَ وَأَخْرَجَ بَاقِيَهُ لَا يُقْطَعُ.

(قَوْلُهُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ) بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَلَا يُمْكِنُ التَّنْصِيفُ (فَيَتَكَامَلُ) وَهَذَا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُوجِبَةٌ لِلْعُقُوبَةِ (صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ) وَالرِّقُّ مُنَصِّفٌ فَمَا أَمْكَنَ فِيهِ التَّنْصِيفُ نُصِّفَ عَلَيْهِ وَبِهِ يَحْصُلُ مُوجِبُ الْعُقُوبَةِ، وَمَا لَا كَمُلَ ضَرُورَةً وَإِلَّا أُهْدِرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّ لَهُ حَدَّيْنِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ، فَانْتَظَمَ النَّصُّ الْحُرَّ وَالْمَرْقُوقَ فِي الْجَلْدِ فَحَدُّهُ عَلَى نِصْفِ حَدِّ الْأَحْرَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ثُمَّ شُرِعَ الْحَدُّ الْآخَرُ وَهُوَ الرَّجْمُ عَلَى الْأَحْرَارِ ابْتِدَاءً بِحَيْثُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْأَرِقَّاءَ.

(قَوْلُهُ وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ) وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَزُفَرَ وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْإِقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسَيْنِ اسْتَدَلُّوا بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ

ص: 360

فَيُكْتَفَى بِهِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُفِيدُ فِيهَا تَقْلِيلَ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَلَا تُفِيدُ فِي الْإِقْرَارِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ. وَبَابُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا يَنْسَدُّ بِالتَّكْرَارِ وَالرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْمَالِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُكَذِّبُهُ، وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ.

اعْتَرَفَ وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا إخَالُكَ سَرَقْتَ؟ فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعَادَهَا عليه الصلاة والسلام مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ» فَلَمْ يَقْطَعْهُ إلَّا بَعْدَ تَكَرُّرِ إقْرَارِهِ: وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِسَرِقَةٍ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ: قَدْ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ شَهَادَتَيْنِ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ.

وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِلْحَاقُ الْإِقْرَارِ بِهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا فِي الْعَدَدِ فَيُقَالُ حَدٌّ فَيُعْتَبَرُ عَدَدُ الْإِقْرَارِ بِهِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ نَظِيرُهُ إلْحَاقُ الْإِقْرَارِ فِي حَدِّ الزِّنَا فِي الْعَدَدِ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ، فَقَالَ: مَا إخَالُهُ سَرَقَ، فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ؛ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ، قَالَ: فَذَهَبَ بِهِ فَقُطِعَ ثُمَّ حُسِمَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ. إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: تُبْ إلَى اللَّهِ عز وجل، فَقَالَ: تُبْتُ إلَى اللَّهِ عز وجل، فَقَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ» فَقَدْ قَطَعَهُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمُعَارَضٌ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَدًّا فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عُقُوبَةٌ هَكَذَا ظَهَرَ الْمُوجِبُ مَرَّةً (فَيُكْتَفَى بِهِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ) وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَمَعَ الْفَارِقِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ لِتَقْلِيلِ التُّهْمَةِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الْإِقْرَارِ، إذْ لَا يُتَّهَمُ الْإِنْسَانُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِمَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا بَالِغًا، عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ إمَّا صَادِقٌ فَالثَّانِي لَا يُفِيدُ شَيْئًا إذْ لَا يَزْدَادُ صِدْقًا. وَإِمَّا كَاذِبٌ فَبِالثَّانِي لَا يَصِيرُ صِدْقًا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَكْرَارِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَائِدَتُهُ رَفْعُ احْتِمَالِ كَوْنِهِ يَرْجِعُ عَنْهُ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَبَابُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا يَنْتَفِي بِالتَّكْرَارِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ التَّكْرَارِ فَيُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَالِ رُجُوعُهُ بِوَجْهٍ (لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُكَذِّبُهُ) فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وَأَمَّا النَّظَرُ الْمَذْكُورُ: أَعْنِي اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مُتَعَدِّدًا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ بِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَكَيْفَ وَحُكْمُ أَصْلِهِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ مَعْدُولٌ عَنْ الْقِيَاسِ، فَالْوَاقِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَعَدُّدِ الشَّهَادَةِ وَتَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ ابْتِدَاءً لَا بِالْقِيَاسِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

[فُرُوعٌ مِنْ عَلَامَةِ الْعُيُونِ]

قَالَ أَنَا سَارِقُ هَذَا الثَّوْبِ: يَعْنِي بِالْإِضَافَةِ قُطِعَ، وَلَوْ نَوَّنَ الْقَافَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى الْحَالِ. وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ قَالَ: سَرَقْتُ مِنْ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ بَلْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ يُقْطَعُ فِي الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَيَضْمَنُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، هَذَا إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الْمَالَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِسَرِقَةِ مِائَةٍ وَأَقَرَّ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَصَحَّ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ الْأُولَى فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الضَّمَانِ.

وَصَحَّ الْإِقْرَارُ بِالسَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَبِهِ يَنْتَفِي الضَّمَانُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ سَرَقْتُ مِائَةً بَلْ مِائَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا

ص: 361

قَالَ (وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ) لِتَحَقُّقِ الظُّهُورِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ وَمَاهِيَّتِهَا وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَمَا مَرَّ فِي الْحُدُودِ، وَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلتُّهْمَةِ. .

يَضْمَنُ شَيْئًا لَوْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مِائَتَيْنِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ وَانْتَفَى الضَّمَانُ وَالْمِائَةُ الْأُولَى لَا يَدَّعِيهَا الْمُقَرُّ لَهُ، بِخِلَافِ الْأُولَى، وَلَوْ قَالَ سَرَقْتُ مِائَتَيْنِ بَلْ مِائَةً لَمْ يُقْطَعْ، وَيَضْمَنُ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مِائَتَيْنِ وَرَجَعَ عَنْهُمَا فَوَجَبَ الضَّمَانُ وَلَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ وَلَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِالْمِائَةِ إذْ لَا يَدَّعِيهَا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَلَوْ أَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمِائَةِ لَا ضَمَانَ (قَوْلُهُ وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ (قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ) أَيْ كَيْفَ سَرَقَ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ سَرَقَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ لَا يُقْطَعُ مَعَهَا كَأَنْ نَقَبَ الْجِدَارَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَخْرَجَ بَعْضَ النِّصَابِ ثُمَّ عَادَ وَأَخْرَجَ الْبَعْضَ الْآخَرَ أَوْ نَاوَلَ رَفِيقًا لَهُ عَلَى الْبَابِ فَأَخْرَجَهُ وَيَسْأَلُهُمَا (عَنْ مَاهِيَّتِهَا) فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَالنَّقْصِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ (وَعَنْ زَمَانِهَا) لِاحْتِمَالِ التَّقَادُمِ، وَعِنْدَ التَّقَادُمِ إذَا شَهِدُوا يُضَمَّنُ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ عَلَى مَا مَرَّ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ التَّقَادُمَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَطْعِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يُتَّهَمُ فِي تَأْخِيرِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الدَّعْوَى وَتَقَدَّمَ جَوَابُهُ لِلْمُصَنِّفِ وَلِقَاضِي خَانْ، وَيَسْأَلُهُمَا عَنْ الْمَكَانِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ ثُبُوتُ السَّرِقَةِ بِالْإِقْرَارِ حَيْثُ لَا يَسْأَلُ الْقَاضِي الْمُقِرَّ عَنْ الزَّمَانِ لِأَنَّ التَّقَادُمَ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ وَلَا يَسْأَلُ الْمُقِرَّ عَنْ الْمَكَانِ لَكِنْ يَسْأَلُهُ عَنْ بَاقِي الشُّرُوطِ مِنْ الْحِرْزِ وَغَيْرِهِ اتِّفَاقًا.

وَفِي الْكَافِي: وَعَنْ الْمَسْرُوقِ إذْ سَرِقَةُ كُلِّ مَالٍ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ كَمَا فِي الثَّمَرِ وَالْكُمَّثْرَى، وَقَدْرِهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ دُونَ نِصَابٍ، وَعَنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ كَذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَمِنْ الزَّوْجِ. وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ السُّؤَالَ عَنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ يُخَاصِمُ وَالشُّهُودُ يَشْهَدُونَ عَلَى السَّرِقَةِ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ بِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْحَاضِرِ وَخُصُومَةُ الْحَاضِرِ لَا يَسْتَلْزِمُ بَيَانَهُمَا النِّسْبَةَ مِنْ السَّارِقِ وَلَا الدَّعْوَى تَسْتَلْزِمُ أَنْ

ص: 362

(قَالَ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَقَلُّ لَا يُقْطَعُ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ سَرِقَةُ النِّصَابِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجِنَايَتِهِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّهِ.

‌بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ

يَقُولَ سَرَقَ مَالِي وَأَنَا مَوْلَاهُ أَوْ جَدُّهُ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ، وَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَرَفَ الشُّهُودَ بِالْعَدَالَةِ قَطَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ حَالَهُمْ حُبِسَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى يُعَدَّلُوا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالسَّرِقَةِ، وَالتَّوَثُّقُ بِالتَّكْفِيلِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ لَا كَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ وَهُنَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ إعْطَاءَ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ جَائِزٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُجْبَرُ، وَلَمْ يَقَعْ تَفْصِيلٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ: أَعْنِي حَبْسَهُ عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يُزَكَّوْا، وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِتُهْمَةِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَا التَّعْزِيرَ بِسَبَبِ أَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالْفَسَادِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ التَّكْفِيلُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ حَبْسِهِ بِسَبَبِ مَا لَزِمَهُ مِنْ التُّهْمَةِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلِذَا ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى: مَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُحْبَسُ وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يُظْهِرَ التَّوْبَةَ، بِخِلَافِ مَنْ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَيَشْتَرِي وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ ثُمَّ يُخْرَجُ.

وَفِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ النَّوَازِلِ: لِصٌّ مَعْرُوفٌ بِالسَّرِقَةِ وَجَدَهُ رَجُلٌ يَذْهَبُ فِي حَاجَةٍ لَهُ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِالسَّرِقَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَتُوبَ لِأَنَّ الْحَبْسَ زَجْرًا لِلتُّهْمَةِ مَشْرُوعٌ، وَإِذَا عَدَلَ الشَّاهِدَانِ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبٌ لَمْ يَقْطَعْهُ إلَّا بِحَضْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَالشَّاهِدَانِ غَائِبَانِ لَمْ يُقْطَعْ أَيْضًا حَتَّى يَحْضُرَا، وَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ، وَهَذَا فِي كُلِّ الْحُدُودِ سِوَى الرَّجْمِ وَيَمْضِي الْقِصَاصُ إنْ لَمْ يَحْضُرُوا اسْتِحْسَانًا هَكَذَا فِي كَافِي الْحَاكِمِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَإِنْ أَصَابَ أَقَلَّ لَا يُقْطَعُ) وَمَعْلُومٌ تَقْيِيدُ قَطْعِهِمْ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَلَا صَبِيٌّ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يُقْطَعُونَ وَإِنْ لَمْ يُصِبْ أَحَدُهُمْ نِصَابًا بَعْدَ كَوْنِ تَمَامِ الْمَسْرُوقِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِدُخُولِهِمْ تَحْتَ النَّصِّ.

قُلْنَا: الْقَطْعُ لِكُلِّ سَارِقٍ بِسَرِقَتِهِ نِصَابًا وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ: يَعْنِي أَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ جِنَايَةُ السَّرِقَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِمُجَرَّدِهِ بَلْ حَتَّى يَكُونَ مَا سَرَقَهُ نِصَابًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

(بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ)

مَا يُقْطَعُ فِيهِ هُوَ الْمَسْرُوقُ، وَهُوَ مُتَعَلَّقُ السَّرِقَةِ إذْ هُوَ مَحَلُّهَا: فَهُوَ ثَانٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ فَلِذَا أَخَّرَهُ عَنْ

ص: 363

(وَلَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالسَّمَكِ وَالطَّيْرِ وَالصَّيْدِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغَرَةِ وَالنُّورَةِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» ، أَيْ الْحَقِيرِ، وَمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا، فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ حَقِيرٌ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ

بَيَانِ السَّرِقَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا (قَوْلُهُ لَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) أَيْ إذَا سُرِقَ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ أُخِذَ وَأُحْرِزَ وَصَارَ مَمْلُوكًا.

التَّافِهُ وَالتَّفَهُ: الْحَقِيرُ الْخَسِيسُ مِنْ بَابِ لَبِسَ (كَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالسَّمَكِ وَالطَّيْرِ وَالصَّيْدِ) بَرِّيًّا أَوْ بَحْرِيًّا (وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغَرَةِ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ: الطِّينُ الْأَحْمَرُ وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا (وَالنُّورَةِ)(قَوْلُهُ الْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها) هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ. وَمُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«لَمْ يَكُنْ السَّارِقُ يُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» . زَادَ فِي مُسْنَدِهِ: «وَلَمْ يُقْطَعْ فِي أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ» .

وَرَوَاهُ مُرْسَلًا أَيْضًا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامٍ بِهِ، وَكَذَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مُسْنَدًا أَخْرَجَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَبِيصَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَقُلْ فِي عَبْدِ اللَّهِ هَذَا شَيْئًا إلَّا أَنَّهُ قَالَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَلَمْ أَرَ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ كَلَامًا فَذَكَرْتُهُ لِأُبَيِّنَ أَنَّ فِي رِوَايَاتِهِ نَظَرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْمُرْسَلَاتِ كُلَّهَا حُجَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُتَابَعَةِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ) أَيْ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ لَمْ تَحْدُثْ فِيهِ صَنْعَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ (غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ حَقِيرٌ) فَيَكُونُ مُتَنَاوَلَ النَّصِّ فَلَا يُقْطَعُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَالْكِتَابُ مَخْصُوصٌ بِقَاطِعٍ فَجَازَ مُطْلَقًا وَقَوْلُهُ (بِصُورَتِهِ) لِيَخْرُجَ الْأَبْوَابُ وَالْأَوَانِي وَالْخَشَبُ.

وَ (غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ) لِيَخْرُجَ نَحْوُ الْمَعَادِنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ وَالْيَوَاقِيتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَحْجَارِ لِكَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا فَيُقْطَعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا نَظَرَ بَعْضُهُمْ فِي الزِّرْنِيخِ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِهِ لِأَنَّهُ يُحَرَّزُ وَيُصَانُ فِي دَكَاكِينِ الْعَطَّارِينَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ الْخَشَبِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ الدُّورَ لِلْعِمَارَةِ فَكَانَ إحْرَازُهُ نَاقِصًا، بِخِلَافِ السَّاجِ وَالْأَبَنُوسِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوَسْمَةِ وَالْحِنَّاءِ وَالْوَجْهُ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِحْرَازِهِ فِي الدَّكَاكِينِ.

وَقَوْلُهُ (تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ) يَعْنِي فَلَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى اسْتِحْصَالِهِ وَعَلَى الْمُعَالَجَةِ

ص: 364

وَالطِّبَاعُ لَا تَضَنُّ بِهِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ وَلِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهَا نَاقِصٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْخَشَبَ يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الدَّارِ لِلْعِمَارَةِ لَا لِلْإِحْرَازِ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ تُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا. وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحُ وَالطَّرِيُّ، وَفِي الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالْحَمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ»

فِي التَّوَصُّلِ إلَيْهِ (وَلَا تَضَنُّ بِهِ الطِّبَاعُ) إذَا أُحْرِزَ، حَتَّى إنَّهُ (قَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ) وَلَا يُنْسَبُ إلَى الْجِنَايَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضِّنَّةَ بِهَا تُعَدُّ مِنْ الْخَسَاسَةِ. وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِيهِ كَمَا دُونَ النِّصَابِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهِ نَاقِصٌ) فَإِنَّ الْخَشَبَ بِصُورَتِهِ الْأُولَى يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ، وَإِنَّمَا يُدْخَلُ فِي الدَّارِ لِلْعِمَارَةِ لَا لِلْإِحْرَازِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِهِمْ. وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَيُحْرَزُ فِي دَكَاكِينِ التُّجَّارِ.

قَالَ (وَالطَّيْرُ يَطِيرُ) يَعْنِي مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ وَبِذَلِكَ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ. وَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ مِنْ بَيَانِ نُقْصَانِ الْحِرْزِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ قَاصِرٌ عَنْ جَمِيعِ صُوَرِ الدَّعْوَى (وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ) أَيْ فِي الصَّيْدِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» (وَهُوَ) حَالَ كَوْنِهِ (عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ) أَيْ الْأَصْلِيَّةِ (تُورِثُ) الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ فِيهِ (شُبْهَةً) بَعْدَ الْإِحْرَازِ فَيَمْتَنِعُ الْقَطْعُ. وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الشُّبْهَةَ الْعَامَّةَ الثَّابِتَةَ فِي الْكُلِّ بِالْإِبَاحَةِ لِأَصْلِهَا ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ» فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَشِيشَ وَالْقَصَبَ بِلَفْظِ الْكَلَإِ فَفِيهِ قُصُورٌ أَيْضًا. قَالَ (وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحُ وَالطَّرِيُّ) وَصَوَابُهُ السَّمَكُ الْمَلِيحُ أَوْ الْمَمْلُوحُ (وَفِي الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالْحَمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ فَيَقِلُّ إحْرَازُهُ عَنْهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ») فَحَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ رَفْعُهُ، بَلْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَجُلٍ سَرَقَ دَجَاجَةً فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ. فَقَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ عُثْمَانُ: لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ طَيْرًا فَاسْتَفْتَى فِي ذَلِكَ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطَعَ فِي الطَّيْرِ، وَمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَطْعٌ، فَتَرَكَهُ عُمَرُ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ السَّمَاعِ، وَإِلَّا فَتَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا

ص: 365

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الطِّينَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا.

قَالَ: (وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا فِي كَثَرٍ» وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ، وَقِيلَ الْوَدِيُّ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ» وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثَّمَرِ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ إجْمَاعًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ فِيهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ أَوْ الْجِرَانُ قُطِعَ»

وَاجِبٌ لِمَا عُرِفَ.

(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الطِّينَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ) وَرُوِيَ عَنْهُ إلَّا فِي الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالطِّينِ وَالْجِصِّ وَالْمَعَازِفِ وَالنَّبِيذِ، لِأَنَّ مَا سِوَى هَذِهِ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ مُحَرَّزَةٌ فَصَارَتْ كَغَيْرِهَا، وَالْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ زَالَتْ وَزَالَ أَثَرُهَا بِالْإِحْرَازِ بَعْدَ التَّمَلُّكِ (وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَثُبُوتِ الشُّبْهَةِ.

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ) وَالْخُبْزِ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي الْإِيضَاحِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَلَا فَرْقَ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ بِاللَّحْمِ بَيْنَ كَوْنِهِ مَمْلُوحًا قَدِيمًا أَوْ غَيْرَهُ (وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ بِهَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلِهِ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، وَعَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ.

وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا فَقَالَ: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبٌ وَنَكَالٌ، وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ الْمِجَنَّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا؟ فَقَالَ: مَنْ أَخَذَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنْ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبٌ وَنَكَالٌ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي لَفْظٍ «مَا تَرَى فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ؟ فَقَالَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ، فَمَا أُخِذَ مِنْ الْجَرِينِ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتٌ وَنَكَالٌ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذَا الْمَتْنِ، وَقَالَ: قَالَ إمَامُنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، إذَا كَانَ الرَّاوِي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ثِقَةً فَهُوَ كَأَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَوَقَفَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:

ص: 366

قُلْنَا: أَخْرَجَهُ عَنْ وِفَاقِ الْعَادَةِ، وَاَلَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ.

قَالَ (وَلَا قَطْعَ فِي الْفَاكِهَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُحْصَدْ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ

«لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ قَطْعٌ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ» .

وَأَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ سَوَاءٌ أَجَابَ (بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ وَفْقِ الْعَادَةِ، وَاَلَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ) لَكِنْ مَا فِي الْمُغْرِبِ مِنْ قَوْلِهِ: الْجَرِينُ الْمِرْبَدُ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الرُّطَبُ لِيَجِفَّ وَجَمْعُهُ جُرُنٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ الرُّطَبُ فِي زَمَانٍ وَهُوَ أَوَّلُ وَضْعِهِ، وَالْيَابِسُ وَهُوَ الْكَائِنُ فِي آخِرِ حَالِهِ فِيهِ، ثُمَّ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَفْظُ الْجِرَانِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْجِرَانُ فَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الشَّكِّ، وَجِرَانُ الْبَعِيرِ مُقَدَّمُ عُنُقِهِ مِنْ مَذْبَحِهِ إلَى مَنْخِرِهِ، وَالْجَمْعُ جُرُنٌ، فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى بِهِ هَاهُنَا الْجِرَابُ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْمِرْبَدُ أَوْ الْجِرَابُ، ثُمَّ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ: أَيْ الْمِرْبَدُ حَتَّى يَجِفَّ: أَيْ حَتَّى يَتِمَّ إيوَاءُ الْجَرِينِ إيَّاهُ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يُنْقَلُ عَنْهُ وَيُدْخَلُ الْحِرْزَ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْجَرِينِ لَيْسَ حِرْزًا لِيَجِبَ الْقَطْعُ بِالْأَخْذِ مِنْهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَارِسٌ يَتَرَصَّدُهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» وَقَوْلُهُ «لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ» أَمَّا الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ:«أَنَّ غُلَامًا سَرَقَ وَدِيًّا مِنْ حَائِطٍ، فَرُفِعَ إلَى مَرْوَانَ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» .

وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي. قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: هَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ وَاسِعًا انْتَهَى. وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَارَضَ الِانْقِطَاعُ وَالْوَصْلُ، وَالْوَصْلُ أَوْلَى لِمَا عُرِفَ أَنَّهُ زِيَادَةٌ مِنْ الرَّاوِي الثِّقَةِ، وَقَدْ تَلَقَّتْ الْأُمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْقَبُولِ فَقَدْ تَعَارَضَا فِي الرُّطَبِ الْمَوْضُوعِ فِي الْجَرِينِ، وَفِي مِثْلِهِ مِنْ الْحُدُودِ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا يَمْنَعُ الْحَدَّ دَرْءًا لِلْحَدِّ، وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ بِمِثْلَيْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ فَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ قُوَّةَ ثُبُوتِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَلَا يَصِحُّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام ذَلِكَ، فَفِيهِ دَلَالَةُ الضَّعْفِ أَوْ النَّسْخِ فَيَنْفَرِدُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ الْمُعَارِضِ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ يَتَقَيَّدُ حَدِيثُ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ: يَعْنِي يُفَصَّلُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهُ مِنْ أَعْلَى النَّخْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَوْ يُخْرِجَهُ فَفِيهِ ضِعْفُ قِيمَتِهِ. وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ، أَوْ يَأْخُذَهُ مِنْ بَيْدَرِهِ فَيُقْطَعُ وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ. وَقِيلَ هُوَ الْوَدِيُّ وَهُوَ صِغَارُ النَّخْلِ، وَجَزَمَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّهُ خَطَأٌ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إنِّي لَا أَقْطَعُ فِي الطَّعَامِ» وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَلَمْ يُعِلَّهُ بِغَيْرِ الْإِرْسَالِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ عِنْدَنَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ لَزِمَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفُسَاءُ كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثِّمَارِ الرَّطْبَةِ مُطْلَقًا فِي الْجَرِينِ وَغَيْرِهِ. هَذَا وَالْقَطْعُ فِي الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا إجْمَاعًا إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْقَحْطِ، وَأَمَّا فِيهَا فَلَا، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَوْ لَا لِأَنَّهُ عَنْ ضَرُورَةِ ظَاهِرٍ، أَوْ هِيَ تُبِيحُ التَّنَاوُلَ، وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي مَجَاعَةِ مُضْطَرٍّ» وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه «لَا قَطْعَ

ص: 367

(وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ) لِأَنَّ السَّارِقَ يَتَأَوَّلُ فِي تَنَاوُلِهَا الْإِرَاقَةَ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَفِي مَالِيَّةِ بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ فَتَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمَالِيَّةِ. قَالَ (وَلَا فِي الطُّنْبُورِ) لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَازِفِ (وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا بَلَغَتْ الْحِلْيَةُ نِصَابًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُصْحَفِ فَتُعْتَبَرُ بِانْفِرَادِهَا. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآخِذَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ وَإِحْرَازُهُ لِأَجْلِهِ لَا لِلْجِلْدِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْحِلْيَةِ وَإِنَّمَا هِيَ تَوَابِعُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ، كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ وَقِيمَةُ الْآنِيَةِ تَرْبُو عَلَى النِّصَابِ.

فِي عَامِ سَنَةٍ».

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ) أَيْ الْمُسْكِرَةِ. وَالطَّرَبُ اسْتِخْفَافُ الْعَقْلِ، وَمَا يُوجِبُ الطَّرَبَ شِدَّةُ حُزْنٍ وَجَزَعٍ فَيَسْتَخِفُّ الْعَقْلُ فَيَصْدُرُ مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ كَمَا تَرَاهُ مِنْ صِيَاحِ الثَّكْلَيَاتِ وَضَرْبِ خُدُودِهِنَّ وَشَقِّ جُيُوبِهِنَّ فِيمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا وَيَسْلُبُ أَجْرَ مُصِيبَتِهِنَّ ثُمَّ يُوجِبُ لَعْنَهُنَّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، أَوْ شِدَّةُ سُرُورٍ فَيُوجِبُ مَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ الثُّمَالَى وَالْمَسْأَلَةُ بِلَا خِلَافٍ، أَمَّا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَلِأَنَّهَا كَالْخَمْرِ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَنَا إنْ كَانَ الشَّرَابُ حُلْوًا فَهُوَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَإِنْ كَانَ مُرًّا فَإِنْ كَانَ خَمْرًا. فَلَا قِيمَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا فَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَقَوُّمِهِ اخْتِلَافٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ مِنْ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِ الدَّرْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّ السَّارِقَ يُحْمَلُ حَالُهُ عَلَى أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِيهَا الْإِرَاقَةَ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَفِي سَرِقَةِ الْأَصْلِ يُقْطَعُ بِالْخَلِّ وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ مِنْ كِتَابِ الْمُجَرَّدِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ فِي الْخَلِّ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خَمْرًا مَرَّةً. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ بِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ: لَا قَطْعَ فِي الرُّبِّ وَالْجُلَّابِ.

(قَوْلُهُ وَلَا فِي الطُّنْبُورِ) وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتٍ الْمَلَاهِي بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا حَتَّى لَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ ضَمِنَهَا لِغَيْرِ اللَّهْوِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ آخِذُهُ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَالْمَعَازِفُ جَمْعُ الْمِعْزَفِ وَهِيَ آلَةُ اللَّهْوِ.

(قَوْلُهُ وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَمَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (يُقْطَعُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا بَلَغَتْ حِلْيَتُهُ نِصَابًا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: يُقْطَعُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَلِأَنَّ وَرَقَهُ مَالٌ وَبِمَا كُتِبَ فِيهِ ازْدَادَ بِهِ وَلَمْ يُنْتَقَصْ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: إنْ أَخَذَهُ يَتَأَوَّلُ الْقِرَاءَةَ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ لَا يُقْطَعُ (وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآخِذَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ) وَلِأَنَّ الْمَالِيَّةَ لِلتَّبَعِ وَهِيَ الْحِلْيَةُ وَالْأَوْرَاقُ لَا لِلْمَتْبُوعِ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ (وَإِحْرَازُهُ لِأَجْلِهِ) وَالْآخِذُ أَيْضًا يَتَأَوَّلُ أَخْذَهُ لِأَجْلِهِ لَا لِلتَّبَعِ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ وَقِيمَةُ الْآنِيَةِ تَزِيدُ عَلَى النِّصَابِ) لَا يُقْطَعُ، وَكَمَنْ

ص: 368

(وَلَا قَطْعَ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَصَارَ كَبَابِ الدَّارِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يُحَرَّزُ بِبَابِ الدَّارِ مَا فِيهَا وَلَا يُحَرَّزُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مَا فِيهِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَتَاعِهِ. قَالَ (وَلَا الصَّلِيبِ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا الشِّطْرَنْجِ وَلَا النَّرْدِ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَهَا الْكَسْرَ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ، بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ الَّذِي عَلَيْهِ التِّمْثَالُ لِأَنَّهُ مَا أُعِدَّ لِلْعِبَادَةِ فَلَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ إبَاحَةِ الْكَسْرِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي الْمُصَلَّى لَا يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ لِكَمَالِ الْمَالِيَّةِ وَالْحِرْزِ.

(وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ) لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ تَبَعٌ لَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الصَّبِيَّ إسْكَاتَهُ أَوْ حَمْلَهُ إلَى مُرْضِعَتِهِ.

سَرَقَ صَبِيًّا وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ كَثِيرٌ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ الْمَالَ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً وَوَجَدَ فِي جَيْبِهِ عَشَرَةً مَضْرُوبَةً وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا لَمْ أَقْطَعْهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهَا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِأَنَّ سَرِقَتَهُ تَمَّتْ فِي نِصَابٍ كَامِلٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ السَّارِقَ إنَّمَا قَصَدَ إخْرَاجَ مَا يَعْلَمُ بِهِ دُونَ مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالدَّرَاهِمِ فَقَصْدُهُ أَخْذُ الدَّرَاهِمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْهَا فَإِنَّ قَصْدَهُ الثَّوْبُ وَهُوَ لَا يُسَاوِي نِصَابًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا يُجْعَلُ وِعَاءً عَادَةً لِلدَّرَاهِمِ قُطِعَ وَإِلَّا لَا. وَهُنَا رُدِّدَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ ظُهُورُ قَصْدِ الْمَسْرُوقِ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ قَصْدَ النِّصَابِ مِنْ الْمَالِ قُطِعَ وَإِلَّا لَا. وَعَلَى هَذَا فَمَسْأَلَةُ الْعِلْمِ بِالْمَصْرُورِ وَعَدَمِهِ صَحِيحٌ، إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ وَهُوَ الْمَدَارُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ، وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ مَا إذَا لَمْ يُقِرَّ بِعِلْمِهِ بِمَا فِي الثَّوْبِ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ دَلَالَةُ الْقَصْدِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ كِيسًا فِيهِ الدَّرَاهِمُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَمْ أَقْصِدْ لَمْ أَعْلَمْ.

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِإِحْرَازِ مِثْلِهِ، وَكَذَا يُقْطَعُ عِنْدَهُمْ فِي بَابِ الدَّارِ، فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ، وَالْوَجْهُ مَا قُلْنَا، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ إمَّا لَيْسَ مُحَرَّزًا أَوْ فِي حِرْزِهِ شُبْهَةٌ إذْ هُوَ بَادٍ لِلْغَادِي وَالرَّائِحِ وَمَعَهَا يَنْتَفِي الْحَدُّ، عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي مَقَامِ نَصْبِ الْخِلَافِ لِيُلْزِمَهُ ذَلِكَ بَلْ أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى أُصُولِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ خِلَافًا وَإِنَّمَا يُعْتَرَضُ بِذَلِكَ لَوْ نَصَبَ الْخِلَافَ. وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَتَاعِ الْمَسْجِدِ كَحُصْرِهِ وَقَنَادِيلِهِ لِعَدَمِ الْحِرْزِ، وَكَذَا لَا يُقْطَعُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَنْتَفِي الْقَطْعُ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ.

(قَوْلُهُ وَلَا فِي صَلِيبٍ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَلَا الشِّطْرَنْجِ) وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ بِوَزْنِ قِرْطَعْبٍ (وَلَا النَّرْدِ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَهَا الْكَسْرَ: أَيْ إبَاحَةَ الْأَخْذِ لِلْكَسْرِ (نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ) فَلَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانُ مَا فِيهِ مِنْ الْمَالِيَّةِ، وَالصَّلِيبُ مَا هُوَ بِهَيْئَةِ خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْنِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ جِسْمٍ صُلْبٍ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي مُصَلَّاهُمْ) أَيْ مَعَابِدِهِمْ (لَا يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ) لِأَنَّهُ بَيْتٌ مَأْذُونٌ فِي دُخُولِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ فِي حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ عَلَى الْكَمَالِ، وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِ الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ عَامٌّ لَا يَخُصُّ غَيْرَ الْحِرْزِ وَهُوَ الْمُسْقِطُ.

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ) يَبْلُغُ نِصَابًا، وَقَيَّدَ بِالْحُرِّ لِيَخْرُجَ الْعَبْدُ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَالْحُلِيُّ

ص: 369

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ هُوَ نِصَابٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ فِيهِ نَبِيذٌ أَوْ ثَرِيدٌ. وَالْخِلَافُ فِي الصَّبِيِّ لَا يَمْشِي وَلَا يَتَكَلَّمُ كَيْ لَا يَكُونَ فِي يَدِ نَفْسِهِ.

(وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ) لِأَنَّهُ غَصْبٌ أَوْ خِدَاعٌ (وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ) لِتَحَقُّقِهَا بِحَدِّهَا إلَّا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ يَدِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ،

بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ حَلْيٍ بِفَتْحِهَا مَا يُلْبَسُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ جَوْهَرٍ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ إذَا بَلَغَ مَا عَلَيْهِ نِصَابًا لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ، وَالْخِلَافُ فِي صَبِيٍّ لَا يَمْشِي وَلَا يَتَكَلَّمُ) فَلَوْ كَانَ يَمْشِي وَيَتَكَلَّمُ وَيُمَيِّزُ لَا يُقْطَعُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَكَانَ أَخْذُهُ خِدَاعًا وَلَا قَطْعَ فِي الْخِدَاعِ، وَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي الْخِلَافَ عَنْ أَصْحَابِنَا وَمَنْ ذَكَرَهُ كَصَاحِبِ الْمُخْتَلَفِ ذَكَرَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ. قِيلَ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَإِلَّا أَوْهَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ الْحُرِّ لِأَنَّهُ كَالْمَالِ.

وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ كَمَا ذَكَرْنَا يَكُونُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ دُونَ مَا عَلَيْهِ وَإِلَّا لَأَخَذَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا قَطْعَ إلَّا بِأَخْذِ الْمَالِ فَلَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ إثْمُهُ وَعِقَابُهُ أَشَدَّ مِنْ سَارِقِ الْمَالِ. فَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ جل جلاله «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أُعْطِيَ بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ عَمَلَهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ» لَكِنَّ الْقَطْعَ الَّذِي هُوَ الْعُقُوبَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ شَرْعًا.

وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَصْدِ تَسْكِيتِهِ أَوْ إبْلَاغِهِ إلَى مُرْضِعَتِهِ فَبَعِيدٌ بَعْدَ فَرْضِ تَحَقُّقِ سَرِقَتِهِ الظَّاهِرِ مِنْهَا خِلَافُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ فِيهِ نَبِيذٌ أَوْ ثَرِيدٌ) أَوْ كَلْبًا عَلَيْهِ قِلَادَةُ فِضَّةٍ يُقْطَعُ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِنَاءَ تَابِعٌ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْمَتْبُوعِ الْقَطْعُ لَمْ يَجِبْ فِي التَّابِعِ، وَاعْتِقَادِي وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي الْإِنَاءِ الْمُعَايَنِ ذَهَبِيَّتُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا كَانَ، فَإِنَّ تَبَعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ لَا بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ بِالْأَخْذِ إلَيْهِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَصْلٌ مَقْصُودٌ بِالْأَخْذِ، بَلْ الْقَصْدُ إلَيْهِ أَظْهَرُ مِنْهُ إلَى مَا فِيهِ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِمَالِيَّتِهِ إلَى أَضْعَافِ مَا فِيهِ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْقَطْعِ إنَّمَا هُوَ التَّبَعِيَّةُ فِي قَصْدِ الْأَخْذِ لَا اعْتِبَارُ غَيْرِهِ وَلَا ظَاهِرَ يُفِيدُهُ، وَمَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا فِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ الْعُيُونِ: سَرَقَ كُوزًا فِيهِ عَسَلٌ وَقِيمَةُ الْكُوزِ تِسْعَةٌ وَقِيمَةُ الْعَسَلِ دِرْهَمٌ يُقْطَعُ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ حِمَارًا يُسَاوِي تِسْعَةً وَعَلَيْهِ إكَافٌ يُسَاوِي دِرْهَمًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ قُمْقُمَةً فِيهَا مَاءٌ يُسَاوِي عَشَرَةً لِأَنَّهُ سَرَقَ مَاءً مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَبْسُوطِ فِيمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً مَصْرُورٌ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ، قَالَ: يُقْطَعُ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ مَالًا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ.

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ) يَعْنِي الْعَبْدَ الْمُمَيِّزَ الْمُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا إذَا كَانَ نَائِمًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ سَيِّدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الطَّاعَةِ فَحِينَئِذٍ يُقْطَعُ، ذَكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ ابْنُ قُدَامَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ مَشَايِخُنَا، بَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي الْآدَمِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ سَوَاءٌ كَانَ نَائِمًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا، وَقَالُوا: هُوَ لَيْسَ بِسَرِقَةٍ، بَلْ إمَّا غَصْبٌ أَوْ خِدَاعٌ (وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ) الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَعَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا أَقْطَعَهُ لِأَنَّهُ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ كَوْنُهُ

ص: 370

وَلَهُمَا أَنَّهُ مَالٌ مُطْلَقٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ أَوْ بِعَرْضِ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ إلَّا أَنَّهُ انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ.

(وَلَا قَطْعَ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ (إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ) لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكَوَاغِدَ. قَالَ (وَلَا فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ) لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهَا يُوجَدُ مُبَاحُ الْأَصْلِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.

(وَلَا قَطْعَ فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا مِزْمَارٍ) لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا

آدَمِيًّا شُبْهَةً فِي مَالِيَّتِهِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ، فَالدَّفْعُ مِنْهُمَا لَا بُدَّ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ فُسُوقُ اسْتِدْلَالِهِمَا كَمَا قِيلَ. وَلَهُمَا أَنَّ حَقِيقَةَ السَّرِقَةِ وَهُوَ أَخْذُ مَالٍ مُعْتَبَرٍ خُفْيَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ مَعَ بَاقِي الشُّرُوطِ قَدْ وُجِدَتْ فَيَجِبُ الْقَطْعُ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَلَهُمَا أَنَّهُ مَالٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ) إنْ كَانَ يَمْشِي وَيَعْقِلُ (أَوْ بِعَرْضٍ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ) إنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَحْسَنَ مِنْهُ لِتَضَمُّنِ لَفْظِ مُطْلَقٍ مَنْعَ أَنَّ فِي مَالِيَّتِهِ شُبْهَةً وَانْضِمَامُ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ إلَيْهِ لَا يُوجِبُهَا بَعْدَ صِدْقِ مَعْنَى الْمَالِ الْكَامِلِ عَلَيْهِ كَيْفَ وَهُوَ مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ عِنْدَ النَّاسِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَالِيَّةِ يُصَيِّرُهُ كَمَالٍ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ فَسَارِقُهُ كَسَارِقِ دُرَّةٍ نَفِيسَةٍ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ بَلْ الْمَعْنَى عَلَى الْقَلْبِ وَهُوَ سَرِقَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِيمَا هُوَ مَالٌ لَمْ يَبْعُدْ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَنْعِ ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِيَّتِهِ بِمَا قُلْنَا.

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْآخِذُ بِهِ نَفْعًا (فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْكَوَاغِدَ) وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ: وَلَا يُقْطَعُ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا الْكُتُبُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ كَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي غَيْرِهَا فَقِيلَ مُلْحَقَةٌ بِدَفَاتِرِ الْحِسَابِ فَيُقْطَعُ فِيهَا، وَقِيلَ بِكُتُبِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهَا قَدْ تَتَوَقَّفُ عَلَى اللُّغَةِ وَالشِّعْرِ. وَالْحَاجَةُ وَإِنْ قَلَّتْ كَفَتْ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَمُقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي الْقَطْعِ بِكُتُبِ السِّحْرِ وَالْفَلْسَفَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مَا فِيهَا لِأَهْلِ الدِّيَانَةِ فَكَانَتْ سَرِقَةً صَرْفًا، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ بِإِلْحَاقِهَا بِالْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَتْ إيَّاهَا إذْ لَا تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا فِيهَا، بِخِلَافِ كُتُبِ الْأَدَبِ وَالشِّعْرِ. وَيُمْكِنُ فِي كُتُبِ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ عَدَمُ الْقَطْعِ. وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُقْطَعُ بِالْكُلِّ مِنْ كُتُبِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَأَنْتَ سَمِعْت مَا بِهِ الدَّفْعُ.

(قَوْلُهُ وَلَا فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ) بِالْإِجْمَاعِ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ قَرِينِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ قَالَ عَدَمُ الْقَطْعِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ. أَمَّا فِي الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ كَكَلْبِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ فَيُقْطَعُ، وَقُلْنَا هُوَ مُبَاحُ الْأَصْلِ وَبِحَسَبِ الْأَصْلِ هُوَ (غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً) فِيهَا.

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا مِزْمَارٍ) وَكَذَا جَمِيعُ آلَاتٍ اللَّهْوِ (لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا.

ص: 371

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ آخِذُهَا يَتَأَوَّلُ الْكَسْرَ فِيهَا.

(وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقِنَا وَالْآبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ) لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُحَرَّزَةٌ لِكَوْنِهَا عَزِيزَةً عِنْدَ النَّاسِ وَلَا تُوجَدُ بِصُورَتِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. قَالَ (وَيُقْطَعُ فِي الْفُصُوصِ الْخُضْرِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ) لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ وَأَنْفَسِهَا وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ بِصُورَتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

(وَإِذَا اتَّخَذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانِيَ وَأَبْوَابًا قُطِعَ فِيهَا) لِأَنَّهُ بِالصَّنْعَةِ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحَرَّزُ بِخِلَافِ الْحَصِيرِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِيهِ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى الْجِنْسِ حَتَّى يُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ، وَفِي الْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ قَالُوا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي سَرِقَتِهَا لِغَلَبَةِ الصَّنْعَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ خَفِيفًا لَا يَثْقُلُ عَلَى الْوَاحِدِ حَمْلُهُ لِأَنَّ الثَّقِيلَ مِنْهُ لَا يُرْغَبُ فِي سَرِقَتِهِ

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهَا الْكَسْرَ) وَفِي دَالِ الدُّفِّ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ. وَاخْتُلِفَ فِي طَبْلِ الْغُزَاةِ فَقِيلَ لَا يُقْطَعُ بِهِ، وَاخْتَارَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَإِنْ كَانَ وَضْعُهُ لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلَّهْوِ فَلَيْسَ آلَةَ لَهْوٍ.

(قَوْلُهُ وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقِنَا وَالْآبَنُوسِ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ فِيمَا سُمِعَ (وَالصَّنْدَلِ) وَالْعُودِ الرَّطْبِ لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، فَأَمَّا كَوْنُهَا تُوجَدُ مُبَاحَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ حَتَّى الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ مُبَاحَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَ هَذَا يُقْطَعُ فِيهَا فِي دَارِنَا. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَا قَطْعَ فِي الْعَاجِ مَا لَمْ يُعْمَلْ، وَكَذَا نَقَلَ الْبَقَّالِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْآبَنُوسِ، وَالظَّاهِرُ الْقَطْعُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ عَدَمُ الْقَطْعِ فِي الْعَاجِ لِمَا قِيلَ مِنْ نَجَاسَةِ عَيْنِ الْفِيلِ فَإِنَّهُ يَنْفِي مَالِيَّةَ الْعَاجِ فَحَلَّتْ الشُّبْهَةُ فِي الْمَالِيَّةِ (وَيُقْطَعُ فِي الْفُصُوصِ) النَّفِيسَةِ (وَالزَّبَرْجَدِ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ، وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ).

(قَوْلُهُ وَإِذَا اتَّخَذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانِيَ وَأَبْوَابًا قُطِعَ فِيهَا لِأَنَّهُ) أَيْ الْخَشَبَ (بِالصَّنْعَةِ الْتَحَقَتْ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ) وَلِهَذَا تُحَرَّزُ (بِخِلَافِ الْحَصِيرِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى الْجِنْسِ) لِتَنْقَطِعَ مُلَاحَظَتُهُ بِهَا فَلَمْ تَخْرُجْ بِهَا مِنْ كَوْنِهَا تَافِهًا بَيْنَ النَّاسِ (حَتَّى إنَّ الْحَصِيرَ يُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ) وَكَذَا الْقَصَبُ الْمَصْنُوعُ بَوَارِي، بِخِلَافِ الْخَشَبِ فَإِنَّهُ غَلَبَتْ الصَّنْعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ فَقُطِعَ فِيمَا اتَّصَلَتْ بِهِ مِنْهُ، حَتَّى لَوْ غَلَبَتْ فِي الْحُصْرِ أَيْضًا قُطِعَ

ص: 372

(وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ) لِقُصُورٍ فِي الْحِرْزِ (وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ) لِأَنَّهُ يُجَاهِرُ بِفِعْلِهِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا قَطْعَ فِي مُخْتَلِسٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ»

فِيهَا كَالْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَالْعَبْدَانِيَّةُ فِي دِيَارِ مِصْرَ والْإسْكَنْدَرانيَّة وَهِيَ الْعَبْدَانِيَّةُ. وَيُقْطَعُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِالْحُصْرِ مُطْلَقًا. هَذَا وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ: سَرَقَ جُلُودَ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةِ لَا يُقْطَعُ، فَإِذَا جُعِلَتْ مُصَلًّى أَوْ بِسَاطًا يُقْطَعُ. هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا جُعِلَتْ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ جُلُودَ السِّبَاعِ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ اسْمًا آخَرَ اهـ.

وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ غَلَبَةَ الصَّنْعَةِ الَّتِي يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْجِنْسِ بِهَا أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهَا اسْمٌ. وَعَلِمْتَ عَدَمَ الْقَطْعِ فِي الْحُصْرِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَفِيسَةٍ مَعَ تَجَدُّدِ اسْمٍ آخَرَ لَهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ لِنُقْصَانِ إحْرَازِهَا حَيْثُ كَانَتْ تُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ أَوْ لِأَنَّ شُبْهَةَ التَّفَاهَةِ فِيهَا كَمَا قَالُوا إنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي الْمِلْحِ لِذَلِكَ؛ وَلَا يُقْطَعُ فِي الْآجُرِّ وَالْفَخَّارِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ لَمْ تَغْلِبْ فِيهَا عَلَى قِيمَتِهَا. وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فِي الزُّجَاجِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَسْرُعُ إلَيْهِ الْكَسْرُ فَكَانَ نَاقِصَ الْمَالِيَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ كَالْخَشَبِ إذَا صُنِعَ مِنْهُ الْأَوَانِي، ثُمَّ إنَّمَا يُقْطَعُ فِي الْبَابِ الْمَصْنُوعِ مِنْ الْخَشَبِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُرَكَّبٍ عَلَى الْجِدَارِ بَلْ مَوْضُوعٌ دَاخِلَ الْحِرْزِ. أَمَّا الْمُرَكَّبُ فَلَا يُقْطَعُ بِهِ عِنْدَنَا فَصَارَ كَسَرِقَةِ ثَوْبٍ بُسِطَ عَلَى الْجِدَارِ إلَى السِّكَّةِ، وَغَيْرُ الْمُرَكَّبِ لَا يُقْطَعُ بِهِ إذَا كَانَ ثَقِيلًا لَا يَحْمِلُهُ الْوَاحِدُ لِأَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ. وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّ ثِقَلَهُ لَا يُنَافِي مَالِيَّتَهُ وَلَا يُنْقِصُهَا.

فَإِنَّمَا تَقِلُّ فِيهِ رَغْبَةُ الْوَاحِدِ لَا الْجَمَاعَةِ. وَلَوْ صَحَّ هَذَا امْتَنَعَ الْقَطْعُ فِي فَرْدَةِ حِمْلٍ مِنْ قُمَاشٍ وَنَحْوِهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَلِذَا أَطْلَقَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي الْقَطْعَ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ. وَفِي الشَّامِلِ فِي كِتَابِ الْمَبْسُوطِ: وَقَدْ مَرَّ أَنَّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُقْطَعُ فِي بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَمُحَرَّزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فِيهِ وَحِرْزُ حَائِطِ الدَّارِ بِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا فِيهَا إذَا كَانَتْ فِي الْعُمْرَانِ، وَمَا كَانَ حِرْزًا لِنَفْسِهِ يَكُونُ حِرْزًا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا مَمْنُوعٌ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ مِثْلُهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْحِرْزِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ إلَخْ) وَهُمَا اسْمَا فَاعِلٍ مِنْ الْخِيَانَةِ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ أَوْ الْوَدِيعَةِ فَيَأْخُذَهُ وَيَدَّعِيَ ضَيَاعَهُ، أَوْ يُنْكِرَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً، وَعَلَّلَهُ بِقُصُورِ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي يَدِ الْخَائِنِ وَحِرْزِهِ لَا حِرْزِ الْمَالِكِ عَلَى الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حِرْزَهُ وَإِنْ كَانَ حِرْزًا لِمَالِكٍ فَإِنَّهُ أَحْرَزَهُ بِإِيدَاعِهِ عِنْدَهُ لَكِنَّهُ حِرْزٌ مَأْذُونٌ لِلسَّارِقِ فِي دُخُولِهِ.

(قَوْلُهُ وَلَا مُنْتَهِبٍ) لِأَنَّهُ مُجَاهِرٌ بِفِعْلِهِ لَا مُخْتَفٍ فَلَا سَرِقَةَ فَلَا قَطْعَ (وَكَذَا الْمُخْتَلِسُ) فَإِنَّهُ الْمُخْتَطِفُ لِلشَّيْءِ مِنْ الْبَيْتِ وَيَذْهَبُ أَوْ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ. وَفِي سُنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَسَكَتَ عَنْهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَعَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ وَهُوَ تَصْحِيحٌ مِنْهُمَا. وَتَعْلِيلُ أَبِي دَاوُد مَرْجُوحٌ بِذَلِكَ. وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَكِنَّ مَذْهَبَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فِي جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِهَا» وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ.

وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِأَنَّ الْقَطْعَ كَانَ عَنْ سَرِقَةٍ صَدَرَتْ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَيْضًا مُتَّصِفَةً مَشْهُورَةً بِجَحْدِ الْعَارِيَّةِ فَعَرَّفَتْهَا عَائِشَةُ بِوَصْفِهَا الْمَشْهُورِ، فَالْمَعْنَى امْرَأَةٌ كَانَ وَصْفُهَا جَحْدَ الْعَارِيَّةِ فَسَرَقَتْ فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ فِي قِصَّتِهَا «أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ شَفَعَ فِيهَا الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ: فَقَامَ عليه الصلاة والسلام خَطِيبًا

ص: 373

(وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْرَزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ. وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام

فَقَالَ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ» وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَدُّدِ وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ خُصُوصًا وَقَدْ تَلَقَّتْ الْأُمَّةُ الْحَدِيثَ الْآخَرَ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهَا لَمْ تَسْرِقْ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «اسْتَعَارَتْ امْرَأَةٌ مِنِّي حُلِيًّا عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ يَعْرِفُونَ وَلَا تَعْرِفُ هِيَ فَبَاعَتْهُ، فَأُخِذَتْ فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا» ، وَهِيَ الَّتِي شَفَعَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَقَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ كَانَ حَدِيثُ جَابِرٍ مُقَدَّمًا.

وَيُحْمَلُ الْقَطْعُ بِجَحْدِ الْعَارِيَّةِ عَلَى النَّسْخِ، وَكَذَا لَوْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ «وَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَطَعَ امْرَأَةً بِجَحْدِ الْمَتَاعِ، وَأُخْرَى بِالسَّرِقَةِ» يُحْمَلُ عَلَى نَسْخِ الْقَطْعِ بِالْعَارِيَّةِ بِمَا قُلْنَا. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا قَالَ «لَمَّا سَرَقَتْ الْمَرْأَةُ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمْنَا ذَلِكَ، وَكَانَتْ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، فَجِئْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نُكَلِّمُهُ فِيهَا وَقُلْنَا: وَنَحْنُ نَفْدِيهَا بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: تَطْهُرُ خَيْرًا لَهَا، فَأَتَيْنَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَقُلْنَا لَهُ: كَلِّمْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ: مَا إكْثَارُكُمْ عَلَيَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا» قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ.

وَقِيلَ هِيَ أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ.

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ) وَهُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ الدَّفْنِ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (عَلَيْهِ الْقَطْعُ) وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ أَبُو ثَوْرٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَحَمَّادٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ. ثُمَّ الْكَفَنُ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فَلَا يُقْطَعُ فِي الزَّائِدِ عَلَى كَفَنِ السُّنَّةِ وَكَذَا مَا تُرِكَ مَعَهُ مِنْ طِيبٍ أَوْ مَالٍ ذَهَبٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ وَسَفَهٌ فَلَيْسَ مُحَرَّزًا. وَفِي الْوَجِيزِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْعَدَدِ الشَّرْعِيِّ وَجْهَانِ، ثُمَّ الْكَفَنُ لِلْوَارِثِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ الْخَصْمُ فِي الْقَطْعِ، وَإِنْ كَفَّنَهُ أَجْنَبِيٌّ فَهُوَ الْخَصْمُ لِأَنَّهُ لَهُ (لَهُمْ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ») وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.

وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَرَّحَ بِضَعْفِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ

ص: 374

«لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَلَا لِلْوَارِثِ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي نَفْسِهَا نَادِرَةُ الْوُجُودِ وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ لِمَا قُلْنَا

أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَفِي سَنَدِهِ مَنْ يُجْهَلُ حَالُهُ كَبِشْرِ بْنِ حَازِمٍ وَغَيْرِهِ، وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ «لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» قَالَ: وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أَيْ بِعُرْفِهِمْ.

وَأَمَّا الْآثَارُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رُوِيَ عَنْ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَطَعَ نَبَّاشًا. وَهُوَ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، ثُمَّ أَعَلَّهُ بِسُهَيْلِ بْنِ ذَكْوَانَ الْمَكِّيِّ. قَالَ عَطَاءٌ: كُنَّا نَتَّهِمُهُ بِالْكَذِبِ. وَيُمَاثِلُهُ أَثَرٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَفِيهِ مَجْهُولٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَقِيته بِمِنًى عَنْ رَوْحِ بْنِ قَاسِمٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى النَّبَّاشِ قَطْعٌ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ وَجَدَ قَوْمًا يَخْتَفُونَ الْقُبُورَ بِالْيَمَنِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ فِيهِمْ إلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ عُمَر رضي الله عنه أَنْ اقْطَعْ أَيْدِيَهُمْ. فَأَحْسَنُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أُتِيَ مَرْوَانُ بِقَوْمٍ يَخْتَفُونَ: أَيْ يَنْبُشُونَ الْقُبُورَ فَضَرَبَهُمْ وَنَفَاهُمْ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ اهـ.

وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ بِهِ، وَزَادَ: وَطَوَّفَ بِهِمْ. وَكَذَا أَحْسَنُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أُخِذَ نَبَّاشٌ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْمَدِينَةِ فَسَأَلَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يُضْرَبَ وَيُطَافَ بِهِ اهـ. وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلَهُمْ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحَرَّزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ.

أَمَّا الْمَالِيَّةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْحِرْزُ فَلِأَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِلْمَيِّتِ وَثِيَابُهُ تَبَعٌ لَهُ فَيَكُونُ حِرْزًا لَهَا أَيْضًا، وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقَبْرَ بَيْتًا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «كَيْفَ أَنْتَ إذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْوَصِيفِ؟ يَعْنِي الْقَبْرَ، وَقُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، أَوْ مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: عَلَيْك بِالصَّبْرِ» وَقَدْ بَوَّبَ أَبُو دَاوُد عَلَيْهِ فَقَالَ: بَابُ قَطْعِ النَّبَّاشِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو دَاوُد لِأَنَّهُ سَمَّى الْقَبْرَ بَيْتًا وَالْبَيْتُ حِرْزٌ وَالسَّارِقُ مِنْ الْحِرْزِ يُقْطَعُ وَلِأَنَّهُ حِرْزُ مِثْلِهِ لِأَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَلِيقُ بِهِ. فَحِرْزُ الدَّوَابِّ بِالْإِصْطَبْلِ وَالدُّرَّةُ بِالْحُقِّ وَالصُّنْدُوقِ وَالشَّاةِ

ص: 375

وَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ لِمَا بَيَّنَّاهُ.

(وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ. قَالَ (وَلَا مِنْ مَالٍ لِلسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ)

بِالْحَظِيرَةِ، فَلَوْ سُرِقَ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا قُطِعَ، وَلَوْ سَرَقَ الدُّرَّةَ مِنْ إصْطَبْلٍ أَوْ مِنْ حَظِيرَةٍ لَا يُقْطَعُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا كَفَّنَ صَبِيًّا مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنُ لِوَرَثَتِهِ شَيْئًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّزًا كَانَ تَضْيِيعًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فَكَانَ أَخْذُ الْكَفَنِ مِنْ الْقَبْرِ عَيْنَ السَّرِقَةِ.

وَالْجَوَابُ أَوَّلًا مَنْعُ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ حُفْرَةٌ فِي الصَّحْرَاءِ مَأْذُونٌ لِلْعُمُومِ فِي الْمُرُورِ بِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا غَلَقَ عَلَيْهِ وَلَا حَارِسَ مُتَصَدٍّ لِحِفْظِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ دَعْوَى أَنَّهُ حِرْزٌ تَسْمِيَةً ادِّعَائِيَّةً بِلَا مَعْنًى وَهُوَ مَمْنُوعٌ. وَلُزُومُ التَّضْيِيعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا مَمْنُوعٌ بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَصْرُوفًا إلَى حَاجَةِ الْمَيِّتِ وَالصَّرْفُ إلَى الْحَاجَةِ لَيْسَ تَضْيِيعًا فَلِذَا لَا يُضْمَنُ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا يَنْزِلُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي حِرْزِيَّتِهِ شُبْهَةٌ وَبِهِ يَنْتَفِي الْقَطْعُ وَيَبْقَى ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا. وَفِي ثُبُوتِ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْحَدِّ وَهُوَ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ زِيَادَةً فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الدَّرْءَ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْكَفَنَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، لَا لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ وَلَا لِلْوَارِثِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ وَلِذَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَرِيمِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِحَقِّهِ. فَإِنْ صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ لَمْ يُقْطَعْ. وَإِلَّا فَتَحَقَّقَتْ شُبْهَةٌ فِي مَمْلُوكِيَّتِهِ بِقَوْلِنَا فَلَا يُقْطَعُ بِهِ أَيْضًا. بَلْ نَقُولُ: تَحَقَّقَ قُصُورٌ فِي نَفْسِ مَالِيَّةِ الْكَفَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يَجْرِي فِيهِ الرَّغْبَةُ وَالضِّنَّةُ وَالْكَفَنُ يَنْفِرُ عَنْهُ كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كُفِّنَ بِهِ مَيِّتٌ إلَّا نَادِرًا مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ شَرْعَ الْحَدِّ لِلِانْزِجَارِ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ لَمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ.

فَأَمَّا مَا يَنْدُرُ فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الِانْزِجَارَ حَاصِلٌ طَبْعًا كَمَا قُلْنَا فِي عَدَمِ الْحَدِّ بِوَطْءِ الْبَهِيمَةِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِتَسْمِيَتِهِ بَيْتًا فَأَبْعَدُ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ إمَّا مَجَازٌ فَإِنَّ الْبَيْتَ مَا يَحُوطُهُ أَرْبَعُ حَوَائِطَ تُوضَعُ لِلْبَيْتِ وَلَيْسَ فِي الْقَبْرِ كَذَلِكَ، عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحِرْزَ فَقَدْ يَصْدُقُ مَعَ عَدَمِ الْحِرْزِ أَصْلًا كَالْمَسْجِدِ. وَمَعَ الْحِرْزِ مَعَ نُقْصَانٍ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَمَعَ الْحِرْزِ التَّامِّ، فَمُجَرَّدُ تَسْمِيَتِهِ بَيْتًا لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَطْعَ خُصُوصًا فِي مَقَامِ وُجُوبِ دَرْئِهِ مَا أَمْكَنَ، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى بَعْضِ الْمَاصَدَقَاتِ الَّتِي لَا حَدَّ مَعَهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

وَهَذَا فِي الْقَبْرِ الْكَائِنِ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، أَمَّا لَوْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ فَقِيلَ يُقْطَعُ بِهِ لِوُجُودِ الْحِرْزِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يُقْطَعُ عِنْدَنَا وَإِنْ وُجِدَ الْحِرْزُ لِلْمَوَانِعِ الْأُخَرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ وَعَدَمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَالْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِهِ (وَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ تَحَقُّقِ الْخَلَلِ فِي الْمَالِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا. هَذَا وَلَوْ اعْتَادَ لِصٌّ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهُ سِيَاسَةً لَا حَدًّا، وَهُوَ مَحْمَلُ مَا رَوَاهُ لَوْ صَحَّ.

(قَوْلُهُ وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ. وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ قَبْلَ الْحَاجَةِ (وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ) وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَالَ: أَرْسِلْهُ فَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ (وَلَا يُقْطَعُ مِنْ مَالٍ لِلسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ)

ص: 376

لِمَا قُلْنَا.

(وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِنْهُ مِثْلَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ)، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِيهِ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِيهِ (وَإِنْ سَرَقَ مِنْهُ عُرُوضًا قُطِعَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ إلَّا بَيْعًا بِالتَّرَاضِي. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِحَقِّهِ. قُلْنَا: هَذَا قَوْلٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ فَلَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ اتِّصَالِ الدَّعْوَى بِهِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ ظَنٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ فَسَرَقَ مِنْهُ دَنَانِيرَ قِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ، وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ النُّقُودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ

بِأَنْ يَسْرِقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ حِرْزِ الْآخَرِ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا (لِمَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّ لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقًّا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِثْلَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَخْذُهُ قَبْلَ الْأَجَلِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ يَصِيرُ شُبْهَةً دَارِئَةً وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعْطَاءُ الْآنَ (وَكَذَا لَوْ سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ) لَا يُقْطَعُ (لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ الْمَالِ) بِمِقْدَارِ حَقِّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَدْيُونِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مُمَاطِلًا أَوْ غَيْرَ مُمَاطِلٍ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي تَفْصِيلِهِ بَيْنَ الْمُمَاطِلِ فَلَا يُقْطَعُ بِهِ وَغَيْرِ الْمُمَاطِلِ فَيُقْطَعُ. وَلَوْ أُخِذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ، فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَأَخَذَ عُرُوضًا قُطِعَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقُولَ: أَخَذْتهَا رَهْنًا بِدَيْنِي فَلَا يُقْطَعُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى) قَضَاءً لِحَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِهِ (قُلْنَا: هَذَا قَوْلٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ) فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً دَارِئَةً إلَّا إنْ ادَّعَى ذَلِكَ (وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ فَأَخَذَ دَنَانِيرَ) أَوْ عَلَى الْقَلْبِ اُخْتُلِفَ فِيهِ (قِيلَ يُقْطَعُ) لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ قِصَاصًا بِحَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بَيْعًا فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّرَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا (وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ) لِلْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ، وَيُقْطَعُ لَوْ سَرَقَ حُلِيًّا مِنْ فِضَّةٍ وَدَيْنُهُ دَرَاهِمُ، وَلَوْ سَرَقَ الْمُكَاتَبُ

ص: 377

(وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا فَرَدَّهَا ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا لَمْ يُقْطَعْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَكَامِلَةٌ كَالْأُولَى بَلْ أَقْبَحُ لِتَقَدُّمِ الزَّاجِرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ثُمَّ كَانَتْ السَّرِقَةُ. وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ السُّقُوطِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ، وَقِيَامُ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْجِنَايَةِ مِنْهُ نَادِرٌ لِتَحَمُّلِهِ مَشَقَّةَ الزَّاجِرِ فَتُعَرَّى الْإِقَامَةُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ،

أَوْ الْعَبْدُ مِنْ غَرِيمِ الْمَوْلَى قُطِعَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى وَكَّلَهُمَا بِالْقَبْضِ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ حِينَئِذٍ لَهُمَا. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ أَبِيهِ أَوْ غَرِيمِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ أَوْ غَرِيمِ مُكَاتَبِهِ أَوْ غَرِيمِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ قُطِعَ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِغَيْرِهِ. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يُقْطَعُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا فَرَدَّهَا) بِأَنْ كَانَتْ قَائِمَةً (ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا يُقْطَعُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ) فِيمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِطَرِيقٍ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ الْيُسْرَى» الْحَدِيثَ (وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ الثَّانِيَةَ مِثْلُ الْأُولَى) فِي سَبَبِيَّةِ الْقَطْعِ (بَلْ أَفْحَشُ) لِأَنَّ الْعَوْدَ بَعْدَ الزَّجْرِ أَقْبَحُ. وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ، وَيَخُصُّ أَبَا يُوسُفَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ عَادَ تَقَوُّمُهُ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ السَّارِقُ لَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الرَّدِّ فَتَمَّتْ سَبَبِيَّةُ الْقَطْعِ كَمَا لَوْ سَرَقَ غَيْرَهُ أَوْ سَرَقَهُ هُوَ مِنْ غَيْرِهِ (وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ثُمَّ كَانَتْ السَّرِقَةُ) فَإِنَّهُ يُقْطَعُ اتِّفَاقًا.

(وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ) فِي حَقِّ السَّارِقِ (وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ أَنَّهَا سَاقِطَةٌ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ وَقِيَامِ الْمُوجِبِ) لِلسُّقُوطِ (وَهُوَ الْقَطْعُ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ يُوجِبُ

ص: 378

وَصَارَ كَمَا إذَا قَذَفَ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ الْمَقْذُوفَ الْأَوَّلَ. قَالَ (فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَزْلًا فَسَرَقَهُ وَقُطِعَ فَرَدَّهُ ثُمَّ نُسِجَ فَعَادَ فَسَرَقَهُ قُطِعَ) لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَبَدَّلَتْ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ عَلَامَةُ التَّبَدُّلِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ،

بَقَاءَ السُّقُوطِ الَّذِي تَحَقَّقَ بِالْقَطْعِ فَحَيْثُ عَادَتْ الْعِصْمَةُ وَانْتَفَى السُّقُوطُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ كَانَ مَعَ شُبْهَةِ عَدَمِهِ فَيَسْقُطُ بِهَا الْحَدُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ السُّقُوطَ لَيْسَ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقْطُوعِ يَدَهُ لَا سِوَاهُ فَيُقْطَعُ، وَبِخِلَافِ صُورَةِ الْبَيْعِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ السَّارِقِ وَسَرِقَةُ السَّارِقِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِيهِمَا تَبَدُّلَ الْمَلِكِ، وَتَبَدُّلُ الْمِلْكِ يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْعَيْنِ حُكْمًا كَمَا عُرِفَ مِنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ» مَعَ أَنَّهُ عَيْنُ اللَّحْمِ، مَعَ أَنَّ مَشَايِخَ الْعِرَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي صُورَةِ تَبَدُّلِ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَهُ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ مَشَايِخِ بُخَارَى يُقْطَعُ لِتَبَدُّلِ الْعَيْنِ حُكْمًا وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا.

وَأَيْضًا فَتَكْرَارُ الْجِنَايَةِ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ نَادِرٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ لَا يُشْرَعُ فِيهِ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ زَاجِرَةٌ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تُعَرَّى عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ، إذْ هِيَ قَلِيلَةٌ بِالْفَرْضِ فَلَمْ تَقَعْ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفَ شَخْصًا فَحُدَّ بِهِ ثُمَّ قَذَفَهُ بِعَيْنِ ذَلِكَ الزِّنَا بِأَنْ قَالَ أَنَا بَاقٍ عَلَى نِسْبَتِي إلَيْهِ الزِّنَا الَّذِي نَسَبْته إلَيْهِ لَا يُحَدُّ ثَانِيًا، فَكَذَا هَذَا، أَمَّا لَوْ قَذَفَهُ بِزِنًا آخَرَ حُدَّ بِهِ. وَأُورِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ النَّقْضُ بِالزِّنَا ثَانِيًا بِالْمَرْأَةِ الَّتِي زَنَى بِهَا أَوَّلًا بَعْدَ أَنْ جُلِدَ حَدًّا بِزِنَاهُ الْأَوَّلِ بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَانِيًا إجْمَاعًا، فَلَمْ يَكُنْ تَقَدُّمُ الزَّاجِرِ مُوجِبًا لِعَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ. ثَانِيًا وُقُوعُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَوْ شَرَعَ. وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ فِي الزِّنَا لَا تَسْقُطُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، وَهَذَا فَرْقٌ صَحِيحٌ يَتِمُّ بِهِ وَجْهُ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلنَّقْضِ الْوَارِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِخُصُوصِهِ: أَعْنِي كَوْنَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوَّلًا تُوجِبُ نُدْرَةَ الْعَوْدِ فَتُوجِبُ عَدَمَ شَرْعِ الزَّاجِرِ فِي الْعَوْدِ، وَكَذَا الْفَرْقُ بِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ وَالْخُصُومَةُ لَا تَتَكَرَّرُ فِي مَحَلٍّ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مُوجِبِ مَا هِيَ فِيهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ غَيْرِ دَافِعِ الْوَارِدِ عَلَى خُصُوصِ هَذَا الْوَجْهِ الْمُدَّعَى اسْتِقْلَالُهُ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ) الْمَسْرُوقُ الَّذِي قُطِعَ بِهِ (غَزْلًا ثُمَّ نُسِجَ) بَعْدَ رَدِّهِ (فَسَرَقَهُ) ثَانِيًا (قُطِعَ) وَكَذَا لَوْ كَانَ قُطْنًا فَصَارَ غَزْلًا (لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَبَدَّلَتْ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ مَعَ قِيَامِهِ بِصُورَةِ الثَّوْبِ.

ص: 379

وَإِذَا تَبَدَّلَتْ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ، وَالْقَطْعُ فِيهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ ثَانِيًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌فَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ

(وَمَنْ سَرَقَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ) فَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْوِلَادُ لِلْبُسُوطَةِ فِي الْمَالِ وَفِي

وَإِذَا تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ وَالْقَطْعِ) وَهُوَ بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى لَفْظِ اتِّحَادِ لَا عَلَى لَفْظِ الْمَحَلِّ: أَيْ وَانْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْقَطْعِ لَا مِنْ اتِّحَادِ الْقَطْعِ وَهِيَ شُبْهَةُ قِيَامِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْعَيْنِ وَالتَّغَيُّرُ يُوجِبُهَا شَيْئًا آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَيْنُ قَائِمَةٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالصُّورَةُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُتَمَكِّنَ قَبْلَ تَبَدُّلِ الصُّورَةِ شُبْهَةُ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ فَكَانَ الْمُتَمَكِّنُ بَعْدَهُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَإِذَا سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَقُطِعَ بِهِ وَرَدَّهُ فَجَعَلَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ آنِيَةً أَوْ كَانَتْ آنِيَةً فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ ثُمَّ عَادَ السَّارِقُ فَسَرَقَهُ لَا يُقْطَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ، وَقَالَا: يُقْطَعُ لِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ. وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ: سَرَقَ ثَوْبًا فَخَاطَهُ ثُمَّ رَدَّهُ فَنُقِضَ فَسَرَقَ الْمَنْقُوضَ لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ فَلَمْ يَصِرْ فِي حُكْمِ عَيْنٍ أُخْرَى. .

(فَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ)

قَدَّمَ بَيَانَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْمَسْرُوقِ وَهُوَ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ فِي ذَاتِهِ، ثُمَّ ثَنَّى بِحِرْزِهِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ، ثُمَّ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحِرْزِ شَرْطٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ فِي الْحِرْزِ قُطِعَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ. وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَعَنْ دَاوُد لَا يُعْتَبَرُ الْحِرْزُ أَصْلًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ عَمَّنْ نُقِلَتْ عَنْهُ، وَلَا مَقَالَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنْ لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَلَا قَطْعَ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ فَتَخَصَّصَتْ الْآيَةُ بِهِ فَجَازَ تَخْصِيصُهَا بَعْدَهُ بِمَا هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِجْمَاعِيَّةِ وَمَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَسَيَأْتِي مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ الْحِرْزُ مَا عُدَّ عُرْفًا حِرْزًا لِلْأَشْيَاءِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ ثَبَتَ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى بَيَانِهِ، فَيُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ رُدَّ إلَى عُرْفِ النَّاسِ فِيهِ وَالْعُرْفُ يَتَفَاوَتُ وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيهِ اخْتِلَافٌ لِذَلِكَ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُحَرَّزُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَكَذَا هُوَ فِي الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ بِقَيْدِ الْمَالِيَّةِ: أَيْ الْمَكَانُ الَّذِي يُحَرَّزُ فِيهِ الْمَالُ كَالدَّارِ وَالْحَانُوتِ وَالْخَيْمَةِ وَالشَّخْصِ نَفْسِهِ، وَالْمُحَرَّزُ مَا لَا يُعَدُّ صَاحِبُهُ مُضَيِّعًا

(قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْ أَبَوَيْهِ) وَإِنْ عَلَيَا (أَوْ وَلَدِهِ) وَإِنْ سَفَلَ (أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ) كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ (لَا يُقْطَعُ)

ص: 380

الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ. وَالثَّانِي لِلْمَعْنَى الثَّانِي، وَلِهَذَا أَبَاحَ الشَّرْعُ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهَا، بِخِلَافِ الصَّدِيقَيْنِ لِأَنَّهُ عَادَاهُ بِالسَّرِقَةِ. وَفِي الثَّانِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ (وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مَتَاعَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ، وَلَوْ سَرَقَ مَالَهُ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ يُقْطَعُ) اعْتِبَارًا لِلْحِرْزِ وَعَدَمِهِ

وَقَالَ مَالِكٌ وَشُذُوذٌ: يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِهِمَا، وَلِذَا يُحَدُّ بِالزِّنَا بِجَارِيَتِهِمَا وَيُقْتَلُ بِقَتْلِهِمَا وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُ فِي الْكَافِي، أَمَّا فِي الْوِلَادِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ الْأَبُ أَيْضًا فِي سَرِقَةِ مَالِ ابْنِهِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ الْوِلَادِ. أَمَّا وَجْهُ الْأَوَّلِ: أَيْ عَدَمُ الْقَطْعِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ فَلِأَنَّهَا عَادَةً تَكُونُ مَعَهَا الْبُسُوطَةُ فِي الْمَالِ وَالْإِذْنُ فِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ حَتَّى يُعَدُّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْآخَرِ وَلِذَا مُنِعَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ شَرْعًا، وَيَخُصُّ سَرِقَةَ الْأَبِ مِنْ مَالِ الِابْنِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَأَمَّا غَيْرُ الْوِلَادِ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالثَّانِي لِلْمَعْنَى الثَّانِي) أَيْ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ فَأَلْحَقَهُمْ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ " مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ " وَنَحْنُ أَلْحَقْنَاهُ بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الشَّرْعَ أَلْحَقَهُمْ بِهِمْ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ وَافْتِرَاضِ الْوَصْلِ، فَلِذَا أَلْحَقْنَاهُمْ بِهِمْ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ ثَابِتٌ عَادَةً لِلزِّيَارَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَلِذَا حَلَّ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ كَالْعَضُدِ لِلدُّمْلُوجِ وَالصَّدْرِ لِلْقِلَادَةِ وَالسَّاقِ لِلْخَلْخَالِ. وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلُزُومِ الْحَرَجِ لَوْ وَجَبَ سَتْرُهَا عَنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الدُّخُولِ عَلَيْهَا وَهِيَ مُزَاوِلَةُ الْأَعْمَالِ وَعَدَمِ احْتِشَامِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ. وَأَيْضًا فَهَذِهِ الرَّحِمُ الْمُحَرَّمَةُ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، وَبِالْقَطْعِ يَحْصُلُ الْقَطْعُ فَوَجَبَ صَوْنُهَا بِدَرْئِهِ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِ الْحِرْزِ فِيهَا قَوْله تَعَالَى {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} وَرَفْعُ الْجُنَاحِ عَنْ الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ الْأَعْمَامِ أَوْ الْعَمَّاتِ مُطْلَقًا يُؤْنِسُ إطْلَاقَ الدُّخُولِ. وَلَوْ سُلِّمَ فَإِطْلَاقُ الْأَكْلِ مُطْلَقًا يَمْنَعُ قَطْعَ الْقَرِيبِ، ثُمَّ هُوَ إنْ تُرِكَ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْمَنْعِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَا فِي «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك». فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ قَالَ {أَوْ صَدِيقِكُمْ} كَمَا قَالَ {أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ} وَالْحَالُ أَنَّهُ يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ صَدِيقِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ سَرِقَةَ مَالِهِ فَقَدْ عَادَاهُ فَلَمْ يُقْطَعْ الْآخِذُ إلَّا فِي حَالِ الْعَدَاوَةِ (وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَتَاعَ غَيْرِهِ لَا يُقْطَعُ، وَلَوْ سَرَقَ مَالَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا لِلْحِرْزِ وَعَدَمِهِ) فَسَرِقَةُ مَالِ الْغَيْرِ مِنْ بَيْتِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ سَرِقَةٌ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَسَرِقَةُ مَالِ ذِي الرَّحِمِ مِنْ بَيْتِ

ص: 381

(وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قُطِعَ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ، بِخِلَافِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا عَادَةً. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا قَرَابَةَ وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِهَا لَا تُحْتَرَمُ كَمَا إذَا ثَبَتَتْ بِالزِّنَا وَالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يَشْتَهِرُ فَلَا بُسُوطَةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ.

(وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ زَوْجِ سَيِّدَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ عَادَةً، وَإِنْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ حِرْزٍ الْآخَرِ خَاصَّةً لَا يَسْكُنَانِ فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِبُسُوطَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْوَالِ

غَيْرِهِ سَرِقَةٌ مِنْ حِرْزٍ فَيُقْطَعُ، وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ فِي الْقَطْعِ الْقَطِيعَةَ فَيَنْدَرِئُ وَهُوَ الْمَوْعُودُ، وَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يُعَرِّجْ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قُطِعَ) وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ بِخِلَافِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا عَادَةً) وَلِذَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْهَا اتِّفَاقًا، وَكَذَا الْأَبُ مِنْ الرَّضَاعَةِ. (وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِ الْقَرَابَةِ لَا تُحْتَرَمُ كَمَا إذَا ثَبَتَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بِالزِّنَا) بِأَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا وَيُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُمَا (وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ) فَإِنَّ فِيهَا مَحْرَمِيَّةً بِلَا قَرَابَةٍ مَعَ اتِّحَادِ سَبَبِ الْمَحْرَمِيَّةِ فِيهِمَا، فَالْإِلْحَاقُ بِهَا فِي إثْبَاتِ الْقَطْعِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِلْحَاقِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَطْءِ، ثُمَّ تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لِإِبْطَالِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لِأَبِي يُوسُفَ صَرِيحًا وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا إلَخْ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يَشْتَهِرُ فَلَا بُسُوطُةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ) فَإِنَّهُ يَشْتَهِرُ بِلَا تَحَشُّمٍ وَلَا تُهْمَةٍ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ مَنْعَ قَوْلِهِ إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إلَخْ، فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ إلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا تُهْمَةً لَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهَا لِعَدَمِ الشُّهْرَةِ فَيُتَّهَمُ فَلَا يَدْخُلُ بِلَا اسْتِئْذَانٍ، بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَشْتَهِرُ فَلَا يُنْكَرُ دُخُولُهُ، فَلِذَا قُطِعَ فِي سَرِقَةِ مَالِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَمْ يُقْطَعْ فِي سَرِقَةِ مَالِ أُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ أَوْ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ أَوْ زَوْجِ سَيِّدَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِوُجُودِ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ عَادَةً) فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ (وَإِنْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ حِرْزِ الْآخَرِ خَاصَّةً لَا يَسْكُنَانِ فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ كَقَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ يُقْطَعُ الرَّجُلُ خَاصَّةً لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ حَقًّا فِي مَالِهِ: أَيْ النَّفَقَةَ. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ بَيْنَهُمَا بُسُوطَةً فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً وَدَلَالَةً فَإِنَّهَا لَمَّا بَذَلَتْ نَفْسَهَا وَهِيَ أَنْفَسُ

ص: 382

عَادَةً وَدَلَالَةً وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ.

(وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ لَهُ فِي أَكْسَابِهِ حَقًّا (وَكَذَلِكَ السَّارِقُ مِنْ الْمَغْنَمِ) لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَرْءًا وَتَعْلِيلًا.

مِنْ الْمَالِ كَانَتْ بِالْمَالِ أَسْمَحُ، وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ مِنْ غَيْرِ حَجْبِ حِرْمَانٍ كَالْوَالِدَيْنِ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلَامٍ سَرَقَ مِرْآةً لِامْرَأَةِ سَيِّدِهِ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ، فَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ خَادِمُ الزَّوْجِ فَالزَّوْجُ أَوْلَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ (هُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ) يَعْنِي عِنْدَنَا لَا يُقْطَعُ أَحَدُهُمَا بِمَالِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ لِاتِّصَالِ الْمَنَافِعِ، وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ كَمَا تُقْبَلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. فَإِنْ قُلْت: أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ رُبَّمَا لَا يَبْسُطُ لِلْآخَرِ فِي مَالِهِ بَلْ يَحْبِسُهُ عَنْهُ وَيُحَرِّزُهُ.

قُلْنَا: وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالِابْنُ قَدْ يَتَّفِقُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ذَلِكَ وَلَا قَطْعَ بَيْنَهُمَا اتِّفَاقًا. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْأَصْهَارِ وَالْأَخْتَانِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ، وَقَالَا: يُقْطَعُ. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجَةِ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ زَوْجِ ابْنَتِهِ أَوْ بِنْتِ زَوْجِ أُمِّهِ إنْ كَانَ يَجْمَعُهُمَا مَنْزِلٌ وَاحِدٌ لَمْ يُقْطَعْ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ فِي مَنْزِلٍ عَلَى حِدَةٍ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ. وَلَوْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَبَانَتْ مِنْ غَيْرِ عِدَّةٍ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّزَوُّجُ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ بِالْقَطْعِ أَوْ لَمْ يُقْضَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ يُقْطَعُ. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ الْمَبْتُوتَةِ أَوْ الْمُخْتَلِعَةِ فِي الْعِدَّةِ لَا قَطْعَ، وَكَذَا إذَا سَرَقَتْ هِيَ مِنْ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ يَجِبُ الْقَطْعُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ لَا يُقْطَعُ) بِلَا خِلَافٍ (لِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقًّا فِي أَكْسَابِهِ) وَلِأَنَّ مَالَهُ مَوْقُوفٌ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ كَانَ لِلْمَوْلَى أَوْ عَتَقَ كَانَ لَهُ، فَلَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مَالٍ مَوْقُوفٍ دَائِرٍ بَيْنَ السَّارِقِ وَغَيْرِهِ، كَمَا إذَا سَرَقَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ، وَكَمَا لَا قَطْعَ عَلَى السَّيِّدِ كَذَلِكَ لَا قَطْعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ إذَا سَرَقَ مَالَ سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ أَوْ مِنْ زَوْجَةِ سَيِّدِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ مَنْ عَدَا سَيِّدَهُ كَزَوْجَةِ سَيِّدِهِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَتَقَدَّمَ أَثَرُ عُمَرَ وَهُوَ فِي السَّرِقَةِ مِنْ مَالِ زَوْجَةِ سَيِّدِهِ، وَكَانَ ثَمَنُ الْمِرْآةِ سِتِّينَ دِرْهَمًا، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ خِلَافَهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ فَتُخَصُّ بِهِ الْآيَةُ، وَالْحُكْمُ فِي الْمُدَبَّرِ كَذَلِكَ.

(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ السَّارِقُ مِنْ الْمَغْنَمِ) لَا يُقْطَعُ (لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ دَرْءًا وَتَعْلِيلًا) رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْأَبْرَصِ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِرَجُلٍ سَرَقَ مِنْ الْمَغْنَمِ فَقَالَ: لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ وَهُوَ خَائِنٌ فَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَكَانَ قَدْ سَرَقَ مِغْفَرًا. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. قِيلَ وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ

ص: 383

وَقَالَ (وَالْحِرْزُ عَلَى نَوْعَيْنِ حِرْزٌ لِمَعْنًى فِيهِ كَالْبُيُوتِ وَالدُّورِ. وَحِرْزٌ بِالْحَافِظِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: الْحِرْزُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ، ثُمَّ هُوَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِإِحْرَازِ الْأَمْتِعَةِ كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالصُّنْدُوقِ وَالْحَانُوتِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَافِظِ كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِهِ، وَقَدْ «قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ» (وَفِي الْمُحَرَّزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ

ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا جُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنْ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقْطَعْهُ وَقَالَ: مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَكَلَامُنَا فِيمَا سَرَقَهُ بَعْضُ مُسْتَحَقِّي الْغَنِيمَةِ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

(قَوْلُهُ قَالَ) أَيْ الْمُصَنِّفُ (الْحِرْزُ لَا بُدَّ مِنْهُ) لِوُجُوبِ الْقَطْعِ (لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَافِظٌ مِنْ بِنَاءٍ وَنَحْوِهِ أَوْ إنْسَانٍ مُتَصَدٍّ لِلْحِفْظِ يَكُونُ الْمَالُ سَائِبًا فَلَا يَتَحَقَّقُ إخْفَاءُ الْأَخْذِ وَالدُّخُولُ فَلَا تَتَحَقَّقُ السَّرِقَةُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} بِنَفْسِهِ يُوجِبُ الْحِرْزَ إذْ لَا تُتَصَوَّرُ السَّرِقَةُ دُونَ الْإِخْفَاءِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِخْفَاءُ دُونَ الْحَافِظِ، فَيُخْفِي الْأَخْذَ مِنْهُ أَوْ الْبِنَاءُ فَيُخْفِي دُخُولَهُ بَيْتَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِهِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ، وَلَا فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ، فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوْ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» وَنَحْوُهُ وَارِدٌ عَلَى وَفْقِ الْكِتَابِ لَا مُبَيِّنٌ مُخَصِّصٌ (ثُمَّ هُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: حِرْزٌ) بِالْمَكَانِ (كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ) وَالْجُدَرَانِ وَالْحَوَانِيتِ لِلتُّجَّارِ وَلَيْسَتْ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِ بِلَادِ مِصْرَ الدَّكَاكِينَ وَالصَّنَادِيقَ وَالْخِيَامَ وَالْخَرْكَاهَ وَجَمِيعَ مَا أُعِدَّ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَافِظِ وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْأَمَاكِنِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ.

وَذَلِكَ (كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ) أَوْ فِي الصَّحْرَاءِ (أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِهِ. وَقَدْ «قَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ») عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَالْحَاكِمُ، وَحَكَمَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَأَلْفَاظٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا انْقِطَاعٌ وَفِي بَعْضِهَا مَنْ هُوَ مُضَعَّفٌ، وَلَكِنْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَاتَّسَعَ مَجِيئُهُ اتِّسَاعًا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ بِلَا شُبْهَةٍ. وَفِي طَرِيقِ السُّنَنِ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى ثُمَّ لَفَّ رِدَاءً لَهُ مِنْ بُرْدٍ فَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَنَامَ. فَأَتَاهُ لِصٌّ فَاسْتَلَّهُ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ. فَأَخَذَهُ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ هَذَا سَرَقَ رِدَائِي. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَسَرَقْت رِدَاءَ هَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبَا بِهِ فَاقْطَعَا يَدَهُ، فَقَالَ صَفْوَانُ: مَا كُنْت أُرِيدُ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ فِي رِدَائِي، قَالَ: فَلَوْلَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ»

زَادَ النَّسَائِيّ " فَقَطَعَهُ " وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ: سَمَّاهُ خَمِيصَةً ثَمَنَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا (قَوْلُهُ وَفِي الْمُحَرَّزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ

ص: 384

الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِدُونِهِ وَهُوَ الْبَيْتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ كَانَ وَهُوَ مَفْتُوحٌ حَتَّى يُقْطَعَ السَّارِقُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِقَصْدِ الْإِحْرَازِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ لِقِيَامِ يَدِهِ فِيهِ قَبْلَهُ. بِخِلَافِ الْمُحَرَّزِ بِالْحَافِظِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ، كَمَا أُخِذَ لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ تَحْتَهُ أَوْ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَدُّ النَّائِمُ عِنْدَ مَتَاعِهِ حَافِظًا لَهُ فِي الْعَادَةِ.

الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا فِي الْعُيُونِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ الْحَمَّامِ فِي وَقْتِ الْإِذْنِ: أَيْ فِي وَقْتِ دُخُولِهَا إذَا كَانَ ثَمَّةَ حَافِظٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُقْطَعُ.

وَبِهِ أَخَذَ أَبُو اللَّيْثِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَفِي الْكَافِي: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَجْهُ الصَّحِيحِ (أَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِدُونِ الْحَافِظِ) لِأَنَّ الْمَكَانَ فِي نَفْسِهِ صَالِحٌ لِلْإِحْرَازِ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ وُصُولِ يَدِ غَيْرِ صَاحِبِهِ إلَى مَا فِيهِ، وَيَكُونُ الْمَالُ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَفِيًا، وَلَيْسَ هَذَا مَعَ الْحَافِظِ فَهُوَ فَرْعٌ، وَلَا اعْتِبَارَ لِلْفَرْعِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مَعَهُ، فَلِذَا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ فِي وَقْتِ الْإِذْنِ فِي دُخُولِهَا وَسَرَقَ مِنْهَا مَا عِنْدَهُ حَافِظٌ لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّ الْحَمَّامَ فِي نَفْسِهِ صَالِحٌ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ، إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَّ الْحِرْزُ لِلْإِذْنِ فِي دُخُولِهَا وَلِذَا يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ مَا وُضِعَ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ فَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِمَالٍ عِنْدَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ فِيهِ، وَقَدْ قُطِعَ سَارِقُ رِدَاءِ صَفْوَانَ وَكَانَ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ. وَلِكَوْنِ الْمَكَانِ هُوَ الْحِرْزَ الَّذِي يُقْتَصَرُ النَّظَرُ عَلَيْهِ قُلْنَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ لَهُ بَابٌ وَلَكِنَّهُ مَفْتُوحٌ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِلْإِحْرَازِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ لِقِيَامِ يَدِ الْمَالِكِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ) مِنْ دَارِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ إلَّا بِإِزَالَةِ يَدِهِ وَذَلِكَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ حِرْزِهِ (بِخِلَافِ الْمُحَرَّزِ بِالْحَافِظِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ كَمَا أَخَذَهُ لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ) فَيَجِبُ مُوجِبُهَا (وَلَا فَرْقَ) فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ (بَيْنَ كَوْنِ الْحَافِظِ) فِي الطَّرِيقِ وَالصَّحْرَاءِ وَالْمَسْجِدِ (مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ تَحْتَهُ) أَوْ تَحْتَ رَأْسِهِ (أَوْ عِنْدَهُ) وَهُوَ بِحَيْثُ يَرَاهُ (لِأَنَّهُ يُعَدُّ النَّائِمُ عِنْدَ مَتَاعِهِ) وَبِحَضْرَتِهِ كَيْفَمَا نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ لَا (حَافِظًا لَهُ فِي الْعَادَةِ) وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَتَاعِ تَحْتَ

ص: 385

وَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَضْيِيعٍ، بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ فِي الْفَتَاوَى. .

قَالَ (وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ قُطِعَ) لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحَرَّزًا بِأَحَدِ الْحِرْزَيْنِ (وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مِنْ حَمَّامٍ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ عَادَةً أَوْ حَقِيقَةً فِي الدُّخُولِ فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ حَوَانِيتُ التُّجَّارِ وَالْخَانَاتُ، إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ قُطِعَ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِالْحَافِظِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ

رَأْسِهِ أَوْ تَحْتَ جَنْبِهِ.

وَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرْنَا (وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ) إذَا حَفِظَ الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ كَذَلِكَ فَسُرِقَتْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِفْظًا لَضَمِنَا (بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ فِي الْفَتَاوَى) فَإِنَّهُ أَوْجَبَ فِيهَا الضَّمَانَ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا، ثُمَّ مَا كَانَ حِرْزًا لِنَوْعٍ يَكُونُ حِرْزًا لِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، حَتَّى لَوْ سَرَقَ لُؤْلُؤَةً مِنْ إصْطَبْلٍ أَوْ حَظِيرَةِ غَنَمٍ يُقْطَعُ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَقَ الْغَنَمَ مِنْ الْمَرْعَى فَقَدْ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ عَدَمَ الْقَطْعِ فِيهِ وَفِي الْفَرَسِ وَالْبَقَرِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، فَإِنْ كَانَ قُطِعَ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاعِيًا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَحْفَظُهَا الرَّاعِي فَفِي الْبَقَّالِيِّ لَا يُقْطَعُ، وَهَكَذَا فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَطْلَقَ خُوَاهَرْ زَادَهْ ثُبُوتَ الْقَطْعِ إذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ. وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِأَنَّ الرَّاعِيَ لَمْ يَقْصِدْ لِحِفْظِهَا مِنْ السُّرَّاقِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَنَقَلَ الْإِسْبِيجَابِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُعْتَبَرُ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فَلَا يُقْطَعُ بِاللُّؤْلُؤَةِ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْمَذْكُورَةِ وَالثِّيَابِ النَّفِيسَةِ مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ) كَالصَّحْرَاءِ (وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ قُطِعَ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحَرَّزًا بِأَحَدِ الْحِرْزَيْنِ) وَهَذَا بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ مَا إذَا سَرَقَ مِنْ حَمَّامٍ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِ إذَا كَانَ وَقْتَ الْإِذْنِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَخْتَصُّ بِمَا يَلِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلَا يَرِدُ الْحَمَّامُ فَإِنَّهُ حِرْزٌ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ تَقْيِيدٌ لَهُ، فَإِنَّهُ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْطَعَ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ.

(قَوْلُهُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) أَيْ يَدْخُلُ فِي بَيْتٍ أُذِنَ فِي دُخُولِهِ (الْخَانَاتُ وَالْحَوَانِيتُ) فَيَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ عَدَمِ الْقَطْعِ نَهَارًا فَإِنَّ التَّاجِرَ يَفْتَحُ حَانُوتَهُ نَهَارًا فِي السُّوقِ وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ لِيَشْتَرُوا مِنْهُ فَإِذَا سَرَقَ وَاحِدٌ مِنْهُ شَيْئًا لَا يُقْطَعُ وَكَذَا الْخَانَاتُ (إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ) وَإِنَّمَا اخْتَلَّ الْحِرْزُ بِالنَّهَارِ لِلْإِذْنِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِاللَّيْلِ (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ قُطِعَ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِالْحَافِظِ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ

ص: 386

مَا بُنِيَ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ مُحَرَّزًا بِالْمَكَانِ، بِخِلَافِ الْحَمَّامِ وَالْبَيْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلْإِحْرَازِ فَكَانَ الْمَكَانُ حِرْزًا فَلَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ.

(وَلَا قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ إذَا سَرَقَ مِمَّنْ أَضَافَهُ) لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَبْقَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِي دُخُولِهِ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً لَا سَرِقَةً.

(وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَلَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الدَّارِ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِخْرَاجِ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الدَّارَ وَمَا فِيهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا مَعْنًى فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَخْذِ)(فَإِنْ كَانَتْ دَارٌ فِيهَا مَقَاصِيرُ فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْمَقْصُورَةِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ) لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ بِاعْتِبَارِ سَاكِنِهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ (وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ عَلَى مَقْصُورَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا قُطِعَ)

مَا بُنِيَ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّزًا بِالْمَكَانِ) لِيَنْقَطِعَ اعْتِبَارُ الْحَافِظِ ثُمَّ تَخْتَلُّ حِرْزِيَّتُهُ بِالْإِذْنِ كَالْحَمَّامِ، فَكَانَ الْحَافِظُ مُعْتَبَرًا حِرْزًا فَيُقْطَعُ بِالْأَخْذِ، وَعَلَى هَذَا مَا فِي الْخُلَاصَةِ: جَمَاعَةٌ نَزَلُوا بَيْتًا أَوْ خَانًا فَسَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مَتَاعًا وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ يَحْفَظُهُ أَوْ تَحْتَ رَأْسِهِ لَا يُقْطَعُ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ قُطِعَ.

(قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ إذَا سَرَقَ مِمَّنْ أَضَافَهُ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَبْقَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِي دُخُولِهِ، وَلِأَنَّهُ) بِالْإِذْنِ صَارَ (بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً لَا سَرِقَةً) وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ الَّتِي أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهَا وَهُوَ مُقْفَلٌ أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ، ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ، لِأَنَّ الدَّارَ مَعَ جَمِيعِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا إذَا أَخْرَجَ اللِّصُّ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ إلَى الدَّارِ لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الدَّارِ، وَإِذَا كَانَ وَاحِدًا فَبِالْإِذْنِ فِي الدَّارِ اخْتَلَّ الْحِرْزُ فِي الْبُيُوتِ، وَسَيَأْتِي مَا يُفِيدُ هَذَا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَلَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الدَّارِ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِخْرَاجِ، وَلِأَنَّ الدَّارَ وَمَا فِيهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا مَعْنًى فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَخْذِ) وَهَتْكِ الْحِرْزِ (فَإِذَا كَانَتْ فِيهَا مَقَاصِيرُ فَأَخْرَجَهَا مِنْ مَقْصُورَةٍ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ) هَذَا كَلَامُ مُحَمَّدٍ، وَأُوِّلَ بِمَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ عَظِيمَةً فِيهَا بُيُوتُ كُلِّ بَيْتٍ يَسْكُنُهُ أَهْلُ بَيْتٍ عَلَى حِدَتِهِمْ وَيَسْتَغْنُونَ بِهِ اسْتِغْنَاءَ أَهْلِ الْمَنَازِلِ بِمَنَازِلِهِمْ عَنْ صَحْنِ الدَّارِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ انْتِفَاعَهُمْ بِالسِّكَّةِ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ إلَيْهَا كَالْإِخْرَاجِ إلَى السِّكَّةِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ بُيُوتَ الدَّارِ كُلَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ. وَهُنَا كُلُّ بَيْتٍ حِرْزٌ عَلَى حِدَتِهِ لِاخْتِلَافِ السُّكَّانِ. وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: الْقَوْمُ إذَا كَانُوا فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ عَلَيْهِ بَابٌ يُغْلَقُ فَنَقَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ عَلَى صَاحِبِهِ وَسَرَقَ مِنْهُ إنْ كَانَتْ الدَّارُ عَظِيمَةً يُقْطَعُ وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا تَلِفَ الْمَسْرُوقُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الدَّارِ وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِوُجُودِ التَّلَفِ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي بِخِلَافِ الْقَطْعِ لِأَنَّ شَرْطَهُ هَتْكُ الْحِرْزِ وَلَمْ يُوجَدْ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ عَلَى مَقْصُورَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا قُطِعَ) يُرِيدُ دَخَلَ

ص: 387

لِمَا بَيَّنَّا.

(وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ فَدَخَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَنَاوَلَهُ آخَرَ خَارِجَ الْبَيْتِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِخْرَاجُ لِاعْتِرَاضِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى الْمَالِ قَبْلَ خُرُوجِهِ. وَالثَّانِي لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ هَتْكُ الْحِرْزِ فَلَمْ تَتِمَّ السَّرِقَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: إنْ أَخْرَجَ الدَّاخِلُ يَدَهُ وَنَاوَلَهَا الْخَارِجَ فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَتَنَاوَلَهَا مِنْ يَدِ الدَّاخِلِ فَعَلَيْهِمَا الْقَطْعُ. وَهِيَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ وَخَرَجَ فَأَخَذَهُ قُطِعَ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ

مَقْصُورَةً عَلَى غِرَّةٍ فَأَخَذَ بِسُرْعَةٍ، يُقَالُ أَغَارَ الْفَرَسُ وَالثَّعْلَبُ فِي الْعَدُوِّ: إذَا أَسْرَعَ. وَقَوْلُهُ فَسَرَقَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ أَغَارَ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ فَدَخَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ فَتَنَاوَلَهُ آخَرُ خَارِجَ الْبَيْتِ) عِنْدَ النَّقْبِ أَوْ عَلَى الْبَابِ (فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا) بِلَا تَفْصِيلٍ بَيْنَ إخْرَاجِ الدَّاخِلِ يَدَهُ إلَى الْخَارِجِ أَوْ إدْخَالِ الْخَارِجِ يَدَهُ (ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنْ أَخْرَجَ الدَّاخِلُ يَدَهُ مِنْهَا إلَى الْخَارِجِ فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَتَنَاوَلَهَا فَعَلَيْهِمَا الْقَطْعُ) وَعُلِّلَ الْإِطْلَاقُ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ (لِاعْتِرَاضِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى الْمَالِ) الْمَسْرُوقِ (قَبْلَ خُرُوجِهِ) أَيْ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّاخِلِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقْطَعَ الدَّاخِلُ كَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ دَخَلَ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ الْمَالَ مِنْهُ بِنَفْسِهِ. وَكَوْنُهُ لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ مَعَهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ فِي السَّرِقَةِ وَإِخْرَاجِ الْمَالِ، وَمَا قِيلَ إنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ بِفِعْلِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ ثُمَّ الْخَارِجُ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا الدَّاخِلُ مَمْنُوعٌ بَلْ تَمَّتْ بِالدَّاخِلِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا تَتِمُّ بِهِمَا إذَا أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَأَخَذَهَا.

وَفِيهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْطَعَانِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ إنْ كَانَا مُتَعَاوِنَيْنِ قُطِعَا وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ: فَإِنْ انْفَرَدَ كُلٌّ بِفِعْلِهِ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا إذَا اتَّفَقَ أَنَّ خَارِجًا رَأَى نَقْبًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَوَقَعَتْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا جَمَعَهُ الدَّاخِلُ فَأَخَذَهُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى تَأْتِي يَعْنِي مَسْأَلَةَ نَقْبِ الْبَيْتِ وَأَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ خَرَجَ وَأَخَذَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ مَا إذَا وَضَعَ الدَّاخِلُ الْمَالَ عِنْدَ النَّقْبِ ثُمَّ خَرَجَ وَأَخَذَهُ، قِيلَ يُقْطَعُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ. قِيلَ وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ نَهْرٌ جَارٍ فَرَمَى الْمَالَ فِي النَّهْرِ ثُمَّ خَرَجَ فَأَخَذَهُ، إنْ خَرَجَ بِقُوَّةِ الْمَاءِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ، وَقِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ إخْرَاجٌ ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ. وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ فِيمَا إذَا أَخْرَجَهُ الْمَاءُ بِقُوَّةِ جَرْيِهِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ.

وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ جَرْيَ الْمَاءِ بِهِ كَانَ بِسَبَبِ إلْقَائِهِ فِيهِ فَيَصِيرُ الْإِخْرَاجُ مُضَافًا إلَيْهِ، وَهُوَ زِيَادَةُ حِيلَةٍ مِنْهُ لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقَطْعِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ رَاكِدًا أَوْ جَرْيُهُ ضَعِيفًا فَأَخْرَجَهُ بِتَحْرِيكِ الْمَاءِ قُطِعَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا يَرُدُّ نَقْضًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْمَالِ وَلَكِنْ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اعْتِرَاضُ الْيَدِ الْمُعْتَبَرَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ (وَلَوْ أَلْقَاهُ) الدَّاخِلُ (فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ خَرَجَ وَأَخَذَهُ قُطِعَ) وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ (لَهُ أَنَّ الْإِلْقَاءَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ

ص: 388

كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَكَذَا الْأَخْذُ مِنْ السِّكَّةِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ. وَلَنَا أَنَّ الرَّمْيَ حِيلَةٌ يَعْتَادُهَا السُّرَّاقُ لِتَعَذُّرِ الْخُرُوجِ مَعَ الْمَتَاعِ، أَوْ لِيَتَفَرَّغَ لِقِتَالِ صَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِلْفِرَارِ وَلَمْ تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ فِعْلًا وَاحِدًا، فَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَهُوَ مُضَيِّعٌ لَا سَارِقٌ. قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ فَسَاقَهُ وَأَخْرَجَهُ) لِأَنَّ سَيْرَهُ مُضَافٌ إلَيْهِ لِسَوْقِهِ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ فَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ الْأَخْذَ قُطِعُوا جَمِيعًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ الْحَامِلُ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله؛

كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ) بِأَنْ تَرَكَهُ أَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ (وَكَذَا الْأَخْذُ مِنْ السِّكَّةِ) غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ فَلَا يُقْطَعُ بِحَالٍ (وَلَنَا أَنَّ الرَّمْيَ حِيلَةٌ يَعْتَادُهَا السُّرَّاقُ لِتَعَذُّرِ الْخُرُوجِ مَعَ الْمَتَاعِ لِضِيقِ النَّقْبِ أَوْ لِيَتَفَرَّغَ لِقِتَالِ صَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِلْفِرَارِ) إنْ أُدْرِكَ (وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى الْمَالِ الَّذِي أَخْرَجَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ فِعْلًا وَاحِدًا. وَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَهُوَ مُضَيِّعٌ) لِمَالِ صَاحِبِ الدَّارِ عَدَاوَةً وَمُضَارَّةً (لَا سَارِقٌ) وَإِذَا أَخَذَهُ غَيْرُهُ فَقَدْ اعْتَرَضَتْ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَقُطِعَتْ نِسْبَةُ الْأَخْذِ إلَيْهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تَثْبُتُ عَلَيْهِ، وَبِالْإِلْقَاءِ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ حُكْمًا لِعَدَمِ اعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سَقَطَ مِنْهُ مَالٌ فِي الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى مَكَانِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حُكْمًا فَرَدُّهُ إلَيْهِ كَرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ لِسُقُوطِ الْيَدِ الْحُكْمِيَّةِ بِالْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ (وَكَذَا إذَا حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ فَسَاقَهُ فَأَخْرَجَهُ لِأَنَّ سَيْرَهُ مُضَافٌ إلَيْهِ بِسَوْقِهِ) فَيُقْطَعُ. وَفِي مَبْسُوطِ أَبِي الْيُسْرِ: وَكَذَا إذَا عَلَّقَهُ فِي عُنُقِ كَلْبٍ وَزَجَرَهُ يُقْطَعُ، وَلَوْ خَرَجَ بِلَا زَجْرِهِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لِلدَّابَّةِ اخْتِيَارًا. فَمَا لَمْ يَفْسُدْ اخْتِيَارُهَا بِالْحَمْلِ وَالسَّوْقِ لَا تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَيْهَا. وَكَذَا إذَا عَلَّقَهُ عَلَى طَائِرٍ فَطَارَ بِهِ إلَى مَنْزِلِ السَّارِقِ أَوْ لَمْ يَسُقْ الْحِمَارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ إلَى مَنْزِلِ السَّارِقِ لَا يُقْطَعُ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ فَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ الْأَخْذَ قُطِعُوا جَمِيعًا. قَالَ رحمه الله: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ الْحَامِلُ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ) وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ فِعْلَ السَّرِقَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ بَعْدَ الْأَخْذِ، وَالْأَخْذُ إنْ نُسِبَ إلَى الْكُلِّ فَالْإِخْرَاجُ إنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ فَإِنَّمَا تَمَّتْ السَّرِقَةُ مِنْهُ. قُلْنَا: نَعَمْ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا قَطْعَهُمْ

ص: 389

لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ وُجِدَ مِنْهُ فَتَمَّتْ السَّرِقَةُ بِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْكُلِّ مَعْنًى لِلْمُعَاوَنَةِ كَمَا فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَادَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَحْمِلَ الْبَعْضُ الْمَتَاعَ وَيَتَشَمَّرَ الْبَاقُونَ لِلدَّفْعِ، فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَطْعُ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ. .

قَالَ (وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَأَخَذَ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعْ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْمَالَ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ فِيهِ، كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ فَأَخْرَجَ الْغِطْرِيفِيَّ. وَلَنَا أَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَمَالُ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ وَالْكَمَالِ فِي الدُّخُولِ، وَقَدْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ وَالدُّخُولُ هُوَ الْمُعْتَادُ. بِخِلَافِ الصُّنْدُوقِ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ إدْخَالُ الْيَدِ دُونَ الدُّخُولِ، وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ الْبَعْضِ الْمَتَاعَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ. قَالَ (وَإِنْ طَرَّ صُرَّةً خَارِجَةً مِنْ الْكُمِّ

لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ وَإِنْ قَامَ بِهِ وَحْدَهُ لَكِنَّهُ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْكُلِّ لِتَعَاوُنِهِمْ كَمَا فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى) وَإِذَا بَاشَرَ بَعْضُهُمْ الْقَتْلَ وَالْأَخْذَ وَالْبَاقُونَ وُقُوفٌ يَجِبُ حَدُّ قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْكُلِّ لِنِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَى الْكُلِّ شَرْعًا بِسَبَبِ مُعَاوَنَتِهِمْ، وَأَنَّ قُدْرَةَ الْقَاتِلِ وَالْآخِذِ إنَّمَا هِيَ بِهِمْ فَكَذَا هَذَا (فَإِنَّ السُّرَّاقَ يَعْتَادُونَ ذَلِكَ فَيَتَفَرَّغُ غَيْرُ الْحَامِلِ لِلدَّفْعِ) فَكَانَ مِثْلَهُ وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَتِمُّ الْوَجْهُ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ (فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَطْعُ أَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ) إنْ مُنِعَ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنَّمَا وَضَعَهَا فِي دُخُولِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ لَكِنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي فِعْلِ السَّرِقَةِ لَا يُقْطَعُ إلَّا الدَّاخِلُ إنْ عُرِفَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عُزِّرُوا كُلُّهُمْ وَأَبَّدَ حَبْسَهُمْ إلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخَذَ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعْ) وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ الْكُلِّ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْحَاكِمُ خِلَافًا (وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُقْطَعُ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ تَحَقَّقَ، وَالدُّخُولُ فِيهِ لَمْ يُفْعَلْ قَطُّ إلَّا لَهُ فَكَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ الدُّخُولِ وَقَدْ وُجِدَ، فَاعْتِبَارُهُ شَرْطًا فِي الْقَطْعِ بَعْدَ الْمَقْصُودِ اعْتِبَارُ صُورَةٍ لَا أَثَرَ لَهَا غَيْرُ مَا حَصَلَ (وَصَارَ كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ فَأَخْرَجَ الْغِطْرِيفِيَّ) أَوْ فِي الْجُوَالِقِ. وَالْغِطْرِيفِيُّ: دِرْهَمٌ مَنْسُوبٌ إلَى الْغِطْرِيفِ بْنِ عَطَاءٍ الْكِنْدِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ أَيَّامِ الرَّشِيدِ، وَكَانَتْ دَرَاهِمُهُ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ بِبُخَارَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا أَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَمَالُ) وَعَرَفْت أَنَّ هَذَا فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ مِنْهُمْ فَأَثْبَتَهُ بِقَوْلِهِ (تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ) أَيْ شُبْهَةِ عَدَمِ السَّرِقَةِ وَهِيَ مُسْقِطَةٌ، فَإِنَّ النَّاقِصَ يُشْبِهُ الْعَدَمَ، وَقَدْ يُمْنَعُ نُقْصَانُ هَذِهِ السَّرِقَةِ لِأَنَّهَا أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً مِنْ حِرْزٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَالدُّخُولُ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِهَا، وَلَا شَرْطًا لِوُجُودِهَا إذْ قَدْ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَفْهُومُ بِلَا دُخُولٍ وَقَدْ يَتَحَقَّقُ مَعَهُ، وَفِي كِلَا الصُّورَتَيْنِ مَعْنَى السَّرِقَةِ تَامٌّ لَا نَقْصَ فِيهِ، وَكَوْنُ الدُّخُولِ هُوَ الْمُعْتَادُ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِ شَيْءٍ مَا لَمْ يُبْصِرْهُ بِعَيْنِهِ مِنْ جَوَانِبِ الْبَيْتِ فَيَقْصِدُ إلَيْهِ. وَقَلَّمَا يُدْخِلُ الْإِنْسَانُ يَدَهُ مِنْ كُوَّةِ بَيْتٍ فَتَقَعُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّنْدُوقِ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الصُّنْدُوقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، بِخِلَافِ الْبَيْتِ (وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ الْبَعْضِ الْمَتَاعَ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ).

(قَوْلُهُ وَمَنْ طَرَّ) أَيْ شَقَّ (صُرَّةً) وَالصُّرَّةُ الْهِمْيَانُ وَالْمُرَادُ مِنْ الصُّرَّةِ هُنَا

ص: 390

لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ يُقْطَعُ) لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الرِّبَاطَ مِنْ خَارِجٍ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الظَّاهِرِ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ. وَفِي الثَّانِي الرِّبَاطُ مِنْ دَاخِلٍ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْكُمُّ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الطَّرِّ حَلُّ الرِّبَاطِ، ثُمَّ الْأَخْذُ فِي الْوَجْهَيْنِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُقْطَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ إمَّا بِالْكُمِّ أَوْ بِصَاحِبِهِ. قُلْنَا: الْحِرْزُ هُوَ الْكُمُّ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهُ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ

الْمَوْضِعُ الْمَشْدُودُ فِيهِ دَرَاهِمُ مِنْ الْكُمِّ (لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ قُطِعَ، لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الرِّبَاطَ مِنْ خَارِجٍ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ خَارِجٍ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ. وَفِي الثَّانِي الرِّبَاطُ مِنْ دَاخِلٍ فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْكُمُّ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الطَّرِّ حَلُّ الرِّبَاطِ، ثُمَّ الْأَخْذُ فِي الْوَجْهَيْنِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ) فَإِذَا كَانَ الرِّبَاطُ مِنْ خَارِجٍ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ حِينَئِذٍ مِنْ بَاطِنِ الْكُمِّ، وَإِنْ كَانَ الرِّبَاطُ مِنْ دَاخِلِ الْكُمِّ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَأْخُذُهَا مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ، فَظَهَرَ أَنَّ انْعِكَاسَ الْجَوَابِ (لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ)

أَيْ الطَّرَّارَ (يُقْطَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ فِي صُورَةِ أَخْذِهِ مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّزًا بِالْكُمِّ فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِصَاحِبِهِ، وَإِذَا كَانَ مُحَرَّزًا بِصَاحِبِهِ وَهُوَ نَائِمٌ إلَى جَنْبِهِ فَلَأَنْ يَكُونَ مُحَرَّزًا بِهِ وَهُوَ يَقْظَانُ وَالْمَالُ يُلَاصِقُ بَدَنَهُ أَوْلَى (قُلْنَا: بَلْ الْحِرْزُ هُنَا لَيْسَ إلَّا الْكُمَّ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَعْتَمِدُ الْكُمَّ) أَوْ الْجَيْبَ لَا قِيَامَ نَفْسِهِ فَصَارَ الْكُمُّ كَالصُّنْدُوقِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَطْرُورَ كُمُّهُ إمَّا فِي حَالِ الْمَشْيِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَمَقْصُودُهُ فِي الْأَوَّلِ لَيْسَ إلَّا قَطْعَ الْمَسَافَةِ لَا حِفْظَ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَمَقْصُودُهُ الِاسْتِرَاحَةُ عَنْ حِفْظِ الْمَالِ وَهُوَ شُغْلُ قَلْبِهِ بِمُرَاقَبَتِهِ فَإِنَّهُ مُتْعِبٌ لِلنَّفْسِ فَيَرْبِطُهُ لِيُرِيحَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا اعْتَمَدَ الرَّبْطُ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْبَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَقَّ جُوَالِقًا عَلَى جَمَلٍ يَسِيرُ فَأَخَذَ مَا فِيهِ قُطِعَ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ اعْتَمَدَ الْجُوَالِقَ فَكَانَ السَّارِقُ مِنْهُ هَاتِكًا لِلْحِرْزِ فَيُقْطَعُ، وَلَوْ أَخَذَ الْجُوَالِقَ بِمَا فِيهِ لَا يُقْطَعُ. وَكَذَا لَوْ سَرَقَ مِنْ الْفُسْطَاطِ قُطِعَ، وَلَوْ سَرَقَ نَفْسَ الْفُسْطَاطِ لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُحَرَّزًا بَلْ مَا فِيهِ مُحَرَّزٌ بِهِ فَلِذَا قُطِعَ فِيمَا فِيهِ دُونَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْفُسْطَاطُ مَلْفُوفًا عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ أَوْ فِي فُسْطَاطٍ آخَرَ

ص: 391

أَوْ الِاسْتِرَاحَةِ فَأَشْبَهَ الْجُوَالِقَ.

(وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا أَوْ حِمْلًا لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّزٍ مَقْصُودًا فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ وَالرَّاكِبَ يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَنَقْلَ الْأَمْتِعَةِ دُونَ الْحِفْظِ. حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَ الْأَحْمَالِ مَنْ يَتْبَعُهَا لِلْحِفْظِ قَالُوا يُقْطَعُ (وَإِنْ شَقَّ الْحِمْلَ وَأَخَذَ مِنْهُ قُطِعَ) لِأَنَّ الْجُوَالِقَ فِي مِثْلِ هَذَا حِرْزٌ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ صِيَانَتَهَا كَالْكُمِّ فَوُجِدَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ (وَإِنْ سَرَقَ جُوَالِقًا فِيهِ مَتَاعٌ وَصَاحِبُهُ يَحْفَظُهُ أَوْ نَائِمٌ عَلَيْهِ قُطِعَ) وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ الْجُوَالِقُ فِي مَوْضِعٍ هُوَ لَيْسَ بِحِرْزٍ كَالطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ حَتَّى يَكُونَ مُحَرَّزًا بِصَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ مُتَرَصِّدًا لِحِفْظِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِفْظُ الْمُعْتَادُ وَالْجُلُوسُ عِنْدَهُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ يُعَدُّ حِفْظًا عَادَةً وَكَذَا النَّوْمُ بِقُرْبٍ مِنْهُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ. وَلَوْ سَرَقَ الْغَنَمَ مِنْ الْمَرْعَى لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ الرَّاعِي مَعَهَا، لِأَنَّ الرَّاعِيَ لَا يَقْصِدُ الْحِفْظَ بَلْ مُجَرَّدَ الرَّعْيِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ فِي حَظِيرَةٍ بَنَاهَا لَهَا وَعَلَيْهَا بَابٌ مُغْلَقٌ فَأَخْرَجَهَا مِنْهُ قُطِعَ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِحِفْظِهَا.

وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ إذَا كَانَ الرَّاعِي بِحَيْثُ يَرَاهَا يُقْطَعُ لِأَنَّهَا مُحَرَّزَةٌ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً عَنْ نَظَرِهِ أَوْ هُوَ نَائِمٌ أَوْ مَشْغُولٌ فَلَيْسَتْ مُحَرَّزَةً، وَكَذَا إذَا أَخَذَ الْجُوَالِقَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْجِمَالِ الْمُقَطَّرَةِ يُقْطَعُ. وَبِمَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الطَّرِّ ظَهَرَ أَنَّ مَا يُطْلَقُ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الطَّرَّارَ يُقْطَعُ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا أَوْ حِمْلًا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ مَقْصُودٍ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّائِقَ وَالرَّاكِبَ وَالْقَائِدَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَنَقْلَ الْأَمْتِعَةِ دُونَ الْحِفْظِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَ الْأَحْمَالِ مَنْ يَتْبَعُهَا لِلْحِفْظِ قَالُوا يُقْطَعُ وَإِنْ شَقَّ الْحِمْلَ وَأَخَذَ مِنْهُ قُطِعَ لِأَنَّ الْجُوَالِقَ فِي مِثْلِ هَذَا حِرْزٌ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ صِيَانَتُهَا كَالْكُمِّ فَوُجِدَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ) وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كُلٌّ مِنْ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ حَافِظٌ حِرْزٌ فَيُقْطَعُ فِي أَخْذِ الْجَمَلِ وَالْحِمْلِ وَالْجُوَالِقِ وَالشَّقِّ ثُمَّ الْأَخْذِ.

وَأَمَّا الْقَائِدُ فَحَافِظٌ لِلْحِمْلِ الَّذِي زِمَامُهُ بِيَدِهِ فَقَطْ عِنْدَنَا. وَعِنْدَهُمْ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَرَاهَا إذَا الْتَفَتَ إلَيْهَا حَافِظٌ لِلْكُلِّ فَالْكُلُّ مُحَرَّزَةٌ عِنْدَهُمْ بِقَوْدِهِ. وَفَرْضُ أَنَّ قَصْدَهُ الْقَطْعُ لِلْمَسَافَةِ وَنَقْلُ الْأَمْتِعَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَقْصِدَ الْحِفْظَ مَعَ ذَلِكَ بَلْ الظَّاهِرُ ذَلِكَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَكَوْنُهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُوجِبْ الْقَطْعَ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ يُحْمَلُ عَلَى تَرْكِ الرَّاعِي إيَّاهَا فِي الْمَرْعَى وَغَيْبَتِهَا عَنْ عَيْنِهِ أَوْ مَعَ نَوْمِهِ، وَالْقِطَارُ بِكَسْرِ الْقَافِ: الْإِبِلُ يُشَدُّ زِمَامُ بَعْضِهَا خَلْفَ بَعْضٍ عَلَى نَسَقٍ، وَمِنْهُ جَاءَ الْقَوْمُ مُتَقَاطِرِينَ: إذَا جَاءَ بَعْضُهُمْ إثْرَ بَعْضٍ (قَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ جُوَالِقًا فِيهِ مَتَاعٌ وَصَاحِبُهُ يَحْفَظُهُ أَوْ نَائِمٌ عَلَيْهِ قُطِعَ. وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ الْجُوَالِقُ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِحِرْزٍ كَالطَّرِيقِ) وَالْمَفَازَةِ وَالْمَسْجِدِ (وَنَحْوِهِ حَتَّى يَكُونَ مُحَرَّزًا بِصَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ مُتَرَصِّدًا لِحِفْظِهِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِفْظُ الْمُعْتَادُ، وَالْجُلُوسُ عِنْدَهُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ يُعَدُّ حِفْظًا عَادَةً، وَكَذَا النَّوْمُ بِقُرْبٍ مِنْهُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي عِنْدَ التَّصْحِيحِ.

وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ النَّائِمُ عِنْدَ مَتَاعِهِ حَافِظًا لَهُ فِي الْعَادَةِ

ص: 392

وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ حَافِظًا لَهُ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ

قَالَ (وَيُقْطَعُ يَمِينَ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ وَيُحْسَمُ) فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْيَمِينُ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَمِنْ الزَّنْدِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْيَدَ إلَى الْإِبِطِ، وَهَذَا الْمَفْصِلُ: أَعْنِي الرُّسْغَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ،

وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْجَامِعِ: وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ حَافِظًا لَهُ وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ) وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ مِنْ الْحَافِظِ كَوْنُهُ عِنْدَهُ أَوْ تَحْتَهُ.

(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ)

ظَاهِرُ تَرْتِيبِهِ عَلَى بَيَانِ نَفْسِ السَّرِقَةِ وَتَفَاصِيلِ الْمَالِ وَالْحِرْزِ لِأَنَّهُ حُكْمُ سَرِقَةِ الْمَالِ الْخَالِصِ مِنْ الْحِرْزِ فَيَتَعَقَّبُهُ (فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَا مِنْ قَبْلُ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَالْمَعْنَى يَدَيْهُمَا، وَحُكْمُ اللُّغَةِ أَنَّ مَا أُضِيفَ مِنْ الْخَلْقِ إلَى اثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ أَنْ يُجْمَعَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وَقَدْ يُثَنَّى وَقَالَ: ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ وَالْأَفْصَحُ الْجَمْعُ، وَأَمَّا كَوْنُهَا الْيَمِينَ. فَبِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ فَكَانَ خَبَرًا مَشْهُورًا فَيُقَيِّدُ إطْلَاقَ النَّصِّ، فَهَذَا مِنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ لَا مِنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ لِأَنَّ الصَّحِيحَ

ص: 393

كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ، وَالْحَسْمُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَاقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ» وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ

أَنَّهُ لَا إجْمَالَ فِي قَوْلِهِ {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَقَدْ قَطَعَ عليه الصلاة والسلام الْيَمِينَ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ مُرَادًا لَمْ يَفْعَلْهُ وَكَانَ يَقْطَعُ الْيَسَارَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمِينَ أَنْفَعُ مِنْ الْيَسَارِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ وَحْدَهَا مَا لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْيَسَارِ، فَلَوْ كَانَ الْإِطْلَاقُ مُرَادًا وَالِامْتِثَالُ يَحْصُلُ بِكُلٍّ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا الْيَسَارَ عَلَى عَادَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْأَيْسَرِ لَهُمْ مَا أَمْكَنَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ الزَّنْدِ وَهُوَ مَفْصِلُ الرُّسْغِ وَيُقَالُ الْكُوعُ فَلِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ، وَمِثْلُهُ لَا يُطْلَبُ فِيهِ سَنَدٌ بِخُصُوصِهِ كَالْمُتَوَاتِرِ لَا يُبَالِي فِيهِ بِكُفْرِ النَّاقِلِينَ فَضْلًا عَنْ فِسْقِهِمْ أَوْ ضَعْفِهِمْ.

وَرُوِيَ فِيهِ خُصُوصُ مُتُونٍ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ رِدَاءِ صَفْوَانَ قَالَ فِيهِ " ثُمَّ أُمِرَ بِقَطْعِهِ مِنْ الْمَفْصِلِ " وَضُعِّفَ بِالْعَزْرَمِيِّ. وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ «قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَارِقًا مِنْ الْمَفْصِلِ» وَفِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا أَعْرِفُ لَهُ حَالًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ رَجُلًا مِنْ الْمَفْصِلِ» وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِرْسَالُ. وَأَخْرَجَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَطَعَا مِنْ الْمَفْصِلِ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، فَمَا نُقِلَ عَنْ شُذُوذٍ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ لِأَنَّ بِهَا الْبَطْشَ، وَعَنْ الْخَوَارِجِ مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ مِنْ الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ هُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَهُمْ لَمْ يَقْدَحُوا فِي الْإِجْمَاعِ قَبْلَ الْفِتْنَةِ، وَلِأَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ عَلَى مَا ذَكَرُوا وَعَلَى مَا إلَى الرُّسْغِ إطْلَاقًا أَشْهَرَ مِنْهُ إلَى الْمَنْكِبِ، بَلْ صَارَ يَتَبَادَرُ مِنْ إطْلَاقِ الْيَدِ فَكَانَ أَوْلَى بِاعْتِبَارِهِ؛ لَئِنْ سَلِمَ اشْتِرَاكُ الِاسْمِ جَازَ كَوْنُ مَا إلَى الْمَنْكِبِ هُوَ الْمُرَادُ وَمَا إلَى الرُّسْغِ، فَيَتَعَيَّنُ مَا إلَى الرُّسْغِ دَرْءًا لِلزَّائِدِ عِنْدَ احْتِمَالِ عَدَمِهِ. وَأَمَّا الْحَسْمُ فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُتِيَ بِسَارِقٍ سَرَقَ شَمْلَةً فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مَا إخَالُهُ سَرَقَ فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ، فَقُطِعَ ثُمَّ حُسِمَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ، فَقَالَ: تُبْ إلَى اللَّهِ، قَالَ: تُبْت إلَى اللَّهِ، قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ» وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ سَلَّامٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ حُجَيَّةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ مِنْ الْمَفْصِلِ ثُمَّ حَسَمَهُمْ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَإِلَى أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا أُيُورُ الْحُمُرِ. وَالْحَسْمُ الْكَيُّ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ. وَفِي الْمُغْرِبِ وَالْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: هُوَ أَنْ يُغْمَسَ فِي الدُّهْنِ الَّذِي أُغْلِيَ، وَثَمَنُ الزَّيْتِ وَكُلْفَةُ الْحَسْمِ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ أَمَرَ الْقَاطِعَ بِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي وَجْهٍ، وَعِنْدَنَا هُوَ عَلَى السَّارِقِ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ يُؤَدِّي إلَى التَّلَفِ) يَقْتَضِي وُجُوبَهُ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَا يَأْثَمُ. وَيُسَنُّ تَعْلِيقُ يَدِهِ فِي عُنُقِهِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَعِنْدَنَا ذَلِكَ مُطْلَقٌ لِلْإِمَامِ إنْ رَآهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي كُلِّ مَنْ قَطَعَهُ لِيَكُونَ سُنَّةً

ص: 394

(فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا لَمْ يُقْطَعْ وَخُلِّدَ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَيُعَزَّرُ أَيْضًا، ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ رحمهم الله. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِي الثَّالِثَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ» وَيُرْوَى مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ مِثْلُ الْأُولَى فِي كَوْنِهَا جِنَايَةً بَلْ فَوْقَهَا فَتَكُونُ أَدْعَى إلَى شَرْعِ الْحَدِّ.

قَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى) بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ قَدَّمْنَاهُ، ثُمَّ يُقْطَعُ مِنْ الْكَعْبِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ.

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالرَّوَافِضُ: يُقْطَعُ مِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ مِنْ مَقْعَدِ الشِّرَاكِ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَقْطَعُ كَذَلِكَ وَيَدَعُ لَهُ عَقِبًا يَمْشِي عَلَيْهِ. قَالَ (فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا لَا يُقْطَعُ) بَلْ يُعَزَّرُ (وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ) أَوْ يَمُوتَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الثَّالِثَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ») وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يُعْرَفُ، وَلَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ قَالَ «جِيءَ بِسَارِقٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اُقْتُلُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ قَالَ: اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ فَقَالَ اُقْتُلُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ، قَالَ: اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ، قَالَ اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ، فَقَالَ اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ فِي الْخَامِسَةِ قَالَ: اُقْتُلُوهُ، قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ فَقَتَلْنَاهُ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ» قَالَ النَّسَائِيّ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.

وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبِ اللَّخْمِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلِصٍّ قَالَ اُقْتُلُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ، قَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطِعَ، ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ الْأَرْبَعُ كُلُّهَا. ثُمَّ سَرَقَ الْخَامِسَةَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ بِهَذَا حِينَ قَالَ: اُقْتُلُوهُ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَرُوِيَ مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ) أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ. فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ. فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ» وَفِي سَنَدِهِ الْوَاقِدِيُّ. وَهُنَا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ الطَّعْنِ، وَلِذَا طَعَنَ الطَّحَاوِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ: تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْآثَارَ فَلَمْ نَجِدْ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا. وَفِي الْمَبْسُوطِ: الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِلَّا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ فِي مُشَاوَرَةِ عَلِيٍّ؛ وَلَئِنْ سَلِمَ يُحْمَلُ عَلَى الِانْتِسَاخِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ تَغْلِيظٌ فِي الْحُدُودِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ أَيْدِي الْعُرَنِيِّينَ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ اُنْتُسِخَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدِمَ فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَشَكَا إلَيْهِ أَنَّ عَامِلَ الْيَمَنِ ظَلَمَهُ، فَكَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: وَأَبِيك

ص: 395

وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِيهِ: إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلًا يَمْشِي

مَا لَيْلُك بِلَيْلِ سَارِقٍ، ثُمَّ إنَّهُمْ فَقَدُوا عِقْدًا لِأَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطُوفُ مَعَهُمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ عَلَيْك بِمَنْ بَيَّتَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ، فَوَجَدُوا الْحُلِيَّ عِنْدَ صَائِغٍ زَعَمَ أَنَّ الْأَقْطَعَ جَاءَهُ بِهِ، فَاعْتَرَفَ الْأَقْطَعُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَدُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَتِهِ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه رَجُلٌ أَقْطَعُ. فَشَكَا إلَيْهِ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ فِي سَرِقَةٍ وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا زِدْت عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُوَلِّينِي شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ فَخُنْته فِي فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطَعَ يَدِي وَرِجْلِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إنْ كُنْت صَادِقًا فَلَأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ، فَلَمْ يَلْبَسُوا إلَّا قَلِيلًا حَتَّى فَقَدَ آلُ أَبِي بَكْرٍ حُلِيًّا لَهُمْ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَظْهِرْ مَنْ سَرَقَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ، قَالَ: فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ حَتَّى عَثَرُوا عَلَى الْمَتَاعِ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: وَيْلَك إنَّك لَقَلِيلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ الثَّانِيَةَ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إنَّمَا كَانَ الَّذِي سَرَقَ حُلِيَّ أَسْمَاءَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ رِجْلَهُ الْيُسْرَى. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ أَعْلَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ هَذَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُعَزَّزُ وَيُحْبَسُ كَقَوْلِنَا فِي الثَّالِثَةِ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه إلَخْ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: إذَا سَرَقَ السَّارِقُ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ ضَمَّنْته السِّجْنَ حَتَّى يُحْدِثَ خَيْرًا، إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ لَا يَقْطَعُ إلَّا الْيَدَ وَالرِّجْلَ. وَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ سَجَنَهُ وَيَقُولُ: إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يُقْطَعَ السَّارِقُ يَدًا وَرِجْلًا، فَإِذَا أُتِيَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: إنِّي لَأَسْتَحِي أَنْ أَدَعَهُ لَا يَتَطَهَّرُ لِصَلَاتِهِ. وَلَكِنْ احْبِسُوهُ.

وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَقَالَ أَقْطَعُ يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ، أَقْطَعُ رِجْلَهُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي، إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ وَخَلَّدَهُ فِي السِّجْنِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُ عَنْ السَّارِقِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ. وَأَخْرَجَ عَنْ سِمَاكٍ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَهُمْ فِي سَارِقٍ فَأَجْمَعُوا عَلَى مِثْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ. وَأَخْرَجَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: إذَا سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، وَلَا تَقْطَعُوا يَدَهُ الْأُخْرَى وَذَرُوهُ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا، وَلَكِنْ احْبِسُوهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَخْرَجَ عَنْ النَّخَعِيِّ كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يُتْرَكُ ابْنُ آدَمَ مِثْلَ الْبَهِيمَةِ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ ثَبَتَ ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ، فَبَعِيدٌ أَنْ يَقَعَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الَّتِي غَالِبًا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا مِثْلُ سَارِقٍ يَقْطَعُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَتَهُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ وَالصَّحَابَةُ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ مِنْ الْأَصْحَابِ الْمُلَازِمِينَ لَهُ عليه الصلاة والسلام،

ص: 396

عَلَيْهَا، بِهَذَا حَاجَّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَحَجَّهُمْ فَانْعَقَدَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ إهْلَاكٌ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ، وَلِأَنَّهُ نَادِرُ الْوُجُودِ وَالزَّجْرُ فِيمَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى مَا أَمْكَنَ جَبْرًا لِحَقِّهِ. وَالْحَدِيثُ طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى السِّيَاسَةِ

بَلْ أَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ إنْ كَانَ يَنْقُلُ لَهُمْ إنْ غَابُوا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ تَقْضِي الْعَادَةُ، فَامْتِنَاعُ عَلِيٍّ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا لِضَعْفِ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْإِتْيَانِ عَلَى أَرْبَعَتِهِ وَإِمَّا لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَدًّا مُسْتَمِرًّا بَلْ مَنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَهُ لَمَّا شَاهَدَ فِيهِ مِنْ السَّعْيِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَبَعْدَ الطِّبَاعِ عَنْ الرُّجُوعِ فَلَهُ قَتْلُهُ سِيَاسَةً فَيَفْعَلُ ذَلِكَ الْقَتْلَ الْمَعْنَوِيَّ (قَوْلُهُ وَبِهَذَا حَاجَّ عَلِيٌّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ فَحَجَّهُمْ فَانْعَقَدَ إجْمَاعًا) يُشِيرُ إلَى مَا فِي تَنْقِيحِ ابْنِ عَبْدِ الْهَادِي. قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ رضي الله عنه: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَضَرْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا؟ قَالُوا اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: قَتَلْته إذًا وَمَا عَلَيْهِ الْقَتْلُ، بِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ الطَّعَامَ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَتِهِ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ عَلَى حَاجَتِهِ، فَرَدَّهُ إلَى السِّجْنِ أَيَّامًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوَّلِ وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَجَلَدَهُ جَلْدًا شَدِيدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ.

وَقَالَ سَعِيدٌ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِذٍ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِأَقْطَعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ أَنْ يُقْطَعَ رِجْلُهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: قَالَ اللَّهُ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ، فَقَدْ قَطَعْت يَدَ هَذَا وَرِجْلَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَقْطَعَ رِجْلَهُ فَتَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ قَائِمَةٌ يَمْشِي عَلَيْهَا، إمَّا أَنْ تُعَزِّرَهُ، وَإِمَّا أَنْ تُودِعَهُ السِّجْنَ فَاسْتَوْدَعَهُ السِّجْنَ. وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ مِنْ اسْتِدْلَالِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَمُوَافَقَةِ عُمَرَ لَهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّهُ إهْلَاكٌ مَعْنًى) هُوَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: قَتَلْته إذًا (وَالْحَدُّ زَاجِرٌ) لَا مُهْلِكٌ (وَلِأَنَّهُ نَادِرُ الْوُجُودِ) أَيْ يَنْدُرُ أَنْ يَسْرِقَ الْإِنْسَانُ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ (وَالْحَدُّ) لَا يُشْرَعُ إلَّا (فِيمَا يَغْلِبُ) عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ (بِخِلَافِ الْقِصَاصِ) يَعْنِي لَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَيَّ رَجُلٍ قُطِعَتْ يَدَاهُ أَوْ أَرْبَعَتَهُ قُطِعَتْ أَرْبَعَتُهُ (لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ فَيَسْتَوْفِيهِ مَا أَمْكَنَ جَبْرًا لِحَقِّهِ) لَا يُقَالُ: الْيَدُ الْيُسْرَى مَحَلُّ لِلْقَطْعِ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: لَمَّا وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ مِنْهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَمَلًا بِالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ خَرَجَتْ مِنْ كَوْنِهَا مُرَادَةً وَتَعَيَّنَتْ الْيُمْنَى مُرَادَةً. وَالْأَمْرُ الْمَقْرُونُ بِالْوَصْفِ وَإِنْ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَكِنْ إنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ أَمْكَنَ، وَإِذَا انْتَفَى إرَادَةُ الْيُسْرَى بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّقْيِيدِ انْتَفَى مَحَلِّيَّتُهَا لِلْقَطْعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُهُ فَيَلْزَمُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وَثَبَتَ قَطْعُ

ص: 397

(وَإِذَا كَانَ السَّارِقُ أَشَلَّ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ أَقْطَعَ أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا أَوْ مَشْيًا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا إذَا كَانَتْ إبْهَامُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ أَوْ الْأُصْبُعَانِ مِنْهَا سِوَى الْإِبْهَامِ) لِأَنَّ قِوَامَ الْبَطْشِ بِالْإِبْهَامِ (فَإِنْ كَانَتْ أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ سِوَى الْإِبْهَامِ مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ قُطِعَ) لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَاحِدَةِ لَا يُوجِبُ خَلَلًا ظَاهِرًا فِي الْبَطْشِ، بِخِلَافِ فَوَاتِ الْأُصْبُعَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَنَزَّلَانِ مَنْزِلَةَ الْإِبْهَامِ فِي نُقْصَانِ الْبَطْشِ.

قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَمِينَ هَذَا فِي سَرِقَةٍ سَرَقَهَا فَقَطَعَ يَسَارَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ وَيَضْمَنُ فِي الْعَمْدِ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَضْمَنُ فِي الْخَطَأِ أَيْضًا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْمُرَادُ بِالْخَطَأِ هُوَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ،

الرِّجْلِ فِي الثَّانِيَةِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَانْتَفَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الْعَدَمِ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ أَشَلَّ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى) أَوْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ (لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ فِي الْقَطْعِ) وَالْحَالَةُ هَذِهِ (تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا) فِيمَا إذَا كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً أَوْ مَشْلُولَةً (أَوْ مَشْيًا) إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى وَتَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ إهْلَاكٌ حَتَّى وَجَبَ تَمَامُ الدِّيَةِ بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْيَ لَا يَتَأَتَّى مَعَ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ (وَكَذَا) لَا يُقْطَعُ يَمِينَ السَّارِقِ (إذَا كَانَتْ إبْهَامُ يَدِهِ الْيُسْرَى) أَوْ رِجْلِهِ الْيُسْرَى (مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ أَوْ الْأُصْبُعَانِ) مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (سِوَى الْإِبْهَامِ) لِأَنَّ فَوْتَهُمَا يَقُومُ مَقَامَ فَوْتِ الْإِبْهَامِ فِي نُقْصَانِ الْبَطْشِ، بِخِلَافِ فَوْتِ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ الْإِبْهَامِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَيُقْطَعُ، وَلَا يُشْكَلُ أَنَّ الشَّلَلَ وَقَطْعَ الْإِبْهَامِ وَالْأَصَابِعِ لَوْ كَانَ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى أَنَّهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً قُطِعَتْ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ نَاقِصَةً، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ حَيْثُ جُعِلَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْإِبْهَامِ الْمُخِلِّ بِالْبَطْشِ فَوَاتُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَهُنَا جَعَلَهُ أُصْبُعَيْنِ لِأَنَّ الْحَدَّ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ) أَيْ لِلَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ فَعَّالٌ مِنْهُ كَالْجَلَّادِ مِنْ الْجَلْدِ (اقْطَعْ يَمِينَ هَذَا فِي سَرِقَةٍ سَرَقَهَا فَقَطَعَ يَسَارَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ (وَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَإِ وَيَضْمَنُ فِي الْعَمْدِ) أَرْشَ الْيَسَارِ (وَعِنْدَ زُفَرَ يَضْمَنُ فِي الْخَطَإِ أَيْضًا) بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ اقْطَعْ يَدَ هَذَا فَقَطَعَ الْيَسَارَ لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يُقْتَصُّ فِي الْعَمْدِ كَقَوْلِنَا فِيمَا إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ فِي انْتِظَارِ التَّعْدِيلِ ثُمَّ عُدِّلَتْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَتُقْطَعُ يَدُ الْقَاطِعِ قِصَاصًا وَيَضْمَنُ الْمَسْرُوقُ لَوْ كَانَ أَتْلَفَهُ، لِأَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُوجَدْ. وَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى يُقْتَصُّ لَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَطْعُ الْيُمْنَى لِمَا عُرِفَ (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ) أَيْ الْمُرَادُ (بِالْخَطَأِ) الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ (الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقْطَعَ الْيُسْرَى بَعْدَ قَوْلِ الْحَاكِمِ اقْطَعْ يَمِينَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ فِي أَنَّ قَطْعَهَا يُجْزِئُ

ص: 398

وَأَمَّا الْخَطَأُ فِي مَعْرِفَةِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ لَا يُجْعَلُ عَفْوًا. وَقِيلَ يُجْعَلُ عُذْرًا أَيْضًا. لَهُ أَنَّهُ قَطَعَ يَدًا مَعْصُومَةً وَالْخَطَأُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فَيَضْمَنُ. قُلْنَا إنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ، إذْ لَيْسَ فِي النَّصِّ تَعْيِينُ الْيَمِينِ، وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ مَوْضُوعٌ. وَلَهُمَا أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مَعْصُومًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ فَلَا يُعْفَى وَإِنْ كَانَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ لِلشُّبْهَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ أَتْلَفَ وَأَخْلَفَ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ إتْلَافًا كَمَنْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهِ بِبَيْعِ مَالِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَطَعَهُ غَيْرُ الْحَدَّادِ لَا يَضْمَنُ أَيْضًا هُوَ الصَّحِيحُ.

عَنْ قَطْعِ السَّرِقَةِ نَظَرًا إلَى إطْلَاقِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (أَمَّا الْخَطَأُ فِي مَعْرِفَةِ الْيَمِينِ مِنْ الشِّمَالِ لَا يُجْعَلُ عَفْوًا) لِأَنَّهُ بَعِيدٌ يُتَّهَمُ فِيهِ مُدَّعِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْقَطْعُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَمْدٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعْنَى الْعَمْدِ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْقَطْعَ لِلْيَسَارِ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ فِي إجْزَائِهَا (وَقِيلَ) الْخَطَأُ فِي الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ (يُجْعَلُ عَفْوًا أَيْضًا. لِزُفَرَ أَنَّهُ قَطَعَ يَدًا مَعْصُومَةً. وَالْخَطَأُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ فَيَضْمَنُهَا. وَلَنَا أَنَّهُ)

إنَّمَا (أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ وَخَطَأُ الْمُجْتَهِدِ مَوْضُوعٌ) بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ يُسَوِّي بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ (وَلَهُمَا) فِي الْعَمْدِ (أَنَّهُ) جَانٍ حَيْثُ (قَطَعَ يَدًا مَعْصُومَةً بِلَا تَأْوِيلٍ تَعَمُّدًا لِلظُّلْمِ فَلَا يُعْفَى وَإِنْ كَانَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ) لِأَنَّهُ هُوَ لَمْ يَفْعَلْهُ عَنْ اجْتِهَادٍ (وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقَوَدُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ) النَّاشِئَةِ مِنْ إطْلَاقِ النَّصِّ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ) وَإِنْ (أَتْلَفَ) بِلَا حَقٍّ ظُلْمًا لَكِنَّهُ (أَخْلَفَ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ) وَهِيَ الْيَمِينُ فَإِنَّهَا لَا تُقْطَعُ بَعْدَ قَطْعِ الْيُسْرَى وَهِيَ خَيْرٌ لِأَنَّ قُوَّةَ الْبَطْشِ بِهَا أَتَمُّ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ أَخْلَفَ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَانَتْ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَتْ كَالْفَائِتَةِ فَأَخْلَفَهَا إلَى خَلْفِ اسْتِمْرَارِهَا وَبَقَائِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، لِأَنَّهُ وَإِنْ امْتَنَعَ بِهِ قَطْعُ يَدِهِ لَكِنْ لَمْ يُعَوِّضْهُ مِنْ جِنْسِ مَا أُتْلِفَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ، وَأَمَّا إنْ قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَلَمْ يُعَوِّضْ عَلَيْهِ شَيْئًا أَصْلًا وَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ عَبْدٍ بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ أَوْ شَهِدَا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا (قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْإِخْلَافِ بِقَطْعِ يَسَارِهِ (غَيْرِ الْحَدَّادِ أَيْضًا) لِلْإِخْلَافِ (وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ

ص: 399

وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَسَارَهُ وَقَالَ هَذِهِ يَمِينِي لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ قَطْعَهُ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ فِي الْعَمْدِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حَدًّا. وَفِي الْخَطَأِ كَذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ لَا يَضْمَنُ

(وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فَيُطَالِبُ بِالسَّرِقَةِ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِخُصُومَتِهِ،

إذَا قَطَعَ الْحَدَّادُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَلَوْ قَطَعَ يَسَارَهُ غَيْرُهُ فَفِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ وَفِي الْخَطَإِ الدِّيَةُ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَنَّ السَّارِقَ أَخْرَجَ يَسَارَهُ وَقَالَ هَذِهِ يَمِينِي) فَقَطَعَهَا (لَا يَضْمَنُ) وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهَا يَسَارُهُ (بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا بِأَمْرِهِ ثُمَّ فِي الْعَمْدِ عِنْدَهُ عَلَى السَّارِقِ ضَمَانُ الْمَالِ) إذَا كَانَ اسْتَهْلَكَهُ (لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حَدًّا فَفِي الْخَطَإِ كَذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ) أَعْنِي طَرِيقَةَ عَدَمِ وُقُوعِهِ حَدًّا.

وَقِيلَ طَرِيقَةُ الْإِخْلَافِ وَلَازِمُهَا عَدَمُ وُقُوعِهِ حَدًّا فَكِلَاهُمَا وَاحِدٌ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إلَى اللَّفْظِ (وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ لَا يَضْمَنُ) لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَدِّ وَالْقَطْعُ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَإِنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ رضي الله عنه بِلُزُومِ الضَّمَانِ عَلَى السَّارِقِ فِي عَمْدِ الْقَطْعِ مَعَ أَنَّهُمَا أَيْضًا يَضْمَنَانِهِ لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْحَدَّادِ ضَمَانًا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَطْعَ الْحَدَّادِ وَقَعَ حَدًّا وَلِذَا لَمْ يَضْمَنْهُ، فَأَزَالَ الْوَهْمَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَضْمَنْهُ لِإِخْلَافِهِ لَا لِوُقُوعِهِ حَدًّا

(قَوْلُهُ وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فَيُطَالِبُ بِالسَّرِقَةِ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ) وَالْخَصْمُ هُوَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تُشْتَرَطُ الْمُطَالَبَةُ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَكَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا.

وَقَوْلُهُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَارِ) هُوَ خِلَافُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ كَالْبَيِّنَةِ. يَعْنِي إذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ إنِّي سَرَقْت مَالَ فُلَانٍ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُهُ حَتَّى يَحْضُرَ فُلَانٌ وَيَدَّعِي. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ خُصُومَةَ الْعَبْدِ لَيْسَ إلَّا لِيَظْهَرَ سَبَبُ الْقَطْعِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَبِالْإِقْرَارِ يَظْهَرُ السَّبَبُ فَلَا حَاجَةَ إلَى ظُهُورِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ لِلْمُقِرِّ ظَاهِرًا. وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ لِغَائِبٍ ثُمَّ لِحَاضِرٍ جَازَ، وَلِأَنَّ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بِإِبَاحَةِ الْمَالِكِ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ بِطَائِفَةِ السَّارِقِ مِنْهُمْ ثَابِتَةٌ. وَكَذَا شُبْهَةُ وُجُودِ

ص: 400

وَكَذَا إذَا غَابَ عِنْدَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ

(وَلِلْمُسْتَوْدَعِ وَالْغَاصِبِ وَصَاحِبِ الرِّبَا أَنْ يَقْطَعُوا السَّارِقَ مِنْهُمْ) وَلِرَبِّ الْوَدِيعَةِ أَنْ يَقْطَعَهُ أَيْضًا، وَكَذَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ.

وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَوْدَعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُضَارِبُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَالْقَابِضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَافِظَةٌ سِوَى الْمَالِكِ، وَيُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ فِي السَّرِقَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ

إذْنِهِ لَهُ فِي دُخُولِهِ فِي بَيْتِهِ فَاعْتُبِرَتْ الْمُطَالَبَةُ دَفْعًا لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ.

بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ بِإِبَاحَةٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَمْ تَتَمَكَّنْ فِيهِ هَذِهِ الشُّبْهَةُ. وَالْحَقُّ احْتِمَالُ إبَاحَةِ الْمَالِكِ وَنَحْوِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الْمَوْهُومَةُ الَّتِي سَيَنْفِيهَا الْمُصَنِّفُ وَسَيَتَّضِحُ لَك، فَالْمُعَوِّلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مِلْكَ الْمُقَرَّرِ قَائِمٌ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُقَرُّ لَهُ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا غَابَ) الْمَسْرُوقُ مِنْهُ (عِنْدَ الْقَطْعِ) لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَحْضُرَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِمَالِكٍ (لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي الْحُدُودِ) عَلَى مَا مَرَّ، وَعَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي ثُبُوتِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ، لَكِنْ عَلِمْت أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ كَقَوْلِنَا، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ شَرْعٍ مِنْ بَيَانِ مَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ فَقَالَ

(وَلِلْمُسْتَوْدَعِ) بِفَتْحِ الدَّالِ (وَالْغَاصِبِ وَصَاحِبِ الرِّبَا أَنْ يَقْطَعُوا السَّارِقَ مِنْهُمْ) أَيْ إذَا سَرَقَ الْوَدِيعَةَ أَوْ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ، وَأَمَّا صَاحِبُ الرِّبَا فَكَالْمُشْتَرِي عَشَرَةً بِخَمْسَةٍ إذَا قَبَضَ الْعَشَرَةَ فَسَرَقَهَا سَارِقٌ قَطَعَ بِخُصُومَتِهِ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ.

إذْ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَالْمَغْصُوبِ (وَلِرَبِّ الْوَدِيعَةِ أَنْ) يُخَاصِمَهُ وَ (يَقْطَعَهُ أَيْضًا) كَمَا لِلْمُودَعِ (وَكَذَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَوْدَعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُضَارِبُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَالْقَابِضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ يَدٌ حَافِظَةٌ) كَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ يَقْطَعُ السَّارِقَ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ وَالْيَتِيمِ بِخُصُومَتِهِمْ (وَيُقْطَعُ أَيْضًا السَّارِقُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ) بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ (إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إنَّمَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ) وَالصَّحِيحُ مِنْ نُسَخِ الْهِدَايَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، L

ص: 401

حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْعَيْنِ بِدُونِهِ. وَالشَّافِعِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا خُصُومَةَ لِهَؤُلَاءِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَهُ. وَزُفَرُ يَقُولُ: وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةُ الْحِفْظِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ. وَلَنَا أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مُطْلَقًا إذْ الِاعْتِبَارُ لِحَاجَتِهِمْ إلَى الِاسْتِرْدَادِ فَيَسْتَوْفِي الْقَطْعَ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْعَيْنِ بِدُونِهِ) أَيْ بِدُونِ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي رَدِّهَا، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ فِي نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ الْقَضَاءِ.

وَقِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَوَابَ الْقِيَاسِ: يَعْنِي أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ كَالْمُودَعِ يَسْتَرِدُّهُ لِلْحِفْظِ فَلَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْهُ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَهْلِكًا لَا يُقْطَعُ إلَّا بِخُصُومَةِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الدَّيْنَ سَقَطَ عَنْ الرَّاهِنِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي مُطَالَبَتِهِ بِالْعَيْنِ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِلْحِفْظِ. وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلرَّاهِنِ وِلَايَةُ الْقَطْعِ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَزْيَدَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ عَشَرَةٍ، لِأَنَّ الزَّائِدَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ الْمُرْتَهِنُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ كَالْمُودَعِ وَالرَّاهِنُ كَالْمُودَعِ فَيُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ (قَوْلُهُ فَالشَّافِعِيُّ رحمه الله بَنَاهُ) أَيْ بَنَى عَدَمَ الْقَطْعِ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ (عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ أَنْ لَا خُصُومَةَ لَهُمْ فِي الِاسْتِرْدَادِ) عِنْدَ جُحُودِ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ الْمُودَعُ كَأَبْنَاءِ غَيْرِ الْمُودَعِ، إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ لِإِبْقَاءِ الْيَدِ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكُوهَا لِإِعَادَةِ الْيَدِ أَوْلَى.

قِيلَ لَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِهِمْ يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ يَدِ الْمُودَعِ وَالْوَكِيلِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَكَذَا يَقُولُ مَالِكٌ وَيَزِيدُ الْمُسْتَعِيرَ أَيْضًا (وَزُفَرُ يَقُولُ: وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةُ الْحِفْظِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْقَطْعِ (تَفْوِيتَ الصِّيَانَةِ) لِسُقُوطِ الضَّمَانِ بِهِ فَيَفُوتُ الْحِفْظُ فَيَعُودُ الْأَمْرُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ إذْ تَصِيرُ خُصُومَتُهُ لِإِثْبَاتِ الْحِفْظِ سَبَبًا لِنَفْيِهِ (وَلَنَا أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مُطْلَقًا) وَهَذِهِ النُّكْتَةُ هِيَ مَبْنَى الْخِلَافِ: أَعْنِي كَوْنَ خُصُومَتِهِمْ مُعْتَبَرَةً فَأَثْبَتَهَا بِقَوْلِهِ (إذْ الِاعْتِبَارُ لِحَاجَتِهِمْ إلَى الِاسْتِرْدَادِ)

ص: 402

وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخُصُومَةِ إحْيَاءُ حَقِّهِ وَسُقُوطُ الْعِصْمَةِ ضَرُورَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا إذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُؤْتَمَنُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ

وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَهُوَ بِالْيَدِ فَكَانَ اسْتِعَادَتُهَا حَقًّا لَهُمْ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ لِلْمَالِكِ بَلْ الْمِلْكُ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُرَدَّ إلَّا لِلْيَدِ، وَهَذَا لِأَنَّ ذَا الْيَدِ إنْ كَانَ أَمِينًا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إلَّا بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَاصِبًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِذَلِكَ فَكَانَ خُصُومَةً فِي حَقٍّ لَهُمْ ثُمَّ تَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ فَيَجِبُ بِهَا الْقَطْعُ، وَلِذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى إضَافَةِ الْمَالِ إلَى الْمَالِكِ بَلْ يَقُولُ سَرَقَ مِنِّي وَقَصْدُهُ إحْيَاءُ حَقِّ الْمَالِكِ وَحَقِّ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ خُصُومَتِهِ فِي الْقِصَاصِ لَا تُعْتَبَرُ فَلَا يُقْتَصُّ بِخُصُومَتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقُّهُ فِي إعَادَةِ يَدِهِ.

وَأَوْرَدَ أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِقْرَارِ لَا يُقْطَعُ إلَّا بِحُضُورِ الْمَالِكِ وَهُوَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ وَكِيلُ الْمَالِكِ بَيِّنَةً عَلَى السَّرِقَةِ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ مَعَ ظُهُورِ السَّرِقَةِ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فِيهِمَا، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِتَوَهُّمِ الشُّبْهَةِ حَالَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَالتَّوَهُّمُ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ أَنَّهُ يُقْطَعُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ أَصْحَابُ يَدٍ صَحِيحَةٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ لَهُمْ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ فَخُصُومَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْخُصُومَةِ إلَى غَيْرِهِ. وَفِي فَصْلِ الْإِقْرَارِ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ هِيَ جَوَازُ أَنْ يَرُدَّ الْمَالِكُ إقْرَارَهُ فَيَبْقَى الْمَالُ مَمْلُوكًا لِلسَّارِقِ فَاسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مَعَ ذَلِكَ اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ. ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ بِقَوْلِهِ (وَسُقُوطُ الْعِصْمَةِ ضَرُورَةُ الِاسْتِيفَاءِ) حَقًّا لِلَّهِ وَإِنْ لَزِمَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلَا دَائِمِيٍّ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا كَانَ الْمَالُ مُسْتَهْلَكًا فَلَيْسَ لَازِمًا لِلْقَطْعِ مُطْلَقًا مَعَ أَنَّهُ مُهْدَرٌ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنْ يُقْطَعَ بِخُصُومَةِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ بِسَرِقَةِ مَالِ الْيَتِيمِ وَإِنْ لَزِمَهُ سُقُوطُ الضَّمَانِ فَكَانَ تَعْلِيلُهُ لِذَلِكَ مَرْدُودًا بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِشُبْهَةٍ مَوْهُومَةٍ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنْ يُقَالَ احْتِمَالُ إقْرَارِ الْمَالِكِ لَهُ: أَيْ اعْتِرَافُهُ بِأَنَّهَا لَهُ وَإِذْنُهُ إذَا حَضَرَ ثَابِتٌ فَلَا يُقْطَعُ مَعَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَقَالَ هَذِهِ شُبْهَةٌ يُتَوَهَّمُ اعْتِرَاضُهَا عِنْدَ حُضُورِهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمِثْلِهَا بَلْ الْمُعْتَبَرُ شُبْهَةٌ ثَابِتٌ تَوَهُّمُهَا فِي الْحَالِ لَا عَلَى تَقْدِيرٍ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْقَطْعَ يُسْتَوْفَى بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ تُوُهِّمَ اعْتِرَاضُ رُجُوعِهِ، وَكَذَا لَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُسْتَوْدَعُ يُقْطَعُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ حَضَرَ الْمُسْتَوْدَعُ قَالَ كَانَ ضَيْفِي أَوْ أَذِنْت لَهُ فِي الدُّخُولِ فِي بَيْتِي، وَلَا يَخْفَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ فِي اشْتِرَاطِ حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِلْخُصُومَةِ مِنْ احْتِمَالِ إبَاحَةِ الْمَالِكِ الْمَسْرُوقَ لِلْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ جَازَ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ قَالَ كُنْت أَبَحْته لِلْمُسْلِمِينَ

ص: 403

فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ شُبْهَةُ الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الْحِرْزِ ثَابِتَةً

(وَإِنْ قُطِعَ سَارِقٌ بِسَرِقَةٍ فَسُرِقَتْ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا لِرَبِّ السَّرِقَةِ أَنْ يَقْطَعَ السَّارِقَ الثَّانِي) لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ السَّارِقِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ فَلَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا، وَلِلْأَوَّلِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فِي رِوَايَةٍ لِحَاجَتِهِ إذْ الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ

أَوْ لِطَائِفَةٍ السَّارِقُ مِنْهُمْ كَمَا جَازَ أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِهِ سِرًّا، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ شُبْهَةً مَوْهُومَةً لَا تُعْتَبَرُ فَكَذَلِكَ تِلْكَ، وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ تِلْكَ بِسَبَبِ قِيَامِ احْتِمَالِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا عَلَى تَقْدِيرِ حُضُورِهِ الْمُنْتَفِي فِي الْحَالِ فَهَذِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْمَالِكِ كَانَ أَذِنَ لَهُ أَوْ أَنَّهُ مُقِرٌّ لَهُ بِهِ قَائِمٌ فِي الْحَالِ.

وَقَوْلُهُ (فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَقْطَعَهُ حَالَ غَيْبَةِ الْمُسْتَوْدَعِ

(قَوْلُهُ وَإِنْ قُطِعَ سَارِقٌ بِسَرِقَةٍ فَسُرِقَتْ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَقْطَعَ السَّارِقَ الثَّانِي) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَيُقْطَعُ بِخُصُومَةِ مَالِكِهِ سَوَاءٌ قُطِعَ السَّارِقُ الْأَوَّلُ أَوْ لَا. وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى السَّارِقِ ضَمَانُهُ كَانَ سَاقِطَ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ لَهُ فَيَدُ السَّارِقِ الْأَوَّلِ لَيْسَتْ يَدَ ضَمَانٍ وَلَا يَدَ أَمَانَةٍ وَلَا يَدَ مِلْكٍ فَكَانَ الْمَسْرُوقُ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فَلَا قَطْعَ فِيهِ. وَرُوِيَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ: إنْ قَطَعْت الْأَوَّلَ لَمْ أَقْطَعْ الثَّانِي وَإِنْ دَرَأْت الْقَطْعَ عَنْ الْأَوَّلِ لِشُبْهَةٍ قَطَعْت الثَّانِي. وَمِثْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ لِأَبِي يُوسُفَ. وَأَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ عَدَمَ قَطْعِ السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ.

وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ أَمَانَةٍ وَلَا يَدَ مِلْكٍ فَكَانَ ضَائِعًا وَلَا قَطْعَ فِي أَخْذِ مَالٍ ضَائِعٍ. قُلْنَا: بَقِيَ أَنْ يَكُونَ يَدَ غَصْبٍ وَالسَّارِقُ مِنْهُ يُقْطَعُ فَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ (وَلِلْأَوَّلِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فِي الِاسْتِرْدَادِ فِي رِوَايَةٍ لِحَاجَتِهِ إذْ الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ)

ص: 404

(وَلَوْ سَرَقَ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ الْأَوَّلُ أَوْ بَعْدَ مَا دُرِئَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْأَوَّلِ) لِأَنَّ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ ضَرُورَةُ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ

(وَمَنْ)(سَرَقَ سَرِقَةً فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ) إلَى الْحَاكِمِ (لَمْ يُقْطَعْ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةَ ضَرُورَةِ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ لِانْتِهَاءِ الْخُصُومَةِ لِحُصُولِ مَقْصُودِهَا فَتَبْقَى تَقْدِيرًا

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ ضَمَانٍ وَلَا أَمَانَةٍ وَلَا مِلْكٍ وَالرَّدُّ مِنْهُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْهُ إلَى الْمَالِكِ. وَالْوَجْهُ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ هَذَا الْحَالُ عِنْدَ الْقَاضِي لَا يَرُدُّهُ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا إلَى الثَّانِي إذَا رَدَّهُ لِظُهُورِ خِيَانَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، بَلْ يَرُدُّهُ مِنْ يَدِ الثَّانِي إلَى الْمَالِكِ إنْ كَانَ حَاضِرًا، وَإِلَّا حَفِظَهُ كَمَا يَحْفَظُ أَمْوَالَ الْغُيَّبِ (وَلَوْ سَرَقَ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ الْأَوَّلُ أَوْ بَعْدَ مَا دُرِئَ عَنْهُ الْقَطْعُ بِشُبْهَةٍ يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ ضَرُورَةُ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ) بَدْءًا (كَ) يَدِ (الْغَاصِبِ)

(قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَرَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ قَبْلَ الِارْتِفَاعِ إلَى الْحَاكِمِ لَمْ يُقْطَعْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا رَدَّهَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ)

الَّتِي هِيَ الْمُوجِبُ لِلْقَطْعِ فَكَانَتْ شَرْطًا فِي الْقَطْعِ، وَالْخُصُومَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ الرَّدِّ لِأَنَّهَا أَعْنِي الْخُصُومَةَ الْمُوجِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. وَهِيَ (إنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةً لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ) الْمُنَازَعَةُ بِالرَّدِّ (بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ) أَيْ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَدَّهَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ وَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ، وَكَذَا بَعْدَ سَمَاعِهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا لِظُهُورِ السَّرِقَةِ عِنْدَ الْقَاضِي بِالشَّهَادَةِ بَعْدَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ، وَإِذَا رُدَّ الْمَالُ لِلْخُصُومَةِ حَصَلَ مَقْصُودُهَا وَبِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ الشَّيْءِ يَنْتَهِي وَبِالِانْتِهَاءِ يَتَقَرَّرُ فِي نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ قَائِمَةً لِقِيَامِ يَدِهِ عَلَى الْمَالِ قُطِعَ بَعْدَ رَدِّهِ. وَلَا فَرْقَ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ بَيْنَ أَنْ يُرَدَّ قَبْلَ الْخُصُومَةِ إلَى يَدِ الْمَالِكِ أَوْ يَدِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي عِيَالِهِ، وَلِذَا يَبْرَأُ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُودَعُ بِالرَّدِّ إلَيْهِمْ لِأَنَّ لَهُمْ شُبْهَةَ مِلْكٍ فِي مَالِهِ، فَالرَّدُّ إلَيْهِمْ رَدٌّ إلَيْهِ حُكْمًا وَذَلِكَ كَافٍ فِي الرَّدِّ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رُدَّ إلَى ابْنِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ الْمُحَرَّمَةِ كَأَخِيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ إنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ يَبْرَأُ فَلَا يُقْطَعُ كَمَا لَوْ رَدَّهُ إلَى زَوْجَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ أَجِيرِهِ مُشَاهَرَةً وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى غُلَامَهُ أَوْ مُسَانَهَةً يَبْرَأُ فِي هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَلَا يُقْطَعُ.

وَلَوْ سَرَقَ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَرَدَّهُ إلَى سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ الْعِيَالِ وَرَدَّهُ إلَى مَنْ يَعُولُهُمْ: أَيْ سَرَقَ مِنْ شَخْصٍ وَرَدَّهُ إلَى مَنْ يَعُولُ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ يَبْرَأُ وَلَا يُقْطَعُ. وَيَبْرَأُ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُودَعُ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ إلَى مَنْ يَعُولُ الْمُودِعَ. وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَلَا يَبْرَأُ بِالرَّدِّ إلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ

ص: 405

(وَإِذَا قُضِيَ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ فَوُهِبَتْ لَهُ لَمْ يُقْطَعْ) مَعْنَاهُ إذَا سُلِّمَتْ إلَيْهِ (وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا الْمَالِكُ إيَّاهُ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ انْعِقَادًا وَظُهُورًا، وَبِهَذَا الْعَارِضِ لَمْ يَتَبَيَّنْ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ السَّرِقَةِ فَلَا شُبْهَةَ.

وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالِاسْتِيفَاءِ، إذْ الْقَضَاءُ لِلْإِظْهَارِ وَالْقَطْعُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَهُ،

الْمُحَرَّمَةِ الَّذِينَ فِي عِيَالِهِ وَلَا إلَى الزَّوْجَةِ وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهَا

(قَوْلُهُ وَإِذَا قُضِيَ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ فَوَهَبَهَا لَهُ الْمَالِكُ) وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ أَوْ بَاعَهَا مِنْهُ (لَا يُقْطَعُ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ) وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ (يُقْطَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتْ انْعِقَادًا) بِفِعْلِهَا بِلَا شُبْهَةٍ (وَظُهُورًا) عِنْدَ الْحَاكِمِ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ، وَلَا شُبْهَةَ فِي السَّرِقَةِ إلَّا لَوْ صَحَّ اعْتِبَارُ عَارِضِ الْمِلْكِ الْمُتَأَخِّرِ مُتَقَدِّمًا لِيَثْبُتَ اعْتِبَارُهُ (وَقْتَ السَّرِقَةِ) وَلَا مُوجِبَ لِذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ (فَلَا شُبْهَةَ) فَيُقْطَعُ.

وَمِمَّا يَنْفِي صِحَّةَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ مَا فِي «حَدِيثِ صَفْوَانَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُرِدْ هَذَا، رِدَائِي عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، زَادَ النَّسَائِيّ فِي رِوَايَتِهِ «فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالسَّرِقَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ بِالْإِقْرَارِ يَظْهَرُ الْمِلْكُ السَّابِقُ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ) يَعْنِي اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ بِالْفِعْلِ (مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ) فَمَا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلَوْ مَلَكَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَالشَّأْنُ فِي بَيَانِ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ هُوَ الْقَضَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي حَدِّ الزِّنَا، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا كَانَ هَذَا هُنَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ هُوَ مِنْ قَبْلُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْقَضَاءِ (بِالِاسْتِيفَاءِ) حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْضِ بَعْدَ تَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ بِاللَّفْظِ بَلْ أَمَرَ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ اسْتَوْفَى هُوَ الْحَدَّ بِنَفْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ بِاللَّفْظِ لَيْسَ إلَّا إظْهَارُ الْحَقِّ لِلْمُسْتَحِقِّ وَالْمُسْتَحِقُّ هُنَا هُوَ اللَّهُ عز وجل وَالْحَقُّ ظَاهِرٌ عِنْدَهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى الْإِظْهَارِ فَلَا حَاجَةَ

ص: 406

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهَا مِنْهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ.

قَالَ (وَكَذَا إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا مِنْ النِّصَابِ) يَعْنِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا يُشْتَرَطُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْإِمْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ النُّقْصَانِ

إلَى الْقَضَاءِ لَفْظًا، بَلْ وَلَا يُفِيدُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ عَنْهُ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ (يُشْتَرَطُ قِيَامُهَا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ) كَمَا عِنْدَ الْقَضَاءِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ بِالْهِبَةِ، بِخِلَافِ رَدِّهِ الْمَالَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ لِأَنَّ بِهِ تَنْتَهِي الْخُصُومَةُ وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ فَتَكُونُ الْخُصُومَةُ بَعْدَهُ مُتَقَرِّرَةً فَيُقْطَعُ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِي رِوَايَةٍ كَمَا ذُكِرَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ قَالَ: أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ. وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَذْكُرْ ذَاكَ بَلْ قَوْلُهُ مَا كُنْت أُرِيدُ هَذَا، وَقَوْلُهُ أَيُقْطَعُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ فِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؟ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي الْهِبَةِ، ثُمَّ الْوَاقِعَةُ وَاحِدَةٌ فَكَانَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ اضْطِرَابٌ، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ. وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ قَوْلِهِ هُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ كَانَ بَعْدَ الدَّفْعِ إلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ

(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا) أَيْ قِيمَةُ السَّرِقَةِ أَيْ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ عَنْ الْعَشَرَةِ لَا يُقْطَعُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ: يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ) وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ) فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ ذَاتُ الْعَيْنِ نَاقِصَةً وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ وَالْبَاقِي مِنْهَا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ كَذَلِكَ (وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا يُشْتَرَطُ كَمَالُهُ عِنْدَ الْإِمْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي نُقْصَانِ الْقِيمَةِ (بِخِلَافِ نُقْصَانِ

ص: 407

فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَكَمُلَ النِّصَابُ عَيْنًا وَدَيْنًا، كَمَا إذَا اُسْتُهْلِكَ كُلُّهُ، أَمَّا نُقْصَانُ السِّعْرِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَافْتَرَقَا.

(وَإِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ مِلْكُهُ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِالسَّرِقَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ سَارِقٌ فَيُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ. وَلَنَا أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ وَتَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِلِاحْتِمَالِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ

(وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلَانِ بِسَرِقَةٍ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مَالِي لَمْ يُقْطَعَا) لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ وَمُورِثٌ لِلشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْآخَرِ، لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمَا

الْعَيْنِ لِأَنَّ مَا اسْتَهْلَكَهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ) فَكَانَ الثَّابِتُ عَنْهُ الْقَطْعَ نِصَابًا كَامِلًا بَعْضُهُ دَيْنٌ وَبَعْضُهُ عَيْنٌ، بِخِلَافِ نُقْصَانِ السِّعْرِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ لِفُتُورِ الرَّغَبَاتِ وَذَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى أَحَدٍ فَلَمْ تَكُنْ الْعَيْنُ قَائِمَةً حَقِيقَةً وَمَعْنَى فَلَمْ يُقْطَعْ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.

وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ السَّارِقُ اسْتَهْلَكَهُ كُلَّهُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ لِقِيَامِهِ إذْ ذَاكَ ثُمَّ يَسْقُطُ ضَمَانُهُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ مِلْكُهُ سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بَيِّنَةٌ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ بَعْدَمَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ بِالسَّرِقَةِ) وَإِنَّمَا فَسَّرَ بِهِ لِيَخْرُجَ مَا إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَمْ أَسْرِقْ بَلْ هُوَ مِلْكِي فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الْمَالُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ) وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ، إذْ لَا يَعْجِزُ سَارِقٌ عَنْ هَذَا. وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ قِيلَ هُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ قُطِعَ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ كَذِبُهُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَوْلَى الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَهِيَ احْتِمَالُ صِدْقِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا قَالَ) مِنْ أَنَّهُ يُفْضِي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ (بِدَلِيلِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ) إجْمَاعًا. وَالسَّارِقُ لَا يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ رُجُوعُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً إذَا رَجَعَ، عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا مِنْ السُّرَّاقِ أَقَلُّ مِنْ الْقَلِيلِ كَالْفُقَهَاءِ وَهُمْ لَا يَسْرِقُونَ غَالِبًا.

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلَانِ بِسَرِقَةٍ ثُمَّ قَالَ: أَحَدُهُمَا هُوَ مَالِي لَمْ يُقْطَعَا، لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ مِنْهُمَا وَيُورِثُ الشُّبْهَةَ فِي حَقِّ الْآخَرِ. لِأَنَّ السَّرِقَةَ ثَبَتَتْ بِإِقْرَارِهِمَا

ص: 408

عَلَى الشَّرِكَةِ

(فَإِنْ سَرَقَا ثُمَّ غَابَ أَحَدُهُمَا وَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَرِقَتِهِمَا قُطِعَ الْآخَرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا) وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ رُبَّمَا يَدَّعِي الشُّبْهَةَ.

وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ عَلَى الْغَائِبِ فَيَبْقَى مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ حُدُوثِ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا مَرَّ

(وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَتُرَدُّ السَّرِقَةُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْطَعُ وَالْعَشَرَةُ لِلْمَوْلَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُقْطَعُ وَالْعَشَرَةُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَمَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى (وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ قُطِعَتْ يَدُهُ

عَلَى الشَّرِكَةِ) فَتَتَّحِدُ فَتَعْمَلُ الشُّبْهَةُ فِيهِمَا

(قَوْلُهُ فَإِنْ سَرَقَا ثُمَّ غَابَ أَحَدُهُمَا وَشَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَرِقَتِهِمَا قُطِعَ الْآخَرُ) الْحَاضِرُ مِنْهُمَا (فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا) وَقَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ إنْ حَضَرَ) الْغَائِبُ (رُبَّمَا يَدَّعِي شُبْهَةً) وَالسَّرِقَةُ وَاحِدَةٌ فَتَعْمَلُ فِي حَقِّهِمَا (وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ عَلَى الْغَائِبِ فَيَبْقَى مَعْدُومًا) فَإِنَّمَا عَمِلَتْ الشَّهَادَةُ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ فَقَطْ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ حُدُوثِ شُبْهَةٍ عَلَى مَا مَرَّ) فِي خِلَافِيَّةِ زُفَرَ فِي الْقَطْعِ بِخُصُومَةِ الْغَاصِبِ وَالْمُودَعِ، ثُمَّ لَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يُقْطَعُ إلَّا أَنْ تُعَادَ تِلْكَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ أَوْ تَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى، وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مَعَ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا يُقْطَعُ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَيُقْطَعُ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ بَاقِي الْأَئِمَّةِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا) حَاصِلُ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ إمَّا مَأْذُونٌ لَهُ أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يُقِرَّ بِسَرِقَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ أَوْ قَائِمَةٍ فَالْمَأْذُونُ لَهُ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ هَالِكَةٍ يُقْطَعُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ وَلَا ضَمَانَ مَعَ الْقَطْعِ.

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُقْطَعُ وَلَكِنْ يَضْمَنُ الْمَالَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ قَائِمَةٍ قُطِعَ عِنْدَ

ص: 409

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ يُقْطَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُقْطَعُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَى نَفْسِهِ وَطَرَفِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ وَالْمَالِ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهِ لِكَوْنِهِ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ.

وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَيْضًا، وَنَحْنُ نَقُولُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ

الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَلَوْ كَانَ مَأْذُونًا قُطِعَ فِي الْوَجْهَيْنِ) وَيُرَدُّ الْمَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُقْطَعُ وَلَكِنْ يُرَدُّ الْمَالُ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا، فَإِنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ هَالِكَةٍ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُقْطَعُ. وَإِنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ قَائِمَةٍ فَقَالَ زُفَرُ لَا يُقْطَعُ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ لَا يُقْطَعُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَقَالَ زُفَرُ لَا يُقْطَعُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا وَالْإِقْرَارُ بِهَالِكَةٍ أَوْ قَائِمَةٍ، أَوْ مَأْذُونًا وَالْإِقْرَارُ بِهَالِكَةٍ أَوْ قَائِمَةٍ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ فِي هَذَا. أَعْنِي إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِقَائِمَةٍ فِي يَدِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْطَعُ وَتُرَدُّ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِسَرِقَتِهَا مِنْهُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ وَالسَّرِقَةُ لِمَوْلَاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُقْطَعُ وَالسَّرِقَةُ لِمَوْلَاهُ وَيَضْمَنُ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ بَعْدَ الْعَتَاقِ الْمُقَرُّ لَهُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: سَمِعْت أُسْتَاذِي ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ يَقُولُ: الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَخَذَ بِهِ مُحَمَّدٌ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ. ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْحُمْلَانِ فِي الزَّكَاةِ. وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فِي إقْرَارِهِ وَقَالَ الْمَالُ مَالِي، أَمَّا إذَا صَدَّقَهُ فَلَا إشْكَالَ فِي الْقَطْعِ وَرَدُّ الْمَالِ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِهِ اتِّفَاقًا، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ أَصْلًا وَهُوَ ظَاهِرٌ. غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا يُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى يُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إنْ كَانَ قَائِمًا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ هَالِكًا وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ.

وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ الْكَلَامَ مَعَ زُفَرَ فَقَالَ (إنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ إقْرَارَهُ) بِهَا (يُرَدُّ) أَثَرُهُ (عَلَى نَفْسِهِ أَوْ طَرَفِهِ) بِالْإِتْلَافِ (وَكُلُّ ذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى) فَالْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارٌ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ (وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ) لَمَّا تَضَمَّنَ إقْرَارُهُ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ وَالطَّرَفِ وَبَطَلَ فِي الطَّرَفِ (يُؤَاخَذُ) بِالْمَالِ (بِضَمَانِهِ) إنْ كَانَ هَالِكًا وَيَرُدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا (لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْمَالِ لِكَوْنِهِ مُسَلَّطًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى) حَيْثُ أَذِنَ لَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ (وَنَحْنُ نَقُولُ الْإِقْرَارُ بِهَا مِنْهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ أَثَرَ الْإِقْرَارِ بِهَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ آدَمِيٌّ) لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ مِلْكِهِ؛ أَلَا

ص: 410

ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِيَّةِ فَيَصِحُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَضْرَارِ، وَمِثْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَى الْغَيْرِ. لِمُحَمَّدٍ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ فَيَبْقَى مَالُ الْمَوْلَى، وَلَا قَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْمَوْلَى. يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ فِيهَا وَالْقَطْعُ تَابِعٌ حَتَّى تُسْمَعَ الْخُصُومَةُ فِيهِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَيَثْبُتُ الْمَالُ دُونَهُ، وَفِي عَكْسِهِ لَا تُسْمَعُ وَلَا يَثْبُتُ، وَإِذَا بَطَلَ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ بَطَلَ فِي التَّبَعِ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ صَحِيحٌ فَيَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَطْعِ تَبَعًا. وَلِأَبِي يُوسُف أَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ:

يَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ كَانَ مُبْقًى فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْآدَمِيَّةِ فَيَمْلِكُهُ هُوَ كَالطَّلَاقِ (وَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ) لِيَبْطُلَ فِي حَقِّ السَّيِّدِ لِأَنَّ ضَرَرَهُ الرَّاجِعَ إلَيْهِ بِهِ فَوْقَ ضَرَرِ الرَّاجِعِ بِهِ إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ أَوْ طَرَفَهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْفُذُ عَلَى الْغَيْرِ، كَمَا إذَا شَهِدَ الْعَبْدُ الْعَدْلُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَبِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ حَتَّى يَلْزَمَ جَمِيعَ النَّاسِ صَوْمُهُ، لِأَنَّ مَا لَزِمَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَرْعٌ لَزِمَهُ مِثْلُهُ فَنَفَذَ فِي حَقِّهِمْ تَبَعًا لِنَفَاذِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ بِعَمْدِ الْقَتْلِ يُقْتَلُ إجْمَاعًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ دُيُونِ النَّاسِ. وَ (لِمُحَمَّدٍ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ بَاطِلٌ، وَلِذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْغَصْبِ فَيَبْقَى مَا فِي يَدِهِ مَالُ الْمَوْلَى) إذْ الْفَرْضُ تَكْذِيبُ الْمَوْلَى لَهُ فِي إقْرَارِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمَوْلَى وَبِسَرِقَةِ مَالِ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَتِمُّ الْوَجْهُ.

وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ يُؤَيِّدُهُ إلَخْ زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ: أَيْ يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ الْقَطْعِ (أَنَّ الْمَالَ) فِي لُزُومِ الْقَطْعِ (أَصْلٌ وَالْقَطْعُ تَابِعٌ) وَالتَّابِعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَتَحَقَّقُ دُونَ مَتْبُوعِهِ، فَحَيْثُ لَمْ يَجِبْ الْمَالُ لِلْغَيْرِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ. وَبَيَانُ أَنَّ الْمَالَ أَصْلٌ أَنَّ الْخُصُومَةَ تُسْمَعُ فِي السَّرِقَةِ فِي حَقِّ الْمَالِ حَتَّى لَوْ قَالَ أُرِيدُ الْمَالَ فَقَطْ سُمِعَتْ وَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ (وَ) لِذَا (يَثْبُتُ الْمَالُ) فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ بِلَا قَطْعٍ فِيمَا لَوْ ادَّعَاهَا وَأَقَامَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ شَهِدُوا بِهَا فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ (دُونَ الْقَطْعِ) وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ رَجَعَ يَلْزَمُهُ الْمَالُ وَلَا قَطْعَ (وَفِي عَكْسِهِ لَا تُسْمَعُ) حَتَّى لَوْ قَالَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أُرِيدُ الْقَطْعَ دُونَ الْمَالِ لَا تُسْمَعُ خُصُومَتُهُ فَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَطْعِ تَبَعًا لِلْمَالِ، وَقَدْ انْتَفَى الْمَالُ بِمَا قُلْنَا فَانْتَفَى الْقَطْعُ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ) أَيْ أَقَرَّ بِمَا

ص: 411

بِالْقَطْعِ وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَبِالْمَالِ وَهُوَ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ فِيهِ، وَالْقَطْعُ يُسْتَحَقُّ بِدُونِهِ؛ كَمَا إذَا قَالَ الْحُرُّ الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو وَزَيْدٌ يَقُولُ هُوَ ثَوْبِي يُقْطَعُ يَدُ الْمُقِرِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَدَّقُ فِي تَعْيِينِ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُؤْخَذَ مِنْ زَيْدٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَطْعِ قَدْ صَحَّ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا فَيَصِحُّ بِالْمَالِ بِنَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُلَاقِي حَالَةَ الْبَقَاءِ، وَالْمَالُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ تَابِعٌ لِلْقَطْعِ حَتَّى تَسْقُطَ عِصْمَةُ الْمَالِ بِاعْتِبَارِهِ وَيُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ. بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الْمُودَعِ.

أَمَّا لَا يَجِبُ بِسَرِقَةِ الْعَبْدِ مَالَ الْمَوْلَى فَافْتَرَقَا

يُوجِبُ شَيْئَيْنِ (الْقَطْعَ وَهُوَ) إقْرَارٌ (عَلَى نَفْسِهِ) فَيُقْطَعُ (عَلَى مَا ذَكَرْنَا) مَعَ زُفَرَ مِنْ وَجْهِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (وَالْمَالَ وَهُوَ) إقْرَارٌ (عَلَى الْمَوْلَى) وَهُوَ يُكَذِّبُهُ (فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْقَطْعُ يُسْتَحَقُّ بِدُونِ الْمَالِ) كَمَا إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ (وَكَمَا لَوْ قَالَ حُرٌّ: هَذَا الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو، وَزَيْدٌ يَقُولُ هُوَ ثَوْبِي يُقْطَعُ) وَلَا يُنْزَعُ الثَّوْبُ مِنْ زَيْدٍ إلَى عَمْرٍو فَيُقْطَعُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِقْرَارَ فِي حَقِّ الْقَطْعِ قَدْ صَحَّ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا) فِي الْكَلَامِ مَعَ زُفَرَ مِنْ أَنَّهُ آدَمِيٌّ إلَى آخِرِهِ، وَيَلْزَمُهُ صِحَّتُهُ بِالْمَالِ أَنَّهُ لِغَيْرِ الْمَوْلَى لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ شَرْعًا بِمَالٍ مَسْرُوقٍ لِلْمَوْلَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ بِالْحَدِّ ثَبَتَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَهُوَ مَلْزُومٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ بِكَوْنِ الْمَالِ لِلْمُقَرِّ لَهُ إذْ لَا قَطْعَ بِمَالِ السَّيِّدِ وَإِلَى هُنَا يَتِمُّ الْوَجْهُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُلَاقِي حَالَةَ الْبَقَاءِ وَالْمَالُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ تَابِعٌ لِلْقَطْعِ حَتَّى تَسْقُطَ عِصْمَةُ الْمَالِ بِاعْتِبَارِهِ وَيَسْتَوْفِي الْقَطْعَ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ) زِيَادَةً لَا تَظْهَرُ الْحَاجَةُ إلَيْهَا. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحُرِّ) يُرِيدُ إلْزَامَ أَبِي يُوسُفَ بِمَا إذَا قَالَ الْحُرُّ الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ سَرَقْته مِنْ عَمْرٍو وَيُقْطَعُ بِهِ وَلَا يُدْفَعُ لِعَمْرٍو، فَكَذَا جَازَ أَنْ يُقْطَعَ بِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ مَالِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ فَقَالَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْقَطْعَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ مَحْمُولٌ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهِ لِعَمْرٍو وَأَنَّهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ زَيْدٍ أَوْ غَصْبٌ

ص: 412

وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى يُقْطَعُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ

قَالَ (وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ رُدَّتْ عَلَى صَاحِبِهَا) لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ (وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَشْمَلُ الْهَلَاكَ وَالِاسْتِهْلَاكَ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ قَدْ اخْتَلَفَ سَبَبَاهُمَا فَلَا يَمْتَنِعَانِ فَالْقَطْعُ حَقُّ الشَّرْعِ وَسَبَبُهُ تَرْكُ الِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ. وَالضَّمَانُ حَقُّ الْعَبْدِ وَسَبَبُهُ أَخْذُ الْمَالِ فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَرَمِ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ مَمْلُوكَةٍ لِذِمِّيٍّ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام

وَادِّعَاءُ زَيْدٍ أَنَّ الثَّوْبَ لَهُ جَازَ كَوْنُهُ إنْكَارًا لِلْوَدِيعَةِ غَيْرَ أَنَّ الْمُقِرَّ لَيْسَ خَصْمًا لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْقَطْعُ بِسَرِقَةِ ثَوْبِ مُودَعٍ أَوْ مَغْصُوبٍ ثَابِتٌ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا الثَّوْبَ وَدِيعَةً لِلْمَوْلَى أَوْ مَغْصُوبًا عِنْدَ الْمُقَرِّ لَهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ سَرِقَةَ مَالِ الْمَوْلَى وَبِهِ لَا يُقْطَعُ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ رُدَّتْ عَلَى صَاحِبِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَشْمَلُ الْهَلَاكَ وَالِاسْتِهْلَاكَ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَضْمَنْ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَلَهُ فِيهِ جِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ فَلَأَنْ لَا يَضْمَنَ بِالْهَلَاكِ وَلَا جِنَايَةٍ أُخْرَى لَهُ فِيهِ أَوْلَى (وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ) وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَمَكْحُولٌ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ سِيرِينَ (وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ فِي الِاسْتِهْلَاكِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْبَتِّيِّ وَإِسْحَاقَ وَحَمَّادٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا ضَمِنَ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، وَلَا خِلَافَ إنْ كَانَ بَاقِيًا أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْمَالِكِ وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْقَطْعِ.

وَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ قَبْلَهُ أَنَا أَضْمَنُهُ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَنَا، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ رُجُوعَهُ عَنْ دَعْوَى السَّرِقَةِ إلَى دَعْوَى الْمَالِ. وَجْهُ قَوْلِهِمْ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا عُدْوَانًا فَيَضْمَنُهُ قِيَاسًا عَلَى الْغَصْبِ، وَالْمَانِعُ إنَّمَا هُوَ مُنَافَاةٌ بَيْنَ حَقَّيْ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ، وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الْخَاصَّةِ، وَالْآخَرُ حَقُّ الضَّرَرِ فَيُقْطَعُ حَقًّا لِلَّهِ وَيَضْمَنُ حَقًّا لِلْعَبْدِ (وَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فِي الْحَرَمِ) يَجِبُ الْجَزَاءُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَيَضْمَنُهُ حَقًّا لِلْعَبْدِ (وَكَشُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ) عَلَى قَوْلِكُمْ فَإِنَّكُمْ تَحُدُّونَهُ حَقًّا لِلَّهِ وَتُغَرِّمُونَهُ قِيمَتَهَا حَقًّا لِلذِّمِّيِّ فَهَذَا إلْزَامِيٌّ فَإِنَّهُمْ لَا يُضَمِّنُونَهُ الْخَمْرَ بِاسْتِهْلَاكِهَا (وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم) فِيمَا رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْت سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عَنْ أَخِيهِ الْمِسْوَرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 413

«لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يُنَافِي الْقَطْعَ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ وَمَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ فَهُوَ الْمُنْتَفِي، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَبْقَى مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ، إذْ لَوْ بَقِيَ لَكَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ فَيَصِيرُ مُحَرَّمًا حَقًّا لِلشَّرْعِ كَالْمَيْتَةِ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ

أَنَّهُ قَالَ «لَا يَغْرَمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ» وَلَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ «لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَ قَطْعِ يَمِينِهِ» وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْقَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ جَدُّهُ، فَإِنَّهُ مِسْوَرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ مَجْهُولٌ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ آخَرُ، فَإِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ الْفُرَاتِ رَوَاهُ عَنْ الْمُفَضَّلِ فَأَدْخَلَ بَيْنَ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَسَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ هَذَا مَجْهُولٌ، وَقِيلَ إنَّهُ الزُّهْرِيُّ قَاضِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ.

وَعِنْدَنَا الْإِرْسَالُ غَيْرُ قَادِحٍ بَعْدَ ثِقَةِ الرَّاوِي وَأَمَانَتِهِ، وَذَلِكَ السَّاقِطُ إنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ الزُّهْرِيُّ فَقَدْ عُرِفَ وَبَطَلَ الْقَدْحُ بِهِ. وَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى غُرْمِ السَّارِقِ أُجْرَةُ الْقَاطِعِ مَدْفُوعٌ بِرِوَايَةِ الْبَزَّارِ:«لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ سَرِقَتَهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ» وَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِ الْمِسْوَرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْقَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يُنَافِي الْقَطْعَ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ بَعْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ أَخَذَ مِلْكَهُ) وَلَا قَطْعَ فِي مِلْكِهِ لَكِنَّ الْقَطْعَ ثَابِتٌ قَطْعًا (فَمَا يُؤَدِّي إلَى انْتِفَائِهِ فَهُوَ الْمُنْتَفِي) وَالْمُؤَدِّي إلَيْهِ الضَّمَانُ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ (وَلِأَنَّ الْمَسْرُوقَ لَا يَبْقَى مَعَ الْقَطْعِ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ، إذْ لَوْ بَقِيَ كَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ) وَإِنَّمَا حَرُمَ لِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ حَرَامًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ شُبْهَةً فِي السَّرِقَةِ، إذْ الشُّبْهَةُ لَيْسَتْ إلَّا كَوْنُ الْحُرْمَةِ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ، لَكِنَّ الْحَدَّ وَهُوَ الْقَطْعُ ثَابِتٌ إجْمَاعًا (فَكَانَ مُحَرَّمًا حَقًّا لِلشَّرْعِ) فَقَطْ (كَالْمَيْتَةِ وَلَا ضَمَانَ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ) وَلَا يُقَالُ جَازَ كَوْنُ الشَّيْءِ مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ وَنَفْسِهِ كَالزِّنَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: مَا فُرِضَ فِيهِ الْكَلَامُ وَهُوَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ لَا يَكُونُ قَطُّ مُحَرَّمًا إلَّا لِغَيْرِهِ. وَوَقْتُ اسْتِخْلَاصِهِ الْحُرْمَةُ لِنَفْسِهِ تَعَالَى قُبَيْلَ فِعْلِ السَّرِقَةِ الْقَبْلِيَّةِ الَّتِي عَلِمَ تَعَالَى أَنَّهَا تَتَّصِلُ بِهَا السَّرِقَةُ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ لَنَا ذَلِكَ بِتَحَقُّقِ الْقَطْعِ، فَإِذَا قُطِعَ عَلِمْنَا أَنَّهُ اسْتَخْلَصَ الْحُرْمَةَ حَقًّا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْمَالِ، كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الْأَبَ مَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَارِيَةَ ابْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ مِنْ الِابْنِ لَهُ بِظُهُورِ دَعْوَاهُ وَلَدَهَا لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ شُرِعَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُ بِدَعْوَاهُ فَعَلِمْنَا حُكْمَهُ تَعَالَى بِنَقْلِ الْمِلْكِ فِيهَا إلَيْهِ قَبْلَ الْوَطْءِ الْقَبْلِيَّةِ الَّتِي عَلِمَ

ص: 414

إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا يَظْهَرُ سُقُوطُهَا فِي حَقِّ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ آخَرُ غَيْرِ السَّرِقَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا الشُّبْهَةُ تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ السَّبَبُ دُونَ غَيْرِهِ.

وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إتْمَامُ الْمَقْصُودِ فَتُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ، وَكَذَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ سُقُوطِهَا فِي حَقِّ الْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ.

تَعَالَى اتِّصَالَ الْوَطْءِ بِهَا، وَكَذَا فِي أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ فَهُوَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمُعَايَنَةِ الْمَشْرُوطِ عَلَى سَبْقِ الشَّرْطِ. فَإِنْ قُلْت: فَمَا وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فِي الضَّمَانِ بِالِاسْتِهْلَاكِ مَعَ فَرْضِ أَنَّ الْعِصْمَةَ انْتَقَلَتْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصَارَ الْمَسْرُوقُ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْتَرِقَ الْحَالُ؟ فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا يَظْهَرُ سُقُوطُهَا فِي حَقِّ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ آخَرُ غَيْرُ السَّرِقَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ فِعْلٍ آخَرَ) إنَّمَا الضَّرُورَةُ فِي نَفْيِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ عَنْ فِعْلِ السَّرِقَةِ ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْقَطْعِ (وَكَذَا الشُّبْهَةُ) أَيْ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ إنَّمَا (تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ السَّبَبُ) وَهُوَ السَّرِقَةُ (دُونَ غَيْرِهِ) وَهُوَ الِاسْتِهْلَاكُ (وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ) وَإِنْ كَانَ فِعْلًا آخَرَ إلَّا أَنَّهُ (إتْمَامُ الْمَقْصُودِ) بِالسَّرِقَةِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَسْرُوقِ فَكَانَ مَعْدُودًا مِنْهَا (فَتُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ) كَمَا اُعْتُبِرَتْ فِي السَّرِقَةِ (وَكَذَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ) فِي فَصْلِ الِاسْتِهْلَاكِ (لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ) بَيْنَ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَالضَّمَانِ، لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مَعْصُومٌ حَقًّا لِلْعَبْدِ فِي حَالَةِ الِاسْتِهْلَاكِ فَقَطْ، وَالضَّمَانُ مَالٌ مَعْصُومٌ حَقًّا لَهُ فِي حَالَتَيْ الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، فَإِذَا انْتَفَتْ الْمُمَاثَلَةُ انْتَفَى الضَّمَانُ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ مَشْرُوطٌ بِالْمُمَاثَلَةِ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ شُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِغَيْرِهِ فَيَضْمَنُهُ، وَفِيهِ جِنَايَةٌ عَلَى عَقْلِهِ، وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْحَدَّ فَيُحَدُّ بِذَلِكَ فَكَانَا حُرْمَتَيْنِ، وَمِثْلُهُ صَيْدُ الْحَرَمِ الْمَمْلُوكِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْ السَّارِقِ قَضَاءً لِتَعَذُّرِ الْحُكْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ، فَأَمَّا دِيَانَةً فَيُفْتَى بِالضَّمَانِ

ص: 415

قَالَ (وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَقُطِعَ فِي إحْدَاهَا فَهُوَ لِجَمِيعِهَا، وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَضْمَنُ كُلَّهَا إلَّا الَّتِي قُطِعَ لَهَا) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا حَضَرَ أَحَدُهُمْ، فَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا وَقُطِعَتْ يَدُهُ لِخُصُومَتِهِمْ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا. لَهُمَا أَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْغَائِبِ. وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُصُومَةِ لِتَظْهَرَ السَّرِقَةُ فَلَمْ تَظْهَرْ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَائِبَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ الْقَطْعُ لَهَا فَبَقِيَتْ أَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةً. وَلَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكُلِّ قَطْعٌ وَاحِدٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ لِلظُّهُورِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِذَا اسْتَوْفَى فَالْمُسْتَوْفَى كُلُّ الْوَاجِبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَرْجِعُ نَفْعُهُ

لِلُحُوقِ الْخُسْرَانِ وَالنُّقْصَانِ لِلْمَالِكِ مِنْ جِهَةِ السَّارِقِ. وَفِي الْإِيضَاحِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحِلُّ لِلسَّارِقِ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ خَاطَهُ قَمِيصًا لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مَحْظُورٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ، كَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُ الرَّدُّ قَضَاءً وَيَلْزَمُهُ دِيَانَةً، وَكَالْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ ثُمَّ تَابَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَتَعَذُّرُ إيجَابِ الضَّمَانِ بِعَارِضٍ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَأَمَّا دِيَانَةً فَيُعْتَبَرُ قَضِيَّةُ السَّبَبِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَقُطِعَ فِي إحْدَاهَا) بِخُصُومَةِ صَاحِبِهَا وَحْدَهُ (فَهُوَ) أَيْ ذَلِكَ الْقَطْعُ (لِجَمِيعِهَا وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا) لِأَرْبَابِ تِلْكَ السَّرِقَاتِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَضْمَنُ كُلَّهَا إلَّا) السَّرِقَةَ (الَّتِي قُطِعَ فِيهَا، فَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا وَقُطِعَتْ يَدُهُ بِخُصُومَتِهِمْ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا) مِنْ السَّرِقَاتِ (بِالِاتِّفَاقِ لَهُمَا أَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ نَائِبًا عَنْ الْغَائِبِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُصُومَةِ لِتَظْهَرَ السَّرِقَةُ).

وَلَا خُصُومَةَ مِنْ الْغَائِبِ فَلَمْ تَظْهَرْ الْخُصُومَةُ مِنْهُمْ فَلَمْ يَظْهَرْ الْقَطْعُ بِسَرِقَاتِهِمْ (فَبَقِيَتْ أَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةً. وَلَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكُلِّ قَطْعٌ وَاحِدٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ. وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ لِلظُّهُورِ عِنْدَ الْحَاكِمِ) فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ

ص: 416

إلَى الْكُلِّ فَيَقَعُ عَنْ الْكُلِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَتْ النُّصُبُ كُلُّهَا لِوَاحِدٍ فَخَاصَمَ فِي الْبَعْضِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(بَابُ مَا يُحْدِثُ السَّارِقُ فِي السَّرِقَةِ)

(وَمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ سَبَبَ الْمِلْكِ وَهُوَ الْخَرْقُ الْفَاحِشُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَتَمَلُّكَ الْمَضْمُونِ وَصَارَ كَالْمُشْتَرِي إذَا سَرَقَ مَبِيعًا فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ

الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ التَّدَاخُلُ وَمَعْنَاهُ وُقُوعُ الْحَدِّ الْوَاحِدِ عَنْ كُلِّ الْأَسْبَابِ السَّابِقَةِ وَقَدْ وُجِدَ لَزِمَ وُقُوعُهُ عَنْهَا وَهُوَ مَلْزُومٌ لِسُقُوطِ ضَمَانِهَا كُلِّهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلِمَ الْقَاضِي بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَا أَثَرَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهَا فِي نَفْيِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ شَرْعًا عِنْدَ الْقَطْعِ وَهُوَ وُقُوعُهُ عَنْ كُلِّ الْأَسْبَابِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ ضَمَانِهَا فَكَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ ثَابِتًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

(بَابُ مَا يُحْدِثُ السَّارِقُ فِي السَّرِقَةِ)

(قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ) قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْحِرْزِ (نِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ، وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةً) بَعْدَ الشَّقِّ (قُطِعَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ) وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً بَعْدَهُ لَمْ يُقْطَعْ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ شَقَّهُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ قُطِعَ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَاخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ فِي إفَادَةِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي بَعْضِهَا مَا يُفِيدُ أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْهُ وَأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ كَقَوْلِهِمَا وَهِيَ كَلَامُ الْهِدَايَةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيِّ وَالصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَالْعَتَّابِيِّ حَيْثُ قَالُوا: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَكَذَا قَوْلُ الْإِسْبِيجَابِيِّ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ وَقَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الظَّاهِرِ

ص: 417

(وَلَهُمَا أَنَّ الْأَخْذَ وُضِعَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ لَا لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الضَّمَانِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ، وَمِثْلُهُ لَا يُوَرِّثُ) الشُّبْهَةَ كَنَفْسِ الْأَخْذِ، وَكَمَا إذَا سَرَقَ الْبَائِعُ مَعِيبًا بَاعَهُ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ وَأَخْذَ الثَّوْبِ،

وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْبَيْهَقِيُّ زَادَ فَقَالَ فِي كِفَايَتِهِ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي بَعْضِهَا مَا يُفِيدُ أَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ كَقَوْلِ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ، وَكَذَا قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: كُلُّ شَيْءٍ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ إنْ شَاءَ ذَلِكَ رَبُّ الْمَتَاعِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ.

وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ السَّرِقَةَ مَا تَمَّتْ إلَّا وَقَدْ انْعَقَدَ لِلسَّارِقِ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ؛ إذْ بِالْخَرْقِ الْفَاحِشِ يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ وِلَايَةُ تَضْمِينِ السَّارِقِ قِيمَةَ الثَّوْبِ وَتَرْكَهُ لَهُ وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَمَا انْعَقَدَ لِلسَّارِقِ فِيهِ سَبَبُ الْمِلْكِ لَا يُقْطَعُ بِهِ. كَمَا لَوْ سَرَقَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ ثُمَّ أَسْقَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَلَكِنْ فِيهِ سَبَبُ الْمِلْكِ لِلسَّارِقِ (وَلَهُمَا أَنَّ الْأَخْذَ وَقَعَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الشَّقَّ وَقَعَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ (لَا لِلْمِلْكِ) وَثُبُوتَ وِلَايَةِ الْغَيْرِ أَنْ يَمْلِكَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ، بَلْ السَّبَبُ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ اخْتِيَارِ التَّضْمِينِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ تِلْكَ الْوِلَايَةُ مُوجِبَةً لِلسَّبَبِيَّةِ إذَا كَانَ التَّصَرُّفُ مَوْضُوعًا لِلتَّمْلِيكِ كَالْبَيْعِ فِيمَا قِسْت عَلَيْهِ لَا فِيمَا وُضِعَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ صُورَةِ الشَّقِّ وَصُورَةِ الْبَيْعِ كَوْنُ نَفْسِ التَّصَرُّفِ وُضِعَ لِلتَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الشَّقِّ.

وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ لَيْسَ فِي الْأَخْذِ بَلْ فِي الشَّقِّ تَكَلَّفَ فِي تَقْرِيرِهِ بِأَنْ قِيلَ الْأَخْذُ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ مَحْضٌ لَا لِلْمِلْكِ فَكَانَ كَالشَّقِّ عُدْوَانًا فَكَمَا لَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَخْذِ شُبْهَةُ الْمِلْكِ دَارِئَةً لِلْقَطْعِ بَلْ يُقْطَعُ إجْمَاعًا كَذَلِكَ الشَّقُّ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الشَّقُّ سَبَبًا لِلضَّمَانِ إذَا اخْتَارَ الْمَالِكُ التَّضْمِينَ (فَيَثْبُتُ ضَرُورَةُ أَدَاءِ الضَّمَانِ) أَوْ الْقَضَاءِ بِهِ (وَمِثْلُهُ لَا يُورَثُ شُبْهَةً) وَإِلَّا لَثَبَتَ مِثْلُهَا (فِي نَفْسِ الْأَخْذِ)؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ كَالشَّقِّ فَصَارَ (نَظِيرَ مَا إذَا سَرَقَ الْبَائِعُ مَعِيبًا بَاعَهُ) وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الَّذِي بِهِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ (قَوْلُهُ: وَهَذَا الْخِلَافُ إلَخْ) الْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ الْكَائِنَ فِي الْقَطْعِ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ وَأَخْذَ الثَّوْبِ يُقْطَعُ مَعَ ذَلِكَ

ص: 418

فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقِيمَةِ وَتَرْكَ الثَّوْبِ عَلَيْهِ لَا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ فَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ إذْ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارُ تَضْمِينِ كُلِّ الْقِيمَةِ

عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ (وَلَوْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقِيمَةِ وَتَرَكَ الثَّوْبِ عَلَيْهِ لَا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَّكَهُ) إيَّاهُ (بِالْهِبَةِ) بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يُقْطَعُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا يُقْطَعُ بِالِاتِّفَاقِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ تَضْمِينُ كُلِّ الْقِيمَةِ) فَانْتَفَى وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ فِي الْيَسِيرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَرْقَ يَكُونُ يَسِيرًا وَيَكُونُ فَاحِشًا، وَتَارَةً يَكُونُ إتْلَافًا وَاسْتِهْلَاكًا، وَفِيهِ يَجِبُ ضَمَانُ كُلِّ الْقِيمَةِ بِلَا خِيَارٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ، وَعَلَى هَذَا لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ مَا تَمَّتْ السَّرِقَةُ إلَّا بِمَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ حَدَّهُ التُّمُرْتَاشِيُّ بِأَنْ يَنْقُصَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ. وَأَمَّا الْخَرْقُ الْفَاحِشُ فَقِيلَ مَا يُوجِبُ نُقْصَانَ رُبْعِ الْقِيمَةِ فَصَاعِدًا فَاحِشٌ، وَإِلَّا فَيَسِيرٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَصَاعِدًا مَا لَمْ يَنْتَهِ إلَى مَا بِهِ يَصِيرُ إتْلَافًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْيَسِيرُ مَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ.

وَأَوْرَدَ فِي الْكَافِي عَلَى الْقَطْعِ مَعَ إيجَابِ ضَمَانِ النُّقْصَانِ فِي الْخَرْقِ الْيَسِيرِ أَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ.

وَأَجَابَ فَقَالَ: إنَّمَا لَا يَجْتَمِعَانِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ جَزَاءِ الْفِعْلِ وَبَدَلِ الْمَحَلِّ فِي جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُنَا لَا يُؤَدِّي إلَيْهِ؛ إذْ الْقَطْعُ يَجِبُ بِالسَّرِقَةِ وَضَمَانُ النُّقْصَانِ بِالْخَرْقِ وَالْخَرْقُ لَيْسَ مِنْ السَّرِقَةِ فِي شَيْءٍ. وَاسْتُشْكِلَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ الِاسْتِهْلَاكُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُ فَعَلَ غَيْرَ السَّرِقَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَسْرُوقِ تَسْقُطُ بِالْقَطْعِ، فَكَذَا هُنَا عِصْمَةُ الْمَسْرُوقِ تَسْقُطُ بِالْقَطْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الْخَبَّازِيَّةِ: وَفِي الصَّحِيحِ لَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْقَطْعُ مَعَ الضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ النُّقْصَانَ يَمْلِكُ مَا ضَمِنَهُ فَيَكُونُ هَذَا كَثَوْبٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ لَكِنَّهُ يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ، وَالْحَقُّ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ الْأُمَّهَاتِ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَيَضْمَنُ النُّقْصَانَ، وَالنَّقْصُ بِالِاسْتِهْلَاكِ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ هُنَاكَ بَعْدَ السَّرِقَةِ بِأَنْ سَرَقَ وَاسْتَهْلَكَ الْمَسْرُوقَ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مَا إذَا نَقَصَ قَبْلَ تَمَامِ السَّرِقَةِ فَإِنَّ وُجُوبَ قِيمَةِ مَا نَقَصَ ثَابِتٌ قَبْلَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ إذَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْحِرْزِ كَانَ الْمَسْرُوقُ هُوَ النَّاقِصَ فَالْقَطْعُ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ الْمَسْرُوقِ النَّاقِصِ وَلَمْ نُضَمِّنْهُ إيَّاهُ، أَلَا يُرَى إلَى قَوْلِ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ: فَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ يَسِيرًا يُقْطَعُ وَيَضْمَنُ النُّقْصَانَ، أَمَّا الْقَطْعُ فَلِأَنَّهُ أَخْرَجَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ الْحِرْزِ عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ، وَأَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِوُجُودِ

ص: 419

(وَإِنْ سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ عَلَى اللَّحْمِ وَلَا قَطْعَ فِيهِ

(وَمَنْ سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَصَنَعَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ قُطِعَ فِيهِ وَتَرَكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَا سَبِيلَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَيْهِمَا) وَأَصْلُهُ فِي الْغَصْبِ فَهَذِهِ صَنْعَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ، ثُمَّ وُجُوبُ الْحَدِّ لَا يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَقِيلَ يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالصَّنْعَةِ شَيْئًا آخَرَ فَلَمْ يَمْلِكْ عَيْنَهُ

سَبَبِهِ وَهُوَ التَّعْيِيبُ الَّذِي وَقَعَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي بِهِ تَتِمُّ السَّرِقَةُ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ النُّقْصَانِ لَا يَمْنَعُ الْقَطْعَ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّقْصَانِ وَجَبَ بِإِتْلَافِ مَا فَاتَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَالْقَطْعِ بِإِخْرَاجِ الْبَاقِي فَلَا يَمْنَعُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ ثَوْبَيْنِ وَأَحْرَقَ أَحَدَهُمَا فِي الْبَيْتِ وَأَخْرَجَ الْآخَرَ، وَقِيمَتُهُ نِصَابٌ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْبَاحِثِ يَمْلِكُ مَا ضَمِنَهُ فَيَكُونُ كَثَوْبٍ مُشْتَرَكٍ إلَى آخِرِهِ فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ السَّرِقَةِ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ مَا كَانَ لَهُ مِلْكٌ فِي الْمُخْرَجِ، فَإِنَّ الْجُزْءَ الَّذِي مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ هُوَ مَا كَانَ قَبْلَ السَّرِقَةِ وَقَدْ هَلَكَ قَبْلَهَا، وَحِينَ وَرَدَتْ السَّرِقَةُ وَرَدَتْ عَلَى مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ الْجُزْءُ الْمَمْلُوكُ لَهُ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يُقْطَعْ) وَلَوْ سَاوَتْ نِصَابًا بَعْدَ الذَّبْحِ (لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ عَلَى اللَّحْمِ وَلَا قَطْعَ فِيهِ) عَلَى مَا مَرَّ لَكِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ

(قَوْلُهُ: وَمَنْ سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ) بِأَنْ كَانَتْ نِصَابًا (فَصَنَعَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ قُطِعَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَيَرُدُّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَقَالَا: يُقْطَعُ وَلَا سَبِيلَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَيْهِمَا) وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلَافٍ آخَرَ فِي الْغَصْبِ وَهُوَ مَا إذَا غَصَبَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ دَرَاهِمَ فَضَرَبَهَا حُلِيًّا فَكَذَا هُنَا لَا يَنْقَطِعُ بِالصَّكِّ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي السَّرِقَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَتَبَدَّلْ فَيُقْطَعُ فَالْقَطْعُ عِنْدَهُ لَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ قِيلَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بِمَا حَدَثَ مِنْ الصَّنْعَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا أَخَذَ وَزْنًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقِيلَ يُقْطَعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى السَّارِقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ عَيْنَ الْمَسْرُوقِ لِأَنَّهُ بِالصَّنْعَةِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ فَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْمَسْرُوقَ ثُمَّ قَطَعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذِهِ الصَّنْعَةَ مُبَدِّلَةٌ لِلْعَيْنِ كَالصَّنْعَةِ فِي الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ بِأَنْ غَصَبَ حَدِيدًا أَوْ صُفْرًا فَجَعَلَهُ سَيْفًا أَوْ آنِيَةً، وَكَذَا الِاسْمُ كَانَ تِبْرًا ذَهَبًا فِضَّةً فَصَارَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ. وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ الصَّنْعَةَ فِي الذَّهَبِ

ص: 420

(فَإِنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَصَبْغَهُ أَحْمَرَ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ الثَّوْبُ وَلَمْ يَضْمَنْ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤْخَذُ مِنْهُ الثَّوْبُ وَيُعْطَى مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ) اعْتِبَارًا بِالْغَصْبِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا كَوْنُ الثَّوْبِ أَصْلًا قَائِمًا وَكَوْنُ الصَّبْغِ تَابِعًا. وَلَهُمَا أَنَّ الصَّبْغَ قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَخْذَهُ مَصْبُوغًا يَضْمَنُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الثَّوْبِ قَائِمٌ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى السَّارِقِ بِالْهَلَاكِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ السَّارِقِ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ، لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ بِمَا ذَكَرْنَا (وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ

وَالْفِضَّةِ وَلَوْ تَقَوَّمَتْ وَبَدَّلَتْ الِاسْمَ لَمْ تُعْتَبَرْ مَوْجُودَةً شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا حُكْمُ الرِّبَا حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ آنِيَةِ وَزْنُهَا عَشَرَةٌ فِضَّةً بِأَحَدَ عَشَرَ فِضَّةً وَقَلْبُهُ فَكَانَتْ الْعَيْنُ كَمَا كَانَتْ حُكْمًا فَيُقْطَعُ وَتُؤْخَذُ لِلْمَالِكِ، عَلَى أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ، وَهُوَ اسْمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِنَّمَا حَدَثَ اسْمٌ آخَرُ مَعَ ذَلِكَ الِاسْمِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَصَبْغَهُ أَحْمَرَ) يُقْطَعُ بِهِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الثَّوْبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا يَضْمَنُهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤْخَذُ مِنْهُ الثَّوْبُ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَيُعْطَى قَدْرَ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي الثَّوْبِ اعْتِبَارًا بِالْغَصْبِ) فَإِنَّ غَاصِبَ الثَّوْبِ إذَا صَبَغَهُ أَحْمَرَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الِاسْتِرْدَادِ اتِّفَاقًا، فَكَذَا فِي السَّرِقَةِ (وَالْجَامِعُ كَوْنُ الثَّوْبِ أَصْلًا وَالصَّبْغُ تَابِعًا. وَلَهُمَا أَنَّ الصَّبْغَ قَائِمٌ صُورَةً)

وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُهُ (وَمَعْنًى) أَيْ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ (حَتَّى لَوْ أَرَادَ) الْمَسْرُوقُ مِنْهُ (أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ يَضْمَنُ لَهُ) قِيمَةَ (الصَّبْغِ وَحَقُّ الْمَالِكِ قَائِمٌ صُورَةً لَا مَعْنًى) فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَوْ اُسْتُهْلِكَ عِنْدَ السَّارِقِ لَا يَضْمَنُ فَكَانَ حَقُّ السَّارِقِ أَحَقَّ بِالتَّرْجِيحِ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا فَعَلَهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ بِذَلِكَ (بِخِلَافِ الْغَصْبِ، لِأَنَّ حَقَّ كُلٍّ) مِنْ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالْغَاصِبِ الَّذِي صَبَغَهُ (قَائِمٌ صُورَةً وَمَعْنًى) لِانْتِفَاءِ مَا يَخِلُّ بِالْمَعْنَى فِي حَقِّ الْغَاصِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ (فَاسْتَوَيَا فَرَجَّحْنَا الْمَالِكَ بِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّ الصَّبْغَ تَابِعٌ (قَوْلُهُ وَإِنْ صَبَغَهُ) أَيْ السَّارِقُ (أَسْوَدَ) ثُمَّ قَطَعَ أَوْ قَطَعَ

ص: 421

أُخِذَ مِنْهُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّ السَّوَادَ زِيَادَةٌ عِنْدَهُ كَالْحُمْرَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ زِيَادَةٌ أَيْضًا كَالْحُمْرَةِ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّوَادُ نُقْصَانٌ فَلَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ.

(بَابُ قَطْعِ الطَّرِيقِ)

قَالَ (وَإِذَا خَرَجَ جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعِينَ أَوْ وَاحِدٌ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَقَصَدُوا قَطْعَ الطَّرِيقِ فَأُخِذُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا

فَصَبَغَهُ أَسْوَدَ (يُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ) فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ (لِأَنَّ السَّوَادَ زِيَادَةٌ كَالْحُمْرَةِ) وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ السَّارِقِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ زِيَادَةٌ) لَكِنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ كَمَا قَالَ فِي الْحُمْرَةِ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّوَادُ نُقْصَانٌ فَلَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ) فِي الِاسْتِرْدَادِ.

قَالُوا: وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا لَا يَلْبَسُونَ السَّوَادَ فِي زَمَنِهِ وَيَلْبَسُونَهُ فِي زَمَنِهِمَا. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ سَرَقَ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أَوْ عَسَلٍ فَهُوَ مِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّبْغِ: أَيْ الْأَحْمَرِ لَيْسَ لِلْمَالِكِ عَلَى السَّارِقِ سَبِيلٌ فِي السَّوِيقِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَأْخُذُهُ وَيُعْطَى مَا زَادَ السَّمْنُ وَالْعَسَلُ.

(بَابُ قَطْعِ الطَّرِيقِ)

أَخَّرَهُ عَنْ السَّرِقَةِ وَأَحْكَامِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَرِقَةٍ مُطْلَقَةٍ وَلِذَا لَا يَتَبَادَرُ هُوَ أَوْ مَا يَدْخُلُ هُوَ فِيهِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ السَّرِقَةِ بَلْ إنَّمَا يَتَبَادَرُ الْأَخْذُ خُفْيَةً عَنْ النَّاسِ، وَلَكِنْ أُطْلِقَ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ اسْمُ السَّرِقَةِ مَجَازًا لِلضَّرْبِ مِنْ الْإِخْفَاءِ وَهُوَ الْإِخْفَاءُ عَنْ الْإِمَامِ وَمَنْ نَصَّبَهُ الْإِمَامُ لِحِفْظِ الطَّرِيقِ مِنْ الْكَشَّافِ، وَأَرْبَابِ الْإِدْرَاكِ فَكَانَ السَّرِقَةُ فِيهِ مَجَازًا وَلِذَا لَا تُطْلَقُ السَّرِقَةُ عَلَيْهِ إلَّا مُقَيَّدَةً فَيُقَالُ السَّرِقَةُ الْكُبْرَى، وَلَوْ قِيلَ السَّرِقَةُ فَقَطْ لَمْ يُفْهَمْ أَصْلًا وَلُزُومُ التَّقْيِيدِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ (قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَ جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعِينَ) بِقُوَّتِهِمْ عَمَّنْ يَقْصِدُ مُقَاتَلَتَهُمْ (أَوْ وَاحِدٌ لَهُ مَنَعَةٌ) بِقُوَّتِهِ وَنَجْدَتِهِ: يَعْنِي شَوْكَتَهُ (يَقْصِدُونَ قَطْعَ الطَّرِيقِ) أَيْ أَخْذُ الْمَارَّةِ فَأَحْوَالُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَزَاءِ الشَّرْعِيِّ أَرْبَعَةٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ

ص: 422

مَالًا وَيَقْتُلُوا نَفْسًا حَبَسَهُمْ الْإِمَامُ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً، وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، وَالْمَأْخُوذُ إذَا قُسِّمَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا أَوْ مَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ قَطَعَ الْإِمَامُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا قَتَلَهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّوْزِيعُ عَلَى الْأَحْوَالِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَالرَّابِعَةُ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى

خَمْسَةٌ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَزَاءِ فَإِمَّا أَنْ يُؤْخَذُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مَالًا وَيَقْتُلُوا نَفْسًا بَلْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ سِوَى مُجَرَّدِ إخَافَةِ الطَّرِيقِ إلَى أَنْ أُخِذُوا فَحُكْمُهُمْ أَنْ يُعَزَّرُوا وَيُحْبَسُوا إلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ فِي الْحَبْسِ أَوْ يَمُوتُوا. وَأَمَّا إنْ أَخَذُوا مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَالْمَأْخُوذُ إذَا قُسِّمَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ الْإِمَامُ يَدَ كُلٍّ مِنْهُمْ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُسْرَى.

وَأَمَّا إنْ قَتَلُوا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَلَوْ يَأْخُذُوا مَالًا فَيَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا، وَمَعْنَى حَدًّا أَنَّهُ لَوْ عَفَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِينَ لَا يَقْبَلُ عَفْوَهُمْ لِأَنَّ الْحَدَّ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسْمَعُ فِيهِ عَفْوُ غَيْرِهِ، فَمَتَى عَفَا عَنْهُمْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى.

وَالرَّابِعَةُ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَالَ وَيَقْتُلُوا، وَسَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ يُقْتَلُ قِصَاصًا، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إذَا أَمْكَنَهُ أَخْذُ الْمَالِ فَلَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا وَمَالَ إلَى الْقَتْلِ، فَإِنَّا سَنَذْكُرُ فِي نَظِيرِهَا أَنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا خِلَافًا لِعِيسَى بْنِ أَبَانَ.

وَفِيهَا أَيْضًا إنْ خَرَجَ عَلَى الْقَافِلَةِ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَافَ النَّاسَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ يُعَزَّرُ وَيُخْلَى سَبِيلُهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ أَنَّهُ يُحْبَسُ امْتِثَالًا لِلنَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ فَالْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ. وَالْخَامِسَةُ أَنْ يُؤْخَذُوا بَعْدَ مَا أَحْدَثُوا تَوْبَةً وَتَأْتِي أَيْضًا فِي الْكِتَابِ، وَالتَّقْيِيدُ بِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ لِيَخْرُجَ الْمُسْتَأْمَنُ، فَلَوْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى مُسْتَأْمَنٍ لَمْ يَلْزَمْهُمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا إلَّا التَّعْزِيرُ وَالْحَبْسُ بِاعْتِبَارِ إخَافَةِ الطَّرِيقِ وَإِخْفَاءِ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ مَالَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَبَاقِي الشُّرُوطِ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ فِي بَرِّيَّةٍ لَا فِي مِصْرٍ وَلَا قَرْيَةٍ وَلَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَدِّمُهُ الشَّارِحُونَ يَأْتِي ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْكِتَابِ مُفَصَّلًا (وَالْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِي تَوْزِيعِ الْأَجْزِيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا عَلَى الْجِنَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الْآيَةَ؛ سَمَّى قَاطِعَ الطَّرِيقِ مُحَارِبًا لِلَّهِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ مُعْتَمِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَاَلَّذِي يُزِيلُ أَمْنَهُ مُحَارِبٌ لِمَنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي تَحْصِيلِ الْأَمْنِ، وَأَمَّا مُحَارَبَتُهُ لِرَسُولِهِ فَإِمَّا بِاعْتِبَارِ عِصْيَانِ أَمْرِهِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْحَافِظُ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخُلَفَاءُ وَالْمُلُوكُ بَعْدَهُ نُوَّابُهُ، فَإِذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَوَلَّى حِفْظَهَا بِنَفْسِهِ وَنَائِبِهِ فَقَدْ حَارَبَهُ أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ يُحَارِبُونَ عِبَادَ اللَّهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ تَقْدِيرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِالْقَطْعِ عَلَى الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ (وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ التَّوْزِيعُ) أَيْ تَوْزِيعُ الْأَجْزِيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ وَقَتَادَةُ وَأَصْحَابُ أَحْمَدَ وَقَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ مُطْلَقًا. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْقَاطِعَ جَلْدًا ذَا رَأْيٍ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا

ص: 423

وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ تَتَفَاوَتُ عَلَى الْأَحْوَالِ فَاللَّائِقُ تَغَلُّظُ الْحُكْمِ بِتَغَلُّظِهَا. أَمَّا الْحَبْسُ فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ بِدَفْعِ شَرِّهِمْ عَنْ أَهْلِهَا، وَيُعَزَّرُونَ أَيْضًا لِمُبَاشَرَتِهِمْ مُنْكَرَ الْإِخَافَةِ. وَشَرْطُ الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ كَمَا بَيَّنَّاهَا لِمَا تَلَوْنَاهُ. وَشَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لِتَكُونَ الْعِصْمَةُ مُؤَبَّدَةً، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ. وَشَرْطُ كَمَالِ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَيْ لَا يُسْتَبَاحَ طَرَفُهُ إلَّا بِتَنَاوُلِهِ مَالَهُ خَطَرٌ، وَالْمُرَادُ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ كَمَا بَيَّنَّاهَا لِمَا تَلَوْنَاهُ (وَيُقْتَلُونَ حَدًّا، حَتَّى لَوْ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ عَنْهُمْ لَا يُلْتَفَت إلَى عَفْوِهِمْ)

لَا رَأْيَ لَهُ قَطَعَهُ. وَلَنَا مَا رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بُرْدَةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ، فَجَاءَ أُنَاسٌ يُرِيدُنَّ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ أَبِي بُرْدَةَ الطَّرِيقَ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَدِّ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الشِّرْكِ» .

وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ نُفِيَ» . وَبِالنَّظَرِ إلَى الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْمَقْطُوعِ بِهِ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ كُلُّهَا أَجِزْيَةٌ عَلَى جِنَايَةِ الْقَطْعِ، وَمِنْ الْمَقْطُوعِ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ تَتَفَاوَتُ خِفَّةً وَغِلْظًا، وَالْعَمَلُ بِالْإِطْلَاقِ الْمَحْضِ لِلْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ أَنْ يُرَتَّبَ عَلَى أَغْلَظِهَا أَخَفُّ الْأَجْزِيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَعَلَى أَخَفِّهَا أَغْلَظُ الْأَجْزِيَةِ.

وَهَذَا مِمَّا يَدْفَعُهُ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِتَوْزِيعِ الْأَغْلَظِ لِلْأَغْلَظِ وَالْأَخَفِّ لِلْأَخَفِّ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّوْزِيعِ مُوَافَقَةً لِأَصْلِ الشَّرْعِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ، وَالْقَطْعُ بِالْأَخْذِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لَمَّا كَانَ أَغْلَظَ مِنْ أَخْذِ السَّرِقَةِ حَيْثُ كَانَ مُجَاهَرَةً وَمُكَابَرَةً مَعَ إشْهَارِ السِّلَاحِ جُعِلَ الْمَرَّةُ مِنْهُ كَالْمَرَّتَيْنِ، فَقُطِعَ فِي الْأَخْذِ مَرَّةً الْيَدُ وَالرِّجْلُ مَعًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ النِّصَابِ فِيهِ عِشْرِينَ، لِأَنَّ الْغِلَظَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ لَا مُتَعَلَّقِهِ، وَلِمُوَافَقَةِ قَاعِدَةِ الشَّرْعِ شَرَطَ فِي قَطْعِهِمْ كَوْنَ مَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا كَامِلًا كَيْ لَا يُسْتَبَاحَ طَرَفُهُ بِأَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَيُخَالِفَ قَاعِدَةَ الشَّرْعِ. وَلَمْ يَشْرِطْ مَالِكٌ سِوَى أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ نِصَابًا فَصَاعِدًا أَصَابَ كُلًّا نِصَابٌ أَوْ لَا، وَكَوْنُ الْمَقْطُوعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ

ص: 424

لِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ.

(وَ) الرَّابِعَةُ (إذَا قَتَلُوا وَأَخْذُو الْمَالَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ وَلَا يُقْطَعُ) لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ حَدَّيْنِ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يَدْخُلُ فِي النَّفْسِ فِي بَابِ الْحَدِّ

الْيُسْرَى بِالْإِجْمَاعِ كَيْ لَا يَثْوَى نِصْفُهُ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ السَّابِقَةُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ يُسْرَاهُ شَلَّاءَ لَا تُقْطَعُ يَمِينُهُ، وَكَذَا رِجْلُهُ الْيُمْنَى لَوْ كَانَتْ شَلَّاءَ لَا تُقْطَعُ الْيُسْرَى، وَلَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ الْيُمْنَى لَا تُقْطَعُ لَهُ يَدٌ، وَكَذَا الرِّجْلُ الْيُسْرَى.

فَإِنْ قُلْت: لَيْسَ فِي الْأَجْزِيَةِ الْمُوَزَّعَةِ الْحَبْسُ. قُلْنَا: هُوَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ الْأَرْضِ: أَيْ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مَا دَامَ حَيًّا، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى بَعْضِهَا وَهِيَ بَلْدَتُهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ دَفْعُ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَا مَنَعَةٍ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فِيمَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الْبَلْدَةِ الْأُخْرَى فَعَمِلْنَا بِمَجَازِهِ، وَهُوَ الْحَبْسُ، فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الدُّنْيَا.

قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ فِي الْغُرَرِ:

خَرَجْنَا مِنْ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا

فَلَسْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى

إذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ

عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنْ الدُّنْيَا

وَلِمَا رَأَى مَالِكٌ رضي الله عنه أَنَّ مُجَرَّدَ النَّفْيِ لَا يُفِيدُ فِي الْمَقْصُودِ قَالَ: يُحْبَسُ فِي بَلْدَةِ النَّفْيِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَتَفَاوَتُ بِالْحَبْسِ فِي بَلْدَةِ النَّفْيِ وَغَيْرِهَا فَيَقَعُ تَعْيِينُ بَلْدَةِ النَّفْيِ فِي غَيْرِ الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ (قَوْلُهُ وَالرَّابِعَةُ) أَيْ مِنْ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ (مَا إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ) بِلَا صَلْبٍ وَقَطْعٍ (وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ) أَحْيَاءً ثُمَّ قَتَلَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا بُدَّ مِنْ الصَّلْبِ لِلنَّصِّ فِي الْحَدِّ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْحَدِّ كَالْقَتْلِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. أَجَابَ بِأَنَّ أَصْلَ التَّشْهِيرِ يَحْصُلُ بِالْقَتْلِ وَالْمُبَالَغَةِ بِالصَّلْبِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَبَ الْعُرَنِيِّينَ وَلَا غَيْرُهُ صَلَبَ أَحَدًا، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ لَا يُحَتِّمُ الصَّلْبَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إنَّمَا يُفِيدُ أَنْ يُقَتَّلُوا بِلَا صَلْبٍ أَوْ يُصَلَّبُوا بِلَا قَتْلٍ، لَكِنْ يُقْتَلُ بَعْدَ الصَّلْبِ مَصْلُوبًا بِالْإِجْمَاعِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُقْطَعُ وَلَكِنْ يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ. وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مِنْ الْمَباسِيطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ذِكْرُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ الْقَاطِعُ ذَا رَأْيٍ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الصَّلْبِ وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ (وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ) هِيَ جِنَايَةُ قَطْعِ الطَّرِيقِ (فَلَا تُوجِبُ حَدَّيْنِ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي بَابِ الْحَدِّ يَدْخُلُ فِي النَّفْسِ

ص: 425

كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ. وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ وَاحِدَةٌ تَغَلَّظَتْ لِتَغَلُّظِ سَبَبِهَا، وَهُوَ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ عَلَى التَّنَاهِي بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ، وَلِهَذَا كَانَ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مَعًا فِي الْكُبْرَى حَدًّا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَا فِي الصُّغْرَى حَدَّيْنِ، وَالتَّدَاخُلُ فِي الْحُدُودِ لَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ التَّخْيِيرَ بَيْن الصَّلْبِ وَتَرْكِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ التَّشْهِيرُ لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ أَصْلُ التَّشْهِيرِ بِالْقَتْلِ وَالْمُبَالَغَةِ بِالصَّلْبِ فَيُخَيَّرُ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ (وَيُصْلَبُ حَيًّا وَيُبْعَجُ بَطْنُهُ بِرُمْحٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ) وَمِثْلَهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ. وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ تَوَقِّيًا عَنْ الْمُثْلَةِ.

وَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الصَّلْبَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبْلَغُ فِي الرَّدْعِ وَهُوَ

كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ) إذَا اجْتَمَعَا بِأَنْ سَرَقَ الْمُحْصَنُ ثُمَّ زَنَى فَإِنَّهُ يُرْجَمُ وَلَا يُقْطَعُ اتِّفَاقًا (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهَذَا عَلَى اعْتِبَارِ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا مَعَ مُحَمَّدٍ (أَنَّ هَذِهِ) الْجِنَايَةَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَهَذَا الْمَجْمُوعُ مِنْ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ أَيْضًا (عُقُوبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا تَغَلَّظَتْ لِتَغَلُّظِ سَبَبِهَا) حَيْثُ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي تَفْوِيتِ الْأَمْنِ (حَيْثُ فَوَّتَ الْأَمْنَ عَلَى الْمَالِ وَالنَّفْسِ بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ) وَكَوْنُهَا أُمُورًا مُتَعَدِّدَةً لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ الْحُدُودِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ؛ أَلَّا يُرَى أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فِيهَا حَدٌّ وَاحِدٌ وَهُوَ فِي الصُّغْرَى حَدَّانِ، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى التَّوْزِيعِ الَّذِي لَزِمَ اعْتِبَارُهُ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْقَطْعُ ثُمَّ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ التَّوْزِيعَ أَدَّى إلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَ.

وَهَذَا قَدْ أَخَذَهُ فَيُقْطَعُ، وَأَنَّ مَنْ قَتَلَ يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ، وَهَذَا قَتَلَ فَيَجِبُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَأَمَّا عَلَى الِاجْتِمَاعِ فَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُهُ مِنْ الِانْفِرَادِ فَجَازَ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ دُخُولِ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ هُوَ مَا إذَا كَانَا حَدَّيْنِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ النَّفْسِ وَالْآخَرُ النَّفْسُ، أَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ حَدًّا وَاحِدًا فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَتِهِ فَهِيَ أَجْزَاءُ حَدٍّ وَاحِدٍ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ بَدَأَ بِالْجُزْءِ الَّذِي لَا تَتْلَفُ بِهِ النَّفْسُ فَعَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ بَدَأَ بِمَا تَتْلَفُ بِهِ لَا يَفْعَلُ الْآخَرَ لِانْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ الضَّرْبُ بَعْدَ الْمَوْتِ (قَوْلُهُ ثُمَّ قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِيمَا إذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ صَلْبَهُ، أَوْ مَا إذَا قُلْنَا بِلُزُومِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ (يُصْلَبُ حَيًّا وَيُبْعَجُ بَطْنُهُ إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَمِثْلُهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الصَّلْبَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبْلُغُ فِي الرَّدْعِ)

وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ وَهُوَ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْحَيَاةِ لَا بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: النَّصُّ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} فَلَزِمَ كَوْنُ الصَّلْبِ بِلَا قَتْلٍ لِأَنَّهُ مُعَانِدٌ لَهُ بِحَرْفِ الْعِنَادِ فَلَا يَتَصَادَقُ مَعَهُ، وَالْقَتْلُ الَّذِي يَعْرِضُ بَعْدَ الصَّلْبِ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ.

وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ تَوَقِّيًا عَنْ الْمُثْلَةِ، فَإِنَّهَا نُسِخَتْ مِنْ لَدُنْ الْعُرَنِيِّينَ عَلَى مَا عُرِفَ.

لَا يُقَالُ: وَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَخْفَى

ص: 426

الْمَقْصُودُ بِهِ.

قَالَ (وَلَا يُصْلَبُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بَعْدَهَا فَيَتَأَذَّى النَّاسُ بِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُتْرَكُ عَلَى خَشَبَةٍ حَتَّى يَتَقَطَّعَ فَيَسْقُطَ لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ.

قُلْنَا: حَصَلَ الِاعْتِبَارُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالنِّهَايَةُ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ.

قَالَ (وَإِذَا قَتَلَ الْقَاطِعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ أَخَذَهُ) اعْتِبَارًا بِالسَّرِقَةِ الصُّغْرَى وَقَدْ بَيَّنَّاهُ

(فَإِنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ أَحَدُهُمْ أَجْرَى الْحَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ) لِأَنَّهُ جَزَاءَ الْمُحَارَبَةِ، وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِأَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ رِدْءًا لِلْبَعْضِ حَتَّى إذَا زَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ انْحَازُوا إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ الْقَتْلُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ تَحَقَّقَ. قَالَ (وَالْقَتْلُ وَإِنْ كَانَ بَعْضًا أَوْ بِحَجَرٍ أَوْ بِسَيْفٍ فَهُوَ سَوَاءٌ) لِأَنَّهُ يَقَعُ قَطْعًا لِلطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْمَارَّةِ

(وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ الْقَاطِعُ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَقَدْ جَرَحَ اُقْتُصَّ مِنْهُ فِيمَا فِيهِ الْقِصَاصُ، وَأُخِذَ الْأَرْشُ مِنْهُ فِيمَا فِيهِ الْأَرْشُ وَذَلِكَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ) لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَيَسْتَوْفِيهِ الْوَلِيُّ (وَإِنْ أَخَذَ مَالًا ثُمَّ جَرَحَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرَجْلُهُ وَبَطَلَتْ الْجِرَاحَاتُ) لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ سَقَطَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ

أَنَّهُ لَا يُكَافِئُ وَجْهَ الطَّحَاوِيِّ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَاصِلُ لَيْسَ غَيْرُ صَلْبٍ وَقَتْلٍ بِطَعْنِ الرُّمْحِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَادُ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْقَتْلُ بِهِ فَلَيْسَ مُثْلَةً عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ فِي جَدْعِ الْأُذُنَيْنِ وَقَطْعِ الْأَنْفِ وَسَمْلِ الْعَيْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُثْلَةٌ فَالصَّلْبُ لَيْسَ غَيْرُ وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِشَرْعِيَّتِهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمُثْلَةُ الْخَاصَّةُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْمَنْسُوخِ قَطْعًا لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ يَدْفِنُونَهُ، وَعَلِمْت فِي كِتَابِ الشَّهِيدِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ (وَلَا يُصْلَبُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بَعْدَهَا فَيَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُتْرَكُ عَلَى خَشَبَةٍ حَتَّى يَتَقَطَّعَ فَيَسْقُطَ لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ. قُلْنَا: حَصَلَ الِاعْتِبَارُ بِمَا ذَكَرْنَا وَالنِّهَايَةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ)

مِنْ النَّصِّ، وَكَوْنُهُ أَمَرَ بِالصَّلْبِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ بَلْ بِمِقْدَارٍ مُتَعَارَفٍ لِإِيلَاءِ الْأَعْذَارِ كَمَا فِي مُهْلَةِ الْمُرْتَدِّ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ

(قَوْلُهُ: وَإِذَا قَتَلَ الْقَاطِعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ أَخَذَهُ) لِمَا بَيَّنَّا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى مِنْ سُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِالْقَطْعِ

(قَوْلُهُ وَإِنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ أَحَدُهُمْ) أَيْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَالْبَاقُونَ وُقُوفٌ لَمْ يَقْتُلُوا مَعَهُ وَلَمْ يُعِينُوهُ (أُجْرِيَ الْحَدُّ عَلَى جَمِيعِهِمْ) فَيُقْتَلُوا، وَلَوْ كَانُوا مِائَةً بِقَتْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاحِدًا (لِأَنَّ الْقَتْلَ جَزَاءُ الْمُحَارَبَةِ) الَّتِي فِيهَا قَتْلٌ بِالنَّصِّ مَعَ التَّوْزِيعِ (وَالْمُحَارَبَةُ تَتَحَقَّقُ بِأَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ رِدْءًا لِلْبَعْضِ حَتَّى إذَا انْهَزَمُوا انْحَازُوا إلَيْهِمْ) وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْمُحَارَبَةُ مَعَ الْقَتْلِ فَيَشْمَلُ الْجَزَاءُ الْكُلَّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.

قُلْنَا إنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْمُحَارَبَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُبَاشِرُ وَالرِّدْءُ كَالْغَنِيمَةِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْلِ بِسَيْفٍ أَوْ عَصًا أَوْ حَجَرٍ فِي قَتْلِ الْكُلِّ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِصَاصَ بِالْمُثَقَّلِ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ فَلَا يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ، وَلِهَذَا يُقْتَلُ غَيْرُ الْمُبَاشِرِ

(وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ الْقَاطِعُ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَقَدْ جَرَحَ) فَمَا كَانَ مِنْ جِرَاحَةٍ يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ (اُقْتُصَّ وَمَا كَانَ لَا يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْأَرْشُ) وَيُعْرَفُ مَا يُقْتَصُّ بِهِ وَمَا لَا يُقْتَصُّ فِي الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا (لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ) مِنْ قَطْعٍ أَوْ قَتْلٍ (فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَسْتَوْفِيهِ الْوَلِيُّ وَإِنْ أَخَذَ مَالًا ثُمَّ جَرَحَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ) مِنْ خِلَافٍ (وَبَطَلَتْ الْجِرَاحَاتُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ سَقَطَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ) أَيْ مَا حَلَّ

ص: 427

حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا تَسْقُطُ عِصْمَةُ الْمَالِ (وَإِنْ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَابَ وَقَدْ قَتَلَ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْأَوْلِيَاءُ قَتَلُوهُ وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ) لِأَنَّ الْحَدَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ لَا يُقَامُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ وَلَا قَطْعَ فِي مِثْلِهِ، فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ أَوْ يَعْفُوَ،

بِهَا مِنْ تَفْرِيقِ اتِّصَالِ الْجِسْمِ بِالْجِرَاحَاتِ (حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا تَسْقُطُ عِصْمَةُ الْمَالِ) وَلِذَا تَبْطُلُ الْجِرَاحَاتُ إذَا قَتَلَ فَقُتِلَ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ (قَوْلُهُ: وَإِنْ أُخِذَ بَعْدَمَا تَابَ) سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِلَا خِلَافٍ بِالنَّصِّ.

قَالَ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَإِنْ كَانَ قَدْ قَتَلَ (فَإِنْ شَاءَ الْأَوْلِيَاءُ قَتَلُوهُ وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ) لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ قِصَاصٌ فَصَحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالصُّلْحُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَتْلٌ بِحَدِيدٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ إلَّا بِهِ، وَنَحْوِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا إذَا كَانَ أَخَذَ مَالًا ثُمَّ تَابَ فَإِنَّ صَاحِبَهُ إنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا وَيَأْخُذُهُ إنْ كَانَ قَائِمًا لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ (فَظَهَرَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ كَمَا فِي النَّفْسِ) وَفِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ: رَدُّ الْمَالِ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِمْ لِتَنْقَطِعَ بِهِ خُصُومَةُ صَاحِبِهِ.

وَلَوْ تَابَ وَلَمْ يَرُدَّ الْمَالَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ كَسَائِرِ الْحُدُودِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَقِيلَ يَسْقُطُ أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ

ص: 428

وَيَجِبُ الضَّمَانُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ

(وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْبَاقِينَ) فَالْمَذْكُورُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ يُحَدُّ الْبَاقُونَ وَعَلَى هَذَا السَّرِقَةُ الصُّغْرَى.

فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْحَدَّ فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى بِخُصُوصِهَا لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي النَّصِّ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى بَاقِي الْحُدُودِ مَعَ مُعَارَضَةِ النَّصِّ، وَسَائِرُ الْحُدُودِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَعَنْهُمَا تَسْقُطُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ رَجْمَ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ كَانَ بَعْدَ تَوْبَتِهِمَا، وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفُ وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى رَدِّ الْمَالِ وَلَا قَطْعَ فِي مِثْلِهِ شَبَهُ التَّنَاقُضِ، لِأَنَّهَا إذَا تَوَقَّفَتْ عَلَى رَدِّ الْمَالِ فَأَخَذَ الْقَاطِعُ قَبْلَ الرَّدِّ أُخِذَ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَالْأَخْذُ قَبْلَ التَّوْبَةِ بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ فِيهِ الْحَدُّ بِقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ.

أُجِيبَ بِفَرْضِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا رَدَّ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ عَلَامَةُ تَوْبَتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ فَيَجِبُ الضَّمَانُ لَوْ هَلَكَ الْبَاقِي أَوْ اسْتَهْلَكَهُ؛ وَمِثْلُ مَا لَوْ أُخِذُوا بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَالرُّجُوعِ إلَى الْقِصَاصِ وَتَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ وَفِي الْمَالِ مَا لَوْ أُخِذُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ وَقَدْ قَتَلُوا، وَلَكِنْ أَخَذُوا مِنْ الْمَالِ قَلِيلًا لَا يُصِيبُ كُلًّا نِصَابٌ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ إلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ شَاءُوا قَتَلُوا قِصَاصًا وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا. وَقَالَ عِيسَى: يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا لِأَنَّهُمْ لَوْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ قَتَلَهُمْ حَدًّا لَا قِصَاصًا، وَهَذَا لِأَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ كَالْعَدَمِ، وَلِأَنَّهُ تَتَغَلَّظُ جِنَايَتُهُمْ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ.

وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُمْ يَقْصِدُونَ بِالْقَطْعِ أَخْذَ الْمَالِ، وَقَتْلُهُمْ لَيْسَ إلَّا لِيَصِلُوا إلَيْهِ، فَإِذَا تَرَكُوا أَخْذَ الْمَالِ عَرَفْنَا أَنَّ قَصْدَهُمْ الْقَتْلُ لَا الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَيْسَ إلَّا لِلْمَالِ فَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ إنْ شَاءَ الْوَلِيُّ وَتَجْرِي فِيهِ أَحْكَامُ الْقِصَاصِ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْبَاقِينَ) فَتَظْهَرُ أَحْكَامُ الْقِصَاصِ وَتَضْمِينُ الْمَالِ وَالْجِرَاحَاتِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: تَابُوا وَفِيهِمْ عَبْدٌ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ دَفَعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ فَدَاهُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ قِصَاصٌ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَيَبْقَى حُكْمُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِمْ امْرَأَةٌ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْأَطْرَافِ، وَالْوَاقِعُ مِنْهَا عَمْدٌ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَالْمَذْكُورُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ) الْأَخْذَ وَالْقَتْلَ (يُحَدُّ الْبَاقُونَ) وَإِنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا حَدَّ عَلَى الْبَاقِينَ.

وَقِيلَ كَانَ الْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بَعْدَ أَنْ قَالَ الْمَذْكُورُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، أَوْ يَقُولُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ كَمَا قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: الْعُقَلَاءُ عَنْ الْبَالِغِينَ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ مِمَّا يُقَالُ فِي مُقَابِلَةِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ (وَعَلَى هَذَا السَّرِقَةُ الصُّغْرَى) إنْ وَلِي الْمَجْنُونُ أَوْ الصَّبِيُّ

ص: 429

لَهُ أَنَّ الْمُبَاشِرَ أَصْلٌ، وَالرَّدُّ تَابِعٌ وَلَا خَلَلَ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَاقِلِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْخَلَلِ فِي التَّبَعِ، وَفِي عَكْسِهِ يَنْعَكِسُ الْمَعْنَى وَالْحُكْمُ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِالْكُلِّ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ فِعْلُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا كَانَ فِعْلُ الْبَاقِينَ بَعْضَ الْعِلَّةِ وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فَصَارَ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ.

وَأَمَّا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَقَدْ قِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُطْلَقٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ

إخْرَاجَ الْمَتَاعِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْكُلِّ، وَإِنْ وَلِيَ غَيْرُهُمَا قُطِعُوا إلَّا الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ.

وَقَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ غَيْرِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَذِي الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ اخْتَصَّ بِهَا وَاحِدٌ فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الْبَاقِينَ (لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَاشِرَ أَصْلٌ وَالرِّدْءَ تَابِعٌ، فَفِي مُبَاشَرَةِ الْعَاقِلِ الْخَلَلُ فِي التَّبَعِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَا خَلَلَ فِي الْأَصْلِ) فَيُحَدُّ الْبَاقُونَ (وَفِي عَكْسِهِ) وَهُوَ أَنْ يُبَاشِرَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ (يَنْعَكِسُ الْمَعْنَى) وَهُوَ السُّقُوطُ عَنْ الْأَصْلِ، فَإِنَّ السُّقُوطَ حِينَئِذٍ فِي التَّبَعِ فَيَنْعَكِسُ الْحُكْمُ وَهُوَ حَدُّ الْبَاقِينَ فَلَا يُحَدُّونَ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (أَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْكُلِّ يُسَمَّى جِنَايَةَ قَطْعِ الطَّرِيقِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِجَمَاعَةٍ فَكَانَ الصَّادِرُ مِنْ الْكَثِيرِ جِنَايَةً وَاحِدَةً (قَامَتْ بِالْكُلِّ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ فِعْلُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا) لِلْحَدِّ لِشُبْهَةٍ أَوْ عَدَمِ تَكْلِيفٍ لَا يُوجِبُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ (فِعْلَ الْبَاقِينَ) حِينَئِذٍ (بَعْضُ الْعِلَّةِ وَ) بِبَعْضِ الْعِلَّةِ (لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ وَصَارَ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ) إذَا اجْتَمَعَا فِي قَتْلِ مَعْصُومِ الدَّمِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْعَامِدِ (وَأَمَّا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَقِيلَ تَأْوِيلُهُ) أَيْ تَأْوِيلُ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْكُلِّ (أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ) وَفِي الْقُطَّاعِ ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمْ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْبَاقِينَ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَتَصِيرُ شُبْهَةً فِي نَصِيبِ الْبَاقِينَ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا امْتَنَعَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ يَمْتَنِعُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ مُشْتَرَكًا؛ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ إلَّا مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَخَذُوا مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ يُحَدُّونَ بِاعْتِبَارِ الْمَأْخُوذِ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُجْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ) وَأَنَّهُمْ لَا يُحَدُّونَ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ مَالَ جَمِيعِ الْقَافِلَةِ فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطُّرُقِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِحِرْزٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْقَافِلَةُ (وَالْجِنَايَةُ وَاحِدَةٌ) وَهِيَ قَطْعُ الطَّرِيقِ

ص: 430

فَالِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ مُسْتَأْمَنٌ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّهِ لِخَلَلٍ فِي الْعِصْمَةِ وَهُوَ يَخُصُّهُ، أَمَّا هُنَا الِامْتِنَاعُ لِخَلَلٍ فِي الْحِرْزِ، وَالْقَافِلَةُ حِرْزٌ وَاحِدٌ (وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ صَارَ الْقَتْلُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ) لِظُهُورِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا).

(وَإِذَا قَطَعَ بَعْضُ الْقَافِلَةِ الطَّرِيقَ عَلَى الْبَعْضِ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ) لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ فَصَارَتْ الْقَافِلَةُ كَدَارٍ وَاحِدَةٍ

(وَمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فِي الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ فَلَيْسَ بِقَاطِعِ الطَّرِيقِ) اسْتِحْسَانًا.

وَفِي الْقِيَاسِ يَكُونُ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِوُجُودِهِ حَقِيقَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ إذَا كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ إنْ كَانَ بِقُرْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ.

(فَالِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ) بِخِلَافِ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ هُنَاكَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ شَرِيكٌ مُفَاوِضٌ لِبَعْضِ الْقُطَّاعِ لَا يُحَدُّونَ كَذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ) أَيْ فِي الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْقَافِلَةُ (مُسْتَأْمَنٌ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَحْدَهُ لَا يُوجِبُ حَدَّ الْقَطْعِ كَمَا عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، ثُمَّ عِنْدَ اخْتِلَاطِ ذِي الرَّحِمِ، الْقَاطِعُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْقَافِلَةِ صَارَ شُبْهَةً فِي الْحَدِّ، فَكَذَا يَجِبُ عِنْدَ اخْتِلَاطِ الْمُسْتَأْمَنِ كَذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ.

أَجَابَ بِأَنَّ (الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ إنَّمَا كَانَ لِخَلَلٍ فِي عِصْمَةِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَخُصُّهُ، أَمَّا هُنَا الِامْتِنَاعُ لِخَلَلٍ فِي الْحِرْزِ وَالْقَافِلَةُ حِرْزٌ وَاحِدٌ) فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْقَرِيبَ سَرَقَ مَالَ الْقَرِيبِ وَغَيْرِ الْقَرِيبِ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ (وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ صَارَ الْقَتْلُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ شَاءُوا عَفَوْا وَإِنْ شَاءُوا اقْتَصُّوا) وَيَجْرِي الْحَالُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَرِيبٍ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ الْقَتْلُ وَالْأَخْذُ إلَّا فِي الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ يَضْمَنُونَ أَمْوَالَ الْمُسْتَأْمَنِينَ لِثُبُوتِ عِصْمَةِ أَمْوَالِهِمْ لِلْحَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا قَطَعَ بَعْضُ الْقَافِلَةِ الطَّرِيقَ عَلَى الْبَعْضِ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ) وَهُوَ الْقَافِلَةُ فَصَارَ كَسَارِقٍ سَرَقَ مَتَاعَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعَهُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ إنْ قَتَلَ عَمْدًا بِحَدِيدَةٍ أَوْ بِمُثَقَّلٍ عِنْدَهُمَا وَرَدُّ الْمَالِ إنْ أَخَذَهُ، وَهُوَ قَائِمٌ وَضَمَانُهُ إنْ هَلَكَ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ

(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فِي الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ) وَهِيَ مَنْزِلُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ قَرِيبٌ مِنْ الْكُوفَةِ بِحَيْثُ يَتَّصِلُ عُمْرَانُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى (فَلَيْسَ بِقَاطِعِ الطَّرِيقِ اسْتِحْسَانًا) وَكَذَا بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ، وَحَدَّ بَعْضُهُمْ مَكَانَ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ فِي قَرْيَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمِصْرِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَفِي الْقِيَاسِ) أَنْ (يَكُونَ قَاطِعًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ) فَإِنَّ فِي وَجِيزِهِمْ: مَنْ أَخَذَ فِي الْبَلَدِ مَالًا مُغَالَبَةً فَهُوَ قَاطِعُ طَرِيقٍ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ) إذَا كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ وَلَوْ بِقُرْبٍ مِنْهُ يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ بَلْ مُجَاهَرَتُهُ هُنَا أَغْلَظُ مِنْ مُجَاهَرَتِهِ فِي الْمَفَازَةِ. وَلَا تَفْصِيلَ فِي النَّصِّ فِي مَكَانِ الْقَطْعِ.

وَعَنْ مَالِكٍ كُلُّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ لِصَاحِبِهِ الِاسْتِغَاثَةُ فَهُوَ مُحَارِبٌ. وَعَنْهُ لَا مُحَارَبَةُ إلَّا عَلَى قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْعُمْرَانِ. وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ مَرَّةً وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ) فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إنْ قَصْدَهُ

ص: 431

وَعَنْهُ إنْ قَاتَلُوا نَهَارًا بِالسِّلَاحِ أَوْ لَيْلًا بِهِ أَوْ بِالْخَشَبِ فَهُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ وَالْغَوْثُ يُبْطِئُ بِاللَّيَالِيِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْمَارَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لُحُوقُ الْغَوْثِ، إلَّا أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ بِرَدِّ الْمَالِ أَيْضًا لَا لِلْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَيُؤَدَّبُونَ وَيُحْبَسُونَ لِارْتِكَابِهِمْ الْجِنَايَةَ، وَلَوْ قَتَلُوا فَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لِمَا بَيَّنَّا

(وَمَنْ خَنَقَ رَجُلًا حَتَّى قَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، وَسَنُبَيِّنُ فِي بَابِ الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِنْ خَنَقَ فِي الْمِصْرِ غَيْرَ مَرَّةٍ قُتِلَ بِهِ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُدْفَعُ شَرُّهُ بِالْقَتْلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بِالسِّلَاحِ نَهَارًا فِي الْمِصْرِ فَهُوَ قَاطِعٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخَشَبِ وَنَحْوِهِ فَلَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَفِي اللَّيْلِ يَكُونُ قَاطِعًا بِالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ (لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ) فَيَتَحَقَّقُ الْقَطْعُ قَبْلَ الْغَوْثِ (وَالْغَوْثُ يُبْطِئُ بِاللَّيَالِيِ) فَيَتَحَقَّقُ بِلَا سِلَاحٍ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْمَارَّةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لُحُوقُ الْغَوْثِ) وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَمْ يُنَطْ بِمُسَمَّى قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا أُنِيطَ بِمُحَارَبَةِ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمِصْرِ وَخَارِجِهِ، ثُمَّ هَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يُفِيدُ تَعْيِينَ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَيْنَ الْمِصْرِ وَالْقَاطِعِ.

وَلَا شَكَّ فِي أَنْ لَيْسَ لُحُوقُ الْغَوْثِ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ ظَاهِرًا وَهُوَ مَا عَلَّلَ بِهِ لِلظَّاهِرِ، وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُمْ لَيْسُوا قُطَّاعًا فَسَبِيلُهُمْ أَنْ يُضْرَبُوا وَيُحْبَسُوا، وَإِنْ قَتَلُوا لَزِمَ الْقِصَاصُ وَأَحْكَامُهُ، وَإِنْ أَخَذُوا مَالًا ضَمِنُوهُ إذَا أَتْلَفُوهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمْ قُطَّاعٌ إنْ قَتَلُوا قُتِلُوا حَدًّا فَلَا يُقْبَلُ عَفْوَ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِمْ ثُمَّ لَا يَضْمَنُونَ عَلَى مَا سَمِعْت.

وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ لِظُهُورِ حَقِّ الْعَبْدِ عِنْدَ انْدِفَاعِ الْحَدِّ

(قَوْلُهُ: وَمَنْ خَنَقَ رَجُلًا حَتَّى قَتَلَهُ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدِّيَاتِ) وَظَاهِرٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةَ الْمُثْقَلِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ عِنْدَهُ فِي الْعَمْدِ حَيْثُ كَانَتْ الْآلَةُ فِيهَا قُصُورٌ يُوجِبُ التَّرَدُّدَ فِي أَنَّهُ قَصَدَ قَتْلَهُ بِهَذَا الْفِعْلِ أَوْ قَصَدَ الْمُبَالَغَةَ فِي إيلَامِهِ وَإِدْخَالَ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ وَعَدَمُ احْتِمَالِهِ لِذَلِكَ (فَإِنْ خَنَقَ غَيْرَ مَرَّةٍ قُتِلَ) الْآنَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ قَصْدُهُ إلَى الْقَتْلِ بِالتَّخْنِيقِ حَيْثُ عُرِفَ إفْضَاؤُهُ إلَى الْقَتْلِ ثُمَّ صَارَ يَعْتَمِدُهُ (وَلِأَنَّهُ صَارَ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ) وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ (يُدْفَعُ شَرُّهُ بِالْقَتْلِ).

[فُرُوعٌ]

نَصَّ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ فِي حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ كَغَيْرِهِمَا، أَمَّا الْعَبْدُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَكَغَيْرِهَا فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعٌ وَقَتْلٌ وَهِيَ كَالرَّجُلِ فِي جَرَيَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَيْهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ مِنْهَا. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ، لِأَنَّ

ص: 432

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السَّبَبَ هُوَ الْمُحَارَبَةُ، وَالْمَرْأَةُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لَيْسَتْ مُحَارِبَةً كَالصَّبِيِّ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهَا فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْمُحَارَبَةِ وَهُوَ السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَكَذَا فِي الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْمُحَارَبَةِ، وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْعَبْدُ فَإِنَّهُ لَا يُسَاوِي الْحُرَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ وَيُسَاوِيهِ فِي هَذَا الْحَدِّ. وَفِي الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي النِّسَاءِ. وَذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا قَطَعَ قَوْمٌ الطَّرِيقَ وَمَعَهُمْ امْرَأَةٌ فَبَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ الْقَتْلَ وَأَخَذَتْ الْمَالَ دُونَ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَامُ عَلَيْهَا وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُدْرَأُ عَنْهُمْ جَمِيعًا لِكَوْنِ الْمَرْأَةِ فِيهِمْ وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ كَالصَّبِيِّ.

وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَذْكُرُ هَذِهِ، أَعْنِي كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْقَطْعِ ثُمَّ يَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيهَا وَيَذْكُرُ حَاصِلَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا وَيَتْرُكُ نَقَلَ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّهَا كَالرِّجَالِ مَنْسُوبًا إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَعَ مُسَاعَدَةِ الْوَجْهِ وَوُرُودِ النَّقْضِ الصَّحِيحِ عَلَى مُخْتَارِ الْكَرْخِيِّ بِالْعَبْدِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّنْ نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْفَتَاوَى الْكُبْرَى وَالْمُصَنَّفُ فِي التَّجْنِيسِ وَغَيْرُهُمْ مَعَ ضَعْفِ الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْرِقَةِ مِثْلَ الْفَرْقِ بِضَعْفِ الْبَيِّنَةِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الضَّعِيفِ مَعَ مُصَادَمَتِهِ إطْلَاقَ الْكِتَابِ الْمُحَارِبِينَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَمَا فِي النَّوَازِلِ مِنْ قَوْلِهِ عَشْرُ نِسْوَةٍ قَطَعْنَ الطَّرِيقَ فَقَتَلْنَ وَأَخَذْنَ الْمَالَ قُتِلْنَ وَضَمِنَّ الْمَالَ بِنَاءً عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّهُنَّ لَسْنَ مُحَارِبَاتٍ. وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَاتَلَتْ الْعَدُوَّ وَأُسِرَتْ لَمْ تُقْتَلْ، وَإِنَّمَا قُتِلْنَ بِقَتْلِهِنَّ وَالضَّمَانُ لِأَخْذِهِنَّ الْمَالَ،

وَيَثْبُتُ قَطْعُ الطَّرِيقِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَبُو يُوسُفَ شَرَطَ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى وَيُقْبَلُ رُجُوعُ الْقَاطِعِ كَمَا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى فَيَسْقُطُ الْحَدُّ وَيُؤْخَذُ بِالْمَالِ إنْ كَانَ أَقَرَّ بِهِ مَعَهُ وَبِالْبَيِّنَةِ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَطْعِ أَوْ الْإِقْرَارِ، فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِمْ بِهِ لَا يُقْبَلُ، وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالْقَطْعِ عَلَى أَبِي الشَّاهِدِ وَإِنْ عَلَا وَابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَوْ قَالَا قَطَعُوا عَلَيْنَا وَعَلَى أَصْحَابِنَا وَأَخَذُوا مَالَنَا لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا لِأَنْفُسِهِمَا، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ وَلَهُ وَلِيٌّ يُعْرَفُ أَوْ لَا يُعْرَفُ لَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِمْ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، وَلَوْ قَطَعُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى تُجَّارٍ مُسْتَأْمَنِينَ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ غَلَبَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَغْيِ ثُمَّ أَتَى بِهِمْ إلَى الْإِمَامِ لَا يَمْضِي عَلَيْهِمْ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا السَّبَبَ حِينَ لَمْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِهِ، وَفِي مَوْضِعٍ لَا يَجْرِي بِهِ حُكْمُهُ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فِعْلُهُمْ مُوجِبًا عَلَيْهِ الْإِقَامَةَ عَلَيْهِمْ فَلَا يَفْعَلُهُ، وَمِثْلُهُ تَقَدَّمَ فِي الزِّنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ.

وَلَوْ رُفِعُوا إلَى قَاضٍ يَرَى تَضْمِينَهُمْ الْمَالَ فَضَمَّنَهُمْ وَسَلَّمَهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَوَدِ فَصَالَحُوهُمْ عَلَى الدِّيَاتِ ثُمَّ رُفِعُوا بَعْدَ زَمَانٍ إلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ، إمَّا لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ وَفِيهِ نَظَرٌ، أَوْ لِعَدَمِ الْخَصْمِ وَقَدْ سَقَطَ خُصُومَتُهُمْ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِمْ أَوْ لِقَضَاءِ الْأَوَّلِ فَيَتِمُّ بِذَلِكَ لِنَفَاذِهِ؛ إذْ هُوَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهِدٍ فِيهِ مِنْ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ. وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَحَبَسَهُمْ لِذَلِكَ فَذَهَبَ أَجْنَبِيٌّ فَقَتَلَهُمْ.

لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَتْ حُرْمَةُ نَفْسِهِ سَقَطَتْ حُرْمَةُ أَطْرَافِهِ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ الثُّبُوتِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِقَطْعِهِ لِلطَّرِيقِ اُقْتُصَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً، ثُمَّ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِحِلِّ دَمِهِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ مَا قَتَلَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، فَوُجُودُ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ كَعَدَمِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ وَلِيَّ الَّذِي قَتَلَهُ الْقَاطِعُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ.

وَلَوْ أَنَّ لُصُوصًا أَخَذُوا مَتَاعَ قَوْمٍ فَاسْتَعَانُوا بِقَوْمٍ وَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِمْ إنْ كَانَ أَرْبَابُ الْمَتَاعِ مَعَهُمْ حَلَّ قِتَالُهُمْ، وَكَذَا إذَا غَابُوا وَالْخَارِجُونَ يَعْرِفُونَ مَكَانَهُمْ وَيَقْدِرُونَ عَلَى رَدِّ الْمَتَاعِ

ص: 433

(كِتَابُ السِّيَرِ)

السِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الْأُمُورِ، وَفِي الشَّرْعِ تَخْتَصُّ بِسِيَرِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي مَغَازِيهِ.

عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مَكَانَهُمْ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ لِلِاسْتِرْدَادِ لِلرَّدِّ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الرَّدِّ، وَلَوْ اقْتَتَلُوا مَعَ قَاطِعٍ فَقَتَلُوهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ لِأَجْلِ مَالِهِمْ، فَإِنْ فَرَّ مِنْهُمْ إلَى مَوْضِعٍ أَوْ تَرَكُوهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ كَانَ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ لَا لِأَجْلِ مَالِهِمْ، وَكَذَا لَوْ فَرَّ رَجُلٌ مِنْ الْقُطَّاعِ فَلَحِقُوهُ وَقَدْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي مَكَانٍ لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ فَقَتَلُوهُ كَانَ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ إيَّاهُ لَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ عَلَى الْأَمْوَالِ،

وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا وَيَقْتُلَ مَنْ يُقَاتِلُهُ عَلَيْهِ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .

(كِتَابُ السِّيَرِ)

أَوْرَدَ الْجِهَادَ عَقِيبِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَاسَبَهَا بِوَجْهَيْنِ بِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا وَمِنْ مَضْمُونِ هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ إخْلَاءُ الْعَالَمِ مِنْ الْفَسَادِ، وَبِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا حَسُنَ لِحُسْنِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ، وَهُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَأَدَّى بِفِعْلِ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ الْقِتَالُ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ عَنْهَا لِوَجْهَيْنِ: كَوْنُ الْفَسَادِ الْمَطْلُوبِ الْإِخْلَاءُ عَنْهُ بِالْجِهَادِ أَعْظَمَ كُلِّ فَسَادٍ وَأَقْبَحَهُ، وَالْعَادَةُ فِي التَّعَالِيمِ الشُّرُوعُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَكَوْنُهُ مُعَامَلَةً مَعَ الْكُفَّارِ، وَالْحُدُودُ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْدِيمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ لَهُ مُنَاسَبَةً خَاصَّةً بِالْعِبَادَاتِ، فَلِذَا أَوْرَدَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَقِيبَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ (وَالسِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ)

ص: 434

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَهِيَ فِعْلَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مِنْ السَّيْرِ فَيَكُونُ لِبَيَانِ هَيْئَةِ السَّيْرِ وَحَالَتُهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَةً لِلْهَيْئَةِ كَجِلْسَةٍ وَخِمْرَةٍ، وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ كَذَلِكَ فِي السَّيْرِ الْمَعْنَوِيِّ حَيْثُ قَالُوا فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَارَ فِينَا بِسِيرَةِ الْعُمْرَيْنِ، لَكِنْ غَلَبَ فِي لِسَانِ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى الطَّرَائِقِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي غَزْوِ الْكُفَّارِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ كَوْنَهَا تَسْتَلْزِمُ السَّيْرَ وَقَطْعَ الْمَسَافَةِ. وَقَدْ يُقَالُ كِتَابُ الْجِهَادِ، وَهُوَ أَيْضًا أَعَمُّ غَلَبَ فِي عُرْفِهِمْ عَلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ دَعَوْتُهُمْ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَقِتَالُهُمْ إنْ لَمْ يَقْبَلُوا، وَفِي غَيْرِ كُتُبِ الْفِقْهِ يُقَالُ: كِتَابُ الْمَغَازِي، وَهُوَ أَيْضًا أَعَمُّ، جَمْعُ مَغْزَاةٍ مَصْدَرًا سَمَاعِيًّا لِغَزَا دَالًّا عَلَى الْوَحْدَةِ، وَالْقِيَاسِيُّ غَزْوٌ وَغَزْوَةٌ لِلْوَحْدَةِ كَضَرْبَةٍ وَضَرْبٍ وَهُوَ قَصْدُ الْعَدُوِّ لِلْقِتَالِ خُصَّ فِي عُرْفِهِمْ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ.

هَذَا وَفَضْلُ الْجِهَادِ عَظِيمٌ، وَكَيْفَ لَا وَحَاصِلُهُ بَذْلُ أَعَزِّ الْمَحْبُوبَاتِ وَإِدْخَالِ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَرُّبًا بِذَلِكَ إلَيْهِ سبحانه وتعالى، وَأَشَقُّ مِنْهُ قَصْرُ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ عَلَى الدَّوَامِ وَمُجَانَبَةِ أَهَوِيَتِهَا، وَلِذَا «قَالَ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ رَجَعَ مِنْ مَغْزَاةٍ رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَخَّرَهُ فِي الْفَضِيلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا فِي حَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهُ أَفْضَلَ بَعْدَ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ صُورَةً مُعَارِضَةً لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ كُلٍّ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِ السَّائِلِ، فَإِذَا كَانَ السَّائِلُ يَلِيقُ بِهِ الْجِهَادُ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ تَهْيِئَتِهِ لَهُ وَاسْتِعْدَادِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ كَانَ الْجِهَادُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْجَلَادَةِ وَالْغَنَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا وَتِلْكَ هِيَ الْفَرَائِضُ، وَفِي هَذَا لَا يُتَرَدَّدُ فِي أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ وَأَخْذَ النَّفْسِ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ فَرْضُ عَيْنٍ وَتَتَكَرَّرُ وَالْجِهَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ افْتِرَاضَ الْجِهَادِ لَيْسَ إلَّا لِلْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَقْصُودًا وَحَسَنًا لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَفِيهِ طُولٌ إلَى أَنْ قَالَ «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحَبَ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى بِهِ دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَإِذْ لَا شَكَّ فِي هَذَا عِنْدَنَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلٌّ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مُرَادَةً بِلَفْظِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ يُرَجَّحُ بِزِيَادَةِ فِقْهِ الرَّاوِي وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَبِمَا عَضَّدَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.

وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ فِيهِ أَصْلًا، فَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ جَهْلُ الْجِهَادِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهُوَ يَصْدُقُ إذَا كَانَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَهِيَ قَبْلَهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَلَا مُعَارَضَةَ إلَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى الْمَقْصُودِ.

وَمِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ مَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مُقَامُ الرَّجُلِ فِي الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ الرَّجُلِ سِتِّينَ سَنَةً» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَعْدِلُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمِثْلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ عَنْ صَلَاتِهِ وَلَا صِيَامِهِ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»

ص: 435

قَالَ (الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيمَانًا بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرَيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَمِنْ تَوَابِعِ الْجِهَادِ الرِّبَاطُ، وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي مَكَان يُتَوَقَّعُ هُجُومُ الْعَدُوِّ فِيهِ لِقَصْدِ دَفْعٍ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهِ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ رضي الله عنه: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ فِيهِ أَجْرَى عَلَيْهِ عَمَلَهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ «وَبُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَهِيدًا» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ثِقَاتٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَمِنَ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ» وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنْ الْفَزَعِ» وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إنَّ صَلَاةَ الْمُرَابِطِ تَعْدِلُ خَمْسَمِائَةِ صَلَاةٍ، وَنَفَقَتُهُ الدِّينَارَ، وَالدِّرْهَمُ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِمِائَةِ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِهِ» هَذَا، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَاطُ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ مَكَان فَفِي النَّوَازِلِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إسْلَامٌ لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَوْ كَانَ رِبَاطًا فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مُرَابِطُونَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا أَغَارَ الْعَدُوُّ عَلَى مَوْضِعٍ مَرَّةً يَكُونُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ رِبَاطًا إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَإِذَا أَغَارُوا مَرَّتَيْنِ يَكُونُ رِبَاطًا إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِذَا أَغَارُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَكُونُ رِبَاطًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى: وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِ مَحَلِّ الرِّبَاطِ مَا وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ ذُكِرَ فِي حَدِيثٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تبارك وتعالى مُتَطَوِّعًا لَا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنِهِ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا}» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى. وَفِيهِ لِينٌ مُحْتَمَلٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَلَيْسَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ فِيهَا سِوَى الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلْنَخْتِمْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ «وَعَبْدُ الْقَطِيفَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغَبَّرَةٍ قَدَمَاهُ، إنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ»

(قَوْلُهُ الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ

ص: 436

إذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ) أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

إذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ) وَهَذَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ تَفْسِيرِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ (أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقَوْله تَعَالَى {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وقَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وقَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وقَوْله تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالتَّخْصِيصُ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ لَفْظِيٍّ مُقَارِنٍ لِلْمَعْنَى، وَبِهَذِهِ يَنْتَفِي مَا نُقِلَ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ لِلنَّدْبِ، وَكَذَا {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} كَقَوْلِهِ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.

وَيَجِبُ حَمْلُهُ إنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ. فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَثْبُتُ الْفَرْضُ وَهِيَ عُمُومَاتٌ مَخْصُوصَةٌ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ، وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْفَرْضُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُخْرِجَ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ مَخْصُوصٌ بِالْعَقْلِ عَلَى مَا عُرِفَ وَبِالتَّخْصِيصِ بِهِ لَا يَصِيرُ الْعَامُّ ظَنِّيًّا، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَنَفْسُ النَّصِّ ابْتِدَاءُ تَعَلُّقٍ بِغَيْرِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الْمَخْصُوصِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَّ مَقْرُونٌ بِمَا يُقَيِّدُهُ بِغَيْرِهِمْ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ يُحَارَبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فَأَفَادَ أَنَّ قِتَالنَا الْمَأْمُورَ بِهِ جَزَاءٌ لِقِتَالِهِمْ وَمُسَبَّبٌ عَنْهُ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَيْ لَا تَكُونَ مِنْهُمْ فِتْنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَفْتِنُونَ مَنْ أَسْلَمَ بِالتَّعْذِيبِ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي السِّيَرِ، فَأَمَرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْقِتَالِ لِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ فَلَا يَقْدِرُونَ

ص: 437

وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَرَادَ بِهِ فَرْضًا بَاقِيًا، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ إذْ هُوَ إفْسَادٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا فُرِضَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ الْعِبَادِ،

عَلَى تَفْتِينِ الْمُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ ابْتِدَاءً بِقِتَالِ مَنْ بِحَيْثُ يُحَارِبُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وسلم فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ لِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ حِينَ رَأَى الْمَقْتُولَةَ «مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ، وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الِافْتِرَاضَ.

وَقَوْلُ صَاحِبِ الْإِيضَاحِ إذَا تَأَيَّدَ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْمُفِيدُ حِينَئِذٍ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ، وَجَاءَ الْخَبَرُ عَلَى وَفْقِهِمَا، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثٍ «وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ، وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ» فِيهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، وَعَنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: هُوَ فِي مَعْنَى الْمَجْهُولِ. وَلَا شَكَّ

ص: 438

فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَرَدِّ السَّلَامِ (فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ النَّاسِ بِتَرْكِهِ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْكُلِّ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِغَالِ الْكُلِّ بِهِ قَطْعَ مَادَّةِ الْجِهَادِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيَجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ (إلَّا أَنْ)(يَكُونُ النَّفِيرُ عَامًّا) فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ

أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْجِهَادَ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ يُنْسَخْ، فَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَا قَائِلَ أَنَّ بِقِتَالِ آخِرِ الْأُمَّةِ الدَّجَّالَ يَنْتَهِي وُجُوبُ الْجِهَادِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَيْسَ مُجَرَّدًا ابْتِلَاءَ الْمُكَلَّفِينَ بَلْ إعْزَازُ الدِّينِ، وَدَفْعُ شَرِّ الْكُفَّارِ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ بِالْبَعْضِ سَقَطَ) هُوَ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ (كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ) الْمَقْصُودُ مِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ.

وَذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ إلَى أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ تَمَسُّكًا بِعَيْنِ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ؛ إذْ بِمِثْلِهَا يَثْبُتُ فُرُوضُ الْأَعْيَانِ. قُلْنَا: نَعَمْ لَوْلَا قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} الْآيَةَ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَيْنًا لَاشْتَغَلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِهِ فَيَتَعَطَّلُ الْمَعَاشُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى بِالزِّرَاعَةِ وَالْجَلْبِ بِالتِّجَارَةِ وَيَسْتَلْزِمُ (قَطْعُ مَادَّةِ الْجِهَادِ مِنْ الْكُرَاعِ) يَعْنِي الْخَيْلَ (وَالسِّلَاحِ) وَالْأَقْوَاتِ فَيُؤَدِّي إيجَابُهُ عَلَى الْكُلِّ إلَى تَرْكِهِ لِلْعَجْزِ (فَلَزِمَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ مَا ذُكِرَ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا لَزِمَ فِي كَوْنِهِ فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَخْرُجَ الْكُلُّ مِنْ الْأَمْصَارِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمًا بَلْ يَكُونُ كَالْحَجِّ عَلَى الْكُلِّ، وَلَا يَخْرُجُ الْكُلُّ بَلْ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ أَنْ يَخْرُجَ فَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ وَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَهَكَذَا، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْمَعَاشِ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ نَصُّ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} ثُمَّ هَذَا (إذَا لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا، فَإِنْ كَانَ) بِأَنْ هَجَمُوا عَلَى بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ (فَيَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ) سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْفِرُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا فَيَجِبُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ النَّفْرُ، وَكَذَا مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ بِأَهْلِهَا كِفَايَةٌ وَكَذَا مَنْ يَقْرُبُ مِمَّنْ يَقْرُبُ إنْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْ يَقْرُبُ كِفَايَةٌ أَوْ تَكَاسَلُوا أَوْ عَصَوْا، وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَجِبَ عَلَى جَمِيعِ

ص: 439

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} الْآيَةَ. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْجِهَادُ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَيْهِمْ، فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ

أَهْلِ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا، كَجِهَازِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ يَجِبُ أَوَّلًا عَلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا عَجْزًا وَجَبَ عَلَى مَنْ بِبَلَدِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هَكَذَا ذَكَرُوا، وَكَأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا دَامَ الْحَرْبُ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ الْأَبْعَدُونَ وَبَلَغَهُمْ الْخَبَرُ وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ.

بِخِلَافِ إنْفَاذِ الْأَسِيرِ وُجُوبُهُ عَلَى الْكُلِّ مُتَّجَهٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِمَّنْ عَلِمَ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَأْثَمَ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَقُعُودُهُ لِعَدَمِ خُرُوجِ النَّاسِ وَتَكَاسُلِهِمْ أَوْ قُعُودِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْعِهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ رُكْبَانًا وَمُشَاةً، وَقِيلَ شَبَابًا وَشُيُوخًا، وَقِيلَ عُزَّابًا وَمُتَزَوِّجِينَ، وَقِيلَ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالُ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ: أَيْ انْفِرُوا مَعَ كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَحَاصِلُهَا أَنَّهُ لَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فَأَفَادَ الْعَيْنِيَّةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ عَلَى كُلِّ مَنْ ذَكَرَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَا يُفِيدُ تَعْيِينُهَا الْعَيْنِيَّةَ، بَلْ الْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَاتِ كُلُّهَا لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تُعْرَفُ الْكِفَايَةُ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا الْعَيْنِيَّةُ فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ فَبِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مِنْ إغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالْمَظْلُومِ، وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ (الْجِهَادُ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِمْ) قَالَ (فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ) يَعْنِي قَوْلَهُ: وَاجِبٌ وَأَنَّهُمْ فِي سِعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ (إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْكِفَايَةِ)

ص: 440

وَآخِرُهُ إلَى النَّفِيرِ الْعَامِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِإِقَامَةِ الْكُلِّ فَيُفْتَرَضُ عَلَى الْكُلِّ (وَقِتَالُ الْكُفَّارِ وَاجِبٌ) وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا لِلْعُمُومَاتِ

لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادُ تَرْكُ الْكُلِّ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ تَرْكُ الْبَعْضِ (وَآخِرُهُ) وَهُوَ قَوْلُهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِمْ (يُفِيدُ الْعَيْنِيَّةَ) إذْ صَارَ الْحَاصِلُ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ يَسَعُ الْبَعْضُ تُرْكَهُ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ فَلَا يَسَعُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ فَيَخْرُجُ الْمَرِيضُ الْمُدَنَّفُ.

وَأَمَّا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ دُونَ الدَّفْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ لِتَكْثِيرِ السَّوَادِ فَإِنَّ فِيهِ إرْهَابًا. وَنَفَرَ الْقَوْمُ نَفْرًا وَنَفِيرًا إذَا خَرَجُوا (قَوْلُهُ وَقِتَالُ الْكُفَّارِ) الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا وَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَمْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ (وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُونَا) لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لَهُ لَمْ تُقَيِّدْ الْوُجُوبَ بِبَدَاءَتِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (لِلْعُمُومَاتِ)

ص: 441

(وَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى صَبِيٍّ)؛ لِأَنَّ الصِّبَا مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ (وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ) التَّقَدُّمُ حَقُّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ (وَلَا أَعْمَى وَلَا مُقْعَدٍ وَلَا أَقْطَعَ لِعَجْزِهِمْ، فَإِنْ هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الدَّفْعُ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا وَالْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى) لِأَنَّهُ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ وَرِقُ النِّكَاحِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ النَّفِيرِ؛ لِأَنَّ بِغَيْرِهِمَا مَقْنَعًا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى

لَا عُمُومُ الْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فَقَطْ فَالْمُرَادُ إطْلَاقُ الْعُمُومَاتِ فِي بَدَاءَتِهِمْ وَعَدَمِهَا خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنْ الثَّوْرِيِّ. وَالزَّمَانُ الْخَاصُّ كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا خِلَافًا لِعَطَاءٍ، وَلَقَدْ اُسْتُبْعِدَ مَا عَنْ الثَّوْرِيِّ وَتَمَسُّكُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ نَسْخُهُ.

وَصَرِيحُ قَوْلِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ يُوجِبُ أَنْ نَبْدَأَهُمْ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَحَاصَرَ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ إلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ أَوْ إلَى شَهْرٍ.

وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى نَسْخِ الْحُرْمَةِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَهُوَ بِنَاءً عَلَى التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ حَيْثُ فِي الزَّمَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَثُرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى صَبِيٍّ إلَخْ) الْوَجْهُ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعِ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ» الْحَدِيثَ (وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ لِتَقَدُّمِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ) بِإِذْنِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى حَقِّهِ.

وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ حَقٌّ مُتَعَيَّنٌ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ وَتِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِمَا الْجِهَادُ لَزِمَ إطْلَاقُ فِعْلِهِ لَهُمَا، وَإِطْلَاقُهُ يَسْتَلْزِمُ إطْلَاقَ تَرْكِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، فَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِمْ لَزِمَهُ إبْطَالُ حَقٍّ جَعَلَهُ اللَّهُ مُتَعَيِّنًا لِحَقٍّ لَمْ يَجْعَلْهُ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّازِمُ بَاطِلٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُونَ مَخْصُوصِينَ مِنْ الْعُمُومَاتِ لِدَلِيلٍ مُقَارِنٍ وَهُوَ الْعَقْلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَارَ فَرْضُ عَيْنٍ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ.

نَعَمْ لَوْ أَمَرَ السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ بِالْقِتَالِ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَلَا نَقُولُ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ حَتَّى إذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي غَيْرِ النَّفِيرِ الْعَامِّ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ طَاعَتَهُمَا الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمَا فِي غَيْرِ مَا فِيهِ الْمُخَاطَرَةُ بِالرُّوحِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِخِطَابِ الرَّبِّ جل جلاله بِذَلِكَ، وَالْفَرْضُ انْتِفَاؤُهُ عَنْهُمْ قَبْلَ النَّفِيرِ الْعَامِّ، وَعَنْ هَذَا حَرُمَ الْخُرُوجُ إلَى الْجِهَادِ وَأَحَدُ الْأَبَوَيْنِ كَارِهٌ لِأَنَّ طَاعَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ وَالْجِهَادُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا مَعَ أَنَّ فِي خُصُوصِهِ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاك؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» وَقَدَّمْنَا مِنْ صَحِيحِهِ آنِفًا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ

ص: 442

إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ

(وَيُكْرَهُ الْجُعَلُ مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْأَجْرَ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَوِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى بِإِلْحَاقِ الْأَدْنَى، يُؤَيِّدُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَخَذَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ» وَعُمَرُ رضي الله عنه كَانَ يُغْزِي الْأَعْزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ.

وَقَدَّمَ فِيهِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: جِئْت أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْت أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» وَفِيهِ عَنْ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْيَمَنِ، فَقَالَ: هَلْ لَك أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟ قَالَ: أَبَوَايَ، قَالَ: أَذِنَا لَك، قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا» وَأَمَّا الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعُ فَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وَالْمُقْعَدُ الْأَعْرَجُ، قَالَهُ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ.

(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ الْجَعْلُ) يُرِيدُ بِالْجَعْلِ هُنَا أَنْ يُكَلِّفَ الْإِمَامُ النَّاسَ بِأَنْ يُقَوِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالزَّادِ (مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ) وَهُوَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ، وَأَمَّا الْمَأْخُوذُ بِقِتَالٍ فَيُسَمَّى غَنِيمَةً (لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ) وَهَذَا وَجْهٌ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْإِمَامِ بِخُصُوصِهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجَعْلَ يُشْبِهُ الْأُجْرَةَ، وَحَقِيقَةُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ حَرَامٌ فَمَا يُشْبِهُهَا مَكْرُوهٌ يُوجِبُهَا عَلَى الْغَازِيِّ وَعَلَى الْإِمَامِ كَرَاهَةٌ تَسَبُّبِهِ فِي الْمَكْرُوهِ، وَحَقِيقَةُ الْجَعْلِ مَا يُجْعَلُ لِلْإِنْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي مَالِ الْغَازِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِعِبَادَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ الْمَالِ وَالْبَدَنِ فَتَكُونُ كَالْحَجِّ، وَأَنَّ وُجُوبَ تَجْهِيزِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْإِمَامِ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْجِهَازِ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِمْ وَعِيَالِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُعْطِيهِمْ اسْتِحْقَاقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ كَافٍ لِلْجِهَازِ مَعَ حَاجَةِ الْمُقَامِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَيْءٌ لَا يُكْرَهُ أَنْ يُكَلِّفَ الْإِمَامُ النَّاسَ ذَلِكَ عَلَى نِسْبَةِ عَدْلٍ (لِأَنَّ بِهِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى) وَهُوَ تَعَدِّي شَرِّ الْكُفَّارِ إلَى الْمُسْلِمِينَ (بِإِلْحَاقِ) الضَّرَرِ (الْأَدْنَى) وَاسْتَأْنَسَ الْمُصَنِّفُ لِهَذَا «بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ» (وَبِأَنَّ عُمَرَ كَانَ يُغْزِي الْأَعْزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ) أَمَّا «قِصَّةُ صَفْوَانَ فَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَدْرَاعًا عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى حُنَيْنٍ. فَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْعٍ، وَكَانَ صَفْوَانُ إذْ ذَاكَ

ص: 443

(بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ)

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دَارَ الْحَرْبِ فَحَاصَرُوا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام

عَلَى شِرْكِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَيِّرَهُ شَهْرَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سَيَّرْتُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَرَضَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى حُنَيْنٍ فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَغَصْبًا؟ قَالَ: لَا بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً، فَبَعَثَهَا ثُمَّ اسْتَحْمَلَهُ إيَّاهَا فَحَمَلَهَا عَلَى مِائَتَيْ بَعِيرٍ».

وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ قَالَ: «فَضَاعَ بَعْضُهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَضْمَنَهَا، فَقَالَ: لَا أَنَا الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ أَرْغَبُ» . وَهَذَا لَا يُطَابِقُ نَفْسَ الْمُدَّعِي وَهُوَ تَكْلِيفُ الْإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يُعِينُوا الْخَارِجِينَ، وَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ إلَّا بِالِالْتِزَامِ، فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ فِي الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ لَا يَأْخُذُهُ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

نَعَمْ فِيهِ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ يَتَوَسَّلُ إلَى الْجِهَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ بِالِاسْتِعَارَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ لَهُمْ.

وَأَمَّا مَا عَنْ عُمَرَ فَظَاهِرٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى يُغْزِيهِ عَنْهُ لَيْسَ إلَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ الْجِهَازَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ غَازٍ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ يُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ فَصَرِيحٌ فِيهِ.

وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَغْزِي عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَمْرُ الْفَرَسِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَغْزِي الْعَزَبَ وَيَأْخُذُ فَرَسَ الْمُقِيمِ فَيُعْطِيهِ الْمُسَافِرَ.

(بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ)

لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقِتَالَ لَازِمٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَفَعَلَهُ عَلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ شَرْعًا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ فَشَرَعَ فِيهِ فَقَالَ:(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دَارَ الْحَرْبِ) يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَطْفَ جُمْلَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ وَاوَ اسْتِئْنَافٍ (فَحَاصَرُوا مَدِينَةً) وَهِيَ الْبَلْدَةُ الْكَبِيرَةُ فَعَيْلَةٌ مِنْ مَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ (أَوْ حِصْنًا) وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُحْصَنُ الَّذِي لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَا فِي جَوْفِهِ (دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ) فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ

ص: 444

مَا قَاتَلَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» قَالَ (فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ.

- صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ. وَأَلْفَاظُ بَعْضِهِمْ تَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ وَتَخْتَلِفُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اُغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا، وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ. ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَعْلِمْهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَك وَذِمَّةَ أَصْحَابِك فَإِنَّكُمْ إنْ تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَإِذَا أَهْلُ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَصَبْتَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا، ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ بَعْدُ مَا شِئْتُمْ»

وَفِي الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ كَثْرَةٌ.

وَفِي نَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ شُهْرَةٌ وَإِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا مَا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيِ عِيَالِهِمْ فَرُبَّمَا يُجِيبُونَ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِعْلَامِ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَلَوْ قَاتَلُوهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ أَثِمُوا، وَلَكِنْ لَا غَرَامَةَ بِمَا أَتْلَفُوا مِنْ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ مِنْ دِيَةٍ وَلَا ضَمَانَ لِأَنَّ مُجَرَّدَ حُرْمَةِ الْقَتْلِ لَا تُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَتَلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ.

وَذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ.

وَفِي الْمُحِيطِ: بُلُوغُ الدَّعْوَةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِأَنْ اسْتَفَاضَ شَرْقًا وَغَرْبًا أَنَّهُمْ إلَى مَاذَا يَدْعُونَ وَعَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَأُقِيمَ ظُهُورُهَا مَقَامَهَا انْتَهَى.

وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي بِلَادِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ فَيَجِبُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهِ ظَنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَإِذَا كَانَتْ بَلَغَتْهُمْ لَا تَجِبُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ.

أَمَّا عَدَمُ الْوُجُوبِ فَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَوْفٍ: كَتَبْت إلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنْ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ فَكَتَبَ إلَيَّ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ «قَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ» .

وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَهِدَ إلَيْهِ فَقَالَ: أَغِرْ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا وَحَرِّقْ» وَالْغَارَّةُ لَا يَكُونُ مَعَ دَعْوَةٍ. وَأُبْنَى بِوَزْنِ حُبْلَى مَوْضِعٌ مِنْ فَلَسْطِينَ بَيْنَ عَسْقَلَانَ وَالرَّمْلَةِ، وَيُقَالُ يُبْنَى بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ آخِرَ الْحُرُوفِ، وَقِيلَ اسْمُ قَبِيلَةٍ. وَأَمَّا

ص: 445

(وَإِنْ امْتَنَعُوا دَعَوْهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ) بِهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَمَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لَا فَائِدَةَ فِي دُعَائِهِمْ إلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (فَإِنْ بَذَلُوهَا فَلَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ الْقَبُولُ وَكَذَا الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِيهِ فِي الْقُرْآنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يَدْعُوهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي وَصِيَّةِ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ «فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَلِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ لَا عَلَى سَلْبِ الْأَمْوَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ فَلَعَلَّهُمْ يُجِيبُونَ فَنُكْفَى مُؤْنَةُ الْقِتَالِ، وَلَوْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ أَثِمَ لِلنَّهْيِ، وَلَا غَرَامَةَ لِعَدَمِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الدِّينُ أَوْ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ فَصَارَ كَقَتْلِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ) مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ» . «وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ رضي الله عنه أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقَ» وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ بِدَعْوَةٍ.

الِاسْتِحْبَابُ فَلِأَنَّ التَّكْرَارَ قَدْ يُجْدِي الْمَقْصُودَ فَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى، وَقُيِّدَ هَذَا الِاسْتِحْبَابُ بِأَنْ لَا يَتَضَمَّنَ ضَرَرًا بِأَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَسْتَعِدُّونَ أَوْ يَحْتَالُونَ أَوْ يَتَحَصَّنُونَ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ كَالْعِلْمِ بَلْ هُوَ الْمُرَادُ، وَإِذًا فَحَقِيقَتُهُ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَجَابَ الْمَدْعُوُّ أَوْ غَيْرُهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا إشْكَالَ، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ جَعَلَهُ غَايَةَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ حَيْثُ قَالَ «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَإِنْ امْتَنَعُوا دَعَوْهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ بِهَذَا أَمَرَ عليه الصلاة والسلام أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ (وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ) قَوْله تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ عَلَى مَا سَيَتَّضِحُ (فَإِنْ بَذَلُوهَا) أَيْ قَبِلُوهَا (وَكَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ) بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا.

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، بَلْ هُوَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ،

ص: 446

قَالَ (فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَحَارَبُوهُمْ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ «فَإِنَّ أَبَوْا ذَلِكَ فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ أَبَوْهَا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ» وَلِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ النَّاصِرُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْمُدَمِّرُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ.

قَالَ (وَنَصَبُوا عَلَيْهِمْ الْمَجَانِيقَ) كَمَا نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الطَّائِفِ (وَحَرَّقُوهُمْ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَحْرَقَ الْبُوَيْرَةَ.

قَالَ (وَأَرْسَلُوا عَلَيْهِمْ الْمَاءَ وَقَطَّعُوا أَشْجَارَهُمْ وَأَفْسَدُوا زُرُوعَهُمْ) لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلْحَاقَ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ بِهِمْ وَكَسْرَةَ شَوْكَتِهِمْ وَتَفْرِيقَ جَمْعِهِمْ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا، (وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ) لِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَتْلُ الْأَسِيرِ وَالتَّاجِرِ ضَرَرٌ خَاصٌّ،

وَمَعْنَى حَدِيثِ عَلِيٍّ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أَنْبَأَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَسَدِيِّ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ مَنْ كَانَتْ لَهُ ذِمَّتُنَا فَدَمُهُ كَدَمِنَا وَدِينُهُ كَدِينِنَا وَضَعَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَبَا الْجَنُوبِ

(قَوْلُهُ فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ اسْتَعَانُوا عَلَيْهِمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَحَارَبُوهُمْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ «فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ») وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَالْمُدَمِّرُ الْمُهْلِكُ (فَيُسْتَعَانُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَنَصَبُوا عَلَيْهِمْ الْمَجَانِيقَ كَمَا نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ) عَلَى مَا فِي التِّرْمِذِيِّ مُفَصَّلًا فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ رَجُلٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ، قُلْت: لِوَكِيعٍ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ عُمَرُ بْنُ هَارُونَ» .

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَزَادَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِي أَشَارَ بِهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَحَرَّقَهُمْ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «أَحْرَقَ الْبُوَيْرَةَ» عَلَى مَا رَوَى السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«حَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَّعَهُ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ» : يَعْنِي أَنَّ الْبُوَيْرَةَ اسْمٌ لِنَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ

وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ

حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ

وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَبْتُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَكَسْرُ شَوْكَتِهِمْ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ ذَلِكَ فَيَفْعَلُونَ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ التَّحْرِيقِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ وَإِفْسَادِ الزَّرْعِ، هَذَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ وَأَنَّ الْفَتْحَ بَادٍ كُرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إفْسَادٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ وَمَا أُبِيحَ إلَّا لَهَا (قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ) بَلْ وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُمْ إنْ كَفُّوا عَنْ رَمْيِهِمْ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِرَمْيِهِمْ إلَّا الْكُفَّارُ.

فَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ

ص: 447

وَلِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو حِصْنٌ عَنْ مُسْلِمٍ، فَلَوْ امْتَنَعَ بِاعْتِبَارِهِ لَانْسَدَّ بَابُهُ (وَإِنَّ تَتَرَّسُوا بِصِبْيَانِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْأُسَارَى لَمْ يَكُفُّوا عَنْ رَمْيِهِمْ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَيَقْصِدُونَ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارَ) لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فِعْلًا فَلَقَدْ أُمْكِنَ قَصْدًا، وَالطَّاعَةُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَمَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ وَالْغَرَامَاتُ لَا تُقْرَنُ بِالْفُرُوضِ.

رَمْيُهُمْ فِي صُورَةِ التَّتَرُّسِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْكَفِّ عَنْ رَمْيِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ انْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، فَإِنْ رَمَوْا وَأُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي الدِّيَةِ قَوْلَانِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إنْ قَصْدَهُ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ عَلِمَهُ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ» وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِعَيْنِهِ بَلْ رَمَى إلَى الصَّفِّ فَأُصِيبَ فَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَتَرْكُ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَلْإِمَامَ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْأُسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ تَرْكُهُ لِعَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَفْسَدَةَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ مَصْلَحَةِ قَتْلِ الْكَافِرِ.

وَجْهُ الْإِطْلَاقِ أَمْرَانِ

ص: 448

بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ مَخَافَةَ الضَّمَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسِهِ.

أَمَّا الْجِهَادُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ النَّفْسِ فَيُمْتَنَعُ حِذَارَ الضَّمَانِ

الْأَوَّلُ أَنَّا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ مُطْلَقًا، وَلَوْ اُعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى انْسَدَّ بَابُهُ، لِأَنَّ حِصْنًا مَا أَوْ مَدِينَةً قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ أَسْرِ مُسْلِمٍ فَلَزِمَ مِنْ افْتِرَاضِ الْقِتَالِ مَعَ الْوَاقِعِ مِنْ عَدَمِ خُلُوِّ مَدِينَةٍ أَوْ حِصْنٍ عَادَةً إهْدَارُ اعْتِبَارِ وُجُودِهِ فِيهِ، وَصَارَ كَرَمْيِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ أَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إجْمَاعًا مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِيهِمْ وَاحْتِمَالُ قَتْلِهِ وَهُوَ الْجَامِعُ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ إلَّا الْكَافِرَ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُسْلِمِ بِالْقَتْلِ حَرَامٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَفْتَرِضْ وَهُوَ مَا إذَا فُتِحَتْ الْبَلْدَةُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا فَتْحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِيهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَا يَحِلُّ قَتْلُ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ ذَلِكَ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ أَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْ عَرَضِ النَّاسِ حَلَّ إذَنْ قَتْلُ الْبَاقِي لِجَوَازِ كَوْنِ الْمُخْرَجِ هُوَ ذَاكَ فَصَارَ فِي كَوْنِ الْمُسْلِمِ فِي الْبَاقِينَ شَكٌّ، بِخِلَافِ الْحَالَةِ الْأُولَى فَإِنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ فِيهِمْ مَعْلُومٌ بِالْفَرْضِ فَوَقَعَ الْفَرْقُ الثَّانِي أَنَّ فِيهِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ بِإِثْبَاتِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ وَهُوَ وَاجِبٌ، ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ أَحَالَ وَجْهَ مَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ عَلَى وَجْهَيْ مَسْأَلَةِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ أَسِيرٌ مُسْلِمٌ حِينَئِذٍ أَوْ تَاجِرٌ.

وَقَدْ يُقَالُ إنْ سَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَهْلُ حِصْنٍ عَنْ تَاجِرٍ أَوْ أَسِيرٍ، فَإِطْلَاقُ افْتِرَاضِ الْقِتَالِ إهْدَارٌ لِاعْتِبَارِهِ مَانِعًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَهْلُ حِصْنٍ أَنْ يَتَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ إطْلَاقُ الِافْتِرَاضِ إهْدَارًا لِحُرْمَةِ الرَّمْيِ، فَإِنَّ الْمُشَاهَدَةَ نَفَتْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقًا إلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ غَالِبًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِانْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ لَوْ لَمْ يَرْمِ وَحَلَّ الرَّمْيُ عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ قِتَالٍ مَعَ الْكُفَّارِ هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ: أَيْ مُجْتَمَعِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الظَّفَرُ تَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ وَهُوَ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ، وَبِتَقْدِيرِهِ هُوَ ضَرَرٌ خَفِيفٌ أَشَدُّ مِنْهُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ فِي غَالِبِ الظَّنِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الضَّرَرُ الْعَامُّ مُقَدَّمًا عَلَى هَذَا إذَا كَانَ فِيهِ هَزِيمَتُهُمْ وَنَحْوُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَغْرَمْ الدِّيَةَ إذَا أُصِيبَ مُسْلِمٌ مَعَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ» أَيْ مُهْدَرٌ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِمْ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْفُرُوضَ لَا تُقْرَنُ بِالْغَرَامَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا لَوْ مَاتَ مَنْ عَزَّرَهُ الْقَاضِي أَوْ حَدَّهُ أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَإِلَّا امْتَنَعَ عَنْ الْإِقَامَةِ (بِخِلَافِ) الْمُضْطَرِّ (حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ) عَنْ الْأَكْلِ (مَخَافَةَ الضَّمَانِ) لِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ هَلَاكُ نَفْسِهِ وَالضَّمَانُ أَخَفُّ عَلَيْهِ مِنْ هَلَاكِهَا فَلَا تُمْتَنَعُ (أَمَّا الْجِهَادُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ نَفْسِهِ فَيَمْتَنِعُ حِذَارُهُ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا فِي الْمُضْطَرِّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ مَعَ الضَّمَانِ

ص: 449

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ وَالْمَصَاحِفِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا عَسْكَرًا عَظِيمًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ (وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ ذَلِكَ فِي سَرِيَّةً لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا) لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَهُنَّ عَلَى الضَّيَاعِ وَالْفَضِيحَةِ وَتَعْرِيضَ الْمَصَاحِفِ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِهَا مُغَايَظَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ» وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ الْمُصْحَفَ إذَا كَانُوا قَوْمًا يَفُونَ بِالْعَهْدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّعَرُّضِ، وَالْعَجَائِزُ يَخْرُجْنَ فِي الْعَسْكَرِ الْعَظِيمِ لِإِقَامَةِ عَمَلٍ يَلِيقُ بِهِنَّ كَالطَّبْخِ وَالسَّقْيِ وَالْمُدَاوَاةِ، فَأَمَّا الشَّوَابُّ فَمَقَامُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَدْفَعُ لِلْفِتْنَةِ

فَلَمْ يَكُنْ فَرْضًا، فَهُوَ كَالْمُبَاحِ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ افْتِرَاضِ الْجِهَادِ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ

(قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ وَالْمَصَاحِفِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا عَسْكَرًا عَظِيمًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ، وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ ذَلِكَ فِي سَرِيَّةٍ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَهُنَّ عَلَى الضَّيَاعِ وَالْفَضِيحَةِ، وَتَعْرِيضَ الْمَصَاحِفِ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ) مِنْهُمْ لَهَا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ») وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ السِّتَّةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.

وَقَوْلُهُ وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْقُمِّيِّ، وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ عِنْدَ قِلَّةِ الْمَصَاحِفِ كَيْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا يُكْرَهُ. أَمَّا التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّ أَبَا دَاوُد وَابْنَ مَاجَهْ زَادَا بَعْدَ قَوْلِهِ «إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» ، قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ. وَالْحَقُّ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَيَخَافُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «فَإِنِّي أَخَافُ» فَلِذَا حَكَمَ الْقُرْطُبِيُّ وَالنَّوَوِيُّ بِأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَلَّطَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَالِكٌ لَمْ يَسْمَعْهَا فَوَافَقَ تَأْوِيلُهُ أَوْ شَكَّ فِي سَمَاعِهِ إيَّاهَا. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّ السَّرِيَّةِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَأَقَلُّ الْعَسْكَرِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: السَّرِيَّةُ عَدَدٌ قَلِيلٌ يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ انْتَهَى.

وَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَأْنِهِمْ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدْ لَا يَكْمُنُونَ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السُّرَى، وَهُوَ السَّيْرُ لَيْلًا فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُؤْمَنُ عَلَيْهِ، وَيُكْرَهُ إخْرَاجُهُ فِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْعَسْكَرِ الْعَظِيمِ إلَى السَّرِيَّةِ طَفْرَةٌ كَبِيرَةٌ لَيْسَتْ مُنَاسِبَةً؛ وَاَلَّذِي يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فِي تَوَغُّلِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ إلَّا الْعَسْكَرُ الْعَظِيمُ. وَيَنْبَغِي كَوْنُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ» وَهُوَ أَكْثَرُ مَا رَوَى فِيهِ هَذَا بِاعْتِبَارِهِ أَحْوَطُ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِنَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ إطْلَاقُ الْمَنْعِ أَخْذًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ

ص: 450

وَلَا يُبَاشِرْنَ الْقِتَالَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا عِنْدَ ضَرُورَةٍ، وَلَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهُنَّ لِلْمُبَاضَعَةِ وَالْخِدْمَةِ، فَإِنْ كَانُوا لَا بُدَّ مُخْرَجِينَ فَبِالْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ

(وَلَا تُقَاتِلُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَلَا الْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (إلَّا أَنْ يَهْجُمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ لِلضَّرُورَةِ)

وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْدِرُوا وَلَا يَغُلُّوا وَلَا يُمَثِّلُوا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَغْلُو وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا» وَالْغُلُولُ: السَّرِقَةُ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَالْغَدْرُ: الْخِيَانَةُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ،

الْجَيْشِ وَالسَّرَايَا عَمَلًا بِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ نَيْلُ الْعَدُوِّ لَهُ فِي الْجَيْشِ الْعَظِيمِ نَادِرًا فَنِسْيَانُهُ وَسُقُوطُهُ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ لَمَّا كَانَتْ مَخَافَةَ نَيْلِهِ فَيُنَاطُ بِمَا هُوَ مَظِنَّتُهُ فَيَخْرُجُ الْجَيْشُ الْعَظِيمُ، وَالنِّسْيَانُ وَالسُّقُوطُ نَادِرٌ مَعَ الِاهْتِمَامِ وَالتَّشَمُّرِ لِلْحِفْظِ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَمَلَهُ لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ يَخَافُ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ فَيَأْخُذُهُ لِتَعَاهُدِهِ فَيُبْعَدُ ذَلِكَ مِنْهُ وَكُتُبُ الْفِقْهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ مَعْزُوًّا إلَى السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَكُتُبُ الْحَدِيثِ أَوْلَى، ثُمَّ الْأَوْلَى فِي إخْرَاجِ النِّسَاءِ الْعَجَائِزِ لِلطِّبِّ وَالْمُدَاوَاةِ وَالسَّقْيِ دُونَ الشَّوَابِّ، وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى الْمُبَاضَعَةِ فَالْأَوْلَى إخْرَاجُ الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ (وَلَا يُبَاشِرْنَ الْقِتَالَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ) وَقَدْ «قَاتَلَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ وَأَقَرَّهَا عليه الصلاة والسلام حَيْثُ قَالَ لَمَقَامُهَا خَيْرٌ مِنْ مَقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ» يَعْنِي بَعْضَ الْمُنْهَزِمِينَ

(قَوْلُهُ وَلَا تُقَاتِلُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَلَا الْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ تَقَدُّمِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى (إلَّا أَنْ يَهْجُمَ الْعَدُوُّ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ

(قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ) أَيْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَغْدِرُوا أَوْ يَغُلُّوا أَوْ يُمَثِّلُوا، وَالْغُلُولُ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالْغَدْرُ الْخِيَانَةُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَغْلُوا» إلَخْ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَلَا تُمَثِّلُوا» أَيْ الْمُثْلَةُ يُقَالُ مَثَلْت بِالرَّجُلِ بِوَزْنِ ضَرَبْت أَمْثُلُ بِهِ بِوَزْنِ أَنْصُرُ مَثْلًا وَمُثْلَةً إذَا سَوَّدْت وَجْهَهُ أَوْ قَطَعْت أَنْفَهُ وَنَحْوَهُ.

ذَكَرَهُ فِي الْفَائِقِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ هُوَ الْمَنْقُولُ) وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَعِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ مَنْسُوخَةٌ كَمَا ذَكَرَ قَتَادَةُ فِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ بَعْدَ رِوَايَةِ حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ قَالَ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبَيْهَقِيِّ قَالَ أَنَسٌ: «مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ خُطْبَةً إلَّا نَهَى فِيهَا عَنْ الْمُثْلَةِ» . وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ فِي سِيرَتِهِ: مِنْ النَّاسِ مَنْ أَبَى ذَلِكَ، إلَى أَنْ قَالَ: وَلَيْسَ فِيهَا يَعْنِي آيَةَ الْحِرَابَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَشْعُرُ بِهِ لَفْظَةٌ إنَّمَا مِنْ الِاقْتِصَارِ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ.

وَأَمَّا مَنْ زَادَ عَلَى الْحِرَابَةِ جِنَايَاتٍ أُخَرَ كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ كَمَا رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي خَبَرِهِمْ " أَنَّهُمْ قَطَعُوا يَدَ الرَّاعِي وَرِجْلَهُ وَغَرَزُوا الشَّوْكَ فِي لِسَانِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ " فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ وَالزِّيَادَةِ فِي عُقُوبَتِهِمْ فَهَذَا لَيْسَ بِمُثْلَةٍ، وَالْمُثْلَةُ مَا كَانَ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ جَزَاءٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «إنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ» وَلَوْ أَنَّ شَخْصًا جَنَى عَلَى قَوْمٍ جِنَايَاتٍ فِي أَعْضَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَاقْتُصَّ مِنْهُ لَمَّا كَانَ التَّشْوِيهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمُثْلَةِ.

وَقَالَ: ذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: يَعْنِي آيَةَ الْجَزَاءِ سَبَبًا آخَرَ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْأَقْوَالُ وَتَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ فَلَا نَسْخَ.

وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُثْلَةَ بِمَنْ مَثَّلَ جَزَاءٌ ثَابِتٌ لَمْ يُنْسَخْ، وَالْمُثْلَةُ بِمَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ لَا عَنْ مُثْلَةٍ لَا تَحِلُّ لَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ

ص: 451

وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ هُوَ الْمَنْقُولُ

(وَلَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا مُقْعَدًا وَلَا أَعْمَى) لِأَنَّ الْمُبِيحَ لِلْقَتْلِ عِنْدَنَا هُوَ الْحِرَابُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا لَا يَقْتُلُ يَابِسُ الشَّقِّ وَالْمَقْطُوعُ الْيُمْنَى وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ يُخَالِفُنَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَالْمُقْعَدِ وَالْأَعْمَى

تُشْرَعْ أَوَّلًا لِأَنَّ مَا وَقَعَ لِلْعُرَنِيِّينَ كَانَ جَزَاءَ تَمْثِيلِهِمْ بِالرَّاعِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ «لَا تُمَثِّلُوا» عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْ مُثْلَةِ الْعُرَنِيِّينَ فَظَاهِرُ نَسْخِهَا أَوْ لَا يُدْرَى فَيَتَعَارَضُ مُحَرَّمٌ وَمُبِيحٌ خُصُوصًا وَالْمَحْرَمُ قَوْلٌ فَيَتَقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ، وَكُلَّمَا تَعَارَضَ نَصَّانِ وَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا تَضَمَّنَ الْحُكْمَ بِنَسْخِ الْآخَرِ، وَرِوَايَةُ أَنَسٍ صَرِيحٌ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ جَنَى عَلَى جَمَاعَةٍ جِنَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةً لَيْسَ فِيهَا قَتْلٌ بِأَنْ قَطَعَ أَنْفَ رَجُلٍ وَأُذُنَيْ رَجُلٍ وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ وَقَطَعَ يَدَ آخَرَ وَرِجْلَ آخَرَ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَدَاءً لِحَقِّهِ، لَكِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَأْتَى بِكُلِّ قِصَاصٍ بَعْدَ الَّذِي قَبْلَهُ إلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا الرَّجُلُ مُمَثَّلًا بِهِ: أَيْ مُثْلَةً ضِمْنًا لَا قَصْدًا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ النَّهْيِ وَالنَّسْخِ فِيمَنْ مَثَّلَ بِشَخْصٍ حَتَّى قَتَلَهُ، فَمُقْتَضَى النَّسْخِ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ ابْتِدَاءً وَلَا يُمَثَّلُ بِهِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا بَعْدَ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا وَقَعَ قِتَالًا كَمُبَارِزٍ ضَرَبَ فَقَطَعَ أُذُنَهُ ثُمَّ ضَرَبَ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَضَرَبَ فَقَطَعَ أَنْفَهُ وَيَدَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَلَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا) أَخْرَجَ السِّتَّةُ إلَّا النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً فَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغْلُوا وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وَفِيهِ خَالِدُ بْنُ الْفَزَرِ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِذَاكَ، وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اُقْتُلُوا الشُّيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبَقُوا شَرْخَهُمْ» ، فَأَضْعَفُ مِنْهُ ثُمَّ عَلَى أُصُولِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لَا مُعَارَضَةَ بَلْ يَجِبُ أَنْ تُخَصَّ الشُّيُوخَ بِغَيْرِ الْفَانِي، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الشَّيْخُ الْفَانِي لِيَخُصَّ الْعَامَّ مُطْلَقًا بِالْخَاصِّ. نَعَمْ يُعَارَضُ ظَاهِرًا بِمَا أَخْرَجَ السِّتَّةُ «عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: هُمْ مِنْهُمْ» وَفِي لَفْظٍ " هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ " فَيَجِبُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ حَمْلَهُ عَلَى مَوْرِدِ السُّؤَالِ وَهُمْ الْمُبَيِّتُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ فِيهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ إلَى الصِّغَارِ بِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ التَّبْيِيتَ يَكُونُ مَعَهُ ذَلِكَ، وَالتَّبْيِيتُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِنَا بِالْكَبْسَةِ، وَمَا الظَّنُّ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إجْمَاعٌ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً» فَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْمُرَقَّعِ بْنِ صَيْفِيٍّ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّهِ «رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَيْفِيٍّ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمَعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلًا

ص: 452

لِأَنَّ الْمُبِيحَ عِنْدَهُ الْكُفْرُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّا، وَقَدَّ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ وَالذَّرَارِيِّ» «وَحِينَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً مَقْتُولَةٌ قَالَ: هَاهْ، مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فَلِمَ قُتِلَتْ؟» قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ أَوْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكَةً) لِتَعَدِّي ضَرَرِهَا إلَى الْعِبَادِ، وَكَذَا يُقْتَلُ مَنْ

فَقَالَ: اُنْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ، فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: قُلْ لِخَالِدٍ لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا» وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْمُرَقَّعِ، وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِي لَفْظِهِ فَقَالَ «هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» ثُمَّ قَالَ: وَهَكَذَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَصَارَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

وَهَاهْ كَلِمَةُ زَجْرٍ، وَالْهَاءُ الثَّانِيَةُ لِلسَّكْتِ. وَإِذَا ثَبَتَ فَقَدْ عَلَّلَ الْقَتْلَ بِالْمُقَاتِلَةِ فِي قَوْلِهِ «مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» فَثَبَتَ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِالْحِرَابَةِ فَلَزِمَ قَتْلُ مَا كَانَ مَظِنَّةً لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ إيَّاهُ، وَبِمَنْعِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَوْ يَابِسِ الشِّقِّ وَنَحْوِهِ يَبْطُلُ كَوْنُ الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُفْرٌ عِلَّةً أُخْرَى، وَإِلَّا لَقُتِلَ هَؤُلَاءِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ (وَالْحَجَّةُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الشَّافِعِيِّ (مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي مِنْ عَدَمِ قَتْلِ يَابِسِ الشِّقِّ، لَكِنْ هَذَا الْإِلْزَامُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَهُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ وَفِي الشُّيُوخِ وَالْعُمْيَانِ وَالضُّعَفَاءِ وَالزَّمْنَى وَمَقْطُوعِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ يَجُوزُ قَتْلَهُمْ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لِعُمُومِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ» وَلِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَالْكُفْرُ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ.

وَفِي قَوْلٍ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَانِعِ مِنْ قَتْلِ الشَّيْخِ الْفَانِي.

قَالَ: وَالْمُقْعَدُ وَالزَّمِنِ وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرَّجُلَيْنِ فِي مَعْنَاهُ.

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَوْصَى يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الشَّامِ فَقَالَ: " لَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا النِّسَاءَ وَلَا الشُّيُوخَ " الْخَبَرَ انْتَهَى. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالذِّمِّيِّ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَجَازَ تَخْصِيصُ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَمَنْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِالْقِيَاسِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ خَبَرٌ فَكَيْفَ وَفِيهِمْ مَا سَمِعْت، بَلْ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ مُقَيَّدَةٌ ابْتِدَاءً بِالْمُحَارِبِينَ عَلَى مَا تَرْجِعُ إلَيْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الشُّيُوخِ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِالِانْقِطَاعِ عِنْدَهُمْ وَبِالْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجِبُ تَخْصِيصُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَلَى أُصُولِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ صَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ وَالذَّرَارِيِّ» فَالْمُرَادُ بِالذَّرَارِيِّ النِّسَاءُ مِنْ اسْمِ السَّبَبِ فِي الْمُسَبَّبِ.

قَالَ فِي الْعُرَنِيِّينَ: وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا» أَيْ امْرَأَةً وَلَا أَجِيرًا، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْتُلُ هُوَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ وَلَا الصِّيَاحِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَلَا عَلَى الْإِحْبَالِ لِأَنَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ الْوَلَدُ فَيَكْثُرُ مُحَارِبُ الْمُسْلِمِينَ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِ الْمُرْتَدِّ مِنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَامِلَ الْعَقْلِ نَقْتُلُهُ وَمِثْلُهُ نَقْتُلُهُ إذَا ارْتَدَّ، وَاَلَّذِي لَا نَقْتُلُهُ الشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي خَرِفَ وَزَالَ عَنْ حُدُودِ الْعُقَلَاءِ وَالْمُمَيَّزِينَ فَهَذَا حِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْنُونِ فَلَا نَقْتُلُهُ وَلَا إذَا ارْتَدَّ. قَالَ: وَأَمَّا الزَّمْنَى فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّيُوخِ فَيَجُوزُ قَتَلَهُمْ إذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ كَمَا يَقْتُلُ سَائِرَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا عُقَلَاءَ وَنَقْتُلُهُمْ أَيْضًا إذَا ارْتَدُّوا اهـ. وَلَا نَقْتُلُ مَقْطُوعَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالْمَقْطُوعَ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَنَقْتُلُ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ حُكْمِ عَدَمِ الْقَتْلِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا لِأَحَدٍ،

ص: 453

قَاتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ دَفْعَا لِشَرِّهِ، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مُبِيحٌ حَقِيقَةً

(وَلَا يَقْتُلُ مَجْنُونًا) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ فَيُقْتَلَ دَفْعًا لِشَرِّهِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ يُقْتَلَانِ مَا دَامَا يُقَاتِلَانِ، وَغَيْرُهُمَا لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ بَعْدَ الْأَسْرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ نَحْوَهُ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَالصَّحِيحِ

(وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ أَبَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلَهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إحْيَاؤُهُ بِالْإِنْفَاقِ فَيُنَاقِضُهُ الْإِطْلَاقُ فِي إفْنَائِهِ (فَإِنْ أَدْرَكَهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اقْتِحَامِهِ الْمَأْثَمَ، وَإِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الدَّفْعُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهَرَ الْأَبُ الْمُسْلِمُ سَيْفَهُ عَلَى ابْنِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ يَقْتُلهُ لِمَا بَيَّنَّا فَهَذَا أَوْلَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَصَحَّ «أَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام بِقَتْلِ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ وَكَانَ عُمْرُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ» عَامًا أَوْ أَكْثَرَ وَقَدْ عَمِيَ لَمَّا جِيءَ بِهِ فِي جَيْشِ هَوَازِنَ لِلرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ يُقْتَلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْ كُلِّ مَنْ قُلْنَا إنَّهُ لَا يُقْتَلُ كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ

(إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ يُقْتَلَانِ فِي حَالِ قِتَالِهِمَا) أَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ النِّسَاءِ وَالرُّهْبَانِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إذَا قَاتَلُوا بَعْدَ الْأَسْرِ، وَالْمَرْأَةُ الْمَلِكَةُ تُقْتَلُ، وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلْ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْمَلِكُ وَالْمَعْتُوهُ الْمَلِكُ، لِأَنَّ فِي قَتْلِ الْمَلِكِ كَسْرَ شَوْكَتِهِمْ.

وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: لَا يُقْتَلُ الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَتِهِ وَلَا أَهْلُ الْكَنَائِسِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ، فَإِنْ خَالَطُوا قُتِلُوا كَالْقِسِّيسِينَ، وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يُقْتَلُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ

(قَوْلُهُ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ أَبَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) أَوْ جَدَّهُ أَوْ أُمَّهُ إذَا قَاتَلَتْ أَوْ جَدَّتَهُ (بِالْقَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} نَزَلَتْ فِي الْأَبَوَيْنِ وَلَوْ مُشْرِكَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الْآيَةَ (وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ لِإِحْيَائِهِ فَيُنَاقِضُهُ الْإِطْلَاقُ فِي إفْنَائِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ) أَيْ أَدْرَكَ الْأَبُ الِابْنَ لِيَقْتُلَهُ وَالِابْنُ قَادِرٌ عَلَى قَتْلِهِ (امْتَنَعَ) الِابْنُ (عَلَى الْأَبِ) بِغَيْرِ الْقَتْلِ بَلْ يَشْغَلُهُ بِالْمُحَاوَلَةِ بِأَنْ يُعَرْقِبَ فَرَسَهُ أَوْ يَطْرَحَهُ عَنْ فَرَسِهِ وَيُلْجِئَهُ إلَى مَكَان، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْهُ وَيَتْرُكَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَيْنَا بَلْ يُلْجِئُهُ إلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا ذَكَرْنَا وَلَا يَدَعُهُ أَنْ يَهْرَبَ إلَى أَنْ يَجِيءَ مَنْ يَقْتُلُهُ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ الِابْنُ مِنْ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِالْقَتْلِ فَلِيَقْتُلْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَادَ قَتْلَ ابْنَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّخَلُّصِ مِنْهُ إلَّا بِقَتْلِهِ كَانَ لَهُ قَتْلُهُ لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا لِدَفْعِ شَرِّهِ فَهُنَا أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ فِي سَفَرٍ وَعَطِشَا وَمَعَ الِابْنِ مَاءٌ يَكْفِي لِنَجَاةِ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلِابْنِ شِرْبُهُ وَلَوْ كَانَ الْأَبُ يَمُوتُ، وَيَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ أَبَاهُ الْمُشْرِكَ يَذْكُرُ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ بِسُوءٍ يَكُونُ لَهُ قَتْلُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَتَلَ أَبَاهُ حِينَ سَمِعَهُ يَسُبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَشَرُفَ وَكَرُمَ، فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ» . وَلَا يُكْرَهُ لِلْأَبِ قَتْلُ ابْنِهِ الْمُشْرِكِ، وَكَذَا سَائِرُ الْقَرَابَاتِ عِنْدَنَا كَالْعَمِّ وَالْخَالِ يُبَاحُ قَتْلُهُمْ، وَلَا مُنَاقَضَةَ

ص: 454

(بَابُ الْمُوَادَعَةِ وَمَنْ يَجُوزُ أَمَانَهُ)

(وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ الْحَرْبِ أَوْ فَرِيقًا مِنْهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} «وَوَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ» ، وَلِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ جِهَادٌ مَعْنًى إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ

لِأَنَّ نَفَقَةَ ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَنَا لَا تَجِبُ إلَّا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ الْقَرَابَاتِ الْبُغَاةِ يُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهُمْ كَالْأَبِ، وَأَمَّا فِي الرَّجْمِ إذَا كَانَ الِابْنُ أَحَدَ الشُّهُودِ فَيَبْتَدِئُ بِالرَّجْمِ وَلَا يَقْصِدُ قَتْلَهُ بِأَنْ يَرْمِيَهُ مَثَلًا بِحَصَاةٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

(بَابُ الْمُوَادَعَةِ وَمَنْ يَجُوزُ أَمَانُهُ)

الْمُوَادَعَةُ الْمُسَالَمَةُ، وَهُوَ جِهَادٌ مَعْنًى لَا صُورَةً، فَأَخَّرَهُ عَنْ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَمَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْجِهَادَ، وَتَرْكُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَبْقَ وُجُودِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يَتَحَقَّقُ تَرْكُ الزِّنَا وَسَائِرُ الْمَعَاصِي مِمَّنْ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ أَصْلًا، وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَيْفَ وَهُوَ مُكَلَّفٌ بِتَرْكِهَا فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ (قَوْلُهُ وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَهْلَ الْحَرْبِ أَوْ فَرِيقًا مِنْهُمْ) بِمَالٍ وَبِلَا مَالٍ (وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَكِنَّ إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَقْيِيدِهَا بِرُؤْيَةِ مَصْلَحَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ بِآيَةٍ أُخْرَى هِيَ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةٌ فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ.

وَفِي السَّلْمِ كَسْرُ السِّينِ وَفَتْحُهَا مَعَ سُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} وَمُقْتَضَى الْأُصُولِ أَنَّهَا إمَّا مَنْسُوخَةٌ إنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ بَعْدَهَا: أَيْ نَسْخَ الْإِطْلَاقِ وَتَقْيِيدَهُ بِحَالَةِ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ الْمُعَارَضَةِ فِي حَالَةِ عَدَمِ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ ثُمَّ تَرَجَّحَ مُقْتَضَى الْمَنْعِ. أَعْنِي آيَةَ {وَلا تَهِنُوا} كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِي تَقْدِيمِ الْمُحَرَّمِ.

ص: 455

دَفْعُ الشَّرِّ حَاصِلٌ بِهِ، وَلَا يُقْتَصَرُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَرْوِيَّةِ لِتَعَدِّي الْمَعْنَى إلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْجِهَادَ صُورَةً وَمَعْنًى

وَأَمَّا حَدِيثُ مُوَادَعَتِهِ عليه الصلاة والسلام «أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ» فَنَظَرَ فِيهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَغَازِي أَنَّهَا سَنَتَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ أَنَّ أَهْلَ النَّقْلِ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَوَقَعَ فِي سِيرَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهَا كَانَتْ سَنَتَيْنِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مُرْسَلًا، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَوْلُهُمَا سَنَتَيْنِ يُرِيدَانِ بَقَاءَهُ سَنَتَيْنِ إلَى أَنْ نَقَضَ الْمُشْرِكُونَ عَهْدَهُمْ وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِمْ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَأَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا عَقْدُ الصُّلْحِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْفُوظُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سِيرَتِهِ وَسِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُمْ اصْطَلَحُوا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَعَلَى أَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً وَأَنَّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ رحمه الله فِي مُسْنَدِهِ مُطَوَّلًا بِقِصَّةِ الْفَتْحِ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ: عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.

وَكَذَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرٍو، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى أَنْ قَالَ: عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ إلَخْ. وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجْهٌ حَسَنٌ بِهِ تَنْتَفِي الْمُعَارَضَةُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ فَإِنَّ الْكُلَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْفَتْحِ كَانَ نَقْضَ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ حَيْثُ أَعَانُوا عَلَى خُزَاعَةَ وَكَانُوا دَخَلُوا فِي حِلْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الصُّلْحِ فَوَقَعَ الْخِلَافُ ظَاهِرًا بِأَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ سَنَتَيْنِ أَنَّ بَقَاءَهُ سَنَتَانِ، وَمَنْ قَالَ عَشْرًا قَالَ إنَّهُ عَقَدَهُ عَشَرًا كَمَا رَوَاهُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَلَا يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ) وَهُوَ جَوَازُ الْمُوَادَعَةِ (عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ) وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ (لِتَعَدِّي الْمَعْنَى) الَّذِي بِهِ عَلَّلَ جَوَازَهَا، وَهُوَ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ثُبُوتُ مَصْلَحَتِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِأَكْثَرَ (بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَكُنْ) الْمُوَادَعَةُ أَوْ الْمُدَّةُ الْمُسَمَّاةُ (خَيْرًا) لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ (لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى) وَمَا أُبِيحَ إلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جِهَادٌ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا فَهُوَ تَرْكٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ مَنْعِهِ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ.

وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ مُسْتَظْهَرٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَقَدْ كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ مَصَالِحَ عَظِيمَةً، فَإِنَّ النَّاسَ لَمَّا تَقَارَبُوا انْكَشَفَ مَحَاسِنُ الْإِسْلَامِ لِلَّذِينَ كَانُوا مُتَبَاعِدِينَ لَا يَعْقِلُونَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا قَارَبُوهُمْ وَتَخَالَطُوا بِهِمْ

ص: 456

(وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ رَأَى نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعَ نَبَذَ إلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَبَذَ الْمُوَادَعَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ» ، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمَّا تَبَدَّلَتْ كَانَ النَّبْذُ جِهَادًا وَإِيفَاءُ الْعَهْدِ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا بُدَّ مِنْ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ» وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا خَبَرُ النَّبْذِ إلَى جَمِيعِهِمْ، وَيَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ مَلِكُهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّبْذِ مِنْ إنْفَاذِ الْخَبَرِ إلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الْغَدْرُ.

قَالَ (وَإِنَّ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ قَاتَلَهُمْ وَلَمْ يُنْبِذْ إلَيْهِمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ) لِأَنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَانِيَةً يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ فِي حَقِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَلِكِهِمْ فَفِعْلُهُمْ لَا يُلْزِمُ غَيْرَهُمْ حَتَّى لَوْ كَانَ بِإِذْنِ مَلِكِهِمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ بِاتِّفَاقِهِمْ مَعْنًى.

قَوْلُهُ وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ رَأَى أَنَّ نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعُ نَبَذَ إلَيْهِمْ) أَيْ أَلْقَى إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ رَجَعَ عَمَّا كَانَ وَقَعَ، قَالَ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ عَلَى سَوَاءٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِخَوْفِ الْخِيَانَةِ، وَهُوَ مِثْلُ {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فِي الْكِتَابَةِ، وَلَعَلَّ خَوْفَ الْخِيَانَةِ لَازِمٌ لِلْعِلْمِ بِكُفْرِهِمْ وَكَوْنِهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا.

وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِخُطُورِ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الْمُهَادَنَةَ فِي الْأَوَّلِ مَا صَحَّتْ إلَّا لِأَنَّهَا أَنْفَعُ فَلَمَّا تَبَدَّلَ الْحَالُ عَادَ إلَى الْمَنْعِ (وَلَا بُدَّ مِنْ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ) وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْعُمُومَاتِ نَحْوَ مَا صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَرْبَعُ خِصَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ: «كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ حَتَّى إذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلْيَشُدَّ عَقْدَهُ وَلَا يَحِلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُّهَا أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ» ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ» فَلَمْ يُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ إلَّا مِنْ قَوْلِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ هَذَا. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ «بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَبَذَ الْمُوَادَعَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ» فَالْأَلْيَقُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا فِيمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ (وَإِنْ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ قَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ إذَا كَانَ بِاتِّفَاقِهِمْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِهِ) وَكَذَا إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَانِيَةً يَكُونُ نَقْضًا فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً فَيُقْتَلُونَ وَيَسْتَرِقُّونَهُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ الذَّرَارِيّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ مَلِكِهِمْ فَيَكُونَ نَقْضًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لَا فِي حَقِّهِمْ، وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْدَأْ أَهْلُ مَكَّةَ بَلْ هُمْ بَدَءُوا بِالْغَدْرِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ بَلْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعْمِيَ عَلَيْهِمْ حَتَّى

ص: 457

(وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ مُوَادَعَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ مَالًا فَلَا بَأْسَ بِهِ) لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْمُوَادَعَةُ بِغَيْرِ الْمَالِ فَكَذَا بِالْمَالِ، لَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الْمَالِ يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ، هَذَا إذَا لَمْ يَنْزِلُوا بِسَاحَتِهِمْ بَلْ أَرْسَلُوا رَسُولًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، أَمَّا إذَا أَحَاطَ الْجَيْشُ بِهِمْ ثُمَّ أَخَذُوا الْمَالَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُخَمِّسُهَا وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْقَهْرِ مَعْنًى (وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَيُوَادِعُهُمْ الْإِمَامُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَرْجُوٌّ مِنْهُمْ فَجَازَ تَأْخِيرُ قِتَالِهِمْ طَمَعًا فِي إسْلَامِهِمْ

يَبْغَتَهُمْ، هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ لِجَمِيعِ أَصْحَابِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي.

وَمَنْ تَلَقَّى الْقِصَّةَ وَرَوَاهَا كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَا: «كَانَ فِي صُلْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَهْدِهِ دَخَلَ، فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ، فَمَكَثُوا فِي الْهُدْنَةِ نَحْوَ السَّبْعَةِ أَوْ الثَّمَانِيَةِ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إنَّ بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَثَبُوا عَلَى خُزَاعَةَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلًا بِمَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ الْوَتِيرُ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ هَذَا لَيْلٌ وَلَا يَعْلَمُ بِنَا مُحَمَّدٌ وَلَا يَرَانَا أَحَدٌ، فَأَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَقَاتَلُوا خُزَاعَةَ مَعَهُمْ، وَرَكِبَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَنْشَدَهُ:

لَاهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا

حِلْفُ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا

إنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا

وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُؤَكَّدَا

هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا

فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا

فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا عُتَّدَا

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نُصِرْت يَا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ فَتَجَهَّزُوا وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعْمَى عَلَى قُرَيْشٍ خَبَرُهُمْ حَتَّى يَبْغَتَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ». وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ نَحْوَ هَذَا «وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ يَكُنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ مُدَّةٌ، قَالَ: أَلَمْ يَبْلُغْك مَا صَنَعُوا بِبَنِي كَعْبٍ؟» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُرْسَلًا عَنْ عُرْوَةَ، وَرَوَاهُ مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَفِيهِ «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُدَّةٌ؟ فَقَالَ: إنَّهُمْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ فَأَنَا غَارٍ بِهِمْ» فِي النَّبْذِ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ إعْلَامِهِمْ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ مَلِكُهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّبْذِ مِنْ إنْفَاذِ الْخَبَرِ إلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ بِلَادِهِمْ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ

(قَوْلُهُ وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ مُوَادَعَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَنْ يَأْخُذَ) الْمُسْلِمُونَ (عَلَى ذَلِكَ مَالًا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بِلَا مَالٍ فَبِالْمَالِ وَهُوَ أَكْثَرُ نَفْعًا أَوْلَى، إلَّا أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ فَلَا يُوَادِعُهُمْ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي قَوْلَهُ: لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى. قَالَ شَارِحٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْأَجْرَ: يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْجُعْلِ قَبْلَ بَابِ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَجُوزُ وَأَخْذُ مَالِهِمْ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ مَالُ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرًا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَأَهِّبِينَ لِلْحَرْبِ لِقِلَّةِ الْعَدَدِ الْحَاضِرِ لِتَفَرُّقِ الْمُقَاتِلَةِ فِي الْبِلَادِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جِهَادٌ، وَفِي أَخْذِ مَالِهِمْ كَسْرٌ لِشَوْكَتِهِمْ وَتَقْلِيلٌ لِمَادَّتِهِمْ فَأَخْذُهُ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ الْجِهَادِ

ص: 458

(وَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ مَالًا) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ لِمَا نُبَيِّنُ (وَلَوْ أَخَذَهُ لَمْ يَرُدَّهُ) لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ.

وَلَوْ حَاصَرَ الْعَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ لَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ لِمَا فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ وَإِلْحَاقِ الْمَذَلَّةِ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ إلَّا إذَا خَافَ الْهَلَاكَ،

لَا الْأُجْرَةِ عَلَى التَّرْكِ وَبِاعْتِبَارِهِ، ثُمَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْمَالِ يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ إنْ كَانَ قَبْلَ النُّزُولِ بِسَاحَتِهِمْ بَلْ بِرَسُولٍ، أَمَّا إذَا نَزَلْنَا بِهِمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُخَمِّسُهَا وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُمْ قَهْرًا مَعْنًى. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَلَا بَأْسَ بِمُوَادَعَتِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إذَا غَلَبُوا عَلَى بَلْدَةٍ وَصَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَقْرِيرَ الْمُرْتَدِّ عَلَى الرِّدَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا قَيَّدَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِمَا ذَكَرْنَا، قَالَ: يَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيُّ بِقَوْلِهِ غَلَبَ الْمُرْتَدُّونَ عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِ الْإِسْلَامِ فَلَا بَأْسَ بِمُوَادَعَتِهِمْ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَلَوْ وَادَعَهُمْ عَلَى الْمَالِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَلَا تُقْبَلُ مِنْ الْمُرْتَدِّ جِزْيَةٌ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا نُبَيِّنُ) يَعْنِي فِي بَابِ الْجِزْيَةِ (وَ) مَعَ هَذَا (لَوْ أَخَذَهُ لَا يَرُدَّهُ) عَلَيْهِمْ لِأَنَّ مَالَهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرُوا، بِخِلَافِ مَا إذَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ حَيْثُ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بَعْدَمَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فَيْئًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ حَالَ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُمْ

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَاصَرَ الْعَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ لَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ لِمَا فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ) أَيْ النَّقِيصَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ مُتَجَانِفًا عَنْ الصُّلْحِ: أَلَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، قَالَ: أَوْ لَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوْ لَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: الْزَمْ غَرْزَهُ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيَرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ فَالْعِزَّةُ خَاصِّيَّةُ الْإِيمَانِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (إلَّا إذَا خَافَ) الْإِمَامُ (الْهَلَاكَ) عَلَى نَفْسِهِ وَالْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ الْبَلَاءُ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ أَرْسَلَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْحَرْثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيِّ وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ وَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى

ص: 459

لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ

(وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ السِّلَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يُجَهَّزُ إلَيْهِمْ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَمْلِهِ إلَيْهِمْ،

أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ وَلَمْ تَقَعْ الشَّهَادَةُ وَلَا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْعَلَ بَعَثَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ، فَقَالَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرًا تُحِبُّهُ فَتَصْنَعَهُ أَمْ شَيْئًا أَمَرَك اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ الْعَمَلِ بِهِ أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَالَ: بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاَللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إلَّا لِأَنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَأَرَدْت أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إلَى أَمْرٍ مَا، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَّا تَمْرَةً إلَّا قِرًى أَوْ بَيْعًا، أَفَحَيْنَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزَّنَا بِك وَبِهِ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا؟ مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاَللَّهِ مَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَنْتَ وَذَاكَ، فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيفَةَ فَمَحَا مَا فِيهَا مِنْ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ قَالَ: لِيُجْهِدُوا عَلَيْنَا».

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بِهِ عَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ. وَعَلَّلَ الْمُصَنِّفُ هَذَا بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ دَفَعَ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ) وَهُوَ تَسَاهُلٌ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ دَفْعُ الْهَلَاكِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَلَا بِقَتْلِ غَيْرِهِ لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ نَفْسِهِ بَلْ يَصْبِرُ لِلْقَتْلِ وَلَا يَقْتُلُ غَيْرَهُ؛ وَلَوْ شَرَطُوا فِي الصُّلْحِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ بَطَلَ الشَّرْطُ فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَلَا يُرَدُّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ مُسْلِمًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ «لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُهَيْلٍ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَرَدَّهُ، فَصَارَ يُنَادِي يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي عَنْ دِينِي؟ فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَكَذَا رَدَّ أَبَا بَصِيرٍ» وَأَمَّا لَوْ شُرِطَ مِثْلُهُ فِي النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ رَدُّهُنَّ وَلَا شَكَّ فِي انْفِسَاخِ نِكَاحِهَا، فَلَوْ طَلَبَ زَوْجُهَا الْحَرْبِيُّ الْمَهْرَ هَلْ يُعْطَاهُ؟ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ لَا يُعْطَاهُ وَهُوَ قَوْلُنَا، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَفِي قَوْلٍ يُعْطَاهُ، قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ النَّسْخِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ أَيْضًا، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِي ذَلِكَ، بَلْ مَفْسَدَةُ رَدِّ الْمُسْلِمِ إلَيْهِمْ أَكْثَرُ، وَحِينَ شُرِعَ ذَلِكَ كَانَ فِي قَوْمٍ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ لَا يُبَالِغُونَ فِي تَعْذِيبِهِ، فَإِنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ لَا تَتَعَرَّضُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى إنَّمَا يَتَوَلَّى رَدْعَهُ عَشِيرَتَهُ، وَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الْقَيْدِ وَالسَّبِّ وَالْإِهَانَةِ، وَلَقَدْ كَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِثْلِ أَبِي بَصِيرٍ وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سُهَيْلٍ إلَى نَحْوِ سَبْعِينَ لَمْ يَبْلُغُوا فِيهِمْ النِّكَايَةَ لِعَشَائِرِهِمْ وَالْأَمْرُ الْآنَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ السِّلَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ) إذَا حَضَرُوا مُسْتَأْمَنِينَ (وَلَا يُجَهَّزُ إلَيْهِمْ) مَعَ التُّجَّارِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَمَلَهُ إلَيْهِمْ» وَالْمَعْرُوفُ مَا فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ وَمُسْنَدِ الْبَزَّارِ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ

ص: 460

وَلِأَنَّ فِيهِ تَقْوِيَتَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَا الْكُرَاعُ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ لِأَنَّهُ أَصْلُ السِّلَاحِ، وَكَذَا بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى شَرَفِ النَّقْضِ أَوْ الِانْقِضَاءِ فَكَانُوا حَرْبًا عَلَيْنَا، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ وَالثَّوْبِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ «فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمْرَ ثُمَامَةَ أَنْ يَمِيرَ أَهْلَ مَكَّةَ وَهُمْ حَرْبٌ عَلَيْهِ» .

بَحْرِ بْنِ كُنَيْزٍ السَّقَّاءِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ اللَّقِيطِيِّ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ الْقَرْقَسَانِيِّ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَهُوَ عِنْدِي لَا بَأْسَ بِهِ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي نَقْلِ السِّلَاحِ وَتَجْهِيزِهِ إلَيْهِمْ (تَقْوِيَتَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَا الْكُرَاعِ) أَيْ الْخَيْلِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْمُوَادَعَةِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا (لِأَنَّهَا عَلَى شَرَفِ الِانْقِضَاءِ أَوْ النَّقْضِ) قَالَ (وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ) أَيْ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ حَمْلِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ بِهِ يَحْصُلُ التَّقْوَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْمَقْصُودُ إضْعَافُهُمْ (إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ) أَيْ نَقْلَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ (بِالنَّصِّ) يَعْنِي حَدِيثَ ثُمَامَةَ، وَحَدِيثَ إسْلَامِهِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إسْلَامِ ثُمَامَةَ، وَفِي آخِرِهِ قَوْلُهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالُوا لَهُ أَصَبَوْت؟ «فَقَالَ: إنِّي وَاَللَّهِ مَا صَبَوْت وَلَكِنِّي أَسْلَمْت وَصَدَّقْت مُحَمَّدًا وَآمَنْت بِهِ، وَاَيْمُ الَّذِي نَفْسُ ثُمَامَةَ بِيَدِهِ لَا تَأْتِيكُمْ حَبَّةٌ مِنْ الْيَمَامَةِ وَكَانَتْ رِيفُ مَكَّةَ مَا بَقِيَتْ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَانْصَرَفَ إلَى بَلَدِهِ وَمَنَعَ الْحَمْلَ إلَى مَكَّةَ حَتَّى جَهَدَتْ قُرَيْشٌ، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ إلَى ثُمَامَةَ يَحْمِلَ إلَيْهِمْ الطَّعَامَ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم».

وَذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي آخَرِ السِّيرَةِ، «وَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ صَبَأْت؟ فَقَالَ لَا، وَلَكِنِّي اتَّبَعْت خَيْرَ الدِّينِ دِينِ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ لَا تَصِلُ إلَيْكُمْ حَبَّةٌ مِنْ الْيَمَامَةِ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إلَى أَنْ قَالَ: فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّك تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّك قَدْ قَطَعْت أَرْحَامَنَا، فَكَتَبَ عليه الصلاة والسلام إلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ» . وَأَمَّا بَيْعُ الْحَدِيدِ فَمَنَعَهُ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ أَصْلُ السِّلَاحِ) وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ نَصَّ عَلَى تَسْوِيَةِ الْحَدِيدِ وَالسِّلَاحِ.

وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا فِي السِّلَاحِ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا كَرِهْنَا بَيْعَ الْمَزَامِيرَ وَأَبْطَلْنَا بَيْعَ الْخَمْرَ وَلَمْ نَرَ بِبَيْعِ الْعِنَبِ بَأْسًا وَلَا بِبَيْعِ الْخَشَبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِهِ: وَلَيْسَ هَذَا كَمَا قَالُوا فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَجْعَلُهُ خَمْرًا؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ لَيْسَ بِآلَةِ الْمَعْصِيَةِ بَلْ يَصِيرُ آلَةً لَهَا بَعْدَ مَا يَصِيرُ خَمْرًا، وَأَمَّا هُنَا فَالسِّلَاحُ آلَةُ الْفِتْنَةِ فِي الْحَالِ، وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ مِمَّنْ يُعْرَفُ بِالْفِتْنَةِ، قِيلَ بِإِشَارَةِ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ بَيْعَ الْحَدِيدِ مِنْهُمْ لَا يُكْرَهُ.

[فُرُوعٌ مِنْ الْمَبْسُوطِ] طَلَبَ مَلِكٌ مِنْهُمْ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يُتْرَكَ أَنْ يَحْكُمَ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ مَا شَاءَ مِنْ قَتْلٍ وَظُلْمٍ لَا يَصْلُحُ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُجَابُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ عَلَى الظُّلْمِ مَعَ قُدْرَةِ الْمَنْعِ مِنْهُ حَرَامٌ، وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مَنْ يَلْتَزِمُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَشَرْطُ خِلَافِهِ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ هُمْ عَبِيدُهُ يَبِيعُ مِنْهُمْ

ص: 461

(فَصْلٌ)

(إذَا أَمَّنَ رَجُلٌ حُرٌّ أَوْ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ كَافِرًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ صَحَّ أَمَانُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَيْ أَقَلُّهُمْ

مَا شَاءَ فَصَالَحَ وَصَارَ ذِمَّةً فَهُمْ عَبِيدٌ لَهُ كَمَا كَانُوا يَبِيعُونَهُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي الْأَحْرَارِ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَانُوا عَبِيدَهُ، فَكَذَا إذَا صَارَ ذِمِّيًّا، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُمْ بِيَدِهِ الْقَاهِرَةِ وَقَدْ ازْدَادَتْ وَكَادَةً بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَإِنْ ظَفَرَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ فَاسْتَنْقَذَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَلِكِ بِغَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْمَلِكُ وَأَهْلُ أَرْضِهِ أَوْ أَسْلَمُوا هُمْ دُونَهُ هُمْ عَبِيدُهُ وَلَوْ وَادَعُوا عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا كُلَّ سَنَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا وَعَلَى أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ فِي بِلَادِهِمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ

لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةُ لَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ، وَتَرَكَ الْقِتَالِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ إنْ كَانَ بَعْدَ مَا أَحَاطَ بِهِمْ الْجَيْشُ أَوْ قَبْلَهُ بِرَسُولٍ تَقَدَّمَ حُكْمُ هَذَا الْمَالِ، وَلَوْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فَكَانُوا كُلُّهُمْ مُسْتَأْمَنِينَ وَاسْتِرْقَاقُ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يَجُوزُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ بَاعَ ابْنَهُ بَعْدَ هَذَا الصُّلْحِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ شَيْءٍ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِحُكْمِ تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ تَأَكَّدَتْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ صَالَحُوهُمْ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوَّلَ السُّنَّةِ وَقَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَكُمْ وَنُصَالِحُكُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةً عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِنَا فَإِنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنِينَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَا تَتَنَاوَلُهُمْ الْمُوَادَعَةُ وَمِنْهَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لَهُمْ، فَإِذَا جَعَلُوهُمْ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمُوَادَعَةِ بِجَعْلِهِمْ إيَّاهُمْ عِوَضًا لِلْمُسْلِمِينَ صَارُوا مَمَالِيكَ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُوَادَعَةِ، وَالْمَشْرُوطُ فِي السِّنِينَ الْكَائِنَةِ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ أَرِقَّاءُ فَجَازَ.

وَلَوْ سَرَقَ مُسْلِمٌ مَالَهُمْ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ لَا يَحِلُّ شِرَاؤُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُمْلَكُ بِالسَّرِقَةِ لِأَنَّهُ غَدْرٌ فَلَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ مِنْهُ.

وَلَوْ أَغَارَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الصُّلْحِ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ مَا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ كَمَالِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ رَدُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَا بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ مَا خَرَجُوا عَنْ كَوْنِهِمْ أَهْلَ حَرْبٍ؛ إذْ لَمْ يَنْقَادُوا إلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِمْ، وَلَوْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ دَارَ حَرْبٍ أُخْرَى فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ لِأَنَّهُ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ.

(فَصْلٌ فِي الْأَمَانِ)

وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْمُوَادَعَةِ فِي التَّحْقِيقِ (قَوْلُهُ إذَا أَمِنَ رَجُلٌ حُرٌّ أَوْ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ كَافِرًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ صَحَّ أَمَانُهُمْ) عَلَى إسْنَادِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ (وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ») أَيْ لَا تَزِيدُ دِيَةُ الشَّرِيفِ عَلَى دِيَةِ الْوَضِيعِ «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَخْرَجَ

ص: 462

وَهُوَ الْوَاحِدُ

أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» وَمَعْنَى يُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ: أَيْ يُرَدُّ الْأَبْعَدُ مِنْهُمْ التَّبَعَةَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَسْكَرَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَاقْتَطَعَ الْإِمَامُ مِنْهُمْ سَرَايَا وَوَجَّهَهَا لِلْإِغَارَةِ فَمَا غَنِمَتْهُ جُعِلَ لَهَا مَا سَمَّى وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ؛ لِأَنَّ بِهِمْ قَدَرَتْ السَّرَايَا عَلَى التَّوَغُّلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَخْذِ الْمَالِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُمْ يَدٌ إلَخْ: أَيْ كَأَنَّهُمْ آلَةٌ وَاحِدَةٌ مَعَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْمِلَلِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ تَعَاوُنِهِمْ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ» الْحَدِيثَ. فَفَسَّرَ الرَّدَّ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِالْإِجَارَةِ، فَالْمَعْنَى يُرَدُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَكُونَ كُلُّهُمْ مُجِيرًا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَحَلُّ الدِّيَةِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، فَمَنْ أَحَدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَنْ قَالَ إنَّ الشَّيْخَ عَلَاءَ الدِّينِ وَهَمَ إذْ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِنْ جِهَةِ أَبِي دَاوُد. وَالْوَاقِعُ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ أَخْرَجَاهُ غَلَطٌ، فَإِنَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ «تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُخَرِّجَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ لَا مَا هُوَ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْ الْحَدِيثِ فَقَطْ، وَفَسَّرَ الْمُصَنِّفُ أَدْنَاهُمْ بِأَقَلِّهِمْ فِي الْعَدَدِ (وَهُوَ الْوَاحِدُ) احْتِرَازًا عَنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ مِنْ الدَّنَاءَةِ لِيَدْخُلَ الْعَبْدُ كَمَا سَيَأْتِي وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، إذْ هُوَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَيْضًا فِيهِ دَلِيلٌ لِمُحَمَّدٍ وَهُوَ إطْلَاقُ الْأَدْنَى بِمَعْنَى الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَمَانِ الْمَرْأَةِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ رضي الله عنها «قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرْتُهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانُ، قَالَ عليه الصلاة والسلام: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت وَأَمِنَّا مَنْ أَمِنْت» وَرَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنها قَالَتْ «ذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرَادَ هَذَا أَنْ يَقْتُلَهُمَا، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ» الْحَدِيثَ.

وَكَانَ الَّذِي أَجَارَتْهُ أُمُّ هَانِئٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْحَارِثَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كِلَاهُمَا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيَجُوزُ. وَتَرْجَمَ التِّرْمِذِيُّ بَابَ أَمَانِ الْمَرْأَةِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّ الْمَرْأَةَ لَتَأْخُذُ لِلْقَوْمِ» يَعْنِي تُجِيرُ الْقَوْمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ فِي عِلَلِهِ الْكُبْرَى: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَكَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ فِي السَّنَدِ سَمِعَ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ رَبَاحٍ سَمِعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِنْهَا حَدِيثُ إجَارَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا الْعَاصِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:

ص: 463

وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَيَخَافُونَهُ إذْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَنَعَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْأَمَانُ مِنْهُ لِمُلَاقَاتِهِ مَحَلَّهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَكَذَا الْأَمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَتَكَامَلُ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ.

قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ. فَيَنْبِذُ إلَيْهِمْ) كَمَا إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي النَّبْذِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ

«أَلَا وَإِنَّهُ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِطُولِهِ.

قَالَ الْمُصَنَّفُ (وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ) أَيْ الْوَاحِدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فَإِنَّهَا مِنْ أَهْلِهِ بِالتَّسَبُّبِ بِمَالِهَا وَعَبِيدِهَا فَيَخَافُ مِنْهُ (فَيَتَحَقَّقُ الْأَمَانُ مِنْهُ لِمُلَاقَاتِهِ مَحَلَّهُ) أَيْ مَحَلَّ الْأَمَانِ وَهُوَ الْكَافِرُ الْخَائِفُ، وَإِذَا صَدَرَ التَّصَرُّفُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ نَفَذَ (ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُجِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ إلَخْ فَيَصْلُحُ تَعْلِيلًا بِلَا وَاوٍ لِلتَّعَدِّي، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا يَزِيدُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَمَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُؤْمِنِ، فَأَمَّا تَعَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ فَلَيْسَ ضَرُورِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ.

وَمَا ذَكَرَ مِنْ عَدَمِ التَّجَزِّي يَصْلُحُ دَلِيلًا لَهُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَتَجَزَّأْ كَانَ أَمَانُ الْوَاحِدِ أَمَانَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ أَمَانِ الْكُلِّ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ تَجَزِّيهِ بِأَنَّ سَبَبَهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَذَا الْأَمَانُ، وَفَسَّرَ بِالتَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ، وَبَعْضُهُمْ بِإِعْطَاءِ الْأَمَانِ لِأَنَّهُ يُقَالُ آمَنْته فَأَمِنَ: أَيْ أَعْطَيْته الْأَمَانَ فَأَمِنَ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ آمَنْت بِمَعْنَى صَدَقْت بِالدِّينِ فَأَمِنَ الْكَافِرُ: أَيْ حَصَلَ لَهُ الْأَمَانُ، وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ السَّبَبُ عِلَّةً وَهُوَ مَجَازٌ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ السَّبَبِ الْمُفْضِي فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَى أَمَانِ الْحَرْبِيِّ بِإِعْطَاءِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ لَهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ: أَيْ إعْطَاءُ الْأَمَانِ سَبَبُ الْأَمَانِ بِمَعْنَى عِلَّتِهِ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَتَجَزَّأُ الْأَمَانُ، أَوْ الْإِيمَانُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ لِلْأَمَانِ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَتَجَزَّأُ الْأَمَانُ وَصَارَ (كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ) إذَا زَوَّجَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ نَفَذَ عَلَى الْكُلِّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهَا لَا تَتَجَزَّأُ إنَّمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ النَّصِّ الْمُوجِبِ لِلنَّفَاذِ عَلَى الْكُلِّ إذَا صَدَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَهُوَ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ (وَقَوْلُهُ إلَّا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ) أَيْ أَمَانِ الْوَاحِدِ (مَفْسَدَةٌ فَيُنْبَذُ إلَيْهِمْ كَمَا إذَا أَمِنَ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي النَّبْذِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ) فِي الْبَابِ السَّابِقِ

ص: 464

وَلَوْ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا وَأَمِنَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَيْشِ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ يَنْبِذُ الْإِمَامُ لِمَا بَيَّنَّا، وَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ بِالتَّأْخِيرِ فَكَانَ مَعْذُورًا (وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ ذِمِّيٍّ) لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِهِمْ، وَكَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ (وَلَا أَسِيرٍ وَلَا تَاجِرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّهُمَا مَقْهُورَانِ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ فَلَا يَخَافُونَهُمَا وَالْأَمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ وَلِأَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ عَلَيْهِ فِيهِ فَيَعْرَى الْأَمَانُ عَنْ الْمَصْلَحَةِ، وَلِأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ يَجِدُونَ أَسِيرًا أَوْ تَاجِرًا فَيَتَخَلَّصُونَ بِأَمَانِهِ فَلَا يَنْفَتِحُ لَنَا بَابُ الْفَتْحِ.

وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي رِوَايَةٍ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ

وَهُوَ قَوْلُنَا يَفْعَلُ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ وَعَنْ تَرْكِ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى.

وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَلَوْ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا وَأَمِنَ وَأَمِنَ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ إلَخْ) فَلَيْسَ تَكْرَارًا مَحْضًا بَلْ ذَكَرَهُ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (وَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ بِخِلَافِ، مَا إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ) لَا يُؤَدِّبُهُ (لِأَنَّهُ رُبَّمَا) فَعَلَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ (تَفُوتَ الْمَصْلَحَةُ بِالتَّأْخِيرِ) إلَى أَنْ يَعْلَمَ الْإِمَامُ بِهَا وَيُؤَمِّنُ هُوَ بِنَفْسِهِ.

وَالِافْتِيَاتُ افْتِعَالٌ مِنْ الْفَوْتِ وَهُوَ السَّبْقُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ الِافْتِعَالُ لِلسَّبْقِ إلَى الشَّيْءِ دُونَ ائْتِمَارِ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَامِرَ فِيهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ قَالَ فَاتَنِي ذَلِكَ الْفَارِسُ: أَيْ سَبَقَنِي فَأَصْلُهُ افْتِوَاتٌ قُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، وَالتَّعْلِيلُ بِهِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي أَنْ يُؤَدِّبَهُ مُطْلَقًا لِتَحَقُّقِ الِافْتِيَاتِ فِيمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، فَالْوَجْهُ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِنَا افْتِيَاتٌ فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ (قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِهِمْ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ اعْتِقَادًا، وَأَيْضًا لَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} وَالْأَمَانُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهُ نَفَاذُ كَلَامِهِ عَلَى غَيْرِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى (وَلَا أَسِيرٍ وَلَا تَاجِرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ) فِي دَارِ الْحَرْبِ (لِأَنَّهُمَا مَقْهُورَانِ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَالْأَمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ، وَلِأَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ عَلَيْهِ فَيَعْرَى الْأَمَانُ عَنْ الْمَصْلَحَةِ، وَلِأَنَّهُ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ يَجِدُونَ أَسِيرًا أَوْ تَاجِرًا فَيَتَخَلَّصُونَ بِأَمَانِهِ فَلَا يَنْفَتِحُ بَابُ الْفَتْحِ).

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّ الْأَمَانَ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ وَلَا خَوْفَ مِنْهُ حَالَ كَوْنِهِ مُقِيمًا فِي دَارِهِمْ لَا مَنَعَةَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ دِفَاعٍ (قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَالِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ (وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ

ص: 465

لِمُحَمَّدٍ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ» رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ اعْتِبَارًا بِالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ وَبِالْمُؤَيَّدِ مِنْ الْأَمَانِ، فَالْإِيمَانُ لِكَوْنِهِ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ، وَالْجِهَادُ عِبَادَةٌ، وَالِامْتِنَاعُ لِتَحَقُّقِ إزَالَةِ الْخَوْفِ بِهِ، وَالتَّأْثِيرُ إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ إذْ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ مَنَافِعِ الْمُوَلَّى وَلَا تَعْطِيلَ فِي مُجَرَّدِ الْقَوْلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ فَلَمْ يُلَاقِ الْأَمَانُ مَحَلَّهُ،

أَدْنَاهُمْ» (وَ) لِمَا (رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ» وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ) أَيْ لَهُ قُوَّةٌ يَمْتَنِعُ بِهَا وَيَضُرُّ غَيْرَهُ (فَيَصِحُّ أَمَانُهُ اعْتِبَارًا بِالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ وَالْمُؤَبَّدِ مِنْ الْأَمَانِ) وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ إذَا عَقَدَ الذِّمَّةَ لِأَهْلِ مَدِينَةٍ صَحَّ وَلَزِمَ وَصَارُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ، فَهَذَا وَهُوَ الْمُوَقَّتُ مِنْ الذِّمَّةِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ تَمَامُ الْمُؤْثَرِ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ.

أَمَّا الْإِيمَانُ فَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادُ مِنْ أَعْظَمِهَا.

وَأَمَّا اعْتِبَارُ الِامْتِنَاعِ فَلِتَحَقُّقِ إزَالَةِ الْخَوْفِ وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الْمُؤْثَرُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَهُوَ (إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ إذْ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ) لَا فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ (وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ) أَيْ الْجِهَادَ بِالسَّيْفِ لِتَعْرِيضِ مَنَافِعِهِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْمَوْلَى عَلَى الْفَوَاتِ بِأَنْ يُقْتَلَ، وَهَذَا الْمَانِعُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْجِهَادِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ لَا بِوَجْهِ إعْطَاءِ الْأَمَانِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجِهَادِ فَرْقٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ مِنْهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْهُ (أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ) لِانْتِفَاءِ الْخَوْفِ مِنْهُ (فَلَمْ يُلَاقِ الْأَمَانُ مَحَلَّهُ) وَهُوَ الْخَائِفُ مِنْ الْمُؤْمِنِ فَلَمْ يَحْصُلْ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ وَهُوَ الْإِعْزَازُ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَخَافُ مِنْهُ وَلَا الْمَصْلَحَةُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُخْطِئُ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَمَانِ إنَّمَا تَقُومُ بِمَنْ يُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَهُوَ الْمَأْذُونُ لِأَنَّهُ أَدْرَى بِالْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ الْمُمَارِسِ لَهُ.

ص: 466

بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْهُ مُتَحَقِّقٌ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ لِمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرِي عَنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ، وَالْأَمَانُ نَوْعُ قِتَالٍ وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَفِيهِ سَدُّ بَابِ الِاسْتِغْنَامِ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ وَالْخَطَأُ نَادِرٌ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقِتَالَ، وَبِخِلَافِ الْمُؤَبَّدِ لِأَنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالْجِزْيَةِ وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ نَفْعٌ فَافْتَرَقَا.

وَفِي خَطَئِهِ سَدُّ بَابِ الِاسْتِغْنَامِ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَعْرَ عَنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ احْتِمَالًا رَاجِحًا (بِخِلَافِ) الْعَبْدِ (الْمَأْذُونِ، وَبِخِلَافِ) الْأَمَانِ (الْمُؤَبَّدِ) بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ (لِأَنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ) وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ عَبْدٍ أَوْ حُرٍّ ذَلِكَ (وَلِأَنَّهُ مُقَابِلٌ بِالْجِزْيَةِ) فَالْمَصْلَحَةُ لِلسَّيِّدِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُحَقَّقَةٌ فِيهِ (وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيَّا قِتَالَهُمْ بِهِ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} فَفِي عَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ (إسْقَاطُ الْفَرْضِ) عَنْ الْإِمَامِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ كَذَلِكَ (نَفْعٌ) مُحَقَّقٌ (فَافْتَرَقَا) وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْعَامَّةِ تَضَمَّنَ قِيَاسَيْنِ: قِيَاسَ أَمَانِ الْمَحْجُورِ عَلَى أَمَانِ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ، وَقِيَاسَ أَمَانِ الْمَحْجُورِ عَلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنْ الْمَحْجُورِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فَرْقَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الثَّانِي مُتَّجَهٌ. وَأَمَّا دَفْعُهُ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ فَلَا لِأَنَّهُ إنْ فَرَّقَ بِأَنَّهُ لَا يَخَافُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يَخَافُ مِنْهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَأْذُونَ لَهُ فَيَخَافُونَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَخَافُونَهُ بَلْ كُلُّ مَنْ رَأَوْهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى الْبِنْيَةِ فَهُوَ مَخُوفٌ لَهُمْ.

وَأَمَّا بِأَنَّ الظَّاهِرَ خَطَؤُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ لِأَنَّ الْأَمَانَ غَيْرُ لَازِمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، بَلْ إذَا كَانَ كَذَلِكَ نَبَذَ إلَيْهِمْ الْإِمَامُ بِهِ. نَعَمْ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ. فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ فُضَيْلٍ بْنِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ قَالَ: شَهِدْت قَرْيَةً مِنْ قُرَى فَارِسٍ يُقَالُ لَهَا شَاهِرَتَا، فَحَاصَرْنَاهَا شَهْرًا، حَتَّى إذَا كُنَّا ذَاتَ يَوْمٍ وَطَمِعْنَا أَنْ نُصَبِّحَهُمْ انْصَرَفْنَا عَنْهُمْ عِنْدَ الْمُقِيلِ، فَتَخَلَّفَ عَبْدٌ مِنَّا فَاسْتَأْمَنُوهُ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَمَانًا ثُمَّ رَمَى بِهِ

ص: 467

وَلَوْ أَمِنَ الصَّبِيُّ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَعَلَى الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ.

إلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَجَعْنَا إلَيْهِمْ خَرَجُوا إلَيْنَا فِي ثِيَابِهِمْ وَوَضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقُلْنَا لَهُمْ: مَا شَأْنُكُمْ، فَقَالُوا أَمِنْتُمُونَا وَأَخْرَجُوا إلَيْنَا السَّهْمَ فِيهِ كِتَابٌ بِأَمَانِهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا عَبْدٌ وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، قَالُوا: لَا نَدْرِي عَبْدَكُمْ مِنْ حُرِّكُمْ وَقَدْ خَرَجْنَا بِأَمَانٍ، فَكَتَبْنَا إلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَكَتَبَ: إنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَانُهُ أَمَانُهُمْ.

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَهُ وَزَادَ: وَأَجَازَ عُمَرُ أَمَانَهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ فَجَازَ كَوْنُهُ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ، وَأَيْضًا جَازَ كَوْنُهُ مَحْجُورًا وَالْأَمَانُ كَانَ عَقْدَ ذِمَّةٍ وَأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ عُمَرَ قَوْلَهُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَانُهُ أَمَانُهُمْ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ يَقْتَضِي إنَاطَتَهُ مُطْلَقًا بِذَلِكَ وَالْحَدِيثُ جَيِّدٌ وَفُضَيْلُ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَمِنَ الصَّبِيُّ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ) بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ (كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَعَلَى الْخِلَافِ) بَيْنَ أَصْحَابِنَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي وَجْهٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَطَلَاقِهِ وَعَتَاقِهِ، وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ (وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ) بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ يَعْقِلُ أَنْ يَعْقِلَ الْإِسْلَامَ وَيَصِفَهُ، وَأَضَافَ أَبَا يُوسُفَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْأَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْمَنْعَ فِي الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا نَقَلَهُ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ نَاقِلًا عَنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: الْغُلَامُ الَّذِي رَاهَقَ الْحُلُمَ وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَيَصِفُهُ جَازَ لَهُ أَمَانُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُهُ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلَا يَجُوزُ، وَكَذَا وَقَعَ الْإِطْلَاقُ فِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَمَانُ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَصِفَاتِهِ، وَكَذَا الْمُخْتَلِطُ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ كَالْبَالِغِ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا بِنَفْسِهِ، فَهَذَا كَمَا تَرَى إجْرَاءٌ لِلْخِلَافِ فِي الصَّبِيِّ مُطْلَقًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْأَصَحُّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ الْعَاقِلِ مَحْجُورًا عَنْ الْقِتَالِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ، فَفِي الثَّانِي لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ. هَذَا وَمِنْ أَلْفَاظِ الْأَمَانِ قَوْلُك لِلْحَرْبِيِّ لَا تَخَفْ وَلَا تَوْجَلْ أَوْ مترسيت أَوْ لَكُمْ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ تَعَالَ فَاسْمَعْ الْكَلَامَ، ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَقَالَ النَّاطِفِيُّ فِي السَّيْرِ إمْلَاءً: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الرَّجُلِ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إلَى السَّمَاءِ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَدُوِّ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِأَمَانٍ، وَأَبُو يُوسُفَ اسْتَحْسَنَ أَنْ يَكُونَ أَمَانًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

ص: 468

(بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا)

(وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً) أَيْ قَهْرًا (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ

بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا)

لَمَّا ذَكَرَ قِتَالَ الْكُفَّارِ وَذَكَرَ مَا يَنْتَهِي بِهِ مِنْ الْمُوَادَعَةِ ذَكَرَ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ غَالِبًا وَهُوَ الْقَهْرُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى النُّفُوسِ وَتَوَابِعِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ غَالِبًا لِاسْتِقْرَاءِ تَأْيِيدِ اللَّهِ تَعَالَى جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ وَنُصْرَتَهُمْ فِي الْأَكْثَرِ (قَوْلُهُ وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً) يَجُوزُ فِي الْوَاوِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ، وَفَسَّرَ الْمُصَنِّفُ الْعَنْوَةَ بِالْقَهْرِ، وَهُوَ ضِدُّهَا لِأَنَّهَا مِنْ عَنَا يَعْنُو عَنْوَةً إذَا ذَلَّ وَخَضَعَ، وَمِنْهُ {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَتَحَ بَلْدَةً حَالَ كَوْنِ أَهْلِهَا ذَوِي عَنْوَةٍ: أَيْ ذُلٍّ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَهْرَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ، وَفِيهِ وَضْعُ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الْحَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَرَّدٍ إلَّا فِي أَلْفَاظٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَإِطْلَاقُ اللَّازِمِ وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ فِي غَيْرِ التَّعَارِيفِ بَلْ ذَلِكَ فِي الْإِخْبَارَاتِ عَلَى أَنْ يُرَادَ مَعْنَى الْمَذْكُورِ لَا الْمَجَازِيِّ، لَكِنْ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى آخَرَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ كَكَثِيرِ الرَّمَادِ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ نَفْسَ الْجُودِ كَانَ مَجَازًا مِنْ الْمُسَبَّبِ فِي السَّبَبِ.

وَالْوَجْهُ أَنَّهُ مَجَازٌ اُشْتُهِرَ، فَإِنَّ عَنْوَةً اُشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الْقَهْرِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ نَفْسِهِ تَعْرِيفًا، وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَّمَهُ) أَيْ الْبَلَدَ (بَيْنَ الْغَانِمِينَ) مَعَ رُءُوسِ أَهْلِهَا اسْتِرْقَاقًا وَأَمْوَالِهِمْ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ لِجِهَاتِهِ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَهُمْ وَقَسَّمَ مَا سِوَاهُمْ مِنْ الْأَرَاضِيِ وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَارِيِّ، وَيَضَعُ عَلَى الْأَرَاضِي الْمَقْسُومَةِ الْعُشْرَ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى الرُّءُوسِ وَالْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمَاءِ الَّذِي يَسْقِي بِهِ أَهُوَ مَاءُ الْعُشْرِ كَمَاءِ السَّمَاءِ وَالْعُيُونِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْآبَارِ أَوْ مَاءُ الْخَرَاجِ كَالْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ.

وَأَمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ فَقَطْ فَمَكْرُوهٌ، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَالِ مَا يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ إقَامَةِ الْعَمَلِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى الْأَرَاضِي إلَى أَنْ تُخْرِجَ الْغِلَالَ، وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَأَمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ مَعَ الْمَالِ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ بِرِقَابِهِمْ فَقَطْ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِرَدِّهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ.

ص: 469

(وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهمْ الْخَرَاجَ) كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُحْمَدْ مَنْ خَالَفَهُ،

نَعَمْ لَهُ أَنْ يُبْقِيَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً بِوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِلَا مَالٍ يَدْفَعُهُ إلَيْهِمْ فَيَكُونُوا فُقَرَاءَ يَكْتَسِبُونَ بِالسَّعْيِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ كَمَا سَيَذْكُرُ.

هَذَا وَقَدْ قِيلَ الْأَوْلَى الْأَوَّلُ وَهُوَ قِسْمَةُ الْأَرَاضِي وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ، وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِهَا.

ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الْأَرْضِ بِقِسْمَتِهِ عليه الصلاة والسلام خَيْبَرَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ بَلْدَةٌ وَلَا قَرْيَةٌ إلَّا قَسَمْتهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ» . وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: أَخْبَرْنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت «عُمَرَ يَقُولُ: لَوْلَا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ مَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَرْيَةً إلَّا قَسَمْتهَا سُهْمَانًا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ سُهْمَانًا» فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَسَّمَهَا كُلَّهَا.

وَاَلَّذِي فِي أَبِي دَاوُد بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ «قَسَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا» . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَسَّمَهَا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ: يَعْنِي أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ سَهْمًا» . وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَزَلَ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنْ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ.

وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ نِصْفُ النِّصْفِ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَعْنَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ.

ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ كَانَ الْوَطِيحَ وَالْكَتِيبَةَ وَالسَّلَالِمَ وَتَوَابِعَهَا، فَلَمَّا صَارَتْ الْأَمْوَالُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُمَّالٌ يَكْفُونَهُمْ عَمَلَهَا فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ فَعَامَلَهُمْ. زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ فَعَامَلَهُمْ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَ عُمَرُ، فَكَثُرَ الْعُمَّالُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَوُوا عَلَى الْعَمَلِ، فَأَجْلَى عُمَرُ رضي الله عنه الْيَهُودَ إلَى أَرْضِ الشَّامِ وَقَسَمَ الْأَمْوَالَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْيَوْمِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي فِي أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ كُلُّهَا عَنْوَةً أَوْ بَعْضُهَا صُلْحًا، وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَوَّلَ.

وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ الثَّانِيَ، وَغَلَّطَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: وَإِنَّمَا دَخَلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحِصْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَهُمَا أَهْلُهُمَا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَهُمَا الْوَطِيحُ وَالسَّلَالِمُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَاصَرَهُمْ فِيهِمَا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ، وَأَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ فَفَعَلَ، فَحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَمْوَالَ وَجَمِيعَ الْحُصُونِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنِك الْحِصْنَيْنِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ ذَيْنِك الْحِصْنَيْنِ مَغْنُومِينَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ صُلْحٌ، وَلَعَمْرِي إنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَضَرْبٌ مِنْ الصُّلْحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا أَرْضَهُمْ إلَّا بِالْحِصَارِ وَالْقِتَالِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِ سَائِرِ أَرْضِ خَيْبَرَ كُلِّهَا عَنْوَةً غَنِيمَةً مَقْسُومَةً بَيْنَ أَهْلِهَا، إلَى أَنْ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ صُلْحًا لَمَلَكَهَا أَهْلُهَا كَمَا مَلَكَ أَهْلُ الصُّلْحِ أَرْضَهُمْ وَسَائِرَ أَمْوَالِهِمْ» فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَيْ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً دُونَ مَا قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْهُ اهـ (قَوْلُهُ: وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ إلَى قَوْلِهِ: هَكَذَا فَعَلَ عُمَرُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ) لَا شَكَّ فِي إقْرَارِ عُمَرَ رضي الله عنه أَهْلَ السَّوَادِ

ص: 470

وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ قُدْوَةٌ فَيَتَخَيَّرُ.

وَقِيلَ الْأَوْلَى هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ، وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لِيَكُونَ عِدَّةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَهَذَا فِي الْعَقَارِ. أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فِيهِ،

وَوَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ عَمِلَهُ صَاحِبُهُ أَوْ لَمْ يَعْمَلْهُ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَفَرَضَ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةً وَعَلَى الرِّطَابِ خَمْسَةً، وَفَرَضَ عَلَى رِقَابِ الْمُوسِرِينَ فِي الْعَامِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَعَلَى مَنْ دُونَهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَحُمِلَ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ إلَى عُمَرَ ثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، إلَّا أَنَّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَجُعِلَتْ لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَالْمَنْقُولَاتِ لِلْغَانِمَيْنِ.

وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّهَا بِأَهْلِ الْخُمُسِ لَكِنَّهُ اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ وَاسْتَرَدَّهَا وَرَدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: بَاعَهَا مِنْ أَهْلِهَا بِثَمَنٍ مُنَجَّمٍ. وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي أَنَّ السَّوَادَ فُتِحَ عَنْوَةً، وَأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَظَّفَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مُحْتَجًّا قَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} إلَى قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أَيْ الْغَنِيمَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لَهُمْ بِالْمَنِّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ، وَتَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَدَعَا عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ.

قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَلَمْ يُحْمَدُوا وَنَدِمُوا وَرَجَعُوا إلَى رَأْيِهِ.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْأَرَاضِي لَيْسَ حَتْمًا أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْضَهَا، وَلِهَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ تَصِيرُ الْأَرْضُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا بَلْ عَلَى نَقِيضِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ» وَلَوْ كَانَ صُلْحًا لَأَمِنُوا كُلُّهُمْ بِهِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ وَإِلَى مَا ثَبَتَ مِنْ إجَارَةِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ

ص: 471

وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِي الْمَنِّ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ أَوْ مِلْكِهِمْ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُعَادَلُ، وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادَلٍ لِقَتْلِهِ، بِخِلَافِ الرِّقَابِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا؛ لِأَنَّهُمْ كَالْأُكْرَةِ الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ وَالْمُؤَنِ مُرْتَفِعَةٌ مَعَ مَا إنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ، وَالْخَرَاجُ وَإِنْ قَلَّ حَالًا فَقَدْ جَلَّ مَآلًا لِدَوَامِهِ، وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرِّقَابِ وَالْأَرَاضِيِ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ بِقَدْرِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الْعَمَلُ لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ.

إجَارَتِهِ وَمُدَافَعَتِهَا عَلَيْهَا عَنْ قَتْلِهِ، «وَأَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ بَعْدَ دُخُولِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» .

وَأَظْهَرُ مِنْ الْكُلِّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام فِي الصَّحِيحَيْنِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَا يُسْفَكُ بِهَا دَمٌ، إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا لَهُ إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ» فَقَوْلُهُ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) فَعِنْدَهُ يَقْسِمُ الْكُلَّ (لِأَنَّ فِي الْمَنِّ) بِالْأَرْضِ (إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ) عَلَى قَوْلِكُمْ (أَوْ مِلْكِهِمْ) عَلَى قَوْلِي (فَلَا يَجُوزُ) لِلْإِمَامِ ذَلِكَ (بِلَا بَدَلٍ يُعَادِلُهُ وَالْخَرَاجُ لَا يُعَادِلُ لِقِلَّتِهِ) بِالنِّسْبَةِ إلَى رَقَبَةِ الْأَرْضِ (بِخِلَافِ الرِّقَابِ لِأَنَّ لِلْأَمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ) مِنْ فِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه مَعَ وُجُودِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُعَارِضُوهُ فَكَانَ إجْمَاعًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِمُخَالَفَةِ بِلَالٍ وَمَنْ مَعَهُ. أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَوَّغْ اجْتِهَادُهُمْ بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَلَوْ سَوَّغُوا لَهُمْ ذَلِكَ لَمَّا دَعَا عَلَى الْمُخَالِفِ (وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا) لِلْمُسْلِمِينَ (لِأَنَّهُمْ) يَصِيرُونَ (كَالْأُكْرَةِ الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمُؤَنِ) عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَفِي هَذَا مِنْ النَّظَرِ مَا لَا يَخْفَى (مَعَ أَنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ) فَيَحْصُلُ عُمُومُ النَّفْعِ لِلْمُسْلِمِينَ (وَالْخَرَاجُ، وَإِنْ قَلَّ حَالًا فَقَدْ جَلَّ مَآلًا) فَرُبَّمَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ أَضْعَافُ

ص: 472

قَالَ (وَهُوَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ قَتَلَ» ، وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الْفَسَادِ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ) لِأَنَّ فِيهَا دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ)

قِيمَةِ الْأَرْضِ

(قَوْلُهُ وَهُوَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ) يَعْنِي إذَا لَمْ يُسْلِمُوا (لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ قَتَلَ) مِنْ الْأُسَارَى إذَا لَا شَكَّ فِي قَتْلِهِ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ الَّذِي قَالَتْ فِيهِ أُخْتُهُ قَتِيلَةُ الْأَبْيَاتِ الَّتِي مِنْهَا:

يَا رَاكِبًا إنَّ الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ

مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ

أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا فَإِنَّ تَحِيَّةً

مَا إنْ تُزَلْ بِهَا الرَّكَائِبُ تَخْفِقُ

مِنِّي إلَيْك وَعَبْرَةٌ مَسْفُوحَةٌ

جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ

مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا

مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ الْأَبْيَاتِ

وَطَعِيمَةُ بْنُ عَدِيٍّ وَهُوَ أَخُو الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ.

وَأَمَّا مَا قَالَ هُشَيْمٌ إنَّهُ قَتَلَ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ فَغَلَطَ بِلَا شَكٍّ وَكَيْفَ وَهُوَ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا لَشَفَّعْته فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى» (وَلِأَنَّ فِي قَتْلِهِمْ حَسْمَ مَادَّةِ الْفَسَادِ) الْكَائِنِ مِنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَصْلَحَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) وَلِهَذَا قُلْنَا: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْغُزَاةِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرًا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الرَّأْيَ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ فَقَدْ يَرَى مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِرْقَاقِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَاتَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَتَلَ بِلَا مُلْجِئٍ بِأَنْ خَافَ الْقَاتِلُ شَرَّ الْأَسِيرِ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُ إذَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ مَقْصُودِهِ وَلَكِنْ لَا يَضْمَنُ بِقَتْلِهِ شَيْئًا (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارَ ذِمَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ السَّوَادِ. وَقَوْلُهُ (إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ) يَعْنِي إذَا أُسِرُوا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْأُسَارَى، وَيَتَحَقَّقُ الْأَسْرُ

ص: 473

عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ) لِأَنَّ فِيهِ تَقْوِيَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَسْلَمُوا لَا يَقْتُلُهُمْ لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ بِدُونِهِ (وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ) تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ إسْلَامِهِمْ قَبْلَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ بَعْدُ (وَلَا يُفَادَى بِالْأُسَارَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُفَادَى بِهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَلَهُ أَنَّ فِيهِ مَعُونَةً لِلْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَدَفْعُ شَرِّ حَرْبِهِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ابْتِلَاءً فِي حَقِّهِ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْنَا، وَالْإِعَانَةُ بِدَفْعِ أَسِيرَهُمْ إلَيْهِمْ مُضَافٌ إلَيْنَا.

فِي الْمُرْتَدِّينَ إذَا غُلِبُوا وَصَارُوا حَرْبًا (عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي بَابِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ بَلْ إمَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ (فَإِنْ أَسْلَمَ الْأُسَارَى) بَعْدَ الْأَسْرِ (لَا يَقْتُلُهُمْ) لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَتْلِهِمْ دَفْعُ شَرِّهِمْ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي الرِّقَّ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَقَدْ وُجِدَ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمُلْكِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْعَرَبِ (بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْأَخْذِ) لَا يَسْتَرِقُّونَ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا؛ لِأَنَّهُ إسْلَامٌ قَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمُلْكِ فِيهِمْ (قَوْلُهُ وَلَا يُفَادِي بِالْأُسَارَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) هَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَعَلَيْهَا مَشَى الْقُدُورِيُّ وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُفَادِي بِهِمْ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ إلَّا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِنَّ عِنْدَهُمْ، وَمَنَعَ أَحْمَدُ الْمُفَادَاةَ بِصِبْيَانِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ.

قِيلَ: وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأُسَارَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا بَعْدَهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ بِكُلِّ حَالٍ.

وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ (أَنَّ فِيهِ مَعُونَةَ الْكَفَرَةِ لِأَنَّهُ يَعُودُ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَدَفْعُ شَرِّ حِرَابَتِهِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ابْتِلَاءً فِي حَقِّهِ فَقَطْ) وَالضَّرَرُ بِدَفْعِ أَسِرْهُمْ إلَيْهِمْ يَعُودُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمُوَافَقَةِ لِقَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ عَظِيمَةٌ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي يَعُودُ إلَيْنَا بِدَفْعِهِ إلَيْهِمْ يَدْفَعُهُ ظَاهِرًا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَتَلَخَّصُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ ضَرَرُ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَقُومُ بِدَفْعِهِ وَاحِدٌ مِثْلُهُ ظَاهِرًا فَيَتَكَافَآنِ، ثُمَّ يَبْقَى فَضِيلَةُ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي زِيَادَةُ تَرْجِيحٍ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 474

أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا. وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتَدَلَّا بِأُسَارَى بَدْرٍ، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِمُسْلِمٍ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا إذَا طَابَتْ نَفْسُهُ بِهِ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى الْأُسَارَى خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ «مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}» وَلِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ وَالْقَسْرِ ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ

فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ «خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ أَمَّرَهُ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ قَالَ: فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السُّوقِ فَقَالَ لِي: يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ: أَعْنِي الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ نَفَّلَهُ إيَّاهَا، فَقُلْت: هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ مَا كَشَفْت لَهَا ثَوْبًا، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ» إلَّا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ رَأْيَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَادُونَ بِالنِّسَاءِ وَيَبْقَى الْأَوَّلُ (قَوْلُهُ أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا) فِي الْمُفَادَاةِ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ رَدِّهِ حَرْبًا عَلَيْنَا (وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأُسَارَى بَدْرٍ) إذْ لَا شَكَّ فِي احْتِيَاجِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ فِي شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إذَا ذَاكَ، فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ الْمُفَادَاةِ الْكَائِنَةِ فِي بَدْرٍ بِالْمَالِ.

وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ تِلْكَ الْمُفَادَاةِ مِنْ الْعَتَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} أَيْ يَقْتُلَ أَعْدَاءَ اللَّهِ مِنْ الْأَرْضِ فَيَنْفِيَهُمْ عَنْهَا {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} قَوْله تَعَالَى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} وَهُوَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا قَبْلَ النَّهْيِ، وَلَمْ يَكُنْ نَهَاهُمْ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} مِنْ الْغَنَائِمِ وَالْأُسَارَى {عَذَابٌ عَظِيمٌ} ثُمَّ أَحَلَّهَا لَهُ وَلَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى فَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} هِيَ لِلْمَجْمُوعِ مِنْ الْفِدَاءِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ لِلْغَنِيمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ.

قُلْنَا: لَوْ سَلَّمَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَفِي رَدِّهِ تَكْثِيرُ الْمُحَارَبِينَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ. وَفِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ. وَأَبُو بَكْرٍ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ تَقَوِّيًا وَرَجَاءَ أَنْ يُسْلِمُوا.

وَرُوِيَ «أَنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا الْفِدَاءَ نَزَلَتْ الْآيَةُ، فَدَخَلَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَبْكِي عَلَى أَصْحَابِك فِي أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» قَالَ: وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «لَوْ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرُ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» لِقَوْلِهِ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إلَيَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ وَهُوَ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا إذَا طَابَتْ نَفْسُهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ) فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَخْلِيصَ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ لِمُسْلِمٍ آخَرَ (قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى الْأُسَارَى) وَهُوَ أَنْ يُطْلِقَهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ شَيْءٍ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) إذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.

وَجْهُ قَوْلِ

ص: 475

فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَعِوَضٍ، وَمَا رَوَاهُ مَنْسُوخٌ بِمَا تَلَوْنَا

(وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَقْلِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ذَبَحَهَا وَحَرَقَهَا وَلَا يَعْقِرُهَا وَلَا يَتْرُكْهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتْرُكُهَا؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ إلَّا لِمَأْكَلَةٍ» .

وَلَنَا أَنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ يَجُوزُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ،

الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «مَنَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ مِنْهُمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ» عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِهِ إلَى عَائِشَةَ «لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، بَعَثْت زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ كَانَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى بِهَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا، فَفَعَلُوا» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَزَادَ «وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ زَيْنَبَ إلَيْهِ فَفَعَلَ» وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ مِمَّنْ مَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَّلِبُ بْنُ حَنْطَبٍ أَسَرَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَخَلَّى سَبِيلَهُ.

وَأَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ كَانَ مُحْتَاجًا ذَا بَنَاتٍ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَّ عَلَيْهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا، وَامْتَدَحَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبْيَاتٍ ثُمَّ قَدِمَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ فَأُسِرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكَّةَ بَعْدَهَا، تَقُولُ خَدَعْت مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ» وَيَكْفِي مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رحمه الله مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي أُسَارَى بَدْرٍ «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ شَارِحٍ بِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْمَنُّ؛ لِأَنَّ لَوْ لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ: يَعْنِي فَيُفِيدُ امْتِنَاعَ الْمَنِّ.

وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصَرٍ بِالْكَلَامِ أَنَّ التَّرْكِيبَ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُ لَتَرَكَهُمْ وَصِدْقُهُ وَاجِبٌ وَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ الْمَنُّ جَائِزًا فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُطْلِقُهُمْ لَوْ سَأَلَهُ إيَّاهُمْ، وَالْإِطْلَاقُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ إلَّا وَهُوَ جَائِزٌ شَرْعًا، وَكَوْنُهُ لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ، لَا يَنْفِي جَوَازَهُ شَرْعًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْمَنِّ وَهِيَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَقِصَّةُ بَدْرٍ كَانَتْ سَابِقَةً عَلَيْهَا.

وَقَدْ يُقَالُ إنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأُسَارَى بِدَلِيلِ جَوَازِ الِاسْتِرْقَاقِ، فِيهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْقَتْلَ الْمَأْمُورَ حَتْمًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ) أَيْ مِنْ مَوَاشِي أَهْلِ الْحَرْبِ (فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَقْلِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ذَبَحَهَا ثُمَّ أَحْرَقَهَا وَلَا يَعْقِرُهَا) كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُثْلَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَعَقَرَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَرَسَهُ رُبَّمَا كَانَ لِظَنِّهِ عَدَمَ الْفَتْحِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ فَخَشَى أَنْ يَنَالَ الْمُشْرِكُونَ فَرَسَهُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الذَّبْحِ لِضِيقِ الْحَالِ عَنْهُ بِالشُّغْلِ بِالْقِتَالِ أَوْ كَانَ قَبْلَ نَسْخِ الْمُثْلَةِ أَوْ عِلْمِهِ بِهَا (وَلَا يَتْرُكُهَا) لَهُمْ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَأَحْمَدُ (يَتْرُكُهَا؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ إلَّا لِمَأْكَلَةٍ») قُلْنَا: هَذَا غَرِيبٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام

ص: 476

وَلَا غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَةِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْكُفَّارِ وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ بِخِلَافِ التَّحْرِيقِ قَبْلَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَبِخِلَافِ الْعَقْرِ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَتُحْرَقُ الْأَسْلِحَةُ أَيْضًا، وَمَا لَا يَحْتَرِقُ مِنْهَا يُدْفَنُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ إبْطَالًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ.

نَعَمْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ نَفْسِهِ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه بَعَثَ جُيُوشًا إلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ: إنِّي أُوصِيَك بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلُنَّ صَبِيًّا وَلَا امْرَأَةً وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلَا بَقَرَةً إلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تُخْرِبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تُحَرِّقَنَّ، وَلَا تُغْرِقَنَّ، وَلَا تَجْبُنْ، وَلَا تَغْلُلْ. ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا آنَسَ الْفَتْحُ وَصَيْرُورَةُ الْبِلَادِ دَارَ إسْلَامٍ وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَمِرَّ فِي بُعُوثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَبِاعْتِبَارِهِ كَانَ ذَلِكَ وَقَدْ قُلْنَا بِذَلِكَ. وَذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَا تُحْرِقْ وَلَا تُخْرِبْ لِأَنَّهُ إتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ لَا تُحَرِّقَنَّ وَهُوَ رضي الله عنه قَدْ عَلِمَ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «أَغِرْ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ثُمَّ حَرِّقْ» بَقِيَ مُجَرَّدُ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ وَأَنَّهُ لِغَرَضِ الْأَكْلِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ (وَلَا غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَتِهِمْ) وَتَعْرِيضِهِمْ عَلَى الْهَلَكَةِ وَالْمَوْتِ وَإِنَّمَا يَحْرِقُ (لِيَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْكُفَّارِ وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ) وَالتَّحْرِيقُ لِهَذَا الْغَرَضِ الْكَرِيمِ (بِخِلَافِ التَّحْرِيقِ قَبْلَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ فَقَالَ لَنَا: إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرَقُوهُمَا بِالنَّارِ، فَلَمَّا خَرَجْنَا دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَاقْتُلُوهُمَا وَلَا تُحَرِّقُوهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَسَمَّاهُمَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَطَوَّلَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَذَكَرَ السَّبَبَ أَنَّهُمَا كَانَا رَوَّعَا زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَرَجَتْ لَاحِقَةً بِهِ عليه الصلاة والسلام حَتَّى أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا. وَالْقَضِيَّةُ مُفَصَّلَةٌ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مَعْرُوفَةٌ لِأَهْلِ السِّيَرِ.

وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا «تَحْرِيقَ عَلِيٍّ رضي الله عنه الزَّنَادِقَةَ الَّذِينَ أَتَى بِهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَيَّانِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنها فَأَخَذْتُ بُرْغُوثًا فَأَلْقَيْته فِي النَّارِ، فَقَالَتْ: سَمِعْت أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ» هَذَا (وَتُحْرَقُ الْأَسْلِحَةُ أَيْضًا، وَمَا لَا يَحْتَرِقُ مِنْهَا كَالْحَدِيدِ يُدْفَنُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ إبْطَالًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ) وَمَا فِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ: تُتْرَكُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي أَرْضٍ غَامِرَةٍ: أَيْ خَرِبَةٍ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا كَيْ لَا يَعُودُوا حَرْبًا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ بِهِنَّ النَّسْلُ وَالصِّبْيَانُ يَبْلُغُونَ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا فَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْذِيبِ، ثُمَّ هُمْ قَدْ صَارُوا أُسَارَى بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ.

وَقَدْ «أَوْصَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَسْرَى خَيْرًا» . حَدَّثَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَقْبَلَ بِالْأُسَارَى فَرَّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا، فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ: مَرَّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي فَقَالَ لَهُ شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ فَإِنَّ أُمَّهُ

ص: 477

(وَلَا يُقَسِّمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْغَانِمِينَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ وَيَبْتَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكِفَايَةِ. لَهُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاسْتِيلَاءُ إذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فِي الصَّيُودِ، وَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِيلَاءِ سِوَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَقَدْ تَحَقَّقَ. وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ» ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيهِ، وَالْقِسْمَةُ بَيْعٌ مَعْنًى فَتَدْخُلُ تَحْتَهُ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ وَالثَّانِي مُنْعَدِمٌ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ وَوُجُودِهِ ظَاهِرًا.

ذَاتُ مَتَاعٍ، قَالَ: وَكُنْت فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ فَكَانُوا إذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعِشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُمْ بِنَا، مَا يَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةٌ مِنْ الْخُبْزِ إلَّا نَفَحَنِي بِهَا، قَالَ: فَأَسْتَحْيِي فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا» فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلُوا جُوعًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَضْطَرُّوا إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْحَمْلِ وَالْمِيرَةِ فَيَتْرُكُوا ضَرُورَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ وَلَا تُقَسَّمُ غَنِيمَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى تَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) إذَا انْهَزَمَ الْكُفَّارُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: الْأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يُقَسِّمَهَا حَتَّى يُحْرِزَهَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ. وَعَنْهُ إنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ الْإِمَامِ حَمُولَةٌ يَحْمِلُهَا عَلَيْهَا يُقَسِّمُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. (وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْغَانِمِينَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ) بِالْهَزِيمَةِ وَيَلْزَمُهُ أَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ هُنَاكَ لَا تُفِيدُ مِلْكًا إلَّا إذَا كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهُ أَمْضَى الْقَضَاءَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ أَوْ كَانَ لِحَاجَةٍ فَإِنَّ الْحَاجَةَ مَوْضِعُهَا مُسْتَثْنًى. وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْغَانِمِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِالْقِسْمَةِ حَيْثُمَا كَانَتْ، أَوْ بِاخْتِيَارِ الْغَانِمِ التَّمَلُّكَ، وَلَيْسَ هُوَ قَائِلًا إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْغَانِمِينَ بِالْهَزِيمَةِ كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ.

وَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقَسْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْحَقَّ، لِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ عَبْدًا بَعْدَ الْإِحْرَازِ لَا يَعْتِقُ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مِلْكٌ مُشْتَرَكٌ عَتَقَ بِعِتْقِ الشَّرِيكِ وَيَجْرِي فِيهِ مَا عُرِفَ فِي عِتْقِ الشَّرِيكِ، وَتَخْرُجُ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا: مِنْهَا لَوْ وَطِئَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَاحِدَةً مِنْ السَّبْيِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ عِنْدَهُ لَا لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ الْهَزِيمَةِ بَلْ لِاخْتِيَارِهِ التَّمَلُّكَ فَبِالْهَزِيمَةِ ثَبَتَ لِكُلٍّ حَقُّ الْمِلْكِ، فَإِنْ سَلَّمْت بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَخَذَهَا، وَإِلَّا أَخَذَهَا وَكَمَّلَ مِنْ مَالِهِ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْحَمْلِ.

وَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْدُثُ لِثُبُوتِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَتُقْسَمُ الْجَارِيَةُ وَالْوَلَدُ وَالْعُقْرُ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عِنْدَنَا، وَإِنْ تَأَكَّدَ الْحَقَّ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ، بِخِلَافِ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ فَيَتَمَلَّكُهَا بِنَاءً عَلَى الِاسْتِيلَادِ، وَلَيْسَ لَهُ هُنَا تَمَلُّكُ

ص: 478

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْجَارِيَةِ بِدُونِ رَأْيِ الْإِمَامِ. نَعَمْ لَوْ قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ عَلَى الرَّايَاتِ أَوْ الْعَرَّافَةِ فَوَقَعَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ أَهْلِ رَايَةٍ صَحَّ اسْتِيلَادُ أَحَدِهِمْ لَهَا لِأَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُهُ لَهَا لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ الرَّايَةِ، وَالْعَرَّافَةُ شَرِكَةُ مِلْكٍ، وَعِتْقُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ نَافِذٌ، لَكِنَّ هَذَا إذَا قَلُّوا حَتَّى تَكُونَ الشَّرِكَةُ خَاصَّةً، أَمَّا إذَا كَثُرُوا فَلَا؛ لِأَنَّ بِالشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِعْتَاقِ.

قَالَ: وَالْقَلِيلُ إذَا كَانُوا مِائَةً أَوْ أَقَلَّ، وَقِيلَ أَرْبَعُونَ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى، قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُوَقِّت وَيُجْعَلَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

وَمِنْهَا جَوَازُ الْبَيْعِ مِنْ الْإِمَامِ لِبَعْضِ الْغَنِيمَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. وَمِنْهَا لَوْ مَاتَ بَعْضُ الْغُزَاةِ أَوْ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوَرَّثُ سَهْمُهُ عِنْدَنَا وَيُوَرَّثُ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى التَّأَكُّدِ بِالْهَزِيمَةِ حَتَّى صَحَّ مِنْهُ التَّمَلُّكُ وَالتَّأَكُّدُ يَكْفِي لِلْإِرْثِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ إنَّهُ يُوَرَّثُ إذَا مَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمِ لِلتَّأَكُّدِ لَا لِلْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ يُوَرَّثُ كَحَقِّ الرَّهْنِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، بِخِلَافِ الضَّعِيفِ كَالشُّفْعَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْحَقِّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِإِبَاحَةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَبِعَدَمِ ضَمَانِ مَا أُتْلِفَ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ فَكَانَ حَقًّا ضَعِيفًا كَحَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَالشَّافِعِيَّةُ إنْ مَنَعُوا الثَّانِيَ لَمْ يَمْنَعُوا الْأَوَّلَ.

وَمِنْهَا لَوْ لَحِقَ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقَسْمِ شَارَكَ عِنْدَنَا لَا عِنْدَهُ لِلتَّأَكُّدِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلْغُزَاةِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ حَقُّ الْمِلْكِ لَا حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْتِقُ، وَكَذَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ أَخْذِهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْغُزَاةِ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِي الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ. ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَمَعْنَاهُ: إذَا لَمْ يُؤْخَذُوا فَإِنَّ إسْلَامَهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا يُزِيلُ عَنْهُمْ الرِّقَّ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ فِي الْغَنِيمَةِ كَالْمَدَدِ. وَفِي التُّحْفَةِ: لَوْ أَتْلَفَ وَاحِدٌ مِنْ الْغُزَاةِ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا، قَالَ: وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ حَقُّ الْمِلْكِ وَيَسْتَقِرُّ، وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْغُزَاةِ يُورَثُ نَصِيبُهُ، وَلَوْ بَاعَ الْإِمَامُ جَازَ، وَلَوْ لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ لَا يُشَارِكُونَ وَيَضْمَنُ الْمُتْلَفَ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي التُّحْفَةِ مَاشٍ مَعَ مَا فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْحَقُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَيَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ وَيَمْلِكُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَوَجَّهَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ يَتِمُّ بِالْهَزِيمَةِ؛ لِأَنَّ بِهَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيَمْلِكُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ إلَّا سَبْقَ الْيَدِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ كَمَا فِي الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَأَوْطَاسَ فِي دِيَارِهِمْ» .

وَلَنَا مَنْعُ أَنَّ السَّبَبَ تَمَّ فَإِنَّ تَمَامَهُ بِثُبُوتِ الْيَدِ النَّاقِلَةِ، أَيْ قُدْرَةِ النَّقْلِ وَالتَّصَرُّفِ كَيْفَ شَاءَ نَقْلًا وَادِّخَارًا وَهَذَا مُنْتَفٍ عَنْهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِنْقَاذَ مِنْهُمْ لَيْسَ بِبَعِيدٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّارَ مُضَافَةٌ إلَيْهِمْ فَدَلَّ أَنَّهُ مَقْهُورٌ مَا دَامَ فِيهَا نَوْعًا مِنْ الْقَهْرِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا دَارَ حَرْبٍ وَيَنْصَرِفَ عَنْهَا فَكَانَ قَاهِرًا مِنْ وَجْهٍ مَقْهُورًا مِنْ وَجْهٍ، فَكَانَ اسْتِيلَاءً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَمْ يَتِمَّ سَبَبُ مِلْكِ الْمُبَاحِ فَلَمْ يَمْلِكْ فَلَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهَا بَيْعُ مَعْنًى، فَإِنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةٌ وَفِي الْقِسْمَةِ ذَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ شَرِيكٍ لَمَّا اجْتَمَعَ نَصِيبُهُ فِي الْعَيْنِ كَانَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ نَصِيبِهِ فِي الْبَاقِي، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْعَبْدُ مُرَاغَمًا حَيْثُ يَعْتِقُ بِوُصُولِهِ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

وَكَذَا الْمَرْأَةُ الْمُرَاغَمَةُ تَبِينُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي عَبِيدِ الطَّائِفِ هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْفِي فِيهِ امْتِنَاعُهُ ظَاهِرًا فِي الْحَالِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى

ص: 479

ثُمَّ قِيلَ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ تَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ إذَا قَسَّمَ الْإِمَامُ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ. وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَسِّمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ رَاجِحٌ،

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إلَى قَوْلِهِ {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الْآيَةَ، وَقِسْمَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ حُنَيْنٍ كَانَ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ إلَى الْجِعْرَانَةِ، وَكَانَتْ أَوَّلَ حُدُودِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ وَأَرْضُ حُنَيْنٍ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَهَذَا لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ وَبِثُبُوتِ الْأَمْنِ لِلْمُقِيمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، وَكَوْنُهَا مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا بِالْأَوَّلِ فَقَطْ.

وَأَنْتَ إذَا عَلِمْت أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ كَمَا قِيلَ بَلْ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِمُجَرَّدِ الْهَزِيمَةِ بَلْ فِي أَنَّ الْقِسْمَةَ هَلْ تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْكَنَكَ أَنْ تَجْعَلَ الدَّلِيلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى ذَلِكَ. وَتَقْرِيرُهُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ صِحَّتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَمَامِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى الْمُبَاحِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقِسْمُ مَلَكَ.

وَلَنَا مَنْعُ تَمَامِ السَّبَبِ فَلَا تُفِيدُ الْقِسْمَةُ الْمِلْكَ إلَّا عِنْدَ تَمَامِهِ وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِسْمَةَ إنَّمَا لَا تَصِحُّ إذَا قَسَمَ بِلَا اجْتِهَادٍ أَوْ اجْتَهَدَ فَوَقَعَ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ، أَمَّا إذَا قَسَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجْتَهِدًا فَلَا شَكَّ فِي الْجَوَازِ وَثُبُوتِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ» فَغَرِيبٌ جِدًّا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ أَوْ فِي كَرَاهَتِهَا، فَقِيلَ: الْمُرَادُ عَدَمُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا تَثْبُتَ الْأَحْكَامُ مِنْ حِلِّ الْوَطْءِ وَنَفَاذِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ.

وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ لَا بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُمْ إذَا اشْتَغَلُوا بِهَا يَتَكَاسَلُونَ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَرُبَّمَا يَتَفَرَّقُونَ، فَرُبَّمَا يَكُرُّ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِهِمْ فَكَانَ الْمَنْعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَا يُعْدَمُ الْجَوَازُ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَقْسِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «مَا قَسَمَ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ» ، وَالْأَفْعَالُ الْمُتَّفِقَةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا تَكُونُ إلَّا لِدَاعٍ هِيَ كَرَاهَةُ خِلَافِهِ أَوْ بُطْلَانِهِ، وَالْكَرَاهَةُ أَدْنَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ. قِيلَ: وَنُقِلَ الْخِلَافُ هَكَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَبْسُوطِ غَيْرَ جَيِّدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ خِلَافٌ عَنْهُمْ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الْإِفْرَادِيَّةَ الْمَوْضُوعَةَ مُصَرِّحَةٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، مِثْلَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ لَا يُوَرَّثُ حَقُّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَنَّهُ لَا يُبَاعُ مِنْ ذَلِكَ الْعَلَفِ وَنَحْوِهِ شَيْءٌ، وَمِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ، وَجَوَازُهُ قَبْلَهُ وَمُشَارَكَةُ الْمَدَدِ اللَّاحِقِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، ثُمَّ وَجْهُ الْكَرَاهَةِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ:

ص: 480

إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ سَلَبِ الْجَوَازِ فَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ إيرَاثِ الْكَرَاهَةِ.

(وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ) لِاسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ أَوْ شُهُودُ الْوَقْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا (وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَارَكُوهُمْ فِيهَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ

أَيْ بُطْلَانِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ رَاجِحٌ عَلَى دَلِيلِ جَوَازِهَا، إلَّا أَنَّهُ تَقَاعُدٌ عَنْ سَلْبِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ سَلْبُ الْجَوَازِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَبْطُلْ الْمَرْجُوحُ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ حَصَلَ مِنْ مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِينَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ الْكَرَاهَةُ كَمَا فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ لَمَّا انْتَفَتْ النَّجَاسَةُ لَمْ تَنْتَفِ الْكَرَاهَةُ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَنْبُو عَنْ الْقَوَاعِدِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ مِنْ الدَّلِيلِينَ وَتَرْكِ الْمَرْجُوحِ.

وَإِذَا كَانَ الرَّاجِحُ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ تَعَيَّنَ الْحُكْمُ بِالْبُطْلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدَهُ وَكُوِّنَ لَهُ مُخَالِفٌ وَلَا إجْمَاعَ لَا يُوجِبُ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ النُّزُولُ عَنْ مُقْتَضَاهُ وَإِلَّا فَكُلُّ خِلَافِيَّةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ كَذَلِكَ، وَإِذَا لَزِمَ حُكْمُ الْبُطْلَانِ فَمَا مُوجِبُ إثْبَاتِ الْكَرَاهَةِ؟ وَالتَّحْقِيقُ فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ لِعَدَمِ تَحَامِيهَا مِنْ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ حُرْمَةِ اللَّحْمِ الْمُوجِبَ لِنَجَاسَةِ السُّؤْرِ عَارِضَةُ شِدَّةِ الْمُخَالَطَةِ وَتَرَجَّحَ عَلَيْهِ فَانْتَفَتْ النَّجَاسَةُ.

وَالْكَرَاهَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَاجُ خُصُوصُهُ إلَى دَلِيلٍ، وَشِدَّةُ الْمُخَالَطَةِ دَلِيلُ الطَّهَارَةِ فَقَطْ فَتَبْقَى الْكَرَاهَةُ بِلَا دَلِيلٍ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ، أَمَّا إذَا تَحَقَّقَتْ لَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ قَسَمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ

(قَوْلُهُ وَالرِّدْءُ) أَيْ الْعَوْنُ (وَالْمُقَاتِلُ) أَيْ الْمُبَاشِرُ لِلْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ وَكَذَا أَمِيرُ الْعَسْكَرِ (سَوَاءٌ) فِي الْغَنِيمَةِ لَا يَتَمَيَّزُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى آخَرَ بِشَيْءٍ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَسَنُبَيِّنُ سَبَبَهُ فِيمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَارَكُوهُمْ) أَيْ الْمَدَدَ (فِيهَا) وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَجَازَ أَنْ يُشَارِكَهُمْ الْمَدَدَ إذَا قَامَ بِهِ الدَّلِيلُ، وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَدَدِ إلَّا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْقِسْمَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَبَيْعُ الْإِمَامِ الْغَنِيمَةَ قَبْلَ لِحَاقِ الْمَدَدِ. هَذَا وَعَلَى مَا حَقَقْنَاهُ الْمَبْنِيُّ تَأَكَّدَ وَعَدَمُهُ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «بَعَثَ عليه الصلاة والسلام أَبَانًا عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ،

ص: 481

وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ عِنْدَنَا بِالْإِحْرَازِ أَوْ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِبَيْعِهِ الْمَغَانِمَ فِيهَا، لِأَنَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ شَرِكَةِ الْمَدَدِ. قَالَ (وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُسْهِمُ لَهُمْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الْجِهَادَ مَعْنًى بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ.

وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ تُوجَدُ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَانْعَدَمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ الْقِتَالُ فَيُفِيدُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا عِنْدَ الْقِتَالِ، وَمَا رَوَاهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه

فَقَدِمَ أَبَانٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا فَتَحَهَا، إلَى أَنْ قَالَ: فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ» لَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ وُصُولَ الْمَدَدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُوجِبُ شَرِكَةً، وَخَيْبَرُ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ بِمُجَرَّدِ فَتْحِهَا فَكَانَ قُدُومُهُمْ وَالْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا إسْهَامُهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ: «بَلَغَنَا مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي. فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا إلَى النَّجَاشِيِّ، فَوَفَيْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنَا هَاهُنَا وَأَمَرَنَا بِالْإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا فَأَقَمْنَا حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا. وَلَمْ يُسْهِمْ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ إلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا»

فَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: إنَّمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ لِيَسْتَمِيلَ قُلُوبَهُمْ لَا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ حَسَنٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْهَا. وَحَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ شَهِدُوا قَبْلَ حَوْزِ الْغَنَائِمِ خِلَافَ مَذْهَبِهِمْ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَ كَوْنِ الْوُصُولِ قَبْلَ الْحَوْزِ أَوْ بَعْدَهُ بَعْدَ كَوْنِهِ بَعْدَ الْفَتْحِ (قَوْلُهُ: وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ) أَيْ (فِي الْغَنِيمَةِ) لَا سَهْمَ وَلَا رَضْخَ (إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا) فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا كَقَوْلِنَا. وَالْآخَرُ يُسْهِمُ لَهُمْ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ، فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَعَلَيْهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه فَظَهَرُوا، فَأَرَادَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا يَقْسِمُوا لِأَهْلِ الْكُوفَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الْأَجْدَعُ تُرِيدُ أَنْ تُشَارِكَنَا فِي غَنَائِمِنَا؟ وَكَانَتْ أُذُنُهُ جُدِعَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: خَيْرُ أُذُنِي سَبَبْت، ثُمَّ كَتَبَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَكَتَبَ عُمَرُ إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه:

ص: 482

أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يُشْهِدَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ.

(وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْغَنَائِمُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ قِسْمَةَ إيدَاعٍ لِيَحْمُوَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا مِنْهُمْ فَيُقَسِّمَهَا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رِضَاهُمْ وَهُوَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَالْجُمْلَةُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ فِي الْمَغْنَمِ حَمُولَةً يَحْمِلُ الْغَنَائِمَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَمُولَةَ وَالْمَحْمُولَ مَالُهُمْ.

وَكَذَا إذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَضْلُ حَمُولَةٍ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ لِلْغَانِمِينَ أَوْ لِبَعْضِهِمْ لَا يُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ وَصَارَ كَمَا إذَا نَفَقَتْ دَابَّتُهُ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَ رَفِيقِهِ فَضْلُ حَمُولَةٍ،

الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ.

وَهَذَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ لَا يَرَى جَوَازَ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ إيَّاهُ، وَكَذَا عِنْدَ الْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِنَا، وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ (تَأْوِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ) وَالْوَقْعَةُ هِيَ الْقِتَالُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمُجْمَلِ الْوَقْعَةُ صَدْمَةُ الْحَرْبِ، وَشُهُودُهُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: بِإِظْهَارِ خُرُوجِهِ لِلْجِهَادِ وَالتَّجْهِيزِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَإِمَّا بِحَقِيقَةِ قِتَالِهِ بِأَنْ كَانَ خُرُوجُهُ ظَاهِرًا لِغَيْرِهِ كَالسُّوقِيِّ وَسَائِسِ الدَّوَابِّ فَإِنَّ خُرُوجَهُ ظَاهِرًا لِغَيْرِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ شُهُودِهِ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، فَإِذَا قَاتَلَ ظَهَرَ أَنَّهُ قَصَدَهُ غَيْرَ أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ كَالتِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لَا يَنْتَقِصُ بِهِ ثَوَابُ حَجِّهِ.

وَعَلَى كَوْنِ السَّبَبِ مَا قُلْنَا فَرْعَ مَا لَوْ أُسِرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابُوا بَعْدَهُ غَنِيمَةً ثُمَّ انْفَلَتَ فَلَحِقَ بِالْجَيْشِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا شَارَكَهُمْ فِيهَا وَفِي كُلِّ مَا يُصِيبُونَهُ وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَهُ، وَلَوْ لَحِقَ بِعَسْكَرٍ غَيْرِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُمْ وَقَدْ أَصَابُوا غَنَائِمَ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلَ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُ مَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ اللُّحُوقِ بِهِمْ الْفِرَارَ وَنَجَاةَ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا فَيُقَاتِلَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّحَاقِ بِهِمْ الْقِتَالَ، وَكَذَا مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَحِقَ بِالْعَسْكَرِ.

وَالْمُرْتَدُّ إذَا تَابَ وَلَحِقَ بِالْعَسْكَرِ، وَالتَّاجِرُ الَّذِي دَخَلَ بِأَمَانٍ إذَا لَحِقَ بِالْعَسْكَرِ إنْ قَاتَلُوا اسْتَحَقُّوا وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ

(قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيرٍ وَفَرَسٍ وَغَيْرِهِ (يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ) فَقِيلَ: قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْحَاجَةِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بِالِاجْتِهَادِ فَتَصِحُّ، وَقِيلَ قِسْمَةُ إيدَاعٍ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَسْتَرِدُّهَا فَيَقْسِمُهَا، ثُمَّ عَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْأُجْرَةِ وَهَلْ يُكْرِهُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ لَا يُكْرِهُهُمْ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمَالِ الْغَيْرِ لَا يَطِيبُ مِنْ نَفْسِهِ، فَهُوَ كَمَنْ تَلِفَتْ دَابَّتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَ رَفِيقِهِ دَابَّةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا كُرْهًا بِأَجْرِ الْمِثْلِ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ احْتِرَازٌ عَنْ مِثْلِ مَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ إجَارَةِ السَّفِينَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ أَوْ الْبَعِيرِ فِي الْبَرِّيَّةِ فَإِنَّهُ تَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا إجَارَةٌ بِأَجْرِ الْمِثْلِ جَبْرًا.

وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ يُكْرِهُهُمْ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الضَّرَرَ الْعَامَّ بِالضَّرَرِ الْخَاصِّ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِعَةٌ إلَيْهِمْ، وَالْأُجْرَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ إنْ خَافَ تَفَرُّقَهُمْ لَوْ قَسَمَهَا قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ يَفْعَلُ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَخَفْ قَسَمَهَا قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ لِلْحَاجَةِ، وَفِيهِ إسْقَاطُ الْإِكْرَاهِ وَإِسْقَاطُ الْأُجْرَةِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْمُخْتَصَرِ أَيْ الْقُدُورِيِّ

ص: 483

وَيُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِتَحْمِيلِ ضَرَرٍ خَاصٍّ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَهَا، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَصْلَ (وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَنَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ) لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِي الْمِلْكِ، وَلَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ بَعْدَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْهَزِيمَةِ يُورَثُ نَصِيبُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِيهِ عِنْدَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. .

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَأْكُلُوا مَا وَجَدُوهُ مِنْ الطَّعَامِ) قَالَ رضي الله عنه: أَرْسَلَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَاجَةِ، وَقَدْ شَرَطَهَا فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي أُخْرَى. وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ. وَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي طَعَامِ خَيْبَرَ كُلُوهَا وَاعْلِفُوهَا وَلَا تَحْمِلُوهَا» وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَسْتَصْحِبُ قُوتَ نَفْسِهِ وَعَلَفَ ظَهْرِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهَا وَالْمِيرَةُ مُنْقَطِعَةٌ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لِلْحَاجَةِ بِخِلَافِ السِّلَاحِ لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُهُ فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ، وَقَدْ تُمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا فَيَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ فِي الْمَغْنَمِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَالدَّابَّةُ مِثْلُ السِّلَاحِ، وَالطَّعَامُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ.

قَالَ (وَيَسْتَعْمِلُوا الْحَطَبَ) وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ: الطِّيبَ،

قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَصْلَ فِيهِ) وَهَذَا فِي بَيْعِ الْغُزَاةِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا بَيْعُ الْإِمَامِ لَهَا فَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ: يَعْنِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَأَقَلُّهُ تَخْفِيفُ إكْرَاهِ الْحَمْلِ عَنْ النَّاسِ أَوْ عَنْ الْبَهَائِمِ وَنَحْوِهِ وَتَخْفِيفُ مُؤْنَتِهِ عَنْهُمْ فَيَقَعُ عَنْ اجْتِهَادٍ فِي الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَقَعُ جُزَافًا فَيَنْعَقِدُ بِلَا كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا (قَوْلُهُ وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ) تَقَدَّمَ تَفْرِيعُهَا عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ قَبْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ

(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَأْكُلُوا مَا وَجَدُوهُ مِنْ الطَّعَامِ) عَلَفَ الدَّابَّةَ عَلَفًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ ضَرْبًا فَهِيَ مَعْلُوفَةٌ وَعَلِيفٌ وَالْعَلَفُ مَا اعْتَلَفَهُ. وَحَاصِلُ مَا هُنَا أَنَّ

ص: 484

(وَيُدْهِنُوا بِالدُّهْنِ وَيُوقِحُوا بِهِ الدَّابَّةَ) لِمَسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ (وَيُقَاتِلُوا بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ السِّلَاحِ، كُلُّ ذَلِكَ بِلَا قِسْمَةٍ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِلَاحٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ) لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا هُوَ إبَاحَةٌ وَصَارَ كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ، وَقَوْلُهُ وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَبِيعُونَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ بَاعَهُ أَحَدُهُمْ رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ عَيْنٍ كَانَتْ لِلْجَمَاعَةِ.

وَأَمَّا الثِّيَابُ وَالْمَتَاعُ فَيُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِلِاشْتِرَاكِ، إلَّا أَنَّهُ يُقَسِّمُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا احْتَاجُوا إلَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ فَالْمَكْرُوهُ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمَدَدِ مُحْتَمَلٌ، وَحَاجَةُ هَؤُلَاءِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا فَكَانَ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَةَ فِي السِّلَاحِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ وَاحِدٌ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَإِنْ احْتَاجَ الْكُلُّ يُقَسِّمُ فِي الْفَصْلَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا احْتَاجُوا إلَى السَّبْيِ حَيْثُ لَا يُقَسِّمُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ.

الْمَوْجُودَ إمَّا مَا يُؤْكَلُ أَوْ لَا، وَمَا يُؤْكَلُ إمَّا يُتَدَاوَى بِهِ كَالْهِلِيلَجِ أَوْ لَا، فَالثَّانِي لَيْسَ لَهُمْ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا مَا كَانَ مِنْ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ كَالْفَرَسِ فَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ بِأَنْ مَاتَ فَرَسُهُ أَوْ انْكَسَرَ سَيْفُهُ.

أَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ سَيْفَهُ وَفَرَسَهُ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ، وَلَوْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَوْ تَلِفَ نَحْوَ الْحَطَبِ، بِخِلَافِ الْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا يَخْتَصُّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَثَرًا لِلْمِلْكِ فَضْلًا عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ، بِخِلَافِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهَا سَبَبُ الرُّخْصَةِ فَيَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ إذَا انْقَضَى الْحَرْبُ، وَكَذَا الثَّوْبُ إذَا ضَرَّهُ الْبَرْدُ فَيَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ الرَّدِّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ احْتَاجَ الْكُلُّ إلَى الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ قَسَمَهَا حِينَئِذٍ بَيْنَهُمْ (وَلَمْ يَذْكُرْ) مُحَمَّدٌ رحمه الله (قِسْمَةَ السِّلَاحِ وَلَا فَرْقَ) كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِي السِّلَاحِ وَالثِّيَابِ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ السَّبْيِ لَا يَقْسِمُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ لَا مِنْ أُصُولِهَا فَيَسْتَصْحِبُهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُشَاةً، فَإِنْ لَمْ يُطِيقُوا، وَلَيْسَ مَعَهُ فَضْلُ حَمُولَةٍ قَتَلَ الرِّجَالَ وَتَرَكَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَهَلْ يُكْرَهُ مَنْ عِنْدَهُ فَضْلُ حَمُولَةٍ عَلَى الْحَمْلِ: يَعْنِي بِالْأَجْرِ فِيهِ رِوَايَتَانِ تَقَدَّمَتَا.

وَأَمَّا مَا يُتَدَاوَى بِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ تَنَاوُلُهُ، وَكَذَا الطِّيبُ وَالْأَدْهَانُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ بَلْ الْفُضُولُ.

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ» وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ بِأَحَدِهِمْ مَرَضٌ يَحُوجُهُ إلَى اسْتِعْمَالِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ كَلُبْسِ الثَّوْبِ، فَالْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ

ص: 485

قَالَ (وَمَنْ)(أَسْلَمَ مِنْهُمْ) مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ

الْحَاجَةِ.

وَأَمَّا مَا يُؤْكَلُ لَا لِلتَّدَاوِي سَوَاءٌ كَانَ مُهَيَّأً لِلْأَكْلِ كَاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ وَالْخُبْزِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالْفَاكِهَةِ الْيَابِسَةِ وَالرَّطْبَةِ وَالْبَصَلِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْأَدْهَانِ الْمَأْكُولَةِ كَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ فَلَهُمْ الْأَكْلُ، وَالْأَدْهَانُ تِلْكَ الْأَدْهَانُ؛ لِأَنَّ الْأَدْهَانَ انْتِفَاعٌ فِي الْبَدَنِ كَالْأَكْلِ وَيُوقِحُوا الدَّوَابَّ بِهَا، وَتَوْقِيحُ الدَّابَّةِ تَصْلِيبُ حَافِرِهَا بِالدُّهْنِ إذَا حَفِيَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَشْيِ. وَالرَّاءُ أَيْ التَّرْقِيحُ خَطَأٌ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ جَوَازُهُ.

وَنُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِالرَّاءِ مِنْ التَّرْقِيحِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ قَالَ: هَكَذَا قَرَأْنَا عَلَى الْمَشَايِخِ.

وَفِي الْجَمْهَرَةِ: رَقَّحَ عَيْشَهُ تَرْقِيحًا إذَا أَصْلَحَهُ

وَأَنْشَدَ:

يَتْرُكُ مَا رَقَّحَ مِنْ عَيْشِهِ

يَعِيثُ فِيهِ هَمَجُ هَامِجٍ

وَالْهَمَجُ مِنْ النَّاسِ هُمْ الَّذِينَ لَا نِظَامَ لَهُمْ، فَالتَّرْقِيحُ أَعَمُّ مِنْ التَّوْقِيحِ، وَكَذَا كُلُّ مَا يَكُونُ غَيْرَ مُهَيَّأٍ كَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فَلَهُمْ ذَبْحُهَا وَأَكْلُهَا وَيَرُدُّونَ الْجِلْدَ إلَى الْغَنِيمَةِ.

ثُمَّ شَرَطَ فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ الْحَاجَةَ إلَى التَّنَاوُلِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ تَنَاوُلُهُ إلَّا التَّاجِرَ وَالدَّاخِلَ لِخِدْمَةِ الْجُنْدِيِّ بِأَجْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَلَوْ فَعَلُوا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَيَأْخُذُ مَا يَكْفِيهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَنِسَائِهِ وَصِبْيَانِهِمْ الَّذِينَ دَخَلُوا مَعَهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ مَا يَكْفِي الدَّاخِلَ لِخِدْمَتِهِ كَعَبْدِهِ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهِ عَادَةً فَصَارَ الْحَاصِلُ مَنْعَ الدَّاخِلِ بِنَفْسِهِ دُونَ الْغَازِي أَنْ يَأْخُذَ لِأَجَلِهِ، وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْحَاجَةِ قَائِمٌ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُنْقَطِعًا عَنْ الْأَسْبَابِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ نَحْوِ الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ يُنَاطُ بِحَقِيقَةِ الْحَاجَةِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي طَعَامِ خَيْبَرَ كُلُوهَا وَاعْلِفُوهَا وَلَا تُحَمِّلُوهَا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

أَنْبَأْنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشْرَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَوْمَ خَيْبَرَ كُلُوا وَاعْلِفُوا وَلَا تَحْمِلُوا» وَأَخْرَجَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِغَيْرِ هَذَا السَّنَدِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يُوَافِقُ رِوَايَةَ السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى:" أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ ". وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هَانِئِ بْنِ كُلْثُومٍ أَنَّ صَاحِبَ جَيْشِ الشَّامِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه: إنَّا فَتَحْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ فَكَرِهْت أَنْ أَتَقَدَّمَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِأَمْرِك، فَكَتَبَ إلَيْهِ: دَعْ النَّاسَ يَأْكُلُونَ وَيَعْلِفُونَ، فَمَنْ بَاعَ شَيْئًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَفِيهِ خُمُسٌ لِلَّهِ وَسِهَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا دَلِيلُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ، فَإِنْ بَاعُوا رَدُّوا الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ عَيْنٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ اسْتِحْقَاقًا

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ) هُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا حَتَّى ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ. وَالْحُكْمُ فِيهَا مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَوَلَدَهُ الصِّغَارَ وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ إلَى آخِرِ مَا سَنَذْكُرُ.

ثَانِيهَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ مَا لَهُ هُنَاكَ فَيْءٌ إلَّا أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ كَانَ مُسْتَتْبِعًا لَهُمْ فَصَارُوا مُسْلِمِينَ فَلَا يَرُدُّ الرِّقَّ عَلَيْهِمْ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ لِانْقِطَاعِ يَدِهِ عَنْهُ بِالتَّبَايُنِ فَيَغْنَمُ، وَمَا أَوْدَعَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَيْسَ فَيْئًا لِأَنَّ يَدَهُمَا يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَتَدْفَعُ إحْرَازَ الْمُسْلِمِ فَتُرَدُّ عَلَيْهِ، وَمَا أَوْدَعَ حَرْبِيًّا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَيْءٌ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَهُ لِأَنَّ يَدَهُ تَخْلُفُ يَدَهُ.

وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا

ص: 486

(أَحْرَزَ بِإِسْلَامِهِ نَفْسَهُ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الِاسْتِرْقَاقِ (وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ) لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا (وَكُلُّ مَالٍ هُوَ فِي يَدِهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ إلَيْهِ يَدُ الظَّاهِرِينَ عَلَيْهِ (أَوْ وَدِيعَةً فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ)

لَيْسَتْ يَدًا صَحِيحَةً حَتَّى لَا تَدْفَعَ اغْتِنَامَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَمْوَالِهِ.

وَثَالِثُهَا مُسْتَأْمَنٌ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى دَارِهِ فَجَمِيعُ مَا خَلَفَهُ فِيهَا مِنْ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ وَالْمَالِ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ قَاطِعٌ لِلْعِصْمَةِ، فَبِالظُّهُورِ ثَبَتَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ، أَمَّا فِي غَيْرِ الْأَوْلَادِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِيهِمْ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَكَانُوا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ.

رَابِعُهَا: دَخَلَ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى مِنْهُمْ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ فَالْكُلُّ لَهُ إلَّا الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ فَإِنَّهَا فَيْءٌ؛ لِأَنَّ يَدَهُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَتَكُونُ يَدُهُ مُحْرِزَةً دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهَا، فَأَمَّا الْأَرْضُونَ فَالْوَجْهُ فِيهَا مَا سَنَذْكُرُ، وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ وَامْرَأَتُهُ الْحُبْلَى الْحَرْبِيَّةُ وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ وَوَدِيعَتُهُ وَلَوْ عِنْدَ حَرْبِيٍّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَدُهُ عَلَيْهَا.

وَلْنَأْتِ إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ قَالَ: وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إلَخْ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ أَسْلَمَ مُسْتَأْمَنٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا خَلَفَهُ فِيهَا حَتَّى صِغَارَهُ فَيْءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ لَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا، وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ يَخُصُّ مَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ لِمَا سَمِعْته آنِفًا مِنْ أَنَّ الَّذِي خَرَجَ فَظَهَرَ عَلَى الدَّارِ وَهُوَ عِنْدَنَا لَا يُحْرِزُ غَيْرَ بَنِيهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِكُلِّ مَنْ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ وَحِينَئِذٍ (يُحْرِزُ نَفْسَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ تَبَعًا وَكُلَّ مَالٍ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَقْدٍ وَعَبِيدٍ وَإِمَاءٍ لَمْ يُقَاتِلُوا (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ»). قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا الثِّقَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَهِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا السَّنَدِ سَنَدُ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَهَذَا مُرْسَلٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَخْرِ بْنِ الْعَيْلَةِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام غَزَا ثَقِيفًا، فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ فَدَعَاهُ: أَيْ دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَخْرًا فَقَالَ لَهُ: إنَّ الْقَوْمَ إذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ سَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ: وَسَأَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاءً لِبَنِي سُلَيْمٍ فَأَنْزَلَهُ إيَّاهُ وَأَسْلَمَ، يَعْنِي السُّلَيْمِيِّينَ، وَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْلَمْنَا وَأَتَيْنَا صَخْرًا لِيَدْفَعَ إلَيْنَا مَاءَنَا فَأَبَى، فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا صَخْرُ إنَّ الْقَوْمَ إذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَادْفَعْ إلَى الْقَوْمِ مَاءَهُمْ» وَأَبَانُ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ وَتَضْعِيفِهِ، وَصَخْرُ بْنُ الْعَيْلَةِ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ يَلِيهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ، وَيُقَالُ ابْنُ أَبِي الْعَيْلَةِ (وَلِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ الْحَقِيقِيَّةُ إلَيْهِ يَدَ الظَّاهِرِينَ عَلَيْهِ) وَقَوْلُهُ (أَوْ وَدِيعَةً) أَوْدَعَهَا (فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ

ص: 487

لِأَنَّهُ فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ (فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَى دَارِ الْحِرَابِ فَعَقَارُهُ فَيْءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ.

وَلَنَا أَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانُهَا إذَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً، وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَدَ حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ (وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ) لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ حَرْبِيَّةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ (وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ إنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا كَالْمُنْفَصِلِ.

وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا

لِأَنَّهُ فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ مُحْتَرَمَةٍ) بِنَصْبِ وَدِيعَةٍ (وَيَدُهُ) أَيْ يَدُ الْمُودِعِ (كَيَدِهِ، فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ فَعَقَارُهُ فَيْءٌ) وَمَالُهُ مِنْ زَرْعٍ قَبْلَ أَنْ يَحْصُدَ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَهُوَ كَالْمَنْقُولِ) وَلَمْ يَذْكُرُوا خِلَافًا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَعْضِهِمْ نَقَلَ الْخِلَافَ فَقَالَ (وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَدَ لَا تَثْبُتُ حَقِيقَةً عَلَى الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ) وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا فَقَالَ: فَأَمَّا عَقَارُهُ لَا يَصِيرُ غَنِيمَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَسْتَحْسِنُ فَأَجْعَلُ عَقَارَهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ كَالْمَنْقُولِ اهـ.

وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ فَيْئًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ فَيْءٌ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِقَوْلِهِ (وَلَنَا أَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانِهَا؛ إذْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً) بَلْ حُكْمًا، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ دَارَ أَحْكَامٍ فَكَانَتْ يَدُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الدَّارِ وَبَعْدَ ظُهُورِهِمْ يَدُهُمْ أَقْوَى مِنْ يَدِ السُّلْطَانِ وَأَهْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ شَرْعًا سَالِبَةً لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَظَاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبَانَ يَشْهَدُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ فَيْءٍ فَإِنَّهُ قَالَ لِصَخْرٍ حِينَ مَنَعَهُمْ مَاءَهُمْ:«إنَّ الْقَوْمَ إذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ» فَسَمَّاهُ مَالًا. وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَاءِ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ لَا نَفْسُ الْمَاءِ بِخُصُوصِهِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ أَنْزَلَنِي فَأَنْزَلَهُ إيَّاهُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» بِنَاءً عَلَى تَسْمِيَتِهَا مَالًا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، لَكِنْ قَدْ ضَعَّفَ أَبَانًا جَمَاعَةٌ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةُ الْمَاءِ وَنُزُولُ الْأَرْضِ لِأَجْلِهِ.

قَالَ (وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ حَرْبِيَّةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ) وَإِنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِخَيْرِ الْأَبَوَيْنِ دِينًا (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ إنَّهُ مُسْلِمٌ كَالْمُنْفَصِلِ. وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا

ص: 488

فَيَرِقُّ بِرِقِّهَا وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ لِأَنَّهُ حُرٌّ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ عِنْدَ ذَلِكَ (وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ) لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ حَرْبِيُّونَ وَلَا تَبَعِيَّةَ (وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ) لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ دَارِهِمْ (وَمَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ) غَصْبًا كَانَ أَوْ وَدِيعَةً؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ (وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فَيْئًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ رحمه الله:

فَيَرِقُّ بِرِقِّهَا. وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ)

كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أُمَّهُ الْغَيْرُ تَكُونُ أَوْلَادُهُ مُسْلِمِينَ أَرِقَّاءَ (بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ حَرْبِيُّونَ) لَا يَتْبَعُونَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا (وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ) فَهُوَ (فَيْءٌ) خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَالظَّاهِرُ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَالَهُ. وَلِأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمَّا قَاتَلَ، وَالْفَرْضُ أَنَّ سَيِّدَهُ مُسْلِمٌ فَقَدْ تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ فَخَرَجَ عَنْ يَدِهِ فَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ دَارِهِمْ فَنَقَصَتْ نِسْبَتُهُ بِالْمَالِيَّةِ إلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ كَمَالَ مَعْنَى مَالِيَّتِهِ بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ وَعَنْ هَذَا قُلْنَا (مَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ غَصْبًا فَهُوَ فَيْءٌ) لِارْتِفَاعِ يَدِهِ بِالْغَصْبِ، وَالْيَدُ الَّتِي خَلَفَتْ لَيْسَتْ صَحِيحَةً وَلَا مُحْتَرَمَةً، وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْغَاصِبَ مَلَكَهُ بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، قَالَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.

وَكَذَا إذَا كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَ حَرْبِيٍّ عِنْدَهُ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي فَصْلِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِهِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً لَا تَكُونُ فَيْئًا فَكَذَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ حُكْمًا، بِخِلَافِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ يَدَ الْحَرْبِيِّ لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ يَدُ الْغَانِمِينَ عَنْ مَالِهِمْ فَلَا تُدْفَعُ يَدُهُمْ عَنْ مَالِ غَيْرِهِمْ.

وَأَوْرَدَ أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ الْحَرْبِيِّ لَمَّا قَامَتْ مَقَامَ يَدِهِ وَجَبَ أَنْ تَعْمَلَ عَمَلَ الْأَصْلِ وَهُوَ يَدُ الْمُسْلِمِ لَا بِوَصْفِ نَفْسِهَا، كَمَا أَنَّ التُّرَابَ لَمَّا كَانَ خَلْفًا عَنْ الْمَاءِ عَمِلَ بِصِفَةِ الْمَاءِ فَرَفَعَ الْحَدَثَ فَيَكُونُ الْمَالُ مَعْصُومًا لِعِصْمَةِ صَاحِبِهِ.

أُجِيبُ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَالَ

ص: 489

كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ.

لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ، وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ فَيَتْبَعُهَا مَالُهُ فِيهَا.

وَلَوْ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ

فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مَعْصُومٍ بَلْ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَإِنَّمَا يَنْعَصِمُ تَبَعًا لِعِصْمَةِ مَالِكِهِ، وَتَبَعِيَّتُهُ لَهُ فِي الْعِصْمَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا ثَبَتَتْ يَدُ الْمَالِكِ الْمَعْصُومِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ هُنَا، وَهَذَا مِمَّا قَدْ يُمْنَعُ فِيهِ عَدَمُ الِاحْتِرَامِ بَلْ يَدُهُ الْحُكْمِيَّةُ مُحْتَرَمَةٌ، وَغَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ إنَّمَا هِيَ يَدُ الْحَرْبِيِّ الْحَقِيقِيَّةُ.

الثَّانِي أَنَّ قِيَامَ يَدِ الْمُودِعِ حَقِيقِيٌّ، وَهُوَ الْحَرْبِيُّ وَقِيَامُ يَدِ الْمُودِعِ الْمُسْلِمِ حُكْمِيٌّ، فَاعْتِبَارُ الْحُكْمِيِّ إنْ أَوْجَبَ الْعِصْمَةَ فَالْحَقِيقِيُّ يَمْنَعُهَا وَالْعِصْمَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فَلَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ. وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا مَنْعُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً بَلْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الثُّبُوتِ مِنْ حِينِ أَسْلَمَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي يَدِ الْحَرْبِيِّ.

وَالنَّصُّ يُوجِبُ فِي مِلْكِهِ الْعِصْمَةَ بِالْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا مَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا. أَوْ قَالَ (هَكَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَقَالَا: لَا يَكُونُ فَيْئًا إلَى أَنْ قَالَ: وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَكْرَارٌ لَا مَعْنَى لَهُ. ثُمَّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إنَّهُ تَتَّبِعَ النُّسَخَ، وَالصَّحِيحُ مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هَكَذَا، وَكَذَا فِي الْمُحِيطِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ قَالَ فِي الْجَامِعِ: وَلَوْ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَ الْحَرْبِيِّ أَوْ غَصْبًا عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ ضَائِعًا فَهُوَ فَيْءٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فَيْئًا، وَكَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ والتمرتاشي وَغَيْرِهِمَا (لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ فَيَتْبَعُهَا مَالُهُ. وَلَهُ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ)

ص: 490

إلَّا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ التَّعَرُّضُ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ بِعَارِضِ شَرِّهِ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ وَلَيْسَتْ فِي يَدِهِ حُكْمًا فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ.

(وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْلِفُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يَأْكُلُوا مِنْهَا) لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ، وَالْإِبَاحَةُ بِاعْتِبَارِهَا، وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُوَرِّثَ نَصِيبَهُ وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (وَمَنْ فَضَلَ مَعَهُ عَلَفٌ أَوْ طَعَامٌ رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ تُقَسَّمْ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِنَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ. وَلَنَا أَنَّ الِاخْتِصَاصَ ضَرُورَةُ الْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَتْ، بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَكَذَا بَعْدَهُ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ تَصَدَّقُوا بِهِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَانْتَفَعُوا بِهِ إنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ

بَلْ مَعَهُ بِسَبَبِ انْدِفَاعِ شَرِّهِ بِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مُحَرَّمُ التَّعَرُّضِ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا حَمَلَ الْأَمَانَةَ (وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ) كَانَ (بِعَارِضِ شَرِّهِ) فَلَمَّا انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ عَادَ الْأَصْلُ (بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ) فِي الْأَصْلِ (وَلَيْسَتْ فِي يَدِهِ) حَالَ الْغَصْبِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ (فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ) فَكَانَ مُبَاحًا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ وَدِيعَةٌ فَإِنَّهُ فِي يَدِ مَالِكِهِ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ فَلَمْ يَكُنْ فَيْئًا، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ يَتِمُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ يَقْتَضِي أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ إلَى الْمُسْلِمِ الْغَاصِبِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُبَاحًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى نُقْصَانِ الْمِلْكِ بِسَبَبِ زَوَالِ الْيَدِ (قَوْلُهُ وَلَيْسَتْ فِي يَدٍ حُكْمًا) أُنِّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَمْوَالِ

[فُرُوعٌ]

أَسَرَ الْعَدُوُّ عَبْدًا ثُمَّ أَسْلَمُوا فَهُوَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ جَنَى جِنَايَةً أَوْ أَتْلَفَ مَتَاعًا فَلَزِمَهُ قِيمَتُهُ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ، وَلَزِمَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ لَا يَبْقَى فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، فَأَمَّا الدَّيْنُ فَفِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَنْهُ بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ شَاغِلٌ لِمَالِيَّتِهِ فَإِنَّمَا مَلَكَهُ مَشْغُولًا بِهِ.

فَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَوْ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَنِيمَةٍ: أَيْ وَلَمْ يُسْلِمْ مَوْلَاهُ فَأَخَذَهُ الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَبْطُلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَتْلَ عَمْدٍ لَمْ تَبْطُلْ عَنْهُ بِحَالٍ (قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْلِفُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يَأْكُلُوا مِنْهَا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ انْدَفَعَتْ، وَالْإِبَاحَةُ) الَّتِي كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنَّمَا كَانَتْ (بِاعْتِبَارِهَا، وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُورَثَ نَصِيبُهُ، وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، وَمَنْ فَضَلَ مَعَهُ طَعَامٌ أَوْ عَلَفٌ يَرُدُّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَسَمَ) الْغَنِيمَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِشَرْطِهِ، وَلَوْ انْتَفَعَ بِهِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ يَرُدُّ قِيمَتَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ (وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ) وَهُوَ الْوَاحِدُ الدَّاخِلُ أَوْ

ص: 491

لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا انْتَفَعُوا بِهِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ تُرَدُّ قِيمَتُهُ إلَى الْمَغْنَمِ إنْ كَانَ لَمْ يُقَسَّمْ، وَإِنْ قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ فَالْغَنِيُّ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ وَالْفَقِيرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَقَامِ الْأَصْلِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ. .

(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ)

قَالَ (وَيُقَسِّمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} اسْتَثْنَى الْخُمُسَ (وَيُقَسِّمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ»

الِاثْنَانِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخَذَ شَيْئًا فَأَخْرَجَهُ يَخْتَصُّ بِهِ. قُلْنَا: مَالٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ، وَالِاخْتِصَاصُ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَتْ، بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ لِأَنَّهُ دَائِمًا أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَبَعْدَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَتَصَدَّقُونَ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَبِقِيمَتِهِ إنْ كَانُوا بَاعُوهُ.

هَذَا إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَإِنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ فُقَرَاءَ انْتَفَعُوا بِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا (لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ) لِتَفَرُّقِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا تَصَرَّفُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا قِيمَةُ مَا اُنْتُفِعَ بِهِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ يَتَصَدَّقُ بِهَا الْغَنِيُّ لَا الْفَقِيرُ (لِقِيَامِ الْقِيمَةِ مَقَامَ الْأَصْلِ) وَأَخْذِهَا حُكْمَهُ.

(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ)

قِيلَ لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْغَنِيمَةِ شَرَعَ يُبَيِّنُ قِسْمَتَهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الْغَنِيمَةِ وُجُوبَ قِسْمَتِهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ لِكَثْرَةِ مَبَاحِثِهِ وَشُعَبِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ.

وَالْقِسْمَةُ جَعْلُ النَّصِيبِ الشَّائِعِ مَحَلًّا مُعَيَّنًا (قَوْلُهُ وَيَقْسِمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا) أَيْ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ (وَيَقْسِمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ) هَذَا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ.

وَقَالَ الْمُصَنِّفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} اسْتَثْنَى الْخُمُسَ أَيْ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الْخُمُسَ

ص: 492

(ثُمَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَقَالَا: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْغِنَاءِ وَغِنَاؤُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالِ الرَّاجِلِ؛ لِأَنَّهُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالثَّبَاتِ، وَالرَّاجِلُ لِلثَّبَاتِ لَا غَيْرُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا» فَتَعَارَضَ فِعْلَاهُ، فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ»

مِنْ أَنْ يَثْبُتَ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءَ مَعْنًى لِلْإِخْرَاجِ، وَهُوَ مِنْ اسْتَثْنَيْت الشَّيْءَ: أَيْ زَوَيْته لِنَفْسِي، فَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا قِسْمَةِ الْإِمَامِ بَلْ الْخُمُسُ دَاخِلٌ فِي قِسْمَتِهِ؛ إذْ حَاصِلُ بَيَانِ قِسْمَتِهَا هُوَ أَنْ يُعْطِيَ خُمُسَهَا لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَيُعْطِيَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ (فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَزَفَرٍ (لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَعِنْدَهُمَا) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ (لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ) لَهُمْ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا» . لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إلَّا النَّسَائِيّ.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنْهُ «قَسَمَ فِي النَّقْلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَفِي رِوَايَةٍ بِإِسْقَاطِ لَفْظِ النَّقْلِ.

وَفِي رِوَايَةٍ «أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ» وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ أَوَّلَ مِنْ الشُّرَّاحِ كَوْنَ الْمُرَادُ مِنْ الرِّجَالِ الرَّجَّالَةَ وَمِنْ الْخَيْلِ الْفُرْسَانَ، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْقَائِلَةِ «قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَتْ الرَّجَّالَةُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ مِائَتَيْنِ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ (وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْغَنَاءِ) وَهُوَ بِالْمَدَدِ وَالْفَتْحِ الْإِجْزَاءُ وَالْكِفَايَةُ (وَغَنَاءُ الْفَارِسِ الْكَرُّ) أَيْ الْحَمَلَةُ عَلَى الْأَعْدَاءِ (وَالْفَرُّ) الْكَائِنُ لِلْكَرَّةِ أَوْ لِلنَّجَاةِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ الْفِرَارُ، وَهُوَ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ إنْ لَمْ يَفِرَّ كَيْ لَا يَرْتَكِبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (وَالثَّبَاتُ وَلَيْسَ لِلرَّاجِلِ إلَّا الثَّبَاتُ) فَأَغْنَى فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ، وَالرَّاجِلُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا.

وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا» وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ الَّذِي رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ غَزْوَانَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ فِي حَدِيثِ الْخُمُسِ

ص: 493

وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحَ رِوَايَةُ غَيْرِهِ،

بِرِوَايَةِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، لَكِنْ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ سَمِعْت أَبِي يَذْكُرُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ أَحَدَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، قَالَ:«شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إذَا النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: مَا لِلنَّاسِ؟ قَالُوا: أُوحِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْنَا مَعَ النَّاسِ نُوجِفُ، فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ نَعَمْ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّهُ لَفَتْحٌ، فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا» قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا وَهَمٌ «وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ فَأَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى صَاحِبَهُ سَهْمًا» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا قَالَ: «فَأَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى الرَّجُلَ» : يَعْنِي صَاحِبَهُ، فَغَلَطَ الرَّاوِي عَنْهُ. وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِالْجَهْلِ بِحَالِ يَعْقُوبَ.

وَأَمَّا ابْنُهُ مُجَمِّعٌ الرَّاوِي عَنْهُ فَثِقَةٌ. وَمِنْهَا مَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ سُبْحَةٌ، فَأَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلَهُ سَهْمٌ» . وَفِي سَنَدِهِ الْوَاقِدِيُّ.

وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: «شَهِدْت بَنِي قُرَيْظَةَ فَارِسًا فَضَرَبَ لِي بِسَهْمٍ وَلِفَرَسِي بِسَهْمٍ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السِّرِّيِّ، حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَخْرَجَ الْخُمُسَ مِنْهَا ثُمَّ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا» . وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْمُصَنِّفَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنِّفِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» اهـ. وَمِنْ طَرِيقَهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ: هَذَا عِنْدِي وَهَمٌ مِنْ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، لِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ بِشْرٍ وَغَيْرَهُمَا رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ نُمَيْرٍ خِلَافَ هَذَا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ كَرَامَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ خِلَافَ هَذَا: يَعْنِي أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، تَمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَلَا شَكَّ أَنَّ نُعَيْمًا ثِقَةٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْلِ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» قَالَ: وَتَابَعَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ. وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ الْعُمَرِيِّ بِالشَّكِّ فِي الْفَارِسِ أَوْ الْفَرَسِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُنْهَالٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَخَالَفَهُ النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ حَمَّادٍ.

وَمِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ مُتَعَارِضًا الْكَرْخِيُّ، لَكِنَّ رِوَايَةَ السَّهْمَيْنِ عَنْهُ أَثْبَتُ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ [الْمُؤْتَلَفُ وَالْمُخْتَلَفُ] حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَوِيَّةَ قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر

ص: 494

وَلِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ غِنَاؤُهُ مِثْلَيْ غِنَاءِ الرَّاجِلِ فَيَفْضُلُ عَلَيْهِ بِسَهْمٍ وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ النَّفْسُ وَالْفَرَسُ، وَلِلرَّاجِلِ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى ضَعْفِهِ. .

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَمِينٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَسِّمُ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» . وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بَلْ فِي فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام مُطْلَقًا نَظَرًا إلَى تَعَارُضِ رِوَايَةِ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا تَرَجَّحَ النَّفْيُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ (أَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ جِنْسٌ وَاحِدٌ) وَالثَّبَاتُ جِنْسٌ فَهُمَا اثْنَانِ لِلْفَارِسِ وَلِلرَّاجِلِ أَحَدُهُمَا فَلَهُ ضِعْفُ مَالِهِ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ إلَّا بِالزِّيَادَةِ فِي الْغَنَاءِ ضَرُورَةً وَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الزِّيَادَةِ فِي الْقِتَالِ حَقِيقَةً، لِأَنَّ كَمْ مِنْ رَاجِلٍ أَنْفَعَ فِيهِ مِنْ رَاجِلٍ وَفَارِسٍ مِنْ فَارِسٍ، لَا يُسْتَنْكَرُ زِيَادَةُ إغْنَاءِ رَاجِلٍ عَنْ فَارِسٍ، فَإِنَّمَا (يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ) فِي الْغَنَاءِ بِنَفْسِهِ وَفَرَسِهِ (وَلِلرَّاجِلِ نَفْسُهُ فَقَطْ) فَكَانَ عَلَى النِّصْفِ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: (وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ).

يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَلِمْت مَا فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُعَارَضَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّرْكِ فَرْعُ الْمُسَاوَاةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ فَهُوَ أَصَحُّ.

قُلْنَا: قَدَّمْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ كَوْنَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ فِي غَيْرِهِ مَعَ فَرْضِ أَنَّ رِجَالَهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، أَوْ رِجَالٌ رَوَى عَنْهُمْ الْبُخَارِيُّ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بِهِ، مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا يَحْمِلُ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى التَّنْفِيلِ فَكَانَ إعْمَالُهُمَا أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ كَوْنِهِ سَنَدًا صَحِيحًا عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَيُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى وَذَكَرْنَا مَنْ تَابَعَهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَارَضَ فِعْلَاهُ فَيَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ: يَعْنِي قَوْلَهُ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَخَطِئَ مَنْ عَزَاهُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثُمَّ هُوَ وِزَانُ مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ مِنْ قَوْلِهِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَا فِعْلِهِ وَبَقِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ وَعُلِمَ مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَصِيرَ أَوَّلًا إلَى الْفِعْلِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ التَّمَسُّكُ بِهِ حِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى الْقَوْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

هَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَخَارِجَ حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ

ص: 495

(وَلَا يُسْهِمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ» وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَعْيَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْآخَرِ، وَلَهُمَا «أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ أَوْسٍ قَادَ فَرَسَيْنِ فَلَمْ يُسْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ» وَلِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَتَحَقَّقُ بِفَرَسَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُفْضِيًا إلَى الْقِتَالِ عَلَيْهِمَا فَيُسْهِمُ لِوَاحِدٍ، وَلِهَذَا لَا يُسْهِمُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ،

أَبِيهِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رُهْمٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ، وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَنْ الزُّبَيْرِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ.

وَهِيَ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَسْلَمْ مِنْ الْمَقَالِ مِنْهَا مَا لَا يُنَافِي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّك قَدْ عَلِمْت أَنَّ رِوَايَةَ الثَّلَاثَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّنْفِيلِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ.

وَنَصُّ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَمَعَنَا فَرَسٌ» لَا يُنَافِيهِ، وَكَذَا حَدِيثُ أَحْمَدَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ» وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ فَإِنَّهُ قَالَ:«شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُزَاةً فَأَعْطَى الْفَارِسَ مِنَّا ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا» بَلْ هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرُهُ الْمُسْتَمِرُّ وَإِلَّا لَقَالَ كَانَ عليه الصلاة والسلام أَوْ قَضَى عليه الصلاة والسلام وَنَحْوَهُ، فَلَمَّا قَالَ غُزَاةً وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزَوَاتٍ ثُمَّ خَصَّ هَذَا الْفِعْلِ بِغُزَاةٍ مِنْهَا كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.

نَعَمْ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ لِحَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَعْطَانِي يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أُخْرَى عَنْهُ يَوْمَ خَيْبَرَ وَلَا تَنَافِيَ، إذَا جَازَ كَوْنُهُ قَسَّمَ لَهُ ذَلِكَ فِيهِمَا. وَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ «أَنَّهُ شَهِدَ حُنَيْنًا فَأَسْهَمَ لِفَرَسِهِ سَهْمَيْنِ وَلَهُ سَهْمًا» .

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَعَلَ لِلْفَارِسِ وَفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، لَهُ سَهْمٌ وَلِفَرَسِهِ سَهْمَانِ» لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام.

وَقَدْ بَقِيَ حَدِيثُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ عَنْ عَائِشَةَ، وَتَقَدَّمَ مَا يُعَارِضُ حَدِيثَ بَنِي قُرَيْظَةَ هَذَا.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي كَبْشٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنِّي جَعَلَتْ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلْفَارِسِ سَهْمًا» فَمَنْ نَقَصَهُمَا نَقَصَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْقَيْسِيِّ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَضْعِيفِهِ وَتَوْهِينِهِ

(قَوْلُهُ وَلَا يُسْهِمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) أَيْ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِفَرَسَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ (يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ) فَيُعْطِي خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لَهُ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْإِمْلَاءِ عَنْهُ.

وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ» وَهَذَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُحْصَنٍ قَالَ: «أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِفَرَسِي أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَلِي سَهْمًا فَأَخَذْت خَمْسَةَ أَسْهُمٍ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَمِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرْنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ.

أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مَكْحُولٍ «أَنَّ الزُّبَيْرَ حَضَرَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ

ص: 496

وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ كَمَا أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ رَاجِلٌ

- صلى الله عليه وسلم خَمْسَةَ أَسْهُمٍ»، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَقَدْ قَبِلَهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ مُنْقَطِعًا وَقَالَ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي دَفْعِهِ: وَهِشَامٌ أَثْبَتُ فِي حَدِيثِ أَبِيهِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَأَهْلُ الْمَغَازِي لَمْ يَرْوُوا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ» ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ يَعْنِي النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام حَضَرَ خَيْبَرَ بِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ السَّكْبِ وَالضَّرْبِ وَالْمُرْتَجَزِ، وَلَمْ يَأْخُذْ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ انْتَهَى.

يُرِيدُ بِحَدِيثِ هِشَامٍ مَا تَقَدَّمَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ: «أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ سَهْمَيْنِ لِفَرَسِي وَسَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِأُمِّي مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى» . وَمِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمٌ لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» وَهَذَا أَحْسَنُ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ أَهْلُ الْمَغَازِي لَمْ يَرْوُوا أَنَّهُ أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ لَيْسَ كَذَلِكَ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ: «كَانَ مَعَ الزُّبَيْرِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَرَسَانِ، فَأَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَمْسَةَ أَسْهُمٍ» وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَادَ فِي خَيْبَرَ ثَلَاثَةَ أَفْرَاسٍ لِزَازٍ وَالضَّرْبِ وَالسَّكْبِ وَقَادَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَفْرَاسًا، وَقَادَ خِرَاشُ بْنُ الصِّمَّةِ فَرَسَيْنِ، وَقَادَ الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسٍ فَرَسَيْنِ. وَقَادَ أَبُو عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَرَسَيْنِ، فَأَسْهَمَ عليه الصلاة والسلام لِكُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَرَسَانِ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةً لِفَرَسَيْهِ وَسَهْمًا لَهُ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ» ، وَيُقَالُ إنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ.

وَأَثْبَتَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُسْمَعْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ. إلَى هُنَا كَلَامُ الْوَاقِدِيِّ مَعَ اخْتِصَارِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا فَرْجُ بْنُ فُضَالَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ أَسْهِمْ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلْفَرَسَيْنِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِهِمَا سَهْمًا فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَمَا كَانَ فَوْقَ الْفَرَسَيْنِ فَهُوَ جَنَائِبُ. وَقَالَ سَعِيدٌ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْلِ وَكَانَ لَا يُسْهِمُ لِلرَّجُلِ فَوْقَ فَرَسَيْنِ» . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ «الْبَرَاءِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَادَ فَرَسَيْنِ فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ» فَغَرِيبٌ، بَلْ جَاءَ عَنْهُ عَكْسُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْوَاقِدِيِّ رحمه الله، وَذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ قَالَ: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ قَرِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْمَدَنِيِّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ أَوْسٍ «أَنَّهُ قَادَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَسَيْنِ فَضَرَبَ لَهُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ» إلَّا أَنَّ هَذِهِ غَرَائِبُ.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: أَلَمْ أَسْمَعْ بِالْقَسَمِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ وَاسْتَمَرَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى طَرِيقَةِ حَمْلِ الزَّائِدِ عَلَى التَّنْفِيلِ. قَالَ (كَمَا أَعْطَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ رَاجِلٌ) حَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، ثُمَّ أَعْطَانِي سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ. فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا» . وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ قَالَ: وَكَانَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ فِي تِلْكَ الْغُزَاةِ رَاجِلًا فَأَعْطَاهُ مِنْ خُمُسِهِ عليه الصلاة والسلام لَا مِنْ سِهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ وَقَالَ: كَانَ سَلَمَةُ قَدْ اسْتَنْقَذَ لِقَاحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: فَحَدَّثْت بِهِ سُفْيَانَ فَقَالَ: خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الْقَاسِمُ: وَهَذَا

ص: 497

(وَالْبَرَاذِينُ وَالْعَتَاقُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُضَافٌ إلَى جِنْسِ الْخَيْلِ فِي الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وَاسْمُ الْخَيْلِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَرَاذِينِ وَالْعِرَابِ وَالْهَجِينِ وَالْمَقْرِفِ إطْلَاقًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إنْ كَانَ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى فَالْبِرْذَوْنُ أَصَبْرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا، فَفِي كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاسْتَوَيَا.

(وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ) وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَكْسِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ،

عِنْدِي أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ سَهْمِهِ وَإِلَّا لَمْ يُسَمَّ نَفْلًا بَلْ هِبَةً. وَخَبَرُ سَلَمَةَ وَاللِّقَاحِ مُفَصَّلٌ فِي السِّيرَةِ (قَوْلُهُ وَالْبَرَاذِينُ) وَهِيَ خَيْلُ الْعَجَمِ وَاحِدُهَا بِرْذَوْنٌ (وَالْعَتَاقُ) جَمْعُ عَتِيقٍ: أَيْ كَرِيمٌ رَاتِعٌ وَهِيَ كِرَامُ الْخَيْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْبَرَاذِينُ وَالْخَيْلُ الْعَرَبِيَّةُ هُمَا (سَوَاءٌ) فِي الْقِسْمِ فَلَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَا لَا يَفْضُلُ الْعَتِيقُ عَلَى الْهَجِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ أَبُوهُ مِنْ الْبَرَاذِينِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ، وَلَا عَلَى الْمَقْرِفِ وَهُوَ مَا يَكُونُ أَبُوهُ عَرِيبًا وَأُمُّهُ بِرْذَوْنَةً. قِيلَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَنْ يَقُولُ لَا يُسْهِمُ لِلْبَرَاذِينِ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا شَاذًّا.

وَحُجَّتُنَا فِيهِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ الْخَيْلِ يَشْمَلُهُمَا، وَكَذَا الْإِرْهَابُ، وَلِأَنَّ فِي كُلٍّ خُصُوصِيَّةً لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ. فَالْعَتِيقُ إنْ فُضِّلَ بِجَوْدَةِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ فَالْبِرْذَوْنُ يُفَضَّلُ بِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ عَلَى الْحَمْلِ وَالصَّبْرِ وَلِينِ الْعِطْفِ، وَكَوْنُهُ أَلْيَنَ عِطْفًا مِنْ الْعَرَبِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ هَذَا دَائِرٌ مَعَ التَّعْلِيمِ، وَالْعَرَبِيُّ أَقْبَلُ لِلْآدَابِ مِنْ الْعَجَمِيِّ مِنْ الْخَيْلِ، وَكَوْنُ أَحَدٍ يَقُولُ لَا يُسْهِمُ بِالْكُلِّيَّةِ لِلْفَرَسِ الْعَجَمِيِّ بَعِيدٌ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ لِمَا نَقَلَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمُقَارِفِ.

وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ: كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ وَهُوَ بِأَرْمِينِيَّةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْخَيْلِ الْمُقَارِفِ فِي الْعَطَاءِ، فَعَرَضَ الْخَيْلَ فَمَرَّ بِهِ عَمْرُو بْنُ مُعْدِي كَرِبَ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: فَرَسُكَ هَذَا مُقْرِفٌ، فَغَضِبَ عَمْرٌو وَقَالَ: هَجِينٌ عَرَفَ هَجِينًا مِثْلَهُ، فَوَثَبَ إلَيْهِ قَيْسٌ: يَعْنِي ابْنَ مَكْشُوحٍ فَتَوَعَّدَهُ، فَقَالَ عَمْرٌو:

أَتُوعِدُنِي كَأَنَّك ذُو رُعَيْنٍ

بِأَفْضَلِ عِيشَةٍ أَوْ ذُو نُوَاسِ

وَكَائِنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ نُعَيْمٍ

وَمُلْكٍ ثَابِتُ فِي النَّاسِ رَاسِي

قَدِيمٌ عَهْدُهُ مِنْ عَهْدِ عَادٍ

عَظِيمٌ قَاهِرُ الْجَبَرُوتِ قَاسِي

فَأَمْسَى أَهْلُهُ بَادُوا وَأَمْسَى

يُحَوَّلُ مِنْ أُنَاسٍ فِي أُنَاسِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ) أَيْ هَلَكَ فَقَاتَلَ رَاجِلًا (اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى) فِي دَارِ الْحَرْبِ (فَرَسًا) فَقَاتَلَ فَارِسًا عَلَيْهِ (اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ، وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَكْسِهِ)

ص: 498

وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ، وَعِنْدَهُ حَالَةُ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ لَهُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ وَالْقِتَالُ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ عِنْدَهُ وَالْمُجَاوَزَةُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ، وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْقِتَالِ يَدُلُّ عَلَى إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ تَعَلَّقَ بِشُهُودِ الْوَقْعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ.

وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا قِتَالٌ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْخَوْفُ بِهَا وَالْحَالُ بَعْدَهَا حَالَةُ الدَّوَامِ

فِي الْفَصْلَيْنِ (وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) أَيْ فِيمَا إذَا دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ سَهْمَ فَارِسٍ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ (وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ) أَيْ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ وَهُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ (وَعِنْدَهُ حَالَ الْحَرْبِ. لَهُ أَنَّ السَّبَبَ) فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ إذَا وُجِدَتْ (هُوَ قَتْلَاهُ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ) الْمُسْتَحَقِّ (عِنْدَهُ) دُونَ الْمُجَاوَزَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا هِيَ (وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ) أَيْ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ (كَالْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ) لِقَصْدِ الْقِتَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ، وَحَالَةُ الْغَازِي عِنْدَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ لَا تُعْتَبَرُ، فَكَذَا عِنْدَ الْمُجَاوَزَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَ الْقِتَالِ تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ بِهِ الرَّاجِعَةِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ اتِّفَاقًا فِيمَا إذَا قَاتَلَ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ غَيْرُهُمَا فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الرَّضْخَ، فَظَهَرَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِهِ الْغَنِيمَةَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ (وَلَوْ تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ فَبِشُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ) مِنْ الْمُجَاوَزَةِ (وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا مِنْ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُمْ يَلْحَقُهُمْ الْخَوْفُ بِهَا) وَالْإِغَاظَةُ، (وَالْحَالُ بَعْدَهَا حَالُ بَقَاءِ الْقِتَالِ) إلَّا أَنَّهُ تَنَوُّعُ الْقِتَالِ إلَى

ص: 499

وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ؛ وَكَذَا عَلَى شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ حَالَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ فَتُقَامُ الْمُجَاوَزَةُ مَقَامَهُ؛ إذْ هُوَ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَيْهِ ظَاهِرًا إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ بِحَالَةِ الْمُجَاوَزَةِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا.

وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا لِضِيقِ الْمَكَانِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَجَّرَ أَوْ رَهَنَ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ.

وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ بِالْمُجَاوَزَةِ الْقِتَالُ فَارِسًا.

وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَسْقُطْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْبَعْضِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ التِّجَارَةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْتَظِرُ عِزَّتَهُ

الْمُجَاوَزَةِ إلَى دَرَاهِمِ، وَسُلُوكُهُمْ قَهْرًا بِالْمَنَعَةِ لِإِهْلَاكِهِمْ وَإِلَى حَقِيقَةِ الْمُسَايَفَةِ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِحَالِ الدَّوَامِ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ، وَكَذَا عَلَى شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ حَالَ) شُغْلِ شَاغِلٍ لِكُلِّ أَحَدٍ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِمَامِ اسْتِعْلَامُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ بِهِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، بِخِلَافِهِ فِي حَقِّ أَفْرَادٍ قَلِيلَةٍ مِنْ النَّاسِ كَقِتَالِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ فَأُدِيرَ فِي حَقِّهِمْ عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ فَيُقَامُ فِي حَقِّ الْكُلِّ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الْقِتَالِ ظَاهِرَ مَقَامِهِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ.

وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي التَّعَذُّرِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ لَا تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ يَجِبُ قَبُولُهَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى أَنَّ هَذَا قَاتَلَ فَارِسًا لَا يَجُرُّ بِذَلِكَ نَفْعًا لِنَفْسِهِ بَلْ ضَرَرًا فَإِنَّهُ يُنْقِصُ سَهْمَ نَفْسِهِ فَهُوَ يُلْزِمُ نَفْسَهُ أَوَّلًا الضَّرَرَ، وَشَرِكَتَهُ فِي أَصْلِ الْمَغْنَمِ لَيْسَتْ مُتَوَقِّفَةً عَلَى شَهَادَتِهِ هَذِهِ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ: مَنْ يَشْهَدُ لِي حَيْثُ جَعَلَ عليه الصلاة والسلام السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ فِي حُنَيْنٍ؟ فَشَهِدَ لَهُ وَاحِدٌ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ» وَلَا بَيِّنَةَ إلَّا أَهْلُ الْعَسْكَرِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ خُصُوصًا فِي غَزَوَاتِهِ عليه الصلاة والسلام (وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا لِضِيقِ الْمَكَانِ) أَوْ لِمُشَجَّرَةٍ أَوْ لِأَنَّهُ فِي سَفِينَةٍ دَخَلَ فِيهَا بِفَرَسِهِ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهَا إذَا خَلَصَ إلَى بَرِّهِمْ فَلَاقُوهُمْ قَبْلَهُ وَاقْتَتَلُوا فِي السَّفِينَةِ كَانَ لَهُمْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ (وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ وَهَبَهُ) وَسَلَّمَهُ (أَوْ أَجَّرَهُ أَوْ رَهَنَهُ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالْمُجَاوَزَةِ)

بِالْفَرَسِ (الْقِتَالَ) عَلَيْهِ بَلْ التِّجَارَةَ بِهِ، وَسَبَبُ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَارِسِ هُوَ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ لَا مُطْلَقُ الْمُجَاوَزَةِ (وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ لَا يَسْقُطُ سَهْمُ الْفَارِسِ) بِالِاتِّفَاقِ (وَكَذَا إذَا بَاعَهُ حَالَةَ الْقِتَالِ) لَا يَسْقُطُ (عِنْدَ الْبَعْضِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ قَصْدَهُ التِّجَارَةُ وَإِنَّمَا انْتَظَرَ حَالَةَ الْعِزَّةِ. وَعُورِضَ بِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةِ حَالَةُ الْمُخَاطَرَةِ بِالنَّفْسِ فَلَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ دَلِيلًا عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ طَلَبُ النَّفْسِ التَّحَصُّنَ، فَبَيْعُهُ فِيهَا دَلِيلٌ أَنَّهُ عَنَّ لَهُ غَرَضٌ الْآنَ فِيهِ، إمَّا لِأَنَّهُ وَجَدَهُ غَيْرَ مُوَافِقٍ لَهُ فَرُبَّمَا يَقْتُلُهُ لِعَدَمِ أَدَبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَيْسَ هُوَ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْعُقُودِ حَالَةَ الْقِتَالِ لِيَكُونَ بَيْعُهُ إذْ ذَاكَ انْتِظَارًا لِحَالَةِ الرَّغَبَاتِ فِي الشِّرَاءِ.

وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ جَاوَزَ بِفَرَسٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ لِكِبَرِهِ أَوْ ضَعْفِهِ أَوْ هُزَالِهِ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ مَرِيضًا فَعَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَلَوْ جَاوَزَ عَلَى فَرَسٍ مَغْصُوبٍ أَوْ مُسْتَعَارٍ أَوْ مُسْتَأْجَرٍ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمَالِكُ فَشَهِدَ الْوَقْعَةَ رَاجِلًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

ص: 500

(وَلَا يُسْهِمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ» وَلَمَّا اسْتَعَانَ عليه الصلاة والسلام بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ عَاجِزَانِ عَنْهُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْهُمَا فَرْضُهُ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُوَلَّى وَلَهُ مَنْعُهُ، إلَّا أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ مَعَ إظْهَارِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِمْ، وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ وَتَوَهُّمِ عَجْزِهِ فَيَمْنَعُهُ الْمُوَلَّى عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْقِتَالِ

فِي رِوَايَةٍ لَهُ سَهْمُ فَارِسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ سَهْمُ رَاجِلٍ. وَمُقْتَضَى كَوْنِهِ جَاوَزَ بِفَرَسٍ لِقَصْدِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ تُرَجَّحُ الْأُولَى، إلَّا أَنْ يُزَادَ فِي أَجْزَاءِ السَّبَبِ بِفَرَسٍ مَمْلُوكٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ الْمُعِيرُ وَغَيْرُهُ حَتَّى قَاتَلَ عَلَيْهِ كَانَ فَارِسًا

(قَوْلُهُ وَلَا يُسْهِمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ) أَيْ يُعْطَوْنَ مِنْ كَثِيرٍ، فَإِنَّ الرَّضْخَةَ هِيَ الْإِعْطَاءُ كَذَلِكَ، وَالْكَثِيرُ السَّهْمُ، فَالرَّضْخُ لَا يَبْلُغُ السَّهْمَ وَلَكِنْ دُونَهُ (عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ) وَسَوَاءٌ قَاتَلَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ (وَالْمُكَاتَبُ كَالْعَبْدِ) لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُسْهِمُ إلَخْ.

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ: كَتَبَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَرُورِيُّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ: أَنْ لَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُحْذَيَا. وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ: كَتَبَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ النِّسَاءِ هَلْ كُنَّ يَشْهَدْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَنَا كَتَبْت كِتَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إلَى نَجْدَةَ، قَدْ كُنَّ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِمَّا أَنْ يُضْرَبَ لَهُنَّ بِسَهْمٍ فَلَا، وَقَدْ كَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: شَهِدْت خَيْبَرَ مَعَ سَادَاتِي، إلَى أَنْ قَالَ: فَأَخْبَرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ. وَأَمَّا مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَدَّةِ حَشْرَجَ بْنِ زِيَادَةَ أُمِّ أَبِيهِ «أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَادِسَةَ سِتِّ نِسْوَةٍ، فَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ إلَيْنَا فَجِئْنَا فَرَأَيْنَا فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ فَقَالَ: مَعَ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟ وَبِإِذْنِ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْنَا نَغْزِلُ الشَّعْرَ وَنُعِينُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعَنَا دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى وَنُنَاوِلُ السِّهَامَ وَنَسْقِي السَّوِيقَ، فَقَالَ: قُمْنَ حَتَّى إذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ أَسْهَمَ لَنَا كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ» وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لِجَهَالَةِ رَافِعٍ وَحَشْرَجَ مِنْ رُوَاتِهِ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَطَابَ أَنْفُسَ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُشْبِهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُنَّ مِنْ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ.

هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ التَّشْبِيهِ فِي أَصْلِ الْعَطَاءِ، وَأَرَادَتْ بِالسَّهْمِ مَا خُصِّصَ بِهِ. وَالْمَعْنَى خَصَّنَا بِشَيْءٍ كَمَا فَعَلَ بِالرِّجَالِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْلُغْ بِهَؤُلَاءِ الرَّجَّالَةِ مِنْهُمْ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ وَلَا بِالْفَارِسِ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ أُصُولٌ فِي التَّبَعِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَفْرِضْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فِي غَيْرِ الصَّبِيِّ، وَيَزِيدُ الذِّمِّيَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ لِكَوْنِ الْجِهَادِ عِبَادَةً وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا.

وَمِنْ الْأُمُورِ الِاسْتِحْسَانَيْ ةِ إظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَالتَّبَعِ وَالْأَصْلِ بِخِلَافِ السُّوقِيِّ فِي الْعَسْكَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ لِخِدْمَةِ الْغَازِي إذَا قَاتَلَا حَيْثُ يَسْتَحِقَّانِ سَهْمًا كَامِلًا، وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ زَمَنَ الْقِتَالِ مِنْ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِهِ فَلَمْ يَكُونَا تَبَعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ بَلْ فِي السَّفَرِ وَنَحْوِهِ. ثُمَّ الرَّضْخُ عِنْدَنَا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَأَحْمَدَ، وَفِي قَوْلٍ لَهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ.

وَفِي

ص: 501

ثُمَّ الْعَبْدُ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ دَخَلَ لِخِدْمَةِ الْمُوَلَّى فَصَارَ كَالتَّاجِرِ، وَالْمَرْأَةُ يَرْضَخُ لَهَا إذَا كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِتَالِ فَيُقَامُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِعَانَةِ مَقَامَ الْقِتَالِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ، وَالذِّمِّيُّ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ أَوْ دَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُقَاتِلْ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى السَّهْمِ فِي الدَّلَالَةِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمَ إذَا قَاتَلَ؛ لِأَنَّهُ جِهَادٌ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ.

قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله: مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: مِنْ الْخُمُسِ (ثُمَّ الْعَبْدُ إنَّمَا يُرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ) وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالذِّمِّيُّ لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْقِتَالِ إذَا فُرِضَ الصَّبِيُّ قَادِرًا عَلَيْهِ فَلَا يُقَامُ غَيْرُ الْقِتَالِ فِي حَقِّهِمْ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُعْطَى بِالْقِتَالِ وَبِالْخِدْمَةِ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلْ لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْهُ فَأُقِيمَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ مِنْهَا مَقَامَهُ وَصِحَّةُ أَمَانِهَا لِثُبُوتِ شُبْهَةِ الْقِتَالِ مِنْهَا، وَالْأَمَانُ يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ احْتِيَاطًا فِيهِ، وَلَا يَرِدُ إعْطَاءُ الذِّمِّيِّ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ، بَلْ دَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ رَضْخًا بَلْ بِمَقَامِ الْأُجْرَةُ وَلِهَذَا يُزَادُ عَلَى السَّهْمِ إذَا كَانَ عَمَلُهُ ذَلِكَ تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْجِهَادِ، وَلَا يُسَوَّى فِي عَمَلِ الْجِهَادِ بَيْنَ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْهُ وَلَا يُصَحِّحُهُ لَهُ فَلِذَلِكَ (لَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمُ) كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. قَالُوا: وَالسَّهْمُ مَرْفُوعٌ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ بِلَا وَاسِطَةِ حَرْفٍ فَيَكُونُ هُوَ النَّائِبَ عَنْ الْفَاعِلِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَأَمَّا مَنْ يُجِيزُ إقَامَةَ الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ فَيُجِيزُ نَصْبَهُ وَيَكُونُ النَّائِبُ لَفَظَ بِهِ.

وَهَلْ يُسْتَعَانُ بِالْكَافِرِ عِنْدَنَا إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ جَازَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَجَمَاعَةٌ لَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ لِمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ إلَى بَدْرٍ فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ لَا، قَالَ: ارْجِعْ فَلَنْ نَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ لَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ نَعَمْ، قَالَ انْطَلِقْ» وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ إسَافٍ قَالَ «أَتَيْت أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَسْتَحِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، فَقَالَ: أَتُسْلِمَانِ؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ، قَالَ: فَأَسْلَمْنَا وَشَهِدْنَا مَعَهُ. قَالَ: فَقَتَلْت رَجُلًا وَضَرَبَنِي ضَرْبَةً وَتَزَوَّجْت بِنْتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانَتْ تَقُولُ: لَا عَدِمْت رَجُلًا وَشَّحَكَ هَذَا الْوِشَاحَ، فَأَقُولُ: لَا عَدِمْت رَجُلًا عَجَّلَ أَبَاكِ إلَى النَّارِ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: «وَلَمَّا اسْتَعَانَ عليه الصلاة والسلام بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ» : يَعْنِي لَمْ يُسْهِمُ لَهُمْ يُفِيدُ مُعَارَضَةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَالْمَذْكُورُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: أَخْبَرْنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «اسْتَعَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِ قَيْنُقَاعَ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ» وَلَكِنْ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ مُضَعَّفٌ.

وَأَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ إلَى مُحَيِّصَةُ قَالَ: «وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ غَزَا بِهِمْ أَهْلَ خَيْبَرَ وَأَسْهَمَ لَهُمْ كَسُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَالُ أَحَذَاهُمْ وَلَمْ

ص: 502

(وَأَمَّا الْخُمُسُ فَيُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ

يُسْهِمْ لَهُمْ».

وَأَسْنَدَ التِّرْمِذِيُّ إلَى الزُّهْرِيِّ قَالَ: «أَسْهَمَ عليه الصلاة والسلام لِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ قَاتَلُوا مَعَهُ» وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، مَعَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ الْقَطَّانِ كَانَ لَا يَرَى مَرَاسِيلَ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ شَيْئًا وَيَقُولُ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ لَا تُقَاوِمُ أَحَادِيثَ الْمَنْعِ فِي الْقُوَّةِ فَكَيْفَ تُعَارِضُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:«رَدُّهُ صلى الله عليه وسلم الْمُشْرِكَ وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، ثُمَّ إنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِيَهُودِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَاسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ» ، فَالرَّدُّ إنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ وَأَنْ يَرُدَّهُ كَمَا لَهُ رَدُّ الْمُسْلِمِ الْمَعْنَى يَخَافُهُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مُخَالِفًا لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فَقَدْ نَسَخَهُ مَا بَعْدَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إذَا خَرَجُوا طَوْعًا وَيَرْضَخُ لَهُمْ وَلَا يُسْهِمُ لَهُمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ رَايَةٌ تَخُصُّهُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهُمْ، وَلَعَلَّ رَدَّهُ مَنْ رَدَّهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْخُمُسُ) أَيْ الَّذِينَ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُخْرِجُهُ أَوَّلًا (فَيُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ) عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَاتِ، وَذَوُو الْقُرْبَى لَا تَحِلُّ لَهُمْ، هَذَا رَأْيُ الْكَرْخِيِّ، وَسَيَأْتِي رَأْيُ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْيَتَامَى مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي سَهْمِ الْيَتَامَى الْمَذْكُورِينَ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ. وَالْيَتِيمُ صَغِيرٌ لَا أَبَ لَهُ، وَالْمَسَاكِينُ مِنْهُمْ فِي سَهْمِ الْمَسَاكِينِ، وَفُقَرَاءُ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي أَبْنَاءِ السَّبِيلِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلَا فَائِدَةَ حِينَئِذٍ فِي ذِكْرِ اسْمِ الْيَتِيمِ حَيْثُ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ لَا بِالْيُتْمِ. أُجِيبُ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْجِهَادِ وَالْيَتِيمُ صَغِيرٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا، وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ: لَمَّا كَانَ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ بِالْفَقْرِ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ. أَجَابَ بِأَنَّ أَفْهَامَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ تُفْضِي إلَى الْفَقِيرِ مِنْهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الصَّدَقَةِ وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ.

وَفِي التُّحْفَةِ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَصَارِفَ، الْخُمُسُ عِنْدَنَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ صُرِفَ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِذَوِي الْقُرْبَى خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ) وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَحْمَدُ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ: الْأَمْرُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَسَّمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى غَيْرَهُمْ إنْ كَانَ أَمْرُ غَيْرِهِمْ أَهَمَّ مِنْ أَمْرِهِمْ (وَيُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ) مِنْ الْقَرَابَاتِ وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُرَادَةَ هُنَا تَخُصُّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَالْخِلَافُ فِي دُخُولِ الْغَنِيِّ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَعَدَمِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَالثَّوْرِيُّ: يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ

ص: 503

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} مِنْ غَيْرِ فَصْلِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.

وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ» وَالْعِوَضُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ.

وَالْأُنْثَى، وَيَدْفَعُ لِلْقَاضِي وَالدَّانِي وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ النَّصِّ (لَهُ إطْلَاقٌ قَوْله تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ) وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِوَصْفٍ يُوجِبُ أَنَّ مَبْدَأَ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لَهُ وَلَا تَفْصِيلَ فِيهَا بِخِلَافِ الْيَتَامَى فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِيهِمْ الْفَقْرَ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ فَكَانَ مُقَيَّدًا مَعْنًى بِهَا، بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى، ثُمَّ لَا تَنْتَفِي مُنَاسَبَتُهَا بِالْغِنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ كَوْنُ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الْكَرَامَةِ (وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً) ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَحَدٌ مَعَ عِلْمِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَتَوَافُرِهِمْ فَكَانَ إجْمَاعًا، إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْكَلَامُ فِي إثْبَاتِهِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ «الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: لِلَّهِ وَالرَّسُولِ سَهْمٌ، وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ، وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ».

ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْت أَبَا جَعْفَرَ: يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَقُلْت: أَرَأَيْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه حَيْثُ وُلِّيَ الْعِرَاقَ وَمَا وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ كَيْفَ صَنَعَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى؟ قَالَ: سَلَكَ بِهِ وَاَللَّهِ سَبِيلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُلْت: وَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ؟ قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ أَهْلُهُ يَصْدُرُونَ إلَّا عَنْ رَأْيِهِ، قُلْت: فَمَا مَنَعَهُ؟ قَالَ: كَرِهَ وَاَللَّهِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ انْتَهَى. وَكَوْنُ الْخُلَفَاءِ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَبِهِ تَصِحُّ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّ الْكَلْبِيَّ مُضَعَّفٌ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ وَافَقَ النَّاسَ.

وَإِنَّمَا الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لَا إجْمَاعَ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَحِينَ ثَبَتَ هَذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ الصَّوَابُ لَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَهُمَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي أَشْيَاءَ لَمْ تُوَافِقْ رَأْيَهُ كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَحِينَ وَافَقَهُمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ رَجَعَ إلَى رَأْيِهِمَا إنْ كَانَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ.

وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ: وَلَا إجْمَاعَ بِدُونِ أَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنْ فِعْلَهُ كَانَ تَقِيَّةً مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ خِلَافُهُمَا، وَكَيْفَ وَفِيهِ مَنْعُ الْمُسْتَحَقِّينَ مِنْ حَقِّهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَنْعُهُ إلَّا لِرُجُوعِهِ وَظُهُورِ الدَّلِيلِ لَهُ، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَعَ فَالْأَخْذُ بِقَوْلِ الرَّاشِدِينَ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِعَدَمِ النَّكِيرِ مِنْ أَحَدٍ أَوْلَى.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ سَهْمٌ مُسْتَحَقٌّ لِذَوِي الْقُرْبَى أَصْلًا لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ لَمْ يُعْطُوهُمْ وَهُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَلِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ بِلَا شُبْهَةٍ.

ص: 504

وَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَلَّلَ فَقَالَ: «إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّصْرِ قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ.

أَجَابَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الدَّلِيلَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ السَّهْمَ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ.

وَأَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَسَاقَ السَّنَدَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا إلَى عَمِّكُمَا لَعَلَّهُ يَسْتَعِينُ بِكُمَا عَلَى صَدَقَاتٍ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ بِحَاجَتِهِمَا، فَقَالَ لَهُمَا:«لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ وَلَا غُسَالَةُ الْأَيْدِي، إنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ وَيَكْفِيكُمْ» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِهِ بِلَفْظِ «رَغِبْت لَكُمْ عَنْ غُسَالَةِ أَيْدِي النَّاسِ إنَّ لَكُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ» وَهُوَ إسْنَادٌ حَسَنٌ، وَلَفْظُ الْعِوَضِ إنَّمَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِ التَّابِعِينَ، ثُمَّ فِي كَوْنِ الْعِوَضِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى، فَيَقْتَضِي اعْتِقَادَ اسْتِحْقَاقِ فُقَرَائِهِمْ أَوْ كَوْنَهُمْ مَصَارِفَ مُسْتَمِرًّا، وَيُنَافِيهِ اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ مَنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إيَّاهُمْ مُطْلَقًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَيْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى شَيْئًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ فُقَرَائِهِمْ، وَكَذَا يُنَافِيهِ إعْطَاؤُهُ عليه الصلاة والسلام الْأَغْنِيَاءَ مِنْهُمْ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ أَعْطَى الْعَبَّاسَ وَكَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا يَتَّجِرُونَ» .

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ إلَخْ) يَدْفَعُ هَذَا السُّؤَالَ الثَّانِيَ، لَكِنْ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْمُنَاقَضَةَ مَعَ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ

ص: 505

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ نُصْرَتَهُ، وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ، وَمِنْ الْأَغْنِيَاءِ مَنْ تَأَخَّرَ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام كَالْعَبَّاسِ فَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْخُلَفَاءِ أَنْ يُعْطُوهُمْ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلْتُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوهُمْ بَلْ حَصَرُوا الْقِسْمَةَ فِي الثَّلَاثَةِ. وَيُعَكِّرُ مَا سَيَرْوِيهِ فِي تَصْحِيحِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ سَهْمًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ إعْطَاءُ عُمَرَ بِقَيْدِ الْفَقْرِ مَرْوِيًّا، بَلْ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: حَدَّثَنَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَسِّمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا كَمَا قَسَّمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ» قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُقَسِّمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا كَانَ يُعْطِيهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ عُمَرُ يُعْطِيهِمْ وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى سَمِعْت «عَلِيًّا قَالَ: اجْتَمَعْت أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ رَأَيْت أَنْ تُوَلِّينِي حَقَّنَا مِنْ هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَقْسِمُهُ حَيَاتَك كَيْ لَا يُنَازِعَنِي أَحَدٌ بَعْدَك فَافْعَلْ، قَالَ: فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقَسَمْته حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ وِلَايَةَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَ آخِرُ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ أَتَاهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَعَزَلَ حَقَّنَا ثُمَّ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فَقُلْت: بِنَا الْعَامَ غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ، فَرَدَّهُ ثُمَّ لَمْ يَدَعْنِي إلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ، فَلَقِيت الْعَبَّاسَ بَعْدَمَا خَرَجْت مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ حَرَمْتَنَا الْغَدَاةَ شَيْئًا لَا يَرِدُ عَلَيْنَا وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيًا» فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدُ الْإِعْطَاءِ بِفَقْرِ الْمُعْطَى مِنْهُمْ وَكَيْفَ وَالْعَبَّاسُ كَانَ مِمَّنْ يُعْطِي وَلَمْ يَتَّصِفْ بِالْفَقْرِ مَعَ أَنَّ الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ ضَعَّفَ هَذَا فَقَالَ: وَفِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يُقَسِّمْ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَسَّمَ لَهُمْ، وَحَدِيثُ جُبَيْرٍ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ انْتَهَى.

وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى بَيَانَ مَصْرِفٍ لَا اسْتِحْقَاقَ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُمْ مَنْعُهُمْ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام، وَذَلِكَ أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى وَإِنْ قُيِّدْت بِالنُّصْرَةِ الْمُوَازِرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ بَقَوْا بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يُعْطُوهُمْ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ: أَيْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَذْكُورِينَ مَصْرِفٌ حَتَّى جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، كَأَنْ يُعْطِيَ تَمَامَ الْخُمُسِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَنْ يُعْطِيَ تَمَامَهُ لِلْيَتَامَى كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التُّحْفَةِ فَجَازَ لِلرَّاشِدِينَ أَنْ يَصْرِفُوهُ إلَى غَيْرِهِمْ، خُصُوصًا وَقَدْ رَأَوْهُمْ أَغْنِيَاءَ مُتَمَوِّلِينَ إذْ ذَاكَ وَرَأَوْا صَرْفَهُ إلَى غَيْرِهِمْ أَنْفَعَ. وَنَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ مَصْرِفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَيُدْفَعُ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: إنَّهُمْ يُحْرَمُونَ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ بِمَنْعِ كَوْنِ الْخُمُسِ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَالُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقُّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِمْ لَا حَقٌّ لَنَا لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ طَاعَةً لَهُ لِيَصِيرَ وَسَخًا، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَرَفَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ لَمْ يَفْعَلْ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا أَنَّ مُقْتَضَاهُ كَوْنُ الْغَنِيِّ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَصْرِفًا غَيْرَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ لَمْ يُعْطُوهُمْ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ لِغَيْرِهِمْ فِي الصَّرْفِ، وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْغَنِيُّ مَصْرِفًا صَحَّ الصَّرْفُ إلَيْهِ، وَأَجْزَأَ؛ لِأَنَّ الْمَصْرِفَ مِنْ حَيْثُ إذَا صُرِفَ إلَيْهِ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِهِ وَلَيْسَ غِنَى ذَوِي الْقُرْبَى عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ.

هَذَا وَأَمَّا أَنَّهُ يَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ مَصَارِفَ كَانَ لِلنُّصْرَةِ فَلِمَا فِي أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ بِسَنَدِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَ

ص: 506

قَالَ (فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ فَإِنَّهُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِاسْمِهِ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ عليه الصلاة والسلام يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ.

بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَانْطَلَقْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْوَضْعِ الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ فِيهِمْ، فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكَتْنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» أَشَارَ بِهَذَا إلَى نُصْرَتِهِمْ إيَّاهُ نُصْرَةَ الْمُؤَانَسَةِ وَالْمُوَافَقَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ إذَا ذَاكَ نَصْرَ قِتَالٍ فَهُوَ يُشِيرُ إلَى دُخُولِهِمْ مَعَهُ فِي الشِّعْبِ حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِمٍ وَأَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَالْقِصَّةُ فِي السِّيرَةِ شَهِيرَةٌ.

وَعَنْ هَذَا اسْتَحَقَّتْ ذَرَارِيِّهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمْ قِتَالٌ. وَشَرْحُ قَوْلِهِ قَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَهَذَا الْجَدُّ، أَعْنِي عَبْدَ مَنَافٍ لَهُ أَوْلَادُ هَاشِمٍ الَّذِي مِنْ ذُرِّيَّتِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُطَّلِبُ وَنَوْفَلٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ، فَكَانَ قَرَابَةُ كُلٍّ مِنْ نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَالْمُطَّلِبِ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام وَاحِدَةً، فَمُقْتَضَى اسْتِحْقَاقِ ذَوِي الْقُرْبَى أَنْ يَسْتَحِقَّ الْكُلُّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَوْ يَكُونَ فُقَرَاءُ الْكُلِّ مَصَارِفَ عَلَى قَوْلِنَا، فَبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام أَنَّ الْمُرَادَ الْقَرَابَةُ الَّتِي تَحَقَّقَ مِنْهَا تِلْكَ النُّصْرَةُ السَّابِقَةُ، وَمَنْعُ الرَّاشِدِينَ لَهُمْ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى عِلْمِهِمْ بِعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ إنَّهُمْ مَصَارِفُ وَرَأَوْا غَيْرَهُمْ أَوْلَى مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (قَوْلُهُ فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ ذَوِي الْقُرْبَى شَرَعَ يُبَيِّنُ حَالَ سَهْمِ اللَّهِ وَسَهْمِ الرَّسُولِ، فَذَكَرَ أَنَّ سَهْمَهُ وَسَهْمَ رَسُولِهِ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} وَلِكَذَا وَكَذَا أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ سَهْمًا كَمَا لِكُلٍّ مِنْ الْأَصْنَافِ سَهْمٌ، بَلْ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي افْتِتَاحِ الْكَلَامِ لِيَتَبَرَّكَ بِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} فَسَهْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَاحِدٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَهْمُ اللَّهِ ثَابِتٌ يُصْرَفُ إلَى بِنَاءِ بَيْتِهِ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً، وَإِلَّا فَإِلَى مَسْجِدِ كُلِّ بَلْدَةٍ ثَبَتَ فِيهَا الْخُمُسُ. وَدَفَعَهُ بِأَنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِمَا ذَكَرَ. فَإِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه.

رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٌ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ نَهْشَلٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَرَأَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ثُمَّ قَالَ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مِفْتَاحُ الْكَلَامِ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وَكَذَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَنِيفَةِ فِيهِ قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامِ اللَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ فَصَرَفَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خَمْسَةٍ» ، فَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ تَكُونُ فِي سِتَّةٍ (قَوْلُهُ وَسَهْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ، وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ) قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَإِخْرَاجِ الْخُمُسِ كَمَا اصْطَفَى

ص: 507

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ إلَى الْخَلِيفَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ (وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنُّصْرَةِ) لِمَا رَوَيْنَا.

قَالَ (وَبَعْدُ بِالْفَقْرِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: سَهْمُ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ نَظَرًا إلَى الْمَصْرِفِ فَيُحَرِّمُهُ كَمَا حَرَّمَ الْعِمَالَةَ.

وَجْهُ الْأَوَّلِ

ذَا الْفَقَارِ وَهُوَ سَيْفُ مُنَبَّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ حِينَ أَتَى بِهِ عَلِيُّ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مُنَبَّهًا ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَكَمَا اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخَطَبَ مِنْ غَنِيمَةِ خَيْبَرَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْخَلِيفَةِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِإِمَامَتِهِ لَا بِرِسَالَتِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ) أَيْ مِنْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ إنَّمَا قَسَّمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ لَقَسَّمُوهُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَرَفَعُوا سَهْمَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يُنْقَلُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ، وَأَيْضًا فَهُوَ حُكْمٌ عُلِّقَ بِمُشْتَقٍّ وَهُوَ الرَّسُولُ فَيَكُونُ مَبْدَأُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً وَهُوَ الرِّسَالَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى إلَخْ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُغْنِي فِيهِ. وَقَوْلُهُ (كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنُّصْرَةِ لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (وَبَعْدَهُ بِالْفَقْرِ) لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْبَى الْمُخْتَصَّةُ بِتِلْكَ الْمُرَافَقَةِ فِي الضِّيقِ وَالْمُؤَانَسَةِ فِيهِ فَتَكُونُ الْمَصَارِفُ مُطْلَقًا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ، وَإِمَّا الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ فَهُمْ الْمَصَارِفُ كَذَلِكَ: أَيْ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، فَلَيْسَ الْوَجْهُ فِيهِ إلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ الْقَرَابَةَ النَّاصِرَةَ مَصَارِفُ كَغَيْرِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَعْطَاهُمْ اخْتِيَارًا لِأَحَدِ الْحَائِزِينَ لَهُ، لَا أَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ

ص: 508

وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ، أَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ) لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا وَغَلَبَةً لَا اخْتِلَاسًا وَسَرِقَةً، وَالْخُمُسُ وَظِيفَتُهَا، وَلَوْ دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ الْتَزَمَ نُصْرَتَهُمْ بِالْإِمْدَادِ فَصَارَ كَالْمَنَعَةِ (فَإِنْ دَخَلَتْ جَمَاعَةٌ لَهَا مَنَعَةٌ فَأَخَذُوا شَيْئًا خُمِّسَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الْإِمَامُ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ قَهْرًا وَغَلَبَةً فَكَانَ غَنِيمَةً، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ إذْ لَوْ خَذَلَهُمْ كَانَ فِيهِ وَهْنُ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نُصْرَتُهُمْ.

عَلَى مَصْرِفٍ دُونَ مَصْرِفٍ، ثُمَّ رَأَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الصَّرْفَ إلَى غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْطَوْا لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَمَا هُوَ الْحَقُّ فِي التَّقْرِيرِ، وَإِنَّمَا قَالَ (وَقِيلَ هُوَ الصَّحِيحُ) أَيْ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ مَنْ يُرَجِّحُ قَوْلَ الطَّحَاوِيِّ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ تَوْجِيهَهُ بِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ.

وَقَوْلُهُ (وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ) يُرِيدُ إجْمَاعَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَإِلَّا فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ إلَى الْيَوْمِ مِنْ الْعُلَمَاءِ

(قَوْلُهُ: وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرِينَ إلَخْ) جَمَعَهُ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ فَأَخَذُوا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فَأَخَذُوا وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَيْضًا مُرَادٌ إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ (فَأَخَذُوا شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ) وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ كَالْوَاحِدِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فَيُخَمِّسُ.

وَفِي الْمُحِيطِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ قَدَّرَ الْجَمَاعَةَ الَّتِي لَا مَنَعَةَ لَهَا بِسَبْعَةٍ، وَاَلَّتِي لَهَا مَنَعَةٌ بِعَشَرَةٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُخَمَّسُ مَا أَخَذَهُ الْوَاحِدُ تَلَصُّصًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ حَرْبِيٌّ أُخِذَ قَهْرًا فَكَانَ غَنِيمَةً فَيُخَمَّسُ بِالنَّصِّ، وَنَحْنُ وَأَحْمَدُ رحمه الله فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ نَمْنَعُ أَنَّهُ يُسَمَّى غَنِيمَةً، بَلْ الْغَنِيمَةُ مَا أُخِذَ قَهْرًا وَغَلَبَةً لَا اخْتِلَاسًا وَسَرِقَةً، إذْ الْمُتَلَصِّصُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِحِيلَةٍ فَكَانَ هَذَا اكْتِسَابًا مُبَاحًا مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، وَمَحَلُّ الْخُمُسِ مَا هُوَ الْغَنِيمَةُ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ مَا قَاسُوا

ص: 509

(فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ)

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَيُحَرِّضَ بِهِ عَلَى الْقِتَالِ فَيَقُولَ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَيَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ قَدْ جَعَلْت لَكُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا رَفَعَ الْخُمُسَ لِأَنَّ التَّحْرِيضَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

عَلَيْهِ مِنْ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ إذَا دَخَلَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ حَيْثُ أَذِنَ لَهُمْ، كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ لَهُمْ مَنَعَةٌ كَالْأَرْبَعَةِ أَوْ الْعَشَرَةِ إذَا دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ تَحَامِيًا عَنْ تَوْهِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالدِّينِ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ نُصْرَةِ الْإِمَامِ مُتَلَصِّصِينَ، وَكَانَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا غَنِيمَةً، وَخَذَلَهُ خِذْلَانًا إذَا تَرَكَ نَصْرَهُ وَأَسْلَمَهُ.

(فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ)

نَوْعٌ مِنْ الْقِسْمَةِ فَأَلْحَقَهُ بِهَا، وَقَدَّمَ تِلْكَ الْقِسْمَةَ لِأَنَّهَا بِضَابِطٍ وَهَذَا بِلَا ضَابِطٍ لِأَنَّهُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بِأَنْ يُنَفِّلَ قَلِيلًا وَكَثِيرًا وَنَحْوَهُمَا.

وَالتَّنْفِيلُ إعْطَاءُ الْإِمَامِ الْفَارِسَ فَوْقَ سَهْمِهِ، وَهُوَ مِنْ النَّفْلِ وَهُوَ الزَّائِدُ، وَمِنْهُ النَّافِلَةُ لِلزَّائِدِ عَلَى الْفَرْضِ، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَيُقَالُ نَفَّلَهُ تَنْفِيلًا وَنَفَلَهُ بِالتَّخْفِيفِ نَفْلًا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ (قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ) أَيْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَفِّلَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ تَحْرِيضٌ، وَالتَّحْرِيضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَبِهِ يَتَأَكَّدُ مَا سَلَف بِأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ لَفْظٌ لَا بَأْسَ إنَّمَا يُقَالُ لِمَا تَرَكَهُ أَوْلَى لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْرِيضَ وَاجِبٌ لِلنَّصِّ الْمَذْكُورِ، لَكِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي التَّنْفِيلِ لِيَكُونَ التَّنْفِيلُ وَاجِبًا بَلْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ أَيْضًا مِنْ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ التَّنْفِيلُ أَحَدَ خِصَالِ التَّحْرِيضِ كَانَ التَّنْفِيلُ وَاجِبًا مُخَيَّرًا، ثُمَّ إذَا كَانَ هُوَ أَدْعَى الْخِصَالِ إلَى الْمَقْصُودِ يَكُونُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يَسْقُطُ بِهِ أَوْلَى وَهُوَ الْمَنْدُوبُ فَصَارَ الْمَنْدُوبُ اخْتِيَارَ الْإِسْقَاطِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَا هُوَ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ.

وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي التَّنْفِيلِ تَرْجِيحُ الْبَعْضِ وَتَوْهِينُ الْآخَرِينَ وَتَوْهِينُ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِلَّا حَرَّمَ التَّنْفِيلَ لِاسْتِلْزَامِهِ مُحَرَّمًا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ حَالَ الْقِتَالِ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَنَا قَبْلَ الْإِصَابَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِسَلْبِ الْمَقْتُولِ أَوْ غَيْرِهِ. وَيَشْكُلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا» فَإِنَّمَا كَانَ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَرْبِ فِي حُنَيْنٍ (قَوْلُهُ فَيَقُولُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ) أَوْ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ (أَوْ يَقُولُ لِلسَّرِيَّةِ قَدْ جَعَلْت لَكُمْ) النِّصْفَ أَوْ (الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ) أَيْ بَعْدَ رَفْعِ الْخُمُسِ

ص: 510

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} وَهَذَا نَوْعُ تَحْرِيضٍ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ التَّنْفِيلُ بِمَا ذَكَرَ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْكُلِّ، فَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ السَّرِيَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ (وَلَا يُنَفِّلُ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ) لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ قَدْ تَأَكَّدَ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ. قَالَ (إلَّا مِنْ الْخُمُسِ) لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ

أَمَّا لَوْ قَالَ لِلْعَسْكَرِ كُلُّ مَا أَخَذْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ بِالسَّوِيَّةِ بَعْدَ الْخُمُسِ أَوْ لِلسَّرِيَّةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ السُّهْمَانِ الَّتِي أَوْجَبَهَا الشَّرْعُ إذًا فِيهِ تَسْوِيَةُ الْفَارِسِ بِالرَّاجِلِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ الْخُمُسِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْخُمُسِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ. ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ لِاتِّحَادِ اللَّازِمِ فِيهِمَا، وَهُوَ بُطْلَانُ السُّهْمَانِ الْمَنْصُوصَةِ بِالسَّوِيَّةِ، بَلْ وَزِيَادَةُ حِرْمَانِ مَنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا أَصْلًا بِانْتِهَائِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ، وَالْفَرْعُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْحَوَاشِي، وَبِهِ أَيْضًا يَنْتَفِي مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ إنَّهُ لَوْ نَفَلَ بِجَمِيعِ الْمَأْخُوذِ جَازَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ إيحَاشِ الْبَاقِينَ وَزِيَادَةُ الْفِتْنَةِ، وَلَا يُنَفِّلُ بِجَمِيعِ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ حَقِّ الْبَاقِينَ، وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ جَازَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ. ثُمَّ مَحَلُّ التَّنْفِيلِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رحمهم الله لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ الْمُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَمَا بَقِيَ لِلْغَانِمِينَ. قُلْنَا: إنَّمَا هِيَ حَقُّهُمْ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، أَمَّا قَبْلَهَا فَهُوَ مَالُ الْكُفَّارِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّنْفِيلِ إنَّمَا هُوَ مِمَّا يُصَابُ لَا حَالَ كَوْنِهِ مَا لَهُمْ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْإِصَابَةِ، وَعِنْدَ الْإِصَابَةِ لَمْ يَبْقَ مَالُ الْكَفَرَةِ.

نَعَمْ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهِ ضَعِيفٌ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِهِ بَعْدَهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقِتَالُ وَقَعَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ هَجَمَهَا الْعَدُوُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِصَابَةِ صَارَ مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ). أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَهُمْ فَهُوَ لِلْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ كَذَا لَا يَجُوز إبْطَالُ حَقِّ غَيْرِهِمْ.

أُجِيبُ إنَّمَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ جَعْلِ الْمُنَفِّلِ لَهُ مِنْ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَصَرْفُ الْخُمُسِ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ يَكْفِي لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ مَصَارِفُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَهُ فِي الْغِنَى وَيَجْعَلَ نَفْلًا لَهُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْمُحْتَاجِينَ لَا الْأَغْنِيَاءِ، فَجَعْلُهُ لِلْأَغْنِيَاءِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ

ص: 511

(وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّلْبُ لِلْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَصْبُ شَرْعٍ لِأَنَّهُ بَعَثَهُ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ مُقْبِلًا أَكْثَرَ غِنَاءً فَيَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً فَيُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ «لَيْسَ لَك مِنْ سَلَبِ قَتِيلِك إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك» وَمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ نَصْبَ الشَّرْعِ وَيَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الثَّانِي لِمَا رَوَيْنَاهُ.

قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّهْمِ أَوْ الرَّضْخِ وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ الْأَوَّلَ قَوْلًا وَاحِدًا.

وَلَهُ فِيمَنْ يَرْضَخُ لَهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا كَقَوْلِ أَحْمَدَ، وَالثَّانِي لَا سَلَبَ لَهُ. وَشَرَطَا أَنْ يَقْتُلَهُ مُقْبِلًا لَا مُدْبِرًا، وَأَنْ لَا يَرْمِيَ سَهْمًا إلَى صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَيُصِيبَ وَاحِدًا فَيَقْتُلَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ غِنَاءً كَثِيرًا، إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ.

وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى حُنَيْنٍ فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ عليه الصلاة والسلام مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، قَالَ: فَقُمْت فَقُلْت مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْت، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ، فَقُمْت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَالَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَاقْتَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ: يَعْنِي قِصَّةَ قَتْلِهِ لِلْقَتِيلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: لَاهَا اللَّهِ إذَنْ لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيَك سَلَبَهُ، قَالَ عليه الصلاة والسلام: صَدَقَ فَأَعْطِهِ إيَّاهُ، قَالَ فَأَعْطَانِيهِ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ.

وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ أَنَّ هَذَا مِنْهُ نَصْبَ الشَّرْعِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، أَوْ كَانَ تَحْرِيضًا بِالتَّنْفِيلِ قَالَهُ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ وَغَيْرِهَا يَخُصُّهُمَا؛ فَعِنْدَهُ (هُوَ نَصْبُ الشَّرْعِ) لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي قَوْلِهِ (لِأَنَّهُ إنَّمَا بُعِثَ لِذَلِكَ) وَقُلْنَا: كَوْنُهُ تَنْفِيلًا هُوَ أَيْضًا مِنْ نَصْبِ الشَّرْعِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ (بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ:«لَيْسَ لَك مِنْ سَلَبِ قَتِيلِك إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك» ) فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَحَدِ مُحْتَمِلَيْ قَوْلِهِ " وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَهُوَ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْغُزَاةِ لَا نِصَابٌ عَامٌّ لِلشَّرْعِ، وَهُوَ حَسَنٌ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَوْ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ إنَّمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ وَالْوَسَطِ: بَلَغَ حَبِيبَ بْنَ مُسْلِمَةَ أَنَّ صَاحِبَ قُبْرُصَ خَرَجَ يُرِيدُ طَرِيقَ أَذْرَبِيجَانَ وَمَعَهُ زُمُرُّدٌ وَيَاقُوتٌ وَلُؤْلُؤٌ وَغَيْرُهَا

ص: 512

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَخَرَجَ إلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ بِمَا مَعَهُ، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُخَمِّسَهُ فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ: لَا تَحْرِمْنِي رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، فَقَالَ مُعَاذٌ: يَا حَبِيبُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ» وَهَذَا مَعْلُولٌ بِعَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ.

وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مُعَسْكِرِينَ بِدَابِقٍ فَذَكَرَ لِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ إلَى أَنْ قَالَ: فَجَاءَ بِسَلَبِهِ يَحْتَمِلُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَبْغَالٍ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، فَأَرَادَ حَبِيبٌ أَنْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ بَعْضَهُ، فَقَالَ حَبِيبٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِلْأَبَدِ، وَسَمِعَ مُعَاذٌ ذَلِكَ فَأَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ وَحَبِيبٌ يُخَاصِمُهُ، فَقَالَ مُعَاذٌ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ وَتَأْخُذُ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك، فَإِنَّمَا لَك مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك، وَحَدَّثَهُمْ بِذَلِكَ مُعَاذٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَعْطَوْهُ بَعْضَ الْخُمُسِ، فَبَاعَهُ حَبِيبٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ.

وَفِيهِ كَمَا تَرَى مَجْهُولٌ. وَيَخُصُّ الْمُصَنِّفَ أَنَّهُ جَعَلَهُ خِطَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَبِيبٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَسَمَّاهُ حَبِيبَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَصَوَابُهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَلَكِنْ قَدْ لَا يَضُرُّ ضَعْفُهُ، فَإِنَّا إنَّمَا نَسْتَأْنِسُ بِهِ لِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْ لَفْظٍ رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ يَتَأَيَّدُ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ بَعْدَمَا رَأَى سَيْفَيْهِمَا ": كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، ثُمَّ قَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَحْدَهُ " وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْقَاتِلِ لَقَضَى بِهِ لَهُمَا، إلَّا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ دَفَعَهُ بِأَنَّ غَنِيمَةَ بَدْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَصِّ الْكِتَابِ يُعْطِي مِنْهَا مَنْ شَاءَ، وَقَدْ قَسَّمَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَحْضُرُوا، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ بَدْرٍ فَقَضَى عليه الصلاة والسلام بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى. يَعْنِي مَا كَانَ إذْ ذَاكَ قَالَ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال، وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهُ قَالَ فِي بَدْرٍ أَيْضًا عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام يَوْمَ بَدْرٍ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَجَاءَ أَبُو الْيُسْرِ بِأَسِيرَيْنِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ بِنَا جُبْنٌ عَنْ الْعَدُوِّ وَلَا ضَنٌّ بِالْحَيَاةِ أَنْ نَصْنَعَ مَا صَنَعَ إخْوَانُنَا وَلَكِنَّا رَأَيْنَاكَ قَدْ أَفْرَدْت فَكَرِهْنَا أَنْ نَدْعَكَ بِمَضْيَعَةٍ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوَزِّعُوا تِلْكَ الْغَنَائِمَ بَيْنَهُمْ» ، فَظَهَرَ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَهُ لَيْسَ نَصْبُ الشَّرْعِ لِلْأَبَدِ.

وَهُوَ وَإِنْ ضَعُفَ سَنَدُهُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. فِي أَبِي دَاوُد وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِلَفْظِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ مِنْ الرَّاوِي عَنْ خُصُوصِ مَا قَالَهُ.

وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنِّي دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، فَإِنَّ الْحَالَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلَا الْحَالُ يَقْتَضِي ذَاكَ لِقِلَّتِهَا أَوْ عَدَمِهَا، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الْمُكَنِّيَ عَنْهُ الرَّاوِي هُوَ السَّلَبُ، وَمَا أُخِذَ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ أَنْ يَحْصُلُ فِي الْحَرْبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا رُوِيَ بِطَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ بَاطِلًا فَيَقَعُ الظَّنُّ بِصِحَّةِ جَعْلِهِ فِي بَدْرٍ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَالْمَأْخُوذُ لِلْآخِذِ فَيَجِبُ قَبُولُهُ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَظَافَرَتْ بِهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِهِ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» أَنَّهُ لَيْسَ نَصْبًا عَامًّا مُسْتَمِرًّا، وَالضَّعِيفُ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ يَرْتَقِي إلَى الْحَسَنِ فَيَغْلِبُ الظَّنَّ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ بَقِيَّةُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ كَذَا وَكَذَا فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، لَوْ انْهَزَمْتُمْ فِئْتُمْ إلَيْنَا فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى، فَأَبَى الْفِتْيَانُ ذَلِكَ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَنَا

ص: 513

وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ لَا تُعْتَبَرُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

(وَالسَّلَبُ مَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَرْكَبِهِ، وَكَذَا مَا كَانَ عَلَى مَرْكَبِهِ مِنْ السَّرْجِ وَالْآلَةِ، وَكَذَا مَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالِهِ فِي حَقِيبَتِهِ أَوْ عَلَى وَسَطِهِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسَلَبٍ)

الْحَدِيثَ.

فَقَوْلُهُ جَعَلَهُ يُبَيِّنُ أَنَّ كَذَا وَكَذَا هُوَ جَعْلُهُ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِينَ وَالْمَأْخُوذُ لِلْآخِذِينَ. وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّهُ كَمَا قُلْنَا. قَالَ: خَرَجْت مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِي مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ، وَسِلَاحٌ مُذَهَّبٌ فَجَعَلَ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ فَخَرَّ فَعَلَاهُ وَقَتَلَهُ وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْهُ سَلَبَ الرُّومِيِّ، قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْت خَالِدًا فَقُلْت لَهُ: يَا خَالِدُ أَمَّا عَلِمْت «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ» ، قَالَ بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ، قُلْت: لَتَرُدَّنَّهُ أَوْ لِأُعَرِّفَنكهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ.

قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَصَصْت عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ وَمَا فَعَلَ الْمَدَدِيُّ وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«يَا خَالِدُ رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْت مِنْهُ، قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْت دُونَكَ يَا خَالِدُ أَلَمْ أَفِ لَكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي أُمَرَائِي لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ» فَفِيهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ رَدُّ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَقُلْ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» إلَّا فِي حُنَيْنٍ، فَإِنَّ مُؤْتَةَ كَانَتْ قَبْلَ حُنَيْنٍ، وَقَدْ اتَّفَقَ عَوْفٌ وَخَالِدٌ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ» قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مَنَعَ خَالِدًا مِنْ رَدِّهِ بَعْدَمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ تَنْفِيلًا وَأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِذَلِكَ كَانَ تَنْفِيلًا طَابَتْ نَفْسُ الْإِمَامِ لَهُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَازِمًا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ. وَقَوْلُ الْخَطَابِيِّ: إنَّمَا مَنَعَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى عَوْفٍ سَلَبَهُ زَجْرًا لِعَوْفٍ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَخَالِدٌ كَانَ مُجْتَهِدًا، فَأَمْضَاهُ عليه الصلاة والسلام، وَالْيَسِيرُ مِنْ الضَّرَرِ يَتَحَمَّلُ لِلْكَثِيرِ مِنْ النَّفْعِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّلَبَ لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي تَجَرَّأَ وَهُوَ عَوْفٌ وَإِنَّمَا كَانَ لِلْمَدَدِيِّ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَغَضَبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ عَلَى عَوْفٍ مِنْ مَنْعِ السَّلَبِ وَأَزْجَرَ لَهُ مِنْهُ.

فَالْوَجْهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَحَبَّ أَوَّلًا أَنْ يُمْضِيَ شَفَاعَتَهُ لِلْمَدَدِيِّ فِي التَّنْفِيلِ، فَلَمَّا غَضِبَ مِنْهُ رَدَّ شَفَاعَتَهُ وَذَلِكَ بِمَنْعِ السَّلَبِ لَا أَنَّهُ لِغَضَبِهِ وَسِيَاسَتِهِ يَزْجُرُهُ بِمَنْعِ حَقٍّ آخَرَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ جِنَايَةٌ فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْعًا عَامًّا لَازِمًا.

قَوْلُهُ (وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ) جَوَابٌ عَنْ تَخْصِيصِهِ بِكَوْنِهِ يَقْتُلُهُ مُقْبِلًا فَقَالَ زِيَادَةُ الْغِنَاءِ (فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا تُعْتَبَرُ) مُوجِبَةً زِيَادَةً مِنْ الْمَغْنَمِ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ.

وَقَوْلُهُ (كَمَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مَا قَدَّمَهُ فِي أَوَّلِ فَصْلِ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ بَلْ نَفْسُ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى شَاهِدٍ بِأَنَّ إغْنَاءَ هَذَا فِي هَذَا الْحَرْبِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَلَا يَكْفِي زِيَادَةُ شُهْرَةٍ هَذَا دُونَ ذَلِكَ؛ إذْ لَا بُعْدَ أَنْ يَتَّفِقَ إغْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْمَشْهُورِ فِي وَقْتٍ أَكْثَرَ مِنْ الْمَشْهُورِ، أَوْ يُشِيرَ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ

(وَقَوْلُهُ وَالسَّلَبُ مَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَرْكَبِهِ وَمَا عَلَى مَرْكَبِهِ مِنْ السَّرْجِ وَالْآلَةِ وَمَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالٍ فِي حَقِيبَتِهِ وَمَا عَلَى وَسَطِهِ) مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ (وَمَا)

ص: 514

وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ بِسَلَبِهِ، ثُمَّ حُكْمُ التَّنْفِيلِ قَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ، فَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْإِمَامُ مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ فَأَصَابَهَا مُسْلِمٌ وَاسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَا لَا يَبِيعُهَا. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَيَبِيعَهَا، لِأَنَّ التَّنْفِيلَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَهُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبِالشِّرَاءِ مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

سِوَى ذَلِكَ مِمَّا (هُوَ مَعَ غُلَامِهِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ فَلَيْسَ مِنْهُ) بَلْ حَقُّ الْكُلِّ.

وَالْحَقِيبَةُ الرِّفَادَةُ فِي مُؤَخَّرِ الْقَتَبِ، وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْته فِي مُؤْخِرَةِ رَحْلِك أَوْ قَتَبِك فَقَدْ اسْتَحْقَبْتَهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْمِنْطَقَةِ وَالطَّوْقِ وَالسِّوَارِ وَالْخَاتَمِ وَمَا فِي وَسَطِهِ مِنْ النَّفَقَةِ وَحَقِيبَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَيْسَ مِنْ السَّلَبِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مِنْ السَّلَبِ وَهُوَ قَوْلُنَا وَعَنْ أَحْمَدَ فِي بُرْدَتِهِ رِوَايَتَانِ (قَوْلُهُ ثُمَّ حُكْمُ التَّنْفِيلِ قَطْعُ حَقِّ الْبَاقِينَ) فَقَطْ (وَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ إلَخْ (حَتَّى لَوْ قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ) وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ (فَأَصَابَهَا مُسْلِمٌ فَاسْتَبْرَأَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا) فِي دَارِ الْحَرْبِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَنْ يَطَأَهَا) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ فَصَارَ كَالْمُخْتَصِّ بِشِرَائِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ قَسْمِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجْتَهِدًا حَيْثُ يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ إذَا أَخَذَ جَارِيَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ وَاسْتَبْرَأَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَا اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ شَارَكُوهُ فِيهَا. وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي النَّفْلِ لَيْسَ إلَّا الْقَهْرُ كَمَا فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقْهُورَ دَارًا وَقَاهِرَ يَدًا فَيَكُونُ السَّبَبُ ثَابِتًا فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، لَا أَثَرَ لِلتَّنْفِيلِ فِي إثْبَاتِ الْقَهْرِ بَلْ فِي قَطْعِ حَقِّ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا سَبَبُهُ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي كُلِّ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ بِالتَّرَاضِي لَا الْقَهْرُ وَقَدْ تَمَّ، وَعَدَمُ الْحِلِّ لِلْمُتَلَصِّصِ لِعَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ أَيْضًا قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا لِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ لُحُوقَ الْجَيْشِ مَوْهُومٌ فَلَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْمِلْكِ يَتِمُّ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ خِلَافٌ.

قِيلَ نَعَمْ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَتِمُّ مِلْكُ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ فَيَطَؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُشْتَرَاةِ، وَجَعَلَ الْأَظْهَرَ فِي الْمَبْسُوطِ عَدَمَ الْحِلِّ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ لِمُحَمَّدٍ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ (وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ) ذَكَرَهُ لِدَفْعِ شُبْهَةٍ تَرُدُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

ص: 515

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُتْلِفَ لِسَلَبٍ نَفَّلَهُ الْإِمَامُ رَجُلًا يَضْمَنُ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فَوَرَدَ عَلَيْهِمَا أَنَّ الضَّمَانَ دَلِيلُ تَمَامِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحِلَّ الْوَطْءَ عِنْدَكُمَا أَيْضًا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ فَقَالَ فِي جَوَابِهِ بَلْ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا. وَفِي نُسْخَةٍ وَقَدْ قِيلَ بِالْوَاوِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

ص: 516