المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌(بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ) (إذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ - فتح القدير للكمال بن الهمام - ط الحلبي - جـ ٦

[الكمال بن الهمام]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

(بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ)

(إذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا)؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ فِي مَالٍ مُبَاحٍ وَهُوَ السَّبَبُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (فَإِنْ غَلَبْنَا عَلَى التُّرْكِ حَلَّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ ذَلِكَ) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ.

(وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا)

بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ)

. لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَائِنَا عَلَيْهِمْ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَحُكْمِ اسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْنَا وَتَقْدِيمُهُ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي ظَاهِرٌ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ) أَيْ كُفَّارُ التُّرْكِ عَلَى كُفَّارِ الرُّومِ (فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ) عَنْ قَرِيبٍ (فَإِنْ غَلَبْنَا عَلَى التُّرْكِ حَلَّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ مَالٍ) أَيْ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرُّومِ مُوَادَعَةٌ؛ لِأَنَّا لَمْ نَغْدِرْهُمْ إنَّمَا أَخَذْنَا مَالًا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِمْ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُوَادَعَةٌ فَاقْتَتَلُوا فَغَلَبَتْ إحْدَاهُمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الْمَغْنُومَ مِنْ مَالِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى مِنْ الْغَانِمَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَالْإِحْرَازُ بِدَارِ الْحَرْبِ شَرْطٌ، أَمَّا بِدَارِهِمْ فَلَا. وَلَوْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُوَادَعَةٌ وَاقْتَتَلُوا فِي دَارِنَا لَا نَشْتَرِي مِنْ الْغَالِبِينَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَيَكُونُ شِرَاؤُنَا غَدْرًا بِالْآخَرِينَ فَإِنَّهُ عَلَى مِلْكِهِمْ.

وَأَمَّا لَوْ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَلْ يَجُوزُ شِرَاءُ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ الْغَالِبِينَ نَفْسًا أَوْ مَالًا؟ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ بَيْنَ الْمَأْخُوذِ وَبَيْنَ الْآخِذِ قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ كَالْأُمِّيَّةِ أَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلْآخِذِ لَمْ يَجُزْ إلَّا إنْ دَانُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ دَانُوا بِأَنَّ مَنْ قَهَرَ آخَرَ مَلَكَهُ جَازَ الشِّرَاءُ، وَإِلَّا لَا.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، إلَّا أَنَّ

ص: 3

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُونَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَةِ الْخَصْمِ.

عِنْدَ مَالِكٍ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ يَمْلِكُونَهَا. وَلِأَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ كَقَوْلِنَا وَكَقَوْلِ مَالِكٍ: فَيَتَفَرَّعُ عَلَى مِلْكِهِمْ أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ أَنَّ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا أَخَذُوهُ فَيَأْكُلَهُ وَيَطَأَ الْجَارِيَةَ لِمِلْكِهِمْ كُلَّ ذَلِكَ. (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُونَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ) أَيْ اسْتِيلَاءَهُمْ عَلَى أَمْوَالِنَا (مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً) عِنْدَ الْأَخْذِ (وَانْتِهَاءً) عِنْدَ صَيْرُورَتِهَا فِي دَارِهِمْ؛ لِبَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَالِ لِبَقَاءِ سَبَبِهَا وَهُوَ عِصْمَةُ الْمَالِكِ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ إجْمَاعًا. (وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَتِهِ) فَصَارَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَكَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى رِقَابِنَا؛ وَلِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مُسْنَدًا إلَى عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: «كَانَتْ الْعَضْبَاءُ مِنْ سَوَابِقِ الْحَاجِّ، فَأَغَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ وَفِيهِ الْعَضْبَاءُ وَأَسَرُوا امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا إذَا نَزَلُوا يُرِيحُونَ إبِلَهُمْ فِي أَفْنِيَتِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَامَتْ الْمَرْأَةُ وَقَدْ نَامُوا فَجَعَلَتْ لَا تَضَعُ يَدَهَا عَلَى بَعِيرٍ إلَّا رَغَا حَتَّى أَتَتْ عَلَى الْعَضْبَاءِ، فَأَتَتْ عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ فَرَكِبَتْهَا ثُمَّ وَجَّهَتْ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَنَذَرَتْ لَئِنْ اللَّهُ عز وجل نَجَّاهَا عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَرَفَتْ النَّاقَةَ، فَأَتَوْا بِهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بِنَذْرِهَا، فَقَالَ: بِئْسَ مَا جَزَيْتِيهَا أَوْ وَفَّيْتِيهَا لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . وَفِي لَفْظٍ: فَأَخَذَ نَاقَتَهُ. وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ يَمْلِكُونَ بِالْإِحْرَازِ لَمَلَكَتْهَا الْمَرْأَةُ لِإِحْرَازِهِمْ إيَّاهَا. وَلِلْجُمْهُورِ أَوْجُهٌ مِنْ النَّقْلِ وَالْمَعْنَى، فَالْأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ، وَالْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَلَكُوا أَمْوَالَهُمْ الَّتِي خَلَّفُوهَا وَهَاجَرُوا عَنْهَا، وَلَيْسَ مَنْ مَلَكَ مَالًا وَهُوَ فِي مَكَان لَا يَصِلُ إلَيْهِ فَقِيرًا بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِابْنِ السَّبِيلِ وَلِذَا عُطِفُوا عَلَيْهِمْ فِي نَصِّ الصَّدَقَةِ.

وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّارِحُونَ مِمَّا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ «قِيلَ لَهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْفَتْحِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ. وَرُوِيَ أَتَنْزِلُ غَدًا بِدَارِك؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» ، وَإِنَّمَا قَالَهُ؛ لِأَنَّ عَقِيلًا كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ دَلِيلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، فَإِنَّ عَقِيلًا إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى الرِّبَاعِ بِإِرْثِهِ إيَّاهَا مِنْ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا مُسْلِمَيْنِ وَعَقِيلًا وَطَالِبًا كَافِرَيْنِ فَوَرِثَاهُ، لَا أَنَّ الدِّيَارَ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا هَاجَرَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا فَمَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ قَالَ: «وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ نَاقَةً لَهُ، فَارْتَفَعَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إنْ شِئْت أَنْ تَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَأَنْتَ أَحَقُّ، وَإِلَّا فَخَلِّ عَنْ نَاقَتِهِ» وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مُسْنِدًا عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. وَفِي سَنَدِهِ يَاسِينُ الزَّيَّاتُ مُضَعَّفٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِيمَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فَاسْتَنْقَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ: إنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قُسِّمَ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ» وَضُعِّفَ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ وَجَدَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَمَا قُسِّمَ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ»

ص: 4

وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ لِضَرُورَةِ تَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ عَادَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا،

وَضُعِّفَ بِإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ ثُمَّ أَخْرَجَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ فِيهِ رِشْدِينُ وَضَعَّفَهُ بِهِ.

وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ» وَفِيهِ يَاسِينُ ضُعِّفَ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ مَا أَخَذَ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَمَا قُسِّمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ إلَّا بِالْقِيمَةِ. قَالَ: وَهَذَا إنَّمَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا وَكِلَاهُمَا لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: فِيمَا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَأَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فَعَرَفَهُ صَاحِبُهُ: أَيْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ جَرَتْ فِيهِ السِّهَامُ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ إلَى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ.

وَرُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ اشْتَرَى مَا أَحْرَزَ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَشُكُّ بَعْدَ هَذِهِ الْكَثْرَةِ فِي نَفْيِ أَصْلِ هَذَا الْحُكْمِ، وَيَدُورُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَضْعِيفٍ بِالْإِرْسَالِ أَوْ التَّكَلُّمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَإِنَّ الظَّنَّ بِلَا شَكٍّ يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ، وَأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْكَذِبَ. وَيَبْعُدُ أَنَّهُ وَقَعَ غَلَطٌ لِلْكُلِّ فِي ذَلِكَ، وَتَوَافَقُوا فِي هَذَا الْغَلَطِ، بَلْ لَا شَكَّ أَنَّ الرَّاوِيَ الضَّعِيفَ إذَا كَثُرَ مَجِيءُ مَعْنَى مَا رَوَاهُ يَكُونُ مِمَّا أَجَادَ فِيهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ الضَّعِيفَ الْغَلَطُ دَائِمًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ حَالِهِ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ.

هَذَا مَعَ اعْتِضَادِهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ الصَّحِيحِ. وَحَدِيثُ الْعَضْبَاءِ كَانَ قَبْلَ إحْرَازِهِمْ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ أَلَا يُرَى إلَى قَوْلِهِ وَكَانُوا إذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا إلَخْ فَإِنَّهُ يُفْهِمُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ وَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(الِاسْتِيلَاءُ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ) يَعْنِي الِاسْتِيلَاءَ الْكَائِنَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ (فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ) فَإِنَّهُ مَا تَمَّ لَنَا الْمَلِكُ فِيهِ إلَّا لِهَذَا الْمَعْنَى (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُهُ مُبَاحًا إذْ ذَاكَ (لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْأَمْوَالِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ (لِضَرُورَةِ تَمَكُّنِ الْمُحْتَاجِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ) مِنْ الِانْتِفَاعِ (عَادَ مُبَاحًا) وَزَوَالُهَا عَلَى التَّحْقِيقِ وَالْيَقِينِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، فَإِنَّ الْإِحْرَازَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَامًّا وَهُوَ (الِاقْتِدَارُ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا) بِالِادِّخَارِ إلَى وَقْتِ حَاجَتِهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا أَحْرَزْنَا أَمْوَالَهُمْ لَا تَزُولُ أَمْلَاكُهُمْ؛ لِأَنَّ

ص: 5

وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ وَهُوَ الثَّوَابُ الْآجِلُ فَمَا ظَنُّك بِالْمِلْكِ الْعَاجِلِ؟.

الْعِصْمَةَ وَمُكْنَةَ الِانْتِفَاعِ ثَابِتَةٌ مَعَ اتِّحَادِ الدَّارِ وَالْمِلَّةِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ بِالشَّكِّ.

ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ: الْمَحْظُورُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ. فَقَالَ: ذَاكَ فِي الْمَحْظُورِ لِنَفْسِهِ (أَمَّا الْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ فَلَا فَإِنَّا وَجَدْنَاهُ صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ وَهُوَ الثَّوَابُ) كَمَا فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ (فَمَا ظَنُّك بِالْمِلْكِ الدُّنْيَوِيِّ) وَالْقِيَاسُ عَلَى اسْتِيلَائِهِمْ عَلَى رِقَابِنَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا، وَكَذَا عَلَى غَصْبِ الْمُسْلِمِ مَالَ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إحْرَازٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَاغِي. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِصْمَةَ إنْ أُزِيلَتْ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ لَا يَكُونُ الِاسْتِيلَاءُ مَحْظُورًا لِيَحْتَاجَ إلَى هَذَا الْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَالَتْ لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لَهُمْ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا بِالْإِسْلَامِ، وَالْمُقَوَّمَةَ زَالَتْ؛ لِأَنَّهَا بِالدَّارِ. وَقَدْ يُقَالُ إنْ كَانَ الْمِلْكُ زَالَ تَبَعًا لِزَوَالِ الْقِيمَةِ صَارَ مُبَاحًا وَعَادَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ لَزِمَ الثَّانِي فَالْمَدَارُ الْإِبَاحَةُ وَعَدَمُهَا. ثُمَّ الْوَجْهُ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ أَنَّهُ مَحْظُورٌ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنْ أُرِيدَ بِهِ ابْتِدَاءُ الْأَخْذِ أَوْ إدْخَالُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَجِبُ كَوْنُهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَهُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُ الْغَصْبِ؛ لِقِيَامِ مِلْكِ الْغَيْرِ فَهُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا عُرِفَ، كَذَا أُورِدَ فِي الْأُصُولِ عَلَى كَوْنِ الْغَصْبِ يُفِيدُ الْمِلْكَ ذَلِكَ. أُجِيبُ بِأَنَّ الْمُفِيدَ لَهُ هُوَ الضَّمَانُ عَلَى مَا فِي تَوْجِيهِهِ مِنْ الْكَلَامِ، بَلْ نَقُولُ: لَيْسَ الِاسْتِيلَاءُ الْأَوَّلُ سَبَبًا لِمِلْكِهِ وَلَا الْإِدْخَالُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، بَلْ الْإِدْخَالُ سَبَبُ زَوَالِ مُكْنَةِ الِانْتِفَاعِ وَزَوَالُ مُكْنَةُ الِانْتِفَاعِ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ لَا يَتَّصِفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ. ثُمَّ الِاسْتِيلَاءُ الْكَائِنُ فِي الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ الْمُبَاحِ سَبَبُ مِلْكِ الْكَافِرِ، وَهَذَا الِاسْتِيلَاءُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ، وَإِبَاحَتُهُ مُسَبَّبَةٌ عَمَّا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَهُوَ زَوَالُ الْمُكْنَةِ، فَأَمَّا الْأَخْذُ وَمَا يَلِيهِ فَأَسْبَابٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَكَانَ الْوَجْهُ مَنْعَ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُنَا مَحْظُورٌ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُبَاحٌ.

وَالسَّبَبُ الْبَعِيدُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُسَبَّبِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْبَعِيدَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْمَعْلُولِ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَعْقِبُ إبَاحَةً أَصْلًا. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي التَّقْرِيرِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مَحْظُورٍ مَعْصُومٍ؛ لِأَنَّ اسْتِيلَاءَهُمْ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَبَعْدَهُ ارْتَفَعَتْ الْعِصْمَةُ فَوَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ، كَمَالِ الْمُسْلِمِ ثَمَّةَ إذَا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا يَقْتَضِي أَنَّ مَالَهُ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَالُهُ مَعْصُومٌ عَلَيْهِ غَيْرُ الْعَقَارِ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ،

ص: 6

(فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهَا الْمَالِكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهِيَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «إنْ وَجَدْته قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْته بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِالْقِيمَةِ» وَلِأَنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ زَالَ مِلْكُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ نَظَرًا لَهُ، إلَّا أَنَّ فِي الْأَخْذِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ضَرَرًا بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ الْخَاصِّ فَيَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالشَّرِكَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَامَّةٌ فَيَقِلُّ الضَّرَرُ فَيَأْخُذُهُ بِغَيْرِ قِيمَةٍ.

(وَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرٌ فَاشْتَرَى ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَالِكُهُ الْأَوَّلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ)؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مَجَّانًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ فَكَانَ اعْتِدَالُ النَّظَرِ فِيمَا قُلْنَاهُ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ، وَلَوْ وَهَبُوهُ لِمُسْلِمٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ مَغْنُومًا

وَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ بَلْ يَكْفِي الْمَنْعُ بِأَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ إلَخْ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهَا الْمَالِكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهِيَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهِ إنْ وَجَدْته إلَخْ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْحَدِيثِ وَنَظَائِرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَخَذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إذَا كَانَ حُكْمًا لَازِمًا يَقْتَضِي قِيَامَ مِلْكِهِ. أُجِيبُ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ الْوَاهِبَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَهَبَهُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ شَرْعًا، وَكَذَا الشَّفِيعُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَالِكِ الْمُشْتَرِي فِي الْأَخْذِ وَلَا مِلْكَ لَهُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي الشَّرْعِ صُوَرًا يُقَدَّمُ فِيهَا غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى الْمَالِكِ كَمَا أَرَيْنَاك فَلَأَنْ يُقَدَّمَ غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ أَوْلَى وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِي الْمَغْنُومِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَجَبْرُ ضَرُورَةِ الْقَوِيِّ بِضَرَرٍ يَسِيرٍ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ أَوَّلًا فِي الْحَقِّ دُونَ الْمِلْكِ، وَثَانِيًا هِيَ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ فَيَخِفُّ ضَرَرُ كُلِّ وَاحِدٍ خِفَّةً كَثِيرَةً.

وَصُورَةُ الشَّفِيعِ شَبِيهَةٌ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِتَقَدُّمِهِ فِي إثْبَاتِ مِلْكٍ مُنْتَفٍ بِإِزَالَةِ مِلْكٍ مَوْجُودٍ بِالثَّمَنِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْجِوَارِ أَوْ الْخُلْطَةِ مَعَ دَفْعِ ضَرَرِ إتْلَافِ مَالِ الْآخَرِ، وَأَشْبَهَ بِالتَّاجِرِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَى مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ ثَابِتٍ بِعِوَضٍ بِإِحْدَاثِ مِلْكٍ زَائِلٍ بِعِوَضٍ بِقَدْرِهِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا لَمْ يُزِلْ الْمِلْكَ الْخَاصَّ الْحَادِثَ لِلْغَازِي فِي مُقَابَلَةِ غَنَاءٍ حَصَلَ لَهُ لَا بِمُقَابَلَةِ مَالٍ بَذَلَهُ إلَّا بِبَدَلِهِ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ وَيَخِفَّ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَأَنْ لَا يُزِيلَهُ بِرَفْعِ مِلْكٍ حَصَلَ بِعِوَضٍ بِإِحْدَاثِ مِلْكٍ إلَّا بِعِوَضٍ؛ لِيَعْتَدِلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْلَى.

(وَلَوْ) أَنَّ التَّاجِرَ (اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ) هَذَا وَلَوْ تَرَكَ أَخْذَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِشِرَائِهِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ زَمَانًا طَوِيلًا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَيْسَ لَهُ كَالشَّفِيعِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ الشُّفْعَةَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ (وَلَوْ وَهَبُوهُ لِمُسْلِمٍ أَخَذَهُ مَالِكُهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ) فِي مُقَابَلَةِ مَا كَالْمَالِ أَوْ أَثْقَلَ مِنْ الْمَالِ إذْ الْمَالُ ثَابِتٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمُكَافَأَةَ مَطْلُوبَةٌ وَالظَّاهِرُ إيقَاعُهَا (فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ) وَقَدْ يُمْنَعُ هَذَا بِالرُّجُوعِ.

وَلَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ الْكُفَّارُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ مِثْلِيًّا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَالْعَسَلِ وَالزَّيْتِ ثُمَّ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَلَا

ص: 7

وَهُوَ مِثْلِيٌّ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَوْهُوبًا لَا يَأْخُذُهُ لِمَا بَيَّنَّا. وَكَذَا إذَا كَانَ مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا.

قَالَ: (فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأَخَذَ أَرْشَهَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ) أَمَّا الْأَخْذُ بِالثَّمَنِ فَلِمَا قُلْنَا (وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ صَحِيحٌ، فَلَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ وَهُوَ لَا يُفِيدُ وَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمَّا تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفِيعِ صَارَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ

يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ (لِأَنَّ أَخْذَهُ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَكَذَا إذَا كَانَ) الْمِثْلِيُّ (مَوْهُوبًا) مِنْ الْكَافِرِ لِلْمُخْرِجِ لَهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْمِثْلُ وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِمَا قُلْنَا. (وَكَذَا إذَا كَانَ) الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْكُفَّارِ (مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا) لَيْسَ لِصَاحِبِهِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ قَدْرًا مِنْهُ أَوْ بِجِنْسِهِ لَكِنْ أَدْوَنُ مِنْهُ أَوْ أَحْسَنُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمِثْلِ مَا أَعْطَى الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ.

[فَرْعٌ] اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُشْتَرِي مِنْهُمْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتَمَلَّكُ عَلَيْهِ مَالُهُ بِمَا يُقِرُّ هُوَ بِهِ كَالْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ فَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ، وَأَخَذَ أَرْشَهَا، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ صَحِيحٌ)؛ لِأَنَّهُ آخِذٌ بَدَلِ مِلْكٍ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ (فَلَوْ أَخَذَهُ) أَيْ الْأَرْشَ (أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ) دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَعَلِمْت أَنَّهُ لَا يُفِيدُ وَلَوْ أَخَذَهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَبَاعَهَا الْغَانِمُ بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ فَأَرَادَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخْذَ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ ذَلِكَ بِأَلْفٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِحِصَّتِهِ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَسَّمَ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْقَبْضِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْأَخْذِ، فَمَا أَصَابَ كُلًّا فَهُوَ حِصَّتُهُ مِنْ الْأَلْفِ. (وَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ) بِمَا نَقَصَ مِنْ عَيْنِهِ (لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ) بِمَا نَقَصَ مِنْ عَيْنِ الْعَبْدِ وَالْعَيْنُ كَالْوَصْفِ؛ لِأَنَّهَا يَحْصُلُ بِهَا وَصْفُ الْإِبْصَارِ،

ص: 8

الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ فِيهِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، أَمَّا هَاهُنَا الْمِلْكُ صَحِيحٌ فَافْتَرَقَا.

وَقَدْ فَاتَتْ فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ فَلَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِهَا شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَابَلْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِالْوَصْفِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَبِفَوَاتِهِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ.

وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ فِي الْمَبِيعِ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَقَدْ نَفَيَاهُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَطْلُبَ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَذَهَبَتْ يَدُهُ أَوْ عَيْنُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْعُقْرُ كَالْأَرْشِ. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ، أَمَّا إذَا صَارَ فَلَهُ حَظٌّ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يُحَطُّ مِنْ الثَّمَنِ مَا يَخُصُّ الْعَيْنَ، وَلَوْ اعْوَرَّتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يُحَطُّ بَلْ يُرَابَحُ عَلَى كُلِّ الثَّمَنِ، وَكَذَا فِي الشُّفْعَةِ إذَا كَانَ فَوَاتُ وَصْفِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ بِفِعْلٍ قَصْدِيٍّ قُوبِلَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ شَخْصٌ بَعْضَ بِنَاءِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتَهُ، وَلَوْ فَاتَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَأَنْ جَفَّ شَجَرُ الْبُسْتَانِ وَنَحْوُهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَبِهَذَا أُورِدَ عَلَى إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْقَصْدِيِّ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ فَالشُّفْعَةُ وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا سَوَاءٌ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يُقَابِلُهُ بَعْضُ الثَّمَنِ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ، وَمَوْضِعُ وُجُوبِ اجْتِنَابِ الشُّبْهَةِ كَمَا ذَكَرْت مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمَانَةِ دُونَ الْخِيَانَةِ، وَلِلشُّبْهَةِ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ فِيهَا وَالْمِلْكُ فِي الشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي كَالْفَاسِدِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ تَحْوِيلِهِ إلَيْهِ.

أَمَّا فِي الشِّرَاءِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُشْبِهُ الْفَاسِدَ فَالثَّمَنُ يُقَابِلُ الْعَيْنَ لَا غَيْرُ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الْأَوْصَافَ تُضْمَنُ فِيهِ: أَيْ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ كَالْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ فَسْخِ السَّبَبِ، فَالْأَصْلُ فِي تَقَوُّمِ الصِّفَاتِ هُوَ الْغَصْبُ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَالِكِ وَمُبَالَغَةً فِي دَفْعِ الظُّلْمِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ دُونَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِتَحَقُّقِ التَّرَاضِي فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ تَرَاضِيَهُمَا فِي حَقِّ الْحِلِّ، وَطَلَبَ رَدَّ كُلٍّ مِنْهُمَا بَدَلَهُ إلَى الْآخَرِ.

وَفِي الْكَافِي:

ص: 9

(وَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَسَرُوهُ ثَانِيًا وَأَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ مَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ (وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ (ثُمَّ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِأَلْفَيْنِ إنْ شَاءَ)؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنَيْنِ فَيَأْخُذُهُ بِهِمَا، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ الثَّانِي غَائِبًا لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ حَضْرَتِهِ (وَلَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا أَهْلُ

وَلِأَنَّ الْأَخْذَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ الصَّحِيحِ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ ثَبَتَ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ نَصًّا وَهُوَ قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يُحَطُّ عَنْهُ. هَذَا وَلَوْ أَنَّهُ فَقِئَ عَيْنَاهُ عِنْدَ الْغَازِي الْمَقْسُومِ لَهُ فَأَخَذَ قِيمَتَهُ وَسَلَّمَهُ لِلْفَاقِئِ فَلِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَخْذُهُ مِنْ الْفَاقِئِ بِقِيمَتِهِ أَعْمَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: بِقِيمَتِهِ سَلِيمًا وَهِيَ الَّتِي أَعْطَاهَا الْفَاقِئُ لِلْمَوْلَى. لَهُمَا أَنَّهُ فَوَّتَ وَصْفًا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهِ. وَلَهُ أَنَّهُ طَرَفٌ وَهُوَ مَقْصُودٌ فَهُوَ كَفَوَاتِ بَعْضِ الْأَصْلِ فَيُسْقِطُ حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ كَالْوَلَدِ مَعَ الْأُمِّ، وَهَذَا يُنْتَقَضُ بِمَسْأَلَةِ الْهِدَايَةِ، بَلْ الْوَجْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ فَوَاتَ الطَّرَفِ هُنَا بِفِعْلِ الَّذِي مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ سَلِيمًا ثُمَّ قَطَعَ طَرَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ رَاضِيًا بِتَنْقِيصِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْفَاقِئَ غَيَّرَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ.

[فَرْعٌ]. أَسَرُوا جَارِيَةً، وَأَحْرَزُوهَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ غَانِمٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ، فَأَرَادَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخْذَ الْوَلَدِ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ ذَلِكَ بِأَلْفٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَسَّمَ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْقَبْضِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْأَخْذِ، فَمَا أَصَابَ كُلًّا فَهُوَ حِصَّتُهُ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ أَسَرُوا) أَيْ الْكُفَّارُ (عَبْدًا) لِمُسْلِمٍ (فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ) مِنْهُمْ (بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَسَرُوهُ ثَانِيًا، وَأَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ بِأَلْفٍ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ أَوَّلًا (أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي) وَكَذَا لَوْ كَانَ الثَّانِي غَائِبًا كَمَا سَيَذْكُرُ (لِأَنَّ الْأَسْرَ مَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ) بَلْ عَلَى الثَّانِي، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ أَخْذِهِ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ حَتَّى لَوْ أَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ إعْطَاؤُهُ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَهَبَهُ لَهُ أَخَذَهُ مَوْلَاهُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِقِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ الْكَافِرُ لِمُسْلِمٍ، ثُمَّ إذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِأَلْفٍ فَأَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَخَذَهُ بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِذَلِكَ فَفِي مُقَابَلَةِ الْعَبْدِ الَّذِي غَرْضُهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذَهُ بِأَلْفٍ يَفُوتُ الْأَلْفُ الْأُخْرَى عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِلَا عِوَضٍ أَصْلًا.

[فَرْعٌ]. لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ إنْ مِثْلِيًّا فَبِمِثْلِهِ، أَوْ قِيَمِيًّا بِأَنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مُقَايَضَةً فَبِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِلْقَدِيمِ أَنْ يَنْقُضَ الْعَقْدَ الثَّانِيَ؛ لِيَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْأَوَّلُ وَالْوَجْهُ فِي الْمَبْسُوطِ. وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبِيعُوهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ (قَوْلُهُ: وَلَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا أَهْلُ

ص: 10

الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ مُدَبَّرِينَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَمُكَاتَبِينَا وَأَحْرَارَنَا وَنَمْلِكُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي مَحَلِّهِ، وَالْمَحَلُّ الْمَالُ الْمُبَاحُ، وَالْحُرُّ مَعْصُومٌ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ، بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عِصْمَتَهُمْ جَزَاءً عَلَى جِنَايَتِهِمْ وَجَعَلَهُمْ أَرِقَّاءَ وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ.

(وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَمْلِكُونَهُ)؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لِحَقِّ الْمَالِكِ لِقِيَامِ يَدِهِ وَقَدْ زَالَتْ، وَلِهَذَا لَوْ أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ. وَلَهُ أَنَّهُ ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى فَظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ

الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ) الْكَائِنَةِ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ (مُدَبَّرِينَا وَلَا أُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَلَا مُكَاتَبِينَا وَلَا أَحْرَارَنَا، وَنَمْلِكُ نَحْنُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ) وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ (إنَّمَا يُفِيدُ الْحُكْمَ) وَهُوَ الْمِلْكُ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ (فِي مَحَلِّهِ، وَمَحَلُّهُ الْمَالُ الْمُبَاحُ وَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ مَعْصُومٌ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ) مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ مُدَبِّرِينَا وَمَنْ بَعْدَهُمْ (لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِمْ مِنْ وَجْهٍ) مَعَ الْإِسْلَامِ (بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عِصْمَتَهُمْ جَزَاءً إلَى جِنَايَتِهِمْ) بِالْكُفْرِ (وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ).

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِمْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَوْ أَسَرُوا أُمَّ وَلَدٍ لِمُسْلِمٍ أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى دَارِهِمْ أَخَذَهُ مَالِكُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيُعَوِّضُ الْإِمَامُ مَنْ وَقَعَ فِي قَسْمِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قِيمَتَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى تَاجِرٌ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ وَلَا عِوَضٍ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ) أَوْ ذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ (وَدَخَلَ إلَيْهِمْ) دَارَ الْحَرْبِ (فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَمْلِكُونَهُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ؛ لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ قَابِلٍ لِلتَّمَلُّكِ مُحْرَزٍ بِدَارِ الْحَرْبِ وَبِهِ يَتِمُّ الْمِلْكُ لَهُمْ، وَهَذَا (لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ؛ لِأَنَّهَا لِحَقِّ الْمَالِكِ وَقَدْ زَالَتْ) وَصَارَ كَمَا لَوْ نَدَّتْ إلَيْهِمْ دَابَّةٌ: أَيْ شَرَدَتْ مِنْ بَابِ ضَرَبَ إلَّا أَنَّ مَصْدَرَهُ جَاءَ نُدُودًا كَمَا جَاءَ عَلَى نَدًّا الْقِيَاسِيِّ، وَكَمَا لَوْ أَخَذُوا الْعَبْدَ الْآبِقَ أَوْ غَيْرَ الْآبِقِ مِنْ دَارِنَا إذَا أَحْرَزُوهُ حَيْثُ يَمْلِكُونَهُ فَكَذَا هَذَا.

(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْعَبْدَ ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ فَلَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى نَفْسَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ حَبْسُهُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْبُوضًا بِمُجَرَّدِ عَقْدِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ (لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لِلْمَوْلَى مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى) بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ (فَظَهَرَتْ يَدُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ) سَابِقَةً عَلَى يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُمْ

ص: 11

وَصَارَ مَعْصُومًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ مَوْهُوبًا كَانَ أَوْ مُشْتَرًى أَوْ مَغْنُومًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ يُؤَدَّى عِوَضُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إعَادَةُ الْقِسْمَةِ لِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ

إيَّاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَاخَى لَحْظَةً عَنْ دُخُولِهِ، وَإِذَا سَبَقَتْ يَدُهُ يَدَهُمْ (صَارَ مَعْصُومًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلتَّمَلُّكِ، بِخِلَافِ الْآبِقِ الْمُتَرَدِّدِ) فِي دَارِنَا إذَا أَخَذُوهُ (لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى قَائِمَةٌ عَلَيْهِ) مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا (لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ) فَيُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى وُجُودِهِ فَالِاقْتِدَارُ بَاقٍ (فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ) عَلَى نَفْسِهِ.

وَلَا كَذَلِكَ الْمَأْذُونُ فِي الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ بِإِذْنِهِ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ، وَبِخِلَافِ الدَّابَّةِ الَّتِي نَدَّتْ فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ لِلْيَدِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ اعْتِبَارِهَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ مُؤَنَّثَةٌ وَقَدْ يُعَادُ عَلَى الظُّهُورِ أَيْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ ظُهُورِهِ (وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ مِلْكٌ فِيهِ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ مَوْهُوبًا) مِنْهُمْ لِلَّذِي أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (أَوْ مُشْتَرًى) مِنْهُمْ (أَوْ مَغْنُومًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا) إلَّا أَنَّهُ إذَا أَخَذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ (يُؤَدِّي) الْإِمَامُ (عِوَضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ (لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إعَادَةُ الْقِسْمَةِ؛ لِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ، وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ) وَتَفَرُّقِ الْمَالِ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَيْدِي غَيْرِهِمْ بِتَصَرُّفِهِمْ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنْ الْحَرَجِ، وَبَيْتُ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ نَوَائِبِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَضَلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ يَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهُ كَلُؤْلُؤَةٍ تُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا لَحِقَ غَرَامَةٌ كَانَ فِيهِ، وَلَا يُعْطَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا إذَا كَانَ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى.

فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِإِذْنِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ. وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ فِي الْمُشْتَرِي وَبِالْقِيمَةِ فِي الْمَوْهُوبِ كَمَا فِي الْمَأْسُورِ غَيْرِ الْآبِقِ. وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ فَأَبَقَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ اتِّفَاقًا، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مِنْ الْأَصْلِ فَهُوَ ذِمِّيٌّ تَبَعًا لِمَوْلَاهُ، وَفِي الْعَبْدِ

ص: 12

وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ جُعْلُ الْآبِقِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ إذْ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ.

(وَإِنْ نَدَّ بَعِيرٌ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ) لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ إذْ لَا يَدَ لِلْعَجْمَاءِ لِتَظْهَرَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (وَإِنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَصَاحِبُهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ) لِمَا بَيَّنَّا

(فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَاشْتَرَى رَجُلٌ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْفَرَسَ وَالْمَتَاعَ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَأْخُذُ الْعَبْدَ وَمَا مَعَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ) اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِي كُلِّ فَرْدٍ

(وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ)؛ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْبَيْعُ وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ عَبْدًا.

الذِّمِّيِّ إذَا أَبَقَ قَوْلَانِ ذَكَرَهُ فِي طَرِيقِهِ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ (قَوْلُهُ: وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ الْغَازِي أَوْ التَّاجِرِ (جَعْلُ الْآبِقِ)؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ إذَا أَخَذَهُ؛ لِيَرُدَّهُ فَيَكُونُ عَامِلًا لَهُ وَهَاهُنَا إنَّمَا هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ نَدَّ بَعِيرٌ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ) وَجْهُهُ ظَاهِرٌ؛ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى مِلْكِهِمْ إيَّاهُ أَنَّهُ (لَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ، وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَالِكًا مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ).

(قَوْلُهُ: فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَاشْتَرَى رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْمَتَاعَ وَالْفَرَسَ بِالثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُ الْعَبْدَ أَيْضًا بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ) وَهَذِهِ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى مِلْكِهِمْ الْعَبْدَ الْآبِقَ إلَيْهِمْ عِنْدَهُمَا دُونَهُ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِلَا شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ ظَهَرَتْ عَلَى مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَتَمْنَعُ ظُهُورَ يَدِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ كَمَا مَنَعَتْ ظُهُورَ يَدِهِمْ عَلَيْهِ نَفْسِهِ لِسَبْقِهَا. أُجِيبُ بِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ صَارَ لَهُ يَدٌ بِلَا مِلْكٍ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِيهِ فَيَبْقَى فِي يَدِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْغَائِبِ فَيَمْلِكُهُ الْكُفَّارُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ سَبْقَ الْيَدِ يَمْنَعُ اسْتِيلَاءَهُمْ عِنْدَهُ، فَإِنَّهَا يَمْلِكُونَ الْمَالَ بِإِبَاحَتِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُبَاحًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَدٌ لِأَحَدٍ، وَإِلَّا مَلَكُوا الْعَبْدَ، وَالْفَرْضُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ عَلَيْهِ يَدٌ فَتَدْفَعُ الِاسْتِيلَاءَ الْمُوجِبَ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِ مَنْ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ قَائِمٌ. وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّ يَدَهُ ظَهَرَتْ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ فَكَانَتْ ظَاهِرَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَاعْتَبَرْنَاهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ الْمَالِ. وَدُفِعَ بِأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْعَبْدِ عَلَى الْمَالِ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَالٌ مُبَاحٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ اسْتِيلَاءَ الْكُفَّارِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا، وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ كَانَتْ مُتَعَيِّنَةً) حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْبَيْعُ) فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، فَإِنْ فَعَلَ، وَإِلَّا بَاعَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَدَفَعَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ (وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَبْرُ عَلَيْهِ فَبَقِيَ عَبْدًا فِي يَدِهِ) وَلِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِدَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ؛ لِثُبُوتِ مِلْكِهِمْ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا

ص: 13

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ الْكَافِرِ وَاجِبٌ، فَيُقَامُ الشَّرْطُ وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مَقَامَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ تَخْلِيصًا لَهُ، كَمَا يُقَامُ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ مَقَامَ التَّفْرِيقِ

لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا عَبْدًا مُسْلِمًا دَارَ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ الثَّابِتُ لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ حَالَةَ الْإِحْرَازِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْبَيْعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا كَانَ إلَّا لِوُجُوبِ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ عَنْ إذْلَالِ الْكَافِرِ) فَهُوَ الْوَاجِبُ بِالذَّاتِ إجْمَاعًا، وَوُجُوبُ الْجَبْرِ عَلَى الْبَيْعِ لِيُتَوَصَّلَ إلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ تَعَيَّنَ إخْرَاجُهُ بِعِوَضٍ بَيْعًا طَرِيقًا حَالَ قِيَامِ أَمَانِهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ بِأَخْذِ مَالِهِ، وَلَوْلَاهُ لَأَعْتَقْنَاهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا زَالَ أَمَانُهُ، وَسَقَطَتْ عِصْمَةُ مَالِهِ بِوُجُودِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَجِبُ التَّخْلِيصُ بِالْإِعْتَاقِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ إعْتَاقَ الْقَاضِي قَدْ تَعَذَّرَ بِحُلُولِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إذْ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ عَلَى مَنْ هُنَاكَ فَأُقِيمَ شَرْطُ زَوَالِ عِصْمَةِ مَالِهِ، وَهُوَ دُخُولُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقَامَ عِلَّةِ عِتْقِهِ وَهُوَ إعْتَاقُ الْقَاضِي (كَمَا أُقِيمَ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقَامَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي) بَعْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ، وَإِبَائِهِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَمْلِكْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ اسْتِرْدَادِهِ، فَإِذَا أَعْتَقْنَاهُ

ص: 14

فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

(وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ حُرٌّ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ عَبِيدُهُمْ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ أَحْرَارٌ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا وَخَرَجُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى بِعِتْقِهِمْ وَقَالَ: هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ» وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِالْخُرُوجِ إلَيْنَا مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ أَوْ بِالِالْتِحَاقِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، إذَا ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ، وَاعْتِبَارُ يَدِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ يَدِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ ثُبُوتًا عَلَى نَفْسِهِ،

عَلَى الْحَرْبِيِّ حِينَ أَحْرَزَهُ أَبْطَلْنَا حَقَّ اسْتِرْدَادِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ إلَى رِقِّهِ جَبْرًا فَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا لِلْمُقْتَضِي عَنْ عَمَلِهِ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ لَا يُفَرَّقُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ وَلَمْ يَهْرُبْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُعْتَقُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَعْتَمِدُ زَوَالَ الْقَهْرِ الْخَاصِّ وَقَدْ عُدِمَ إذْ زَالَ قَهْرُهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ. وَلَهُ أَنَّ قَهْرَهُ زَالَ حَقِيقَةً بِالْبَيْعِ، وَكَانَ إسْلَامُهُ يُوجِبُ إزَالَةَ قَهْرِهِ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْخِطَابُ بِالْإِزَالَةِ فَأُقِيمَ مَا لَهُ أَثَرٌ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ مَقَامَ الْإِزَالَةِ وَهُوَ الْبَيْعُ

(قَوْلُهُ: وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ) أَسْلَمَ وَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى (ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ حُرٌّ، وَكَذَا إذَا خَرَجَ عَبِيدٌ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ) مُسْلِمِينَ، وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ (لِمَا رَوَى) أَبُو دَاوُد مُسْنَدًا إلَى عَلِيٍّ قَالَ:«خَرَجَ عَبْدَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ الصُّلْحِ فَكَتَبَ مَوَالِيهمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا خَرَجُوا رَغْبَةً فِي دِينِك، وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا مِنْ الرِّقِّ، فَقَالَ نَاسٌ: صَدَقُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ فَقَالَ: هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ» وَفِيهِ أَحَادِيثُ قَدَّمْنَاهَا، وَمِنْهَا إسْلَامُ عَبِيدِ الطَّائِفِ، وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ وَالْمُنْبَعِثُ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهَا فَهَذَا دَلِيلُ عِتْقِهِمْ إذَا خَرَجُوا مُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا عِتْقُهُمْ إذَا ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ فَلِأَنَّهُ لَمَّا الْتَحَقَ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ صَارَ كَأَنَّهُ خَرَجَ إلَيْهِمْ فِي أَنَّهُ امْتَنَعَ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: (وَاعْتِبَارُ يَدِهِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ بِمُجَرَّدِ إسْلَامِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا عَرَضُهُ لِلْبَيْعِ فَبَاعَهُ، فَقَدْ وَرَدَتْ يَدُ الْغَانِمِينَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي اسْتِرْقَاقَهُمْ. أَجَابَ أَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَظْهَرْ لِحَقِّ الْمَوْلَى لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ. ثُمَّ هِيَ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا فِي الْمَوْلَى الْكَافِرِ فَيَسْتَحِقُّ الْحُكْمَ بِعِتْقِهِ تَخْلِيصًا لِلْمُسْلِمِ مِنْ إذْلَالِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ أَصْلِ الْيَدِ لَا يَكْفِي مَا لَمْ يَتَأَكَّدْ إذْ لَا قُدْرَةَ بِدُونِهِ فَكَانَتْ مَنَعَةُ الْغَانِمِينَ هِيَ الْمُؤَكِّدَةُ لَهَا فَيُعْتَقُ. هَذَا وَلَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ رَقِيقٌ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَيُعْتَقَ. قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَا يَثْبُتُ وَلَاءٌ: أَيْ لَا يَثْبُتُ وَلَاءُ الْعَبْدِ الْخَارِجِ إلَيْنَا مُسْلِمًا لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا عِتْقٌ حُكْمِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ لَمْ يُعْتَقْ إلَّا إذَا عَرَضَهُ الْمَوْلَى عَلَى الْبَيْعِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ الْعَبْدُ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ اسْتَحَقَّ حَقَّ الْإِعْتَاقِ بِالْإِسْلَامِ لَكِنَّا نَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ آخَرَ؛ لِيَزُولَ بِهِ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَلَمَّا عَرَضَهُ فَقَدْ رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَقَيْدُ الْمُرَاغَمَةِ يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا لَوْ خَرَجَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ بِأَمْرِهِ لِحَاجَتِهِ، فَإِنَّهُ إذَا

ص: 15

فَالْحَاجَةُ فِي حَقِّهِ إلَى زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَفِي حَقِّهِمْ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا كَانَ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

خَرَجَ كَذَلِكَ فَأَسْلَمَ فِي دَارِنَا حُكْمُهُ أَنْ يَبِيعَهُ الْإِمَامُ وَيَحْفَظَ ثَمَنَهُ لِمَوْلَاهُ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِأَمَانٍ صَارَتْ رَقَبَتُهُ دَاخِلَةً فِيهِ، كَمَا لَوْ دَخَلَ سَيِّدُهُ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ.

[فُرُوعٌ]. وَلَوْ جَنَى عَبْدٌ جِنَايَةً خَطَأً أَوْ أَفْسَدَ مَتَاعًا فَلَزِمَهُ دَيْنُهُ ثُمَّ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ ثُمَّ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» ثُمَّ تَبْطُلُ الْجِنَايَةُ دُونَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الرَّقَبَةِ وَلَا تَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى، حَتَّى لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لَا يَبْقَى فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَفِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَنْهُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا لَا يَبْطُلُ بِبَيْعِهِ. وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ أَوْ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغَنِيمَةِ فَأَخَذَهُ الْمَوْلَى فَكُلٌّ مَنْ الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ.

وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَتْلَ عَمْدٍ لَمْ تَبْطُلْ عَنْهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بِهِ نَفْسُهُ فَلَا تَبْطُلُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْقِصَاصِ. وَلَوْ وَقَعَ الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ أَوْ اشْتَرَاهُ فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْمَوْلَى نَفَذَ، وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ؛ وَلِأَنَّ وَلَاءَهُ لَزِمَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ. وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فَتَزَوَّجَهَا وَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ بِلَا عِتْقٍ لِلْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدَهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا قَابِلَةً لِلنَّقْلِ وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْ عَيْنِهَا فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ، بِخِلَافِ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لَا يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ فِي الْعَيْنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يَعْدُو مَحَلَّهُ، وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ جُزْءًا فَفِي الْمَآلِ هُوَ مَحَلٌّ آخَرُ، بِخِلَافِ حَقِّ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ قَوِيٌّ لَا يَبْطُلُ بِبَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ.

وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِلَا فَسْخٍ، وَالنِّكَاحُ أَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى مَا أَخَذَ مِنْ عُقْرِهَا، وَأَرْشِ جِنَايَةٍ عَلَيْهَا، وَلَوْ لَمْ يُزَوِّجْهَا الْمُشْتَرِي فَلَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا الْمَوْلَى وَثُبُوتُ حَقِّ أَخْذِهِ لَا يَمْنَعُ وَطْءَ الْمَالِكِ. وَلَوْ أَسَرُوا جَارِيَةً مَرْهُونَةً بِأَلْفٍ وَهِيَ قِيمَتُهَا وَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ أَخَذَهَا مَوْلَاهَا الرَّاهِنُ بِهَا وَلَمْ تَبْقَ رَهْنًا؛ لِأَنَّهَا تَاوِيَةٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ كَالْمُجَدِّدِ لِمِلْكِهَا فَلَا يَأْخُذُهَا الْمُرْتَهِنُ إلَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَى الرَّاهِنِ الْأَلْفَ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الثَّمَنَ فَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ، وَكَذَا إذَا صَارَ ذِمِّيًّا، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ؛ وَلَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ ذَلِكَ الْمَالُ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَبْدًا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَلَا يُمَكَّنُ الْحَرْبِيُّ مِنْ إعَادَتِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَإِذْلَالِهِ.

وَلَوْ أَسَرُوا جَارِيَةً وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ عَارِيَّةً أَوْ إجَارَةً فَحَقُّ الْأَخْذِ إذَا أُخْرِجَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ غَنِيمَةٍ لِمَالِكِهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْمَالِكِ لَا لِلْيَدِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مِنْ الْمُودَعِ وَمَنْ ذَكَرْنَا لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ الِاسْتِرْدَادُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي حِفْظِهِ وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالْغَصْبِ، بِخِلَافِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَلَوْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ غَايَةَ إحْرَازِهَا تُوجِبُ أَنْ يَمْلِكُوهَا، وَنَقْلُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ كَالْبَيْعِ، وَالتَّبَايُنُ الْقَاطِعُ لَهُ مَا هُوَ تَبَايُنٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْمُسْلِمَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً.

ص: 16

(بَابُ الْمُسْتَأْمَنِ)

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا مِنْ دِمَائِهِمْ)؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِالِاسْتِئْمَانِ، فَالتَّعَرُّضُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ غَدْرًا وَالْغَدْرُ حَرَامٌ، إلَّا إذَا غَدَرَ بِهِمْ مَلِكُهُمْ فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ أَوْ حَبَسَهُمْ أَوْ فَعَلَ غَيْرُهُ بِعِلْمِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِخِلَافِ الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْمَنٍ فَيُبَاحُ لَهُ التَّعَوُّضُ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ طَوْعًا (فَإِنْ غَدَرَ بِهِمْ) أَعْنِي التَّاجِرُ (فَأَخَذَ شَيْئًا وَخَرَجَ بِهِ) (

بَابُ الْمُسْتَأْمَنِ)

. أَخَّرَهُ عَنْ الِاسْتِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ بِالْقَهْرِ يَكُونُ وَالِاسْتِئْمَانُ بَعْدَ الْقَهْرِ فَأَوْرَدَهُ كَذَلِكَ، وَتَقْدِيمُ اسْتِئْمَانِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ: وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُ) بِالِاسْتِئْمَانِ (ضَمِنَ) لَهُمْ (أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ) فَإِخْلَافُهُ غَدْرٌ (وَالْغَدْرُ حَرَامٌ) بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ» وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام لِأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا «لَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا» فِي وَصِيَّتِهِ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَا لَوْ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِنَا وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْهُمْ مُوَادَعَةٌ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ مِنْ الطَّائِفَةِ الْغَالِبَةِ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي غَنِمُوهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا؛ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَكَانَ شِرَاؤُنَا غَدْرًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَتَلُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَنَا الشِّرَاءُ، وَالشَّرْطُ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا بِدَارِهِمْ بِخُصُوصِهَا، وَلَوْ كَانُوا اقْتَتَلُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَقُولُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يُحْرِزَهَا الْغَالِبُونَ بِدَارِهِمْ إنْ كَانُوا لَا يَدِينُونَ أَنَّ مَنْ قَهَرَ آخَرَ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ مَلَكَهُ، وَإِنْ كَانُوا يَدِينُونَ فَلَا؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَجَاءَ رَجُلٌ بِأُمِّهِ أَوْ ابْنِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لِيَبِيعَهُ مِنْهُ فَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى مَنْعِهِ.

وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إنْ كَانُوا يَدِينُونَ ذَلِكَ جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْهُمْ، وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ: إنْ كَانُوا يَدِينُونَ أَنَّ مَنْ قَهَرَ آخَرَ مَلَكَهُ فَهُوَ إذَا مَلَكَ هَؤُلَاءِ يُعْتَقُونَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُونَ أَحْرَارًا فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهُمْ، وَلَوْ جَاءَ بِبَعْضِ أَحْرَارِهِمْ قَالُوا: إنْ كَانُوا يَدِينُونَ أَنَّ مَنْ قَهَرَ شَخْصًا مَلَكَهُ جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْهُ، وَإِلَّا لَا، مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ إحْرَازٌ بِدَارٍ أُخْرَى غَيْرِ دَارِ الْمَقْهُورِ. وَقَوْلُهُ:(إلَّا إذَا غَدَرَ بِهِمْ مَلِكُهُمْ فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ إلَخْ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَحِلُّ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، وَكَذَا قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ أَيْضًا (لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْمَنٍ) وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ حَيْثُ قَالَ (فَيُبَاحُ لَهُ التَّعَرُّضُ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ) وَتَرَكُوهُ فِي دَارِهِ (طَوْعًا) أَوْ أَعْتَقُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَأْمَنْ، وَعِتْقُهُمْ لَا عِبْرَةَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ سَيِّدَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ وَيَمْلِكَهُ مِلْكًا لَا خُبْثَ فِيهِ.

(فَإِنْ غَدَرَ بِهِمْ) التَّاجِرُ (فَأَخَذَ شَيْئًا، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ

ص: 17

مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا) لِوُرُودِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ، إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ الْغَدْرِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خُبْثًا فِيهِ (فَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ لِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ هُوَ حَرْبِيًّا أَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا وَاسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ) أَمَّا الْإِدَانَةُ فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ

مَلَكَهُ مِلْكًا مَحْظُورًا؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ) عِنْدَ عَدَمِ الْإِحْرَازِ إلَّا أَنَّهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ فَأَوْرَثَ خُبْثًا فِيهِ فَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ كَمِلْكِ الْمَغْصُوبِ عِنْدَ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ مَعَ حُرْمَةِ مُبَاشَرَتِهِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ (لِأَنَّ الْحَظْرَ لِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الْمِلْكِ) كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَقَوْلُهُ:(عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: الْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ إلَخْ، وَسَبِيلُ مَا يُمْلَكُ بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ التَّصَدُّقُ بِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ غَدْرًا جَارِيَةً لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنَّ حُرْمَةَ وَطْئِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي خَاصَّةً، وَتَحِلُّ لِلْمُشْتَرَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِيهِ؛ لِثُبُوتِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَبِبَيْعِ الْمُشْتَرِي انْقَطَعَ حَقُّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، وَهُنَا الْكَرَاهَةُ لِلْغَدْرِ وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فِيهِ. أَمَّا لَوْ سَبَى قَوْمٌ أَهْلَ الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ مِنْ السَّابِي؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُمْ بِالْإِحْرَازِ وَهُمْ كَانُوا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْغَدْرُ وَلَيْسَ ذَلِكَ غَدْرًا.

[فَرْعٌ نَفِيسٌ مِنْ الْمَبْسُوطِ]. لَوْ أَغَارَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ الَّتِي فِيهِمْ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ، لَا يَحِلُّ لَهُ قِتَالُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ إلَّا إنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ لَمَّا كَانَ تَعْرِيضًا لِنَفْسِهِ عَلَى الْهَلَاكِ لَا يَحِلُّ إلَّا لِذَلِكَ أَوْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ لَيْسَ قِتَالُهُ لِهَؤُلَاءِ إلَّا إعْلَاءً لِلْكُفْرِ. وَلَوْ أَغَارَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِي فِيهِمْ مُسْلِمُونَ مُسْتَأْمَنُونَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسَرُوا ذَرَارِيَّهُمْ فَمَرُّوا بِهِمْ عَلَى أُولَئِكَ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْقُضُوا عُهُودَهُمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ إذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ رِقَابَهُمْ فَتَقْرِيرُهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ تَقْرِيرٌ عَلَى الظُّلْمِ، وَلَمْ يَضْمَنُوا ذَلِكَ لَهُمْ، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ، وَقَدْ ضَمِنُوا لَهُمْ أَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لِأَمْوَالِهِمْ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُونَ ذَرَارِيَّ الْخَوَارِجِ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ.

وَمِنْ فُرُوعِهِ: لَوْ تَزَوَّجَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْهُمْ ثُمَّ أَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَهْرًا مَلَكَهَا فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ وَيَصِحُّ بَيْعُهُ فِيهَا، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَخَرَجَتْ طَوْعًا مَعَهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا فِي تَصْوِيرِهَا مَا إذَا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُخْرِجُهَا لِيَبِيعَهَا وَلَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا كَرْهًا لَا لِهَذَا الْغَرَضِ بَلْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِزَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ إذَا أَوْفَاهَا مُعَجَّلَ مَهْرِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَهَا.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ هُوَ حَرْبِيًّا أَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ) مَالًا (ثُمَّ خَرَجَ) الْمُسْلِمُ (إلَيْنَا وَاسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ) فَخَرَجَ أَيْضًا مُسْتَأْمَنًا (لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ. أَمَّا الْإِدَانَةُ فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ

ص: 18

يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ وَقْتَ الْإِدَانَةِ أَصْلًا وَلَا وَقْتَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِيمَا مَضَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي غَصَبَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ لِمُصَادَفَتِهِ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فَعَلَا ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ لِمَا قُلْنَا (وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ قُضِيَ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُقْضَ بِالْغَصْبِ) أَمَّا الْمُدَايَنَةُ فَلِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِوُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي، وَالْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْقَضَاءِ لِالْتِزَامِهِمَا الْأَحْكَامَ بِالْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَا خُبْثَ

يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ وَقْتَ الْإِدَانَةِ) عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَلَا وَقْتَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا مَضَى مِنْ أَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ) وَلَكِنْ يُفْتَى بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا قَاصِرٌ كَمَا تَرَى لَا يَشْمَلُ وَجْهَ عَدَمِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْضَى عَلَى الْمُسْلِمِ، وَعُمُومُ عَدَمِ الْقَضَاءِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَاسْتَشْكَلَ قَوْلُهُمَا بِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا وَصَارَ كَمَا لَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ.

وَكَوْنُ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ دِيَانَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْقَضَاءِ هُوَ أَيْضًا مِمَّا يَحْتَاج إلَى مُوجِبٍ. وَأَجَابَ فِي الْكَافِي بِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ، فَإِنَّ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ فِي أَنْ يَبْطُلَ حَقُّ أَحَدِهِمَا بِلَا مُوجِبٍ لِوُجُوبِ إبْطَالِ حَقِّ الْآخَرِ بِمُوجِبٍ، بَلْ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْإِقْبَالِ وَالْإِقَامَةِ وَالْإِجْلَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْإِدَانَةُ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ، وَالِاسْتِدَانَةُ الِابْتِيَاعُ بِالدَّيْنِ. (وَأَمَّا) أَنَّهُ لَا يُقْضَى (بِالْغَصْبِ) لِكُلٍّ مِنْهُمَا (فَلِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي غَصَبَهُ) سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مُسْلِمًا مُسْتَأْمَنًا (عَلَى مَا بَيَّنَّا) أَيْ فِي بَابِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَفِي غَصْبِ الْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ مُغِيرَيْنِ دَارَ الْحَرْبِ إلَخْ، إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَأْمَنَ الْغَاصِبَ لِمَالِ الْحَرْبِيِّ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إفْتَاءً لَا قَضَاءً؛ لِتَرْتَفِعَ مَعْصِيَةُ الْغَدْرِ.

وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَيْهِ كَمَا تَرَى (وَكَذَا لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فَعَلَا ذَلِكَ) أَيْ أَدَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ غَصَبَهُ (ثُمَّ خَرَجَا) إلَيْنَا (مُسْتَأْمَنَيْنِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ) وَقَدْ أَدَانَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ غَصَبَهُ (يُقْضَى بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا خَاصَّةً دُونَ الْغَصْبِ) أَمَّا (الْقَضَاءُ بِالْمُدَايَنَةِ) أَيْ بِالدَّيْنِ (فَلِأَنَّهَا) حِينَ وَقَعَتْ (وَقَعَتْ صَحِيحَةً؛ لِوُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي، وَالْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْقَضَاءِ لِاعْتِرَافِهِمَا بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ) وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إذْ لَمْ يُقْضَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بَلْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الْعِلَاوَةِ إذْ يُقْضَى لِلْحَرْبِيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ عَلَى قَوْلِهِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. (وَأَمَّا الْغَصْبُ) فَإِنَّمَا لَا يُقْضَى بِهِ لِإِتْلَافِهِ فِيمَا مَلَكَهُ (وَلَا خُبْثَ

ص: 19

فِي مِلْكِ الْحَرْبِيِّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالرَّدِّ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَصَبَ حَرْبِيًّا ثُمَّ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ أُمِرَ بِرَدِّ الْغَصْبِ وَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ) أَمَّا عَدَمُ الْقَضَاءِ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالرَّدِّ وَمُرَادُهُ الْفَتْوَى بِهِ فَلِأَنَّهُ فَسَدَ الْمِلْكُ لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ نَقْصُ الْعَهْدِ

(وَإِذَا دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ) أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِمَنَعَةٍ، وَلَا مَنَعَةَ دُونَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ،

فِي مِلْكِ الْحَرْبِيِّ لِيُؤْمَرَ بِالرَّدِّ) وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا.

(قَوْلُهُ: إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ فَغَصَبَ حَرْبِيًّا ثُمَّ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ إلَخْ) عُرِفَ أَحْكَامُهُمَا مِمَّا تَقَدَّمَ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَى الْقَاتِلِ عَمْدًا الدِّيَةُ فِي مَالِهِ) وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ (وَعَلَى الْقَاتِلِ خَطَأً الدِّيَةُ فِي مَالِهِ) أَيْضًا (وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ) هَكَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ مِنْ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَا ذِكْرِ خِلَافٍ. وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومًا بِالْإِسْلَامِ عُدْوَانًا وَظُلْمًا وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ، وَكَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي سُقُوطِ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُكَثِّرٌ سَوَادَهُمْ مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ كَثَّرَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ كَانَ مُتَوَطِّنًا هُنَاكَ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا، فَإِذَا كَانَ مُكَثِّرًا مِنْ وَجْهٍ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي قِيَامِ الْعِصْمَةِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ.

وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمْلَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ حَيْثُ كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُنْتَقَضُ إحْرَازُهُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَالْقِصَاصُ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ يَنْفَرِدُ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى وِلَايَةِ الْإِمَامِ، وَوَجْهُ الظَّاهِرِ يَنْدَرِجُ فِيمَا سَنَذْكُرُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (أَمَّا الْكَفَّارَةُ) يَعْنِي فِي الْخَطَإِ (فَلِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (وَ) وُجُوبُ الدِّيَةِ (لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ) إلَى دَارِ الْحَرْبِ (بِالْأَمَانِ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ) فِي الْعَمْدِ (لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِمَنَعَةٍ، وَلَا مَنَعَةَ دُونَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ) فَلَا فَائِدَةَ فِي الْوُجُوبِ. وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ بِسُقُوطِهِ بِعَارِضٍ مُقَارِنٍ لِلْقَتْلِ يَنْقَلِبُ كَقَتْلِ الرَّجُلِ ابْنَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إقَامَتُهُ إذَا طَلَبَ الْوَلِيُّ تَمْكِينَهُ

ص: 20

وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ؛ وَفِي الْخَطَإِ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الصِّيَانَةِ مَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ تَرْكِهَا.

(وَإِنْ كَانَا أَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ أَسِيرًا) فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا:(فِي الْأَسِيرَيْنِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ)؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الْأَسْرِ كَمَا لَا تَبْطُلْ بِعَارِضِ الِاسْتِئْمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَامْتِنَاعُ الْقِصَاصِ؛ لِعَدَمِ الْمَنَعَةِ وَيَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِمَا قُلْنَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ؛ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلِهَذَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا،

مِنْهُ، وَلَا يَحِلُّ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ قَتْلُ الْقَاتِلِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوِلَايَةِ قَاصِرَةً وَقْتَ السَّبَبِ لَا تَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ الطَّلَبِ إذَا كَانَتْ ثَابِتَةً عِنْدَهُ، كَمَا لَوْ رَفَعَ إلَى قَاضٍ مُطَالَبَةً بِثَمَنِ مَبِيعٍ صَدَرَ الْبَيْعُ فِيهِ قَبْلَ وِلَايَةِ الْقَاضِي فَإِنَّ وِلَايَتَهُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَ السَّبَبِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الْمُرَافَعَةِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بِالْإِسْلَامِ قَائِمَةٌ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ ثَابِتٌ وَهُوَ السَّبَبُ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْإِمَامِ مُنْتَفٍ لِمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقَامَةَ يَنْفَرِدُ بِهَا الْوَلِيُّ فَمَنْعُهُ مِنْهُ خِلَافُ الدَّلِيلِ.

فَالْأَقْرَبُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلْقِصَاصِ بِتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا فِيهِ، إذْ نَمْنَعُ كَوْنَ ذَلِكَ شُبْهَةً تُوجِبُ السُّقُوطَ، أَوْ أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ إبَاحَةٍ فَالْكَوْنُ فِيهَا شُبْهَةٌ دَارِئَةٌ. وَقَدْ يُقَالُ: إنْ قُلْتُمْ إنَّهَا دَارُ إبَاحَةِ لِلْقَتْلِ مُطْلَقًا فَمَمْنُوعٌ أَوْ قَتْلُ الْكَافِرِ فِيهِ فَلَا يُفِيدُ. وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَهَا دَارَ إبَاحَةٍ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ كَافٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا قَالَ لَهُ اُقْتُلْنِي لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ إبَاحَةَ الشَّرْعِ قَتْلَهُ لَمْ تَحْصُلْ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ بَلْ إبَاحَةٌ مِنْ جِهَتِهِ وَقَدْ جُعِلَ ذَلِكَ مَانِعًا إلَّا أَنْ نَمْنَعَ عَدَمَ الْقِصَاصِ فِي قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وَ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالْقَتْلِ خَطَأً، فَإِنَّهُ قَتْلٌ وَلَيْسَ يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْمَعْنَى أَيْضًا. قَالَ:(وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ، وَفِي الْخَطَأِ) إنَّمَا تَجِبُ أَيْضًا فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ بِتَرْكِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ فِي حِفْظِ الْقَاتِلِ وَمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا تَقْصِيرَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَا) أَيْ الْمُسْلِمَانِ (أَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ أَسِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ) مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا (إلَّا الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَإِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ عِقَابُ الْآخِرَةِ فِي الْعَمْدِ (وَقَالَا: فِي الْأَسِيرَيْنِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الْأَسْرِ كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالِاسْتِئْمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَبْطُلُ بِعَارِضِ الدُّخُولِ بِالْأَمَانِ فَكَانَ الْأَسِيرَانِ كَالْمُسْتَأْمَنَيْنِ (وَ) أَمَّا (امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ فَلِعَدَمِ الْمَنَعَةِ) كَمَا ذَكَرْنَا (وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِمَا قُلْنَا) أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ.

هَذَا وَقِيَاسُ مَا نَقَلَ قَاضِي خَانْ عَنْهُمَا فِي الْمُسْلِمَيْنِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ أَنْ يَقُولَا بِهِ فِي الْأَسِيرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يَعُمُّهُمَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسِيرَيْنِ وَالْمُسْتَأْمَنَيْنِ (أَنَّ بِالْأَسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْصُورًا فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى يَصِيرَ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَازُ أَصْلًا)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَكَذَا تَبِعَهُ (وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا) فِي سُقُوطِ عِصْمَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِجَامِعِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ

ص: 21

وَخَصَّ الْخَطَأَ بِالْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ عِنْدَنَا.

فَصْلٌ

قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُمَكَّنْ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِنَا سَنَةً وَيَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ: إنْ أَقَمْتَ تَمَامَ السَّنَةِ وَضَعْتُ عَلَيْك الْجِزْيَةُ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةٍ دَائِمَةٍ فِي دَارِنَا إلَّا بِالِاسْتِرْقَاقِ أَوْ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَيْنًا لَهُمْ وَعَوْنًا عَلَيْنَا فَتَلْتَحِقُ الْمَضَرَّةُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الْيَسِيرَةِ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِهَا قَطْعَ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ وَسَدَّ بَابِ التِّجَارَةِ، فَفَصَلْنَا بَيْنَهُمَا بِسَنَةٍ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ فَتَكُونُ الْإِقَامَةُ

لِمَصْلَحَةِ

الْجِزْيَةِ، ثُمَّ إنْ رَجَعَ بَعْدَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ إلَى وَطَنِهِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَكَثَ سَنَةً فَهُوَ ذِمِّيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ إلَيْهِ صَارَ مُلْتَزِمًا الْجِزْيَةَ فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَقِّتَ فِي ذَلِكَ مَا دُونَ السَّنَةِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ (وَإِذَا أَقَامَهَا بَعْدَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ يَصِيرُ ذِمِّيًّا)

وَ) إنَّمَا (خَصَّ الْكَفَّارَةَ بِالْخَطَإِ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ عِنْدَنَا) كَمَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِمَا حَدِيثُ الشُّبْهَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى مَا فِيهِ.

(فَصْلٌ)(قَوْلُهُ: وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُمَكَّنْ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِنَا سَنَةً) ثُمَّ يَرْجِعُ (بَلْ يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ إنْ أَقَمْتَ تَمَامَ السَّنَةِ وَضَعْتُ عَلَيْك الْجِزْيَةَ. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةٍ دَائِمَةٍ فِي دَارِنَا إلَّا بِالِاسْتِرْقَاقِ أَوْ بِالْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَيْنًا لَهُمْ) أَيْ جَاسُوسًا (وَعَوْنًا عَلَيْنَا فَتَلْتَحِقُ الْمَضَرَّةُ بِالْمُسْلِمِينَ وَيُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الْيَسِيرَةِ؛

لِأَنَّ فِي مَنْعِهَا قَطْعُ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ

) وَهُوَ مَا يُجْلَبُ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ (فَفَصَّلْنَا بَيْنَ الدَّائِمَةِ وَالْيَسِيرَةِ بِسَنَةٍ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ، فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَهَا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ إلَيْهِ) أَيْ قَوْلُهُ: لَهُ مَا يَعْتَمِدُهُ فِي ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ صَارَ

ص: 22

لِمَا قُلْنَا (ثُمَّ لَا يُتْرَكُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ)؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يُنْقَضُ، كَيْفَ وَأَنَّ فِيهِ قَطْعَ الْجِزْيَةِ وَجَعْلَ وَلَدِهِ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِيهِ مَضَرَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ.

(فَإِنْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ)؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الرَّأْسِ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ صَارَ مُلْتَزِمًا الْمَقَامَ فِي دَارِنَا، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهَا لِلتِّجَارَةِ، وَإِذَا لَزِمَهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ فَبَعْدَ ذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ لِسَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِلُزُومِ الْخَرَاجِ

ذِمِّيًّا (فَلَا يُمَكَّنُ بَعْدَهَا مِنْ الْعَوْدِ إلَى دَارِهِ)؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يُنْقَضُ إذْ فِيهِ قَطْعُ الْجِزْيَةِ (وَتَصْيِيرُهُ وَوَلَدَهُ حَرْبًا عَلَيْنَا وَفِيهِ مَضَرَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ) وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةٌ لِلسَّنَةِ الَّتِي أَقَامَهَا إلَّا إنْ قَالَ لَهُ: إنْ أَقَمْتهَا أَخَذْت مِنْك الْجِزْيَةَ.

وَقَوْلُهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ يُفِيدُ اشْتِرَاطَ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ إلَيْهِ فِي مَنْعِهِ مِنْ الْعَوْدِ إذَا أَقَامَ سَنَةً، وَبِهِ صَرَّحَ الْعَتَّابِيُّ فَقَالَ:(لَوْ أَقَامَ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّم إلَيْهِ الْإِمَامُ فَلَهُ الرُّجُوعُ). قِيلَ: وَلَفْظُ الْمَبْسُوطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْإِمَامِ لَيْسَ شَرْطًا لِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا، فَإِنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّم إلَيْهِ فَيَأْمُرَهُ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ مُدَّةً فَالْمُعْتَبَرُ الْحَوْلُ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ بِقَوْلِهِ إنْ أَقَمْت طَوِيلًا مَنَعْتُك مِنْ الْعَوْدِ، فَإِنْ أَقَامَ سَنَةً مَنَعَهُ، وَفِي هَذَا اشْتِرَاطُ التَّقَدُّمِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ لَهُ مُدَّةً خَاصَّةً، وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يُوَقِّتَ مُدَّةً قَلِيلَةً كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْحِقَهُ عُسْرًا بِتَقْصِيرِ الْمُدَّةِ جِدًّا خُصُوصًا إذَا كَانَ لَهُ مُعَامَلَاتٌ يَحْتَاجُ فِي اقْتِضَائِهَا إلَى مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ.

[فُرُوعٌ] لَوْ مَاتَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ مَالٍ وَوَرَثَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وُقِفَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، فَإِذَا قَدِمُوا فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُوا، فَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قُبِلَتْ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ إقَامَتَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ أَنْسَابَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُسْلِمُونَ فَصَارَ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمْ دَفَعَ إلَيْهِمْ الْمَالَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ كَفِيلًا لِمَا يَظْهَرُ فِي الْمَآلِ مِنْ ذَلِكَ. قِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمَا لَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ بَلْ هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كِتَابُهُ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا يُمَكَّنُ أَنْ يَرْجِعَ مَعَهُ بِسِلَاحٍ اشْتَرَاهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ بَلْ بِاَلَّذِي دَخَلَ بِهِ، فَإِنْ بَاعَ سَيْفَهُ وَاشْتَرَى بِهِ قَوْسًا أَوْ نُشَّابًا أَوْ رُمْحًا لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا أَحْسَنَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ الْأَوَّلِ أَوْ دُونَهُ مُكِّنَ مِنْهُ، وَمَنْ وُجِدَ فِي دَارِنَا بِلَا أَمَانٍ فَهُوَ وَمَا مَعَهُ فَيْءٌ، فَإِنْ قَالَ: دَخَلْت بِأَمَانٍ لَمْ يُصَدَّقْ وَأُخِذَ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا رَسُولٌ، فَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ كِتَابٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ بِعَلَامَةٍ تُعْرَفُ بِذَلِكَ كَانَ آمِنًا فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَمَانٍ خَاصٍّ بَلْ بِكَوْنِهِ رَسُولًا يَأْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَهُوَ زُورٌ فَيَكُونُ هُوَ وَمَا مَعَهُ فَيْئًا، وَإِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِلَا أَمَانٍ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُؤْخَذُ وَيَكُون فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْذَى حَتَّى يَخْرُجَ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ صَارَ ذِمِّيًّا) وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى عُشْرِيَّةً فَإِنَّهَا تَسْتَمِرُّ عُشْرِيَّةً عَلَى قَوْلِ

ص: 23

فَتُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَإِذَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَهُوَ ذِمِّيٌّ تَصْرِيحٌ بِشَرْطِ الْوَضْعِ فَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ جَمَّةٌ فَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ.

(وَإِذَا دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا صَارَتْ ذِمِّيَّةً)؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمُقَامَ تَبَعًا لِلزَّوْجِ (وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا)؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيَرْجِعُ إلَى بَلَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا الْمُقَامَ.

(وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَتَرَكَ وَدِيعَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُ مُبَاحًا بِالْعَوْدِ)؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ أَمَانَهُ (وَمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالِهِ عَلَى خَطَرٍ، فَإِنْ أُسِرَ أَوْ ظُهِرَ

مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهَا وَظِيفَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً فَتُؤْخَذُ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مِنْ وَقْتِ وَضْعِ الْخَرَاجِ، وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الذِّمِّيِّ فِي حَقِّهِ مِنْ مَنْعِ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَضَمَانِ الْمُسْلِمِ قِيمَةَ خَمْرِهِ وَخِنْزِيرِهِ إذَا أَتْلَفَهُ، وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ إذَا قَتَلَهُ خَطَأً، وَوُجُوبِ كَفِّ الْأَذَى عَنْهُ، فَتَحْرُمُ غَيْبَتُهُ كَمَا تَحْرُمُ غَيْبَةُ الْمُسْلِمِ فَضْلًا عَمَّا يَفْعَلُهُ السُّفَهَاءُ مِنْ صَفْعِهِ وَشَتْمِهِ فِي الْأَسْوَاقِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.

وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْجَمَّةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ وَالْجَمُّ الْكَثِيرُ، وَالْمُرَادُ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ إلْزَامُهُ بِهِ، وَأَخْذُهُ مِنْهُ عِنْدَ حُلُولِ وَقْتِهِ، وَمُنْذُ بَاشَرَ السَّبَبَ وَهُوَ زِرَاعَتُهَا أَوْ تَعْطِيلُهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهَا إذَا كَانَتْ فِي مِلْكِهِ أَوْ زِرَاعَتُهَا بِالْإِجَارَةِ وَهِيَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ لَا مِنْ الْمَالِكِ فَيَصِيرُ بِهِ ذِمِّيًّا، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا خَرَاجُهَا عَلَى مَالِكِهَا فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْأَخْذِ؛ لِعَدَمِ الْأَخْذِ مِنْهُ. وَكَذَا إذَا أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَلَا يُظَنُّ بِوَضْعِ الْإِمَامِ وَتَوْظِيفِهِ أَنْ يَقُولَ وَظَّفْت عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْخَرَاجَ وَنَحْوَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَطُّ لَا يَقُولُ فِي كُلِّ قِطْعَةِ أَرْضٍ كَذَلِكَ، بَلْ الْخَرَاجُ مِنْ حِينِ اسْتَقَرَّ وَظِيفَةً لِلْأَرَاضِيِ الْمَعْلُومَةِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُلِّ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ. نَعَمْ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِمُجَرَّدِ شِرَائِهَا كَمَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ بِهِ الْتَزَمَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ فَلَا يُحْكَمُ بِالذِّمَّةِ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ حَتَّى يَزُولَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِاسْتِمْرَارِهَا فِي يَدِهِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ بِتَعْطِيلِهَا أَوْ زِرَاعَتِهَا.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا صَارَتْ ذِمِّيَّةً) فَفِي تَزَوُّجِهَا مُسْلِمًا أَوْلَى، وَعَكْسُهُ مَا لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ فَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا كَمَا قَالَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَرْبِيَّةِ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَى الرَّجُلِ، وَنَحْنُ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بِأَنَّ تَزَوُّجَهُ لَيْسَ دَلَالَةَ الْتِزَامِهِ الْمَقَامَ، فَإِنَّ فِي يَدِهِ طَلَاقَهَا وَالْمُضِيَّ عَنْهَا بِخِلَافِهَا، فَحِينَ أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ كَانَتْ مُلْتَزِمَةً بِمَا يَأْتِي مِنْهُ، وَمِنْهُ عَدَمُ الطَّلَاقِ وَمَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى دَارِهَا فَتَصِيرُ ذِمِّيَّةً فَيُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَى أَرْضِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَتَرَكَ وَدِيعَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُ مُبَاحًا بِالْعَوْدِ وَمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالِهِ) لَهُ مَا دَامَ حَيًّا، وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ مِنْ غَيْرِ

ص: 24

عَلَى الدَّارِ فَقُتِلَ سَقَطَتْ دُيُونُهُ وَصَارَتْ الْوَدِيعَةُ فَيْئًا) أَمَّا الْوَدِيعَةُ فَلِأَنَّهَا فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِهِ فَيَصِيرُ فَيْئًا تَبَعًا لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْمُطَالَبَةِ وَقَدْ سَقَطَتْ، وَيَدُ مَنْ عَلَيْهِ أَسْبَقُ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْعَامَّةِ فَيَخْتَصُّ بِهِ فَيَسْقُطُ (وَإِنْ قُتِلَ وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ فَالْقَرْضُ الْوَدِيعَةُ لِوَرَثَتِهِ) وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَصِرْ مَغْنُومَةً فَكَذَلِكَ مَالُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ بَاقٍ فِي مَالِهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.

قَالَ: (وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُصْرَفُ الْخَرَاجُ) قَالُوا: هُوَ مِثْلُ الْأَرَاضِي الَّتِي أَجْلَوْا أَهْلَهَا عَنْهَا وَالْجِزْيَةِ وَلَا خُمُسَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِمَا الْخُمُسُ اعْتِبَارًا بِالْغَنِيمَةِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَخَذَ الْجِزْيَةَ وَكَذَا عُمَرُ وَمُعَاذٌ، وَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يُخَمَّسْ

أَنْ يُظْهَرَ عَلَى دَارِهِمْ كَمَا إذَا مَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ مَشْمُولٌ بِأَمَانِنَا مَا دَامَ فِي دَارِنَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ فَيْئًا كَمَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى دَارِهِمْ تَكُونُ فَيْئًا وَلَا تَكُونُ يَدُ الْمُودِعِ كَيَدِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ مَا فِي دَارِ الْحَرْبِ مَعْصُومٌ مِنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ إبَاحَةٍ لَا عِصْمَةٍ فَلَا يَصِيرُ مَعْصُومًا بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَثْبُتُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمُزِيلُ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ نَفْسُهُ مَغْنُومًا وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْسَرَ أَوْ يُظْهَرَ عَلَى دَارِهِ فَيُقْتَلَ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْوَدِيعَةِ فَيْئًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ تُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا، فَإِذَا غُنِمَ غُنِمَتْ، بِخِلَافِ مَا لَهُ مِنْ الْوَدِيعَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي يَدِهِ كَذَلِكَ بَلْ مِنْ وَجْهٍ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا يَخْتَصُّ بِهَا الْمُودِعُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّيْنِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَيَسْقُطُ عَمَّنْ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ يَدِهِ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ إذْ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِلْمَدْيُونِ، وَإِنَّمَا هِيَ ثَابِتَةٌ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَقَدْ سَقَطَتْ بِاسْتِغْنَامِهِ فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ. وَإِذَا حَقَّقْتَ هَذَا ظَهَرَ لَك أَنَّ اخْتِصَاصَ الْمَدْيُونِ بِهِ ضَرُورِيٌّ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ.

(قَوْلُهُ: وَمَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ) أَيْ مَا أَعْمَلُوا خَيْلَهُمْ وَرِكَابَهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ بِلَا قِتَالٍ. وَالْوَجْفُ وَالْوَجِيفُ ضَرْبٌ مِنْ سَيْرِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ، وَيُقَالُ وَجَفَ الْبَعِيرُ وَجْفًا وَوَجِيفًا، وَأَوْجَفْتُهُ إذَا حَمَلْته عَلَى الْوَجِيفِ (يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُصْرَفُ الْخَرَاجِ) وَكَذَا الْجِزْيَةُ فِي عُمَارَةِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَسَدِّ الثُّغُورِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا كَجَيْحُونَ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ، وَإِلَى أَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسَبِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ وَالْمُقَاتِلَةِ وَحِفْظِ الطَّرِيقِ مِنْ اللُّصُوصِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ أَحَدٌ. (قَالُوا: هُوَ مِثْلُ الْأَرَاضِي الَّتِي أَجْلَوْا أَهْلَهَا عَنْهَا وَالْجِزْيَةِ وَلَا خُمُسَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِمَا)

وَفِي

ص: 25

وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِمُبَاشَرَةِ الْغَانِمِينَ وَبِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَحَقَّ الْخُمُسَ بِمَعْنًى وَاسْتَحَقَّهُ الْغَانِمُونَ بِمَعْنًى، وَفِي هَذَا السَّبَبِ وَاحِدٌ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْخُمُسِ.

(وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَلَهُ امْرَأَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ وَمَالٌ أَوْدَعَ بَعْضَهُ ذِمِّيًّا وَبَعْضَهُ حَرْبِيًّا وَبَعْضَهُ مُسْلِمًا فَأَسْلَمَ هَاهُنَا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَذَلِكَ كُلُّهُ فَيْءٌ)

بَعْضِ النُّسَخِ: فِيهَا أَيْ الْأَرْضِ، وَالْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ كَمَا يُصْرَفُ الْخَرَاجُ، وَيُقَالُ أَجْلَى السُّلْطَانُ الْقَوْمَ وَجَلَّاهُمْ يَتَعَدَّى بِلَا هَمْزَةٍ: أَيْ أَخْرَجَهُمْ فَجَلَوْا: أَيْ خَرَجُوا، وَأَجْلَى الْقَوْمُ أَيْضًا خَرَجُوا، فَكُلٌّ مِنْ ذِي الْهَمْزَةِ وَعَدَمِهَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِلَا قِتَالٍ عَنْ خَوْفٍ أَوْ أُخِذَ مِنْهُمْ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ يُخَمَّسُ، وَمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ كَالْجِزْيَةِ وَعُشْرِ التِّجَارَةِ وَمَالِ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَفِي الْقَدِيمِ لَا يُخَمَّسُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَفِي الْجَدِيدِ يُخَمَّسُ. وَلِأَحْمَدَ فِي الْفَيْءِ رِوَايَتَانِ الظَّاهِرُ مِنْهُمَا لَا يُخَمَّسُ، ثُمَّ هَذَا الْخُمُسُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصْرَفُ إلَى مَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ، وَذَكَرُوا أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْجِزْيَةِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: مَا قَالَ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا فِي عَصْرِهِ. وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْغَنِيمَةِ بِجَامِعِ أَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْكُفَّارِ عَنْ قُوَّةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.

وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّهُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ، وَفَرَضَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ خَمَّسَهُ بَلْ كَانَ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَوْ بِطَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَلَى مَا قَضَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَمُخَالَفَةُ مَا قَضَتْ بِهِ الْعَادَةُ بَاطِلٌ فَوُقُوعُهُ بَاطِلٌ، بَلْ قَدْ وَرَدَ فِيهِ خِلَافُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنٍ لِعَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى مَنْ سَأَلَهُ عَنْ مَوَاضِعِ الْفَيْءِ أَنَّهُ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَرَآهُ الْمُؤْمِنِينَ عَدْلًا مُوَافِقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «جَعَلَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» فَرَضَ الْأَعْطِيَةَ وَعَقَدَ لِأَهْلِ الْأَدْيَانِ ذِمَّةً بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِزْيَةِ لَمْ يَضْرِبْ فِيهَا بِخُمُسٍ وَلَا مَغْنَمٍ.

وَأَمَّا مَا فِي السُّنَنِ عَنْ عُمَرَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِصَةً يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ قُوتَ سَنَةٍ فَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عِدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا كَانَ إلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ، بَلْ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَصَارِفَ بَيْتِ الْمَالِ إذْ ذَاكَ لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَةِ الْأَئِمَّةِ وَآلَاتِ الْجِهَادِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَنَفَقَتِهِ هُوَ عليه الصلاة والسلام إذْ لَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ قُضَاةٌ وَلَا جُسُورٌ وَلَا قَنَاطِرُ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ مَا تَحَقَّقَتْ لَهُ أَدْنَى قُدْرَةٍ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَفِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ دَفْعُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:(وَلِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِكُلٍّ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْغَانِمِينَ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتُحِقَّ الْخُمُسُ بِمَعْنًى وَاسْتُحِقَّ الْبَاقِي لِلْغَانِمِينَ بِمَعْنًى، وَفِي هَذَا السَّبَبِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الرُّعْبِ الْخَالِي عَنْ الْقِتَالِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَبْعَاضِهِ مُسْتَحِقُّونَ بِجِهَتَيْنِ بَلْ اسْتِحْقَاقُهُ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَلَهُ امْرَأَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ وَمَالٌ أَوْدَعَ بَعْضَهُ ذِمِّيًّا وَبَعْضَهُ حَرْبِيًّا وَبَعْضَهُ مُسْلِمًا فَأَسْلَمَ هُنَا) أَيْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (ثُمَّ ظُهِرَ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (عَلَى دَارِهِمْ فَذَلِكَ كُلُّهُ فَيْءٌ.

ص: 26

أَمَّا الْمَرْأَةُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُمْ حَرْبِيُّونَ كِبَارٌ وَلَيْسُوا بِأَتْبَاعٍ، وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ. وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَلِأَنَّ الصَّغِيرَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِإِسْلَامِ أَبِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ، وَمَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، وَكَذَا أَمْوَالُهُ لَا تَصِيرُ مُحْرَزَةً بِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَبَقِيَ الْكُلُّ فَيْئًا وَغَنِيمَةً (وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ فَظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ) تَبَعًا لِأَبِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ وِلَايَتِهِ حِينَ أَسْلَمَ إذْ الدَّارُ وَاحِدَةٌ (وَمَا كَانَ مِنْ مَالٍ أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَهُوَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ فِي يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ (وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَيْءٌ) أَمَّا الْمَرْأَةُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَلِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ الْحَرْبَى؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَعْصُومًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْحَرْبِيِّ لَيْسَتْ يَدًا مُحْتَرَمَةً.

(وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَهُ وَرَثَةٌ مُسْلِمُونَ هُنَاكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا (لِوُجُودِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ) لِكَوْنِهِ مُسْتَجْلِبًا لِلْكَرَامَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ أَصْلُهَا الْمُؤْثِمَةُ؛ لِحُصُولِ أَصْلِ الزَّجْرِ بِهَا

أَمَّا الْمَرْأَةُ وَالْأَوْلَادُ الْكِبَارُ فَإِنَّهُمْ حَرْبِيُّونَ وَلَيْسُوا بِأَتْبَاعٍ) لِلَّذِي خَرَجَ؛ لِأَنَّهُمْ كِبَارٌ (وَكَذَا مَا فِي بَطْنِهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا) يَكُونُ فَيْئًا مَرْقُوقًا (لِمَا قُلْنَا) فِي بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ مِنْ أَنَّهُ جُزْؤُهَا (وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَلِأَنَّ الصَّغِيرَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِإِسْلَامِ أَبِيهِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ، وَمَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، وَكَذَا أَمْوَالُهُ لَا تَصِيرُ مُحْرَزَةً بِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ) بِالْإِسْلَامِ (لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَبَقِيَ الْكُلُّ فَيْئًا. فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ جَاءَ).

إلَيْنَا (فَظُهِرَ عَلَى الدَّارِ) وَبَاقِي الصُّورَةِ بِحَالِهَا. (فَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ وِلَايَتِهِ حِينَ أَسْلَمَ) وَلَوْ كَانَ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي هُمْ فِيهِمَا (إذْ الدَّارُ وَاحِدَةٌ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ مَالٍ أَوْدَعَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ)؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِمَا غَصْبًا فَإِنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا لِعَدَمِ النِّيَابَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فَيْئًا إلَّا مَا كَانَ مِنْ غَصْبٍ عِنْدَ حَرْبِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَتَقَدَّمَتْ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ مَعَ أُخْرَيَيْنِ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ مُسْتَوْفًى.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَهُ وَرَثَةٌ مُسْلِمُونَ) صَالِحُونَ؛ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ (فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ (لِأَنَّهُ أَرَاقَ دَمًا مَعْصُومًا) بِالْإِسْلَامِ (لِكَوْنِ الْإِسْلَامِ مُسْتَحِقًّا لِلْكَرَامَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ أَصْلُهَا) الْعِصْمَةُ (الْمُؤْثِمَةُ؛ لِحُصُولِ أَصْلِ الزَّجْرِ بِهَا) أَيْ بِالْعِصْمَةِ،

ص: 27

وَهِيَ ثَابِتَةٌ إجْمَاعًا، وَالْمُقَوَّمَةُ كَمَالٍ فِيهِ لِكَمَالِ الِامْتِنَاعِ بِهِ فَيَكُونُ وَصْفًا فِيهِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَا عُلِّقَ بِهِ الْأَصْلُ.

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الْآيَةَ. جَعَلَ التَّحْرِيرَ كُلَّ الْمُوجِبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ أَوْ إلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ فَيَنْتَفِي غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بِالْآدَمِيَّةِ

وَلَوْ قَالَ بِهِ، أَيْ بِالْإِثْمِ لَكَانَ أَحْسَنَ (وَ) الْعِصْمَةُ (الْمُقَوَّمَةُ كَمَالٍ فِيهِ) أَيْ فِي أَصْلِ الْعِصْمَةِ (لِكَمَالِ الِامْتِنَاعِ بِهِ) أَيْ التَّقْوِيمِ عَلَى الْمُنْتَهِكِ لَهَا (فَتُعَلَّقُ) هَذِهِ الْعِصْمَةُ (بِمَا عُلِّقَ بِهِ الْأَصْلُ) أَعْنِي الْمُؤْثِمَةَ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ " فَتَنْصَرِفُ الْعِصْمَةُ إلَى كَمَالِهَا وَذَلِكَ بِالْمُقَوَّمَةِ وَالْمُؤْثِمَةِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَإِنَّهُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ، وَلَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ اكْتِفَاءً بِمَا ذُكِرَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَفَاضَ فِي تَفَاصِيلِ مُوجِبَاتِ الْقَتْلِ الْخَطَإِ فَقَالَ سبحانه وتعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} فَأَوْجَبَ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ ثُمَّ قَالَ {فَإِنْ كَانَ} أَيْ الْمَقْتُولُ {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَعُرِفَ أَنَّهُ تَمَامُ الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّهُ مُفِيضٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْكَائِنِ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا فَقَالَ مُوجِبُهُ كَذَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَكَانَ كُلَّ الْمُوجِبِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِمُوجِبِهِ بَلْ لِبَعْضِ مُوجِبِهِ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ وَجْهًا آخَرَ قَدَّمَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ، وَقَرَّرَ بِأَنَّ الْفَاءَ لِلْجَزَاءِ وَالْجَزَاءُ هُوَ الْكَافِي يُقَالُ جَزَى فُلَانٌ: أَيْ كَفَى وَهُوَ سَهْوٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَزَاءِ الْمَجْعُولِ مَعْنَى الْفَاءِ لَفْظٌ اصْطِلَاحِيٌّ: أَيْ جَعْلِيٌّ لَا أَنَّ اللُّغَةَ وَضَعَتْ لَفْظَ الْفَاءِ لِمَعْنَى لَفْظِ الْجَزَاءِ حَتَّى يُقَالَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْفَاءِ الْكَافِي. بَلْ الْمُرَادُ بِقَوْلِ النُّحَاةِ الْفَاءُ لِلْجَزَاءِ: أَيْ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهَا فَسُمِّيَ الْمُسَبَّبُ جَزَاءً اصْطِلَاحًا لَا لُغَةً فَلْيُتَأَمَّلْ.

(وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ) فِي الْأَصْلِ (بِالْآدَمِيَّةِ) لَا بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ

ص: 28

لِأَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكْلِيفِ، وَالْقِيَامَ بِهَا بِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ، وَالْأَمْوَالُ تَابِعَةٌ لَهَا. أَمَّا الْمُقَوَّمَةُ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ يُؤْذِنُ بِجَبْرِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ النُّفُوسِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ التَّمَاثُلَ، وَهُوَ فِي الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ فَكَانَتْ النُّفُوسُ تَابِعَةً، ثُمَّ الْعِصْمَةُ الْمُقَوَّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّ الْعِزَّةَ بِالْمَنَعَةِ فَكَذَلِكَ فِي النُّفُوسِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَنَعَةِ الْكَفَرَةِ؛ لِمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ إبْطَالَهَا. وَالْمُرْتَدُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ حُكْمًا لِقَصْدِهِمَا الِانْتِقَالَ إلَيْهَا

لِأَنَّهُ خُلِقَ مُتَحَمِّلًا أَعْبَاءَ التَّكَالِيفِ وَالْقِيَامِ بِهَا) لَا يُمْكِنُ إلَّا مَعَ (حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَهُ)، وَإِنَّمَا زَالَتْ بِعَارِضِ الْكُفْرِ فَإِذَا انْتَفَى عَادَتْ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهَا بِحَسَبِ الْأَصْلِ مُبَاحَةٌ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا وَالْعِصْمَةُ الْمُقَوَّمَةُ بِالْعَكْسِ فَالْأَمْوَالُ هِيَ الْأَصْلُ فِيهَا لَا النُّفُوسُ (لِأَنَّ التَّقَوُّمَ يُؤْذِنُ بِجَبْرِ الْفَائِتِ) وَمِنْ شَرْطِهِ التَّمَاثُلُ وَهُوَ فِي الْأَمْوَالِ لَا النُّفُوسِ، فَكَانَتْ النُّفُوسُ تَابِعَةً فِي الْعِصْمَةِ الْمُقَوِّمَةِ لِلْأَمْوَالِ. (ثُمَّ الْعِصْمَةُ الْمُقَوَّمَةُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّ الْعِزَّةَ بِالْمَنَعَةِ، فَكَذَا فِي النُّفُوسِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ اعْتِبَارَ مَنَعَةِ الْكُفْرِ) فَأَوْجَبَ بُطْلَانَهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَزِمَ فِي الْمُرْتَدِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ إذَا قُتِلَا فِي دَارِنَا الدِّيَةُ. أَجَابَ بِأَنَّهُمَا (مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا لِقَصْدِ الِانْتِقَالِ إلَيْهَا) فَلَمْ يَجِبْ شَيْءٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ» فَنَقُولُ: لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ الْعِصْمَةِ شَرْعًا وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَمَالُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام إلَّا بِحَقِّهِ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِنَا لَا يُكَثِّرُونَ

ص: 29

(وَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً لَا وَلِيَّ لَهُ أَوْ قَتَلَ حَرْبِيًّا دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْإِمَامِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً خَطَأً فَتُعْتَبَرُ بِسَائِرِ النُّفُوسِ الْمَعْصُومَةِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِلْإِمَامِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ (وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ)؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مَعْصُومَةٌ، وَالْقَتْلَ عَمْدٌ، وَالْوَلِيَّ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْعَامَّةُ أَوْ السُّلْطَانُ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَقَوْلُهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ مَعْنَاهُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ وَهُوَ الْقَوَدُ عَيْنًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ أَنْفَعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْقَوَدِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْمَالِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْعَامَّةِ وَوِلَايَتُهُ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.

سَوَادَ الْعَدُوِّ إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَنْتَهِضُ فِي الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً لَا وَلِيَّ لَهُ أَوْ قَتَلَ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْإِمَامِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً) بِالْإِسْلَامِ وَدَارِهِ (خَطَأً، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لِلْإِمَامِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ لَا وَارِثَ لَهُ) بِالْفَرْضِ لَا أَنَّ الْمَأْخُوذَ يَمْلِكُهُ هُوَ بَلْ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، (وَإِنْ كَانَ) قَتْلُ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ وَالْمُسْتَأْمَنِ الَّذِي أَسْلَمَ، وَلَمْ يُسْلِمْ مَعَهُ وَارِثٌ قَصْدًا وَلَا تَبَعًا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ دَخَلَ بِهِ إلَيْنَا (عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ) مِنْهُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَا الْجَبْرِ (لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ عِنْدَنَا الْقِصَاصُ عَيْنًا) إلَّا أَنْ يَتَصَالَحُوا عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلسُّلْطَانِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ. (قَالَ عليه الصلاة والسلام:«السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» ) وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَارْجِعْ إلَيْهِ. وَالدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلِهِ لَكِنْ قَدْ يَعُودُ إلَيْهِمْ مِنْ قَتْلِهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى هِيَ أَنْ يَنْزَجِرَ أَمْثَالُهُ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ فَيُرَى بِمَا هُوَ أَنْفَعُ فِي رَأْيِهِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ قَدْ تَكُونُ أَنْفَعَ، وَإِلَّا كَانَ يَتَعَيَّنُ الصُّلْحُ مِنْهُ عَلَيْهَا.

(وَأَمَّا أَنْ يَعْفُوَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الْعَامَّةِ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ) وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَقِيطًا فَقَتَلَهُ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ خَطَأً فَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَالَحَهُ عَلَى الدِّيَةِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَلَا أَقْتُلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ وَلِيٍّ كَالْأَبِ وَنَحْوِهِ إنْ كَانَ ابْنَ رَشْدَةٍ، وَكَالْأُمِّ إنْ كَانَ ابْنَ زِنًا، فَاشْتَبَهَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ فَلَا يُسْتَوْفَى كَالْمُكَاتَبِ الَّذِي قُتِلَ قَبْلَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ، وَتَرَكَ وَفَاءً. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لَهُ وَلِيٌّ وَلَا هُوَ فِي مَظِنَّتِهِ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ إذْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَيُسْتَوْفَى.

ص: 30

(بَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ)

قَالَ: (أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا أَرْضُ عُشْرٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيُمْنِ بِمَهْرَةَ إلَى حَدِّ الشَّامِّ

بَابُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ)

لَمَّا ذَكَرَ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا ذَكَرَ مَا يَنُوبُهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ إذَا صَارَ ذِمِّيًّا وَذَلِكَ هُوَ الْخَرَاجُ فِي أَرْضِهِ وَرَأْسِهِ، وَفِي تَفَارِيعِهِمَا كَثْرَةٌ فَأَوْرَدَهُمَا فِي بَابَيْنِ، وَقَدَّمَ خَرَاجَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ كَانَ بِعَرْضٍ قَرِيبٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعُشْرَ فِيهِ أَيْضًا تَتْمِيمًا لِوَظِيفَةِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهَا السَّبَبُ فِي الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ جَمِيعًا، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ.

وَالْعُشْرُ لُغَةً وَاحِدٌ مِنْ الْعَشَرَةِ، وَالْخَرَاجُ مَا يَخْرُجُ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ أَوْ نَمَاءِ الْغُلَامِ، وَسُمِّيَ بِهِ مَا يَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ مِنْ وَظِيفَةِ الْأَرْضِ وَالرَّأْسِ، وَحَدَّدَ الْأَرَاضِيَ الْعُشْرِيَّةَ وَالْخَرَاجِيَّةَ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ أَضْبَطُ فَقَالَ (أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا عُشْرِيَّةٌ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ) وَهُوَ مَاءٌ لِتَمِيمٍ وَذَكَرَ ضَمِيرَ الْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ خَبَرِهِ وَهُوَ لَفْظُ " مَا " فِي قَوْلِهِ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ (إلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيَمَنِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهِيَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَحَجَرٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَإِسْكَانِهَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: حُدُودُ أَرْضِ الْعَرَبِ مَا وَرَاء حُدُودِ الْكُوفَةِ إلَى أَقْصَى صَخْرٍ بِالْيَمَنِ، فَعُرِفَ أَنَّهُ حَجَرٌ بِالْفَتْحِ، وَالْمُرَادُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَمَنِ وَهُوَ آخِرُ حَجَرٍ مِنْهَا، وَمَهَرَةُ حِينَئِذٍ فِي آخِرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْيَمَنِ، وَقَوْلُهُمْ مِنْ أَوَّلِ عَذِيبِ الْقَادِسِيَّةِ إلَى آخِرِ حَجَرٍ يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَرَاءَ أَرْضِ الْكُوفَةِ، هَذَا طُولُهَا، وَعَرْضُهَا مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ وَالدَّهْنَاءِ وَيُعْرَفُ بِرَمْلِ عَالِجٍ إلَى مَشَارِفِ الشَّامِ: أَيْ قُرَاهَا، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِمُنْقَطِعِ السَّمَاوَةِ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهِيَ أَرْضُ الْحِجَازِ وَتِهَامَةُ وَمَكَّةُ وَالْيَمَنُ وَالطَّائِفُ وَالْبَرِيَّةُ. وَالْحِجَازُ هُوَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ سُمِّيَ جَزِيرَةً؛ لِأَنَّ بَحْرَ الْحَبَشِ وَبَحْرَ فَارِسٍ

ص: 31

وَالسَّوَادُ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانَ، وَمِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ وَيُقَالُ مِنْ الْعَلْثِ إلَى عَبَّادَانَ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَأْخُذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَرَاضِي الْعَرَبِ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَيْءِ فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي رِقَابِهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْخَرَاجِ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَى الْكُفْرِ كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ، وَعُمَرُ حِينَ فَتَحَ السَّوَادَ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَيْهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَوَضَعَ عَلَى مِصْرَ حِينَ افْتَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَكَذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الشَّامِ.

قَالَ: (وَأَرْضُ السَّوَادِ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا يَجُوزُ بَيْعُهُمْ لَهَا وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ أَرْضًا عَنْوَةً وَقَهْرًا لَهُ أَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيَضَعَ عَلَيْهَا وَعَلَى رُءُوسِهِمْ الْخَرَاجَ فَتَبْقَى الْأَرَاضِي مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ (: وَكُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ)؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ أَلْيَقُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَكَذَا هُوَ أَخَفُّ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْخَارِجِ.

وَالْفُرَاتَ أَحَاطَتْ بِهَا، وَسُمِّيَ حِجَازًا؛ لِأَنَّهُ حُجِزَ بَيْن تِهَامَةَ وَنَجْدٍ (وَالسَّوَادُ) أَيْ سَوَادُ الْعِرَاقِ: أَيْ أَرْضُهُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ اخْضِرَارِهِ. وَحْدَهُ (مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانَ) عَرْضًا (وَمِنْ الْعَلْثِ إلَى عَبَّادَانَ) طُولًا (وَيُقَالُ مِنْ الثَّعْلَبِيَّةِ إلَى عَبَّادَانَ) قِيلَ هُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الثَّعْلَبِيَّةَ بَعْدَ الْعُذَيْبِ بِكَثِيرٍ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَأَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا عُشْرِيَّةٌ (لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ) بَعْدَهُ (لَمْ يَأْخُذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ) وَلَوْ فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام لَقَضَتْ الْعَادَةُ بِنَقْلِهِ وَلَوْ بِطَرِيقٍ ضَعِيفٍ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ قَضَاءُ الْعَادَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ.

(وَلِأَنَّ شَرْطَ الْخَرَاجِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا) عَلَيْهَا (عَلَى كُفْرِهِمْ كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ وَالْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ)، وَإِلَّا يَقْتُلُونَ؛ وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا رِقَّ عَلَى الْعَرَبِ فَكَذَا لَا خَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِمْ، وَسَوَادُ الْعِرَاقِ الْمُحَدَّدُ الْمَذْكُورُ خَرَاجِيٌّ (لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَضَعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ) وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ فِيهِ أَثَرٌ مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْمَوْضُوعِ. وَقَوْلُهُ:(وَوُضِعَ عَلَى مِصْرَ إلَخْ) أَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ إلَى مَشْيَخَةٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ افْتَتَحَ مِصْرَ عَنْوَةً وَاسْتَبَاحَ مَا فِيهَا وَعَزَلَ مِنْهُ مَغَانِمَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ صَالَحَهُمْ بَعْدُ عَلَى وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجِ عَلَى أَرَاضِيهمْ، ثُمَّ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِذَلِكَ،، وَأَسْنَدَ أَيْضًا إلَى عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَبْعَثُ بِجِزْيَةِ أَهْلِ مِصْرَ وَخَرَاجِهَا إلَى عُمَرَ رضي الله عنه كُلَّ سَنَةٍ بَعْدَ حَبْسِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلَقَدْ اسْتَبْطَأَهُ عُمَرُ فِي الْخَرَاجِ سَنَةً فَكَتَبَ بِكِتَابٍ يَلُومُهُ وَيُشَدِّدُ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مِنْ أَنَّ مِصْرَ فُتِحَتْ صُلْحًا عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.

، وَأَمَّا وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِ الشَّامِّ فَمَعْرُوفٌ. قِيلَ وَمُدُنُ الشَّامِّ فُتِحَتْ صُلْحًا، وَأَرَاضِيهَا عَنْوَةً عَلَى يَدِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَشُرَحْبِيلِ بْنِ حَسَنَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَفُتِحَتْ أَجْنَادِينَ صُلْحًا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَفِي دَالِهَا الْفَتْحُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْكَسْرُ.

(قَوْلُهُ: وَأَرْضُ السَّوَادِ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَتَصَرُّفُهُمْ) فِيهَا بِالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ (لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ أَرْضًا عَنْوَةً لَهُ أَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيَضَعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ، وَعَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ فَتَبْقَى الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا وَقَدَّمْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) فِي بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِهَا هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ.

(قَوْلُهُ: وَكُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا) عَلَيْهَا فَأَحْرَزُوا مِلْكَهُمْ فِيهَا (أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ أَلْيَقُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَخَفُّ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ) الْوَاجِبُ (بِنَفْسِ الْخَارِجِ) فَلَا يُؤْخَذُ

ص: 32

(وَكُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ) وَكَذَا إذَا صَالَحَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْخَرَاجُ أَلْيَقُ بِهِ، وَمَكَّةُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَحَهَا عَنْوَةً وَتَرَكَهَا لِأَهْلِهَا، وَلَمْ يُوَظِّفْ الْخَرَاجَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَوَصَلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ وَاسْتُخْرِجَ مِنْهَا عَيْنٌ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ)؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ النَّامِيَةِ، وَنَمَاؤُهَا بِمَائِهَا فَيُعْتَبَرُ السَّقْيُ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ.

مَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا فَهُوَ أَلْيَقُ بِالْمُسْلِمِ.

(وَكُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَكَذَا إذَا صَالَحَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْخَرَاجُ أَلْيَقُ بِهِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ لِلتَّعَلُّقِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ، وَفِيهِ نَظَرٌ نَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَمَكَّةُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا) الْعُمُومِ (فَإِنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً) عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا بِمَا لَا يُشَكُّ مَعَهُ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً (وَلَمْ يُوَظَّفْ عَلَيْهَا خَرَاجًا) وَلِنَخُصَّ هَذَا الْمَكَانَ بِحَدِيثٍ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي بَابِ الْغَنَائِمِ. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ فَقَالَ «أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ رضي الله عنه إلَى إحْدَى الْمَجْبَنَتَيْنِ وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمَجْبَنَةِ الْأُخْرَى وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْجِسْرِ، وَأَخَذُوا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَتِيبَةٍ، قَالَ: فَنَظَرَ إلَيَّ وَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قُلْت لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ فَلَا يَأْتِينِي إلَّا أَنْصَارِيٌّ، فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا تَرَوْنَ إلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَضَرَبَ بِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَقَالَ: اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي عَلَى الصَّفَا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إلَّا قَتَلَهُ» الْحَدِيثُ بِطُولِهِ، فَاضْمُمْ هَذَا إلَى مَا هُنَاكَ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْقُتَبِيُّ مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَصُلْحًا مِنْ الْبِلَادِ فَذَكَرَ أَنَّ الْأَهْوَازَ وَفَارِسَ، وَأَصْبَهَانَ فُتِحَتْ عَنْوَةً لِعُمَرَ رضي الله عنه عَلَى يَدَيْ أَبِي مُوسَى وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَكَانَتْ أَصْبَهَانُ عَلَى يَدَيْ أَبِي مُوسَى خَاصَّةً، وَأَمَّا خُرَاسَانُ وَمَرْوُ الرُّوذِ فُتِحَتَا صُلْحًا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ إلَى يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَأَمَّا مَا وَرَاءَهُمَا فَافْتُتِحَ بَعْدَ عُثْمَانَ عَلَى يَدِ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِمُعَاوِيَةَ صُلْحًا وَسَمَرْقَنْدُ وكش وَنَسَفُ وَبُخَارَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا الرَّيُّ فَافْتَتَحَهَا أَبُو مُوسَى فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ صُلْحًا، وَفِي وِلَايَتِهِ فُتِحَتْ طَبَرِسْتَانَ عَلَى يَدَيْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ صُلْحًا، ثُمَّ فَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَلَاءِ وَالطَّالِقَانِ وَدُنْبَاوَنْدُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَأَمَّا جُرْجَان فَفِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَكَرْمَانُ وَسِجِسْتَانُ فَتَحَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ صُلْحًا. وَافْتُتِحَ الْجَبَلُ كُلُّهُ عَنْوَةً فِي وَقْعَةِ جَلُولَاءَ، وَنَهَاوَنْدُ عَلَى يَدَيْ سَعْدٍ وَالنُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ.

وَأَمَّا الْجَزِيرَةُ فَفُتِحَتْ صُلْحًا عَلَى يَدَيْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ وَالْجَزِيرَةُ مَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَالْمُوصِلُ مِنْ الْجَزِيرَةِ، وَأَمَّا هَجَرُ فَأَدَّوْا الْجِزْيَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا دَوْمَةُ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا الْيَمَامَةُ فَافْتَتَحَهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه. وَأَمَّا الْهِنْدُ فَافْتَتَحَهَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ.

(قَوْلُهُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَوَصَلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ إلَخْ) قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ مُخَالَفَةٌ بَيْنَ مَا فِي الْقُدُورِيِّ وَالْجَامِعِ أَوْ زِيَادَةٌ فِي الْجَامِعِ يَقُولُ بَعْدَ لَفْظِ

ص: 33

قَالَ: (وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُعْتَبَرَةٌ بِحَيِّزِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ) وَمَعْنَاهُ بِقُرْبِهِ (فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ)، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ

الْقُدُورِيِّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى آخِرِهِ، وَهُنَا الْمُخَالَفَةُ ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ: كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ مُطْلَقٍ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ أَوْ لَا يَصِلُ بِأَنْ اُسْتُنْبِطَ فِيهَا عَيْنٌ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ قَيَّدَ خَرَاجِيَّتَهَا بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا لَوْ كَانَتْ تُسْقَى بِعَيْنٍ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ لَمْ تَكُنْ إلَّا خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا كُفَّارٌ. وَالْكُفَّارُ لَوْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُشْرِيَّةَ قَدْ تُسْقَى بِعَيْنٍ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ لَا تَبْقَى عَلَى الْعُشْرِيَّةِ بَلْ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، فَكَيْفَ يُبْتَدَأُ الْكَافِرُ بِتَوْظِيفِ الْعُشْرِ، ثُمَّ كَوْنُهَا عُشْرِيَّةً عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ كَذَلِكَ، أَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ فَهُوَ أَيْضًا يَمْنَعُهُ، وَالْعِبَارَةُ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ الْجَامِعِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لَيْسَتْ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ. فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً بِالْقِتَالِ فَصَارَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَصِلُ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَاسْتُخْرِجَ فِيهِ عَيْنٌ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ وَالْأَرَاضِي الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ. فَقَوْلُهُ: وَكُلُّ شَيْءٍ يَصِلُ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ عَطْفٌ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَالْعَطْفُ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَكُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً صَارَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ، وَكُلُّ أَرْضٍ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً وَوَصَفَهَا أَنَّهَا يَصِلُ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ.

وَحَاصِلُهُ تَقْسِيمُ أَرْضِ الْخَرَاجِ إلَى مَا يُفْتَحُ عَنْوَةً، وَإِلَى مَا لَمْ يُفْتَحْ عَنْوَةً لَكِنَّهَا تُسْقَى بِمَاءِ الْأَنْهَارِ. نَعَمْ يَجِبُ تَقْيِيدُ الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ، وَكَأَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ، إذْ لَا يَبْتَدِئُ الْمُسْلِمُ فِي أَوَّلِ الْفَتْحِ قَطُّ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ فِي الْأَرَاضِي الْمَقْسُومَةِ كَمَا يَجِبُ تَقْيِيدُ الْأَنْهَارِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ خَرَاجِيَّةً مَا لَمْ تَكُنْ حَوْلَهَا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً إنْ أُقِرَّ الْكُفَّارُ عَلَيْهَا لَا يُوَظَّفُ عَلَيْهِمْ إلَّا الْخَرَاجُ، وَلَوْ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْمَطَرِ، وَإِنْ قُسِّمَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يُوَظَّفُ إلَى الْعُشْرِ، وَإِنْ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْأَنْهَارِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَبِالضَّرُورَةِ يُرَادُ الْأَرْضُ الَّتِي أَحْيَاهَا مُحْيٍ، فَإِنَّ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً مِمَّا يُبْتَدَأُ فِيهَا التَّوْظِيفُ غَيْرَ الْمَقْسُومَةِ، وَالْمُقَرَّرِ أَهْلُهَا عَلَيْهَا لَيْسَ إلَّا الْمَوَاتَ الَّتِي أُحْيِيَتْ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى كُلُّ أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً صَارَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ إذَا أَقَامَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَكُلُّ أَرْضٍ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً بَلْ أَحْيَاهَا مُسْلِمٌ إنْ كَانَ صِفَتُهَا أَنَّهَا يَصِلُ إلَيْهَا مَاءُ الْأَنْهَارِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ أَوْ مَاءُ عَيْنٍ وَنَحْوُهُ فَعُشْرِيَّةٌ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ شَرَحَهُ هَكَذَا اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهِ فَإِنَّهَا هِيَ. وَحَاصِلُهَا أَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِيمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً بِبِئْرٍ حَفَرَهَا أَوْ عَيْنٍ اسْتَخْرَجَهَا أَوْ مَاءٍ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ أَوْ بَاقِي الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ أَوْ بِالْمَطَرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ مِثْلَ نَهْرِ الْمَلِكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدْ وَهُوَ مِلْكٌ مِنْ الْعَجَمِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي مِثْلِهِ لِلْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ لِنَمَاءِ الْأَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً كَرْهًا فَيُعْتَبَرُ السَّقْيُ؛ لِأَنَّ السَّقْيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ دَلَالَةٌ عَلَى الْتِزَامِهِ فَتَصِيرُ خَرَاجِيَّةً عَلَيْهِ.

(وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُعْتَبَرُ بِحَيِّزِهَا) أَيْ بِمَا يَقْرَبُ مِنْهَا (فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ: أَيْ بِقُرْبِهِ فَخَرَاجِيَّةٌ أَوْ أَرْضِ الْعُشْرِ فَعُشْرِيَّةٌ)؛ لِأَنَّ الْقُرْبَ مِنْ أَسْبَابِ

ص: 34

(وَالْبَصْرَةُ عِنْدَهُ عُشْرِيَّةٌ) بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُهُ، كَفِنَاءِ الدَّارِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الدَّارِ حَتَّى يَجُوزَ لِصَاحِبِهَا الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْبَصْرَةِ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ، إلَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ وَظَّفُوا عَلَيْهَا الْعُشْرَ فَتُرِكَ الْقِيَاسُ لِإِجْمَاعِهِمْ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَحْيَاهَا بِبِئْرٍ حَفَرَهَا أَوْ بِعَيْنٍ اسْتَخْرَجَهَا أَوْ مَاءِ دِجْلَةَ أَوْ الْفُرَاتِ أَوْ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ) وَكَذَا إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ (وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الَّتِي احْتَفَرَهَا الْأَعَاجِمُ) مِثْلَ نَهْرِ الْمَلِكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدْ (فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْمَاءِ إذْ هُوَ السَّبَبُ لِلنَّمَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُسْلِمِ كَرْهًا فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْمَاءُ؛ لِأَنَّ السَّقْيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ دَلَالَةُ الْتِزَامِهِ.

قَالَ: (وَالْخَرَاجُ الَّذِي وَضَعَهُ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ مِنْ كُلِّ

التَّرْجِيحِ فَتَرَجَّحَ كَوْنُهَا خَرَاجِيَّةً بِالْقُرْبِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَعُشْرِيَّةً كَذَلِكَ، وَأَصْلُهُ أَفْنِيَةُ الدُّورِ أُعْطِيَ لَهُ فِي الشَّرْعِ حُكْمُهَا حَتَّى جَازَ لِصَاحِبِ الدَّارِ الِانْتِفَاعُ بِفِنَائِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ لَهُ حَقَّ الِانْتِفَاعِ لَوْ قَالَ الْمُسْتَأْجَرُ لِلْأُجَرَاءِ هَذَا فِنَائِي وَلَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ وَلَكِنْ احْفِرُوا فَحَفَرُوا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِحْسَانِ، بَلْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِنَاءً بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فِي انْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ مِنْ إلْقَاءِ الطِّينِ وَالْحَفْرِ وَرَبْطِ الدَّابَّةِ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ اسْتَثْنَى الْبَصْرَةَ مِنْ ضَابِطِهِ فَإِنَّهَا عُشْرِيَّةٌ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَعْلِهَا عُشْرِيَّةً كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فَتُرِكَ الْقِيَاسُ فِيهَا لِذَلِكَ.

هَذَا وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ إلَى آخِرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا لِمُسْلِمٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ كَانَتْ خَرَاجِيَّةً سَوَاءٌ سُقِيَتْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِمَاءِ السَّمَاءِ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ أَوْ الْعُشْرِ، وَظَهَرَ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ صُنْعٌ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ وَهُوَ السَّقْيُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ جَزَاءُ الْمُقَاتِلَةِ عَلَى حِمَايَتِهِمْ فَمَا سُقِيَ بِمَا حَمَوْهُ وَجَبَ فِيهِ.

(قَوْلُهُ: وَالْخَرَاجُ الَّذِي وَضَعَهُ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ مِنْ كُلِّ

ص: 35

جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ قَفِيزٌ هَاشِمِيٌّ وَهُوَ الصَّاعُ وَدِرْهَمٌ، وَمِنْ جَرِيبِ الرَّطْبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمِنْ جَرِيبِ الْكَرْمِ الْمُتَّصِلِ وَالنَّخِيلِ الْمُتَّصِلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ) وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عُمَرَ، فَإِنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حَتَّى يَمْسَحَ سَوَادَ الْعِرَاقِ، وَجَعَلَ حُذَيْفَةَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ، وَكَوَّنَهُ فَبَلَغَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ وَوَضَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ.

جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ قَفِيزٌ هَاشِمِيٌّ وَهُوَ الصَّاعُ) ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. نَصَّ عَلَى أَنَّهُ الصَّاعُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَدَّثَنِي السَّرِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَرَضَ عَلَى الْكَرْمِ عَشَرَةً وَعَلَى الرَّطْبَةِ خَمْسَةً وَعَلَى كُلِّ أَرْضٍ يَبْلُغُهَا الْمَاءُ عَمِلَتْ أَوْ لَمْ تَعْمَلْ دِرْهَمًا وَمَخْتُومًا. قَالَ عَامِرٌ: هُوَ الْحَجَّاجِيُّ وَهُوَ الصَّاعُ انْتَهَى. وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: فَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ مِنْ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ مِمَّا يَبْلُغُهُ الْمَاءُ مِمَّا يَصْلُحُ لِلزَّرْعِ فَفِي كُلِّ جَرِيبٍ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ زَرَعَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا أَوْ لَمْ يَزْرَعْهُ كُلُّهُ سَوَاءٌ، وَفِيهِ كُلَّ سَنَةٍ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ فِي كُلِّ جَرِيبِ زَرْعٍ. وَالْقَفِيزُ قَفِيزُ الْحَجَّاجِ وَهُوَ رُبُعُ الْهَاشِمِيِّ، وَهُوَ مِثْلُ الصَّاعِ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْقَفِيزِ الْمَأْخُوذِ قَفِيزٌ مِمَّا زَرَعَ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ عَدَسًا أَوْ ذُرَةً، قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ وَاسْتُحْسِنَ. وَالدِّرْهَمُ مَا يُوزَنُ سَبْعَةٌ.

وَالْمُرَادُ مِنْ الْجَرِيبِ أَرْضٌ طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهَا كَذَلِكَ بِذِرَاعِ الْمَلِكِ كِسْرَى وَهُوَ يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَبْضَةٍ فَهُوَ سَبْعُ قَبَضَاتٍ؛ لِأَنَّ ذِرَاعَ الْعَامَّةِ سِتٌّ. وَقَوْلُهُ: فِي الْكَافِي مَا قِيلَ الْجَرِيبُ سِتُّونَ فِي سِتِّينَ حِكَايَةٌ عَنْ جَرِيبِهِمْ فِي أَرَاضِيِهِمْ، وَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ فِي الْأَرَاضِي كُلِّهَا، بَلْ جَرِيبُ الْأَرْضِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مُتَعَارَفٍ أَهْلُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْجَرِيبَ يَخْتَلِفُ قَدْرُهُ فِي الْبُلْدَانِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَتَّحِدَ الْوَاجِبُ وَهُوَ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَقَادِيرِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عُرْفُ بَلَدٍ فِيهِ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَعُرْفُ أُخْرَى فِيهِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَكَذَا مَا قِيلَ الْجَرِيبُ مَا يُبْذَرُ فِيهِ مِائَةُ رِطْلٍ، وَقِيلَ مَا يُبْذَرُ فِيهِ مِنْ الْحِنْطَةِ سِتُّونَ مَنًّا، وَقِيلَ خَمْسُونَ فِي دِيَارِهِمْ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا جَرِيبُ الرَّطْبَةِ فَفِيهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ الْخَارِجِ (وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ الْمُتَّصِلِ وَالنَّخِيلِ الْمُتَّصِلَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه) فَقَيْدُ الِاتِّصَالِ يُفِيدُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي جَوَانِبِ الْأَرْضِ وَوَسَطِهَا مَزْرُوعَةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا، بَلْ الْمُعْتَبَرُ وَظِيفَةُ عُمَرَ رضي الله عنه فِي الزُّرُوعِ، وَكَذَا لَوْ غَرَسَ أَشْجَارًا غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَشْجَارُ مُلْتَفَّةً لَا يُمْكِنُ زِرَاعَةُ أَرْضِهَا فَهِيَ كَرْمٌ ذَكَرَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ أَنْبَتَ أَرْضُهُ كَرْمًا فَعَلَيْهِ خَرَاجُهَا إلَى أَنْ يُطْعَمَ، فَإِذَا أُطْعِمَ فَإِنْ كَانَ ضِعْفَ وَظِيفَةِ الْكَرْمِ فَفِيهِ وَظِيفَةُ الْكَرْمِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَنِصْفُهُ إلَى أَنْ يَنْقُصَ عَنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمٍ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ عَلَيْهِ وَظِيفَةُ الْأَرْضِ إلَى أَنْ يُطْعَمَ الْكَرْمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِذَلِكَ (فَ) قَالَ: (إنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حَتَّى يَمْسَحَ سَوَادَ الْعِرَاقِ) وَهُوَ الَّذِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما حِينَ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ (وَجَعَلَ حُذَيْفَةَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ وَكَوَّنَهُ فَبَلَغَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، وَوَضَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ) قَالَ شَارِحٌ فِي قَوْلِهِ وَوَضَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا: إنَّهُ سَهْوٌ، بَلْ يُقَالُ وَوَضَعَ ذَلِكَ عَلَى مَا قُلْنَا: أَيْ وَضَعَ الْخَرَاجَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَرْجِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ السِّتُّ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفٍ: أَيْ

ص: 36

وَلِأَنَّ الْمُؤَنَ مُتَفَاوِتَةٌ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا مُؤْنَةً وَالْمَزَارِعَ أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً وَالرُّطَبُ بَيْنَهُمَا، وَالْوَظِيفَةُ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهَا فَجُعِلَ الْوَاجِبُ فِي الْكَرْمِ أَعْلَاهَا وَفِي الزَّرْعِ أَدْنَاهَا وَفِي الرُّطَبَةِ أَوْسَطَهَا.

وُضِعَ عَلَى الْجِرْبَانِ الْمَقَادِيرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَا سَهْوَ يُنْسَبُ إلَى قَائِلِ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ بِهِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ رضي الله عنه. وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ اخْتَلَفَتْ كَثِيرًا فِي تَقْدِيرِ الْوَظِيفَةِ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: وَضَعَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ، وَعَلَى الْبَسَاتِينِ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ طَعَامٍ، وَعَلَى الرِّطَابِ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ طَعَامٍ، وَعَلَى الْكُرُومِ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَلَمْ يَضَعْ عَلَى النَّخِيلِ شَيْئًا جَعَلَهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ.

ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ فَوَضَعَ عُثْمَانُ عَلَى الْجَرِيبِ مِنْ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ: يَعْنِي الرَّطْبَةَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ: أَنْبَأْنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إلَى أَنْ قَالَ: فَمَسَحَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ سَوَادَ الْكُوفَةِ مِنْ أَرْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَجَعَلَ عَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْعِنَبِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الْجَرِيبِ مِنْ الْبُرِّ أَرْبَعَةً، وَعَلَى الْجَرِيبِ مِنْ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ، وَفِيهِ قَالَ: فَأَخَذَ مِنْ تُجَّارِهِمْ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَرَضِيَ بِهِ، فَقَدْ رَأَيْت مَا هُنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَمَالِكٌ رحمه الله يَعْتَبِرُ إجَارَةَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ فَتُفَوَّضُ إلَى إجَارَتِهِ كَمَا هُوَ الرَّسْمُ الْآنَ فِي أَرَاضِي مِصْرَ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ الْآنَ بَدَلُ إجَارَةٍ لَا خَرَاجٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَرَاضِيَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِلزُّرَّاعِ، وَهَذَا بَعْدَمَا قُلْنَا إنَّ أَرْضَ مِصْرَ خَرَاجِيَّةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، كَأَنَّهُ لِمَوْتِ الْمَالِكِينَ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ غَيْرِ إخْلَافِ وَرَثَةٍ فَصَارَتْ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَصِحَّ بَيْعُ الْإِمَامِ وَلَا شِرَاؤُهُ مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ لِشَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَنَظَرِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ عَقَارِهِ إلَّا لِضَرُورَةِ عَدَمِ وُجُودِ مَا يُنْفِقُهُ سِوَاهُ، فَلِذَا كَتَبْت فِي فَتْوَى رُفِعَتْ إلَيَّ فِي شِرَاءِ السُّلْطَانِ الْأَشْرَفِ بَرْسَبَاي رحمه الله لِأَرْضٍ مِمَّنْ وَلَّاهُ نَظَرَ بَيْتِ الْمَالِ هَلْ يَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي وَلَّاهُ؟ فَكَتَبْت: إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ جَازَ ذَلِكَ. وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ كَمَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي جَرِيبِ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ دِرْهَمٌ، وَالْبَاقِي كَقَوْلِنَا. وَقِيلَ كُلُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ صَحِيحَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ لِاخْتِلَافِ النَّوَاحِي فَوُضِعَ بَعْضُهَا أَقَلَّ وَبَعْضُهَا أَكْثَرَ؛ لِتَفَاوُتِ الرِّيعِ فِي نَاحِيَةٍ مَعَ نَاحِيَةٍ، وَمَا قُلْنَا أَشْهَرُ رِوَايَةً، وَأَرْفَقُ بِالرَّعِيَّةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَعْنَى فِي اخْتِلَافِ الْوَظِيفَةِ فَقَالَ: (وَلِأَنَّ الْمُؤَنَ مُتَفَاوِتَةٌ فَالْكَرْمُ أَخَفُّهَا مُؤْنَةً)؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الْأَبَدِ بِلَا مُؤْنَةٍ، وَأَكْثَرُهَا رِيعًا (وَالْمَزَارِعُ) أَقَلُّهَا رِيعًا وَ (أَكْثَرُهَا مُؤْنَةً) لِاحْتِيَاجِهَا إلَى الْبَذْرِ وَمُؤَنِ الزِّرَاعَةِ مِنْ الْحِرَاثَةِ وَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ فِي كُلِّ عَامٍ (وَالرِّطَابُ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهَا لَا تَدُومُ دَوَامَ الْكَرْمِ وَيَتَكَلَّفُ فِي عَمَلِهَا كُلَّ عَامٍ فَوَجَبَ تَفَاوُتُ الْوَاجِبِ بِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ، أَصْلُهُ قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ»

ص: 37

قَالَ: (وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَصْنَافِ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْبُسْتَانِ وَغَيْرِهِ يُوضَعُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الطَّاقَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَوْظِيفُ عُمَرَ وَقَدْ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ فِي ذَلِكَ فَنَعْتَبِرُهَا فِيمَا لَا تَوْظِيفَ فِيهِ. قَالُوا: وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ أَنْ يَبْلُغَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْخَارِجِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ لِمَا كَانَ لَنَا أَنْ نُقَسِّمَ الْكُلَّ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَالْبُسْتَانُ كُلُّ أَرْضٍ يَحُوطُهَا حَائِطٌ وَفِيهَا نَخِيلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَأَشْجَارٌ أُخَرُ، وَفِي دِيَارِنَا وَظَّفُوا مِنْ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَرَاضِي كُلِّهَا وَتُرِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ تُطِقْ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا نَقَصَهُمْ الْإِمَامُ) وَالنُّقْصَانُ عِنْدَ قِلَّةِ الرِّيعِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ: لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ، فَقَالَا: لَا بَلْ حَمَّلْنَاهَا مَا تُطِيقُ، وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النُّقْصَانِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عِنْدَ زِيَادَةِ الرِّيعِ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَزِدْ حِينَ أُخْبِرَ بِزِيَادَةِ الطَّاقَةِ، (وَإِنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ الْمَاءُ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا أَوْ اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ)

(قَوْلُهُ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ) أَيْ مِنْ الْأَرَاضِي الَّتِي فِيهَا أَصْنَافٌ غَيْرُ مَا وَصَفَ فِيهِ عُمَرُ رضي الله عنه (كَالزَّعْفَرَانِ) وَالنَّخِيلِ الْمُلْتَفَّةِ (وَالْبُسْتَانِ) وَهُوَ أَرْضٌ يَحُوطُهَا حَوَائِطُ وَفِيهَا نَخِيلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَشْجَارٌ، وَكَذَا غَيْرُ ذَلِكَ كَالنَّخِيلِ الْمُلْتَفَّةِ (يُوضَعُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ) فَيُوضَعُ عَلَى النَّخِيلِ الْمُلْتَفَّةِ بِحَسَبِ مَا تُطِيقُ، وَلَا يُزَادُ عَلَى الْكَرْمِ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّعْفَرَانِ كَذَلِكَ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى غَلَّتِهَا، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ سِوَى غَلَّةِ الزَّرْعِ يُؤْخَذُ قَدْرُ خَرَاجِ الزَّرْعِ أَوْ الرَّطْبَةِ يُؤْخَذُ خَرَاجُ الرَّطْبَةِ أَوْ الْكَرْمِ فَالْكَرْمُ، وَإِنَّمَا يُنْتَهَى إلَى نِصْفِ الْخَارِجِ (لِأَنَّ التَّنْصِيفَ) بَعْدَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُمْ وَنَتَمَلَّكَ رِقَابَ الْأَرَاضِي وَالْأَمْوَالِ (عَيْنُ الْإِنْصَافِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تُطِقْ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا)

بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْخَارِجُ مِنْهَا ضِعْفَهُ نَقَصَ إلَى نِصْفِ الْخَارِجِ، كَذَا أَفَادَهُ فِي الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ الْأَرَاضِي لَا تُطِيقُ أَنْ يَكُونَ الْخَرَاجُ خَمْسَةً بِأَنْ كَانَ الْخَارِجُ لَا يَبْلُغُ عِشْرَةً يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ نِصْفِ الْخَارِجِ انْتَهَى. وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَرَضِينَ الَّتِي وَظَّفَ عَلَيْهَا عُمَرُ رضي الله عنه ثُمَّ نَقَصَ نُزُلُهَا وَضَعُفَتْ الْآنَ أَوْ غَيَّرَهَا، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى وَظِيفَةِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي الْأَرَاضِي الَّتِي وَظَّفَ فِيهَا عُمَرُ رضي الله عنه أَوْ إمَامٌ آخَرُ مِثْلَ وَظِيفَةِ عُمَرَ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي، وَأَمَّا فِي بَلَدٍ لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهَا التَّوْظِيفَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَزِيدُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لَهُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ بَعْدَ الْإِمَامِ عُمَرَ رضي الله عنه تُزْرَعُ الْحِنْطَةُ فَأَرَادَ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهَا دِرْهَمَيْنِ وَقَفِيزًا وَهِيَ تُطِيقُهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِالنُّقْصَانِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته مِنْ حَمْلِ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا عَلَى مَا يَشْمَلُ أَرْضَ عُمَرَ رضي الله عنه، وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَزِدْ حِينَ أُخْبِرَ بِزِيَادَةِ طَاقَةِ الْأَرْضِ، فَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ: أَخَافُ أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ، قَالَا: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ الْبُنَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: أَرْضُ كَذَا وَكَذَا يُطِيقُونَ مِنْ الْخَرَاجِ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: لَيْسَ إلَيْهِمْ سَبِيلٌ (قَوْلُهُ: وَإِنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ الْمَاءُ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا أَوْ اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ)

ص: 38

لِأَنَّهُ فَاتَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ، وَهُوَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْخَرَاجِ، وَفِيمَا إذَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَاتَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَكَوْنُهُ نَامِيًا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ أَوْ يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْخَارِجِ.

قَالَ (وَإِنْ عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ)؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ الَّذِي فَوَّتَهُ.

أَمَّا فِي غَلَبَةِ الْمَاءِ أَوْ انْقِطَاعِهِ (فَلِأَنَّهُ فَاتَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَهُوَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْخَرَاجِ)، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَلِفَوْتِ (النَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، وَكَوْنُهُ نَامِيًا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ، أَوْ يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ الْخُرُوجِ)؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الزِّرَاعَةِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، فَإِذَا وُجِدَ الْأَصْلُ بَطَلَ اعْتِبَارُ الْخَلَفِ وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْأَصْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَشَايِخِ حَمَلُوا الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ مِنْ سُقُوطِ الْخَرَاجِ بِالِاصْطِلَامِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ السَّنَةِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ الزِّرَاعَةُ ثَانِيًا، فَإِنْ بَقِيَ لَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَهَا. وَفِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى: تَكَلَّمُوا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ زِرَاعَةُ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَمْ أَيِّ زَرْعٍ كَانَ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مُدَّةُ تَرْكِ الزَّرْعِ فِيهَا أَوْ مُدَّةٌ يَبْلُغُ الزَّرْعُ فِيهَا مَبْلَغًا يَكُونُ قِيمَتُهُ ضِعْفَ الْخَرَاجِ. وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْوَجْهَ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّ إدَارَةَ الْحُكْمِ عَلَى حَقِيقَةِ الْخَارِجِ إنْ أُسْقِطَ الْوَاجِبُ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ الْإِيجَابَ بِالتَّعْطِيلِ فِيهَا بَعْدَهُ مِنْ الزَّمَانِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَصَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ، وَإِنْ بَقِيَ إمْكَانُ الزِّرَاعَةِ إلَى آخِرِ السَّنَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ هَذَا، وَإِعَادَةُ الزَّرْعِ تَسْتَدْعِي مُؤَنًا كَالْأَوَّلِ، فَإِنْ أَخْرَجَ شَيْئًا فَقُصَارَاهُ أَنْ يَفِيَ بِالْخَرَاجَيْنِ فَأَخْذُ الْخَرَاجِ إذَا لَمْ يَزْرَعْ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ تَخَيُّرُ أَصْلِ مَالِ الزَّارِعِ وَكَذَا إنْ زَرَعَ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ) مِنْ الزِّرَاعَةِ (كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ الَّذِي فَوَّتَهُ) أَيْ فَوَّتَ الزَّرْعَ وَهَذَا بِشَرْطِ التَّمَكُّنِ كَمَا يُفِيدُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ كَانَ ثَابِتًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ لِعَدَمِ قُوَّتِهِ، وَأَسْبَابِهِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَهَا لِغَيْرِهِ مُزَارَعَةً وَيَأْخُذَ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِ الْمَالِكِ وَيُعْطِيَهُ الْبَاقِيَ، أَوْ يُؤَجِّرَهَا، وَيَأْخُذَ الْخَرَاجَ مِنْ الْأُجْرَةِ، أَوْ يَزْرَعَهَا بِنَفَقَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَقْبَلُ ذَلِكَ بَاعَهَا، وَأَخَذَ مِنْ ثَمَنِهَا خَرَاجَ السَّنَةِ الْمُنْسَلِخَةِ وَدَفَعَ بَاقِيَ الثَّمَنِ لِصَاحِبِهَا ثُمَّ اسْتَمَرَّ يَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ الْمُشْتَرِي. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَوْعَ حَجْرٍ فَفِيهِ دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ بِإِثْبَاتِ ضَرَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ وَالطَّبِيبِ

ص: 39

قَالُوا: مَنْ انْتَقِلْ إلَى أَخَسِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ خَرَاجُ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ الزِّيَادَةَ، وَهَذَا يُعْرَفُ وَلَا يُفْتَى بِهِ كَيْ لَا يَتَجَرَّأَ الظَّلَمَةُ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ.

(وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ عَلَى حَالِهِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَيُعْتَبَرُ مُؤْنَةً فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَأَمْكَنَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُسْلِمُ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَيُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ لِمَا قُلْنَا)، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ اشْتَرَوْا أَرَاضِيَ الْخَرَاجِ وَكَانُوا يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا،

الْجَاهِلِ. وَلَوْ وَقَعَ الْبَيْعُ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا قَدْرُ مَا يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الزِّرَاعَةِ فَالْخَرَاجُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا عَلَى الْبَائِعِ، وَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْفَعُ لِلْعَاجِزِ كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَرْضًا لِيَعْمَلَ فِيهَا صَحِيحٌ أَيْضًا.

وَمِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ: (مَا إذَا انْتَقَلَ إلَى أَخَسِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ) بِأَنْ كَانَتْ مَثَلًا تَزْرَعُ الْكَرْمَ فَزَرَعَهَا حُبُوبًا (أُخِذَ مِنْهُ خَرَاجُ الْأَعْلَى) وَهُوَ الْكَرْمُ (لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ الزِّيَادَةَ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: لَا يُفْتَى بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَسَلُّطِ الظَّلَمَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ إذْ يَدَّعِي كُلُّ ظَالِمٍ أَنَّ أَرْضَهُ تَصْلُحُ لِزِرَاعَةِ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ وَعِلَاجُهُ صَعْبٌ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ عَلَى حَالِهِ) وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَوَازِ يَسْقُطُ الْخَرَاجُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمُسْلِمِ. وَقَوْلُهُ:(لِمَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّ فِيهِ الْمُؤْنَةَ، وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الْمُؤْنَةِ كَالْعُشْرِ، وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو مِنْهَا، فَإِبْقَاءُ مَا تَقَرَّرَ وَاجِبًا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ وَضْعَ عُمَرَ رضي الله عنه بِمُوَافَقَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا كَانَ إلَّا لِيَجِدَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَهْلِ الْفَتْحِ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُمْ، وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ هَذَا الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ بَعِيدٍ بَعْدَ مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعْرِفَةِ مَحَاسِنِهِ أَوْ تَقِيَّةٍ مِنْ الْكُلْفَةِ وَتَجَشُّمِ الْمَشَاقِّ فِي الزِّرَاعَةِ ثُمَّ دَفْعِ نَحْوِ النِّصْفِ لِلْغَيْرِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ اشْتَرَوْا أَرَاضِيَ الْخَرَاجِ وَكَانُوا يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَلِشُرَيْحٍ أَرْضُ الْخَرَاجِ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ كَرَاهَةِ تَمَلُّكِهَا. حَدَّثَنَا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: إنِّي اشْتَرَيْت أَرْضًا مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ، فَقَالَ: عُمَرُ: أَنْتَ فِيهَا مِثْلُ صَاحِبِهَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ نَهْرِ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: إنْ اخْتَارَتْ أَرْضَهَا، وَأَدَّتْ مَا عَلَى أَرْضِهَا مِنْ الْخَرَاجِ فَخَلُّوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِهَا، وَإِلَّا فَخَلُّوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَرْضِهِمْ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ دِهْقَانَةً مِنْ أَرْضِ نَهْرِ الْمَلِكِ أَسْلَمَتْ، فَقَالَ عُمَرُ: ادْفَعُوا إلَيْهَا أَرْضَهَا تُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ زُبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه

ص: 40

فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ وَأَخْذِ الْخَرَاجِ وَأَدَائِهِ لِلْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ (وَلَا عُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا فِي مَحِلَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ» ،

فَقَالَ عَلِيٌّ: إنْ أَقَمْت فِي أَرْضِك رَفَعْنَا عَنْك الْخَرَاجَ عَنْ رَأْسِك، وَأَخَذْنَاهَا مِنْ أَرْضِك، وَإِنْ تَحَوَّلْت عَنْهَا فَنَحْنُ أَحَقُّ بِهَا.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ قَالَا: إذَا أَسْلَمَ وَلَهُ أَرْضٌ وَضَعْنَا عَنْهُ الْجِزْيَةَ، وَأَخَذْنَا خَرَاجَهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ، وَأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَأَدَائِهِ لِلْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ) وَصَرَّحَ فِي كَافِي الْحَاكِمِ بِنَفْيِ الْكَرَاهَةِ. قِيلَ: وَلَوْ قَالَ مِنْ الْمُسْلِمِ كَانَ أَوْلَى، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِهِ بِلَفْظِ أَخَذَ وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَإِنَّ الْأَخْذَ يَقُومُ بِالْإِمَامِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إفَادَةَ أَنَّهُ هَلْ يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ الْمُسْلِمِ، بَلْ الْمَقْصُودُ إفَادَةُ حُكْمِ شِرَاءِ الْمُسْلِمِ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ وَتَعَرُّضَهُ بِذَلِكَ لِلْأَخْذِ مِنْهُ، هَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ فَيَجِبُ لَفْظُ لِلْمُسْلِمِ لِيَتَعَلَّقَ بِالشِّرَاءِ فِي قَوْلِهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ لِلْمُسْلِمِ وَعَدَمِ الْكَرَاهَةِ، لَا كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ رحمه الله عَلَيْهِمْ وَرَحِمَنَا بِهِمْ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَأَى شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ فَقَالَ: مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا» ظَنَّا مِنْهُمْ أَنَّ الذُّلَّ بِالْتِزَامِ الْخَرَاجِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ قَعَدُوا عَنْ الْغَزْوِ فَكَّرَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ فَجَعَلُوهُمْ أَذِلَّةً لَا مَا ذَكَرُوهُ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الْتِزَامُ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَكَفَّلَ بِجِزْيَةِ ذِمِّيٍّ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ (قَوْلُهُ: وَلَا عُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ)

وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ (يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ) ذَاتًا، فَإِنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْخَرَاجُ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، وَمَحِلًّا فَإِنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ، وَالْخَرَاجُ فِي الذِّمَّةِ، وَسَبَبًا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ تَحْقِيقًا، وَسَبَبُ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةِ بِهِ تَقْدِيرًا وَمَصْرِفًا، فَمَصْرِفُ الْعُشْرِ الْفُقَرَاءُ، وَمَصْرِفُ الْخَرَاجِ الْمُقَاتِلَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَ سَبَبُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَيَجِبَانِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ مَعَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ») وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَنْبَسَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَجْتَمِعُ عَلَى مُسْلِمٍ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ»

ص: 41

وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً قَهْرًا، وَالْعُشْرُ فِي أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا، وَالْوَصْفَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، وَسَبَبُ الْحَقَّيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا، وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ،

وَيَحْيَى بْنُ عَنْبَسَةَ مُضَعَّفٌ إلَى غَايَةٍ حَتَّى نُسِبَ إلَى الْوَضْعِ، وَإِلَى الْكَذِبِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فَجَاءَ يَحْيَى وَصَلَهُ. نَعَمْ إنَّمَا رُوِيَ عَنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُغِيرَةِ خَتَنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ حَمْزَةَ السَّلُولِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: " لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضٍ ". وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُمَيْلَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ عَنْ أَبِي الْمُنِيبِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:" لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي مَالٍ ". وَحَاصِلُ هَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ إلَّا نَقْلَ مَذْهَبِ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَرْفَعُوهُ فَيَكُونُ حَدِيثًا مُرْسَلًا. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَذْهَبًا لِجَمَاعَةٍ آخَرِينَ فَهَذَا نَقْلُ الْمَذَاهِبِ لَا اسْتِدْلَالٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَى آخِرِهِ) فَقَدْ مَنَعَ بِنَقْلِ ابْنِ الْمُنْذِرِ الْجَمْعَ فِي الْأَخْذِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ يَتِمَّ، وَعَدَمُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ كَوْنُهُ لِتَفْوِيضِ الدَّفْعِ إلَى الْمَالِكِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ قَوْلُ صَحَابِيٍّ بِعَدَمِ الْجَمْعِ لِيَحْتَجَّ بِهِ مَنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى مَنْعِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُ مُقْتَفِيًا لِآثَارِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُتُبِهِ فِي جَوَابِ السَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ خُمُسِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ إذَا رَجَعْت إلَيْهِ يُفِيدُك ذَلِكَ، ثُمَّ الْمُصَنِّفُ مَنَعَ تُعَدَّدَ السَّبَبِ وَجَعَلَ السَّبَبَ فِيهَا مَعًا الْأَرْضَ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالسَّبَبِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ الْأَرْضُ هُنَا وَظِيفَتَانِ مَعَ أَنَّ الْعُمُومَاتِ تَقْتَضِيهِ مِثْلَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَا سَقَتْ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْخَذَ مَعَ الْخَرَاجِ إنْ كَانَ؛ وَلِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحُكْمِ وَاتِّحَادِهِ بِتَعَدُّدِ السَّبَبِ وَاتِّحَادِهِ، وَسَبَبُ كُلٍّ مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ. (إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ النَّمَاءُ فِي الْعُشْرِ تَحْقِيقًا)؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ إضَافِيٌّ فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خَارِجٌ لَا يَتَحَقَّقُ عُشْرُهُ (وَفِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا، وَلِهَذَا يُضَافَانِ إلَيْهَا) فَيُقَالُ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ، وَكَوْنُ الْأَرْضِ مَعَ النَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ غَيْرَ الْأَرْضِ مَعَ التَّحْقِيقِيِّ مُخَالَفَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، فَالْأَرْضُ النَّامِيَةُ هِيَ السَّبَبُ، وَإِذَا اتَّحَدَ السَّبَبُ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَصَارَ كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ وَالسَّائِمَةِ، فَإِنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ وَهُوَ الْغُنْمُ مَثَلًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ: الْغُنْمُ مَعَ السَّوْمِ غَيْرُهَا مَعَ قَصْدِ التِّجَارَةِ فَيَجِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا، وَالْعُشْرُ فِي الْأَرْضِ إذَا أَسْلَمَ أَهْلُهَا) عَلَيْهَا، وَلَازِمُ الْأَوَّلِ الْكُرْهُ وَلَازِمُ الثَّانِي الطَّوْعُ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ يَكُونُ مَعَ الْفَتْحِ عَنْوَةً، وَهُوَ مَا إذَا أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَكَذَا بَعْضُ صُوَرِ الْعُشْرِ وَهُوَ مَا إذَا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْخَرَاجِ لَا يَكُونُ مَعَ الْعَنْوَةِ وَالْقَهْرِ بَلْ لِلصُّلْحِ، أَوْ بِأَنْ أَحْيَاهَا وَسَقَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ، أَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ عَلَى الْخِلَافِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الرَّاشِدِينَ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم لَمْ يَأْخُذُوا عُشْرًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، وَإِلَّا لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ تَفَاصِيلُ أَخْذِهِمْ الْخَرَاجَ بِهَذَا تَقْضِي الْعَادَةُ، وَكَوْنُهُمْ فَوَّضُوا الدَّفْعَ إلَى الْمُلَّاكِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، أَرَأَيْت إذَا كَانَ الْعُشْرُ وَظِيفَةً فِي الْأَرْضِ الَّتِي وُظِّفَ فِيهَا الْخَرَاجُ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ هَلْ يَقْرَبُ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَخْذَ وَظِيفَةٍ وَيَكِلُوا الْأُخْرَى إلَيْهِمْ لَيْسَ لِهَذَا مَعْنًى، وَكَيْفَ وَهُمْ كُفَّارٌ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَى أَدَائِهِ مِنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا كَانَ الظَّنُّ عَدَمَ أَخْذِ الثَّلَاثَةِ صَحَّ دَلِيلًا بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَيَكُونُ إجْمَاعًا.

ص: 42

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزَّكَاةُ مَعَ أَحَدِهِمَا.

(وَلَا يَتَكَرَّرُ الْخَرَاجُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ فِي سَنَةٍ)؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يُوَظِّفْهُ مُكَرَّرًا، بِخِلَافِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ عُشْرًا إلَّا بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ خَارِجٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ)(الْجِزْيَةِ)

وَذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: لَا يَجْتَمِعُ الْأَجْرُ وَالضَّمَانُ عِنْدَنَا وَالْعُقْرُ وَالْحَدُّ وَالْجَلْدُ وَالنَّفْيُ، وَكَذَا الرَّجْمُ مَعَ الْجَلْدِ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ مَعَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَالشَّافِعِيُّ يُوَافِقُ فِي الْجَلْدِ مَعَ الرَّجْمِ وَمَا سِوَاهُ يَجْمَعُ.

(وَكَذَا الزَّكَاةُ مَعَ أَحَدِهِمَا) أَيْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَصُورَتُهُ إذَا اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ بِقَصْدِ التِّجَارَةِ عَلَيْهِ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْكَسْ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ أَلْزَمُ لِلْأَرْضِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا

(قَوْلُهُ: وَلَا يَتَكَرَّرُ الْخَرَاجُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ فِي سَنَةٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يُوَظِّفْهُ مُكَرَّرًا) فِي سَنَةٍ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَقَدْ يُوَازِي بِهَا تَعَلُّقَ الْخَرَاجِ بِالتَّمَكُّنِ فَيَسْتَوِيَانِ، فَالْخَرَاجُ لَهُ شِدَّةٌ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُهُ بِالتَّمَكُّنِ، وَلَهُ خِفَّةٌ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَكَرُّرِهِ فِي السَّنَةِ وَلَوْ زَرَعَ فِيهَا مِرَارًا، وَالْعُشْرُ لَهُ شِدَّةٌ وَهُوَ تَكَرُّرُهُ بِتَكَرُّرِ خُرُوجِ الْخَارِجِ وَخِفَّةٌ بِتَعَلُّقِهِ بِعَيْنِ الْخَارِجِ، فَإِذَا عَطَّلَهَا لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ، فَإِنْ أَثْبَتَتْ الْخِفَّةُ لِلْعُشْرِ مُطْلَقًا بِاعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ وَهُوَ عَدَمُ تَكَرُّرِ الزَّرْعِ فِي الْعَامِ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْغَالِبِ أَنْ تُعَطَّلَ الْأَرْضُ مِنْ الزِّرَاعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَالْأَرَاضِيِ الْمَوْقُوفَةِ؛ لِأَنَّ وَقْفَهَا إخْرَاجٌ مِنْ مُسْتَحِقٍّ إلَى مُسْتَحِقٍّ، وَبِذَلِكَ لَا يَبْطُلُ الْخَرَاجُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطَالَبَ بِذَلِكَ النَّاظِرُ.

(بَابُ الْجِزْيَةِ). هَذَا هُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْخَرَاجِ، وَقُدِّمَ الْأَوَّلُ لِقُوَّتِهِ، إذْ يَجِبُ أَسْلَمُوا أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ

ص: 43

(وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ)(: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ فَتَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ) كَمَا «صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ» ، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ التَّرَاضِي فَلَا يَجُوزُ التَّعَدِّي إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ

لَا يُلْزَمُونَ بِهَا إلَّا إذَا لَمْ يُسْلِمُوا؛ وَلِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُطْلِقَ الْخَرَاجُ فَإِنَّمَا يَتَبَادَرُ خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِزْيَةِ إلَّا مُقَيَّدًا فَيُقَالُ خَرَاجُ الرَّأْسِ، وَعَلَامَةُ الْمَجَازِ لُزُومُ التَّقْيِيدِ، وَتُجْمَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى جِزَى كَلِحْيَةٍ وَلِحَى وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْجَزَاءُ، وَإِنَّمَا بُنِيَتْ عَلَى فِعْلَةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْهَيْئَةِ وَهِيَ هَيْئَةُ الْإِذْلَالِ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ عَلَى مَا سَيُعْرَفُ (وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ) عَلَيْهَا (فَتَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ) فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ، وَأَصْلُهُ «صُلْحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ وَهُمْ قَوْمٌ نَصَارَى بِقُرْبِ الْيَمَنِ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ فِي الْعَامِ» عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالنِّصْفُ فِي رَجَبٍ» انْتَهَى. وَصَالَحَ عُمَرُ رضي الله عنه نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمَالِ الْوَاجِبِ، فَلَزِمَ ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي الزَّكَاةِ.

هَذَا، وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ بَعْدَ أَنْ قَالَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ أُوقِيَّةٌ: يَعْنِي قِيمَتَهَا أُوقِيَّةٌ، وَقَوْلُ الْوَلْوَالِجِيِّ: كُلُّ حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْأُوقِيَّةَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَالْحُلَّةُ ثَوْبَانِ إزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الْحُلَلُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَلْفَا حُلَّةٍ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَعَلَى جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ تُقَسَّمُ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا، وَعَلَى كُلِّ أَرْضٍ مِنْ أَرَاضِي نَجْرَانَ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ بَاعَ أَرْضَهُ أَوْ بَعْضَهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ تَغْلِبِيٍّ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي أَرَاضِيِهِمْ، وَأَمَّا جِزْيَةُ رُءُوسِهِمْ فَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ اهـ.

يَعْنِي أَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ يُؤْخَذُ سَوَاءٌ بَاعَ بَعْضُهُمْ أَرْضَهُ أَوْ لَمْ يَبِعْ، ثُمَّ إذَا بَاعَ أَرْضَهُ يُؤْخَذُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ عَلَى حَالِهِ، وَيُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْمُسْلِمِ وَعُشْرَانِ مِنْ التَّغْلِبِيِّ الْمُشْتَرِي. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ بَنِي نَجْرَانَ، فَإِنَّ نَجْرَانَ اسْمُ أَرْضٍ مِنْ حَيِّزِ الْيَمَنِ لَا اسْمُ أَبِي قَبِيلَةٍ، فَلِذَا كَانَ الثَّابِتُ

ص: 44

(وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا إذَا غَلَبَ الْإِمَامُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ الظَّاهِرِ الْغِنَى فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. وَعَلَى وَسَطِ الْحَالِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمًا)

وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضَعُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ مَا يَعْدِلُ الدِّينَارَ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِمُعَاذٍ خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا

فِي الْحَدِيثِ أَهْلُ نَجْرَانَ (وَ) الضَّرْبُ الثَّانِي (جِزْيَةٌ يَبْتَدِئ الْإِمَامُ بِتَوْظِيفِهَا إذَا غَلَبَ عَلَى الْكُفَّارِ) فَفَتَحَ بِلَادَهُمْ (وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ) فَهَذِهِ مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ شَاءُوا أَوْ أَبَوْا اسْتَرَقَّ أَوْ لَمْ يَرْضَوْا (فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا) بِوَزْنِ سَبْعَةٍ (يَأْخُذُ مِنْ أَحَدِهِمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى أَوْسَطِ الْحَالِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمًا) وَاحِدًا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضَعُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ) أَيْ بَالِغٍ (دِينَارًا) أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِهِمْ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا. وَالدِّينَارُ فِي الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ بِعَشَرَةٍ إلَّا فِي الْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ يُقَابَلُ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَضَى بِذَلِكَ.

وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِهِمْ لَا يُعْتَبَرُ الدِّينَارُ إلَّا بِالسِّعْرِ وَالْقِيمَةِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَاكِسَهُمْ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ وَمِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يُؤْخَذُ مِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَمِنْ الْفَقِيرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: هِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، بَلْ تُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ «؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ مُعَاذًا بِأَخْذِ الدِّينَارِ، وَصَالَحَ هُوَ عليه الصلاة والسلام نَصَارَى نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ» وَعُمَرُ جَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ كَمَا هُوَ قَوْلُنَا، وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ضِعْفِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِيهَا بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ نَقَصَ عَنْ الدِّينَارِ جَازَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ: إحْدَاهُمَا كَقَوْلِنَا، وَالْأُخْرَى كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

وَجْهُ قَوْلِهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ «عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَيَّ الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا قَالَ: وَهُوَ أَصَحُّ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ فَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْحَالِمَةِ. وَفِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ» . وَكَانَ مَعْمَرٌ يَقُولُ: هَذَا غَلَطٌ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ شَيْءٌ وَفِيهِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا ذِكْرُ

ص: 45

أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ كَالذَّرَارِيِّ وَالنِّسْوَانِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْتَظِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ. وَمَذْهَبُنَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ فَتَجِبُ عَلَى التَّفَاوُتِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الْأَرْضِ،

الْحَالِمَةِ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا نَرَى مَنْسُوخٌ، إذْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَوِلْدَانُهُمْ يُقْتَلُونَ مَعَ رِجَالِهِمْ، وَيُسْتَضَاءُ لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ «أَنَّ خَيْلًا أَصَابَتْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ» . ثُمَّ أَسْنَدَ أَبُو عُبَيْدٍ «عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ أَنَقْتُلُهُمْ مَعَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ يَوْمَ خَيْبَرَ» . وَالْعَدْلُ بِالْفَتْحِ الْمِثْلُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ وَبِالْكَسْرِ الْمِثْلُ مِنْ الْجِنْسِ. وَالْمَعَافِرِيُّ ثَوْبٌ مَنْسُوبٌ إلَى مَعَافِرَ بَنِي مُرَّةً ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلثَّوْبِ بِلَا نِسْبَةٍ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ. وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: مَعَافِرُ حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ تُنْسَبُ إلَيْهِ هَذِهِ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ. وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ. وَفِي الْجَمْهَرَةِ لِابْنِ دُرَيْدٍ: الْمَعَافِرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ تُنْسَبُ إلَيْهِ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ. وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلْقُتَبِيِّ: الْبُرْدُ الْمَعَافِرِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى مَعَافِرَ مِنْ الْيَمَنِ. وَفِي الْجَمْهَرَةِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَوْبُ مَعَافِرَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، فَمَنْ نَسَبَ فَهُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ (وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى مَنْ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ كَالذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْتَظِمُ) فِيهِ (الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ)؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُقْتَلُ (قَوْلُهُ: وَمَذْهَبُنَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ) ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَجَّهَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ إلَى السَّوَادِ، فَمَسَحَا أَرْضَهَا وَوَضَعَا عَلَيْهَا الْخَرَاجَ، وَجَعَلَا النَّاسَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ عَلَى مَا قُلْنَا، فَلَمَّا رَجَعَا أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ عَمِلَ عُثْمَانُ كَذَلِكَ ثُمَّ عَمِلَ عَلِيٌّ كَذَلِكَ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَعَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا مَنْدَلٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ عُمَرَ وَضَعَ إلَى آخِرِهِ. وَطَرِيقٌ آخَرُ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ إلَى أَبِي نَضْرَةَ أَنَّ عُمَرَ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا فَتَحَ مِنْ الْبِلَادِ، فَوَضَعَ عَلَى الْغَنِيِّ إلَى آخِرِهِ. وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَسْنَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ إلَى حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَوَضَعَ عَلَيْهِمْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَاثْنَيْ عَشَرَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ بِلَا نَكِيرٍ، فَحَلَّ مَحِلَّ الْإِجْمَاعِ. ثُمَّ عَارَضَ الْمُصَنِّفُ مَعْنَاهُ بِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْجِزْيَةَ (وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ) أَيْ خَلْفًا عَنْ نُصْرَةِ مُقَاتِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى نُصْرَتِهِمْ وَقَدْ فَاتَتْ بِمَيْلِهِمْ إلَى أَهْلِ الدَّارِ الْمُعَادِينَ لَنَا لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَلِهَذَا صُرِفَتْ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَوُضِعَتْ عَلَى الصَّالِحِينَ لِلْقِتَالِ الَّذِينَ يَلْزَمُهُمْ الْقِتَالُ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِمْ لِأَنَّ نُصْرَةَ الْغَنِيِّ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَوْقَ نُصْرَةِ الْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْصُرُ رَاكِبًا وَيَرْكَبُ مَعَهُ غُلَامُهُ، وَالْمُتَوَسِّطُ رَاكِبًا فَقَطْ، وَالْفَقِيرُ رَاجِلًا؛ وَهَذَا مَعْنَى

ص: 46

وَهَذَا لِأَنَّهُ وَجَبَ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ الْوَفْرِ وَقِلَّتِهِ، فَكَذَا أُجْرَتُهُ هُوَ بَدَلُهُ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ صُلْحًا، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ مِنْ الْحَالِمَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ.

قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (وَذَلِكَ) أَيْ النُّصْرَةُ (يَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ الْوَفْرِ وَقِلَّتِهِ فَكَذَا مَا هُوَ بَدَلُهُ) يَعْنِي الْجِزْيَةَ، وَإِلْحَاقًا بِخَرَاجِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَى التَّفَاوُتِ.

فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَتْ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ لَزِمَ أَنْ لَا تُؤْخَذَ مِنْهُمْ لَوْ قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ سَنَةً مُتَبَرِّعِينَ أَوْ بِطَلَبِ الْإِمَامِ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَعَ ذَلِكَ. أُجِيبُ بِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ نُصْرَتَهُمْ بِالْمَالِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النُّصْرَةَ الَّتِي فَاتَتْ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَنُصْرَةُ الْإِسْلَامِ فَاتَتْ بِالْكُفْرِ فَأُبْدِلَتْ بِالْمَالِ، وَلَيْسَ نُصْرَتُهُمْ فِي حَالِ كُفْرِهِمْ تِلْكَ النُّصْرَةَ الْفَائِتَةَ فَلَا يَبْطُلُ خَلَفُهَا. نَعَمْ سَيَجِيءُ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْجِزْيَةَ خَلَفٌ عَنْ قَتْلِهِمْ، وَالْوَجْهُ أَنَّهَا خَلَفٌ عَنْ قَتْلِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ جَمِيعًا.

قَالَ: (وَمَا رَوَاهُ) مِنْ وَضْعِ الدِّينَارِ عَلَى الْكُلِّ (مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صُلْحًا) فَإِنَّ الْيَمَنَ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً بَلْ صُلْحًا فَوَقَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَقُلْنَا: وَلِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ كَانُوا أَهْلَ فَاقَةٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ فَفَرَضَ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْت لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ. هَذَا، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ؛ فَقِيلَ إنْ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَهُوَ مُوسِرٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَانِ فَصَاعِدًا مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْعَشَرَةِ فَمُتَوَسِّطٌ، وَمَنْ كَانَ مُعْتَمِلًا فَهُوَ مُكْتَسِبٌ. وَعَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ: مَنْ كَانَ يَمْلِكُ قُوتَهُ وَقُوتَ عِيَالِهِ وَزِيَادَةً فَمُوسِرٌ، وَإِنْ مَلَكَ بِلَا فَضْلٍ فَهُوَ الْوَسَطُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ فَهُوَ الْمُعْتَمِلُ: أَيْ الْمُكْتَسِبُ. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: يُنْظَرُ إلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي ذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ خَمْسِينَ أَلْفًا بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ وَفِي الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ لَا يُعَدُّ مُكْثِرًا. وَذَكَرَهُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي آخِرِ السَّنَةِ وَالْمُعْتَمِلِ الْمُكْتَسِبُ، وَالِاعْتِمَالُ الِاضْطِرَابُ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ الِاكْتِسَابُ؛ وَقُيِّدَ بِالِاعْتِمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَرِيضًا فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَصَاعِدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَمَّا لَوْ لَمْ يَعْمَلْ وَهُوَ قَادِرٌ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ

ص: 47

قَالَ: (وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الْآيَةَ، «وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ». قَالَ:(وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ) وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ: إنَّ الْقِتَالَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ} إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَ تَرْكِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَفِي حَقِّ الْمَجُوسِ بِالْخَبَرِ فَبَقِيَ مَنْ وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ وَيُؤَدِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ،

كَمَنْ عَطَّلَ الْأَرْضَ.

(قَوْلُهُ وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ) الْيَهُودِ. وَيَدْخُلُ فِيهِمْ السَّامِرَةُ فَإِنَّهُمْ يَدِينُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُمْ فِي فُرُوعٍ. وَالنَّصَارَى وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْفِرِنْجُ وَالْأَرْمَنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَعَلَى الْخِلَافِ مَنْ قَالَ هُمْ مِنْ النَّصَارَى أَوْ قَالَ هُمْ مِنْ الْيَهُودِ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ قَالَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ فَلَيْسُوا مِنْ الْكِتَابِيِّينَ بَلْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَتُؤْخَذُ: أَيْ الْجِزْيَةُ مِنْ الصَّابِئَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَأُطْلِقَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَشَمَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ.

وَأَمَّا الْمَجُوسُ عَبَدَةُ النَّارِ فَفِي الْبُخَارِيِّ: «وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ رضي الله عنه أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَوَضَعَ عليه الصلاة والسلام الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ) وَهَجَرُ بَلْدَةٌ فِي الْبَحْرَيْنِ (قَوْلُهُ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ) بِالْجَرِّ: أَيْ وَتُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ (وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ الْقِتَالُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ} إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَ تَرْكِهِ) إلَى الْجِزْيَةِ (فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ) أَعْنِي مَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (وَفِي الْمَجُوسِ بِالْخَبَرِ) الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (فَبَقِيَ مَنْ وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ) بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْجِزْيَةِ (يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ) أَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ تَصِيرُ مَنْفَعَةُ نَفْسِهِ لَنَا، وَكَذَا الْجِزْيَةُ (فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ وَيُؤَدِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ) وَالْحَالُ أَنَّ (نَفَقَتَهُ فِي كَسْبِهِ) فَقَدْ أَدَّى حَاجَةَ نَفْسِهِ إلَيْنَا أَوْ بَعْضَهَا، فَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ تَخْصِيصَ عُمُومِ وُجُوبِ الْقِتَالِ الَّذِي

ص: 48

(وَإِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ)؛ لِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ (وَلَا تُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا الْمُرْتَدِّينَ) لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلَّظَ، أَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ.

وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ؛ فَلِأَنَّهُ كَفَرَ بِرَبِّهِ بَعْدَمَا هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَوَقَفَ عَلَى مَحَاسِنِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يُسْتَرَقُّ مُشْرِكُو الْعَرَبِ،

اُسْتُدِلَّ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَجُوس عِنْدَ قَبُولِهِمْ الْجِزْيَةَ كَمَا ذَكَرَ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى.

وَإِنَّمَا لَمْ تُضْرَبْ الْجِزْيَةُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مَعَ جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا أَتْبَاعًا لِأُصُولِهِمْ فِي الْكُفْرِ فَكَانُوا أَتْبَاعًا فِي حُكْمِهِمْ، فَكَأَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الرَّجُلِ وَأَتْبَاعِهِ فِي الْمَعْنَى إنْ كَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ، وَإِلَّا فَهِيَ عَنْهُ خَاصَّةً (قَوْلُهُ: وَإِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ وَضْعِ الْجِزْيَةِ (فَهُمْ فَيْءٌ) وَلِلْإِمَامِ الْخِيَارُ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ. (قَوْلُهُ: وَلَا تُوضَعُ) الْجِزْيَةُ (عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا الْمُرْتَدِّينَ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمَا) يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ (قَدْ تَغَلَّظَ) فَلَمْ يَكُونُوا فِي مَعْنَى الْعَجَمِ (أَمَّا الْعَرَبُ فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ) فَكَانَ كُفْرُهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ الْعَجَمِ (وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَلِأَنَّ كُفْرَهُمْ بَعْدَمَا هُدُوا لِلْإِسْلَامِ وَوَقَفُوا عَلَى مَحَاسِنِهِ) فَكَانَ كَذَلِكَ (فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ) لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْتَرَقُّ مُشْرِكُو الْعَرَبِ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ إتْلَافٌ حُكْمًا فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ إتْلَافُ نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أَيْ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا.

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: «لَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ» وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ " أَوْ الْقَتْلُ "

ص: 49

وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا (وَإِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ) لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه اسْتَرَقَّ نِسْوَانَ بَنِي حَنِيفَةَ وَصِبْيَانِهِمْ لَمَّا ارْتَدُّوا وَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ (وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ رِجَالِهِمْ قُتِلَ) لِمَا ذَكَرْنَا.

(وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ) لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ أَوْ عَنْ الْقِتَالِ وَهُمَا لَا يُقْتَلَانِ وَلَا يُقَاتِلَانِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ. قَالَ (وَلَا زَمِنٍ وَلَا أَعْمَى) وَكَذَا الْمَفْلُوجُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ

مَكَانَ أَوْ السَّيْفُ. وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا رِقَّ عَلَى عَرَبِيٍّ» وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ رِقٌّ لَكَانَ الْيَوْمَ» قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا) يَعْنِي مِنْ أَنَّ كُفْرَهُ أَغْلَظُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْأَخَفِّ مِنْهُ (قَوْلُهُ: وَإِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ (فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ) يُسْتَرَقُّونَ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَرَقَ ذَرَارِيَّ أَوْطَاسٍ وَهَوَازِنَ» وَأَبُو بَكْرٍ اسْتَرَقَّ بَنِي حَنِيفَةَ. أَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ لَهُ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: ثُمَّ إنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ وَنِصْفَ السَّبْيِ، ثُمَّ دَخَلَ حُصُونَهُمْ صُلْحًا فَأَخْرَجَ السِّلَاحَ وَالْكُرَاعَ وَالْأَمْوَالَ وَالسَّبْيَ، ثُمَّ قَسَّمَ السَّبْيَ قِسْمَيْنِ، وَأَقْرَعَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ فَخَرَجَ سَهْمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَفِيهِ مَكْتُوبٌ لِلَّهِ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَدْ رَأَيْت أُمَّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْحَنَفِيَّةَ وَيُسَمَّى ابْنُهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ، وَحَنِيفَةُ أَبُو حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ جَذِيمَةَ ضَرَبَهُ حِينَ الْتَقَيَا فَحَنَفَ رِجْلَهُ وَضَرَبَ حَنِيفَةُ يَدَهُ فَجَذَمَهَا فَسُمِّيَ جَذِيمَةَ وَحَنِيفَةُ بْنُ نَجِيحَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ ذَرَارِيَّ الْمُرْتَدِّينَ وَنِسَاءَهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ بِخِلَافِ ذَرَارِيِّ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَا يُجْبَرُونَ. وَأَمَّا الزَّنَادِقَةُ قَالُوا: لَوْ جَاءَ زِنْدِيقٌ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ وَتَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، فَإِنْ أُخِذَ ثُمَّ تَابَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَيُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُمْ بَاطِنِيَّةٌ يَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاطِنِ خِلَافَ ذَلِكَ فَيُقْتَلُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ.

(قَوْلُهُ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ) وَكَذَا عَلَى مَجْنُونٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنْ قَتْلِهِمْ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ عَنْ قِتَالِهِمْ نُصْرَةً لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْلِنَا، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَذَلِكَ (وَلَا عَلَى أَعْمَى أَوْ زَمِنٍ وَلَا الْمَفْلُوجِ) وَعَنْ الشَّافِعِيِّ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ لِاعْتِبَارِهَا أُجْرَةَ الدَّارِ (وَلَا) تُؤْخَذُ (مِنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ)

ص: 50

لِمَا بَيَّنَّا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ (وَلَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. لَهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه. وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه لَمْ يُوَظِّفْهَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَا يُوَظَّفُ عَلَى أَرْضٍ لَا طَاقَةَ لَهَا فَكَذَا هَذَا الْخَرْجُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعْتَمِلِ (وَلَا تُوضَعُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ) لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَجِبُ فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ (وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ)

الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى قِتَالٍ وَلَا كَسْبٍ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ) فِي الْحَرْبِ.

وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَلَا يُقَاتَلُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (لِمَا بَيَّنَّا) وَالْجِزْيَةُ بَدَلٌ عَنْهُمَا وَيُقَالُ زَمِنَ الرَّجُلُ كَعَلِمَ يَزْمَنُ زَمَانَةً (قَوْلُهُ: وَلَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ) أَيْ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ أَحْسَنَ حِرْفَةً، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فِي ذِمَّتِهِ. (لَهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه) وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ» (وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يُوَظِّفْ الْجِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ) أَرَادَ بِعُثْمَانَ هَذَا عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ حِينَ بَعَثَهُ عُمَرُ رضي الله عنه.

وَرَوَى ابْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْعَبْسِيُّ صِلَةُ بْنِ زُفَرَ قَالَ: أَبْصَرَ عُمَرُ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ مَا لَك؟ قَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ، وَإِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَنْصَفْنَاك، أَكَلْنَا شَبِيبَتَك ثُمَّ نَأْخُذُ مِنْك الْجِزْيَةَ ثُمَّ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الْجِزْيَةَ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ (وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ كَمَا لَا يُوَظَّفُ عَلَى أَرْضٍ لَا طَاقَةَ لَهَا فَكَذَا خَرَاجُ الرَّأْسِ) بِجَامِعِ عَدَمِ الطَّاقَةِ؛ لِحِكْمَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ الدُّنْيَوِيِّ (وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعْتَمِلِ) بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَبِتَوْظِيفِ عُمَرَ الْمُقْتَرِنِ بِالْإِجْمَاعِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.

فَإِنْ قُلْت: مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَوْظِيفِ عُمَرَ لَيْسَ فِيهِ الْمُعْتَمِلُ. قُلْنَا: قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ. لَا يُقَالُ: فَنَفْيُهُ عَنْ غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ بِالْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ وَلَا يَقُولُونَ بِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ بَلْ جَازَ أَنْ يُضَافَ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ التَّوْظِيفِ عَلَى مَنْ لَمْ يُذْكَرْ، ثُمَّ إنَّمَا تَوَظَّفَ عَلَى الْمُعْتَمِلِ إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ، وَإِلَّا فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ مَرَضٍ فَلَا يُجْعَلُ الْقَلِيلُ مِنْهُ عُذْرًا وَهُوَ مَا نَقَصَ عَنْ نِصْفِ الْعَامِ.

(قَوْلُهُ: وَلَا تُوضَعُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا) وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَجِبُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ الْحَرْبِيَّ يُقْتَلُ (وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَجِبُ)؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ عَاجِزٌ عَنْ النُّصْرَةِ فَامْتَنَعَ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ فَامْتَنَعَ الْخَلَفُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ انْتِفَاءُ الْأَصْلِ، وَإِمْكَانُهُ فَدَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ (فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ) وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ الْقِتَالِ فِي حَقِّنَا جَمِيعًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَا، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُوجِبُ لِانْتِفَاءِ الْكُلِّ بِنَفْيِ الْجُزْءِ، وَهَذَا لِمَا نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَإِذَا كَانَ خَلَفًا عَنْ الْمَجْمُوعِ فَلَا يَحْسُنُ قَوْلُهُ: فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ بَلْ لَا تَجِبُ بِلَا شَكٍّ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ ذَكَرَ أُمَّ الْوَلَدِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ وَلَعَلَّهُ ابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ فَسَقَطَتْ لَفْظَةُ ابْنٍ. (قَوْلُهُ: وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ) يَعْنِي لَمَّا قُلْنَا لَا تُوضَعُ عَلَيْهِمْ جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ مَوَالِيهِمْ فَيُؤَدُّونَ

ص: 51

لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ بِسَبَبِهِمْ (وَلَا تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ) كَذَا ذَكَرَ هَاهُنَا. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ إنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ، وَهُوَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَجْهُ الْوَضْعِ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَهَا فَصَارَ كَتَعْطِيلِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ.

وَوَجْهُ الْوَضْعِ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ، وَالْجِزْيَةُ فِي حَقِّهِمْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَمِلُ صَحِيحًا وَيَكْتَفِي بِصِحَّتِهِ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ.

(وَمَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ سَقَطَتْ عَنْهُ) وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ كَافِرًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا. لَهُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ عَنْ السُّكْنَى وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ

عَنْهُمْ، فَأَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِقَوْلِهِ وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ (لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ) فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى لَزِمَهُمْ جِزْيَةُ الْأَغْنِيَاءِ (بِسَبَبِهِمْ) فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْهُمْ شَيْءٌ آخَرُ وَإِلَّا كَانُوا مُلْزَمِينَ بِجِزْيَتَيْنِ، وَيُقَرَّرُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُمْ أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ بِسَبَبِهِمْ فَكَانَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ مَعْنًى شَرْعًا فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ غِنَى الْمُلَّاكِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَالٌ وَيَجُرُّونَ الْمَالَ بِالْكَسْبِ. (قَوْلُهُ: وَلَا تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ) جَمْعُ رَاهِبٍ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ رُهْبَانٌ أَيْضًا، وَشُرِطَ أَنْ لَا يُخَالِطَ النَّاسَ، وَمَنْ خَالَطَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ.

(هَكَذَا ذَكَرَ) الْقُدُورِيُّ (وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تُوضَعُ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَوَجْهُ الْوَضْعِ أَنَّهُ الَّذِي ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ فَصَارَ كَتَعْطِيلِ أَرْضِ الْخَرَاجِ) مِنْ الزِّرَاعَةِ. (وَوَجْهُ وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ وَالْجِزْيَةُ فِي حَقِّهِمْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا أَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا عِنْدَنَا بَدَلٌ عَنْ نُصْرَتِهِمْ الَّتِي فَاتَتْ بِالْكُفْرِ وَعِنْدَهُ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ، فَأَفَادَ صِحَّةَ هَذَا الِاعْتِبَارِ عِنْدَنَا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ فَقَطْ بَلْ الْمَجْمُوعُ مِنْهُ وَمِنْ كَوْنِهِ خَلَفًا عَنْ نُصْرَتِهِمْ إيَّانَا فَمَتَى تَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا انْتَفَى وُجُوبُهَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا جِزْيَةَ عَلَى السَّيَّاحِينَ. قِيلَ يَجُوزُ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ مِنْهُمْ فَيَكُونُ اتِّفَاقًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ هُوَ مَنْ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَمَنْ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ لَا يُقْتَلُ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ) بِأَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كَمَالِ السَّنَةِ (سَقَطَتْ عَنْهُ، وَكَذَا إذَا مَاتَ كَافِرًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا) وَكَذَا لَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ أَوْ أَسْلَمَ. وَفِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ فِيهِمَا أَيْضًا قِسْطُ مَا مَضَى، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ عَمِيَ أَوْ زَمِنَ أَوْ أُقْعِدَ أَوْ صَارَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ الْعَمَلَ أَوْ افْتَقَرَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ (لَهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ) الَّتِي ثَبَتَتْ لِلذِّمِّيِّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ (أَوْ) بَدَلًا (عَنْ السُّكْنَى) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ قَوْلٌ آخَرُ لَهُ. (وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ) وَهُوَ حَقْنُ دَمِهِ وَسُكْنَاهُ إلَى

ص: 52

فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ بِهَذَا الْعَارِضِ كَمَا فِي الْأُجْرَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ.»

الْمَوْتِ أَوْ الْإِسْلَامِ وَصَارَ بِذَلِكَ مُسْتَوْفِيًا الْمُبْدَلَ فَتَقَرَّرَ الْبَدَلُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.

(فَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا الْعَارِضِ) الَّذِي هُوَ مَوْتُهُ أَوْ إسْلَامُهُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ مِنْ الْأُجْرَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فِيمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَ عَلَى مَالٍ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ. (وَلَنَا مَا) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ») قَالَ أَبُو دَاوُد: وَسُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ هَذَا فَقَالَ: يَعْنِي إذَا أَسْلَمَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَسْلَمَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ» وَضَعَّفَ ابْنُ الْقَطَّانِ قَابُوسًا، وَلَيْسَ قَابُوسٌ فِي مُسْنَدِ الطَّبَرَانِيِّ، فَهَذَا بِعُمُومِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ مَا كَانَ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ قَبْلَ إسْلَامِهِ، بَلْ هُوَ الْمُرَادُ بِخُصُوصِهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْفَائِدَةِ، إذْ عَدَمُ الْجِزْيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدَّيْنِ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْفَائِدَةِ لَيْسَ كَالْإِخْبَارِ بِسُقُوطِهَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ.

وَهَذَا يَخُصُّ السُّقُوطَ بِالْإِسْلَامِ، وَالْوَجْهُ يَعُمُّ مَوْتَهُ وَإِسْلَامَهُ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يَرِدُ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ لَا يَرْتَفِعُ الِاسْتِرْقَاقُ بِالْإِسْلَامِ، وَكَذَا خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَتَرْتَفِعُ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ،

ص: 53

وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ وَلِهَذَا تُسَمَّى جِزْيَةً وَهِيَ وَالْجَزَاءُ وَاحِدٌ، وَعُقُوبَةُ الْكُفْرِ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَلَا تُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ شَرْعَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا لَا يَكُونُ إلَّا لِدَفْعِ الشَّرِّ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَالْعِصْمَةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا وَالذِّمِّيُّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا

فَإِنْ عُقِلَتْ حِكْمَةٌ فَذَاكَ وَإِلَّا وَجَبَ الِاتِّبَاعُ. عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ خَرَاجِ الْأَرْضِ وَالْجِزْيَةِ وَاضِحٌ إذْ لَا إذْلَالَ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ كَيْ تَبْقَى فِي أَيْدِينَا، وَالْمُسْلِمُ مِمَّنْ يَسْعَى فِي بَقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهَا ذُلٌّ ظَاهِرٌ وَشَنَارٌ. وَأَمَّا الِاسْتِرْقَاقُ؛ فَلِأَنَّ إسْلَامَهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ مِلْكِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْمُسْتَحِقِّ الْمُعَيَّنِ. بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا مِلْكُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ اسْتِحْقَاقٌ لِلْعُمُومِ، وَالْحَقُّ الْخَاصُّ فَضْلًا عَنْ الْعَامِّ لَيْسَ كَالْمِلْكِ الْخَاصِّ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهَا)، أَيْ الْجِزْيَةَ إنَّمَا (وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ جِزْيَةً وَهِيَ وَالْجَزَاءُ وَاحِدٌ) وَهُوَ يُقَالُ عَلَى الثَّوَابِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ وَالْعُقُوبَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا شَكَّ فِي انْتِفَاءِ الْأَوَّلِ، وَلِذَا أُخِذَتْ بِطَرِيقِ الْإِذْلَالِ بَلْ هَذَا ضَرُورِيٌّ مِنْ الدِّينِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا عُقُوبَةٌ عَلَى مَعْصِيَةِ الْكُفْرِ دُنْيَوِيَّةٌ لَا بَدَلُ مُعَاوَضَةٍ كَمَا ظَنَّهُ.

(فَتَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَلَا تُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ) وَلِهَذَا لَا يُضْرَبُ مَنْ سَبَقَ مَوْتُهُ إقَامَةَ حَدٍّ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِدَفْعِ شَرِّهِ فِي الدُّنْيَا بِحَسَبِ مَا يَكُونُ ذَلِكَ الشَّرُّ، وَالشَّرُّ الَّذِي يُتَوَقَّعُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ الْحِرَابَةُ وَالْفِتْنَةُ عَنْ الدِّينِ الْحَقِّ (وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ) وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا بَدَلًا: أَيْ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ لَنَا فَكَانَتْ عُقُوبَةً دُنْيَوِيَّةً عَلَى كُفْرِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِحِرَابَتِهِ دَفْعًا لَهَا بِإِضْعَافِهِ بِأَخْذِهَا مِنْهُ وَبَدَلًا عَنْ نُصْرَتِهِ الْفَائِتَةِ بِكُفْرِهِ، وَإِذَا كَانَتْ خَلَفًا أَيْضًا عَنْ النُّصْرَةِ انْتَفَتْ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلَفِ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهَا بِالْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا بَدَلٌ عَنْ

ص: 54

مَعْنَى لِإِيجَابِ بَدَلِ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى.

(وَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى لَمْ يُؤْخَذْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُؤْخَذُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله (وَإِنْ مَاتَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ) أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَوْتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا. وَقِيلَ خَرَاجُ الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَقِيلَ لَا تَدَاخُلَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ. لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْخَرَاجَ وَجَبَ عِوَضًا، وَالْأَعْوَاضُ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا تُسْتَوْفَى، وَقَدْ أَمْكَنَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ تَوَالِي السِّنِينَ،

الْعِصْمَةِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْآدَمِيَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِهَا ضَرُورَةً تَمَكُّنِهِ مِنْ فِعْلِ مَا كُلِّفَ بِهِ أَوْ لِظُهُورِ خِلَافِهِ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ ثُبُوتُهَا بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَقَوْلُهُ بَدَلًا عَنْ السُّكْنَى. قُلْنَا إنَّ الذِّمِّيَّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا تَكُونُ أُجْرَةً؛ وَلِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بَدَلُ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ بِهَا، وَالْأَحْسَنُ تَرْكُ الْكَلَامِ فِي إبْطَالِ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ الْأَصْلِيَّةَ زَالَتْ بِالْكُفْرِ، وَهَذِهِ عِصْمَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ بِالْجِزْيَةِ، وَيَكْفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ أَنَّهَا عُقُوبَةُ جَزَاءٍ ثُمَّ تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مَعَهَا لِتُمْكِنَ إقَامَتُهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لِاسْتِمْرَارِ السَّبَبِ وَهُوَ كُفْرُهُ الدَّاعِي إلَى حِرَابَتِهِ، وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ إلَّا بِعِصْمَتِهِ.

(فَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ) أَيْ الْجِزْيَةُ أَنَّثَ فِعْلَ الْحَوْلَيْنِ لِتَأْوِيلِهِ بِالسَّنَتَيْنِ، وَلَا دَاعِيَ إلَى ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ: أَيْ جِزْيَةُ حَوْلَيْنِ، وَلَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ الْأَقْطَعُ: وَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حَوْلَانِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ، وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى) لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُؤْخَذُ مِنْهُ، فَإِنْ مَاتَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَكَذَا إنْ مَاتَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَوْتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا.

(وَقِيلَ خَرَاجُ الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) فَإِذَا مَضَتْ سُنُونَ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا مَضَى (وَقِيلَ لَا تَدَاخُلَ) فَيُؤْخَذُ مَا مَضَى (بِالِاتِّفَاقِ لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ) وَهِيَ تَدَاخُلُ الْجِزْيَةِ (أَنَّ الْخَرَاجَ) أَيْ الْجِزْيَةَ؛ لِأَنَّهَا خَرَاجُ الرَّأْسِ (وَجَبَ عِوَضًا، وَالْأَعْوَاضُ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا) عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ (تُسْتَوْفَى، وَقَدْ أَمْكَنَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ تَوَالِي السِّنِينَ)؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ كَافِرًا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالْإِذْلَالِ لَهُ

ص: 55

بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لَوْ بَعَثَ عَلَى يَدِ نَائِبِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَيُعْطِيَ قَائِمًا، وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَهُزُّهُ هَزًّا وَيَقُولُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَالْعُقُوبَاتُ إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْهُ. ثُمَّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجِزْيَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى، حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْمُضِيِّ مَجَازًا.

بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ)؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجِبُ إذْلَالُهُ بَلْ يَجِبُ تَوْقِيرُهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ كَوْنَهَا وَجَبَتْ عِوَضًا، وَكَوْنُ الْمُتَحَصِّلِ مِنْهَا أَعْوَاضًا خِلَافَ مَا تَقَدَّمَ وَأَنَّهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَلْيَقُ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَعْوَاضِ الْأَجْزِيَةُ الْوَاقِعَةُ عُقُوبَةً تَمَّ عَلَيْهِمَا وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةِ الْقَائِلِ: وَالْعُقُوبَاتُ تَتَدَاخَلُ حَتَّى قُلْنَا بِتَدَاخُلِ كَفَّارَاتِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ مَعَ أَنَّهَا عُقُوبَةٌ وَعِبَادَةٌ، غَيْرَ أَنَّ الْمُرَجَّحَ فِيهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ فَكَيْفَ بِالْعُقُوبَةِ الْمَحْضَةِ وَالْجِزْيَةُ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ.

وَقَوْلُهُ: (وَلِهَذَا إلَخْ) اسْتِيضَاحٌ عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ؛ يَعْنِي (لَوْ بَعَثَ بِهَا عَلَى يَدِ نَائِبِهِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِنَفْسِهِ فَيُعْطِيَ قَائِمًا وَالْقَابِضُ جَالِسٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ) وَهُوَ مَا يَلِي صَدْرَهُ مِنْ ثِيَابِهِ (وَيَقُولُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ) وَقَبُولُهَا مِنْ النَّائِبِ يُفَوِّتُ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ إذْلَالِهِ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ، قَالَ تَعَالَى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَوَجْهٌ آخَرُ (أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ) يَعْنِي عَنْ الْقَتْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالنُّصْرَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْهُ) بِانْقِضَائِهِ فَانْقَطَعَتْ الْحَاجَةُ فِيهِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ الْمَالُ بَلْ اسْتِذْلَالُ الْكَافِرِ وَاسْتِصْغَارُهُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ جِزْيَةٍ وَاحِدَةٍ (ثُمَّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ): وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى، حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى مُضِيِّ السَّنَةِ مَجَازًا

ص: 56

وَقَالَ: الْوُجُوبُ بِآخِرِ السَّنَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُضِيِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاجْتِمَاعُ فَتَتَدَاخَلَ.

وَعِنْدَ الْبَعْضِ هُوَ مُجْرًى عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ فَيَتَحَقَّقُ الِاجْتِمَاعُ بِمُجَرَّدِ الْمَجِيءِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَنَا فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي آخِرِهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ. وَلَنَا أَنَّ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَتَعَذَّرَ إيجَابُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ فَأَوْجَبْنَاهُ فِي أَوَّلِهِ.

(فَصْلٌ)

(وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ)؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» وَالْمُرَادُ إحْدَاثُهَا

فَقَالَ: الْوُجُوبُ بِآخِرِ السَّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُضِيِّ؛ لِيَتَحَقَّقَ الِاجْتِمَاعُ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ فِي الْجِزْيَتَيْنِ (فَتَتَدَاخَلُ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ هُوَ مُجْرًى عَلَى حَقِيقَتِهِ) وَهُوَ أَنْ يُرَادَ دُخُولُ أَوَّلِ السَّنَةِ، فَإِنَّ مَجِيءَ الشَّهْرِ بِمَجِيءِ أَوَّلِهِ، وَمَجِيءَ السَّنَةِ بِمَجِيءِ أَوَّلِهَا، وَالْأَصَحُّ هُوَ هَذَا (فَالْوُجُوبُ عِنْدَنَا بِأَوَّلِ السَّنَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي آخِرِهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ. وَلَنَا أَنَّ مَا وَجَبَتْ) الْجِزْيَةُ (بَدَلًا عَنْهُ) وَهُوَ النُّصْرَةُ (وَالْقَتْلُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ) مِنْ أَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَبَدَلًا عَنْ نُصْرَتِهِمْ. وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْمَالِ النَّامِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْحَوْلِ؛ لِيَتَحَقَّقَ الِاسْتِنْمَاءُ فَلَمْ تَجِبْ قَبْلَهُ؛ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِ بِذَلِكَ قَبْلَهُ ثُمَّ أُقِيمَ الْحَوْلُ مَقَامَ النَّمَاءِ؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ مِنْهُ فَصَارَ الْمَالُ بِهِ نَامِيًا تَقْدِيرًا.

(فَصْلٌ) لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمِّيِّ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ وَمَا مَضَى بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ قَدَّمَ تِلْكَ. (قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ) بِكَسْرِ الْبَاءِ (وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) وَهُمَا مُتَعَبَّدَا الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، ثُمَّ غَلَبَتْ الْكَنِيسَةُ لِمُتَعَبَّدِ الْيَهُودِ

ص: 57

(وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا) لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا، وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِي الْحَقِيقَةِ،

وَالْبِيعَةُ لِمُتَعَبَّدِ النَّصَارَى، وَفِي دِيَارِ مِصْرَ لَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْبِيعَةِ بَلْ الْكَنِيسَةِ لِمُتَعَبَّدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَفْظُ الدَّيْرِ لِلنَّصَارَى خَاصَّةً. وَقَيَّدَ الْمُصَنِّفُ عُمُومَ دَارِ الْإِسْلَامِ بِالْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى؛ لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ، فَإِحْدَاثُهَا فِيهَا مُعَارَضَةٌ بِإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُهَا فَلَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْقُرَى.

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي قُرَى دِيَارِنَا أَيْضًا لَا تَحْدُثُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. ثُمَّ قَالَ الْقُدُورِيُّ: (وَإِنْ انْهَدَمَتْ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ: (لِأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى دَائِمًا، وَلَمَّا أَقَرَّهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ عَهِدَ إلَيْهِمْ الْإِعَادَةَ ضِمْنًا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ نَقْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ) فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ بِإِقْرَارِ الْإِمَامِ إيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ بَعْدَهُمْ.

قِيلَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا مَا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ. وَثَانِيهَا مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إحْدَاثُ شَيْءٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَجِبُ. وَعِنْدَنَا جَعْلُهُمْ ذِمَّةً أَمْرُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَنَائِسَهُمْ مَسَاكِنَ، وَيُمْنَعُ مِنْ صَلَاتِهِمْ فِيهَا وَلَكِنْ لَا تُهْدَمُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً، وَلَمْ يَهْدِمُوا كَنِيسَةً، وَلَا دَيْرًا، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ قَطُّ. وَثَالِثُهَا مَا فُتِحَ صُلْحًا، فَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا جَازَ إحْدَاثُهُمْ، وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يُوَقَّعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، فَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى شَرْطِ تَمْكِينِ الْإِحْدَاثِ لَا يَمْنَعُهُمْ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ عَدَمِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ وَلَا يُتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخِنْزِيرِ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى.

وَقَوْلُهُ: يُمْنَعُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ: أَيْ التَّجَاهُرِ بِهِ وَإِظْهَارِهِ. وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ لَا يُمْنَعُونَ انْتَهَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِصْرٍ أَوْ حَدِيقَةٍ لَهُمْ أَظْهَرُوا فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْفِسْقِ مِثْلَ الزِّنَا وَالْفَوَاحِشَ الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا فِي دِينِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ، وَكَذَا عَنْ الْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ وَالْغِنَاءِ، وَمِنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ فِي السَّوَادِ لَا تُهْدَمُ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَاخْتَلَفَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ فِي الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ تُهْدَمُ الْقَدِيمَةُ، وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَى هَذَا، فَإِنَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهَا تَوَالَتْ عَلَيْهَا أَئِمَّةٌ وَأَزْمَانٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ يَأْمُرْ بِهَدْمِهَا إمَامٌ فَكَانَ مُتَوَارِثًا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَعَلَى هَذَا لَوْ مَصَّرْنَا بَرِيَّةً فِيهَا دَيْرٌ

ص: 58

وَالصَّوْمَعَةُ لِلتَّخَلِّي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِيعَةِ، بِخِلَافِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسُّكْنَى، وَهَذَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى؛ لِأَنَّ الْأَمْصَارَ هِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ فَلَا تُعَارَضُ بِإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُهَا.

وَقِيلَ فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهَا بَعْضَ الشَّعَائِرِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ فِي قُرَى الْكُوفَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ. وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهَا وَقُرَاهَا

أَوْ كَنِيسَةٌ فَوَقَعَ فِي دَاخِلِ السُّوَرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْدَمَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَمَانِ قَبْلَ وَضْعِ السُّوَرِ، فَيُحْمَلُ مَا فِي جَوْفِ الْقَاهِرَةِ مِنْ الْكَنَائِسِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فَضَاءً فَأَدَارَ الْعُبَيْدِيُّونَ عَلَيْهَا السُّورَ ثُمَّ فِيهَا الْآنَ كَنَائِسُ، وَيَبْعُدُ مِنْ إمَامٍ تَمْكِينُ الْكُفَّارِ مِنْ إحْدَاثِهَا جِهَارًا فِي جَوْفِ الْمُدُنِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الضَّوَاحِي فَأُدِيرَ السُّوَرُ عَلَيْهَا فَأَحَاطَ بِهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْكَنَائِسُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلُّهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تُهْدَمَ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي أَمْصَارٍ قَدِيمَةٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوْ التَّابِعِينَ حِينَ فَتَحُوا الْمَدِينَةَ عَلِمُوا بِهَا وَبَقُوهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ بَقُوهَا مَسَاكِنَ لَا مَعَابِدَ فَلَا تُهْدَمُ وَلَكِنْ يُمْنَعُونَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا لِلتَّقَرُّبِ، وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ أَقَرُّوهَا مَعَابِدَ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ مِنْ الْإِظْهَارِ.

وَانْظُرْ إلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ: إنَّهُمْ إذَا حَضَرَ لَهُمْ عِيدٌ يُخْرِجُونَ فِيهِ صُلْبَانَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوا فِي كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبُّوا، فَأَمَّا أَنْ يُخْرِجُوا ذَلِكَ مِنْ الْكَنَائِسِ حَتَّى يَظْهَرَ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لِيَخْرُجُوا خُفْيَةً مِنْ كَنَائِسِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى عَدَمِ الْإِحْدَاثِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ». قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: الْمُرَادُ إحْدَاثُهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبِيعَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الصُّلْحِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بُنْيَانَ كَنِيسَةٍ» وَضَعَّفَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي تَوْبَةُ بْنُ النَّمِرِ الْحَضْرَمِيُّ قَاضِي مِصْرَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» قَالَ: وَرَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا خِصَاءَ.

وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ بِسَنَدِهِ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُبْنَى مَا خَرِبَ مِنْهَا» وَأُعِلَّ بِسَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، وَإِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُ الضَّعِيفِ يَصِيرُ حَسَنًا.

ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخِصَاءِ نَزْعُ الْخُصْيَتَيْنِ، وَقِيلَ كِنَايَةٌ عَنْ التَّخَلِّي عَنْ إتْيَانِ النِّسَاءِ (وَالصَّوْمَعَةُ) وَهُوَ مَا يُبْنَى (لِلتَّخَلِّي) عَنْ النَّاسِ وَالِانْقِطَاعِ (فِيهَا) لَهُمْ مِثْلُهَا فَيُمْنَعُ أَيْضًا وَكَذَا يُمْنَعُ بَيْتُ نَارٍ.

(وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ) يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ رضي الله عنه كَانَ (فِي قُرَى الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ) بِخِلَافِ قُرَى الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، وَلِذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ قَالَ: إنْ كَانَتْ قَرْيَةٌ غَالِبُ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يُمْنَعُونَ، وَأَمَّا الْقَرْيَةُ الَّتِي سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَصَارَ إطْلَاقُ مَنْعِ الْإِحْدَاثِ هُوَ الْمُخْتَارُ فَصَدَقَ تَعْمِيمُ الْقُدُورِيِّ مَنْعَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (قَوْلُهُ: وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهَا وَقُرَاهَا) فَلَا يُحْدَثُ فِيهَا كَنِيسَةٌ وَلَا تُقَرُّ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ السُّكْنَى بِهَا فَلَا فَائِدَةَ فِي إقْرَارِهَا، إلَّا أَنْ تُتَّخَذَ دَارَ سُكْنَى وَلَا يُبَاعُ بِهَا

ص: 59

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» .

قَالَ (وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَسُرُوجِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ فَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِالسِّلَاحِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِإِظْهَارِ الْكُسْتِيجَاتِ وَالرُّكُوبِ عَلَى السُّرُوجِ الَّتِي هِيَ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ) وَإِنَّمَا يُؤْخَذُونَ بِذَلِكَ إظْهَارًا لِلصَّغَارِ عَلَيْهِمْ وَصِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُكْرَمُ، وَالذِّمِّيُّ يُهَانُ، وَلَا يُبْتَدَأُ بِالسَّلَامِ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ

خَمْرٌ وَلَا فِي قَرْيَةٍ مِنْهَا وَلَا فِي مَاءٍ مِنْ مِيَاه الْعَرَبِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ مَسْكَنًا وَوَطَنًا، بِخِلَافِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ يُمَكَّنُونَ مِنْ سُكْنَاهَا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ») أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَجْتَمِعُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، أَوْ قَالَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ دِينَانِ» وَرَوَاهُ فِي الزَّكَاةِ وَزَادَ فِيهِ: " فَقَالَ عُمَرُ لِلْيَهُودِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَأْتِ بِهِ، وَإِلَّا فَإِنِّي مُجْلِيكُمْ، قَالَ: فَأَجَلَاهُمْ عُمَرُ ". وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي عِلَلِهِ: هَذَا صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ وَأَجْلَى يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ أَبْيَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ، وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةً لِانْجِزَارِ الْمِيَاهِ الَّتِي حَوَالَيْهَا عَنْهَا كَبَحْرِ الْبَصْرَةِ وَعُمَانَ وَعَدَنَ وَالْفُرَاتِ. وَقِيلَ؛ لِأَنَّ حَوَالَيْهَا بَحْرُ الْحَبَشِ وَبَحْرُ فَارِسٍ وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَحْرَ فَارِسٍ وَبَحْرَ السُّودَانِ أَحَاطَا بِجَانِبِهَا الْجَنُوبِيِّ، وَأَحَاطَ بِالْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: قَالَ مَالِكٌ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ نَفْسُهَا، وَرُوِيَ أَنَّهَا الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ وَالْيَمَامَةُ، وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ: هِيَ أَرْضُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.

(قَوْلُهُ: وَتُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ) نَفْسِهِمْ (وَفِي مَرَاكِبِهِمْ وَسُرُوجِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ) وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَمَّا كَانُوا مُخَالِطِينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِمَّا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ كَيْ لَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِ فِي التَّوْقِيرِ وَالْإِجْلَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَرُبَّمَا يَمُوتُ أَحَدُهُمْ فَجْأَةً فِي الطَّرِيقِ وَلَا يُعْرَفُ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ بِخِلَافِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ زِيٌّ عَالٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا وَجَبَ التَّمَيُّزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَا فِيهِ صَغَارٌ لَا إعْزَازٌ؛ لِأَنَّ إذْلَالَهُمْ لَازِمٌ بِغَيْرِ أَذًى مِنْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ بِلَا سَبَبٍ يَكُونُ مِنْهُ، بَلْ الْمُرَادُ اتِّصَافُهُ بِهَيْئَةٍ وَضِيعَةٍ وَلِذَا أُمِرُوا (بِالْكَسْتِيجَاتِ) وَهُوَ خَيْطٌ فِي غِلَظِ الْأُصْبُعِ مِنْ الصُّوفِ يَشُدُّهُ فَوْقَ

ص: 60

عَلَامَةٌ مُمَيِّزَةٌ فَلَعَلَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ وَالْعَلَامَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَيْطًا غَلِيظًا مِنْ الصُّوفِ يَشُدُّهُ عَلَى وَسَطِهِ دُونَ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ فَإِنَّهُ جَفَاءٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَيَجِب أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَائِنَا فِي الطُّرُقَاتِ وَالْحَمَّامَاتِ، وَيُجْعَلُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَاتٌ كَيْ لَا يَقِفَ عَلَيْهَا سَائِلٌ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ.

قَالُوا: الْأَحَقُّ أَنْ لَا يُتْرَكُوا أَنْ يَرْكَبُوا إلَّا لِلضَّرُورَةِ. وَإِذَا رَكِبُوا لِلضَّرُورَةِ فَلِيَنْزِلُوا فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَزِمَتْ الضَّرُورَةُ اتَّخَذُوا سُرُوجًا

ثِيَابِهِ دُونَ الزُّنَّارِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ (لِأَنَّ فِيهِ جَفَاءٌ بِالْمُسْلِمِينَ) أَيْ إغْلَاظًا عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَهُمْ وَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ فَرُبَّمَا يَمْرُقُونَ بِجَهْلِهِمْ فَيَقُولُونَ الْكُفَّارُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَّا فَإِنَّهُمْ فِي خَفْضِ عَيْشٍ وَنِعْمَةٍ وَنَحْنُ فِي كَدٍّ وَتَعَبٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} تَنْبِيهًا عَلَى خِسَّةِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ عز وجل، وَإِذَا مُنِعَ مِنْ شَدِّ زُنَّارٍ وَهُوَ حَاشِيَةٌ رَقِيقَةٌ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ فَمَنْعُهُمْ مِنْ لِبَاسِ الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ الَّتِي تُعَدُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَاخِرَةً سَوَاءٌ كَانَتْ حَرِيرًا أَوْ غَيْرَهُ كَالصُّوفِ الْمُرَبَّعِ وَالْجُوخِ الرَّفِيعِ وَالْأَبْرَادِ الرَّقِيقَةِ أَوْلَى.

وَلَا شَكَّ فِي وُقُوعِ خِلَافِ هَذَا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ، وَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ اسْتِكْتَابِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُعَظَّمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ رُبَّمَا يَقِفُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ خِدْمَةً لَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَغَيَّرَ خَاطِرُهُ مِنْهُ فَيَسْعَى بِهِ عِنْدَ مُسْتَكْتِبِهِ سِعَايَةً تُوجِبُ لَهُ مِنْهُ الضَّرَرَ، وَكَذَا يُؤْخَذُونَ بِالرُّكُوبِ عَلَى سُرُوجٍ فَوْقَ الْحُمُرِ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ. بَلْ اخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنْ لَا يَرْكَبُوا أَصْلًا إلَّا إذَا خَرَجُوا إلَى أَرْضِ قَرْيَةٍ وَنَحْوِهِ أَوْ كَانَ مَرِيضًا: أَيْ إلَّا أَنْ تُلْزِمُ الضَّرُورَةُ فَيَرْكَبُ ثُمَّ يَنْزِلُ فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرَّ بِهِمْ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ وَلَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَعَلَيْكُمْ فَقَطْ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَلَامَةُ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ، بَلْ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْلُهُ، وَفِي بِلَادِنَا جُعِلَتْ الْعَلَامَةُ فِي الْعِمَامَةِ فَأَلْزَمُوا النَّصَارَى الْعِمَامَةَ الزَّرْقَاءَ وَالْيَهُودَ الْعِمَامَةَ الصَّفْرَاءَ وَاخْتَصَّ الْمُسْلِمُونَ بِالْبَيْضَاءِ، وَكَذَا تُؤْخَذُ نِسَاؤُهُمْ بِالزِّيِّ فِي الطُّرُقِ فَيُجْعَلُ عَلَى مُلَاءَةِ الْيَهُودِيَّةِ خِرْقَةً صَفْرَاءَ وَعَلَى النَّصْرَانِيَّةِ زَرْقَاءَ، وَكَذَا فِي الْحَمَّامَاتِ، وَكَذَا تُمَيَّزُ دُورُهُمْ

ص: 61

بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ.

(وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ) لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَبُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ نَقْضًا؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ إيمَانَهُ فَكَذَا يَنْقُضُ أَمَانَهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْهُ.

وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُفْرٌ مِنْهُ، وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ لَا يَمْنَعُهُ فَالطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ.

عَنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ كَيْ لَا يَقِفَ سَائِلٌ فَيَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ أَوْ يُعَامِلَهُمْ بِالتَّضَرُّعِ كَمَا يَتَضَرَّعُ لِلْمُسْلِمِينَ (وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخُصُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ) وَتُجْعَلُ مَكَاعِبُهُمْ خَشِنَةً فَاسِدَةَ اللَّوْنِ، وَلَا يَلْبَسُوا طَيَالِسَةً كَطَيَالِسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَرِدْيَةً كَأَرْدِيَتِهِمْ، هَكَذَا أُمِرُوا وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ) فَيَصِيرُ مُبَاحَ الدَّمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ عِنْدَنَا، وَقُيِّدَ بِأَدَائِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا نُقِضَ عَهْدُهُ. وَالشَّافِعِيُّ يَنْقُضُ عَهْدَهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَقَبُولِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَنْقُضُهُ بِزِنَاهُ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَنْ يُصِيبَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ أَنْ يَفْتِنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ يَقْطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ يَدُلَّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: يُنْتَقَضُ بِإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا أَوْ سَبِّهِ عليه الصلاة والسلام أَوْ ذِكْرِهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ بِهِ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَوَافَقَهُ فِي هَذَا الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَلِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي أَوْ سَبَّهُ عليه الصلاة والسلام قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُنْتَقَضُ، وَالْآخَرُ يُنْتَقَضُ.

وَجْهُ قَوْلِهِ هَذَا (أَنَّهُ بِذَلِكَ يُنْتَقَضُ إيمَانُهُ) لَوْ كَانَ مُسْلِمًا (فَيُنْتَقَضُ بِهِ أَمَانُهُ إذْ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِيمَانِ) فِي إفَادَةِ الْأَمَانِ فَمَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ يَنْقُضُ الْخَلَفَ الْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: سَمِعْت رَاهِبًا سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لَوْ سَمِعْته لَقَتَلْته، إنَّا لَمْ نُعْطِهِمْ الْعُهُودَ عَلَى هَذَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ:(وَلَنَا أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُفْرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ) كَمَا هُوَ رِدَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ (وَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ) لِعَقْدِ الذِّمَّةِ (لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الذِّمَّةِ) فِي الِابْتِدَاءِ (فَالْكُفْرُ الطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ) فِي حَالِ الْبَقَاءِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَهْطًا مِنْ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ وَعَلَيْكُمْ، قَالَتْ: فَفَهِمْتُهَا وَقُلْت: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَهْلًا: يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، قَالَتْ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: قَدْ قُلْت وَعَلَيْكُمْ» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا سَبٌّ مِنْهُمْ لَهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَقَتَلَهُمْ لِصَيْرُورَتِهِمْ حَرْبِيِّينَ. قَالُوا: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوا سَبَّهُ صلى الله عليه وسلم. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ سَبَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ نِسْبَةَ مَا لَا يَنْبَغِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُونَهُ كَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ إذَا أَظْهَرَهُ يُقْتَلُ بِهِ وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ وَلَكِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَكْتُمُهُ فَلَا.

وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ عَنْهُمْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِمْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ بِالنَّصِّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِمْرَارُ ذَلِكَ لَا عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَبُولِ وَإِظْهَارُ ذَلِكَ مِنْهُ يُنَافِي قَيْدَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ دَافِعًا لِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ فِي التَّمَرُّدِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ جَارِيًا عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَاغِرًا ذَلِيلًا. وَأَمَّا الْيَهُودُ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ بِمَعْنَى إعْطَائِهِمْ الْجِزْيَةَ، بَلْ كَانُوا أَصْحَابَ مُوَادَعَةٍ بِلَا مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ إلَى أَنْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوضَعْ جِزْيَةٌ قَطُّ عَلَى الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَهَذَا الْبَحْثُ مِنَّا يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا اسْتَعْلَى عَلَى

ص: 62

قَالَ (وَلَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَغْلِبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا)؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا فَيُعَرَّى عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنْ الْفَائِدَةِ وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحِرَابِ.

(وَإِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ) مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ، وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ يُسْتَرَقُّ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ.

(فَصْلٌ)

(وَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ)؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَالَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ (وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ صِبْيَانِهِمْ) لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى الصَّدَقَةِ

الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهٍ صَارَ مُتَمَرِّدًا عَلَيْهِمْ حَلَّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ أَوْ يَرْجِعُ إلَى الذُّلِّ وَالصَّغَارِ (قَوْلُهُ: وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ يَغْلِبُوا) أَيْ أَهْلُ الذِّمَّةِ (عَلَى مَوْضِعِ) قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ (فَيُحَارِبُونَنَا؛ لِأَنَّهُمْ) بِكُلٍّ مِنْ الْخُصْلَتَيْنِ (صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا) وَعَقْدُ الذِّمَّةِ مَا كَانَ إلَّا لِدَفْعِ شَرِّ حِرَابَتِهِمْ (فَيَعْرَى عَنْ الْفَائِدَةِ) فَلَا يَبْقَى.

(وَإِذَا اُنْتُقِضَ عَهْدُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ، مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ) وَإِذَا تَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَتَعُودُ ذِمَّتُهُ، وَلَا يَبْطُلُ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِ بِنَقْضِ عَهْدِهِ وَتَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الذِّمِّيَّةُ الَّتِي خَلَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إجْمَاعًا وَيُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ. (وَكَذَا فِي حُكْمِ مَا حَمَلَهُ مِنْ مَالِهِ) إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ النَّقْضِ، وَلَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ يَكُونُ فَيْئًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُرْتَدِّ إذَا الْتَحَقَ بِمَالٍ؛ وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ مِنْ مَالِهِ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مَجَّانًا وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُمْ حِينَ أَخَذَهُ فَإِنْ عَادَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ فَفِي رِوَايَةٍ يَكُونُ فَيْئًا وَفِي رِوَايَةٍ لَا. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ انْتِقَالُهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَغْلِبُوا فِيهِ كَانْتِقَالِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْإِسْلَامِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى قَوْلِهِمَا.

وَقَوْلُهُ: (إلَّا أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ يُسْتَرَقُّ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ (بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ) إذَا لَحِقَ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَأُسِرَ لَا يُسْتَرَقُّ بَلْ يُقْتَلُ إذَا لَمْ يُسْلِمْ، وَكَذَا يَجُوزُ وَضْعُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ إذَا عَادَ بَعْدَ نَقْضِهِ وَقَبْلَهَا؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ الْتَزَمَ بِالذِّمَّةِ الْإِسْلَامَ بَلْ أَحْكَامَهُ فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إلَى الذِّمَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ الْتَزَمَ الْإِسْلَامَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَعُدْ وَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى أُخِذَ بَعْدَ الظُّهُورِ فَقَدْ اُسْتُرِقَّ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ جِزْيَةٌ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. .

(فَصْلٌ). أَفْرَدَ أَحْكَامَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ بِفَصْلٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُمْ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ النَّصَارَى، وَتَغْلِبُ بْنُ وَائِلٍ مِنْ الْعَرَبِ

ص: 63

الْمُضَاعَفَةِ، وَالصَّدَقَةُ تَجِبُ عَلَيْهِنَّ دُونَ الصِّبْيَانِ فَكَذَا الْمُضَاعَفُ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله لَا يُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ: هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ، وَلِهَذَا تُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسْوَانِ.

وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِهِ الصُّلْحُ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ مِثْلِهِ عَلَيْهَا وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِزْيَةِ؛

مِنْ رَبِيعَةَ تَنَصَّرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ ثُمَّ زَمَنُ عُمَرَ دَعَاهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى الْجِزْيَةِ فَأَبَوْا وَأَنِفُوا وَقَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الصَّدَقَةَ فَقَالَ: لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً فَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالرُّومِ فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْقَوْمَ لَهُمْ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَهُمْ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ فَلَا تُعِنْ عَلَيْك عَدُوُّك بِهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي طَلَبِهِمْ وَضَعَّفَ عَلَيْهِمْ، فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ الْفُقَهَاءُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ بِسَنَدِهِ إلَى دَاوُد بْنِ كَرْدُوسَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: إنَّ بَنِي تَغْلِبَ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ: فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى أَنْ لَا يَغْمِسُوا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ فِي الصَّدَقَةِ، وَعَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْجِزْيَةَ مِنْ رُءُوسِهِمْ. فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً لَهُمْ شَاتَانِ، وَلَا زِيَادَةَ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَعَلَى هَذَا فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ هِيَ جِزْيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ مَاشِيَةٌ وَنُقُودٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَقْيَسُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ، فَإِذَا صَالَحُوهُمْ عَلَى مَالٍ جُعِلَ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمُسْتَحَقِّ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه هَذِهِ جِزْيَةٌ سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ وَإِنْ كَانَ جِزْيَةً فِي الْمَعْنَى فَهُوَ وَاجِبٌ بِشَرَائِط الزَّكَاةِ وَأَسْبَابِهَا إذْ الصُّلْحُ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الْجِزْيَةِ مِنْ وَصْفِ الصَّغَارِ فَيُقْبَلُ مِنْ النَّائِبِ وَيُعْطَى جَالِسًا إنْ شَاءَ وَلَا يُؤْخَذُ بِتَلْبِيبِهِ (وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْجِزْيَةَ) وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهِ وَمِنْ أَهْلِ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ بِالصُّلْحِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِعَدَمِ وُجُودِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا، بِخِلَافِ أَرْضِهِمْ فَيُؤْخَذُ خَرَاجُهَا؛ لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ عِبَادَةً لِتَخُصَّ الْبَالِغِينَ

ص: 64

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُهَا (وَيُوضَعُ عَلَى مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ الْخَرَاجُ) أَيْ الْجِزْيَةُ (وَخَرَاجُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَوْلَى الْقُرَشِيِّ) وَقَالَ زُفَرُ: يُضَاعَفُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ يَلْحَقُ بِهِ فِي حَقِّ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ.

وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَخْفِيفٌ وَالْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ، وَلِهَذَا تُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ نَصْرَانِيًّا، بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَأُلْحِقَ الْمَوْلَى بِالْهَاشِمِيِّ فِي حَقِّهِ،

كَنَفَقَةِ عَبِيدِهِمْ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا يُفِيدُ أَنَّهُ رُوعِيَ فِي هَذَا الْمَأْخُوذِ جِهَةُ الْجِزْيَةِ فِي الْمَصْرِفِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ رُوعِيَ جِهَةُ الزَّكَاةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْجِزْيَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ لَا يُغَيَّرُ، وَهَذِهِ الْجِزْيَةُ الَّتِي وَجَبَتْ بِالصُّلْحِ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْجِزْيَةَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَجِبُ بِالصُّلْحِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ كَيْفَمَا وَقَعَ، وَاَلَّذِي يُرَاعَى فِيهِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَصْفُهُ وَكَمِّيَّتُهُ هُوَ الْجِزْيَةُ الَّتِي يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا شَاءُوا أَوْ أَبَوْا عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

(قَوْلُهُ وَيُوضَعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّغْلِبِيِّ) أَيْ مُعْتِقِهِ (الْخَرَاجُ: أَيْ الْجِزْيَةُ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ، وَقَالَ زُفَرُ: يُضَاعَفُ) عَلَيْهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَالتَّغْلِبِيِّ نَفْسِهِ (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ») وَهَذَا الْحَدِيثُ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى حِرْمَانِ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ الزَّكَاةَ، فَكَذَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى التَّضْعِيفِ عَلَى مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ، وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. (وَلَنَا أَنَّ هَذَا) أَيْ وَضْعَ الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ (تَخْفِيفٌ) إذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَصْفُ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ بِرَغْبَتِهِمْ فِي ذَلِكَ وَاشْتِشْقَاقِهِمْ مَا سِوَاهُ (وَالْمَوْلَى لَا يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِيهِ) أَيْ فِي التَّخْفِيفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْلَى أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ، وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ مَوْلًى نَصْرَانِيٌّ وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَلَمْ يَتَعَدَّ إلَيْهِ التَّخْفِيفُ الثَّابِتُ بِالْإِسْلَامِ فَلَأَنْ لَا يَتَعَدَّى التَّخْفِيفُ الثَّابِتُ بِوَصْفِ التَّغْلِبِيَّةِ أَوْلَى (بِخِلَافِ حُرْمَةِ الصَّدَقَاتِ) عَلَى الْهَاشِمِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَخْفِيفًا بَلْ تَحْرِيمٌ (وَالْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَأُلْحِقَ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ بِهِ) وَيُنْقَضُ

ص: 65

وَلَا يَلْزَمُ مَوْلَى الْغَنِيِّ حَيْثُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا الْغَنِيُّ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، أَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذِهِ الصِّلَةِ أَصْلًا لِأَنَّهُ صِينَ لِشَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ.

قَالَ: (وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْخَرَاجِ وَمِنْ أَمْوَالِ بَنِي تَغْلِبَ وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى الْإِمَامِ

بِمَوْلَى الْغَنِيِّ تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ عَلَى مُعْتِقِهِ وَلَمْ تَتَعَدَّ إلَيْهِ فَقَالَ (لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ) فِي الْجُمْلَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا أُعْطِيَ كِفَايَتَهُ مِنْهَا (وَإِنَّمَا الْغِنَى مَانِعٌ) مِنْ الْإِسْقَاطِ عَنْ الْمُعْطَى لَهُ شَرْعًا تَحَقَّقَ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْمَوْلَى فَخُصَّ السَّيِّدُ (أَمَّا الْهَاشِمِيُّ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِهَذِهِ الصِّلَةِ أَصْلًا؛ لِشَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ) لِاتِّسَاخِهَا، وَلِذَا لَا يُعْطَى مِنْهَا لَوْ كَانَ عَامِلًا (فَأُلْحِقَ بِهِ مَوْلَاهُ)؛ لِأَنَّ التَّكْرِيمَ أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَيْهِ تِلْكَ الْأَوْسَاخُ بِنِسْبَةٍ فَإِنْ قُلْت: هَذَا تَقْدِيمٌ لِلْمَعْنَى عَلَى النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» أُجِيبُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ مَوْلَى الْهَاشِمِيِّ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ فِي الْكَفَاءَةِ لِلْهَاشِمِيَّةِ وَالْإِمَامَةِ فَكَانَ عَامًّا مَخْصُوصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَفَاءَةِ وَالْإِمَامَةِ فَيُخَصُّ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ تَخْفِيفٌ فَلَا يَتَعَدَّى بِالنِّسْبَةِ لِلتَّضْعِيفِ إلَى الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ بِدَلِيلِ التَّخْفِيفِ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْمَوْلَى فَيَخْتَصُّ كَوْنُ الْمَوْلَى مِنْهُمْ بِمَا فِيهِ دَفْعُ نَقِيصَةٍ لِمَا أَنَّ نَقِيصَةَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ تَنْتَسِبُ إلَى مَوْلَاهُ.

وَوَجْهٌ آخَرُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْهُمْ وَلَا مَلْزُومًا لِأَحْكَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِهِ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَهُوَ أُجْرَتُهُ رُوِيَ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ أَرْقَمَ بْنَ أَرْقَمٍ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» فَإِذَا عُلِمَ عَدَمُ عُمُومِهِ فَلْيُخَصَّ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ الزَّكَاةُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنْ قِيلَ لَمْ يُوَافِقْ زُفَرَ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَقِيلَ بَلْ قَوْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ الشَّعْبِيِّ.

(قَوْلُهُ: وَمَا جَبَاهُ الْإِمَامُ) مِنْ الْخَرَاجِ وَمِنْ أَمْوَالِ بَنِي تَغْلِبَ، وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى الْإِمَامِ

ص: 66

وَالْجِزْيَةُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَّالُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ)؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَهُوَ مُعَدٌّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ عَمَلَتُهُمْ وَنَفَقَةُ الذَّرَارِيِّ عَلَى الْآبَاءِ، فَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا كِفَايَتَهُمْ لَاحْتَاجُوا إلَى الِاكْتِسَابِ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِلْقِتَالِ (وَمَنْ مَاتَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ صِلَةٍ وَلَيْسَ بِدَيْنٍ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ عَطَاءً فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْعَطَاءِ فِي زَمَانِنَا مِثْلُ الْقَاضِي وَالْمُدَرِّسِ وَالْمُفْتِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْجِزْيَةُ تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ، وَهِيَ مَوَاضِعُ يُخَافُ هُجُومُ الْعَدُوِّ فِيهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ (وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ) وَهِيَ مَا تُوضَعُ وَتُرْفَعُ فَوْقَ الْمَاءِ لِيُمَرَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْقَنْطَرَةِ يُحْكَمُ بِنَاؤُهَا وَلَا تُرْفَعُ (وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَّالُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ، وَتُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ) فَإِنَّهُ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكْفُوهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ وَتَرَكُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلدَّفْعِ وَهَذَا (لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ) وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ عُمَّالُهُمْ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ فِي عَلَامَةِ السَّيِّدِ أَبِي شُجَاعٍ أَنَّهُ يُعْطَى أَيْضًا لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَبِهَذَا تَدْخُلُ طَلَبَةُ الْعِلْمِ، بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَأَهَّلَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَكِنْ لَيَعْمَلَ بَعْدَهُ لِلْمُسْلِمِينَ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ مَاتَ فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ صِلَةٍ وَلَيْسَ بِدَيْنٍ، وَلِكَوْنِهِ صِلَةً سُمِّيَ عَطَاءً فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ) فَلَا يُورَثُ (وَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ تَأَكُّدِ حَقِّهِ بِمَجِيءِ وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ، وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يُجْرَى فِيهِ الْإِرْثُ كَسَهْمِ الْغَازِي فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَأَكَّدَ سَهْمُهُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَتَقْيِيدُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِنِصْفِ السَّنَةِ رُبَّمَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ إذَا مَاتَ آخِرَهَا يُعْطَى وَرَثَتُهُ، وَقَالُوا: لَا يَجِبُ أَيْضًا وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى عَنَاءَهُ: أَيْ تَعَبَهُ فِي عَمَلِهِ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْطَى.

وَعَلَّلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَدَمَ وُجُوبِ إعْطَائِهِ بَعْدَمَا تَمَّتْ السَّنَةُ أَيْضًا بِمَا ذَكَرْنَا فِي نِصْفِهَا، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَكَّدْ الْحَقُّ بَعْدَمَا تَمَّتْ السَّنَةُ أَيْضًا مُعَوِّلًا عَلَى أَنَّهُ صِلَةٌ فَلَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي قَصْرَ الْإِرْثِ عَلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِهِ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَأَكَّدَ بِإِتْمَامِ عَمَلِهِ فِي السَّنَةِ كَمَا قُلْنَا: إنَّهُ يُورَثُ سَهْمُ الْغَازِي بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِتَأَكُّدِ الْحَقِّ حِينَئِذٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِلْكٌ: وَقَوْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِنَّمَا خَصَّ نِصْفَ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ آخِرِهَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصْرَفَ ذَلِكَ إلَى وَرَثَتِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا إلَّا عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُعْطَى حِصَّتَهُ مِنْ الْعَامِ.

ثُمَّ قِيلَ: رِزْقُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ يُعْطَى فِي آخِرِ السَّنَةِ، وَلَوْ أُخِذَ فِي أَوَّلِهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ مُضِيِّهَا، قِيلَ

ص: 67

‌بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ

قَالَ (وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ كُشِفَتْ عَنْهُ) لِأَنَّهُ عَسَاهُ اعْتَرَتْهُ شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ، وَفِيهِ دَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ بَلَغَتْهُ. قَالَ (وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَبَى قُتِلَ) وَتَأْوِيلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْتَمْهِلُ فَيُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ

يَجِبُ رَدُّ مَا بَقِيَ، وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ تَعْجِيلِ الْمَرْأَةِ النَّفَقَةَ لَا يَجِبُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَبُّ إلَيَّ رَدُّ الْبَاقِيَ كَمَا لَوْ عَجَّلَ لَهَا نَفَقَةً لِيَتَزَوَّجَهَا فَمَاتَ قَبْلَ التَّزَوُّجِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَعِنْدَهُمَا هُوَ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِالْمَوْتِ كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، ذَكَرَهُ فِي جَامِعَيْ قَاضِي خَانْ والتمرتاشي. وَالْعَطَاءُ: هُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الدِّيوَانِ بِاسْمِ كُلٍّ مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ كَالْجَامِكِيَّةِ فِي عُرْفِنَا إلَّا أَنَّهَا شَهْرِيَّةٌ، وَالْعَطَاءُ سَنَوِيٌّ.

(بَابُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ الطَّارِئِ. وَالْمُرْتَدُّ: هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ) أَبَدَاهَا (كُشِفَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَسَاهُ اعْتَرَتْهُ) أَيْ عَرَضَتْ لَهُ (شُبْهَةٌ فَتُزَاحُ عَنْهُ، وَفِيهِ دَفْعُ شَرِّهِ بِأَحْسَنِ الْأَمْرَيْنِ) وَهُمَا الْقَتْلُ وَالْإِسْلَامُ وَأَحْسَنُهُمَا الْإِسْلَامُ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ وُجُوبَ الْعَرْضِ قَالَ: (إلَّا أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى مَا قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (غَيْرُ وَاجِبٍ) بَلْ مُسْتَحَبٌّ (لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ) وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدَّعْوَةُ إلَيْهِ، وَدَعْوَةُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ (قَوْلُهُ: وَيُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ) فِيهَا (وَإِلَّا قُتِلَ) وَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا مِنْ الْقُدُورِيِّ يُوجِبُ وُجُوبَ الْإِنْظَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ الْأَخْبَارِ فِي مِثْلِهِ، فَذَكَرَ عِبَارَةَ الْجَامِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ:(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَبَى قُتِلَ) أَيْ مَكَانَهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ إنْظَارَهُ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ

ص: 68

لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ فَقَدَّرْنَاهَا بِالثَّلَاثَةِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الْإِمْهَالِ، وَكَذَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ فَيُقْتَلُ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِمْهَالٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِإِطْلَاقِ الدَّلَائِلِ.

لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا.

وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتْ الثَّلَاثَةُ (لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ) بِدَلِيلِ حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ «فِي الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ضُرِبَتْ لِلتَّأَمُّلِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، وَقِصَّةُ مُوسَى صلى الله عليه وسلم مَعَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} وَهِيَ الثَّالِثَةُ إلَى قَوْلِهِ {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ فَقَالَ نَعَمْ. رَجُلٌ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَتَلْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ: هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَطْعَمْتُمُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَغِيفًا لَعَلَّهُ يَتُوبُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، لَكِنْ ظَاهِرُ تَبَرِّي عُمَرَ رضي الله عنه يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.

ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (تَأْوِيلُ الْأَوَّلِ) وَهُوَ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ إمْهَالِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ (أَنْ يَسْتَمْهِلَ فَيُمْهَلَ) وَظَاهِرُ الْمَبْسُوطِ الْوُجُوبُ فَإِنَّهُ قَالَ إذَا طَلَبَ التَّأْجِيلَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فَيَجِبُ عَلَيْنَا إزَالَةُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، أَوْ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّفَكُّرِ؛ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُهْلَةِ، وَإِذَا اسْتَمْهَلَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُمْهِلَهُ، وَمُدَّةُ النَّظَرِ جُعِلَتْ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا فِي الْخِيَارِ، ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ الدَّالِّ عَلَى الْوُجُوبِ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَعَلَّهُ طَلَبَ التَّأْجِيلَ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عَنْ شُبْهَةٍ ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ فِيهَا التَّأَمُّلُ فَقَدَّرْنَاهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) لِمَا ذَكَرْنَا.

وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنْ تَابَ فِي الْحَالِ وَإِلَّا قُتِلَ؛ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِنْظَارٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَهَذَا إنْ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِنْظَارِ فَكَمَذْهَبِنَا، وَالِاسْتِدْلَالُ مُشْتَرَكٌ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَهَذَا كَافِرٌ حَرْبِيٌّ، وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِهِ نَفْيُ اسْتِحْبَابِ الْإِمْهَالِ فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَوَامِرُ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَلَى مَا عُرِفَ، ثُمَّ ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ:(وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ) لَيْسَ بِجَيِّدٍ إذْ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الْإِمْهَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ يُخَالِفُ الْمَذْهَبَ وَيُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ إلَّا إذَا خِيفَ الْفَوَاتُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَوَامِرَ الْمَذْكُورَةَ مُطْلَقَةٌ بَلْ مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ لِلْفَاءِ فِي قَوْلِهِ " فَاقْتُلُوهُ "؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْوَصْلَ وَالتَّعْقِيبَ. قُلْنَا: تِلْكَ الْفَاءُ الْعَاطِفَةُ وَهِيَ فَاءُ السَّبَبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَتُفِيدُ الْوَصْلَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعِلَّةِ. قُلْنَا: الْمَعْلُولُ وَهُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ إيجَابُ قَتْلِهِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ عِلَّتِهِ الْمُثِيرَةِ لَهُ وَهِيَ كُفْرُهُ، وَأَمَّا إيجَابُ الِامْتِثَالِ عَلَى الْفَوْرِ فَشَيْءٌ آخَرُ.

(وَلَا فَرْقَ) فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ (بَيْنَ كَوْنِ الْمُرْتَدِّ حُرًّا أَوْ عَبْدًا) وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ قَتْلُهُ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ (وَإِطْلَاقُ الدَّلَائِلِ)

ص: 69

وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ، وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.

الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (وَكَيْفِيَّةُ تَوْبَتِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ) قِيلَ هُوَ أَنْ يَقُولَ تُبْتُ وَرَجَعْتُ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ. قِيلَ لَكِنْ هَذَا بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَالْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ مُسْتَحَبٌّ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. (وَلَوْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ كَفَاهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ الرَّجُلِ كَيْفَ يُسْلِمُ؟ فَقَالَ: يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ، وَإِنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: وَلَمْ أَدْخُلْ فِي هَذَا الدِّينِ قَطُّ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ: أَيْ مِنْ الدِّينِ الَّذِي ارْتَدَّ إلَيْهِ فَهِيَ تَوْبَةٌ انْتَهَى.

وَقَوْلُهُ: قَطُّ يُرِيدُ بِهِ مَعْنَى أَبَدًا؛ لِأَنَّ قَطُّ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى لَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إسْلَامُ النَّصْرَانِيِّ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتَبَرَّأَ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالْيَهُودِيُّ كَذَلِكَ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ، وَكَذَا فِي كُلِّ مِلَّةٍ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الشَّهَادَتَيْنِ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ خُصُوصَ الرِّسَالَةِ إلَى الْعَرَبِ فَيُصَدِّقُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَتِمُّ الْإِسْلَامُ بِهِ، هَذَا فِيمَنْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ فَقَالَ مُحَمَّدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مُسْلِمٌ، أَوْ قَالَ دَخَلْت فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ دَلِيلُ إسْلَامِهِ، فَكَيْفَ إذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ضِيقًا. وَقَوْلُهُ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَامَ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ الْحَاضِرَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ بِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَتَلْنَاهُ.

وَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ ثَانِيًا قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ أَيْضًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا، إلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ قَالَ: فَإِنْ عَادَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَتُبْ فِي الْحَالِ وَلَا يُؤَجَّلُ، فَإِنْ تَابَ ضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ ثُمَّ يَحْبِسُهُ وَلَا يُخْرِجُهُ حَتَّى يَرَى عَلَيْهِ خُشُوعَ التَّوْبَةِ وَحَالَ الْمُخْلِصِ فَحِينَئِذٍ يُخَلِّي سَبِيلَهُ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَ بِهِ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا دَامَ يَرْجِعُ إلَى الْإِسْلَامِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ أَبَدًا، وَمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مَرْوِيٌّ فِي النَّوَادِرِ قَالَ: إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا ثُمَّ يُحْبَسُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَرُجُوعُهُ انْتَهَى. وَذَلِكَ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ كَرَّرَ رِدَّتَهُ كَالزِّنْدِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَاللَّيْثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} الْآيَةَ. .

قُلْنَا: رَتَّبَ عَدَمَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى شَرْطِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} وَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ: فِي الزِّنْدِيقِ لَنَا

ص: 70

قَالَ (فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ كُرِهَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ) وَمَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ هَاهُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ، وَالْعَرْضُ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ.

(وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْتَلُ لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ فَتُنَاطُ بِهَا عُقُوبَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ وَرِدَّةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُهَا فِيهَا فَتُشَارِكُهَا فِي مُوجِبِهَا.

رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ إذَا صَدَقَ قَبِلَهُ سبحانه وتعالى بِلَا خِلَافٍ، وَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا يُقْتَلُ غِيلَةً، فَسَّرَهُ بِأَنْ يُنْتَظَرَ فَإِذَا أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ الِاسْتِخْفَافُ، وَقَتْلُ الْكَافِرِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ جَائِزٌ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ) أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ (كُرِهَ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ) وَالْقَاطِعِ (لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ) وَكُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ (وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ هُنَا تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ) فَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَعِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْعَرْضِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إذَا فَعَلَ ذَلِكَ: أَيْ الْقَتْلَ أَوْ الْقَطْعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ أُدِّبَ

(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ) وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الضَّرْبَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَيُرْوَى) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا (تُضْرَبُ فِي كُلِّ أَيَّامٍ) وَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِثَلَاثَةٍ، وَعَنْ الْحَسَنِ تُضْرَبُ كُلَّ يَوْمٍ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا إلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تُسْلِمَ وَلَمْ يَخُصَّهُ بِحُرَّةٍ وَلَا أَمَةٍ، وَهَذَا قَتْلٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ مُوَالَاةَ الضَّرْبِ تُفْضِي إلَيْهِ. وَلِذَا قُلْنَا فِيمَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حُدُودٌ: إنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الثَّانِي مَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْحَدِّ السَّابِقِ كَيْ لَا يَصِيرَ قَتْلًا وَهُوَ غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ، ثُمَّ الْأَمَةُ تُدْفَعُ إلَى مَوْلَاهَا فَيُجْعَلُ حَبْسُهَا بِبَيْتِ السَّيِّدِ سَوَاءٌ طَلَبَ هُوَ ذَلِكَ أَمْ لَا فِي الصَّحِيحِ، وَيَتَوَلَّى هُوَ جَبْرَهَا، قَالَ الْمُصَنِّفُ (جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ) يَعْنِي حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ السَّيِّدِ فِي الِاسْتِخْدَامِ فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ لَا فَائِدَةَ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يَبْقَى لِيُمْكِنَ اسْتِخْدَامُهُ، وَلَا تُسْتَرَقُّ الْحُرَّةُ الْمُرْتَدَّةُ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَحِينَئِذٍ تُسْتَرَقُّ إذَا سُبِيَتْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ: تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا. قِيلَ وَلَوْ أَفْتَى بِهَذِهِ لَا بَأْسَ بِهِ فِيمَنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حَسْمًا لِقَصْدِهَا السَّيِّئِ بِالرِّدَّةِ مِنْ إثْبَاتِ الْفُرْقَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَهَا الزَّوْجُ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ يَهَبَهَا الْإِمَامُ لَهُ إذَا كَانَ مَصْرِفًا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالرِّدَّةِ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا الزَّوْجُ فَيَمْلِكُهَا وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِالرِّدَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّى هُوَ حَبْسَهَا وَضَرْبَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيَرْتَدُّ ضَرَرُ قَصْدِهَا عَلَيْهَا.

قِيلَ: وَفِي الْبِلَادِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا التَّتَرُ وَأَجْرَوْا أَحْكَامَهُمْ فِيهَا وَأَبْقَوْا الْمُسْلِمِينَ كَمَا وَقَعَ فِي خُوَارِزْمَ وَغَيْرِهَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الرِّدَّةِ مَلَكَهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ فِي الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ الْإِمَامِ.

وَقَدْ أَفْتَى الدَّبُوسِيُّ وَالصَّفَّارُ وَبَعْضُ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ رَدًّا عَلَيْهَا، وَغَيْرُهُمْ مَشَوْا عَلَى الظَّاهِرِ وَلَكِنْ حَكَمُوا بِجَبْرِهَا عَلَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ مَعَ الزَّوْجِ؛ وَتُضْرَبُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَاخْتَارَهُ قَاضِي خَانْ لِلْفَتْوَى، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ (لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. قَالَ (وَلِأَنَّ رِدَّةَ الرَّجُلِ مُبِيحَةٌ لِلْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ مُتَغَلَّظَةٌ) هِيَ جِنَايَةُ الْكُفْرِ (وَجِنَايَةُ الْمَرْأَةِ تُشَارِكُهَا فِيهَا فَتُشَارِكُهَا فِي مُوجِبِهَا)

ص: 71

وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَأْخِيرُ الْأَجْزِيَةِ إلَى دَارِ الْآخِرَةِ إذْ تَعْجِيلُهَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْهُ دَفْعًا لِشَرٍّ نَاجِزٍ وَهُوَ الْحِرَابُ، وَلَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ مِنْ النِّسَاءِ؛ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْبِنْيَةِ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَصَارَتْ الْمُرْتَدَّةُ كَالْأَصْلِيَّةِ قَالَ (وَلَكِنْ تُحْبَسُ حَتَّى تُسْلِمَ)؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ إيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَتُجْبَرُ عَلَى إيفَائِهِ بِالْحَبْسِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً.

وَهُوَ الْقَتْلُ وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا مُطْلَقٌ يَعُمُّ الْكَافِرَةَ أَصْلِيًّا وَعَارِضًا، وَثَبَتَ تَعْلِيلُهُ صلى الله عليه وسلم بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ عَدَمِ حِرَابِهَا فَكَانَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ مَا رَوَاهُ بَعْدُ أَنَّ عُمُومَهُ مُخَصَّصٌ بِمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ مِنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْمَعْنَى بَعْدَ هَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَجْزِيَةِ بِأَنْ تَتَأَخَّرَ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا الْمَوْضُوعَةُ لِلْأَجْزِيَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَوْضُوعَةِ هَذِهِ الدَّارُ لَهَا، فَهَذِهِ دَارُ أَعْمَالٍ وَتِلْكَ دَارُ جَزَائِهَا، وَكُلُّ جَزَاءٍ شُرِعَ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَا هُوَ إلَّا لِمَصَالِحَ تَعُودُ إلَيْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ كَالْقِصَاصِ وَحْدِ الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ شُرِعَتْ لِحِفْظِ النُّفُوسِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ أَنْ يَكُونَ لِدَفْعِ شَرِّ حِرَابِهِ لَا جَزَاءٍ عَلَى فِعْلِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ جَزَاءَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْحِرَابُ وَهُوَ الرَّجُلُ، وَلِهَذَا «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُقَاتِلُ عَلَى مَا صَحَّ مِنْ الْحَدِيثِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: لَوْ كَانَتْ الْمُرْتَدَّةُ ذَاتَ رَأْيٍ وَتَبَعٍ تُقْتَلُ لَا لِرِدَّتِهَا بَلْ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَإِنَّمَا حُبِسَتْ (لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ عَنْ أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَقَرَّتْ بِهِ فَتُحْبَسُ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ).

وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَا تُقْتَلْ

ص: 72

وَالْأَمَةُ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا) أَمَّا الْجَبْرُ فَلِمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ الْمَوْلَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَيُرْوَى تُضْرَبُ فِي كُلِّ أَيَّامٍ مُبَالَغَةً فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِسْلَامِ.

قَالَ (وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْوَالِهِ بِرِدَّتِهِ زَوَالًا مُرَاعًى،

النِّسَاءُ إذَا هُنَّ ارْتَدَدْنَ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ يُحْبَسْنَ وَيُدْعَيْنَ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ. وَفِي بَلَاغَاتِ مُحَمَّدٍ قَالَ: بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْإِسْلَامِ حُبِسَتْ. وَأَمَّا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ رَجَعَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ» فَمُضَعَّفٌ بِمَعْمَرِ بْنِ بَكَّارَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ وَلَمْ يُسَمِّ الْمَرْأَةَ، وَزَادَ:«فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ أَنْ تُسْلِمَ فَقُتِلَتْ» وَهُوَ ضَعِيفٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُذَيْنَةَ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بِحَالٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ: إنَّهُ مَتْرُوكٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُطَارِدٍ بْنِ أُذَيْنَةَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عَائِشَةَ «ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَمَرَ عليه الصلاة والسلام أَنْ تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ» وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالُوا فِيهِ: إنَّهُ يَضَعُ الْحَدِيثَ مَعَ أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلِهَا، وَأَمْثَلُ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُقْتَلْ الْمَرْأَةُ إذَا ارْتَدَّتْ» وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْسٍ الْجَزَرِيُّ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَّابٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ارْتَدَّتْ فَلَمْ يَقْتُلْهَا» وَضَعَّفَهُ بِحَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا هُرْمُزُ بْنُ مُعَلَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْفَزَارِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ، فَإِنْ تَابَ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا، فَإِنْ تَابَتْ فَاقْبَلْ مِنْهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَاسْتَتِبْهَا» وَتَقَدَّمَ رِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَمَا أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الثَّوْرِيُّ يَعِيبُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثًا كَانَ يَرْوِيهِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ النَّخَعِيِّ عَنْ عَاصِمٍ بِهِ فَزَالَ انْفِرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي ادَّعَاهُ الثَّوْرِيُّ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ " أَنَّهُ أَمَرَ فِي أُمِّ وَلَدٍ تَنَصَّرَتْ أَنْ تُبَاعَ فِي أَرْضٍ ذَاتِ مُؤْنَةٍ عَلَيْهَا وَلَا تُبَاعُ فِي أَهْلِ دِينِهَا فَبِيعَتْ فِي دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِهَا " وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: " الْمُرْتَدَّةُ تُسْتَتَابُ وَلَا تُقْتَلُ " وَضُعِّفَ بِخِلَاسٍ.

(قَوْلُهُ: وَيَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ أَمْلَاكِهِ زَوَالًا مُرَاعًى) أَيْ مَوْقُوفًا غَيْرَ بَاتٍّ فِي الْحَالِ

ص: 73

فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ عَلَى حَالِهَا، قَالُوا: هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ)؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ، فَإِلَى أَنْ يُقْتَلَ يَبْقَى مِلْكُهُ كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ. وَلَهُ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا حَتَّى يُقْتَلَ، وَلَا قَتْلَ إلَّا بِالْحِرَابِ، وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَيُرْجَى عَوْدُهُ إلَيْهِ فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَيَعْمَلُ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَزَالَ مِلْكُهُ.

فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ أَمْوَالُهُ عَلَى حَالِهَا) الْأَوَّلِ (وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحَكَمَ) الْحَاكِمُ (بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ فَعَمِلَ السَّبَبُ) وَهُوَ كَوْنُهُ كَافِرًا حَرْبِيًّا (عَمَلَهُ) مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الرِّدَّةِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ مِلْكُهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْبَيْعِ، وَجَعْلُهُ كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِلْكٌ بَاتٌّ ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِالْخِيَارِ شَرْعًا كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ حِينَ وَرَدَ عَلَيْهِ أَنْ لَا مَعْنَى لِلزَّوَالِ الْمُرَاعَى وَالْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَزُولَ أَوْ لَا فَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَزُولُ ثُمَّ يَعُودُ بِالْإِسْلَامِ وَهَذَا لَيْسَ وَاقِعًا، وَإِلَّا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى مَا قَبْلَهُ كَالْمِلْكِ الرَّاجِعِ بِالرُّجُوعِ (قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ مِلْكُهُ) وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَقَوْلُهُمَا قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ.

وَجْهُهُ (أَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ) وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ التَّكْلِيفِ إلَّا بِمَالِهِ، وَأَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إبَاحَةِ دَمِهِ لَا فِي زَوَالِ مِلْكِهِ، فَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ يَبْقَى مِلْكُهُ وَصَارَ (كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ) لَا يَزُولُ مِلْكُهُ مَا لَمْ يُقْتَلْ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا إلَى أَنْ يُقْتَلَ) وَالْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعِصْمَةِ، وَكَوْنُهُ حَرْبِيًّا (يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ) وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَزُولَ فِي الْحَالِ عَلَى الْبَتَاتِ (إلَّا أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُرْجَى عَوْدُهُ إلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ دَخَلَهُ وَعَرَفَ مَحَاسِنَهُ وَأَنِسَ بِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ حِفْظَهُ عَلَيْنَا إلَى الْجَنَّةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ عَوْدُهُ إلَى الْإِسْلَامِ. (فَتَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ) وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ (وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ) عَمَلَهُ، وَإِنْ ثَبَتَ مِنْهُ أَحَدُ مَا قُلْنَا عَمِلَ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ، وَلَا

ص: 74

قَالَ (وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ انْتَقَلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَيْئًا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: كِلَاهُمَا لِوَرَثَتِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كِلَاهُمَا فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، ثُمَّ هُوَ مَالُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا. وَلَهُمَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْكَسْبَيْنِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ إذْ الرِّدَّةُ سَبَبُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ.

يَخْفَى أَنَّ الْحِرَابَةَ لَا تُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمِلْكِ بَلْ زَوَالَ الْعِصْمَةِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ يَمْلِكُ غَيْرَ أَنَّ مَمْلُوكَهُ لَا عِصْمَةَ لَهُ، فَإِذَا اُسْتُوْلِيَ عَلَيْهِ زَالَ مِلْكُهُ، فَكَوْنُ الْمُرْتَدِّ حَرْبِيًّا قُصَارَى مَا يَقْتَضِي زَوَالَ عِصْمَةِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ تَبَعًا، وَهُوَ لَا يَنْفِي قِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ فَلَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالزَّوَالِ مُسْتَنِدًا، وَلِهَذَا زَادَ قَوْلَهُ: مَقْهُورًا تَحْتَ أَيْدِينَا فَيَكُونُ مَالُهُ مُسْتَوْلًى عَلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُرَادِ أَنَّ بِالرِّدَّةِ يَزُولُ مِلْكُهُ زَوَالًا بَاتًّا، فَإِنْ اسْتَمَرَّ حَتَّى مَاتَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِاللَّحَاقِ اسْتَمَرَّ بِالزَّوَالِ الثَّابِتِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ، وَإِنْ عَادَ عَادَ الْمِلْكُ وَهُمَا هَرَبًا مِنْ الْحُكْمِ بِالزَّوَالِ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ، فَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الرِّدَّةَ لَمَّا اقْتَضَتْ الزَّوَالَ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ إنْ عَادَ وَمَالُهُ قَائِمٌ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا فَيَقُولُ بِالرِّدَّةِ يَزُولُ، ثُمَّ بِالْعَوْدِ يَعُودُ شَرْعًا، هَذَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى عَدَمِ زَوَالِ مِلْكِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَعَلَ تَصَرُّفَهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَتَصِيرُ تَبَرُّعَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَجَعَلَهُ مُحَمَّدٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فَتُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّلَفِ فَهُوَ أَسْوَأُ مِنْ الْمَرِيضِ حَالًا، وَأَبُو يُوسُفَ يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ: الْمُرْتَدُّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمَرِيضُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ حُكِمَ بِلَحَاقِهِ انْتَقَلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي إسْلَامِهِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَيْئًا) لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: كِلَا الْكَسْبَيْنِ لِوَرَثَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: (كِلَاهُمَا فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ) إجْمَاعًا (فَبَقِيَ مَالَ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ) لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ (فَيَكُونُ فَيْئًا. وَلَهُمَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْكَسْبَيْنِ بَعْدَ الرِّدَّةِ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) مِنْ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ إلَى آخِرِهِ (فَيَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ إذْ الرِّدَّةُ سَبَبُ الْمَوْتِ فَيَكُونُ تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ) وَهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى الشَّافِعِيِّ إلَّا إذَا بَيَّنَّا عِلِّيَّةَ الِاسْتِنَادِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَخْذَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ، وَهُوَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِاسْتِنَادِهِ شَرْعًا إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ وَإِلَّا كَانَ تَوْرِيثَ الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ إسْلَامٌ.

أَوْ نَقُولُ: اسْتِحْقَاقُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَالْوَرَثَةُ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَتَرَجَّحُوا بِجِهَةِ الْقَرَابَةِ فَكَانُوا كَقَرَابَةٍ ذَاتِ جِهَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَرَابَةٍ ذَاتِ جِهَةٍ كَالْأَخِ الشَّقِيقِ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ قَالَ تَعَالَى:

ص: 75

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ لِعَدَمِهِ قَبْلَهَا وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُهُ، ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ وَبَقِيَ وَارِثًا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلِاسْتِنَادِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الرِّدَّةِ، وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) مَا قَالَاهُ فِي وَجْهِ التَّوْرِيثِ إلَّا (أَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ) وَهِيَ الْمَوْتُ فَيَسْتَنِدُ الْإِرْثُ إلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ قُلْت إنَّ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ زَالَ مِلْكُهُ، فَمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يَقَعُ مَمْلُوكًا لَهُ لِيُمْكِنَ اسْتِنَادُ التَّوْرِيثِ فِيهِ إلَى مَا قُبَيْلَ مَوْتِهِ الْحُكْمِيِّ: أَعْنِي الرِّدَّةَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُورَثُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا فِي تَوْرِيثِ كَسْبِ الرِّدَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ الْخِلَافِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ تَزُولُ أَمْلَاكُهُ بِالرِّدَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَزُولُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ أَوْ الْحُكْمِيُّ بِاللَّحَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، ثُمَّ إذَا تَحَقَّقَ الْمَوْتُ وَقُلْنَا بِوُجُوبِ إرْثِهِمْ إيَّاهُ.

وَالْفَرْضُ أَنَّ لَهُ مَالًا مَمْلُوكًا فَلَا بُدَّ مِنْ إرْثِهِمْ لَهُ وَإِرْثُهُمْ يَسْتَدْعِي اسْتِنَادَهُ إلَى مَا قُبَيْلَ رِدَّتِهِ فَيَلْزَمُ بِالضَّرُورَةِ اعْتِبَارُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ مَوْجُودًا قَبْلَهَا حُكْمًا لِوُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ نَفْسُ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حِسًّا وَقْتَئِذٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ إنَّمَا يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ حَالَةَ الرِّدَّةِ) بِأَنْ كَانَ حُرًّا مُسْلِمًا (وَبَقِيَ كَذَلِكَ إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ) أَوْ لَحَاقِهِ (فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) رَوَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَهَذَا لِاعْتِبَارِ الِاسْتِنَادِ فِي الْإِرْثِ، فَإِنَّ الْمُسْتَنِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَيَجِبُ أَنْ يُصَادِفَ عِنْدَ ثُبُوتِهِ مَنْ هُوَ بِصِفَةِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ وَكَذَا عِنْدَ اسْتِنَادِهِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ أَوْ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. (وَعَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ الرِّدَّةِ) فَقَطْ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ بَقَائِهِ بِالصِّفَةِ إلَى الْمَوْتِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ (فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ) أَيْ اسْتِحْقَاقُ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ الرِّدَّةِ بِعُرُوضِ مَوْتِ ذَلِكَ الْوَارِثِ أَوْ رِدَّتِهِ بَعْدَ رِدَّةِ أَبِيهِ (بَلْ) إذَا مَاتَ أَوْ ارْتَدَّ (يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ) وَهُوَ وَارِثُ الْوَارِثِ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَوَّلَ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُهَا لِاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ (وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ عِنْدَ الْمَوْتِ) وَاللَّحَاقِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْهُ.

قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا أَصَحُّ

ص: 76

لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الرِّدَّةِ.

لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَالْحَادِثِ قَبْلَ انْعِقَادِهِ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَقِيَ الثَّمَنُ كُلُّهُ عَلَى الْبَائِعِ، فَلَوْ كَانَ مَنْ بِحَيْثُ يَرِثُهُ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا يَوْمَ ارْتَدَّ فَعَتَقَ بَعْدَ الرِّدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يَلْحَقَ أَوْ أَسْلَمَ وَرِثَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، إلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ حَكَى بَيْنَهُمَا خِلَافًا فِي اللَّحَاقِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ حَالُ الْوَارِثِ يَوْمَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمِ اللَّحَاقِ لَا الْحُكْمِ.

وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَارِضَ يَعْنِي الرِّدَّةَ مُتَصَوَّرٌ زَوَالُهُ فَتَوَقَّفَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ عَلَى الْقَضَاءِ. وَوَجْهُ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّحَاقَ تَزُولُ بِهِ الْعِصْمَةُ وَالْأَمَانُ وَالذِّمَّةُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ وَفَاءً فَتُؤَدَّى الْكِتَابَةُ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ وَارِثِهِ يَوْمَ مَاتَ لَا حَالُ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ. وَجَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اللَّحَاقَ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْمَوْتِ الْمَأْيُوسِ عَنْ ارْتِفَاعِهِ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ بِهِ بِلَا قَضَاءٍ، بَلْ فِي حُكْمِهِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِنَا عَنْهُ وَأَحْكَامِنَا، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ أَحْكَامُ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَتَأَكَّدَ وَذَلِكَ بِالْحُكْمِ بِهِ.

(قَوْلُهُ: وَتَرِثُهُ امْرَأَتُهُ) أَيْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ (إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ) أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ (وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الرِّدَّةِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ الْمَوْتِ، وَهِيَ بِاخْتِيَارِهِ أَشْبَهَتْ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَهُوَ يُوجِبُ الْإِرْثَ إذَا مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ فَارٌّ، وَلَوْ كَانَ وَقْتَ الرِّدَّةِ مَرِيضًا فَلَا إشْكَالَ فِي إرْثِهَا. وَقَدْ يُقَالُ كَوْنُ الرِّدَّةِ تُشْبِهُ الطَّلَاقَ قُصَارَاهَا أَنْ يُجْعَلَ بِالرِّدَّةِ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا وَالْفَرْضُ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَطَلَاقُ الصَّحِيحِ لَا يُوجِبُ حُكْمَ الْفِرَارِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ بِالرِّدَّةِ كَأَنَّهُ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ بِاخْتِيَارِهِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ثُمَّ هُوَ بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ مُخْتَارًا فِي الْإِصْرَارِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ حَتَّى قُتِلَ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلِّقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَمُوتُ قَتْلًا أَوْ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِلَحَاقِهِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ.

وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَرِثُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَارِثَةً عِنْدَ رِدَّتِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى رِوَايَةِ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّحَقُّقِ بِصِفَةِ الْوَارِثِ حَالَ الرِّدَّةِ فَقَطْ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ، وَمَا فِي الْكِتَابِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ مِنْ اعْتِبَارِهِ وَبَقَائِهِ بِالصِّفَةِ إلَى الْمَوْتِ، أَوْ عَلَى رِوَايَةِ اعْتِبَارِهِ

ص: 77

وَالْمُرْتَدَّةُ كَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْفَيْءِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إنْ ارْتَدَّتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ لِقَصْدِهَا إبْطَالَ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَا يَرِثُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُ بِمَالِهَا بِالرِّدَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ.

قَالَ: (وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ

وَقْتَ مَوْتِهِ فَقَطْ. هَذَا وَاشْتِرَاطُ قِيَامِ الْعِدَّةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ فَلَا تَرِثُ غَيْرُ الْمَدْخُولَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ تَبِينُ غَيْرُ الْمَدْخُولَةِ لَا إلَى عِدَّةٍ فَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الرِّدَّةُ مَوْتًا حَقِيقِيًّا حَتَّى أَنَّ الْمَدْخُولَةَ إنَّمَا تَعْتَدُّ فِيهَا بِالْحَيْضِ لَا الْأَشْهُرِ لَمْ يَنْتَهِضْ سَبَبًا لِلْإِرْثِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ لَحَاقِهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ وَإِنْ اسْتَنَدَ إلَى الرِّدَّةِ لَكِنْ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَبِهَذَا أَيْضًا لَا تَرِثُ الْمُنْقَضِيَةُ عِدَّتُهَا.

(قَوْلُهُ: وَالْمُرْتَدَّةُ كَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حِرَابَ مِنْهَا) إذْ الْمَرْأَةُ لَا حِرَابَ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ كَافِرَةً أَصْلِيَّةً أَوْ صَارَتْ كَافِرَةً (فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْفَيْءِ) وَهُوَ سُقُوطُ عِصْمَةِ نَفْسِهَا الْمُسْتَتْبِعَةِ لِسُقُوطِ عِصْمَةِ مَالِهَا فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْ كَسْبَيْ إسْلَامِهَا وَرِدَّتِهَا عَلَى مِلْكِهَا فَيَرِثُهُمَا وَرَثَتُهَا (بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) فَإِنَّ كَسْبَهُ فِي الرِّدَّةِ فَيْءٌ لِكَوْنِهِ مُحَارِبًا فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ بِاللَّحَاقِ فَلَا يَمْلِكُهُ لِكَوْنِهِ مَالَ حَرْبِيٍّ مَقْهُورٍ تَحْتَ أَيْدِينَا فَلَا يُورَثُ (قَوْلُهُ: وَيَرِثُهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ إذَا كَانَتْ ارْتَدَّتْ، وَهِيَ مَرِيضَةٌ) فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَ ذَلِكَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهَا قَصَدَتْ الْفِرَارَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ بَعْدَمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِمَالِهَا بِسَبَبِ مَرَضِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّتْ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهَا بِرِدَّتِهَا هَذِهِ لَمْ تُبْطِلْ لَهُ حَقًّا مُتَعَلِّقًا بِمَالِهَا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ فِيهِ جَعْلُ رِدَّتِهَا كَطَلَاقِهِ فَرِدَّتُهَا فِي مَرِضَةِ كَطَلَاقِهِ فِي مَرَضِهِ، وَرِدَّتُهَا فِي صِحَّتِهَا كَطَلَاقِهِ فِي صِحَّتِهِ، وَبِهِ لَا يَكُونُ فَارًّا إذَا عَرَضَ لَهُ مَوْتٌ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، بِخِلَافِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَإِنَّ بِرِدَّتِهِ فِي صِحَّتِهِ تَرِثُ إذَا عَرَضَ لَهُ مَوْتٌ، فَلَوْ جُعِلَتْ رِدَّتُهُ كَطَلَاقِهِ بَائِنًا كَانَ مُطَلِّقًا فِي صِحَّتِهِ، وَعُرُوضُ الْمَوْتِ لِلْمُطَلِّقِ فِي صِحَّتِهِ لَا يُوجِبُ لَهُ حُكْمَ الْفِرَارِ، فَلِذَا جَعَلْنَا رِدَّتَهُ كَمُبَاشَرَتِهِ لِسَبَبِ مَرَضِ مَوْتِهِ ثُمَّ بِإِصْرَارِهِ جُعِلَ مُطَلِّقًا فِي مَرَضِهِ فَإِذَا مَاتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْفِرَارِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتْ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ

ص: 78

الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَنُقِلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ إلَى وَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْقَى مَالُهُ مَوْقُوفًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ غَيْبَةٍ فَأَشْبَهَ الْغَيْبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَنَا أَنَّهُ بِاللَّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ كَمَا هِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْمَوْتَى فَصَارَ كَالْمَوْتِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لَحَاقُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَيْنَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ مَوْتُهُ ثَبَتَتْ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهَا كَمَا فِي الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ لَحَاقِهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ هُوَ السَّبَبُ وَالْقَضَاءُ

وَنُقِلَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ) بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَكَذَا مَا اكْتَسَبَهُ فِي أَيَّامِ رِدَّتِهِ عَلَى قَوْلِهِمَا كَمَا مَرَّ وَلَا يُفْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مُقِيمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَا أَوْصَى بِهِ فِي حَالِ إسْلَامِهِ فَالْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا تَبْطُلُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ وَغَيْرُ قُرْبَةٍ وَمِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ.

وَذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ أَنَّ الْإِطْلَاقَ قَوْلُهُ. وَقَوْلُهُمَا: إنَّ الْوَصِيَّةَ بِغَيْرِ الْقُرْبَةِ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ لِبَقَاءِ الْوَصِيَّةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ، وَابْتِدَاءُ الْوَصِيَّةِ بِغَيْرِ الْقُرْبَةِ بَعْدَ الرِّدَّةِ عِنْدَهُمَا تَصِحُّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَتَوَقَّفُ فَكَذَا هُنَا. قِيلَ وَأَرَادَ بِالْوَصِيَّةِ بِغَيْرِ الْقُرْبَةِ الْوَصِيَّةَ لِلنَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا تَبْطُلُ فِيمَا لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَحُمِلَ إطْلَاقُ مُحَمَّدٍ لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَصِيَّةٍ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهَا. وَوَجْهُ الْبُطْلَانِ مُطْلَقًا أَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِحَقِّ الْمَيِّتِ، وَلَا حَقَّ لَهُ بَعْدَمَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَكَانَ رِدَّتُهُ كَرُجُوعِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَبْطُلُ مَا لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعِتْقِ ثَبَتَ لِلْمُدَبَّرِ، وَبِهَذَا عُرِفَ مَعْنَى تَقْيِيدِ الطَّحَاوِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.

(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: (يَبْقَى مَالُهُ مَوْقُوفًا) وَيَحْفَظُهُ الْحَاكِمُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ مَوْتُهُ ثَمَّةَ أَوْ يَعُودُ مُسْلِمًا فَيَأْخُذَهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ اللَّحَاقَ نَوْعُ غَيْبَةٍ فَأَشْبَهَ الْغَيْبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ عِنْدَهُمْ وَاحِدَةٌ (وَلَنَا أَنَّهُ بِاللَّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ إلْزَامِ أَحْكَامِهِ عَنْهُمْ كَمَا هِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْمَوْتَى) بِخِلَافِ الْغَيْبَةِ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَوِلَايَةَ إلْزَامِنَا ثَابِتَةٌ فِيهَا فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ، وَإِذَا صَارَ اللَّحَاقُ كَالْمَوْتِ لَا أَنَّهُ حَقِيقَةُ الْمَوْتِ لَا يَسْتَقِرُّ حَتَّى يَقْضِيَ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصَّحِيحِ، لَا أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَيْءٍ مِنْهَا يَكْفِي بَلْ يَسْبِقُ الْقَضَاءُ بِاللَّحَاقِ ثُمَّ تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ، وَلِكَوْنِهَا كَالْمَوْتِ قُلْنَا: إذَا لَحِقَتْ الْحَرْبِيَّةُ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقَّ الزَّوْجِ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مُنَافٍ لَهُ، وَلَوْ سُبِيَتْ أَوْ عَادَتْ مُسْلِمَةً لَمْ يَضُرَّ نِكَاحُ أُخْتِهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ أَنْ سَقَطَتْ لَا تَعُودُ (ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ الْوَارِثِ وَارِثًا عِنْدَ اللَّحَاقِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ، وَالْقَضَاءُ إنَّمَا

ص: 79

لِتَقَرُّرِهِ بِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَقْتَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَوْتًا بِالْقَضَاءِ، وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. .

(وَتُقْضَى الدُّيُونُ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، وَمَا لَزِمَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ الدُّيُونِ يُقْضَى مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعَنْهُ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ وَعَنْهُ عَلَى عَكْسِهِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ مُخْتَلِفٌ. وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيُقْضَى كُلُّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ.

وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ مِلْكُهُ حَتَّى يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ، وَمِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ الْفَرَاغُ عَنْ حَقِّ الْمُوَرِّثِ

لَزِمَ لِتَقَرُّرِهِ بِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ) أَيْ احْتِمَالِ عَوْدِهِ: أَيْ اللَّحَاقُ لَا يُوجِبُ أَحْكَامَ الْمَوْتِ إلَّا إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا وَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَبِالْقَضَاءِ بِهِ يَتَقَرَّرُ. (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا (وَقْتَ الْقَضَاءِ) حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْ بِحَيْثُ يَرِثُ وَقْتَ الرِّدَّةِ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا وَوَقْتَ الْقَضَاءِ مُسْلِمًا مُعْتَقًا وَرِثَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهَذَا (لِأَنَّهُ) أَيْ اللَّحَاقَ إنَّمَا (يَصِيرُ مَوْتًا بِالْقَضَاءِ)؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ غَيْبَةً فَتَقَرُّرُهَا بِالْقَضَاءِ بِهِ، وَبِتَقَرُّرِهِ يَصِيرُ مَوْتًا وَالْإِرْثُ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَدَّمْنَا تَمَامَ وَجْهَيْ الْقَوْلَيْنِ (وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) فِي الْمُرْتَدِّ وَعَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ عِتْقِ مُدَبَّرِيهَا وَحُلُولِ دُيُونِهَا.

(قَوْلُهُ: وَتُقْضَى دُيُونُهُ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، وَدُيُونُهُ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ) وَعَلَى هَذَا فَإِنْ فَضَلَ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ عَنْ دُيُونِ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ وَرِثَتْهُ الْوَرَثَةُ وَإِلَّا لَا يَرِثُونَ شَيْئًا، وَلَوْ فَضَلَ عَنْ دُيُونِ الرِّدَّةِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُورَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ كَسْبُ الرِّدَّةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَهَذَا التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) قِيلَ رَوَاهَا زُفَرُ عَنْهُ، وَلَمْ يَنْسُبْ الْكَرْخِيُّ هَذَا إلَى أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ قَالَ: وَقَالَ زُفَرُ وَالْحَسَنُ: مَا لَحِقَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ إلَى آخِرِهِ (وَعَنْهُ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ) فَيُقْضَى مِنْهُ الدَّيْنَانِ جَمِيعًا، فَإِنْ وَفَّى فَكَسْبُ الرِّدَّةِ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَرِثُ الْوَرَثَةُ شَيْئًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ عَنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ عَنْ الدَّيْنَيْنِ (فَإِنْ لَمْ يَفِ كُمِّلَ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ) وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ (وَعَنْهُ عَلَى عَكْسِهِ) وَهُوَ أَنْ يُقْضَى الدَّيْنَانِ جَمِيعًا مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ، فَإِنْ وَفَّى بِالدُّيُونِ وَرِثَتْ الْوَرَثَةُ كَسْبَ الْإِسْلَامِ كُلَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ كُمِّلَ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَوَرِثَتْ الْوَرَثَةُ مَا فَضَلَ إنْ فَضَلَ شَيْءٌ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ (وَجْهُ الْأَوَّلِ) وَهُوَ التَّفْصِيلُ (أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبَيْنِ) وَهُوَ دَيْنُ الْإِسْلَامِ وَدَيْنُ الرِّدَّةِ (مُخْتَلِفٌ، وَحُصُولُ كُلٍّ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيُقْضَى كُلُّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ؛ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ. وَجْهُ الثَّانِي) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ (أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ مِلْكُهُ حَتَّى يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ، وَمِنْ شُرُوطِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ الْفَرَاغُ عَنْ حَقِّ الْمُوَرِّثِ) وَهُوَ مِقْدَارُ

ص: 80

فَيُقَدَّمُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ، أَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ؛ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عِنْدَهُ فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْهُ، كَالذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ يَكُونُ مَالُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُقْضَى مِنْهُ كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَسْبَ الرِّدَّةِ خَالِصُ حَقِّهِ، فَكَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ أَوْلَى إلَّا إذَا تَعَذَّرَ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيمًا لِحَقِّهِ.

مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ (فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ) مُطْلَقًا (عَلَيْهِ أَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَلَيْسَ مَمْلُوكًا لَهُ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ، إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْهُ) فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقْضَى مِنْهُ وَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ بَلْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ أَجَابَ فَقَالَ: لَا بُعْدَ فِي هَذَا (فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ يَكُونُ مَالُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ) وَمَعَ ذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُقْضَى مِنْهُ أَوَّلًا وَمَا فَضَلَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ (فَكَذَلِكَ هَاهُنَا) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَعَلَى هَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ وَقَضَاءِ الدِّينِ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ.

(وَجْهُ الثَّالِثِ) وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَسْبَ الرِّدَّةِ خَالِصُ حَقِّهِ) بِمَعْنَى أَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَمَا يَتَعَلَّقُ فِي مَالِ الْمَرِيضِ، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ أَمْلَاكَهُ تَزُولُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِصَ حَقِّهِ كَوْنَهُ مِلْكًا لَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ خَالِصُ حَقَّهُ وَلَيْسَ مِلْكَهُ، وَإِذَا كَانَ خَالِصَ حَقِّهِ (كَانَ قَضَاءُ دَيْنِهِ مِنْهُ أَوْلَى، إلَّا إذَا لَمْ يَفِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَقْدِيمًا لِحَقِّهِ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَعَلَى هَذَا نَقُولُ عَقْدُ الرَّهْنِ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِذَا قَضَى دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ أَوْ رَهْنَهُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ فَعَلَ عَيْنَ مَا كَانَ يَحِقُّ فِعْلُهُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ رِوَايَاتٍ عَنْ

ص: 81

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ الْكَسْبَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ حَتَّى يَجْرِيَ الْإِرْثُ فِيهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: (وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّتْ عُقُودُهُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ مَا صَنَعَ فِي الْوَجْهَيْنِ. اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَقْسَامٍ: نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَتَمَامِ الْوِلَايَةِ. وَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ.

أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ قُضِيَ مِنْهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ الْكَسْبَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ عِنْدَهُمَا) حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِمَا الْإِرْثُ.

(قَوْلُهُ: وَمَا بَاعَهُ) الْمُرْتَدُّ (أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ رَهَنَهُ إلَى آخِرِهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَقْسَامٍ: نَافِذَةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فِي الِاسْتِيلَادِ، وَلَا إلَى تَمَامِ الْوِلَايَةِ) فِي الطَّلَاقِ، فَإِنَّ الِاسْتِيلَادَ يَصِحُّ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ وَحَقُّ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ أَقْوَى مِنْ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ، وَلِذَا تَصِحُّ دَعْوَى الْمَوْلَى وَلَدَ أَمَةِ مُكَاتَبِهِ وَحَقُّ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَوْقُوفٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، حَتَّى إذَا أَسْلَمَ كَانَ لَهُ بِلَا سَبَبٍ جَدِيدٍ وَلَا مِلْكَ لِلْأَبِ وَالْمَوْلَى فِيهِمَا، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ مِنْ الْعَبْدِ مَعَ قُصُورِ وِلَايَتِهِ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ بِالرِّدَّةِ تَحَقَّقَتْ الْفُرْقَةُ فَكَيْفَ يَقَعُ الطَّلَاقُ.

أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ امْتِنَاعُ الطَّلَاقِ، وَقَدْ سَلَفَ أَنَّ الْمُبَانَةَ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَصَرَّحَ فِي الْمُحِيطِ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِالرِّدَّةِ مِنْ قَبِيلِ الْفُرْقَةِ الَّتِي يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَعَ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تَلْزَمُهَا الْفُرْقَةُ كَمَا لَوْ ارْتَدَّا مَعًا، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ وَقَبُولُ الْهِبَةِ وَالْحَجْرُ عَلَى عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبْنَى عَلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ (وَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ

ص: 82

وَمَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ مَا لَمْ يُسْلِمْ. وَمُخْتَلَفٌ فِي تَوَقُّفِهِ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ. لَهُمَا أَنَّ الصِّحَّةَ تَعْتَمِدُ الْأَهْلِيَّةَ وَالنَّفَاذَ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، وَلَا خَفَاءَ فِي وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا، وَكَذَا الْمِلْكُ لِقِيَامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلِهَذَا لَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ يَرِثُهُ وَلَوْ مَاتَ وَلَدُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَا يَرِثُهُ فَتَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ.

إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهُ إلَى الْإِسْلَامِ، إذْ الشُّبْهَةُ تُزَاحُ فَلَا يُقْتَلُ وَصَارَ كَالْمُرْتَدَّةِ.

مُقِرٍّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ دِينٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، كَالشِّرْكِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مِلَّةَ لَهُ، وَهَذَا حَاصِلُ مَا فَسَّرَ بِهِ ظَهِيرُ الدِّينِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ الَّتِي يَدِينُونَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ التَّوَارُثُ وَالتَّنَاسُلُ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَتَحَقَّقُ فِي نِكَاحِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ حَيًّا وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ إرْثُهُ، وَأَمَّا الْإِرْثُ مِنْهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ (وَمَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُفَاوَضَةِ مَعَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ) بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ.

(وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ) فَيَتَوَقَّفُ عَقْدُ الْمُفَاوَضَةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ قُضِيَ بِلَحَاقِهِ بَطَلَتْ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ تَصِيرُ عِنَانًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَبْطُلُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ فِي الْعِنَانِ وَكَالَةً، وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ (وَمُخْتَلَفٌ فِي تَوَقُّفِهِ وَهُوَ مَا عَدَدْنَاهُ) مِنْ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ وَرَهْنِهِ وَمِنْهُ الْكِتَابَةُ وَقَبْضُ الدُّيُونِ وَالْإِجَارَةُ، وَالْوَصِيَّةُ عِنْدَهُ هِيَ مَوْقُوفَةٌ إنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بَطَلَتْ (لَهُمَا أَنَّ الصِّحَّةَ) لِلْمُعَامَلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (تَعْتَمِدُ الْأَهْلِيَّةَ) لَهَا (وَالنَّفَاذُ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ وَلَا خَفَاءَ فِي وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا) بِالْإِيمَانِ، وَكَذَا قَتْلُهُ فَرْعُ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا (وَكَذَا مِلْكُهُ لِقِيَامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ إلَى آخِرِهِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ كَوْنَ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ بَاقِيًا أَنَّهُ لَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ أَمَةٍ مُسْلِمَةٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَرِثَهُ، فَلَوْ كَانَ مِلْكُهُ زَائِلًا لَمْ يَرِثْهُ هَذَا الْوَلَدُ، وَلَوْ أَنَّ وَلَدَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ مَاتَ بَعْدَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ وَلَحَاقِهِ لَا يَرِثُهُ.

وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا وَأَهْلِيَّتُهُ نَفَذَتْ تَصَرُّفَاتُهُ عِنْدَهُمَا (إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الصَّحِيحِ) مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهُ إلَى الْإِسْلَامِ إذْ الشُّبْهَةُ تُزَاحُ فَلَا يُقْتَلُ) فَلَا يَكُونُ كَالْمَرِيضِ

ص: 83

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ مَنْ انْتَحَلَ إلَى نِحْلَةٍ لَا سِيَّمَا مُعْرِضًا عَمَّا نَشَأَ عَلَيْهِ قَلَّمَا يَتْرُكُهُ فَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَوَقُّفِ الْمِلْكِ وَتَوَقُّفُ التَّصَرُّفَاتِ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَصَارَ كَالْحَرْبِيِّ يَدْخُلُ دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَيُؤْخَذُ وَيُقْهَرُ وَتَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُهُ؛ لِتَوَقُّفِ حَالِهِ، فَكَذَا الْمُرْتَدُّ، وَاسْتِحْقَاقُهُ الْقَتْلَ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ، بِخِلَافِ الزَّانِي وَقَاتِلِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي ذَلِكَ جَزَاءٌ عَلَى الْجِنَايَةِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ مَنْ انْتَحَلَ نِحْلَةً لَا سِيَّمَا) إذَا كَانَ بِهَا (مُعْرِضًا عَمَّا نَشَأَ عَلَيْهِ قَلَّمَا يَتْرُكُهُ) فَكَانَ بِذَلِكَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ بِيَدِهِ دَفْعُ الْقَتْلِ عَنْهُ وَالْمَوْتُ عَلَى ذَلِكَ بِتَجْدِيدِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَوَقُّفِ الْمِلْكِ) أَيْ عَوْدِهِ لِمَا حَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ ثُمَّ يَعُودُ بِعَوْدِهِ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ نَفْسُهُ وَمَالُهُ تَحْتَ أَيْدِينَا (وَتُوقَفُ التَّصَرُّفَاتُ بِنَاءً عَلَيْهِ) فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ تُوجِبُ أَمْلَاكًا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ، وَزَوَالُ أَمْلَاكٍ مِثْلُ الْبَيْعِ يُوجِبُ أَنْ يَمْلِكَ الْمَبِيعَ وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ مِلْكِهِ الثَّمَنُ وَالْإِجَارَةُ كَذَلِكَ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَيْسَ مَعَ الرِّدَّةِ مِلْكٌ فَامْتَنَعَ إفَادَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ أَحْكَامَهَا فِي الْحَالِ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَفَادَتْهُ حِينَ وَقَعَتْ وَهَذَا مَعْنَى التَّوَقُّفِ (فَصَارَ) الْمُرْتَدُّ (كَالْحَرْبِيِّ يَدْخُلُ دَارَنَا بِلَا أَمَانٍ فَيُؤْخَذُ) أَيْ يُؤْسَرُ (فَتَتَوَقَّفُ تَصَرُّفَاتُهُ لِتَوَقُّفِ حَالِهِ) حَيْثُ كَانَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ بَيْنَ اسْتِرْقَاقِهِ وَقَتْلِهِ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ أُسِرَ لَمْ تَنْفُذْ مِنْهُ هَذِهِ أَوْ أَسْلَمَ لَمْ يُؤْخَذْ لَهُ مَالٌ (فَكَذَا الْمُرْتَدُّ) وَقَوْلُهُ (وَاسْتِحْقَاقُ إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمُرْتَدُّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ؛ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا لِلْقَتْلِ عَيْنًا خُصُوصًا فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لَهُ حَالَةٌ غَيْرُ الْقَتْلِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّ غَيْرَهَا مُحْتَمَلٌ فِي حَقِّهِ لِاحْتِمَالِ إسْلَامِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَزُولُ مِلْكُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مَالِهِ وَتَصَرُّفَاتُهُمَا نَافِذَةٌ.

فَأَجَابَ بِالْفَرْقِ (بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ فِي الْفَصْلَيْنِ) أَيْ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ (لِبُطْلَانِ الْعِصْمَةِ) بِانْتِفَاءِ سَبَبِهَا وَهُوَ الْإِسْلَامُ (فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ، بِخِلَافِ الزَّانِي وَالْقَاتِلِ عَمْدًا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ بِذَلِكَ السَّبَبِ جَزَاءٌ عَلَى الْجِنَايَةِ) مَعَ بَقَاءِ سَبَبِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَيَبْقَى مَالِكًا حَقِيقَةً

ص: 84

وَبِخِلَافِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَرْبِيَّةً؛ وَلِهَذَا لَا تُقْتَلُ.

(فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ مِنْ مَالِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ)؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِيهِ لِاسْتِغْنَائِهِ، وَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا احْتَاجَ إلَيْهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَزَالَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ، وَبِخِلَافِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ صَحَّ بِدَلِيلٍ مُصَحَّحٍ فَلَا يُنْقَضُ، وَلَوْ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا لِمَا ذَكَرْنَا.

لِبَقَاءِ عِصْمَةِ مَالِهِ لِقِيَامِ سَبَبِهَا، وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْقَاتِلَ غَيْرُ وَلِيِّ الْقِصَاصِ قُتِلَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ تِلْكَ الْعِصْمَةِ (بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَرْبِيَّةً وَلِهَذَا لَا تُقْتَلُ) قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: مَا قَالَاهُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَقْبَلُ الرِّقَّ، وَالْقَهْرُ يَكُونُ حَقِيقِيًّا لَا حُكْمِيًّا، وَالْمِلْكُ يَبْطُلُ بِالْقَهْرِ الْحُكْمِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ.

وَحَاصِلُ مُرَادِهِ أَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْمِلْكِ الِاسْتِرْقَاقُ لَيْسَ غَيْرُ لَكِنَّهُ مَمْنُوعٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ نَقُولُ: إنَّمَا أَوْجَبَ الِاسْتِرْقَاقُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ لِلْقَهْرِ الْكَائِنِ بِسَبَبِ حِرَابَتِهِ. وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُرْتَدِّ فَيَثْبُتُ فِيهِ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ مِلْكُ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ قَهْرِ الْمُرْتَدِّ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ مِنْ مَالِهِ بِعَيْنِهِ) نَقْدًا أَوْ عَرَضًا (أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِيهِ لِاسْتِغْنَائِهِ) عَنْهُ بِالْمَوْتِ الْمَحْكُومِ بِهِ (وَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا) فَقَدْ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيَاةً جَدِيدَةً. وَلِذَا قُلْنَا فِي الْمُرْتَدَّةِ الْمُتَزَوِّجَةِ إذَا لَحِقَتْ وَعَادَتْ مُسْلِمَةً عَنْ قَرِيبٍ تَتَزَوَّجُ مِنْ سَاعَتِهَا؛ لِأَنَّهَا فَارِغَةٌ مِنْ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ كَأَنَّهَا حَيِيَتْ الْآنَ. قَالَ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} فَإِذَا حَيِيَ (احْتَاجَ إلَيْهِ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْوَارِثِ) وَعَلَى هَذَا لَوْ أَحْيَا اللَّهُ سبحانه وتعالى مَيِّتًا حَقِيقَةً وَأَعَادَهُ إلَى دَارِ الدُّنْيَا كَانَ لَهُ أَخْذُ مَا فِي يَدِ وَرَثَتِهِ (بِخِلَافِ مَا أَزَالَهُ الْوَارِثُ عَنْ مِلْكِهِ) سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ لَا يَقْبَلُهُ كَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَاسْتِيلَادٍ فَإِنَّهُ يَمْضِي وَلَا عَوْدَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَضْمَنُهُ.

(وَبِخِلَافِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ) لَا يَعُودُونَ فِي الرِّقِّ (لِأَنَّ الْقَضَاءَ) بِعِتْقِهِمْ (قَدْ صَحَّ بِدَلِيلٍ مُصَحَّحٍ) لَهُ وَهُوَ اللَّحَاقُ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّهُ كَالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ فَنَفَذَ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ نَفَاذِهِ لَا يَقْبَلُ الْبُطْلَانَ وَوَلَاؤُهُمْ لِمَوْلَاهُمْ: أَعْنِي الْمُرْتَدَّ الَّذِي عَادَ مُسْلِمًا، هَذَا إذَا جَاءَ مُسْلِمًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ، فَلَوْ جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ (فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا) كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ قَطُّ (لِمَا ذَكَرْنَا)

ص: 85

(وَإِذَا وَطِئَ الْمُرْتَدُّ جَارِيَةً نَصْرَانِيَّةً كَانَتْ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ ارْتَدَّ فَادَّعَاهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَهُوَ ابْنُهُ وَلَا يَرِثُهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً وَرِثَهُ الِابْنُ إنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ) أَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِيلَادِ فَلِمَا قُلْنَا، وَأَمَّا الْإِرْثُ فَلِأَنَّ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً وَالْوَلَدُ تَبَعٌ لَهُ لِقُرْبِهِ إلَى الْإِسْلَامِ لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً فَالْوَلَدُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا خَيْرُهُمَا دِينًا وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ.

مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لَحَاقُهُ إلَّا بِالْقَضَاءِ، وَمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا يُورَثُ فَتَكُونُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ عَلَى حَالِهِمْ أَرِقَّاءَ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ لَا تَحِلُّ بَلْ تَكُونُ إلَى أَجَلِهَا؛ لِعَدَمِ تَقَرُّرِ الْمَوْتِ. وَصَارَ كَالْعَبْدِ إذَا أَبَقَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ عَادَ، إنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَهُ جُعِلَ الْإِبَاقُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا وَطِئَ الْمُرْتَدُّ جَارِيَةً نَصْرَانِيَّةً) أَوْ يَهُودِيَّةً (كَانَتْ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ) وَلَوْ إلَى عَشْرِ سِنِينَ (مُنْذُ ارْتَدَّ فَادَّعَاهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَهُوَ ابْنُهُ) وَثَبَتَ لِأُمِّهِ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ (وَلَا يَرِثُهُ، فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُسْلِمَةً وَرِثَهُ الِابْنُ إنْ مَاتَ) الْمُرْتَدُّ (عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ. أَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِيلَادِ مِنْ الْمُرْتَدِّ فَلِمَا قُلْنَا) إنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ حَتَّى صَحَّ اسْتِيلَادُ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَارِيَةً مِنْ تِجَارَتِهِ ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. (وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ؛ فَلِأَنَّ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ) يَهُودِيَّةً أَوْ (نَصْرَانِيَّةً يُجْعَلُ الْوَلَدُ تَبَعًا لِلْمُرْتَدِّ لَا لِأُمِّهِ) لِقُرْبِ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِسْلَامِ لِلْجَبْرِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُؤْثِرُ الْقَتْلَ عَلَى الْعَوْدِ (فَصَارَ الْوَلَدُ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ) وَلَا غَيْرَهُ.

(وَأَمَّا إذَا كَانَتْ) الْأَمَةُ (مُسْلِمَةً فَالْوَلَدُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا خَيْرُهُمَا دِينًا. وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ) وَلَا يُقَالُ: لِمَ لَمْ يُجْعَلْ تَبَعًا لِلدَّارِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأُمُّ نَصْرَانِيَّةً؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلدَّارِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ بِأَنْ يُسْبَى وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ يُلْتَقَطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا ارْتَدَّ الْأَبَوَانِ الْمُسْلِمَانِ وَلَهُمَا وَلَدٌ صَغِيرٌ وُلِدَ قَبْلَ رِدَّتِهِمَا، فَإِنَّهُ يَبْقَى مُسْلِمًا مَعَ وُجُودِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ لِتَبَعِيَّةِ الدَّارِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حِينَ وُلِدَ مُسْلِمًا فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لِلْوَلَدِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِي زَمَنِ إسْلَامِهِمَا، وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ يَرِثُهُ إذَا مَاتَ أَوْ لَحِقَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ؛ وَذَلِكَ لِلتَّيَقُّنِ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي حَالَةِ إسْلَامِ أَبِيهِ الْمُرْتَدِّ فَكَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا، وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ.

وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْإِرْثَ يَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ يَضْعُفُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَعْنِي وَلَدَ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَ الْإِسْلَامِ، وَمَعَ هَذَا يَرِثُ، فَعُلِمَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَهَا. انْتَهَى.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، إلَّا أَنَّهُ

ص: 86

(وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِمَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَهُوَ فَيْءٌ، فَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَخَذَ مَالًا وَأَلْحَقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَوَجَدَتْهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ عَلَيْهِمْ)؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَالٌ لَمْ يَجْرِ فِيهِ الْإِرْثُ، وَالثَّانِيَ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَكَانَ الْوَارِثُ مَالِكًا قَدِيمًا.

(وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ عَبْدٌ فَقُضِيَ بِهِ لِابْنِهِ وَكَاتَبَهُ الِابْنُ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ،

مُحْتَاجٌ إلَى دَلِيلِ التَّخْصِيصِ. وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَى إرْثِ الْمُسْلِمِينَ مَالَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِإِسْلَامِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ يُحْكَمُ بِأَنَّ الْعُلُوقَ بَعْدَ الرِّدَّةِ. وَالْوَجْهُ أَنَّهُ مَتَى جَاءَتْ بِهِ أَمَتُهُ النَّصْرَانِيَّةُ لِمُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ الْعُلُوقُ فِيهَا فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعُلُوقُ فِيهَا، وَهَذَا يُمْكِنُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِلَحْظَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلْحُكْمِ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَعْلَقُ مُسْلِمًا وَيَرِثُهُ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمَذْهَبِ كَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، إلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا لَوْ جَاءَتْ بِهِ؛ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ فَصَاعِدًا لَا يَرِثُ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِمَالِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ) الْمُسْلِمُونَ (عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَهُوَ فَيْءٌ) بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فِيمَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْبَاقِي مِنْ مَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَحْفُوظٌ لَهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ مَوْتُهُ فَيَصِيرُ فَيْئًا. وَلَا يُشْكِلُ كَوْنُ مَالِهِ فَيْئًا دُونَ نَفْسِهِ، فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَذَلِكَ (وَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَخَذَ مَالًا وَأَلْحَقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَظُهِرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ) فَحُكْمُ الْوَرَثَةِ فِيهِ حُكْمُ مَالِكِ مَالٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكُفَّارُ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ مَالِكُهُ وَهُوَ أَنَّهُمْ (إنْ وَجَدُوهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ عَلَيْهِمْ) وَإِنْ وَجَدُوهُ بَعْدَهَا أَخَذُوهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءُوا وَلَوْ كَانَ مِثْلِيًّا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.

ثُمَّ جَوَابُ هَذَا الْكِتَابِ أَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَوْدُهُ وَأَخْذُهُ الْمَالَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِلَحَاقِهِ أَوْ قَبْلَهُ، أَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكَافِرُ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا إذَا عَادَ قَبْلَهُ كَانَ عَوْدُهُ وَأَخْذُهُ وَلَحَاقُهُ ثَانِيًا يُرَجِّحُ جَانِبَ عَدَمِ الْعَوْدِ وَيُؤَكِّدُهُ فَيُقَرَّرُ مَوْتُهُ، وَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ لِصَيْرُورَتِهِ مِيرَاثًا إلَّا لِيَتَرَجَّحَ عَدَمُ عَوْدِهِ فَيَتَقَرَّرُ إقَامَتُهُ ثَمَّةَ فَيَتَقَرَّرُ مَوْتُهُ فَكَانَ رُجُوعُهُ وَأَخْذُهُ ثُمَّ عَوْدُهُ ثَانِيًا بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ السِّيَرِ جَعَلَهُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ اللَّحَاقِ لَا يَصِيرُ الْمَالُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ. وَالْوَجْهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ عَبْدٌ فَقُضِيَ بِهِ لِابْنِهِ فَكَاتَبَهُ الِابْنُ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ) خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ

ص: 87

وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْوَلَاءُ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ)؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ لِنُفُوذِهَا بِدَلِيلٍ مُنَفِّذٍ، فَجَعَلْنَا الْوَارِثَ الَّذِي هُوَ خَلَفُهُ كَالْوَكِيلِ مِنْ جِهَتِهِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِيهِ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَالْوَلَاءُ لِمَنْ يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْهُ.

(وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قَتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَالدِّيَةُ فِي مَالٍ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: الدِّيَةُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمُرْتَدَّ؛ لِانْعِدَامِ النُّصْرَةِ فَتَكُونُ فِي مَالِهِ. وَعِنْدَهُمَا الْكَسْبَانِ جَمِيعًا مَالُهُ؛ لِنُفُوذِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِهَذَا يَجْرِي الْإِرْثُ فِيهِمَا عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَهُ مَالُهُ الْمُكْتَسَبُ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِنَفَاذِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ دُونَ الْمَكْسُوبِ فِي الرِّدَّةِ؛ لِتَوَقُّفِ تَصَرُّفِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَوَّلُ مِيرَاثًا عَنْهُ، وَالثَّانِي فَيْئًا عِنْدَهُ.

(وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُسْلِمِ عَمْدًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ

الثَّلَاثَةِ (وَالْوَلَاءُ وَالْمُكَاتَبَةُ) أَيْ بَدَلُ الْكِتَابَةِ (لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ لِنُفُوذِهَا بِدَلِيلٍ مُنَفِّذٍ) وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْعَبْدِ لَهُ، وَإِلَى نَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَجُعِلَ كَأَنَّ الِابْنَ وَكِيلٌ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَ كَأَنَّهُ سَلَّطَ ابْنَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ (وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فِي الْوَكَالَةِ) بِالْكِتَابَةِ (وَالْوَلَاءُ لِمَنْ يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْهُ) فَلِذَا كَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُرْتَدِّ الَّذِي عَادَ مُسْلِمًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ إلَى الِابْنِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلِابْنِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قَتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَالدِّيَةُ فِي مَالٍ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: فِي مَالٍ اكْتَسَبَهُ فِي الرِّدَّةِ وَالْإِسْلَامِ) أَمَّا أَنَّ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ؛ (فَلِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمُرْتَدَّ)؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَهُمْ الْعَقْلَ بِاعْتِبَارِ نُصْرَتِهِمْ إيَّاهُ الَّتِي بِهَا يَقْوَى عَلَى الْجُرْأَةِ وَلَا نُصْرَةَ مِنْهُمْ لِلْمُرْتَدِّ، وَأَمَّا أَنَّهَا عِنْدَهُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ الْكُلَّ فَيَكُونُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْكُلِّ، وَعَلَى هَذَا إذَا غَصَبَ مَالًا فَأَفْسَدَهُ يَجِبُ ضَمَانُهُ فِي مَالِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَهُمَا فِي الْكُلِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبُ الْإِسْلَامِ وَاكْتَسَبَ فِي الرِّدَّةِ تُهْدَرُ الْجِنَايَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا (وَقَوْلُهُ: وَمَالُهُ الْمُكْتَسَبُ) مَالُهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْمُكْتَسَبُ خَبَرُهُ، وَالْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الصِّفَةِ، إلَّا أَنَّهُ تَرَكَهُ لِلِاهْتِدَاءِ إلَيْهِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى عَلَى الصِّفَةِ، وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبِ الْمُرْتَدِّينَ كَجِنَايَتِهِمْ فِي غَيْرِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا قَائِمٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ فِي الرِّدَّةِ فَيَكُونُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَمَالِيكِ الْمُرْتَدِّينَ هَدَرٌ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُسْلِمِ عَمْدًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعِ أَوْ لَحِقَ

ص: 88

ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاطِعِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِلْوَرَثَةِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ السِّرَايَةَ حَلَّتْ مَحَلًّا غَيْرَ مَعْصُومٍ فَأُهْدِرَتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُرْتَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِهْدَارَ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ، أَمَّا الْمُعْتَبَرُ قَدْ يُهْدَرُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَذَا بِالرِّدَّةِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا لَحِقَ وَمَعْنَاهُ إذَا قُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَيِّتًا تَقْدِيرًا، وَالْمَوْتُ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ، وَإِسْلَامُهُ حَيَاةٌ حَادِثَةٌ فِي التَّقْدِيرِ فَلَا يَعُودُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، فَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ وَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: فِي جَمِيعِ ذَلِكَ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الرِّدَّةِ أَهْدَرَ السِّرَايَةَ فَلَا يَنْقَلِبُ

ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا وَمَاتَ مِنْهُ فَعَلَى الْقَاطِعِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِلْوَرَثَةِ) فِيهِمَا (أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ وُجُوبُ نِصْفِ الدِّيَةِ فِيمَا إذَا مَاتَ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ لَكِنَّ السِّرَايَةَ الَّتِي بِهَا صَارَ الْقَطْعُ قَتْلًا حَلَّتْ الْمَحَلَّ بَعْدَ زَوَالِ عِصْمَتِهِ فَأُهْدِرَتْ إذْ لَوْ لَمْ تُهْدَرْ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لِلْعَمْدِ.

وَأَيْضًا صَارَ اعْتِرَاضُ زَوَالِ الْعِصْمَةِ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ، وَإِذَا أُهْدِرَتْ السِّرَايَةُ وَجَبَ دِيَةُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ وَقَعَ زَمَنَ الْعِصْمَةِ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ دِيَةُ الْيَدِ (بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْمُرْتَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ) الْقَطْعِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَقَعَ فِي وَقْتٍ لَا قِيمَةَ لَهَا فِيهِ وَهُوَ وَقْتُ الرِّدَّةِ فَكَانَتْ هَدَرًا (وَالْهَدَرُ لَا يَلْحَقُهُ الِاعْتِبَارُ، أَمَّا الْمُعْتَبَرُ فَقَدْ يَلْحَقُهُ الْإِهْدَارُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَذَا بِالرِّدَّةِ).

وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ وُجُوبُ نِصْفِ الدِّيَةِ إذَا لَحِقَ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا فَمَاتَ مِنْ الْقَطْعِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَمَعْنَاهُ إذَا قُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَإِنَّهُ صَارَ مَيِّتًا تَقْدِيرًا) بِالْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ (وَالْمَوْتُ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ، وَإِسْلَامُهُ حَيَاةٌ حَادِثَةٌ فِي التَّقْدِيرِ فَلَا يَعُودُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى) عَلَى أَنَّهَا قَتْلٌ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ سِرَايَةً بَعْدَ انْقِطَاعِ حُكْمِ الْقَطْعِ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مُوجِبِ الْقَطْعِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ الْعِصْمَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَطْعٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَفِي ذَلِكَ نِصْفُ دِيَةِ النَّفْسِ فَوَجَبَ لِلْوَرَثَةِ (وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقْضَ بِلَحَاقِهِ) حَتَّى عَادَ مُسْلِمًا فَمَاتَ (فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ. وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: لَا نَصَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ الَّذِي نُبَيِّنُهُ مَا يَذْكُرُ مِنْ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا دِيَةُ النَّفْسِ كَامِلَةً فِيمَا تَلِي هَذِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ: أَيْ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ مُسْلِمًا إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَاتَ مِنْ الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ لَحَاقٍ (فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى الْقَاطِعِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ) اسْتِحْسَانًا (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) يَعْنِي الصُّوَرَ الْأَرْبَعَةَ، وَهِيَ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ بِلَا لِحَاقٍ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَهُ ثُمَّ عَادَ فَأَسْلَمَ (نِصْفُ الدِّيَةِ) قِيَاسًا.

وَوَجْهُهُ (أَنَّ اعْتِرَاضَ الرِّدَّةِ أَهْدَرَ السِّرَايَةَ) حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ (لَا يَنْقَلِبُ

ص: 89

بِالْإِسْلَامِ إلَى الضَّمَانِ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ. وَلَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ وَتَمَّتْ فِيهِ فَيَجِبُ ضَمَانُ النَّفْسِ، كَمَا إذَا لَمْ تَتَخَلَّلْ الرِّدَّةُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِقِيَامِ الْعِصْمَةِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي حَالِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَفِي حَالِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَحَالَةُ الْبَقَاءِ بِمَعْزِلٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَصَارَ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْيَمِينِ.

بِالْإِسْلَامِ إلَى الضَّمَانِ) مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ جَدِيدٍ وَصَارَ كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُ مُرْتَدٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ فَأَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَاعِلِ شَيْءٌ (وَلَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ)؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ (وَتَمَّتْ فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فِي الْحَالَيْنِ (فَيَجِبُ ضَمَانُ النَّفْسِ كَمَا إذَا لَمْ تَتَخَلَّلْ الرِّدَّةُ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَخَلُّلَهَا كَائِنٌ فِي حَالِ الْبَقَاءِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَبِهِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَيَفِي ضَمَانُهَا بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ لَا يَمْنَعُ كَمَالَ مُوجِبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ إلَّا لَوْ كَانَتْ الْعِصْمَةُ مُعْتَبَرَةً حَالَةَ الْبَقَاءِ فِي إيجَابِهَا، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَائِهَا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي حَالِ ابْتِدَاءِ الْجِنَايَةِ؛ لِانْعِقَادِهِ سَبَبًا، وَفِي حَالِ الْمَوْتِ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ وَهُوَ الضَّمَانُ (وَحَالَةُ الْبَقَاءِ بِمَعْزِلٍ) إذْ لَيْسَتْ حَالَ انْعِقَادِ سَبَبِ الضَّمَانِ، وَلَا حَالَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ (فَصَارَ كَقِيَامِ الْمِلْكِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْيَمِينِ) لَا عِبْرَةَ بِهِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ قِيَامُهُ حَالَ التَّعْلِيقِ وَحَالَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَهُوَ حَالُ وُجُودِ الشَّرْطِ، حَتَّى إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ، وَكَذَا لِلْعَبْدِ إنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَفَعَلَ عَتَقَ، وَكَذَا وُجُودُ النِّصَابِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ الْمُعْتَبَرِ وُجُودُهُ أَوَّلَ الْحَوْلِ؛ لِيَنْعَقِدَ السَّبَبُ وَفِي آخِرِهِ؛ لِيَثْبُتَ حُكْمُهُ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ، فَلَوْ كَانَ الْقَاطِعُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ فَفِي الْمَبْسُوطِ. فَإِنْ قُتِلَ وَمَاتَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ مِنْ الْقَطْعِ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِينَ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ إيجَابِهِ كَانَ مُسْلِمًا وَجِنَايَةُ الْمُسْلِمِ خَطَأً عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَتَبَيَّنَ بِالسِّرَايَةِ أَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ قَتْلًا فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ حَالَ الرِّدَّةِ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ

ص: 90

(وَاذَا ارْتَدَّ الْمُكَاتَبُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاكْتَسَبَ مَالًا فَأُخِذَ بِمَالِهِ وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ فَإِنَّهُ يُوَفِّي مَوْلَاهُ مُكَاتَبَتَهُ وَمَا بَقِيَ فَلِوَرَثَتِهِ) وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ إذَا كَانَ حُرًّا، فَكَذَا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ بِالْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ لَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ فَكَذَا أَكْسَابُهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ بِالْأَقْوَى وَهُوَ الرِّقُّ، فَكَذَا بِالْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.

لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ أَحَدٌ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُكَاتَبُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَاكْتَسَبَ مَالًا) فِي أَيَّامِ رِدَّتِهِ يَفِي بِكِتَابَتِهِ (فَأُخِذَ بِمَالِهِ أَيْ أُسِرَ) وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ فَإِنَّهُ يُوَفَّى مَوْلَاهُ مُكَاتَبَتَهُ، وَمَا بَقِيَ فَلِوَرَثَتِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ إذَا كَانَ حُرًّا فَكَذَا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا (إذْ الْكِتَابَةُ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَبِالرِّدَّةِ أَوْلَى)، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ قُضِيَتْ مِنْهُ مُكَاتَبَتُهُ. (وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) فَيُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ كَسْبَ الرِّدَّةِ إذَا كَانَ حُرًّا وَمِلْكُهُ إيَّاهُ مُكَاتَبًا. وَوَجْهُهُ (أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا مَلَكَ أَكْسَابَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَالْكِتَابَةُ لَا تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ) وَلَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَيَسْتَمِرُّ مُوجِبُهَا مَعَ الرِّدَّةِ فَيَتَحَقَّقُ مِلْكُهُ فِي أَكْسَابِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ فَيُقْضَى مِنْهَا وَيُورَثُ الْبَاقِي.

وَقَوْلُهُ: (أَلَا تَرَى إلَى آخِرِهِ) تَوْجِيهٌ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ تَصَرُّفِ الْمُكَاتَبِ الْمُرْتَدِّ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى تَوْجِيهِ عَدَمِ بُطْلَانِ الْكِتَابَةِ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبَقَاءِ الْعَقْدِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ أَحْكَامِهِ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَكَانَ يَكْفِيهِ فِيهِ كَوْنُ الْكِتَابَةِ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَبْطُلَ بِالْمَوْتِ الْحُكْمِيِّ وَهُوَ الرِّدَّةُ، فَإِنْ مَنَعَ عَدَمَ بُطْلَانِهَا بِالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ اكْتَفَى بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ، وَاسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ وَجْهٌ آخَرُ. وَحَاصِلُهُ بِدَلَالَةِ حَالِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ

ص: 91

(وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَحَبِلَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَوَلَدَتْ وَلَدًا وَوُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَالْوَلَدَانِ فَيْءٌ)؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَرَقُّ فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا، وَيُجْبَرُ الْوَلَدُ الْأَوَّلُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ الْوَلَدِ

بِسَبَبِ رِقِّهِ، مَعَ أَنَّ الرِّقَّ أَقْوَى مِنْ الرِّدَّةِ فِي نَفْيِ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَا يَصِحَّ اسْتِيلَادُهُ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَوَقَّفُ بِسَبَبِ رِدَّتِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ مَنَعَ مُقْتَضَى الرِّدَّةِ كَمَا مَنَعَ مُقْتَضَى الرِّقِّ فَصَارَ الْمُكَاتَبُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَكَوْنِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ كَوْنَ أَحَدِهِمَا لَا يُمْنَعُ مَعَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُمْنَعَ إذَا اجْتَمَعَا، وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْمُرْتَدِّ الْمُكَاتَبِ الرِّقُّ وَالرِّدَّةُ فَجَازَ أَنْ يَنْتَفِيَ التَّصَرُّفُ. أُجِيبُ مَرَّةً بِأَنَّ جَوَازَ الْمَنْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَمَرَّةً بِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُطْلِقٌ لِلتَّصَرُّفِ وَكُلٌّ مِنْ الرِّقِّ وَالرِّدَّةِ مَانِعٌ مِنْهُ بِانْفِرَادِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ شَرْعًا تَرْجِيحُ مُقْتَضَى الْكِتَابَةِ عَلَى مُقْتَضَى أَحَدِهِمَا، وَانْضِمَامُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ انْضِمَامُ عِلَّةٍ إلَى أُخْرَى فِيمَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، وَلَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ لِمَا عُرِفَ، بَلْ التَّرْجِيحُ بِوَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَحَبِلَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَوَلَدَتْ وَلَدًا وَوُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَالْوَلَدَانِ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَرَقُّ فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا ثُمَّ يُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ) قَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ: وَلَا يُقْتَلُ كَوَلَدِ الْمُسْلِمِ إذَا بَلَغَ وَلَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَلُ (وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ الْوَلَدِ) أَمَّا جَبْرُ الْوَلَدِ؛ فَلِأَنَّهُ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فِي الدِّينِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِمَا وَمُرْتَدًّا بِرِدَّتِهِمَا، فَلَمَّا كَانَ مُرْتَدًّا بِرِدَّتِهِمَا أُجْبِرَ كَمَا يُجْبَرَانِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُجْبَرْ وَلَدُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ جَدَّهُ بَلْ أَبَاهُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ» الْحَدِيثَ: أَيْ يَسْتَتْبِعَانِهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ تَبَعًا لِأَبِيهِ فِي الرِّدَّةِ فَيُجْبَرُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ رِدَّةَ أَبِيهِ كَانَتْ تَبَعًا وَالتَّبَعُ لَا يُسْتَتْبَعُ، خُصُوصًا وَأَصْلُ التَّبَعِيَّةِ ثَابِتَةٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يُجْبَرُ بِالْحَبْسِ لَا بِالْقَتْلِ، بِخِلَافِ أَبِيهِ

ص: 92

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ تَبَعًا لِلْجَدِّ، وَأَصْلُهُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَام وَهِيَ رَابِعَةُ أَرْبَعِ مَسَائِلَ كُلُّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ. وَالثَّالِثَةُ جَرُّ الْوَلَاءِ. وَالْأُخْرَى الْوَصِيَّةُ لِلْقَرَابَةِ.

وَإِذَا لَمْ يَتْبَعْ الْجَدَّ فَيُسْتَرَقُّ، أَوْ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ أَوْ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حِينَئِذٍ حُكْمُ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا أُسِرُوا، وَأَمَّا الْجَدُّ فَيُقْتَلُ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ الْمُرْتَدُّ بِالْأَصَالَةِ أَوْ يُسْلِمُ.

(وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِجَدِّهِ) فَيُجْعَلُ مُرْتَدًّا تَبَعًا لَهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَأَصْلُهُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ) يَعْنِي أَصْلَ الْجَبْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلْجَدِّ هُوَ ثُبُوتُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلْجَدِّ (وَهِيَ رَابِعَةُ أَرْبَعِ مَسَائِلَ كُلُّهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ) رِوَايَةُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ تَبَعًا لِلْجَدِّ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ يَكُونُ تَبَعًا إحْدَاهَا هَذِهِ (وَالثَّانِيَةُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ) لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ جَدُّهُ مُوسِرًا وَلَا أَبَ لَهُ أَوْ لَهُ أَبٌ مُعْسِرٌ أَوْ عَبْدٌ لَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ تَجِبُ عَلَيْهِ (وَالثَّالِثَةُ جَرُّ الْوَلَاءِ) صُورَتُهَا: مُعْتَقَةٌ تَزَوَّجَتْ بِعَبْدٍ وَلَهُ أَبٌ عَبْدٌ فَوَلَدَتْ مِنْهُ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ تَبَعًا لِأُمِّهِ وَوَلَاؤُهُ لِمَوْلَى أُمِّهِ، فَإِذَا عَتَقَ جَدُّهُ لَا يَجُرُّ وَلَاءَ حَافِدِهِ إلَى مَوَالِيهِ عَنْ مَوَالِي أُمِّهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَجُرُّهُ كَمَا لَوْ أُعْتِقَ أَبُوهُ.

(وَالرَّابِعَةُ الْوَصِيَّةُ لِلْقَرَابَةِ) لَا يَدْخُلُ الْوَالِدَانِ وَيَدْخُلُ الْجَدُّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا يَدْخُلُ كَالْأَبِ، وَتَقْيِيدُ الْحَبَلِ بِدَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ لِإِخْرَاجِ الْحَبَلِ فِي دَارِ الْإِسْلَام

عَنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ: أَعْنِي جَبْرَ الْوَلَدِ بَلْ لِإِفَادَةِ حُكْمِ الْجَبْرِ فِيمَا إذَا حَبِلَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَوَلَدَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا أُجْبِرَ مَعَ أَنَّهُ عَلِقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلِلدَّارِ جِهَةُ اسْتِتْبَاعٍ تَقْتَضِي أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَلَأَنْ يُجْبَرَ إذَا عَلِقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْلَى. هَذَا إذْ وُلِدَ لَهُمَا وَلَدٌ بَعْدَ لُحُوقِهِمَا، أَمَّا إذَا ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِوَلَدٍ لَهُمَا صَغِيرٍ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَالْوَلَدُ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ صَارَ مُرْتَدًّا تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ، وَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ يَصِيرُ فَيْئًا بِالسَّبْيِ كَذَا ذُكِرَ، وَلَوْ صَحَّ لَزِمَ أَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَلْحَقَا بِهِ يَكُونُ مُرْتَدًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَيَبْقَى عَلَيْهِ إلَّا بِمُزِيلٍ.

وَالْأَحْسَنُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا بِاللَّحَاقِ بِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ لِلصَّغِيرِ بِاعْتِبَارِ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ وَقَدْ انْعَدَمَ كُلُّ ذَلِكَ حِينَ ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِهِ فَكَانَ الْوَلَدُ فَيْئًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ كَمَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ ذَهَبَ بِهِ وَحْدَهُ وَالْأُمُّ مُسْلِمَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأُمِّهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتْبَعُهَا بَعْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ قُلْنَا: تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ الِاتِّبَاعَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا بَقِيَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا حَتَّى لَوْ ظُهِرَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ فَيْئًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِنَا وَلَهُ وَلَدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَمَرَّتْ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ. وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مُسْلِمَةً وَالْوَلَدُ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ

ص: 93

قَالَ (وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ ارْتِدَادٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ، وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ لَا يَرِثُ أَبَوَيْهِ إنْ كَانَا كَافِرَيْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: ارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: إسْلَامُهُ لَيْسَ بِإِسْلَامٍ وَارْتِدَادُهُ لَيْسَ بِارْتِدَادٍ. لَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا. وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامًا تَشُوبُهَا الْمَضَرَّةُ فَلَا يُؤَهَّلُ لَهُ. وَلَنَا فِيهِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَسْلَمَ فِي صِبَاهُ، وَصَحَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إسْلَامَهُ، وَافْتِخَارُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورٌ

لِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَتَأَكَّدُ الْإِسْلَامُ وَلَا يَنْقَطِعُ.

(قَوْلُهُ: وَارْتِدَادُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ ارْتِدَادٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) أَيْ يَصِحُّ. فَلَوْ مَاتَ لَهُ قَرِيبٌ مُسْلِمٌ بَعْدَ رِدَّتِهِ لَا يَرِثُ مِنْهُ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَيْسَ بِارْتِدَادٍ (وَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ) بِاتِّفَاقِ الثَّلَاثَةِ (فَلَا يَرِثُ أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ) وَيَرِثُ أَقَارِبَهُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ لَهُ، وَتَحِلُّ لَهُ الْمُؤْمِنَةُ، وَتَبْطُلُ مَالِيَّةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَنْ ابْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: إسْلَامُهُ لَيْسَ بِإِسْلَامٍ وَرِدَّتُهُ لَيْسَتْ بِارْتِدَادٍ لَهُمَا) أَيْ لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فِي عَدَمِ صِحَّةِ إسْلَامِهِ (أَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِيهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا) لِتَنَافٍ بَيْنَ صِفَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى سِمَةُ الْقُدْرَةِ وَالثَّانِيَةَ سِمَةُ الْعَجْزِ، ثُمَّ إسْلَامُهُ يَصِحُّ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا بِهِ (وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَحْكَامًا تَشُوبُهَا الْمَضَرَّةُ) مِنْ حِرْمَانِ الْإِرْثِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْمُشْرِكَةِ (فَلَا يُؤَهَّلُ لَهُ) كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ (وَلَنَا فِيهِ) أَيْ إسْلَامِهِ (أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَسْلَمَ فِي صِبَاهُ، وَصَحَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إسْلَامَهُ، وَافْتِخَارُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورٌ) أَمَّا افْتِخَارُهُ فَمَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ رضي الله عنه:

سَبَقْتُكُمُو إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا

غُلَامًا مَا بَلَغْت أَوَانَ حُلْمِي

ص: 94

وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْ طَوْعٍ دَلِيلٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ عَلَى مَا عُرِفَ وَالْحَقَائِقُ لَا تُرَدُّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ وَنَجَاةٌ عَقْبَاوِيَّةٌ، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَنَافِعِ وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ، ثُمَّ يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَلَا يُبَالِي بِشَوْبِهِ.

وَأَمَّا مَا عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ سِوَى رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ لَمْ تَصِحَّ، بَلْ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اسْتِقْرَاءُ الْحَالِ يُبْطِلُ رِوَايَةَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْبَعْثِ ثَمَانِ سِنِينَ فَقَدْ عَاشَ مَعَهُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَبَقِيَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَهَذِهِ مُقَارَبَةُ السِّتِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مِقْدَارِ عُمُرِهِ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُتِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. قَالَ: فَمَتَى قُلْنَا إنَّهُ كَانَ يَوْمَ إسْلَامِهِ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً صَارَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «دَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ إلَى عَلِيٍّ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً» . وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، بَلْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ. وَمَا ذَكَرَ الثَّعَالِبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي اتِّفَاقِ الْأَعْمَارِ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً يَقْتَضِي أَنَّ عُمُرَهُ حِينَ أَسْلَمَ كَانَ عَشْرَ سِنِينَ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «عَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ وَهُوَ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ» ، وَقَدْ يُقَالُ تَصْحِيحُهُ صلى الله عليه وسلم إسْلَامَهُ إنْ أُرِيدَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَمُسْلِمٌ، وَكَلَامُنَا فِي تَصْحِيحِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى لَا يَرِثَ أَقَارِبَهُ الْكُفَّارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَحَّحَهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بَلْ فِي الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُ عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

نَعَمْ لَوْ نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم صَحَّحْت إسْلَامَهُ أَمْكَنَ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ، لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْوَجْهِ وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْوَجْهُ. قِيلَ: وَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِح أَنْ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا مَعَ اشْتِغَالِهِ بِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ وَالصَّلَاةِ. قِيلَ: وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّافِعِيِّ كَيْفَ يُصَحِّحُ اخْتِيَارَهُ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ مَعَ ظُهُورِ أَنَّهُ إنَّمَا يَخْتَارُ مَنْ يُطْلِقُ عَنَانَهُ إلَى أَهْوِيَتِهِ مِنْ اللَّعِبِ وَغَيْرِهِ وَلَا يُصَحِّحُ اخْتِيَارَهُ الْمَقْطُوعَ بِخِيرَتِهِ. فَإِنْ قَالَ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، قُلْنَا: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ كَمَا عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّهُ يَقَعُ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ، لَكِنَّا إنَّمَا نَخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ لِتَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ، ثُمَّ إذَا بَلَغَ لَزِمَهُ فَلَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ لَا بِالْقَتْلِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ بَالِغًا. وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ:(وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعَهُ) وَالتَّصْدِيقُ الْبَاطِنِيُّ يُحْكَمُ بِهِ لِلْإِقْرَارِ الدَّالِّ عَلَيْهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَاطِنِ بِهِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ فَقَدْ دَخَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ قَائِمَةً بِهِ فِي الْوُجُودِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَمْ تَدْخُلْ، وَلَمْ يَتَّصِفْ مَعَ الدُّخُولِ وَالِاتِّصَافِ، فَإِنْ قَالَ: الْإِيمَانُ الَّذِي أَنْفِيهِ مِنْهُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، فَمَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ لَا أَنْفِيهِ

ص: 95

وَلَهُمْ فِي الرِّدَّةِ أَنَّهَا مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَعْلَى الْمَنَافِعِ عَلَى مَا مَرَّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِيهَا أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً، وَلَا مَرَدَّ لِلْحَقِيقَةِ

وَلَكِنْ أَقُولُ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا. قُلْنَا: دَعْوَى عَدَمِ الِاعْتِبَارِ بَعْدَ وُجُودِ الْحَقِيقَةِ، إمَّا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الصِّحَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ أَهْلًا لِلنُّبُوَّةِ كَمَا فِي يَحْيَى عليه الصلاة والسلام وَهِيَ فَرْعُ الْإِيمَانِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَهْلِيَّتِهِ لِلصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَتَّى يَصِحَّانِ مِنْهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِمَا، وَإِمَّا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فَنَلْتَزِمُهُ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، وَإِمَّا لِحَاجِزٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ مُنْتَفٍ.

وَلَا يَلِيقُ أَنْ يَثْبُتَ شَرْعًا مَنْعٌ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ سبحانه وتعالى مَعَ عَقْلِيَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، نَعَمْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَجِبُ الْقَصْدُ إلَى تَصْدِيقٍ وَإِقْرَارٍ يَسْقُطُ بِهِ، وَلَا يَكْفِيهِ اسْتِصْحَابُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ غَيْرِ الْمَنْوِيِّ بِهِ إسْقَاطَ الْفَرْضِ. كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُوَاظِبُ الصَّلَاةَ قَبْلَ بُلُوغِهِ لَا يَكُونُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ بَلْ لَا يَكْفِيهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ مِنْهَا إلَّا مَا قَرَنَهُ بِنِيَّةِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ امْتِثَالًا، لَكِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَلْ يَقَعُ فَرْضًا قَبْلَ الْبُلُوغِ، أَمَّا عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ أَصْلُ الْوُجُوبِ بِهِ عَلَى الصَّبِيِّ بِالسَّبَبِ، وَهُوَ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَعَقْلِيَّةُ دَلَالَتِهِ دُونَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِالْخِطَابِ وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، فَإِذَا وُجِدَ بَعْدَ السَّبَبِ وَقَعَ الْفَرْضُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ. وَأَمَّا عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فَلَا وُجُوبَ أَصْلًا؛ لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَ وَصَارَ كَالْمُسَافِرِ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ يَسْقُطُ فَرْضُهُ وَلَيْسَتْ الْجُمُعَةُ فَرْضًا عَلَيْهِ. لَكِنْ ذَلِكَ لِلتَّرْقِيَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ سَبَبِهَا، فَإِذَا فَعَلَ تَمَّ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ نِيَّةِ فَرْضِ الْإِيمَانِ بَعْدَ بُلُوغِ مَنْ حُكِمَ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ صَبِيًّا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ الْمُسْلِمَيْنِ أَوْ لِإِسْلَامِهِ وَأَبَوَاهُ كَافِرَانِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا لَمْ يَفْعَلْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ عَنْ آخِرِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَشُوبُهَا ضَرَرٌ. قُلْنَا مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ وَيَزُولُ بِهِ تَوَقُّعُ مَضَرَّةٍ أَبَدِيَّةٍ مِنْ رَدِّ إسْلَامِهِ؛ لِيَسْتَمِرَّ عَلَى الْكُفْرِ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْنِيهِ وَلَا يُبَالِي مَعَهُ بِذَلِكَ الضَّرَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لَهُ بِالضَّرَرِ الْآخَرِ.

وَأَمَّا التَّنَافِي الَّذِي ذُكِرَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ قُلْنَا بِاجْتِمَاعِ كَوْنِهِ تَبَعًا وَأَصْلًا مَعًا وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ بَلْ هُوَ تَبَعٌ مَا لَمْ يَعْقِلْ وَيُقِرَّ مُخْتَارًا، فَإِذَا عَقَلَ وَأَقَرَّ مُخْتَارًا نَقُولُ انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَبَقِيَ أَصْلًا. وَفِي الْمَبْسُوطِ مَنَعَ الْمُضَادَّةَ وَأَجَازَ اجْتِمَاعَهُمَا كَالْمَرْأَةِ تُسَافِرُ مَعَ الزَّوْجِ تَكُونُ مُسَافِرَةً تَبَعًا لَهُ حَتَّى إذَا لَمْ تَنْوِ السَّفَرَ تَكُونُ مُسَافِرَةً، وَلَوْ نَوَتْهُ كَانَتْ مُسَافِرَةً مَقْصُودًا وَتَبَعًا، فَجَعَلَهُمَا أَمْرَيْنِ يَتَأَيَّدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ:(وَلَهُمْ فِي الرِّدَّةِ) يَعْنِي الشَّافِعِيَّ وَزُفَرَ وَأَبَا يُوسُفَ (إنَّهَا مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَعْلَى الْمَنَافِعِ) وَدَفَعَ أَعْظَمَ الْمَضَارِّ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) مَا قُلْنَا مِنْ (أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً) بِوُجُودِ حَقِيقَتِهَا مِنْ الْإِنْكَارِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ (وَلَا مَرَدَّ لِلْحَقِيقَةِ) فَإِنْ قِيلَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَعَدَمِ رَدِّهَا فِي الْإِسْلَامِ

ص: 96

كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لَهُ، وَلَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةً عَلَيْهِمْ. وَهَذَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ.

مِثْلُهُ فِي الرِّدَّةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ وَفِي الرِّدَّةِ مِنْ الضَّرَرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْهِبَةُ؟. الْجَوَابُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الدَّاخِلَةَ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ إذَا كَانَتْ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ بِالْعِلْمِ أَوْ الْجَهْلِ فَهِيَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا كَالْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَارِفًا إذَا عُلِمَ جَهْلُهُ بِالْكُفْرِ وَلَا جَاهِلًا إذَا عُلِمَ عِلْمُهُ بِالْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَصَارَ كَمَا إذَا صَامَ بِنِيَّةٍ يُجْعَلُ صَائِمًا شَرْعًا، فَلَوْ أَكَلَ جُعِلَ مُفْطِرًا وَلَمْ يُجْعَلْ صَائِمًا، وَكَذَا إذَا صَلَّى ثُمَّ أَفْسَدَهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهَا بِذَلِكَ بَلْ هِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ عِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَجَهْلِهِ بِهَا فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِالْمَصْلَحَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ كَالْهِبَةِ فَإِنَّهُ جَازَ فِيهِ كَوْنُهُ عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِالضَّعْفِ، وَجَازَ كَوْنُهُ جَاهِلًا فِي ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ تَكُنْ جَالِبَةً لِذَلِكَ فَمَنَعْنَاهَا، بِخِلَافِ الْقَبُولِ فَإِنَّا عَلِمْنَا عِلْمَهُ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَا نَجْعَلُهُ جَاهِلًا بِهَا.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَائِقَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَا تُرَدُّ لَزِمَ ضَرَرُهَا بِالضَّرُورَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى جَعْلِهِ مُرْتَدًّا إذَا ارْتَدَّ أَبَوَاهُ وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ) أَيْ الصَّبِيَّ الْمُرْتَدَّ (يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ) الْمُتَيَقَّنِ وَدَفْعِ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ (وَلَا يُقْتَلُ) وَهَذِهِ رَابِعَةُ أَرْبَعِ مَسَائِلَ لَا يُقْتَلُ فِيهَا الْمُرْتَدُّ: إحْدَاهَا الَّذِي كَانَ إسْلَامُهُ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا؛ فَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ لَمَّا ثَبَتَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ صَارَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ عَنْهُ، وَإِنْ بَلَغَ مُرْتَدًّا. الثَّانِيَةُ إذَا أَسْلَمَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ بَلَغَ مُرْتَدًّا فَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي الصِّغَرِ. وَالثَّالِثَةُ إذَا ارْتَدَّ فِي صِغَرِهِ. وَالرَّابِعَةُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا ارْتَدَّ لَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِقَادِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، ذَكَرَ الْكُلَّ فِي الْمَبْسُوطِ.

وَلَهَا خَامِسَةٌ وَهُوَ اللَّقِيطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، وَلَوْ بَلَغَ كَافِرًا أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا بَلَغَ كَافِرًا. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ عَدَمِ قَتْلِهِ:(لِأَنَّهُ) أَيْ الْقَتْلَ (عُقُوبَةٌ وَالْعُقُوبَاتُ مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ مَرْحَمَةٌ عَلَيْهِمْ) وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ. وَفِي الْمَبْسُوطِ زَادَ كَوْنَهُ بِحَيْثُ يُنَاظِرُ وَيَفْهَمُ وَيُفْحَمُ.

وَاعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّارِحِينَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ مَرْحَمَةٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ مُخَلَّدًا فَلَيْسَ بِمَرْحُومٍ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَجَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ رحمه الله، وَأَحَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إلَى التَّبْصِرَةِ، فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ. وَلَفْظُهُ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَإِذَا حُكِمَ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ بَانَتْ

ص: 97

وَمَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْ الصِّبْيَانِ لَا يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الْعَقِيدَةِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ.

مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَلَكِنَّهُ لَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عُقُوبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْتَزِمَ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ إهْدَارُ دَمِهِ دُونَ اسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِ كَالْمَرْأَةِ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ، وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.

(وَمَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْ الصِّبْيَانِ لَا يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ؛ لِأَنَّ ارْتِدَادَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الْعَقِيدَةِ) وَكَذَا لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا الْمَجْنُونُ) لَا يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إسْلَامُهُ (وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ) كَالْمَجْنُونِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ. وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ كَطَلَاقِهِ. قُلْنَا: الرِّدَّةُ تُبْنَى عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا قَالَ وَوُقُوعُ طَلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَصْدِ، وَلِذَا لَزِمَ طَلَاقُ النَّاسِي. وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِيهِ زِيَادَةُ أَحْكَامٍ فَارْجِعْ إلَيْهِ فِي فَصْلِ: وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ إلَى آخِرِهِ.

[فُرُوعٌ] كُلُّ مَنْ أَبْغَضَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَلْبِهِ كَانَ مُرْتَدًّا، فَالسِّبَابُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، ثُمَّ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَنَا فَلَا تَعْمَلُ تَوْبَتُهُ فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ. قَالُوا: هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَالِكٍ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِيءَ تَائِبًا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ فِيهَا تَوْبَةٌ فَلَا تَعْمَلُ الشَّهَادَةُ مَعَهُ، حَتَّى قَالُوا: يُقْتَلُ وَإِنْ سَبَّ سَكْرَانَ وَلَا يُعْفَى عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِمَا إذَا كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بَاشَرَهُ مُخْتَارًا بِلَا إكْرَاهٍ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ. وَأَمَّا مِثْلُهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَتَعْمَلُ تَوْبَتُهُ فِي إسْقَاطِ قَتْلِهِ.

وَمَنْ هَزَلَ بِلَفْظِ كُفْرٍ ارْتَدَّ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ لِلِاسْتِخْفَافِ فَهُوَ كَكُفْرِ الْعِنَادِ، وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَكْفُرُ بِهَا تُعْرَفُ فِي الْفَتَاوَى، وَإِذَا تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ عَكْسُهُ لَا نَأْمُرُهُ بِالرَّجْعَةِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالْكُفْرِ، وَالرِّدَّةُ مُحْبِطَةٌ ثَوَابَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ إنْ عَادَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهَا ثَانِيًا، وَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ثَانِيًا إنْ كَانَ حَجَّ.

وَإِذَا أَعْتَقَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ابْنُهُ ثُمَّ مَاتَ الْمُرْتَدُّ أَوْ قُتِلَ لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ فَبِمَوْتِهِ يَبْطُلُ، وَإِعْتَاقُ ابْنِهِ قَبْلَ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَلَا يُتَوَقَّفُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ، وَالْفَرْقُ فِي الْمَبْسُوطِ وَعَنْ عَدَمِ مِلْكِ الْوَارِثِ وَسَبَبِهِ قُلْنَا: إذَا مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ مُعْتَقٌ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ وَلَهُ مُعْتَقٌ فَمَالُهُ لِمُعْتَقِهِ لَا لِمُعْتَقِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ.

وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ مِنْ عَدْلَيْنِ، وَلَا يُعْلَمُ مُخَالِفٌ إلَّا الْحَسَنَ رحمه الله قَالَ: لَا يُقْبَلُ فِي الْقَتْلِ إلَّا أَرْبَعَةٌ قِيَاسًا عَلَى الزِّنَا. وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ لَا لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ الْعُدُولِ بَلْ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ.

وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ مُطْلَقًا إلَى الْإِمَامِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي وَجْهٍ فِي الْعَبْدِ إلَى سَيِّدِهِ.

وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ إنْ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ لَحِقَ ثُمَّ عَادَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يُقَامُ مُطْلَقًا وَالْمَبْنِيُّ ظَاهِرٌ.

وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ السَّاحِرِ وَالزِّنْدِيقِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَنْ لَا يَتَدَيَّنُ بِدِينٍ، وَأَمَّا مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ فَهُوَ الْمُنَافِقُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي عَدَمِ قَبُولِنَا تَوْبَتَهُ كَالزِّنْدِيقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الزِّنْدِيقِ لِعَدَمِ الِاطْمِئْنَانِ إلَى مَا يُظْهِرُ مِنْ التَّوْبَةِ إذَا كَانَ يُخْفِي كُفْرَهُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ اعْتِقَادِهِ دِينًا، وَالْمُنَافِقُ مِثْلُهُ فِي الْإِخْفَاءِ وَعَلَى هَذَا فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِحَالِهِ إمَّا بِأَنْ يَعْثُرَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَيْهِ أَوْ يُسِرَّهُ إلَى مَنْ أَمِنَ إلَيْهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِي يُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ

ص: 98

‌بَابُ الْبُغَاةِ

تَوْبَتُهُ هُوَ الْمُنَافِقُ، فَالزِّنْدِيقُ إنْ كَانَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِنًا كُفْرَهُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّدَيُّنِ بِدِينٍ وَيُظْهِرُ تَدَيُّنَهُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرِهِ إلَى أَنْ ظَفِرْنَا بِهِ وَهُوَ عَرَبِيٌّ، وَإِلَّا فَلَوْ فَرَضْنَاهُ مُظْهِرًا لِذَلِكَ حَتَّى تَابَ يَجِبُ أَنْ لَا يُقْتَلَ.

وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ الْمُظْهِرِينَ لِكُفْرِهِمْ إذَا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ، وَكَذَا مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُنْكِرُ فِي الْبَاطِنِ بَعْضَ الضَّرُورِيَّاتِ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَيُظْهِرُ اعْتِرَافَ حُرْمَتِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ وَتَأْثِيرٌ فِي إيلَامِ الْأَجْسَامِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَقَالَ إنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ. وَتَعْلِيمُ السِّحْرِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاعْتِقَادُ إبَاحَتِهِ كُفْرٌ. وَعَنْ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ يَكْفُرُ السَّاحِرُ بِتَعَلُّمِهِ وَفِعْلِهِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَوْ لَا وَيُقْتَلُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَكَذَلِكَ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَحَبِيبِ بْنِ كَعْبٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَإِنَّهُمْ قَتَلُوهُ بِدُونِ الِاسْتِتَابَةِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى: حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَصْفَهَانِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدُبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَهُ بِالسَّيْفِ» انْتَهَى، يَعْنِي الْقَتْلَ. قَالَ: وَقِصَّةُ جُنْدُبٍ فِي قَتْلِهِ السَّاحِرَ بِالْكُوفَةِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ مَشْهُورَةٌ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْتَلُ وَلَا يُكَفَّرُ إلَّا إذَا اعْتَقَدَ إبَاحَتَهُ. وَأَمَّا الْكَاهِنُ فَقِيلَ هُوَ السَّاحِرُ، وَقِيلَ هُوَ الْعَرَّافُ وَهُوَ الَّذِي يُحَدِّثُ وَيَتَخَرَّصُ.

وَقِيلَ هُوَ الَّذِي لَهُ مِنْ الْجِنِّ مَنْ يَأْتِيهِ بِالْأَخْبَارِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَفْعَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ كَفَرَ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَمْ يَكْفُرْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ اعْتَقَدَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ التَّقَرُّبِ إلَى الْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يَلْتَمِسُهُ كَفَرَ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ حُكْمُهُ حُكْمُ السَّاحِرِ. فِي رِوَايَةٍ يُقْتَلُ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَكَاهِنٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: إنْ تَابَ لَمْ يُقْتَلْ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي كُفْرِ السَّاحِرِ وَالْعَرَّافِ وَعَدَمِهِ. وَأَمَّا قَتْلُهُ فَيَجِبُ وَلَا يُسْتَتَابُ إذَا عُرِفَتْ مُزَاوَلَتُهُ لِعَمَلِ السِّحْرِ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ لَا بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ، وَإِذَا طَلَبَ الْمُرْتَدُّونَ الْمُوَادَعَةَ لَا يُجِيبُهُمْ إلَى ذَلِكَ.

(بَابُ الْبُغَاةِ)

قَدَّمَ أَحْكَامَ قِتَالِ الْكُفَّارِ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ. وَالْبُغَاةُ جَمْعُ بَاغٍ، وَهَذَا الْوَزْنُ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ اسْمِ فَاعِلٍ مُعْتَلِّ اللَّامِ كَغُزَاةٍ وَرُمَاةٍ وَقُضَاةٍ. وَالْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: الطَّلَبُ، بَغَيْتُ كَذَا: أَيْ طَلَبْتُهُ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةَ ذَلِكَ {مَا كُنَّا نَبْغِ} ثُمَّ اُشْتُهِرَ فِي الْعُرْفِ فِي طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ. وَالْبَاغِي فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ إمَامِ الْحَقِّ. وَالْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا الْخَارِجُونَ بِلَا تَأْوِيلٍ بِمَنَعَةٍ وَبِلَا مَنَعَةٍ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَقْتُلُونَهُمْ وَيُخِيفُونَ الطَّرِيقَ وَهُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ. وَالثَّانِي قَوْمٌ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ

ص: 99

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لَكِنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، إنْ قَتَلُوا قُتِلُوا وَصُلِبُوا، وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ الْمُسْلِمِينَ قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ عَلَى مَا عُرِفَ. وَالثَّالِثُ قَوْمٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَحَمِيَّةٌ خَرَجُوا عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ يَرَوْنَ أَنَّهُ عَلَى بَاطِلِ كُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ يُوجِبُ قِتَالَهُ بِتَأْوِيلِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ بِالْخَوَارِجِ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَسْبُونِ نِسَاءَهُمْ وَيُكَفِّرُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَحُكْمُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ حُكْمُ الْبُغَاةِ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ يُسْتَتَابُونَ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا دَفْعًا لِفَسَادِهِمْ لَا لِكُفْرِهِمْ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ لَهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ «أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ رَأَى رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقَالَ: كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ فَصَارُوا كُفَّارًا. قِيلَ يَا أَبَا أُمَامَةَ هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي نَقْلَ إجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ. وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لَا يُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَبَعْضُهُمْ يُكَفِّرُونَ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَهُوَ مَنْ خَالَفَ بِبِدْعَتِهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَنَسَبَهُ إلَى أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالنَّقْلُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ، نَعَمْ يَقَعُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ تَكْفِيرٌ كَثِيرٌ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ هُمْ الْمُجْتَهِدُونَ بَلْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا عِبْرَةَ بِغَيْرِ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَا ذَكَرْنَا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَعْرَفُ بِنَقْلِ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرٍ الْحَضْرَمِيِّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَضْرَمِيِّ: دَخَلْت مَسْجِدَ الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ كِنْدَةَ، فَإِذَا نَفَرٌ خَمْسَةٌ يَشْتِمُونَ عَلِيًّا رضي الله عنه وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ يَقُولُ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَقْتُلَنَّهُ، فَتَعَلَّقْت بِهِ وَتَفَرَّقَتْ أَصْحَابُهُ عَنْهُ، فَأَتَيْت بِهِ عَلِيًّا رضي الله عنه فَقُلْت: إنِّي سَمِعْت هَذَا يُعَاهِدُ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ، فَقَالَ: اُدْنُ وَيْحَك مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا سَوَّارُ الْمُنْقِرِيُّ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: خَلِّ عَنْهُ، فَقُلْت أُخَلِّي عَنْهُ وَقَدْ عَاهَدَ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ؟ قَالَ: أَفَأَقْتُلُهُ وَلَمْ يَقْتُلْنِي؟ قُلْت: فَإِنَّهُ قَدْ شَتَمَك، قَالَ: فَاشْتُمْهُ إنْ شِئْت أَوْ دَعْهُ. فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْخَارِجِينَ مَنَعَةٌ لَا نَقْتُلُهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا لَا بِشَتْمِ عَلِيٍّ وَلَا بِقَتْلِهِ. قِيلَ إلَّا إذَا اسْتَحَلَّهُ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَحَلَّ قَتْلَ مُسْلِمٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ عَنْ تَأْوِيلٍ وَاجْتِهَادٍ يُؤَدِّيهِ إلَى الْحُكْمِ بِحِلِّهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَحِلِّ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْفِيرُهُمْ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ يَسْتَحِلُّونَ الْقَتْلَ بِتَأْوِيلِهِمْ الْبَاطِلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِهِمْ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَنْ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا، ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ نِدَاؤُهُمْ بِقَوْلِهِمْ الْحُكْمُ لِلَّهِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ إذَا أَخَذَ عَلِيٌّ فِي الْخُطْبَةِ لِيُشَوِّشُوا خَاطِرَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نِسْبَتَهُ إلَى الْكُفْرِ لِرِضَاهُ بِالتَّحْكِيمِ فِي صِفِّينَ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ: يَعْنِي تَكْفِيرَهُ.

وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْخَوَارِجَ إذَا قَاتَلُوا الْكُفَّارَ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ مَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ بِالتَّعْرِيضِ بِالشَّتْمِ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى الْكُفْرِ شَتْمٌ عَرَّضُوا بِهِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا. وَالرَّابِعُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَلَى إمَامِ الْعَدْلِ

ص: 100

(وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ)؛ لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُ أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ. وَلَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِهِ فَيُبْدَأُ بِهِ.

وَلَمْ يَسْتَبِيحُوا مَا اسْتَبَاحَهُ الْخَوَارِجُ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَهُمْ الْبُغَاةُ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَلَدٍ وَخَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ إمَامٍ) النَّاسُ بِهِ فِي أَمَانٍ وَالطُّرُقَاتُ آمِنَةٌ (دَعَاهُمْ إلَى الْعَوْدِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ) الَّتِي أَوْجَبَتْ خُرُوجَهُمْ (لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه فَعَلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ حَرُورَاءَ) قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا بَلْ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ لَا تَجِبُ دَعْوَتُهُمْ ثَانِيًا وَتُسْتَحَبُّ. وَحَرُورَاءُ: اسْمُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْكُوفَةِ، وَفِيهِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها لِمُعَاذَةَ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟.

أَسْنَدَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى فِي خَصَائِصِ عَلِيٍّ

إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ. فَقُلْت لِعَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، قَالَ: إنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْك. قُلْت كَلًّا. فَلَبِسْت ثِيَابِي وَمَضَيْت إلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلْت عَلَيْهِمْ فِي دَارٍ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِيهَا. فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا جَاءَ بِك؟ قُلْت: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِهْرِهِ، وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَهُمْ أَعْرَفُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، جِئْت لِأُبَلِّغَكُمْ مَا يَقُولُونَ وَأُبَلِّغَهُمْ مَا تَقُولُونَ. فَانْتَحَى لِي نَفَرٌ مِنْهُمْ، قُلْت: هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَابْنِ عَمِّهِ وَخَتَنِهِ وَأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ، قَالُوا: ثَلَاثٌ. قُلْت: مَا هِيَ؟ قَالُوا: إحْدَاهُنَّ أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} قُلْت: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ حَلَّتْ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ، قُلْت هَذِهِ أُخْرَى. قَالُوا: وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَإِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمِيرَ الْكَافِرِينَ، قُلْت: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا؟ قَالُوا: حَسْبُنَا هَذَا، قُلْت لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إنْ قَرَأْت عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ هَذَا تَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قُلْت أَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ أَنْ قَدْ صَيَّرَ اللَّهُ حُكْمَهُ إلَى الرِّجَالِ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، قَالَ تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلَى قَوْلِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} . وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ أَحْكُمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ؟ قَالُوا اللَّهُمَّ بَلْ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، قُلْت: أَخْرَجْت مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قُلْت: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ فَتَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ أُمُّكُمْ؟

ص: 101

(وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُ، فَإِنْ بَدَءُوهُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا وَاجْتَمَعُوا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ مُسْلِمُونَ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ مُبِيحٌ عِنْدَهُ. وَلَنَا أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِامْتِنَاعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامُ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ فَيُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ،

لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ. فَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ أُمَّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فَأَنْتُمْ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، فَأَتَوْا مِنْهَا بِمَخْرَجٍ، أَخْرَجْت مِنْ هَذِهِ الْأُخْرَى؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قُلْت: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا فَقَالَ: اُكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاك عَنْ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاك، وَلَكِنْ اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَبْتُمُونِي، يَا عَلِيُّ اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُهُ ذَلِكَ مَحْوًا مِنْ النُّبُوَّةِ، أَخْرَجْت مِنْ هَذِهِ الْأُخْرَى؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ سَائِرُهُمْ فَقُتِلُوا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ قَتَلَهُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ.

وَرَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ اسْتَحْكَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ فَقَالَ: لَمَّا كَانَتْ حَرْبُ مُعَاوِيَةَ وَحَكَّمَ الْحَكَمَيْنِ خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا حَرُورَاءَ مِنْ جَانِبِ الْكُوفَةِ، إلَى أَنْ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَخَرَجْت مَعَهُ، حَتَّى إذَا تَوَسَّطْنَا عَسْكَرَهُمْ قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ خَطِيبًا فَقَالَ: يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا يَعْرِفُهُ بِهِ، هَذَا مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فَرُدُّوهُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَا تُوَاضِعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَامَ خُطَبَاؤُهُمْ وَقَالُوا وَاَللَّهِ لَنُوَاضِعَنَّهُ، فَوَاضَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ الْكِتَابَ وَوَاضَعُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيهِمْ ابْنُ الْكَوَّاءِ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ الْكُوفَةَ عَلَى عَلِيٍّ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.

(قَوْلُهُ: وَلَا يَبْدَأُ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَءُوهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ) وَهُوَ عَيْنُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا (وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ نَبْدَأَ بِقِتَالِهِمْ إذَا تَعَسْكَرُوا وَاجْتَمَعُوا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَبْدَءُوا حَقِيقَةً) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ (لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا دَفْعًا وَهُمْ) أَيْ الْبُغَاةُ (مُسْلِمُونَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ثُمَّ قَالَ {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (وَنَحْنُ أَدَرْنَا الْحُكْمَ وَهُوَ حِلُّ الْقِتَالِ عَلَى دَلِيلِ قِتَالِهِمْ وَ) ذَلِكَ (هُوَ الِاجْتِمَاعُ) عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ (وَالِامْتِنَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ) لِتَقْوَى شَوْكَتُهُمْ وَتَكْثُرَ جَمْعُهُمْ خُصُوصًا وَالْفِتْنَةُ يُسْرِعُ إلَيْهَا أَهْلُ الْفَسَادِ وَهُمْ الْأَكْثَرُ، وَالْكُفْرُ مَا أَبَاحَ الْقِتَالَ إلَّا لِلْحِرَابَةِ وَالْبُغَاةُ كَذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاقَ الدَّفْعَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ الْإِمَامِ إلَّا إنْ أَبْدَوْا مَا يَجُوزُ لَهُمْ الْقِتَالُ كَأَنْ ظَلَمَهُمْ أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُمْ ظُلْمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعِينُوهُمْ حَتَّى يُنْصِفَهُمْ وَيَرْجِعَ عَنْ جَوْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَالُ مُشْتَبَهًا أَنَّهُ ظُلْمٌ مِثْلُ

ص: 102

وَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ لُزُومِ الْبَيْتِ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِمَامِ، أَمَّا إعَانَةُ الْإِمَامِ الْحَقِّ فَمِنْ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْغَنَاءِ وَالْقُدْرَةِ.

(فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَأُتْبِعَ مُوَلِّيهِمْ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ) لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ دُونَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ إذَا تَرَكُوهُ لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا.

تَحْمِيلِ بَعْضِ الْجِبَايَاتِ الَّتِي لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَعَمَّ مِنْهُ، وَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِكُلِّ مَا يُقَاتَلُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ الْمَنْجَنِيقِ وَإِرْسَالِ الْمَاءِ وَالنَّارِ.

وَخُوَاهَرْ زَادَهْ مَعْنَاهُ ابْنُ الْأُخْتِ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي ثَابِتٍ قَاضِي سَمَرْقَنْدَ وَاسْمُ خُوَاهَرْ زَادَهْ مُحَمَّدٌ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَاسْمُ أَبِيهِ حُسَيْنٌ النَّجَّارِيُّ وَهُوَ مُعَاصِرٌ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَمُوَافِقٌ لَهُ فِي اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ؛ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَكُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، وَتُوُفِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ الْآخَرُ وَهُوَ عَامُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا مُعَاصِرٌ لَهُمَا وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ إحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (فَإِذَا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله)

مِنْ قَوْلِهِ: الْفِتْنَةُ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ فَرَّ مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ» وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: «كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك» رَوَاهُ عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ (فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إمَامٌ) وَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَعَدُوا فِي الْفِتْنَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ وَلَا غَنَاءٌ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ حِلِّ الْقِتَالِ.

كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَتَى عَلِيًّا رضي الله عنه يَطْلُبُ عَطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَمَنَعَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَقَالَ لَهُ: أَيْنَ كُنْت يَوْمَ صِفِّينَ؟ فَقَالَ: ابْغِنِي سَيْفًا أَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ، فَقَالَ لَهُ: مَا قَالَ اللَّهُ هَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَمَا رُوِيَ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَمَحْمُولٌ عَلَى اقْتِتَالِهِمَا حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً كَمَا يُتَّفَقُ بَيْنَ أَهْلِ قَرْيَتَيْنِ وَمَحَلَّتَيْنِ أَوْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَالْمَمْلَكَةِ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: صَحَّ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: رَأَيْت كَأَنَّ قِبَابًا فِي رِيَاضٍ، فَقُلْت لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا لِذِي الْكُلَاعِ وَأَصْحَابِهِ، وَرَأَيْت قِبَابًا فِي رِيَاضٍ فَقُلْت لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَصْحَابِهِ، قُلْت: وَكَيْفَ وَقَدْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: إنَّهُمْ وَجَدُوا اللَّهَ وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ انْتَهَى. وَهَذَا؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ) أَيْ يُسْرَعُ فِي إمَاتَتِهِ (وَأُتْبِعَ مُوَلِّيهِمْ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا لِلْقَتْلِ وَالْأَسْرِ (دَفْعًا لِشَرِّهِمْ كَيْ لَا يَلْتَحِقَا) أَيْ الْجَرِيحُ وَالْمُوَلِّي (بِهِمْ) أَيْ بِالْفِئَةِ عَلَى مَعْنَى الْقَوْمِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهَزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يُتْبَعْ مُوَلِّيهِمْ لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ بِدُونِ ذَلِكَ) وَهُوَ الْمَطْلُوبُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَأَحْمَدُ أَيْضًا: (لَا يَجُوزُ ذَلِكَ) أَيْ الْإِجْهَازُ وَالِاتِّبَاعُ (فِي الْحَالَيْنِ) حَالَتَيْ الْفِئَةِ وَعَدَمِهَا (لِأَنَّ الْقِتَالَ إذَا تَرَكُوهُ) بِالتَّوْلِيَةِ وَالْجِرَاحَةِ الْمُعْجِزَةِ عَنْهُ (لَمْ يَبْقَ قَتْلُهُمْ دَفْعًا) وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ إلَّا دَفْعًا لِشَرِّهِمْ، وَلِمَا رَوَى

ص: 103

وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَلِيلُهُ لَا حَقِيقَتُهُ.

(وَلَا يُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ: وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَوْلُهُ فِي الْأَسِيرِ تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ يَقْتُلُ الْإِمَامُ الْأَسِيرَ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ

(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالْكُرَاعُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. لَهُ أَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ. وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا قَسَّمَ السِّلَاحَ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْبَصْرَةِ

ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ.

وَأَسْنَدَ أَيْضًا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ. (وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ) فِي جَوَازِ الْقَتْلِ (دَلِيلُ قِتَالِهِمْ لَا حَقِيقَتُهُ) وَلِأَنَّ قَتْلَ مَنْ ذَكَرْنَا إذَا كَانَ لَهُ فِئَةٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَيَّزُ إلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُ كَمَا كَانَ، وَأَصْحَابُ الْجَمَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ.

(قَوْلُهُ: وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ) إذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ (وَلَا يُقَسَّمُ لَهُمْ مَالٌ) بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ (لِقَوْلِ عَلِيٍّ) رضي الله عنه فِيمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا هَزَمَ طَلْحَةَ وَأَصْحَابَهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُقْبِلٌ وَلَا مُدْبِرٌ: يَعْنِي بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَلَا يُفْتَحُ بَابٌ وَلَا يُسْتَحَلُّ فَرْجٌ وَلَا مَالٌ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لَا يَأْخُذُ مَالَ الْمَقْتُولِ وَيَقُولُ: مَنْ اعْتَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ. وَفِي تَارِيخِ وَاسِطَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا. وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْتنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ بِالْجَرِيدَةِ أَوْ بِالْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا هُوَ وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ.

هَذَا وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ كَوْثَرَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَلْ تَدْرِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ حَكَمَ اللَّهُ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا وَلَا يُقَسَّمُ فَيْؤُهَا» وَأَعَلَّهُ الْبَزَّارُ بِكَوْثَرَ بْنِ حَكِيمٍ وَبِهِ تَعَقَّبَ الذَّهَبِيُّ عَلَى الْحَاكِمِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبَلَغَنَا أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَلْقَى مَا أَصَابَ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فِي الرَّحْبَةِ، فَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا أَخَذَهُ حَتَّى كَانَ آخِرَهُ قِدْرٌ حَدِيدٌ لِإِنْسَانٍ فَأَخَذَهُ (وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي الْأَسِيرِ تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ فَإِنْ كَانَتْ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَ الْأَسِيرَ) وَإِنْ كَانَ عَبْدًا يُقَاتِلُ. (وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ) وَالْعَبْدُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ بَلْ يَخْدُمُ مَوْلَاهُ يُحْبَسُ (لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ دَفْعِهِ الشَّرَّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَفِيهِ خِلَافُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَمَعْنَى هَذَا الْخِيَارِ أَنْ يُحَكِّمَ نَظَرَهُ فِيمَا هُوَ أَحْسَنُ الْأَمْرَيْنِ فِي كَسْرِ الشَّوْكَةِ مِنْ قَتْلِهِ وَحَبْسِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَالِ لَا بِهَوَى النَّفْسِ وَالتَّشَفِّي، وَإِذَا أُخِذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَكَانَتْ تُقَاتِلُ حُبِسَتْ وَلَا تُقْتَلُ إلَّا فِي حَالِ مُقَاتَلَتِهَا دَفْعًا، وَإِنَّمَا تُحْبَسُ لِلْمَعْصِيَةِ وَلِمَنْعِهَا مِنْ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ.

(قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحِهِمْ إنْ احْتَاجَ أَهْلُ الْعَدْلِ إلَيْهِ) وَكَذَا الْكُرَاعُ يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ) اسْتِعْمَالُهَا فِي الْقِتَالِ وَتُرَدُّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْهُمْ وَلَا تُرَدُّ قَبْلَهُ (لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُ. وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا إلَخْ) يُرِيدُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي آخِرِ مُصَنَّفِهِ فِي بَابِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ بِسَنَدِهِ إلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَسَّمَ يَوْمَ الْجَمَلِ

ص: 104

وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْعَادِلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى وَالْمَعْنَى فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى.

(وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ فَلَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ) أَمَّا عَدَمُ الْقِسْمَةِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ. وَأَمَّا الْحَبْسُ فَلِدَفْعِ شَرِّهِمْ بِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَلِهَذَا يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، إلَّا أَنَّهُ يَبِيعُ الْكُرَاعَ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَنْظَرُ وَأَيْسَرُ، وَأَمَّا الرَّدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَلِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَلَا اسْتِغْنَامَ فِيهَا. .

قَالَ: (وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَمْ يَأْخُذْهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا)؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْحِمَايَةِ وَلَمْ يَحْمِهِمْ (فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ) لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى أَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِيدُوا ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى مُسْتَحِقِّهِ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: قَالُوا الْإِعَادَةُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَاتِلَةٌ فَكَانُوا مَصَارِفَ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ. وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِيهِمْ فِيهِ؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ.

(وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَهُمَا مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ

فِي الْعَسْكَرِ مَا أَجَافَوْا عَلَيْهِ مِنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ) وَلَوْلَا أَنَّ فِيهِ إجْمَاعًا لَأَمْكَنَ التَّمَسُّكُ بِبَعْضِ الظَّوَاهِرِ فِي تَمَلُّكِهِ، فَإِنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَسْنَدَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْجَمَلِ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَا تَطْلُبُوا مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ الْعَسْكَرِ، وَمَا كَانَ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ سِلَاحٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ أُمُّ وَلَدٍ، وَأَيُّ امْرَأَةٍ قُتِلَ زَوْجُهَا فَلْتَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَحِلُّ لَنَا دِمَاؤُهُمْ وَلَا تَحِلُّ لَنَا نِسَاؤُهُمْ؟ فَخَاصَمُوهُ، فَقَالَ: هَاتُوا نِسَاءَكُمْ وَأَقْرِعُوا عَلَى عَائِشَةَ فَهِيَ رَأْسُ الْأَمْرِ وَقَائِدُهُمْ، قَالَ: فَخَصَمَهُمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَعَرَفُوا وَقَالُوا: نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْعَادِلِ) أَيْ يَسْتَعِينُ بِكُرَاعِهِ وَسِلَاحِهِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ (فَفِي مَالِ الْبَاغِي أَوْلَى. وَالْمَعْنَى) الْمُجَوَّزُ (فِيهِ أَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْأَعْلَى) وَهُوَ الضَّرَرُ الْمُتَوَقَّعُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ (بِالضَّرَرِ الْأَدْنَى) وَهُوَ إضْرَارُ بَعْضِهِمْ.

(وَيَحْبِسُ الْإِمَامُ أَمْوَالَهُمْ) لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَإِضْعَافِهِمْ بِذَلِكَ (وَلَا يَرُدُّهَا إلَيْهِمْ وَلَا يُقَسِّمُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ) أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِمْ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ، وَإِذَا حَبَسَهَا كَانَ بَيْعُ الْكُرَاعِ أَوْلَى (؛ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَنْظَرُ) وَلَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَتَوَفَّرَ مُؤْنَتَهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ بِهَا حَاجَةٌ.

(قَوْلُهُ: وَمَا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ لَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا) إذَا ظَهَرَ عَلَى الْبُغَاةِ (لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ) إنَّمَا كَانَتْ (لَهُ لِحِمَايَتِهِ إيَّاهُمْ وَلَمْ يَحْمِهِمْ) وَمَا قِيلَ إنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَوْهُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَلَبُوا عَلَى بَلْدَةٍ فَأَخَذُوا جِبَايَاتِهَا. قَالُوا: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَتَاهُ سَاعِي الْحَرُورَاء دَفَعَ إلَيْهِ زَكَاتَهُ، وَكَذَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، ثُمَّ (إنْ كَانُوا صَرَفُوهُ إلَى حَقِّهِ) أَيْ إلَى مَصَارِفِهِ (أَجْزَأَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ) وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ (لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَفُوهُ فِي حَقِّهِ فَعَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الْأَدَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى) قَالَ الْمُصَنِّفُ: رحمه الله (قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (لَا إعَادَةَ عَلَى الْأَرْبَابِ فِي الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُمْ) أَيْ الْبُغَاةَ (مُقَاتِلَةٌ) وَهُمْ مَصْرِفُ الْخَرَاجِ (وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. وَفِي الْعُشْرِ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَكَذَلِكَ) وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أُفْتُوا بِالْإِعَادَةِ، وَكَذَا فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا لَوْ أَخَذُوهَا وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَالْمَدْفُوعُ مُصَادَرَةً إذَا نَوَى الدَّافِعُ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَارْجِعْ إلَيْهِ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا إلَى آخِرِهِ) يَعْنِي إذَا

ص: 105

الْعَدْلِ حِينَ الْقَتْلِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

(وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ عَمْدًا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى أَهْلِهِ أَحْكَامُهُمْ وَأُزْعِجُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ لَمْ تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ.

(وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي وَقَالَ قَدْ كُنْت عَلَى حَقٍّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَرِثُ الْبَاغِي فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ، وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَنَا وَيَأْثَمُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ يَجِبُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ، وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا. لَهُ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا أَوْ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً فَيَجِبُ الضَّمَانُ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْلَ الْمَنَعَةِ. وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ.

كَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ دِيَةٌ، وَلَا قِصَاصٌ إذَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا يُبَاحُ قَتْلُهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَمَّا كَانَ مُبَاحَ الْقَتْلِ لَمْ يَجِبْ بِهِ شَيْءٌ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالْوِلَايَةِ وَهِيَ بِالْمَنَعَةِ وَلَا وِلَايَةَ لِإِمَامِنَا عَلَيْهِمْ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَصَارَ (كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُقْتَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَوْضِعٍ تَجِبُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ فِي أَوْقَاتِهَا فَهُوَ كَدَارِ الْعَدْلِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ) مِنْ أَمْصَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ (فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْهُمْ عَمْدًا ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى ذَلِكَ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ إنَّهُمْ غَلَبُوا وَلَمْ يَجْرِ فِيهَا حُكْمُهُمْ بَعْدُ حَتَّى أَزْعَجَهُمْ إمَامُ الْعَدْلِ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ: أَيْ أَخْرَجَهُمْ قَبْلَ تَقَرُّرِ حُكْمِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ تَنْقَطِعْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ فَوَجَبَ الْقَوَدُ، أَمَّا لَوْ جَرَتْ أَحْكَامُهُمْ حَتَّى صَارَتْ فِي حُكْمِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِمْ فَلَا قَوَدَ وَلَا قِصَاصَ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْآخِرَةِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ بَاغِيًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ) بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ فَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ بِهِ (وَإِنْ قَتَلَ الْبَاغِي) الْعَادِلَ (وَقَالَ: كُنْت عَلَى الْحَقِّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى الْحَقِّ وَرِثَهُ)، وَإِنْ قَالَ قَتَلْته وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَرِثُ الْبَاغِي) الْعَادِلَ (فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَأَصْلُهُ) أَيْ أَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِي (أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ نَفْسَ الْبَاغِي أَوْ مَالَهُ لَا يَضْمَنُ) عِنْدَنَا (وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِمْ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ (وَالْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ) بَعْدَ قِيَامِ مَنَعَتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ (لَا يَجِبُ الضَّمَانُ) عَلَيْهِ (عِنْدَنَا) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ اُقْتُصَّ مِنْهُ اتِّفَاقًا وَكَذَا يَضْمَنُونَ الْمَالَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّهَا نُفُوسٌ وَأَمْوَالٌ مَعْصُومَةٌ فَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ تَابَ الْمُرْتَدُّ وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا. وَلَنَا أَنَّهُ)

إتْلَافٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي حَالِ عَدَمِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْيَ الضَّمَانِ مَنُوطٌ بِالْمَنَعَةِ مَعَ التَّأْوِيلِ، فَلَوْ تَجَرَّدَتْ الْمَنَعَةُ عَنْ التَّأْوِيلِ كَقَوْمٍ غَلَبُوا عَلَى أَهْلِ بَلْدَةٍ فَقَتَلُوا وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ بِلَا تَأْوِيلٍ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ أُخِذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَوْ انْفَرَدَ التَّأْوِيلُ عَنْ الْمَنَعَةِ بِأَنْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا عَنْ تَأْوِيلٍ ضَمِنُوا إذَا تَابُوا أَوْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ،

ص: 106

وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْوِيلِهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْإِلْزَامِ أَوْ الِالْتِزَامِ، وَلَا الْتِزَامَ لِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَلَا إلْزَامَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ، وَالْوِلَايَةُ بَاقِيَةٌ قَبْلَ الْمَنَعَةِ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّأْوِيلِ ثَبَتَ الِالْتِزَامُ اعْتِقَادًا، بِخِلَافِ الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ فِي حَقِّ الشَّارِعِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَتْلُ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ. وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فَلَا يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ. وَلَهُمَا فِيهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الْحِرْمَانِ أَيْضًا، إذْ الْقَرَابَةُ سَبَبُ الْإِرْثِ فَيُعْتَبَرُ الْفَاسِدُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ بَقَاءَهُ عَلَى دِيَانَتِهِ، فَإِذَا قَالَ: كُنْت عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يُوجَدْ الدَّافِعُ فَوَجَبَ الضَّمَانُ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ)؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ)؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ لَا بَيْعُ مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ

أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ كَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا وَشَهِدَتْ عَلَى قَوْمِهَا بِالشِّرْكِ وَلَحِقَتْ بِالْحَرُورِيَّةِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ إنَّهَا رَجَعَتْ إلَى أَهْلِهَا تَائِبَةً، قَالَ: فَكَتَبَ إلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ الْأُولَى ثَارَتْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا كَثِيرٌ فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُقِيمُوا عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فِي فَرْجٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا قِصَاصًا فِي دَمٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَلَا بِرَدِّ مَالٍ اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ فَيُرَدَّ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُرَدَّ إلَى زَوْجِهَا وَأَنْ يُحَدَّ مَنْ افْتَرَى عَلَيْهَا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ وَالْفَاسِدُ مِنْ التَّأْوِيلِ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّافِعِ) أَيْ نَفْيُ الضَّمَانِ وَصَارَ (كَمَا فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْوِيلِهِمْ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ وَهُوَ إلْحَاقُ الْفَاسِدِ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَمْ يُسَوَّغْ حَتَّى ضُلِّلَ مُرْتَكِبُهُ بِالصَّحِيحِ بِشَرْطِ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ تَنْقَطِعُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَيَلْزَمُ السُّقُوطُ كُلُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى الْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ الْإِلْزَامِ سُقُوطُهُ شَرْعًا، بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ سُقُوطُ الْخِطَابِ بِهِ مَا دَامَ الْعَجْزُ عَنْ إلْزَامِهِ ثَابِتًا، فَإِذَا ثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ تَعَلَّقَ خِطَابُ الْإِلْزَامِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ فِي صُورَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِمَا ذَكَرْنَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلًا شَرْعِيًّا ضَرُورَةَ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ. إذَا عَرَفْت هَذَا فَيَقُولُ أَبُو يُوسُفَ: إلْحَاقُ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ بِالصَّحِيحِ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ كَانَ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِلْحَاقُهُ بِهِ بِلَا دَلِيلٍ، وَهُمَا يَقُولَانِ الْمُتَحَقِّقُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعَلَ تِلْكَ الْمَنَعَةَ وَالِاعْتِقَادَ دَافِعًا مَا لَوْلَاهُ لَثَبَتَ لِثُبُوتِ أَسْبَابِ الثُّبُوتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْمَنَعَةُ وَالِاعْتِقَادُ لَثَبَتَ الضَّمَانُ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنْ الْقَتْلِ عَمْدًا، وَإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَعْصُومِ فَيَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ قَائِمَةٌ، وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَانِعٍ وُجِدَ عَنْ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ مَعَ الْمَنَعَةِ فَمُنِعَ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْمَنْعِ فَعَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ.

(قَوْلُهُ: وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسْكَرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَيْسَ بِبَيْعِهِ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ بَيْعُ نَفْسِ السِّلَاحِ)؛ لِأَنَّهُ يُقَاتَلُ بِعَيْنِهِ (لَا مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةٍ)

ص: 107

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَعَازِفِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْرُ مَعَ الْعِنَبِ.

تَحْدُثُ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ كَرَاهَةُ بَيْعِ الْمَعَازِفِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُقَامُ بِهَا عَيْنِهَا (وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْخَشَبِ) الْمُتَّخَذَةِ هِيَ مِنْهُ (وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ) لَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ بَيْعُ الْعِنَبِ. وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّرَرَ هُنَا يَرْجِعُ إلَى الْعَامَّةِ وَهُنَاكَ يَرْجِعُ إلَى الْخَاصَّةِ، ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.

[فُرُوعٌ] إذَا طَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُوَادَعَةَ أُجِيبُوا إلَيْهَا إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْمُوَادَعَةِ لِحِفْظِ قُوَّتِهِمْ وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْ التَّقْوَى عَلَيْهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا مَلَكُوا ثُمَّ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا. وَفِي الْمَبْسُوطِ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: أُفْتِيهِمْ بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَلَا أُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لِلْمَنَعَةِ فَيُفْتَوْا بِهِ. وَلَوْ اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، كَمَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ نَقْضًا لِلْإِيمَانِ، فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْبُغَاةِ.

وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُوَادَعَةُ فَأَعْطَى كُلُّ فَرِيقٍ رَهْنًا عَلَى أَنَّ أَيَّهمَا غَدَرَ يَقْتُلُ الْآخَرُونَ الرَّهْنَ فَغَدَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَقَتَلُوا الرَّهْنَ لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ الرَّهْنِ، بَلْ يَحْبِسُونَهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ يَتُوبُوا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا آمَنِينَ بِالْمُوَادَعَةِ أَوْ بِإِعْطَائِنَا الْأَمَانَ لَهُمْ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ رَهْنًا، وَالْغَدْرُ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ لَكِنَّهُمْ يُحْبَسُونَ مَخَافَةَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى فِئَتِهِمْ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَذَا الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ حُبِسَ رَهْنُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، فَإِنْ أَبَوْا جُعِلُوا ذِمَّةً وَوُضِعَتْ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي أَيْدِينَا آمَنِينَ.

وَحُكِيَ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ اُبْتُلِيَ بِهِ مَعَ أَهْلِ الْمُوصِلِ، ثُمَّ إنَّهُمْ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَهُ، فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ يَسْتَشِيرُهُمْ فَقَالُوا: يُقْتَلُونَ كَمَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ لَيْسَ لَك ذَلِكَ، فَإِنَّك شَرَطْتَ لَهُمْ مَا لَا يَحِلُّ وَشَرَطُوا لَك مَا لَا يَحِلُّ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَأَغْلَظَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ عِنْدِهِ وَقَالَ: مَا دَعَوْتُك لِشَيْءٍ إلَّا أَتَيْتنِي بِمَا أَكْرَهُ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ مِنْ الْغَدِ وَقَالَ: قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا قُلْت فَمَاذَا نَصْنَعُ بِهِمْ. قَالَ: سَلْ الْعُلَمَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ، قَالَ: لِمَ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ. قَالَ: لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْكَافِرُ إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ.

وَإِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَازَ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَعْلَى شِقَاقًا مِنْ الْكَافِرِ، وَهُنَاكَ يَجُوزُ فَكَذَا هُنَا؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مُنَاظَرَتِهِ لِيَتُوبَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْمَنْ كُلٌّ مِنْ الْآخَرِ، وَمِنْهُ أَنْ يَقُولَ: لَا بَأْسَ عَلَيْك وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الذِّمِّيِّ إذَا كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ.

وَلَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَوَلَّوْا فِيهِ قَاضِيًا مِنْ أَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ صَحَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ، فَإِنْ كَتَبَ هَذَا الْقَاضِي كِتَابًا إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرِهِ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ

ص: 108

‌كِتَابُ اللَّقِيطِ

عِنْدَهُ، إنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُمْ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَجَازَهُ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْ لَا يَعْرِفُهُمْ لَا يَعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يَسْكُنُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَقَةٌ، وَيُكْرَهُ أَخْذُ رُءُوسِهِمْ فَيُطَافُ بِهَا فِي الْآفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ. وَجَوَّزَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إذَا كَانَ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَوْ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ.

وَيُكْرَهُ لِلْعَادِلِ قَتْلُ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ. بِخِلَافِ أَخِيهِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْبَاغِي حُرْمَتَانِ: حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ، وَحُرْمَةُ الْقَرَابَةِ، وَفِي الْكَافِرِ حُرْمَةُ الْقَرَابَةِ فَقَطْ.

وَإِذَا كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي صَفِّ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ دِيَةٌ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صَفِّ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَهُ حِينَ وَقَفَ فِي صَفِّهِمْ. وَلَوْ دَخَلَ بَابًا بِأَمَانٍ فَقَتَلَهُ عَادِلٌ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا؛ وَهَذَا لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِهِ.

وَإِذَا حَمَلَ الْعَادِلُ عَلَى الْبَاغِي فَقَالَ تُبْت وَأَلْقَى السِّلَاحَ كَفَّ عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَنْظُرَ لَعَلِّي أَتُوبَ وَأَلْقَى السِّلَاحَ. وَمَا لَمْ يُلْقِ السِّلَاحَ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ كَانَ لَهُ قَتْلُهُ، وَمَتَى أَلْقَاهُ كَفَّ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنْهُ بِإِلْقَائِهِ السِّلَاحَ.

وَلَوْ غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْي عَلَى بَلَدٍ فَقَاتَلَهُمْ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَأَرَادُوا أَنْ يَسْبُوا ذَرَارِيَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُقَاتِلُوا دُونَ ذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُسْبَوْنَ فَوَجَبَ قِتَالُهُمْ.

وَإِذَا وَادَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ غَزْوُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَأَمَانُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ فِي مَنَعَةٍ نَافِذٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ غَدَرَ بِهِمْ الْبُغَاةُ فَسُبُوا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ.

وَلَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَلْجَئُوهُمْ إلَى دَارِ الشِّرْكِ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا الْبُغَاةَ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الشِّرْكِ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِالْبُغَاةِ وَالذِّمِّيِّينَ عَلَى الْخَوَارِجِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الْعَدْلِ هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِالْكِلَابِ.

وَإِذَا وَلَّى الْبُغَاةُ قَاضِيًا فِي مَكَانٍ غَلَبُوا عَلَيْهِ فَقَضَى مَا شَاءَ ثُمَّ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ فَرُفِعَتْ أَقْضِيَتُهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ نَفَّذَ مِنْهَا مَا هُوَ عَدْلٌ، وَكَذَا مَا قَضَاهُ بِرَأْيِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِ قَاضِي الْعَدْلِ.

وَلَوْ اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِأَهْلِ الْحَرْبِ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ سَبْينَا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا تَكُونُ اسْتِعَانَةُ الْبُغَاةِ بِهِمْ أَمَانًا مِنْهُمْ لَهُمْ حَتَّى يَلْزَمَنَا تَأْمِينُهُمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَنْ يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ تَارِكًا لِلْحَرْبِ وَهَؤُلَاءِ مَا دَخَلُوا إلَّا لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ.

كِتَابُ اللَّقِيطِ

أَعْقَبَ اللَّقِيطَ وَاللُّقَطَةَ الْجِهَادَ لِمَا فِيهِ مِنْ كَوْنِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ تَصِيرُ عُرْضَةً لِلْفَوَاتِ وَقَدَّمَ اللَّقِيطَ عَلَى

ص: 109

اللَّقِيطُ سُمِّيَ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْقَطُ. وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ فَوَاجِبٌ. قَالَ (اللَّقِيطُ حُرٌّ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ إنَّمَا هُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ

(وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ

اللُّقَطَةِ لِتَعَلُّقِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ. وَاللَّقِيطُ لُغَةً: مَا يُلْقَطُ: أَيْ يُرْفَعُ مِنْ الْأَرْضِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، سُمِّيَ بِهِ الْوَلَدُ الْمَطْرُوحُ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ مِنْ تُهْمَةِ الزِّنَا بِهِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ آيِلٌ إلَى أَنْ يُلْتَقَطَ فِي الْعَادَةِ كَالْقَتِيلِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» (وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ) إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ ضَيَاعُهُ (فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ كَانَ وَاجِبًا) وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إلَّا إذَا خَافَ هَلَاكَهُ فَفَرْضُ عَيْنٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْخَوْفِ. نَعَمْ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ضَيَاعُهُ أَوْ هَلَاكُهُ فَكَمَا قَالُوا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا الْوُجُوبُ بِاصْطِلَاحِنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ إلْزَامُ الْتِقَاطِهِ إذَا خِيفَ هَلَاكُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَالثَّابِتُ إلْزَامُهُ بِقَطْعِيِّ فَرْضٍ (قَوْلُهُ: اللَّقِيطُ حُرٌّ وَلَوْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ عَبْدًا) أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يُحَدَّ قَاذِفُهُ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ حُرِّيَّتَهَا، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ مَعَ احْتِمَالِ السُّقُوطِ، وَإِنَّمَا حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ بِالْحُرِّيَّةِ (لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ)؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَإِنَّمَا عَرَضَ الرِّقُّ بِعُرُوضِ الْكُفْرِ لِبَعْضِهِمْ، فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْعَارِضِ لَا يُحْكَمُ بِهِ (وَكَذَا الدَّارُ دَارُ الْأَحْرَارِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْغَالِبَ) وَالْغَالِبَ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الدُّنْيَا الْأَحْرَارُ.

(قَوْلُهُ: وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ. وَأَصْلُهُ مَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: فَجِئْت بِهِ إلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ؟ فَقَالَ: وَجَدْتهَا ضَائِعَةً فَأَخَذْتهَا، فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ كَذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ اذْهَبْ بِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ. وَعَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَغَيْرُ الشَّافِعِيِّ يَرْوِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَيَقُولُ فِيهِ: وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ انْتَهَى.

وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمِيلَةَ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَأَتَاهُ بِهِ فَاتَّهَمَهُ عُمَرُ رضي الله عنه، فَأُثْنِيَ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: هُوَ حُرٌّ وَوَلَاءُهُ لَك وَنَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَتُهْمَةُ عُمَرَ دَلَّ عَلَيْهَا مَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي جَمِيلَةَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، وَهُوَ مَثَلٌ لِمَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ خِلَافَ بَاطِنِهِ. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَتْهُ الزَّبَّاءُ. وَمَا قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ أَوَّلًا لَيْسَ بِلَازِمٍ. نَعَمْ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِالْإِنْفَاقِ وَقَصَدَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا فَعَلَ أَبُو جَمِيلَةَ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَيْهِ، وَإِذَا جَاءَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يُصَدِّقُهُ فَيُخْرِجُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ نَفَقَتَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى الِالْتِقَاطِ؛ لِأَنَّهُ عَسَاهُ ابْنُهُ وَلِذَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا.

وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ إلَى مَا يُرَجِّحُ صِدْقَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا قَالَ عَرِيفُهُ إنَّهُ رَجُلٌ

ص: 110

وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَاجِزٌ عَنْ التَّكَسُّبِ، وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ فَأَشْبَهَ الْمُقْعَدَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِهَذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِيهِ. وَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْوِلَايَةِ.

قَالَ (فَإِنْ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقُّ الْحِفْظِ لَهُ لِسَبْقِ يَدِهِ (فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ).

صَالِحٌ أَنْفَقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَيْسَتْ عَلَى أَوْضَاعِ الْبَيِّنَاتِ فَإِنَّهَا لَمْ تَقُمْ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِيَتَرَجَّحَ صِدْقُهُ فِي إخْبَارِهِ بِالِالْتِقَاطِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: هَذِهِ لِكَشْفِ الْحَالِ وَالْبَيِّنَةُ لِكَشْفِ الْحَالِ مَقْبُولَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى خَصْمٍ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ إذَا أُتِيَ بِلَقِيطٍ فَرَضَ لَهُ مَا يُصْلِحُهُ رِزْقًا يَأْخُذُهُ وَلِيُّهُ كُلَّ شَهْرٍ وَيُوصِي بِهِ خَيْرًا، وَيَجْعَلُ رَضَاعَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَنَفَقَتَهُ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي ثَابِتِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَجَدَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَأَلْحَقَهُ عَلِيٌّ عَلَى مَالِهِ (وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ وَلَا مَالَ لَهُ وَلَا قَرَابَةَ) أَغْنِيَاءَ لِتَجِبَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالْمُقْعَدِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ؛ وَلِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ (وَالْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ) أَيْ لِبَيْتِ الْمَالِ غُنْمُهُ: أَيْ مِيرَاثُهُ وَدَيْنُهُ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ اللَّقِيطُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةٍ كَانَتْ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ دِيَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ، وَكَذَا إذَا قَتَلَهُ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ (وَلِهَذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) وَبَدَأَ مُحَمَّدٌ رحمه الله بِحَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا الْتَقَطَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ عَلِيًّا رضي الله عنه فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ، وَلَأَنْ أَكُونَ وَلَّيْتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلَ الَّذِي وَلَّيْتَ مِنْهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا. فَحَرَّضَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ مِنْهُ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الْإِمَامَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ إلَّا بِسَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ يَدَهُ سَبَقَتْ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. (قَوْلُهُ: وَالْمُلْتَقِطُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ) عَلَى أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ؛ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا كَبُرَ وَاكْتَسَبَ (إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِهِ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ) يَعْنِي بِهَذَا الْقَيْدِ بِأَنْ يَقُولَ: أَنْفِقْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ إلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ وَلَمْ يَقُلْ لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ إنَّمَا يُوجِبُ ظَاهِرًا تَرْغِيبَهُ فِي إتْمَامِ الِاحْتِسَابِ وَتَحْصِيلِ الثَّوَابِ. وَقِيلَ يُوجِبُ لَهُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي كَأَمْرِ اللَّقِيطِ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ كَبِيرًا (لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي) فَإِذَا أَنْفَقَ بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصَيِّرُهُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَبَلَغَ فَادَّعَى أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ كَذَا فَإِنْ صَدَّقَهُ اللَّقِيطُ رَجَعَ بِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ اللَّقِيطِ وَعَلَى الْمُلْتَقِطِ الْبَيِّنَةُ.

(قَوْله فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ:) وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ

ص: 111

مَعْنَاهُ: إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُلْتَقِطِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إقْرَارٌ لِلصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ وَيُعَيَّرُ بِعَدَمِهِ. ثُمَّ قِيلَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ دُونَ إبْطَالِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ. وَقِيلَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ بُطْلَانُ يَدِهِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ قِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأَصْلِ.

(وَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ

إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ) يَعْنِي سَابِقًا عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي أَوْ مُقَارِنًا. أَمَّا إذَا ادَّعَيَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ فَالسَّابِقُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ وَالْخَارِجِ أَوْلَى، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا فَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا وَالْخَارِجُ مُسْلِمًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَكَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى وَهُوَ الذِّمِّيُّ. وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْوَلَدِ، ثُمَّ ثُبُوتُ النَّسَبِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْخَارِجِ اسْتِحْسَانًا.

وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقٍّ ثَابِتٍ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَهُوَ حَقُّ الْحِفْظِ الثَّابِتِ لِلْمُلْتَقِطِ وَحَقُّ الْوَلَاءِ الثَّابِتِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إقْرَارُ الصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ) وَيَتَأَذَّى بِانْقِطَاعِهِ، إذْ يُعَيَّرُ بِهِ وَيَحْصُلُ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ رَاغِبًا فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهِ. وَيَدُ الْمُلْتَقِطِ مَا اُعْتُبِرَتْ إلَّا بِحُصُولِ مَصْلَحَتِهِ هَذِهِ لَا لِذَاتِهَا وَلَا لِاسْتِحْقَاقِ مِلْكٍ، وَهَذَا مَعَ زِيَادَةِ مَا ذَكَرْنَا حَاصِلٌ بِهَذِهِ الدَّعْوَى فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَثْبُتُ بُطْلَانُ يَدِ الْمُلْتَقِطِ ضِمْنًا مُتَرَتِّبًا عَلَى وُجُوبِ إيصَالِ هَذَا النَّفْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَصَارَ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ تَصِحُّ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً لَمْ يَصِحَّ.

وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَ هَذَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عِنْدَ الْبَعْضِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُدَّعِي وَيَكُونُ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مَنْفَعَتَيْ الْوَلَدِ وَالْمُلْتَقِطِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فِي دَعْوَى ذِي الْيَدِ (فَقِيلَ يَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا) أَيْ لَيْسَ فِيهِ قِيَاسٌ مُخَالِفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا أَيْضًا فِيهِ إلَّا أَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ فِيهِ غَيْرُهُ فِي دَعْوَى الْخَارِجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ اسْتِلْزَامُهُ إبْطَالَ حَقٍّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَهُنَا هُوَ اسْتِلْزَامُهُ التَّنَاقُضَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَنَّهُ لُقَطَةٌ كَانَ نَافِيًا نَسَبَهُ، فَلَمَّا ادَّعَاهُ تَنَاقَضَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَضُرُّ فِي دَعْوَى النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى ثُمَّ يَظْهَرُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْأَصْلِ الَّذِي أَحَالَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ.

(وَلَوْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ) خَارِجَانِ مَعًا (وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ)

ص: 112

فَهُوَ أَوْلَى بِهِ)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِمُوَافَقَةِ الْعَلَامَةِ كَلَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فَهُوَ ابْنُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ. وَلَوْ سَبَقَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي زَمَانٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ إلَّا إذَا أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى.

(وَإِذَا وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَادَّعَى ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ

فَطَابَقَ (فَهُوَ أَوْلَى بِهِ) مِنْ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ فَيُقَدَّمَ عَلَى ذِي الْعَلَامَةِ أَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَذُو الْعَلَامَةِ ذِمِّيٌّ فَيُقَدَّمُ الْمُسْلِمُ؛ وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَأَحَدُهُمَا ذِمِّيٌّ كَانَ ابْنًا لِلْمُسْلِمِ (وَلَوْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً كَانَ ابْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ) وَهُوَ الدَّعْوَى، وَكَذَا لَوْ أَقَامَا وَهُمَا مُسْلِمَانِ وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا سَابِقَةً عَلَى الْأُخْرَى كَانَ ابْنَهُ، وَلَوْ وَصَفَ الثَّانِي عَلَامَةً لِثُبُوتِهِ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ ذُو الْعَلَامَةِ لِلتَّرْجِيحِ بِهَا بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبَيْ الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَكَذَا فِي دَعْوَى اللُّقَطَةِ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ بِالْوَصْفِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُنَاكَ لَيْسَ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى بَلْ الْبَيِّنَةُ، فَلَوْ قَضَى لَهُ لَكَانَ إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً بِالْعَلَامَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، إنَّمَا حَالُ الْعَلَامَةِ تَرْجِيحُ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.

وَلَوْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ خَارِجَانِ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ بِهِ لِظُهُورِ تَقَدُّمِ الْيَدِ، وَكُلَّمَا لَمْ يَتَرَجَّحْ دَعْوَى وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ يَكُونُ ابْنًا لَهُمَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُرْجَعُ إلَى الْقَافَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ. وَلَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَوَّزَ إلَى خَمْسَةٍ. وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ. وَإِنْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ ابْنُهُمَا، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَالِ حَيَاةِ اللَّقِيطِ، فَلَوْ مَاتَ عَنْ مَالٍ فَادَّعَى إنْسَانٌ نَسَبَهُ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّقِيطَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ وَبِالْمَوْتِ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَبَقِيَ كَلَامُهُ مُجَرَّدَ دَعْوَى الْمِيرَاثِ، وَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا وُجِدَ) اللَّقِيطُ (فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ) فَهُوَ مُسْلِمٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمِصْرِ كَانَ مِصْرًا لِلْكُفَّارِ ثُمَّ أُزْعِجُوا وَظَهَرْنَا عَلَيْهِ أَوْ لَا، وَلَا بَيْنَ كَوْنِهِ فِيهِ كُفَّارٌ كَثِيرُونَ أَوْ لَا (فَإِنْ ادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ

ص: 113

مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَضْمَنُ النَّسَبَ وَهُوَ نَافِعٌ لِلصَّغِيرِ، وَإِبْطَالُ الْإِسْلَامِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ يَضُرُّهُ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ.

(وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ كَانَ ذِمِّيًّا) وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ، فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ اللَّقِيطِ اُعْتُبِرَ الْمَكَانُ لِسَبْقِهِ، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ اُعْتُبِرَ الْوَاجِدُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِقُوَّةِ الْيَدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ فَوْقَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ حَتَّى إذَا سُبِيَ مَعَ الصَّغِيرِ أَحَدُهُمَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ.

مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا) اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ عَنْهُ نَفْيَ إسْلَامِهِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ (أَنَّ دَعْوَاهُ تَضَمَّنَتْ) شَيْئَيْنِ (النَّسَبَ وَهُوَ نَفْعٌ لِلصَّغِيرِ وَنَفْيَ الْإِسْلَامِ الثَّابِتِ بِالدَّارِ وَهُوَ ضَرَرٌ بِهِ) وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْكَافِرِ الْكُفْرُ لِجَوَازِ مُسْلِمٍ هُوَ ابْنُ كَافِرٍ بِأَنْ أَسْلَمَتْ أُمُّهُ (فَصَحَّحْنَا دَعْوَتَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ) مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ (دُونَ مَا يَضُرُّهُ) إلَّا إذَا أَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَسَبِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَافِرًا.

وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّجُلِ يَلْتَقِطُ اللَّقِيطَ فَيَدَّعِيهِ نَصْرَانِيٌّ وَعَلَيْهِ زِيُّ أَهْلِ الشِّرْكِ فَهُوَ ابْنُهُ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي رَقَبَتِهِ صَلِيبٌ أَوْ عَلَيْهِ قَمِيصُ دِيبَاجٍ أَوْ وَسَطُ رَأْسِهِ مَجْزُوزٌ انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَمِيصُ الدِّيبَاجِ عَلَامَةً فِي هَذِهِ الدِّيَارِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُونَهُ وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ ابْنُ ذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَيَجِبُ أَنْ يُنْزَعَ مِنْ يَدِهِ إذَا قَارَبَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَدْيَانَ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَضَانَةِ إذَا كَانَتْ أُمَّهُ الْمُطَلَّقَةُ كَافِرَةً.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (كَانَ ذِمِّيًّا) هَكَذَا قَالَ الْقُدُورِيُّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ) أَيْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ (أَوْ كَانَ) الْوَاجِدُ (ذِمِّيًّا) لَكِنْ وَجَدَهُ (فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ، فَفِي كِتَابِ اللَّقِيطِ الْعِبْرَةُ بِالْمَكَانِ) فِي الْفَصْلَيْنِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي نَحْوِ الْكَنِيسَةِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي غَيْرِهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْقُدُورِيُّ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ سَابِقٌ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ (وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى) اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ (فِي بَعْضِ النُّسَخِ اُعْتُبِرَ الْوَاجِدُ) فِي الْفَصْلَيْنِ (وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ) فِي الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَقْوَى مِنْ الْمَكَانِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّبِيَّ الْمَسْبِيَّ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ كَافِرًا حَتَّى لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ (وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ) أَيْ نُسَخِ كِتَابِ الدَّعْوَى مِنْ الْمَبْسُوطِ (اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ) أَيْ مَا يَصِيرُ الْوَلَدُ بِهِ مُسْلِمًا (نَظَرًا لِلصَّغِيرِ) وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَهُ كَافِرٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ مُسْلِمٌ فِي كَنِيسَةٍ كَانَ مُسْلِمًا فَصَارَتْ الصُّوَرُ أَرْبَعًا: اتِّفَاقِيَّتَانِ، وَهُوَ مَا إذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ فِي نَحْوِ كَنِيسَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ. واختلافيتان وَهُمَا مُسْلِمٌ فِي نَحْوِ كَنِيسَةٍ أَوْ كَافِرٌ فِي نَحْوِ قَرْيَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ. وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ قِيلَ: يُعْتَبَرُ بِالسِّيمَا وَالزِّيِّ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} وَفِي الْمَبْسُوطِ: كَمَا لَوْ اخْتَلَطَ الْكُفَّارُ: يَعْنِي

ص: 114

(وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ (فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ (وَكَانَ حُرًّا)؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ (وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ) تَرْجِيحًا لِمَا هُوَ الْأَنْظَرُ فِي حَقِّهِ.

مَوْتَانَا بِمَوْتَاهُمْ الْفَصْلُ بِالزِّيِّ وَالْعَلَامَةِ، وَلَوْ فُتِحَتْ الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَوُجِدَ فِيهَا شَيْخٌ يُعَلِّمُ صِبْيَانًا حَوْلَهُ الْقُرْآنَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ لِمَا قَدَّمْنَا (إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً) لَا يُقَالُ: هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ عَلَى خَصْمٍ فَلَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ خَصْمٌ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ فَلَا تَزُولُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ هُنَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا هُنَا كَيْ لَا يُنْقَضَ بِمَا إذَا ادَّعَى خَارِجٌ نَسَبَهُ فَإِنَّ يَدَهُ تَزُولُ بِلَا بَيِّنَةٍ عَلَى الْأَوْجَهِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ يَدَهُ اُعْتُبِرَتْ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ، وَفِي دَعْوَى النَّسَبِ مَنْفَعَةٌ تَفُوقُ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي أَوْجَبَتْ اعْتِبَارَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ فَتُزَالُ لِحُصُولِ مَا يَفُوقُ الْمَقْصُودَ مِنْ اعْتِبَارِهَا، وَهُنَا لَيْسَ دَعْوَى الْعَبْدِيَّةِ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِمَّا يَضُرُّهُ لِتَبْدِيلِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ فَلَا تُزَالُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ (قَوْلُهُ: فَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ، وَكَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ) فَيَكُونُ الْأَبُ عَبْدًا وَالْوَلَدُ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَيُقْبَلُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى الذِّمِّيِّ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ رِقُّهُ (فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ) إذَا لَمْ تُضَفْ وِلَادَتُهُ إلَى امْرَأَةٍ أَمَةٍ، فَإِنْ أَضَافَ إلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَبْدٌ، فَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: فِي دَعْوَى الْعَبْدِ نَفْعٌ هُوَ النَّسَبُ وَضَرَرٌ هُوَ الرِّقُّ، وَأَحَدُهُمَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فَيُعْتَبَرُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ لَمَّا صَدَّقَهُ الشَّرْعُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ يُصَدِّقُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ تَبَعًا فَيُحْكَمُ بِرِقِّهِ تَبَعًا، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ كُفْرِهِ لِجَوَازِ إسْلَامِ زَوْجَتِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ إنَّهُ مِنْ زَوْجَتِي الذِّمِّيَّةِ لَا يُصَدَّقُ (قَوْلُهُ: وَالْحُرُّ فِي دَعْوَتِهِ اللَّقِيطَ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ) يَعْنِي إذَا ادَّعَيَاهُ وَهُمَا خَارِجَانِ

ص: 115

(وَإِنْ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ) اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ. وَكَذَا إذَا كَانَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ صَرْفِ مِثْلِهِ إلَيْهِ. وَقِيلَ يَصْرِفُهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لِلَّقِيطِ ظَاهِرًا (وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ) كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ.

(وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُلْتَقِطِ) لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ.

قَالَ (وَلَا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْمُلْتَقِطِ) اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِتَثْمِيرِ الْمَالِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَالشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا.

لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُلْتَقِطُ ذِمِّيًّا ادَّعَاهُ مَعَ مُسْلِمٍ خَارِجٍ رُجِّحَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ وَالْمُسْلِمُ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَهُوَ ابْنُ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ يَفُوزُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ مَعَ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي دَعْوَى رِقِّهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةَ رِقِّهِ فَيَكُونُ رَقِيقًا، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا ادَّعَاهُ ابْنًا لَهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ كَافِرًا. وَلَوْ وُجِدَ طِفْلٌ فِي يَدِ عَبْدٍ مَحْجُورٍ ذَكَرَ أَنَّهُ الْتَقَطَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى الِالْتِقَاطِ وَكَذَّبَهُ مَوْلَاهُ. وَقَالَ هُوَ عَبْدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَا فِي يَدِهِ كَمَا فِي يَدِ الْمَوْلَى، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ لِلْمَأْذُونِ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى صَحَّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ لِغَيْرِ السَّيِّدِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ فَيَكُونُ الْوَلَدُ الَّذِي فِي يَدِهِ حُرًّا إلَّا أَنْ يُقِيمَ سَيِّدُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ عَبْدُهُ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ أَوْ دَابَّةٌ هُوَ مَشْدُودٌ عَلَيْهَا فَالْكُلُّ لَهُ) بِلَا خِلَافٍ (اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ) أَيْ فِي دَفْعِ مِلْكِ غَيْرِهِ عَنْهُ ثُمَّ يَثْبُتُ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ بِقِيَامِ يَدِهِ مَعَ حُرِّيَّتِهِ الْمَحْكُومِ بِهَا. وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يُرِيدُ قَوْلَهُ اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ (ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ إلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ) أَيْ لَا حَافِظَ لَهُ، وَمَالِكُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْحِفْظِ. (وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ صَرْفِ مِثْلِهِ إلَيْهِ) وَكَذَا لِغَيْرِ الْوَاجِدِ بِأَمْرِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ (وَقِيلَ لَهُ صَرْفُهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي) أَيْضًا (؛ لِأَنَّهُ لِلَّقِيطِ) كَمَا حَكَمَنَا بِهِ (وَلِلْوَاجِدِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِنْفَاقِ) وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ عَطْفٌ عَلَى وِلَايَةٍ مِنْ قَوْلِهِ وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ: أَيْ لِلْوَاجِدِ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ، وَلَهُ شِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلَّقِيطِ مِنْهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ.

(وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ تَزْوِيجُ اللَّقِيطِ) وَاللَّقِيطَةِ (لِانْعِدَامِ سَبَبِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ) وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ.

(وَلَا) تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ (بِبَيْعٍ) وَلَا شِرَاءِ شَيْءٍ لِيَسْتَحِقَّ الثَّمَنَ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي إلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الْحِفْظُ وَالصِّيَانَةُ، وَمَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ ذَلِكَ (اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ) فَإِنَّهَا لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا تَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ كَالتَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ فَعَدَمُ مِلْكِهِ لِذَلِكَ أَوْلَى (وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ تَصَرُّفِ كُلٍّ مِنْ الْأُمِّ وَالْمُلْتَقِطِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ (لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ إنَّمَا هُوَ لِتَثْمِيرِ الْمَالِ وَذَلِكَ) إنَّمَا (يَتَحَقَّقُ بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَالشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْمَوْجُودُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا)؛ لِأَنَّ فِي الْأُمِّ شَفَقَةً كَامِلَةً مَعَ قُصُورٍ فِي الرَّأْيِ، وَفِي الْمُلْتَقِطِ رَأْيٌ كَامِلٌ مَعَ قُصُورِ شَفَقَةٍ لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا مَا قَدَّمَهُ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلصَّغِيرَةِ إذَا بَلَغَتْ وَقَدْ زَوَّجَهَا

ص: 116

قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ الْهِبَةَ)؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ عَاقِلًا وَتَمْلِكُهُ الْأُمُّ وَوَصِيُّهَا.

قَالَ (وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَثْقِيفِهِ وَحِفْظِ حَالِهِ. قَالَ (وَيُؤَاجِرُهُ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذَا رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَثْقِيفِهِ. وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَمَّ. بِخِلَافِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ.

(قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ) أَيْ الْمُلْتَقِطُ (لِلَّقِيطِ الْهِبَةَ) وَالصَّدَقَةَ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ نَفْعٌ مُحَقَّقٌ وَلِذَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ عَاقِلًا وَتَمْلِكُهُ الْأُمُّ وَوَصِيُّهَا).

قَالَ (الْقُدُورِيُّ: وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّثْقِيفِ وَحِفْظِ حَالِهِ) عَنْ الشَّتَاتِ وَصِيَانَتِهِ عَنْ الْفَسَادِ. ثُمَّ (قَالَ) الْقُدُورِيُّ (وَيُؤَاجِرُهُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّثْقِيفِ يَعْنِي التَّقْوِيمَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا (فَأَشْبَهَ الْعَمَّ، بِخِلَافِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ) بِالِاسْتِخْدَامِ وَالْإِعَارَةِ بِلَا عِوَضٍ، فَبِالْعِوَضِ بِالْإِجَارَةِ أَوْلَى.

[فُرُوعٌ] ادَّعَاهُ الْمُلْتَقِطُ عَبْدًا لَهُ بَعْدَمَا عَرَفَ الِالْتِقَاطَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَالْخَارِجِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَا عِبْرَةَ بِهَا؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ. وَأَثَرُ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ فِي كَوْنِهِ كَافِرًا وَلَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ.

وَلَوْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَتَنَازَعَا فِي كَوْنِهِ عِنْدَ أَحَدِهِمَا قُضِيَ بِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَانَ الْمُسْلِمُ أَوْلَى بِحِفْظِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يُعَلِّمُهُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ.

وَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدُ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يَدَّعِيهِ. إنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِمَا لَا يُقْضَى بِهِ إلَّا عَلَى الْأَحْرَارِ كَالْحَدِّ الْكَامِلِ وَنَحْوِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ، وَصَارَ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ وَلَا يَصِيرُ بِهِ عَبْدًا؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ شَرْعًا فِي ذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَذَّبَهُ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالرِّقِّ، وَلَوْ كَانَ اللَّقِيطَةُ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ بَعْدَمَا كَبُرَتْ إنْ كَانَ بَعْدَ التَّزْوِيجِ صَحَّ وَكَانَتْ أَمَةً لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَلَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَلَا بَقَاءً فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِرِقِّهَا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ.

وَلَوْ بَلَغَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ وَلِامْرَأَتِهِ عَلَيْهِ صَدَاقٌ وَصَدَاقُهَا لَازِمٌ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ هَذَا، وَكَذَا إذَا اسْتَدَانَ دَيْنًا أَوْ بَايَعَ إنْسَانًا أَوْ كَفَلَ كَفَالَةً أَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ وَسَلَّمَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَلَوْ أَنَّهُ وَالَى رَجُلًا بَعْدَمَا أَدْرَكَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَأَكَّدَ وَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ بِأَنْ جَنَى جِنَايَةً وَعَقَلَهُ بَيْتُ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ وَلَا يَنْتَقِلُ مِيرَاثُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَمْ يَتَأَكَّدْ لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ وَصَارَ كَاَلَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يَجْنِيَ فَيَعْقِلَهُ بَيْتُ الْمَالِ.

ص: 117

‌كِتَابُ اللُّقَطَةِ

قَالَ (اللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا)

كِتَابُ اللُّقَطَةِ

هِيَ فُعَّلَةٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَصْفُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَلُعَنَةٍ وَضُحَكَةٍ لِكَثِيرِ الْهَمْزِ وَغَيْرِهِ، وَبِسُكُونِهَا لِلْمَفْعُولِ كَضُحْكَةٍ وَهُزْأَةٍ لِلَّذِي يُضْحَكُ مِنْهُ وَيُهْزَأُ بِهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمَالِ لُقَطَةٌ بِالْفَتْحِ لِأَنَّ طِبَاعَ النُّفُوسِ فِي الْغَالِبِ تُبَادِرُ إلَى الْتِقَاطِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ، فَصَارَ الْمَالُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَاعٍ إلَى أَخْذِهِ بِمَعْنَى فِيهِ نَفْسُهُ كَأَنَّهُ الْكَثِيرُ الِالْتِقَاطِ مَجَازًا، وَإِلَّا فَحَقِيقَتُهُ الْمُلْتَقِطُ الْكَثِيرُ الِالْتِقَاطِ. وَمَا عَنْ الْأَصْمَعِيِّ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْقَافِ اسْمٌ لِلْمَالِ أَيْضًا فَمَحْمُولٌ عَلَى هَذَا: يَعْنِي يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ أَيْضًا.

ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي صِفَةِ رَفْعِهَا فَنُقِلَ عَنْ الْمُتَقَشِّفَةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ لِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ يَحِلُّ، وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ، أَمَّا الْحِلُّ فَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بَلْ أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ.

وَأَسْنَدَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَصَابَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ» وَأَمَّا أَفْضَلِيَّةُ التَّرْكِ فَلِأَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي فَقَدَهَا فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ خُصُوصَ الْمَكَانِ، فَإِذَا تَرَكَهَا كُلُّ أَحَدٍ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَجِدَهَا صَاحِبُهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ عَادَةً أَنْ يَمُرَّ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مَرَّةً أُخْرَى فِي عُمُرِهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ سُقُوطَهَا فِي أَثْنَاءِ الطُّرُقَاتِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا أَوْ يَجْلِسُ فِي عَادَةِ أَمْرِهِ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إلَيْهِ، وَقَيَّدَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ يَتْرُكُهَا، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَصِلَ يَدٌ خَائِنَةٌ إلَيْهَا، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَفِي الْخُلَاصَةِ يَفْتَرِضُ الرَّفْعَ، وَلَوْ رَفَعَهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَضَعَهَا مَكَانَهَا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَسَنَذْكُرُهُ

(قَوْلُهُ وَاللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا،

ص: 118

لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْوَاجِبُ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ عَلَى مَا قَالُوا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا فَصَارَ كَالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَقَالَ الْآخِذُ أَخَذْته لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِاخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ،

لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ أَفْضَلُ) وَظَاهِرُ الْمَبْسُوطِ اشْتِرَاطُ عَدْلَيْنِ إلَى آخِرِهِ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) يَعْنِي إذَا كَانَ أَشْهَدَ أَوْ إذَا كَانَ أَمَانَةً بِأَنْ أَشْهَدَ (لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ) فَلَوْ هَلَكَتْ بِغَيْرِ صُنْعٍ مِنْهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا صَدَّقَهُ الْمَالِكُ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا وَصَارَ تَصَادُقُهُمَا كَبَيِّنَتِهِ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا (وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ ضَمِنَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقَالَ أَخَذْتُهَا لِلرَّدِّ لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ)

وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَفِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ ذَكَرَ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ (وَالْقَوْلُ لَهُ) مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا (لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ) إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ (اخْتِيَارُهُ الْحِسْبَةَ لَا الْمَعْصِيَةَ) وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بِقَيْدِ كَوْنِهِ لِلْمَالِكِ فَإِذَا أَخَذَ إنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلْمَالِكِ

ص: 119

وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الظَّاهِرِ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَرِّفُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَيَكْفِيهِ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ وَاحِدَةً كَانَتْ اللُّقَطَةُ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ.

فَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي أَنَّهُ أَخَذَهُ لَهُ أَوْ لِنَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِالشَّكِّ (وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ، وَفِيهِ وَقَعَ الشَّكُّ فَلَا يَبْرَأُ. وَمَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الظَّاهِرِ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ التَّصَرُّفِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ)

فَإِنْ قَالَ كَوْنُ أَخْذِ الْمَالِ سَبَبًا لِلضَّمَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الشَّرْعِ فَأَمَّا بِإِذْنِهِ فَمَمْنُوعٌ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ سَبَبُ الضَّمَانِ لَمْ يَقَعْ الشَّكُّ فِي الْبَرَاءَةِ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِ الضَّمَانِ حَتَّى يَنْفَعَ مَا ذَكَرْتُمْ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ إذْنَ الشَّرْعِ مُقَيَّدٌ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ «مَنْ أَصَابَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ» وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا أَمْكَنَهُ الْإِشْهَادُ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ عِنْدَ الرَّفْعِ أَوْ خَافَ أَنَّهُ إنْ أَشْهَدَ أَخَذَهَا مِنْهُ ظَالِمٌ فَتَرَكَهُ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ كَوْنِي مَنَعَنِي مِنْ الْإِشْهَادِ كَذَا (قَالَ: وَيَكْفِيهِ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَدِلُّوهُ عَلَيَّ) أَوْ عِنْدِي ضَالَّةٌ أَوْ شَيْءٌ فَمَنْ سَمِعْتُمُوهُ إلَى آخِرِهِ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا يَطْلُبُهَا فَقَالَ هَلَكَتْ لَا يَضْمَنُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ اللُّقَطَةِ (وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ) أَيْ اللُّقَطَةَ بِتَأْوِيلِ الْمُلْتَقِطِ (اسْمُ جِنْسٍ) وَلَا يَجِبُ أَنْ يُعَيِّنَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً خُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ.

قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ الْأَخْذِ وَيَقُولَ أَخَذْتهَا لِأَرُدَّهَا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَرِّفْهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَفَى فَجَعَلَ التَّعْرِيفَ إشْهَادًا. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَكْفِيهِ مِنْ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ إلَى آخِرِهِ يُفِيدُ مِثْلَهُ، فَاقْتَضَى هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ التَّعْرِيفُ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَصَابَ ضَالَّةً فَلْيُشْهِدْ» مَعْنَاهُ فَلْيُعَرِّفْهَا. وَيَكُونُ قَوْلُهُ ذَا عَدْلٍ لِيُفِيدَ عِنْدَ جَحْدِ الْمَالِكِ التَّعْرِيفَ: أَيْ الْإِشْهَادَ. فَإِنَّهُ إذَا اسْتَشْهَدَ ثُمَّ عَرَّفَ بِحَضْرَتِهِ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، وَإِلَّا فَالتَّعْرِيفُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ، وَعَلَى هَذَا فَخِلَافِيَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا لَمْ يُعَرِّفْهَا أَصْلًا حَتَّى ادَّعَى ضَيَاعَهَا وَادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ لِيَرُدَّهَا وَأَخَذَهَا كَذَلِكَ.

وَقَوْلُهُمَا إنَّ إذْنَ الشَّرْعِ مُقَيَّدٌ بِالْإِشْهَادِ أَيْ بِالتَّعْرِيفِ، فَإِذَا لَمْ يُعَرِّفْهَا فَقَدْ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ شَرْعًا فِي الْأَخْذِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ فَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الْإِشْهَادُ: أَيْ التَّعْرِيفُ وَقْتَ الْأَخْذِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْهُ قَبْلَ هَلَاكِهَا لِيُعَرِّفَ بِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا لَا لِنَفْسِهِ، وَحِينَئِذٍ فَمَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَخَذَهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا لَا يَضْمَنُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِكَوْنِهِ رَدَّهَا فِي مَكَانِهَا أَوْ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ بِالرَّدِّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا لِنَفْسِهِ وَبِهِ يَنْتَفِي الضَّمَانُ عَنْهُ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ بِمَا إذَا لَمْ يَذْهَبْ بِهَا، فَإِنْ ذَهَبَ بِهَا ثُمَّ أَعَادَهَا ضَمِنَ، وَبَعْضُهُمْ ضَمِنَهُ ذَهَبَ بِهَا أَوْ لَا، وَالْوَجْهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَمَا ذَكَرْنَا لَا يَنْفِي وَجْهَ التَّضْمِينِ بِكَوْنِهِ مُضَيِّعًا مَالَ غَيْرِهِ بِطَرْحِهِ بَعْدَمَا لَزِمَهُ حِفْظُهُ بِالْأَخْذِ

ص: 120

قَالَ (فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا أَيَّامًا، وَإِنْ كَانَتْ عَشْرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَوْلُهُ أَيَّامًا مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى. وَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» . وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَى الْأَلْفِ فِي تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِهِ فِي السَّرِقَةِ وَتَعَلُّقِ اسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ بِهِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي حَقِّ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ، فَأَوْجَبْنَا التَّعْرِيفَ بِالْحَوْلِ احْتِيَاطًا، وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَلْفِ بِوَجْهٍ مَا فَفَوَّضْنَا إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ

قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ) اللُّقَطَةُ (أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ عَرَّفَهَا أَيَّامًا) وَفَسَّرَهَا الْمُصَنِّفُ بِحَسَبِ مَا يَرَى مِنْ الْأَيَّامِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ إلَى عَشْرَةٍ عَرَّفَهَا شَهْرًا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ يُعَرِّفُهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا: يَعْنِي إلَى الْعَشَرَةِ يُعَرِّفُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَتْ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا: يَعْنِي إلَى ثَلَاثَةٍ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَتْ دَانِقًا فَصَاعِدًا يُعَرِّفُهَا يَوْمًا، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الدَّانِقِ يَنْظُرُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً ثُمَّ يَضَعُهُ فِي كَفِّ فَقِيرٍ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، بَلْ يُعَرِّفُ الْقَلِيلَ بِقَدْرِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا أَخْذٌ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ هَذَا وَهُوَ جَيِّدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا قَدَّرَ بِذَلِكَ التَّقْدِيرَاتِ فِي الْقَلِيلِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَنَّ الْمَالِكَ فِي تِلْكَ التَّقَادِيرِ لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَدِ فَكَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ غَلَبَةَ ظَنِّ تَرْكِهَا، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ تَقْدِيرُهُ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَا سَيُذْكَرُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.

وَفِيهِ أَلْفَاظٌ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ، فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً» وَمَعْنَى لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ: أَيْ لَا يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ تَمَلُّكُهَا، وَهَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلِالْتِقَاطِ نَفْسِهِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ» (وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمَ، وَالْعَشَرَةُ فَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَى الْأَلْفِ شَرْعًا فِي تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ وَتَعَلُّقِ اسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ بِهِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي حَقِّ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ فَأَوْجَبْنَا التَّعْرِيفَ بِالْحَوْلِ) إلْحَاقًا لَهَا بِمَا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهَا احْتِيَاطًا (وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَلْفِ شَرْعًا بِوَجْهٍ مَا فَفَوَّضْنَا) التَّعْرِيفَ فِيهَا (إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ) وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ

ص: 121

وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُلْتَقِطِ يُعَرِّفُهَا إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى إذَا خَافَ أَنْ يَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا. وَفِي الْجَامِعِ: فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْوُصُولِ إلَى صَاحِبِهَا، وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَكُونُ إلْقَاؤُهُ إبَاحَةً حَتَّى جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَلَكِنَّهُ مُبْقًى عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ.

مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ «عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ فَأَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْت بِهَا فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْته ثَالِثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» وَهَذَا يَقْتَضِي قَصْرَ حَدِيثِ الْعَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالتَّعْرِيفِ سَنَةً فِي غَيْرِ حَدِيثٍ مُطْلَقًا عَنْ صُورَةِ الْمِائَةِ دِينَارٍ كَمَا قَدَّمْنَا وَغَيْرُهُ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ (قَوْلُهُ وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ التَّقَادِيرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ) وَلَا التَّقْدِيرُ بِالْعَامِ (وَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ يُعَرِّفُهُ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا) وَهَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَاخْتَارَهُ.

وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الثَّلَاثِ سِنِينَ فِي الْمِائَةِ دِينَارٍ، فَإِنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ لَيْسَ السَّنَةُ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ مَا يَقَعُ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ أَنَّ صَاحِبَهُ يَتْرُكُهُ أَوْ لَا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ خَطَرِ الْمَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ لَمَّا كَانَ ذَا خَطَرٍ كَبِيرٍ أَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى يَخَافَ فَسَادَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ وَفِي الْجَامِعِ) يَعْنِي الْأَسْوَاقَ وَأَبْوَابَ الْمَسَاجِدِ فَيُنَادِي مَنْ ضَاعَ لَهُ شَيْءٌ فَلْيَطْلُبْهُ عِنْدِي.

وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِتَعْرِيفِهَا سَنَةً يَقْتَضِي تَكْرَارَ التَّعْرِيفِ عُرْفًا وَعَادَةً وَإِنْ كَانَ ظَرْفِيَّةُ السَّنَةِ لِلتَّعْرِيفِ يَصْدُقُ بِوُقُوعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ كُلَّمَا وَجَدَ مَظِنَّةً، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ الْوَلْوَالِجِيِّ مِمَّا يُفِيدُ الِاكْتِفَاءَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ هُوَ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْهُ، أَمَّا الْوَاجِبُ فَأَنْ يَذْكُرَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهُ كَالنَّوَاةِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَكُونُ إلْقَاؤُهُ إبَاحَةً فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا) لِلْوَاجِدِ (بِلَا تَعْرِيفٍ).

وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ رَأَى تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: لَوْلَا أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتهَا» وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا، حَتَّى إذَا وَجَدَهَا فِي يَدِهِ لَهُ أَخْذُهَا لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ، وَإِنَّمَا إلْقَاؤُهَا إبَاحَةٌ لَا تَمْلِيكٌ (لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ) وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَجَمَعَهَا

ص: 122

قَالَ (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا) إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ بِإِيصَالِ عَيْنِهَا عِنْدَ الظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا وَإِيصَالِ الْعِوَضِ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَةِ التَّصَدُّقِ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءَ الظُّفْرِ بِصَاحِبِهَا قَالَ (فَإِنْ)(جَاءَ صَاحِبُهَا) يَعْنِي بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ) وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لِثُبُوتِهِ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فِيهِ

لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِالْجَمْعِ، وَعَلَى هَذَا الْتِقَاطُ السَّنَابِلِ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِ تَقْيِيدِ هَذَا الْجَوَابِ: أَعْنِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا بِمَا إذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فِي مَكَان فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمَّا جَمَعَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا أَلْقَاهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا بَلْ سَقَطَتْ مِنْهُ أَوْ وَضَعَهَا لِيَرْفَعَهَا.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ جَزَّ صُوفَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُ الشَّاةِ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَلَوْ دَبَغَ جِلْدَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَالتُّفَّاحُ وَالْكُمَّثْرَى وَالْحَطَبُ فِي الْمَاءِ لَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ (قَوْلُهُ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا) أَوْ أَكَلَهَا إنْ كَانَ فَقِيرًا، أَوْ اسْتَقْرَضَهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيَتَمَلَّكُهَا إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا أَبَدًا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا، وَإِذَا خَشِيَ الْمَوْتَ يُوصِي بِهَا كَيْ لَا تَدْخُلَ فِي الْمَوَارِيثِ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ أَيْضًا يُعَرِّفُونَهَا، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُعَرِّفُوهَا حَتَّى هَلَكَتْ وَجَاءَ صَاحِبُهَا أَنْ يَضْمَنُوا لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى لُقَطَةٍ وَلَمْ يُشْهِدُوا: أَيْ لَمْ يُعَرِّفُوا، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بِذَلِكَ أَنَّ قَصْدَهُمْ تَعْمِيَتُهَا عَنْ صَاحِبِهَا، وَيَجْرِي فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ الْبَابِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا (بَعْدَ التَّصَدُّقِ فَهُوَ) بِأَحَدِ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ (إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ حَصَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَحْصُلْ بِإِذْنِهِ) أَيْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَحُصُولُ الثَّوَابِ لِلْإِنْسَانِ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُخْتَارٍ لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْلَ لُحُوقِ الْإِذْنِ وَالرِّضَا فَبِالْإِجَازَةِ وَالرِّضَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ لِرِضَاهُ بِذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ وَقَدْ يَكُونُ مَجِيءُ الْمَالِكِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْفَقِيرِ لَهَا؟ أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ الْمِلْكُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، أَمَّا هُنَا فَالْمِلْكُ يَثْبُتُ قَبْلَ ذَلِكَ شَرْعًا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّصَدُّقِ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ الْمَالِكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَهُ دُونَ مِلْكِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ وَحَالُ الْفَقِيرِ يَقْتَضِي سُرْعَةَ اسْتِهْلَاكِهَا ثَبَتَ عَدَمُ تَوَقُّفِ اعْتِبَارِهَا عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ بَعْدَ ثُبُوتِ اعْتِبَارِهَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ شَرْعًا إجْمَاعًا

ص: 123

(وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ) إلَّا أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمِسْكِينُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا وُجِدَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ.

حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَيْهِ الثَّوَابُ (وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ) فَإِنْ قُلْت: لَكِنَّهُ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَإِبَاحَةٌ مِنْهُ.

قُلْنَا: الثَّابِتُ مِنْ الشَّارِعِ إذْنُهُ فِي التَّصَدُّقِ لَا إيجَابُهُ (هَذَا) الْقَدْرُ (لَا يُنَافِي) وُجُوبَ الضَّمَانِ (حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا فِي) إذْنِهِ (فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ) وَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ مَعَ ثُبُوتِ الضَّمَانِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُثْبِتَ إذْنَهُ مُقَيَّدًا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ ضَمَانِ مَالِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمِسْكِينَ) إذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ (هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ) فَإِنْ قُلْت: إذَا قَبَضَهَا الْفَقِيرُ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ فَكَيْفَ يَسْتَرْجِعُهَا.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ مَعَ ثُبُوتِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ كَمَا فِي الْهِبَةِ. وَالْمُرْتَدُّ: الرَّاجِعُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا بَعْدَ أَخْذِ الْوَرَثَةِ مَالَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللِّحَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جُعِلَ كَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إذْنِهِ (وَإِنْ كَانَ قَائِمًا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ) وَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي جَعْفَرٍ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ إذَا تَصَدَّقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، أَمَّا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ رَدُّوهُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ الْقَاضِي بِنَفْسِهِ كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَهُ إذَا جَاءَ فَضْلًا عَنْ الْمُلْتَقِطِ الْمُتَصَدِّقِ بِأَمْرِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِي نَاظِرٌ لِلْغَيْبِ فِي أَمْوَالِهِمْ حِفْظًا لَهَا لَا إتْلَافًا فَلَا يَنْفُذُ مِنْ إتْلَافِهِ إلَّا مَا لَزِمَهُ شَرْعًا الْقِيَامُ وَالتَّصَدُّقُ لَيْسَ كَذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ الِالْتِقَاطُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ) وَأَحْمَدُ (إذَا وُجِدَ الْبَقَرُ وَالْبَعِيرُ فِي الصَّحْرَاءِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ،

ص: 124

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفَرَسُ. لَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ مَخَافَةَ الضَّيَاعِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا مَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا يَقِلُّ الضَّيَاعُ وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ فَيَقْضِي بِالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبُ إلَى التَّرْكِ.

وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ كَمَا فِي الشَّاةِ (فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ) لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ ذِمَّةِ الْمَالِكِ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفَرَسُ) لَهُمَا (أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ وَإِبَاحَةُ الِالْتِقَاطِ مَخَافَةَ الضَّيَاعِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا مَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا بِهِ) كَالْقَرْنِ مَعَ الْقُوَّةِ فِي الْبَقَرِ وَالرَّفْسِ مَعَ الْكَدْمِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ (يَقِلُّ) ظَنُّ (الضَّيَاعِ وَلَكِنَّهُ يُتَوَهَّمُ فَيَقْضِي بِالْكَرَاهَةِ فِي الْأَخْذِ وَالنَّدْبِ إلَى التَّرْكِ) هَذَا، وَلَكِنَّ كَلَامَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ وَحِلِّهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ.

(وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ كَمَا فِي الشَّاةِ) لَكِنَّ هَذَا قِيَاسٌ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ كُلُّهُمْ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا، قُلْت: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ، وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: مَالَك وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ فَذَرْهَا حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا» وَرَوَى أَبُو دَاوُد «عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَرْدِ بَقَرَةٍ لَحِقَتْ بِبَقَرَةٍ حَتَّى تَوَارَتْ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّ ضَالَّةَ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

أَجَابَ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ إذْ ذَاكَ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْأَمَانَةُ لَا تَصِلُ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يَأْمَنُ وُصُولَ يَدٍ خَائِنَةٍ إلَيْهَا بَعْدَهُ، فَفِي أَخْذِهَا إحْيَاؤُهَا وَحِفْظُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ أَوْلَى.

وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ أَنْ يَجِبَ الِالْتِقَاطُ وَهَذَا أَحَقُّ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وُصُولُهَا إلَى رَبِّهَا وَأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقُ الْوُصُولِ، فَإِذَا تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَصَارَ طَرِيقُ التَّلَفِ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُ بِلَا شَكٍّ خِلَافُهُ وَهُوَ الِالْتِقَاطُ لِلْحِفْظِ وَالرَّدِّ. وَأَقْصَى مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْأَوْقَاتِ خَصَّ مِنْهَا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ مِنْ الدَّيْنِ لَوْ لَمْ يَتَأَيَّدْ بِحَدِيثٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الضَّالَّةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ»، فَتَأَيَّدَ بِهِ زِيَادَةٌ بَعْدَ تَمَامِ الْوَجْهِ (قَوْلُهُ فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ ذِمَّةِ الْمَالِكِ) أَيْ عَنْ أَنْ يَشْغَلَهَا بِالدَّيْنِ بِلَا أَمْرِهِ.

(وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ) الْآنَ

ص: 125

(وَإِذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا) لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا) إبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ صُورَةً (وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا) لِأَنَّهُ نَصَبَ نَاظِرًا وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، قَالُوا: إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى رَجَاءَ أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ فَلَا نَظَرَ فِي الْإِنْفَاقِ مُدَّةً مَدِيدَةً.

قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَفِي الْأَصْلِ شَرْطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَصْبًا فِي يَدِهِ فَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ فِي الْوَدِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لِكَشْفِ الْحَالِ وَلَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ تُقَامُ لِلْقَضَاءِ.

فَإِذَا رَفَعَ إلَى الْحَاكِمِ فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ) وَثَمَّ مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا (آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا بِلَا إلْزَامِ دَيْنٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ) أَوْ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا (وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا إبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ إبْقَائِهِ صُورَةً) فَإِنَّ الثَّمَنَ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ إذْ يَصِلُ بِهِ إلَى مِثْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ (وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ) لَهُ (فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَيْهِ) إذْ (فِيهِ نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) جَانِبِ الْمَالِكِ بِإِبْقَاءِ عَيْنِ مَالِهِ لَهُ وَجَانِبِ الْمُلْتَقِطِ بِالرُّجُوعِ (قَالَ الْمَشَايِخُ: إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى قَدْرِ مَا يُرْجَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا)، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ لِلْعَيْنِ مَعْنًى، بَلْ رُبَّمَا تَذْهَبُ الْعَيْنُ وَيَفْضُلُ الدَّيْنُ عَلَى مَالِكِهَا، وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ مِنْ الْقَاضِي ذَلِكَ لَوْ أَمَرَ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِعَدَمِ النَّظَرِ، وَإِذَا بَاعَهَا أَعْطَى الْمُلْتَقِطَ مِنْ ثَمَنِهَا مَا أَنْفَقَ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا وَالنَّفَقَةُ دَيْنٌ عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْقَاضِي، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَاعَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ جَاءَ وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهُ وَأَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ.

وَإِنْ جَاءَ وَهِيَ هَالِكَةٌ فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْبَائِعُ، فَإِنْ ضَمِنَ الْبَائِعُ نَفَذَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ اللُّقَطَةَ مِنْ حِينِ أَخَذَهَا وَكَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ وَيَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ (وَفِي الْأَصْلِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ (يَشْتَرِطُ الْبَيِّنَةَ) فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ رَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ الْتَقَطَهَا أَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ غَصَبَهَا، وَلَا يَأْمُرُ بِالنَّفَقَةِ إلَّا فِي الْوَدِيعَةِ) وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ (لِكَشْفِ الْحَالِ) أَيْ لِيَنْكَشِفَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ الْتَقَطَهَا لَا لِلْقَضَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى خَصْمٍ لَهُ، ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ.

وَفِي الذَّخِيرَةِ:

ص: 126

وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي بِقَوْلِ الْقَاضِي لَهُ أَنْفِقْ عَلَيْهِ إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت حَتَّى تَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ إنْ كَانَ صَادِقًا، وَلَا يَرْجِعُ إنْ كَانَ غَاصِبًا.

وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ مَا حَضَرَ وَلَمْ تُبَعْ اللُّقَطَةُ إذَا شَرَطَ الْقَاضِي الرُّجُوعَ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ (وَإِذَا حَضَرَ) يَعْنِي (الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ) لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ؛ وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رَادُّ الْآبِقِ فَإِنَّ لَهُ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعَلِ لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ لَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ شَبِيهَ الرَّهْنِ.

الْإِمَامُ خَصْمٌ فِيهَا عَنْ صَاحِبِهَا (وَإِنْ قَالَ) الْمُلْتَقِطُ (لَا بَيِّنَةَ لِي يَقُولُ لَهُ أَنْفِقْ عَلَيْهَا إنْ كُنْت صَادِقًا) وَفِي الذَّخِيرَةِ: يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ بَيْنَ يَدِي الثِّقَاتِ بِأَنْ يَقُولَ أَمَرْته بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِنْفَاقِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ (وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ (إذَا شَرَطَ الْقَاضِي) ذَلِكَ (وَهَذَا رِوَايَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ) وَقِيلَ يَرْجِعُ بِمُجَرَّدِ أَمْرِهِ، وَقَدْ مَرَّ فِي اللَّقِيطِ (وَإِذْ حَضَرَ الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ حَيٌّ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْهُ فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ. وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ رَادُّ الْآبِقِ فَإِنَّ لَهُ الْحَبْسَ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعَلِ لِمَا ذَكَرْنَا)

مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْمَبِيعِ (وَلَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ كَالرَّهْنِ) مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْحَبْسِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَهُ سَقَطَ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْحَبْسِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَحَافِظُ الدِّينِ فِي الْكَافِي أَيْضًا، فَيُفْهَمُ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ.

وَجَعَلَ الْقُدُورِيُّ هَذَا قَوْلَ زُفَرَ. قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَحَبَسَهَا بِالنَّفَقَةِ فَهَلَكَتْ لَمْ تَسْقُطْ النَّفَقَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهَا دَيْنٌ غَيْرُ بَدَلٍ عَنْ عَيْنٍ وَلَا عَنْ عَمَلٍ مِنْهُ فِيهَا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا: أَيْ الْعَيْنَ عَقْدٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ. وَصَرَّحَ فِي الْيَنَابِيعِ بِعَدَمِ السُّقُوطِ عَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: لَوْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى اللُّقَطَةِ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ وَحَبَسَهَا لِيَأْخُذَ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا فَهَلَكَتْ لَمْ تَسْقُطْ النَّفَقَةُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ.

وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي التَّقْرِيبِ نَفْيُ الْحُكْمِ: أَعْنِي السُّقُوطَ لِعَدَمِ دَلِيلِ السُّقُوطِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ وَلَيْسَتْ الْعَيْنُ الْمُلْتَقَطَةُ رَهْنًا لِيَسْقُطَ بِهَلَاكِهَا إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهَا عَقْدُ الرَّهْنِ. وَالْمُصَنِّفُ أَوْجَدَ الدَّلِيلَ وَهُوَ الْإِلْحَاقُ بِالرَّهْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَقِيقَتِهِ لَكِنَّ النَّقْلَ كَمَا رَأَيْت. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ

ص: 127

قَالَ (وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ التَّعْرِيفُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ إلَى أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الْحَرَمِ «وَلَا يَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ، وَفِي التَّصَدُّقِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ إبْقَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي سَائِرِهَا، وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِالْتِقَاطُ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْحُرْمِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ التَّعْرِيفُ فِيهِ لِمَكَانِ أَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ ظَاهِرًا.

لَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا أَصْلًا فَأَبْلَغُ

(قَوْلُهُ وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَامِ سَوَاءٌ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ يُعَرِّفُهَا أَبَدًا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا لَا حُكْمَ لَهَا سِوَى ذَلِكَ مَنْ تَصَدَّقَ وَلَا تُمْلَكُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» الْحَدِيثَ. الْمُنْشِدُ: الْمُعَرِّفُ، وَالنَّاشِدُ: الطَّالِبُ.

قَالَ الْمُثَقَّبُ:

يَسِيخُ لِلنَّبْأَةِ أَسْمَاعَهُ

إسَاخَةَ الْمُنْشِدِ لِلنَّاشِدِ

وَيُرْوَى يَصِيخُ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، فَالْفِعْلُ مِنْ الْأَوَّلِ أَنْشَدَ الضَّالَّةَ يَنْشُدُهَا، وَأَنْشَدَهَا إنْشَادًا: إذَا أَعْرَفْتَهَا، وَمِنْ الثَّانِي نَشَدْتهَا أَنْشُدُهَا نَشْدًا وَنِشْدَانًا بِكَسْرِ النُّونِ: إذَا طَلَبْتهَا

(وَلَنَا إطْلَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم) فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ وَغَيْرِهِ وَسُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ (اعْرِفْ عِفَاصَهَا) أَيْ وِعَاءَهَا مِنْ جِلْدٍ أَوْ خِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا (وَوِكَاءَهَا) أَيْ رِبَاطَهَا الَّذِي شُدَّتْ بِهِ وَعَرِّفْهَا سَنَةً وَتَقَدَّمَ، فَإِمَّا أَنْ يَقْضِيَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَإِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا فَيُحْمَلُ كُلٌّ عَلَى مَحْمَلٍ وَهُوَ أَوْلَى، لَكِنْ لَا تَعَارُضَ لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ: لَا يَحِلُّ الِالْتِقَاطُ إلَّا لِمَنْ يُعَرِّفُ وَلَا يَحِلُّ لِنَفْسِهِ.

وَتَخْصِيصُ مَكَّةَ حِينَئِذٍ لِدَفْعِ وَهْمِ سُقُوطِ التَّعْرِيفِ بِهَا بِسَبَبِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا وُجِدَ بِهَا مِنْ لُقَطَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْغُرَبَاءِ وَقَدْ تَفَرَّقُوا فَلَا يُفِيدُ التَّعْرِيفُ فَيَسْقُطُ كَمَا يَسْقُطُ فِيمَا يَظْهَرُ إبَاحَتُهُ، فَبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام أَنَّهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ فِي وُجُوبِ

ص: 128

(وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ. فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ). وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يُجْبَرُ، وَالْعَلَامَةُ مِثْلُ أَنْ يُسَمِّيَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا. لَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ يُنَازِعُهُ فِي الْيَدِ وَلَا يُنَازِعُهُ فِي الْمِلْكِ، فَيُشْتَرَطُ الْوَصْفُ لِوُجُودِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ وَجْهٍ.

وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ اعْتِبَارًا بِالْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الدَّفْعُ عِنْدَ إصَابَةِ الْعَلَامَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ» وَهَذَا لِلْإِبَاحَةِ عَمَلًا بِالْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» الْحَدِيثَ

التَّعْرِيفِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِي يَتْرُكُهَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا، وَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ لِفُشُوِّ السَّرِقَةِ بِمَكَّةَ مِنْ حَوَالِي الْكَعْبَةِ فَضْلًا عَنْ الْمَتْرُوكِ، وَالْأَحْكَامُ إذَا عُلِمَ شَرْعِيَّتُهَا بِاعْتِبَارِ شَرْطٍ ثُمَّ عُلِمَ ثُبُوتُ ضِدِّهِ مُتَضَمِّنًا مَفْسَدَةً بِتَقْدِيرِ شَرْعِيَّتِهِ مَعَهُ عُلِمَ انْقِطَاعُهَا، بِخِلَافِ الْعِلْمِ بِشَرْعِيَّتِهَا لِسَبَبٍ إذَا عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي الْبَقَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ كَالرَّمْلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ)

وَأَحْمَدَ (يُجْبَرُ) وَإِعْطَاءُ عَلَامَتِهَا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ وَزْنِهَا وَعَدَدِهَا وَوِكَائِهَا وَيُصِيبُ فِي ذَلِكَ. وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا، وَالْمُوجِبُ لِلدَّفْعِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «عَرِّفْهَا، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُك بِعَدَدِهَا وَوِكَائِهَا وَوِعَائِهَا فَأَعْطِهِ إيَّاهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ وَفِيهِ «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَعَرَّفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ وَإِلَّا فَهِيَ لَك» وَأَيْضًا (فَإِنَّ صَاحِبَ الْيَدِ) وَهُوَ الْمُلْتَقِطُ (إنَّمَا يُنَازِعُهُ فِي الْيَدِ لَا فِي الْمِلْكِ) لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ فَكَانَتْ مُنَازَعَتُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَيُشْتَرَطُ مَا هُوَ حُجَّةٌ مِنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَفِي الْوَصْفِ الْمُطَابِقِ ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِهِ (وَلَا يُشْتَرَطُ الْبَيِّنَةُ لِعَدَمِ مُنَازَعَتِهِ) مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا (وَلَنَا أَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ كَالْمِلْكِ) حَتَّى أَنَّ غَاصِبَ الْمُدَبَّرِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلَمْ يُفَوِّتْ غَيْرَ الْيَدِ فَيَكُونُ مِثْلَهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ غَيْرَ أَنَّا أَبَحْنَا لَهُ الدَّفْعَ عِنْدَ إصَابَةِ الْعَلَامَةِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَوْهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدَّعْوَى،

ص: 129

وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا إذَا كَانَ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ اسْتِيثَاقًا، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ التَّكْفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ. وَإِذَا صُدِّقَ قِيلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ إذَا صَدَّقَهُ.

وَقِيلَ يُجْبَرُ لِأَنَّ الْمَالِكَ هَاهُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالْمُودِعُ مَالِكٌ ظَاهِرًا،

وَالْمُدَّعِي هُنَا صَاحِبُ اللُّقَطَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، ثُمَّ إذَا دَفَعَهَا بِالْعَلَامَةِ فَقَطْ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا اسْتِيثَاقًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ التَّكْفِيلِ لِوَارِثٍ غَائِبٍ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا إذَا قُسِمَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ الْوَرَثَةِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَرِيمِ وَلَا مِنْ الْوَارِثِ كَفِيلٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ.

وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ هُنَا غَيْرُ ثَابِتٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ غَيْرَهُ فَيَجِيءُ وَيَتَوَارَى الْآخِذُ فَيُحْتَاطُ بِالْكَفِيلِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ مَعْلُومٌ ثَابِتٌ، وَكَوْنُ غَيْرِهِ أَيْضًا لَهُ حَقٌّ أَمْرٌ مَوْهُومٌ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَقِّ الثَّابِتِ إلَى زَمَانِ تَحْصِيلِ الْكَفِيلِ بِحَقٍّ مَوْهُومٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَفْعَ الْمُلْتَقِطِ لَوْ كَانَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَذُكِرَ فِي جَامِعِ قَاضِي خَان أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ. وَأُورِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ نَفَى الْخِلَافَ فِي التَّكْفِيلِ فِي اللُّقَطَةِ.

وَقَالَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ فِيهِ: أَيْ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ عِنْدَ رَفْعِ اللُّقَطَةِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ. عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَأْخُذُ، هَذَا إذَا دَفَعَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَلَامَةِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ مَعَ الْعَلَامَةِ أَوْ لَا مَعَهَا فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ دَفْعِهِ إلَيْهِ، لَكِنْ هَلْ يُجْبَرُ؟ قِيلَ يُجْبَرُ كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً، وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ كَالْوَكِيلِ يَقْبِضُ الْوَدِيعَةَ إذَا صَدَّقَهُ الْمُودِعُ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ، وَدَفَعَ بِالْفَرْقِ (بِأَنَّ الْمَالِكَ هُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ) أَيْ الْمَالِكُ الْآخِذُ لِهَذِهِ اللُّقَطَةِ الَّتِي صَدَّقَ الْمُلْتَقِطُ مُدَّعِيهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالْمُودِعُ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ مَالِكٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ لِلْحَاضِرِ بِحَقِّ قَبْضِهَا وَإِقْرَارُهُ بِحَقِّ قَبْضِ مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ إقْبَاضُهُ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِذَا دَفَعَ بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالْعَلَامَةِ وَجَاءَ آخَرُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُدَّعِي قَضَى لَهُ بِهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْقَابِضُ أَوْ الْمُلْتَقِطُ، فَإِنْ ضَمِنَ الْقَابِضُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ فَفِي رِوَايَةٍ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ بِتَصْدِيقِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَرْجِعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

ص: 130

وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّصَدُّقُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ» يَعْنِي صَاحِبَهَا، «فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ رضي الله عنه «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَانْتَفِعْ بِهَا» وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا صِيَانَةً لَهَا وَالْغَنِيُّ يُشَارِكُهُ فِيهِ.

وَلَنَا مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ لِاحْتِمَالِ افْتِقَارِهِ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، وَالْفَقِيرُ قَدْ يَتَوَانَى لِاحْتِمَالِ اسْتِغْنَائِهِ فِيهَا

وَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَالِكُهَا وَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ ظَلَمَهُ بِتَضْمِينِهِ فَلَا يَظْلِمُهُ هُوَ وَصَارَ كَالْمُودِعِ إذَا صَدَّقَ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ وَدَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمِنَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ وَالْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ.

وَلَنَا أَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْمِلْكِ لَكِنَّهُ لَمَّا قَضَى بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ فَقَدْ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِتَكْذِيبِ الْقَاضِي فَبَطَلَ إقْرَارُهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ دَفَعَ بِلَا تَصْدِيقٍ، ثُمَّ ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَصَارَ كَإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ إذَا اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ بِبَيِّنَةٍ فَقَضَى لَهُ بِهِ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ، وَمِثْلُ هَذَا يَجْرِي فِي إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ. وَاَلَّذِي فَرَّقَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُودِعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُودِعُ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ وَلَيْسَ بِضَامِنٍ، بَلْ الْمُودِعُ ظَلَمَهُ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ، وَمَنْ ظُلِمَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ مُوهِنًا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ ضَامِنٌ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ انْتَهَى (قَوْلُهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الصَّدَقَةُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ: يَعْنِي صَاحِبَهَا، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ) وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سُمَيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ، فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلْيُؤَدِّهِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ، فَإِنْ جَاءَ فَلْيُخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَبَيْنَ الَّذِي لَهُ» وَفِيهِ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ.

وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ إذَا كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِطَرِيقِ الْقَرْضِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً لَا فَرْضًا فَيَكُونُ فِيهِ لِلْمَالِكِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ تَحْقِيقًا لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمَالِكِ بِحُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ وَجَانِبِ الْمُلْتَقِطِ كَمَا لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ، وَلِهَذَا جَازَ دَفْعُهَا إلَى فَقِيرٍ غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ وَإِنْ كَانَ أَبَا الْمُلْتَقِطِ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِطَرِيقِ الْقَرْضِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا») قَالُوا (وَأُبَيُّ كَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ) بِدَلِيلِ مَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِك» .

فَقَدْ جَعَلَ لَهُ مَالًا، قُلْنَا: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ الْخِطَابَ لِأُبَيِّ، فَإِنَّهَا كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه

ص: 131

وَانْتِفَاعُ أُبَيٍّ رضي الله عنه كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا جَازَ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ غَيْرِهِ (وَكَذَا إذَا كَانَ الْفَقِيرُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ غَنِيًّا) لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي اللُّقَطَةِ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ، إلَى أَنْ قَالَ: فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِك» وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَحْكِي قَوْلَهُ لِسَائِلٍ يَسْأَلُهُ، وَجَازَ كَوْنُ ذَلِكَ كَانَ فَقِيرًا. ثُمَّ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى فَقْرِ أُبَيٍّ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ، فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: اجْعَلْهَا فِي فُقَرَاءِ قَرَابَتِك، فَجَعَلَهَا» أَبُو طَلْحَةَ فِي أُبَيٍّ وَحَسَّانٍ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ أُبَيًّا كَانَ فَقِيرًا، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ قَضَايَا الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال.

وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ «جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ، إلَى أَنْ قَالَ وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا» وَفِي رِوَايَةٍ " فَهِيَ لَك " فَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ الْمُتَطَرِّقِ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، إذْ يَجُوزُ كَوْنُ السَّائِلِ فَقِيرًا، لَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْخِطَابَ لِأُبَيِّ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ ذَاتِ الِاحْتِمَالِ، إذْ الْمَالُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ نِصَابًا، وَكَوْنُهُ خَالِيًا عَنْ الدَّيْنِ لَوْ كَانَ نِصَابًا فَجَازَ كَوْنُهُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَكَوْنُهُ مَدْيُونًا. قَالُوا: لَوْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ لَا تَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ إلَّا بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ فَيَمْتَنِعُ إذَا كَانَ غَنِيًّا لَمَّا أَكَلَهَا عَلِيٌّ رضي الله عنه وَهُوَ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ.

وَقَدْ أَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهَا فِيمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ يَبْكِيَانِ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمَا؟ قَالَتْ: الْجُوعُ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَوَجَدَ دِينَارًا بِالسُّوقِ، فَجَاءَ فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَخُذْ لَنَا دَقِيقًا، فَجَاءَ الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنْتَ خَتَنُ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَخُذْ دِينَارَك وَالدَّقِيقُ لَك، فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَقَالَتْ: اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ الْجَزَّارِ وَخُذْ لَنَا بِدِرْهَمٍ لَحْمًا، فَذَهَبَ فَرَهَنَ الدِّينَارَ بِدِرْهَمٍ بِلَحْمٍ، فَعَجَنَتْ وَخَبَزَتْ وَأَرْسَلَتْ إلَى أَبِيهَا فَجَاءَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ لَك فَإِنْ رَأَيْته حَلَالًا لَنَا أَكَلْنَاهُ، مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلُوا فَبَيْنَمَا هُمْ مَكَانَهُمْ إذَا غُلَامٌ يَنْشُدُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ الدِّينَارَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ فَدُعِيَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَقَطَ مِنِّي فِي السُّوقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا عَلِيُّ اذْهَبْ إلَى الْجَزَّارِ فَقُلْ لَهُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَك: أَرْسِلْ إلَيَّ بِالدِّينَارِ وَدِرْهَمُك عَلَيَّ، فَأَرْسَلَ بِهِ فَدَفَعَهُ صلى الله عليه وسلم إلَى الْغُلَامِ» .

قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ تُكُلِّمَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِهِ إنْفَاقَهُ قَبْلَ التَّعْرِيفِ فَدَلَّ عَلَى ضَعْفِهِ. وَقَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ: وَلَعَلَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ يُعْتَدُّ بِهَا فَمُرَاجَعَتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْخَلْقِ إعْلَانٌ بِهِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الِاكْتِفَاءَ فِي التَّعْرِيفِ بِمَرَّةٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ اشْتَرَوْا وَخَبَزُوا وَأَحْضَرُوهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَكْلِ. نَعَمْ يَجِبُ الْحُكْمُ بِأَنَّ عَلِيًّا عَرَّفَهُ قَبْلَ

ص: 132

‌كِتَابُ الْإِبَاقِ

(الْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ)

أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فَاطِمَةَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ. وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ، وَفِيهِ «أَنَّهُ أَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَرِّفْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَعَرَّفَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ، فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: شَأْنُك بِهِ».

وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمُخْتَارِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِحَوْلٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ إلَى أَنْ تَسْكُنَ نَفْسُهُ إلَى أَنَّ طَالِبَهُ قَطَعَ نَظَرَهُ عَنْهُ. وَفِي سَنَدِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ الْبَزَّارُ عَلَى الظَّنِّ: هُوَ عِنْدِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: هُوَ مَتْرُوكٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ وَمِنْ جِهَةِ الِاضْطِرَابِ، لِأَنَّ مَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْلَمُوهُ بَعْدَ أَنْ اشْتَرَوْا وَصَارَ مُهَيَّئًا لِلْأَكْلِ يُنَاقِضُ مَا فِي الثَّانِيَةِ مِنْ أَنَّهُ أَعْلَمَهُ فَأَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَخْذِهِ.

وَفِي الْأُولَى أَنَّهُ دَفَعَ عَيْنَهُ لِلْمُنْشِدِ. وَفِي الثَّانِيَةِ " أَنَّهُ جَعَلَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ وَقَالَ: إذَا جَاءَنَا أَدَّيْنَاهُ إلَيْك " وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ.

ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا حُجِّيَّتَهُ كَانَ الثَّابِتُ بِهِ أَنَّ اسْتِقْرَاضَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَحِلُّ النِّزَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ جَوَازُ افْتِرَاضِ الْمُلْتَقِطِ الْغَنِيِّ، فَلَوْ سَلَّمْنَا ضَعْفَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّدَقَةِ بِنَاءً عَلَى تَضْعِيفِ السَّمْتِيِّ كَفَانَا جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ هُوَ يُثْبِتُ أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ الْغَنِيِّ فِيهَا حُكْمًا آخَرَ، وَنَحْنُ نُطَالِبُهُ فِي إثْبَاتِهِ بِالدَّلِيلِ وَلَمْ يَتِمَّ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَيَبْقَى عَلَى الِانْتِفَاءِ.

كِتَابُ الْإِبَاقِ

كُلٌّ مِنْ الْإِبَاقِ وَاللَّقِيطِ وَاللُّقَطَةِ تَحَقَّقَ فِيهِ عُرْضَةُ الزَّوَالِ وَالتَّلَفِ، إلَّا أَنَّ التَّعَرُّفَ لَهُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٌ فِي الْإِبَاقِ فَكَانَ الْأَنْسَبُ تَعْقِيبَ الْجِهَادِ بِهِ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ، وَكَذَا الْأَوْلَى فِيهِ، وَفِي اللُّقَطَةِ التَّرْجَمَةُ بِالْبَابِ لَا بِالْكِتَابِ.

وَالْإِبَاقُ فِي اللُّغَةِ: الْهَرَبُ، أَبَقَ يَأْبِقُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالْهَرَبُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَصْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا قِيلَ هُوَ الْهَرَبُ قَصْدًا. نَعَمْ لَوْ قِيلَ الِانْصِرَافُ وَنَحْوُهُ عَنْ الْمَالِكِ كَانَ قَيْدُ الْقَصْدِ مُفِيدًا وَالضَّالُّ لَيْسَ فِيهِ قَصْدُ التَّغَيُّبِ بَلْ هُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَوْلَاهُ لِجَهْلِهِ بِالطَّرِيقِ إلَيْهِ (قَوْلُهُ الْآبِقُ أَخْذُهُ أَفْضَلُ) مِنْ تَرْكِهِ (فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ) أَيْ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى مَوْلَاهُ، بِخِلَافِ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ ذَلِكَ وَالضَّعْفَ وَلَا يُعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ التَّفْصِيلُ فِي اللُّقَطَةِ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُهُ عَلَى الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَأْخُذْهُ مَعَ قُدْرَةٍ تَامَّةٍ

ص: 133

لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ، وَأَمَّا الضَّالُّ فَقَدْ قِيلَ كَذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ الْمَالِكُ وَلَا كَذَلِكَ الْآبِقُ ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ، ثُمَّ إذَا رُفِعَ الْآبِقُ إلَيْهِ يَحْبِسُهُ، وَلَوْ رُفِعَ الضَّالُّ لَا يَحْبِسُهُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى الْآبِقِ الْإِبَاقُ ثَانِيًا، بِخِلَافِ الضَّالِّ

قَالَ (وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جُعْلُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.

وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِمَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الضَّالَّ.

عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَخْذُهُ وَإِلَّا فَلَا.

وَاخْتُلِفَ فِي أَخْذِ الضَّالِّ، قِيلَ أَخْذُهُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ النُّفُوسِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ (وَقِيلَ تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ) مُنْتَظِرًا لِمَوْلَاهُ حَتَّى يَجِدَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ انْتِظَارَهُ فِي مَكَان غَيْرِ مُتَزَحْزِحٍ عَنْهُ لَيْسَ بِوَاقِعٍ بَلْ نَجِدُ الضُّلَّالَ يَدُورُونَ مُتَحَيِّرِينَ، لَا شَكَّ فِي أَنَّ مَحِلَّ هَذَا الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَاجِدُ الضَّالِّ مَوْلَاهُ وَلَا مَكَانَهُ، أَمَّا إذَا عَلِمَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي أَفْضَلِيَّةِ أَخْذِهِ وَرَدِّهِ (قَوْلُهُ ثُمَّ آخِذُ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ إلَى السُّلْطَانِ) أَوْ الْقَاضِي فَيَحْبِسُهُ مَنْعًا لَهُ عَنْ الْإِبَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ عَنْ إبَاقِهِ مِنْ الْأَخْذِ إلَّا بِذَلِكَ عَادَةً، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ.

أَمَّا لَوْ فُرِضَ قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى السُّلْطَانِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ خَيَّرَهُ الْحَلْوَانِيُّ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى السُّلْطَانِ أَوْ يَحْفَظَهُ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا الضَّالُّ وَالضَّالَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، وَإِذَا حَبَسَ الْإِمَامُ الْآبِقَ فَجَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَاهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ عَبْدُهُ يَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ بَاقٍ إلَى الْآنِ فِي مِلْكِك لَمْ يَخْرُجْ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ، فَإِذَا حَلَفَ دَفَعَهُ إلَيْهِ.

وَهَذَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عَرَضَ بَعْدَ عِلْمِ الشُّهُودِ بِثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ زَوَالِهِ بِسَبَبٍ لَا يَعْلَمُونَهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحْلِفُهُ مَعَ عَدَمِ خَصْمٍ يَدَّعِي لِصِيَانَةِ قَضَائِهِ عَنْ الْخَطَإِ وَنَظَرًا لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ مَوْهُوبٍ لَهُ، ثُمَّ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَنْ بَيِّنَةٍ فَفِي أَوْلَوِيَّةِ أَخْذِ الْكَفِيلِ وَتَرْكِهِ رِوَايَتَانِ، وَكَمَا يَدْفَعُهُ بِالْبَيِّنَةِ يَدْفَعُهُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ أَنَّهُ لَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ هُنَا كَفِيلًا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مُدَّةَ حَبْسِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَيَرُدُّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، بِخِلَافِ اللَّقِيطِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا كَبِرَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِفَقْرِهِ وَعَجْزِهِ عَنْ الْكَسْبِ، بِخِلَافِ مَالِكِ الْعَبْدِ، وَإِذَا لَمْ يَجِئْ لِلْعَبْدِ طَالِبٌ وَطَالَتْ مُدَّتُهُ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَمْسَكَ ثَمَنَهُ بَعْدَ أَخْذِ مَا أَنْفَقَ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْهُ، فَإِذَا جَاءَ مَالِكُهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَأْخُذُهُ وَلَا يُنْتَقَضُ بَيْعُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَحُكْمِهِ، بِخِلَافِ الضَّالِّ إذَا طَالَتْ مُدَّتُهُ فَإِنَّهُ يُؤَاجِرُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْشَى إبَاقَهُ فَلَا يَبِيعُهُ، أَمَّا الْآبِقُ فَيُخْشَى ذَلِكَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ يَبِيعُهُ وَلَا يُؤَاجِرُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّرَ الطُّولَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الضَّالَّةِ الْمُلْتَقَطَةِ لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ، وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ لِلْمَالِكِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جَعْلُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) فِضَّةً بِوَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ (وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ) مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ (فَبِحِسَابِهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ) بِأَنْ يَقُولَ مَنْ رَدَّ عَلَيَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا كَمَا إذَا رَدَّ بَهِيمَةً ضَالَّةً أَوْ عَبْدًا ضَالًّا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّادَّ تَبَرَّعَ

ص: 134

وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْجُعْلِ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا، فَأَوْجَبْنَا الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فِيمَا دُونَهُ تَوْفِيقًا وَتَلْفِيقًا بَيْنَهُمَا،

بِمَنَافِعِهِ فِي رَدِّهِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا فَكَذَا هَذَا. وَقَوْلُنَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ (وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَصْلِ الْجُعْلِ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْأَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا) وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ الْفَتْوَى بِهِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَخْفَى فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.

وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: " كُنْت قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا قَدِمَ بِإِبَاقٍ مِنْ الْفَيُّومِ، فَقَالَ الْقَوْمُ لَقَدْ أَصَابَ أَجْرًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَجُعْلًا إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ ".

وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَعِيدٍ نَفْسِهِ أَيْضًا، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي رَبَاحٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: " أَصَبْت غِلْمَانًا إبَاقًا بَالِغِينَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ، قُلْت هَذَا الْأَجْرُ فَمَا الْغَنِيمَةُ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنْ كُلِّ رَأْسٍ " وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي هَاشِمٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَضَى فِي جُعْلِ الْآبِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ " أَعْطَيْت الْجُعْلَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ". وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ " أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَعَلَ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارًا أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا ".

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه " أَنَّهُ جَعَلَ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارًا أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا " وَأَخْرَجَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ يُوجَدُ فِي خَارِجِ الْحَرَمِ بِدِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . وَهَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ. وَالْمَفْهُومُ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ فِي الْمُتَبَادِرِ الْقُرْبِ لَا قَدْرِ مَسِيرَةِ سَفَرٍ عَنْهُ، وَعَنْ هَذَا رَوَى عَمَّارٌ " إنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةٌ، وَإِنْ أَخَذَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ " لَعَلَّهُ اعْتَبَرَ الْحَرَمَ كَالْمَكَانِ الْوَاحِدِ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ دُونَهَا) يُرِيدُ الْمَرْوِيَّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَقَدْ عَلِمْت الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّ الْجُعْلَ أَرْبَعُونَ، وَسَنَدُهُ أَحْسَنُ مِنْ الْأُخْرَى، وَالرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ مُضَعَّفَةٌ بِالْحَرْثِ الْمَذْكُورِ فَكَانَتْ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَقْوَى الْكُلِّ فَرَجَّحْنَاهَا، وَكَذَا قَوْلُ الْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنِهِ: هُوَ أَمْثَلُ مَا فِي الْبَابِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ إذَا سَاوَى الْأَكْثَرَ فِي الْقُوَّةِ. وَقِيلَ إنَّمَا يُؤْخَذُ بِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ، وَهُنَا يُمْكِنُ إذْ تُحْمَلُ رِوَايَاتُ الْأَرْبَعِينَ عَلَى رَدِّهِ مِنْ مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَرِوَايَاتُ الْأَقَلِّ عَلَى مَا دُونَهَا، وَيُحْمَلُ قَوْلُ عَمَّارٍ خَارِجَ الْمِصْرِ عَلَى مُدَّةِ السَّفَرِ (وَالتَّلْفِيقُ) الضَّمُّ لَفَقْت الثَّوْبَ أَلْفِقُهُ: إذَا ضَمَمْت

ص: 135

وَلِأَنَّ إيجَابَ الْجُعْلِ أَصْلُهُ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ نَادِرَةٌ فَتَحْصُلُ صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ دُونَهَا إلَى صِيَانَةِ الْآبِقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَارَى وَالْآبِقُ يَخْتَفِي، وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَقِيلَ تُقَسَّمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إذْ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ السَّفَرِ.

قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يُقْضَى لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا وَلِهَذَا

شِقَّهُ إلَى شِقِّهِ، وَلِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَكَانَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ بَعْدَ كَوْنِهِ مُثْبَتًا لِلزِّيَادَةِ وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ رَاجِحٌ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا (وَلِأَنَّ إيجَابَ أَصْلِ الْجُعْلِ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ) وَهُوَ رَدُّهُ احْتِسَابًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ نَادِرَةٌ فَشُرِعَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى الْعِبَادِ مِنْ صِيَانَةِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ (وَتَقْدِيرُ الْجُعْلِ) إنَّمَا يُدْرَى (بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ) إلْحَاقُهُ بِهِ قِيَاسًا وَدَلَالَةً أَيْضًا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ فِي رَدِّهِ دُونَهَا فِي رَدِّ الْآبِقِ لِمَا فِي رَدِّهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّحَفُّظِ فِي حِفْظِهِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي مُرَاعَاتِهِ كَيْ لَا يَأْبِقَ ثَانِيًا مِمَّا لَيْسَ فِي رَدِّ الضَّالِّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ الْآبِقُ لِرَجُلَيْنِ فَصَاعِدًا فَالْجُعْلُ عَلَى قَدْرِ النَّصِيبِ، فَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غَائِبًا فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ حَتَّى يُعْطِيَ تَمَامَ الْجُعْلِ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِنَصِيبِ الْغَائِبِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيمَا يُعْطِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى نَصِيبِهِ إلَّا بِهِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا رَدَّهُ بِلَا اسْتِعَانَةٍ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: إنَّ عَبْدِي قَدْ أَبَقَ فَإِذَا وَجَدْته خُذْهُ فَوَجَدَهُ فَرَدَّهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ مَالِكَهُ اسْتَعَانَ بِهِ وَوَعَدَهُ الْإِعَانَةَ وَالْمُعِينُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.

وَقَوْلُهُ (وَمَا دُونَهُ فِيمَا دُونَهُ) أَيْ أَوْجَبْنَا مَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ فِيمَا دُونَ السَّفَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا عَرَّفْنَا إيجَابَ الْجُعْلِ بِكُلِّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِقْدَارٌ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ، فَإِذَا حَمَلْنَا بَعْضَهُ عَلَى مَا دُونَ السَّفَرِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِالْإِيجَابِ فِيمَا دُونَ السَّفَرِ، لِأَنَّهُ مَا ذُكِرَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ (قَوْلُهُ وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا) أَيْ الْمَالِكِ وَالرَّادِّ أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي يُقَدِّرُهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالِاعْتِبَارِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ (تُقْسَمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ) لِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يَقْضِي لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا (لَهُ أَرْبَعُونَ) وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَلَمْ يُذْكَرْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ مَعَ مُحَمَّدٍ وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ) أَيْ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ وَوَجَبَ اتِّبَاعُهُمَا، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مُخَالَفَةِ مَنْ سِوَاهُمَا لِوُجُوبِ حَمْلِ قَوْلِ

ص: 136

لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الزِّيَادَةِ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ حَطَّ مِنْهُ.

وَمُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَا مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصُ دِرْهَمٌ لِيَسْلَمَ لَهُ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ إذَا كَانَ الرَّدُّ فِي حَيَاةٍ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ؛ وَلَوْ رَدَّ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا جُعْلَ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الْقِنِّ، وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَبَرَّعُونَ بِالرَّدِّ عَادَةً وَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ إطْلَاقُ الْكِتَابِ.

مَنْ نَقَصَ مِنْهَا عَلَى مَا نَقَصَ مِنْ السَّفَرِ فَلَا يُنْتَقَصُ عَنْهَا (وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ) مِنْ إيجَابِ الْجُعْلِ (حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَا مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصَ) مِنْهُ (دِرْهَمٌ لِيَسْلَمَ لَهُ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ) أَيْ فَائِدَةِ إيجَابِ الْجُعْلِ، وَتَعْيِينُ الدِّرْهَمِ لِأَنَّ مَا دُونَهُ كُسُورٌ (وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ إذَا كَانَ الرَّدُّ فِي حَيَاةِ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ) وَبِهِ تَحْيَا مَالِيَّتُهُ لَهُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ لِأَنَّهَا لَا مَالِيَّةَ فِيهَا عِنْدَهُ لَكِنَّهُ أَحَقُّ بِأَكْسَابِهَا (وَلَوْ رَدَّهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا جُعْلَ لَهُ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ) فَيَقَعُ رَدُّ حُرٍّ لَا مَمْلُوكٍ عَلَى مَالِكِهِ، وَهَذَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ حِينَئِذٍ بِالْمَوْتِ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ كَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِيُعْتَقَ وَلَا جُعْلَ فِي رَدِّ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَفِيدُ بِرَدِّهِ مِلْكًا بَلْ اسْتَفَادَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَكَانَ كَرَدِّ غَرِيمٍ لَهُ وَبِرَدِّ غَرِيمٍ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، بِخِلَافِ الْقِنِّ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ) لَهُ، وَقَيَّدَ فِي عِيَالِهِ إنْ رَجَعَ إلَى الرَّادِّ أَوْ إلَى الِابْنِ اقْتَضَى أَنْ يَتَقَيَّدَ نَفْيُ الْجُعْلِ إذَا كَانَ الرَّادُّ ابْنًا بِكَوْنِهِ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ: أَيْ فِي نَفَقَتِهِ وَتَمْوِينِهِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَسْتَوْجِبُ جُعْلًا سَوَاءٌ كَانَ فِي عِيَالِ أَبِيهِ الْمَالِكِ أَوْ لَا، وَجُمْلَةُ الْحَالِ أَنَّ الرَّادَّ إنْ كَانَ وَلَدَ الْمَالِكِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَالْوَصِيُّ لَا يَسْتَحِقُّ جُعْلًا مُطْلَقًا، أَمَّا الْوَلَدُ فَلِأَنَّ الرَّادَّ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ وَبِاعْتِبَارِهِ يَجِبُ، وَكَالْأَجِيرِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخِدْمَةِ، وَالْأَبُ إذَا اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لِيَخْدُمَهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةً لِأَنَّ خِدْمَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الِابْنِ فَوَجَبَ مِنْ وَجْهٍ وَانْتَفَى مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَهَذَا يُفِيدُ عَدَمَ الْوُجُوبِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ فَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَمَّا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كَانَ زَوْجًا فَالْقِيَاسُ يَجِبُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَطْلُبَ الزَّوْجُ عَبْدَ امْرَأَتِهِ تَبَرُّعًا فِي الْعُرْفِ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَالثَّابِتُ عُرْفًا كَالثَّابِتِ نَصًّا، وَإِنْ

ص: 137

قَالَ (وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا أَشْهَدَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّقَطَةِ.

قَالَ رضي الله عنه وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْآبِقَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْجُعْلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ بِحَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا. قَالَ (وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى كَمَا لَقِيَهُ صَارَ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ) كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى، وَكَانَ إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ لِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ، وَالرَّادُّ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ.

كَانَ زَوْجَةً فَلَا يَجِبُ لِهَذَا، وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِجِهَةِ الْخِدْمَةِ يَمْنَعُهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بَدَلَ الْخِدْمَةِ عَلَى الزَّوْجِ كَالْوَلَدِ، وَلِذَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِتَخْدُمَهُ لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ؛ وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَإِنَّمَا لَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِرَدِّ عَبْدِ الْيَتِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ الْحِفْظِ، وَشَأْنُ الْوَصِيِّ أَنْ يَحْفَظَ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمْ مِنْ الْأَبِ وَبَاقِي الْأَقَارِبِ، فَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِ الْمَالِكِ لَا يَجِبُ لَهُمْ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي عِيَالِهِ وَجَبَ لَهُمْ لِأَنَّ الْعَادَةَ وَالْعُرْفَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَطْلُبُ الْآبِقَ بِمَنْ فِي عِيَالِهِ فَكَانَ التَّبَرُّعُ مِنْهُمْ ثَابِتًا عُرْفًا وَهُوَ كَالثَّابِتِ نَصًّا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُونُوا فِي عِيَالِهِ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ حِينَئِذٍ لَمْ يُوجَدْ نَصًّا وَلَا عُرْفًا (قَوْلُهُ وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا ضَمَانَ عَلَى الرَّادِّ.

وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ: لَا شَيْءَ لَهُ أَيْ لَا جُعْلَ لِلرَّادِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ (وَكَذَا إذَا مَاتَ عِنْدَهُ) إلَّا أَنَّ نَفْيَ الْجُعْلِ يَصِحُّ بِلَا شَرْطٍ لِأَنَّ الْجُعْلَ كَالثَّمَنِ وَالرَّادُّ كَالْبَائِعِ لِلْمَالِكِ، لِأَنَّهُ بِإِبَاقِهِ كَالْهَالِكِ مِنْ حَيْثُ فَوَاتُ جَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ بِهِ، وَبِالرَّدِّ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِلْكَهُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَالْبَائِعِ وَلِذَا كَانَ لَهُ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ، وَالْبَائِعُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ أَبَقَ وَهُوَ عَبْدٌ سَقَطَ الثَّمَنُ فَكَذَا يَسْقُطُ الْجُعْلُ، وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ يُشْتَرَطُ لَهُ أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ أَمَانَةً عِنْدَهُ كَمَا فِي اللُّقَطَةِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ إذَا قَالَ أَخَذْته لِأَرُدَّهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ آبِقًا، فَلَوْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى إبَاقَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ظَهَرَ مِنْ الرَّدِّ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُهُ وَهُوَ إذْنُ الشَّارِعِ بِإِبَاقِهِ وَالْمَالِكُ مُنْكِرٌ، وَكَذَا لَا يَجِبُ الْجُعْلُ إذَا جَاءَ بِهِ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى إبَاقَهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودٌ أَنَّهُ أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ يَشْهَدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمَوْلَى بِإِبَاقِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى كَمَا لَقِيَهُ) أَيْ رَآهُ قَبْلَ قَبْضِهِ (يَصِيرُ بِالْإِعْتَاقِ قَابِضًا) فَيَجِبُ الْجُعْلُ (كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى) إذَا أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا وَيَجِبُ الثَّمَنُ (وَكَذَا إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى مِنْ الرَّادِّ) أَيْ قَبْلَ قَبْضِهِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا (لِسَلَامَةِ بَدَلِهِ) وَهُوَ الثَّمَنُ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لِلرَّادِّ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ الْمَالِكِ فَبَيْعُ الْمَالِكِ مِنْ

ص: 138

لَكِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَجَازَ.

قَالَ (وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ) فَالْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِيهِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، حَتَّى لَوْ رَدَّهُ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقْتَ الْأَخْذِ لَا جُعْلَ لَهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْآخِذِ أَوْ اتَّهَبَهُ أَوْ وَرِثَهُ فَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ، إلَّا إذَا أَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِيَرُدَّهُ فَيَكُونُ لَهُ الْجُعْلُ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ

(وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ) لِأَنَّهُ أَحْيَا مَالِيَّتَهُ بِالرَّدِّ وَهِيَ حَقُّهُ، إذْ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا وَالْجُعْلُ بِمُقَابِلَةِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ فَبِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ حَقَّهُ بِالْقَدْرِ الْمَضْمُونِ فَصَارَ كَثَمَنِ الدَّوَاءِ

الرَّادِّ قَبْلَ قَبْضِهِ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (لَكِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ) لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ) الْمُطْلَقِ (عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَجَازَ).

وَأَوْرَدَ أَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْحُرُمَاتِ. أَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ رِضَا الْمَالِكِ كَانَ الثَّابِتُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حَقِيقَةً فَمَعَ عَدَمِ الرِّضَا الثَّابِتِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ

(قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَالْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِيهِ) أَيْ فِي أَخْذِ الْآبِقِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْآخِذِ (عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ حَتْمٌ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ تَسَاهُلٌ وَإِلَّا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ إذَا أَخَذَهُ بِقَصْدِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ وَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ شَرْطٌ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِاسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ وَلِسُقُوطِ الضَّمَانِ إنْ مَاتَ عِنْدَهُ أَوْ أَبَقَ (لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ) الرَّادُّ (مِنْ الْآخِذِ أَوْ اتَّهَبَهُ) مِنْهُ (فَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ) لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ الِاتِّهَابِ قَاصِدٌ لِتَمَلُّكِهِ ظَاهِرًا فَيَكُونُ غَاصِبًا فِي حَقِّ سَيِّدِهِ فَرَدَّهُ لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ أَوْ وَرِثَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَكُونُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُهُ، فَإِذَا رَدَّهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ الشِّرَاءِ مِنْ الْآخِذِ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَيْته لِأَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ إلَّا بِشِرَائِهِ فَحِينَئِذٍ (يَكُونُ لَهُ الْجُعْلُ) وَلَا يَرْجِعُ عَلَى السَّيِّدِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِهِ كَمَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ) لِأَنَّ بِالرَّدِّ حَيِيَتْ مَالِيَّتُهُ وَمَالِيَّتُهُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْهَا وَالْجُعْلُ عَلَى مَنْ حَيِيَتْ لَهُ الْمَالِيَّةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْإِبَاقِ سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ كَمَا بِالْمَوْتِ، وَبِالْعَوْدِ عَادَ الدَّيْنُ وَتَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالرَّهْنِ اسْتِيفَاءً مِنْ مَالِيَّتِهِ كَمَا لَوْ مَاتَتْ الشَّاةُ الْمَرْهُونَةُ فَدَبَغَ جِلْدَهَا فَإِنَّ الدَّيْنَ يَعُودُ بِهِ (وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَمَوْتِهِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الْجُعْلِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ (إذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ) قُسِمَ الْجُعْلُ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، فَمَا أَصَابَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَمَا بَقِيَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ مَثَلًا الدَّيْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَرْبَعُمِائَةٍ يَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ثَلَاثُونَ وَعَلَى الرَّاهِنِ عَشَرَةٌ، وَصَارَ الْجُعْلُ

ص: 139

وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ قَضَاءَ الدَّيْنِ، وَإِنْ بِيعَ بُدِئَ بِالْجُعْلِ وَالْبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ فِيهِ كَالْمَوْقُوفِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَانِيًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ، وَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ لِعَوْدِهَا إلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَاهِبِ مَا حَصَلَتْ بِالرَّدِّ بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ، وَإِنْ كَانَ لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ،

كَثَمَنِ دَوَاءِ الرَّهْنِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ انْقَسَمَ انْقِسَامًا عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا) أَيْ إنْ كَانَ الْعَبْدُ الْآبِقُ مَدْيُونًا بِأَنْ كَانَ مَأْذُونًا فَلَحِقَهُ فِي التِّجَارَةِ دَيْنٌ أَوْ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ وَاعْتَرَفَ بِهِ الْمَوْلَى فَالْجُعْلُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لَهُ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ مُبَاشَرَتِهِ سَبَبَ الدَّيْنِ كَالْمَوْقُوفِ، إنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى قَضَاءَ دَيْنِهِ كَانَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ اسْتَقَرَّ لَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ بَيْعَهُ فِي الدَّيْنِ كَانَ الْجُعْلُ فِي الثَّمَنِ يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَالْبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ (فَيَجِبُ) أَيْ الْجُعْلُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ الْمِلْكُ تَجُوزُ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ مِلْكَ ثَمَنِهِ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِهِ (وَإِنْ كَانَ) أَيْ الْعَبْدُ (جَانِيًا) أَيْ جَنَى خَطَأً فَلَمْ يَدْفَعْهُ مَوْلَاهُ وَلَمْ يَفْدِهِ حَتَّى أَبَقَ فَرَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ يَكُونُ الْجُعْلُ عَلَى مَنْ سَيَصِيرُ لَهُ إنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى فِدَاءَهُ فَهُوَ عَلَيْهِ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهِ إلَيْهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِمْ لِعَوْدِهَا إلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ قَتَلَ عَمْدًا فَأَبَقَ ثُمَّ رُدَّ لَا جُعْلَ عَلَى أَحَدٍ، أَمَّا الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ إنْ قَتَلَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِالرَّدِّ مَنْفَعَةٌ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِالْعَفْوِ.

وَأَمَّا وَلِيُّ الْقِصَاصِ فَإِنْ قَتَلَ فَالْحَاصِلُ لَهُ التَّشَفِّي لَا الْمَالِيَّةُ، وَإِنْ عَفَا فَظَاهِرٌ (وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا) فَإِنْ أَبَقَ مِمَّنْ وَهَبَ لَهُ ثُمَّ رُدَّ (فَ) الْجُعْلُ (عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ) سَوَاءٌ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ أَوْ لَا، أَمَّا إذَا لَمْ يَرْجِعْ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إنْ رَجَعَ بَعْدَ الْمَجِيءِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ الْمَالِيَّةُ لَكِنْ لَمْ تَحْصُلْ بِالرَّدِّ بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ رَدِّهِ مِمَّا يَمْنَعُ رُجُوعَهُ مِنْ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَصَلَ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ الرَّدِّ. أُجِيبَ بِأَنَّ التَّرْكَ آخِرُ جُزْأَيْ الْعِلَّةِ وَإِلَيْهَا يُضَافُ الْحُكْمُ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْكُلِّ لَا يَكُونُ بِالرَّدِّ وَحْدَهُ فَلَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بَلْ يُقَرِّرُهُ (وَإِنْ كَانَ) الْآبِقُ (لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ (أَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ،

ص: 140

وَإِنْ رَدَّهُ وَصِيُّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرَّدَّ فِيهِ.

‌كِتَابُ الْمَفْقُودِ

(إذَا غَابَ الرَّجُلُ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَا يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ) لِأَنَّ الْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَفِي نَصْبِ الْحَافِظِ لِمَالِهِ وَالْقَائِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ لِإِخْفَاءِ أَنَّهُ يَقْبِضُ غَلَّاتِهِ وَالدَّيْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ

وَإِنْ رَدَّ وَصِيَّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّقْسِيمِ، وَكَذَا الْيَتِيمُ يَعُولُهُ رَجُلٌ فَرَدَّ آبِقًا لَهُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَبَرَّعَ لَهُ بِمُؤْنَتِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَكَيْفَ لَا يَتَبَرَّعُ لَهُ بِمَا هُوَ دُونَهُ مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ التَّبَرُّعُ.

وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ: أَبَقَتْ أَمَةٌ وَلَهَا وَلَدٌ رَضِيعٌ فَرَدَّهُمَا رَجُلٌ لَهُ جُعْلٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ كَانَ ابْنُهَا قَارَبَ الْحُلُمَ فَلَهُ ثَمَانُونَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُرَاهِقْ لَمْ يُعْتَبَرْ آبِقًا.

وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: لَوْ أَخَذَ آبِقًا فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ وَجَاءَ بِهِ إلَى مَوْلَاهُ وَأَخَذَ جُعْلَهُ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَخَذَهُ يَأْخُذُ الْجُعْلَ مِنْهُ ثَانِيًا وَيَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ، وَلَوْ جَاءَ بِالْآبِقِ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَلَمَّا دَخَلَ الْبَلَدَ أَبَقَ مِنْ الْأَخْذِ فَوَجَدَهُ آخَرُ فَرَدَّهُ إلَى سَيِّدِهِ، إنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَالْجُعْلُ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ لِأَقَلَّ فَجَاءَ بِهِ لَا جُعْلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَا جُعْلَ لِلسُّلْطَانِ وَالشِّحْنَةِ أَوْ الْخَفِيرِ فِي رَدِّ الْآبِقِ وَالْمَالِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِوُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لِأَخْذِهِمْ الْعَطَاءَ عَلَى ذَلِكَ وَنَصْبِهِمْ لَهُ.

كِتَابُ الْمَفْقُودِ

هُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لَا يُدْرَى حَيَاتُهُ وَلَا مَوْتُهُ

(قَوْلُهُ إذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَا يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَالِهِ (وَيَسْتَوْفِي حُقُوقَهُ لِأَنَّ الْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ) فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ فِي أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَا لِمَا ذَكَرْنَا (وَقَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ (يَسْتَوْفِي فِي حُقُوقِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ يَقْبِضُ غَلَّاتِهِ وَالدَّيْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ غَرِيمٌ وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ)

ص: 141

لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِهِ، وَلَا يُخَاصِمُ فِي الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي وَقَضَى بِهِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، ثُمَّ مَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَيَنْظُرُ لَهُ بِحِفْظِ الْمَعْنَى (وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حِفْظِ مَالِهِ فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ حِفْظِ السُّورَةِ وَهُوَ مُمْكِنٌ.

أَيْ بِعَقْدِ الَّذِي نَصَّبَ الْقَاضِي (لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِ عَقْدِهِ، وَلَا يُخَاصِمُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ) وَلَا فِي حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ إذَا جَحَدَ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ يَقْبِضُ الدَّيْنَ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِيهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) يَعْنِي إذَا كَانَ وَكِيلُ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ (فَلَوْ قَضَى بِخُصُومَتِهِ كَانَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ) وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْغَائِبِ: وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ فِيمَا لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْمَفْقُودِ دَيْنًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ شَرِكَةً فِي عَقَارٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ رَدًّا بِعَيْبٍ أَوْ مُطَالَبَةً لِاسْتِحْقَاقِهِ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَلَا الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا يُسْمَعَانِ عَلَى خَصْمٍ وَالْوَكِيلُ لَيْسَ خَصْمًا، وَالْوَرَثَةُ إنَّمَا يَصِيرُونَ خُصَمَاءَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَلَمْ يَظْهَرْ مَوْتُهُ بَعْدُ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ.

(وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي) أَيْ إذَا رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي الْحُكْمِ لِلْغَائِبِ وَعَلَيْهِ فَحَكَمَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ حَتَّى يُمْضِيَهُ قَاضٍ آخَرُ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَإِنَّ نَفَاذَ قَضَائِهِ لَمَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يُمْضِيَهُ قَاضٍ آخَرُ.

أُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ الْمُجْتَهِدُ سَبَبُهُ وَهُوَ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ هَلْ تَكُونُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ أَمْ لَا، وَإِذَا قَضَى بِهَا نَفَذَ كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ. وَفِي الْخُلَاصَةِ الْفَتْوَى عَلَى هَذَا (ثُمَّ مَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ) كَالثِّمَارِ وَنَحْوِهَا (يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَيَنْظُرُ لِلْغَائِبِ بِحِفْظِ مَعْنَاهُ) وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ فَسَادَهُ مَنْقُولًا كَانَ أَوْ عَقَارًا (فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْقَاضِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي الْحِفْظِ وَفِي الْبَيْعِ تَرْكُ حِفْظِ الصُّورَةِ بِلَا مُلْجِئٍ فَلَا يَجُوزُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا عُرُوضٌ أَوْ عَقَارٌ أَوْ خَادِمٌ وَاحْتَاجَ وَلَدُهُ) أَوْ زَوْجَتُهُ إلَى النَّفَقَةِ لَا يُبَاعُ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ يَبِيعُ الْعُرُوضَ عَلَى الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ فِيمَا

ص: 142

قَالَ (وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ) وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ قَرَابَةِ الْوِلَادِ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ إعَانَةً، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي غَيْبَتِهِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ تَجِبُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ، فَمِنْ الْأَوَّلِ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ مِنْ الْكِبَارِ وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ، وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ. وَقَوْلُهُ مِنْ مَالِهِ مُرَادُهُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَالِهِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ النَّقْدَانِ وَالتِّبْرُ بِمَنْزِلَتِهِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قِيمَةً كَالْمَضْرُوبِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمَا إذَا كَانَ الْمُودِعُ

يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُوصَى، وَبَيْعُ الْعُرُوضِ فِيهِ مَعْنَى حَقِّهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ حِفْظُ الثَّمَنِ لِلْإِيصَالِ إلَى وَرَثَتِهِ أَيْسَرَ، وَهُنَا لَا وِلَايَةَ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَفْقُودِ إلَّا فِي الْحِفْظِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مُحْتَاجٌ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ عُرُوضِهِ وَيُنْفِقُهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْعَقَارِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ: لَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْعُرُوضِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَمَالِي وَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَبَ وَإِنْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بَقِيَ أَثَرُهَا حَتَّى صَحَّ اسْتِيلَادُهُ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ، وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ أَثَرِ وِلَايَتِهِ كَانَ كَالْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ، وَلِلْوَصِيِّ بَيْعُ الْعُرُوضِ دُونَ الْعَقَارِ (وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ) يَعْنِي الْحَاصِلَ فِي بَيْتِهِ وَالْوَاصِلُ مِنْ ثَمَنِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَمِنْ مَالِهِ مُودِعٌ عِنْدَ مُقِرٍّ وَدَيْنٌ عَلَى مُقِرٍّ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَيْسَ هَذَا مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ) قُلْت: وَلَا هُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ فِيهِمْ بَلْ يَعُمُّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ، يَعْنِي مِنْ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلَا (وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ) لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا حَاجَتَهُمْ بِيَدِهِمْ مِنْ مَالِهِ إذَا كَانَ جِنْسُ حَقِّهِمْ مِنْ النَّقْدِ وَالثِّيَابُ لِلُّبْسِ فَكَانَ إعْطَاءُ الْقَاضِي إنْ كَانَ الْمَالُ عِنْدَهُ أَوْ تَمْكِينُهُمْ إنْ كَانَ عِنْدَهُمْ إعَانَةً لَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَأْذُونِينَ شَرْعًا أَنْ يَتَنَاوَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ (وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ) فَمِنْ الْأَوَّلِ: أَعْنِي الْمُسْتَحِقِّينَ بِلَا قَضَاءٍ (الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ الْكِبَارُ) إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ، وَكَذَا الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ فَكُلُّ مَنْ لَهُ مَالٌ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ فِي حَالِ حُضُورِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْبَتِهِ، إلَّا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْعَقْدِ وَالِاحْتِبَاسِ وَاسْتِحْقَاقَ غَيْرِهَا بِالْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْعَدِمُ بِالْغِنَى (وَمِنْ الثَّانِي) يَعْنِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْقَضَاءِ (الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ) وَنَحْوُهُمْ مِنْ قَرَابَةِ غَيْرِ الْوِلَادِ.

(وَقَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ (مِنْ مَالِهِ، يَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ) عَيْنُ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ (يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ النَّقْدَانِ وَالتِّبْرُ) أَيْ غَيْرُ الْمَضْرُوبِ (وَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قِيمَةً كَالْمَضْرُوبِ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالتِّبْرُ فِي يَدِ الْقَاضِي (فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا) إنْ كَانَ الْمُودِعُ مُقِرًّا الْوَدِيعَةِ

ص: 143

وَالْمَدْيُونُ مُقِرِّينَ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَا ظَاهِرَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَاهِرَ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ أَوْ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ بِمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

فَإِنْ دَفَعَ الْمُودِعُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يَضْمَنُ الْمُودِعُ وَلَا يُبَرَّأُ الْمَدْيُونُ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا إلَى نَائِبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ،

وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ الْمَدْيُونُ كَذَلِكَ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ.

(وَهَذَا) يَعْنِي اشْتِرَاطَ إقْرَارِهِمَا بِالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ (إذَا لَمْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ) عِنْدَ الْقَاضِي (فَإِنْ كَانَا ظَاهِرَيْنِ) مَعْرُوفَيْنِ لَهُ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقْرَارِهِمَا بِهِمَا، وَلَوْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ أَحَدَهُمَا الْوَدِيعَةَ وَالدَّيْنَ أَوْ النِّكَاحَ وَالنَّسَبَ) جَعَلَ كُلَّ اثْنَيْنِ وَاحِدًا (يَشْتَرِطُ إقْرَارَ مَنْ فِي جِهَتِهِ الْمَالُ بِالْآخَرِ الَّذِي لَيْسَ ظَاهِرًا فَيُقِرُّ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ زَوْجَتُهُ وَهَذَا وَلَدُهُ، وَفِي الثَّانِي بِأَنَّ لَهُ عِنْدِي وَدِيعَةً أَوْ عَلَيَّ دَيْنُهُ وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ الَّذِي قَالَ بِهِ زُفَرُ لَا أَنَّ هَذَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ، قَالَ: لَا يُنْفِقُ مِنْ الْوَدِيعَةِ شَيْئًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُودِعِ بِذَلِكَ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ لَيْسَ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَلَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ بِلَا خَصْمٍ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الدَّيْنِ أَيْضًا. قُلْنَا: الْمُودِعُ مُقِرٌّ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْغَائِبِ، وَأَنَّ لِلْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ حَقَّ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ بِمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَيَنْتَصِبُ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْقَضَاءُ مِنْهُ إلَى الْمَفْقُودِ، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَيْسَ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ خَاصَّةً بَلْ فِي جَمِيعِ أَمْوَالِ الْمَفْقُودِ، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا فِي جَوَابِهِ: نَعَمْ الْقِيَاسُ مَا ذَكَرْت، لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا ذَلِكَ بِحَدِيثِ هِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ.

قَالَ فِيهِ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ بِالْمَعْرُوفِ» إذْ هُوَ يُفِيدُ مُطْلَقًا جَوَازَ الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ لِمَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، ثُمَّ إذَا ثَبَتَ فِي الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَلْحَقُ بِهِ قَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ بِالْقِيَاسِ، وَثُبُوتُ نَفَقَةِ الْأَبِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهَا آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ، بَلْ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَالْأَبُ يَسْتَحِقُّهَا بِمُجَرَّدِهَا وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ (قَوْلُهُ وَلَوْ دَفَعَ الْمُودِعُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يَضْمَنُ الْمُودِعُ وَلَا يُبَرَّأُ الْمَدْيُونُ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا إلَى نَائِبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ) فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ هَؤُلَاءِ بِالْقَبْضِ، وَلَيْسَ الْقَاضِي نَائِبًا فِي الْحِفْظِ فَقَطْ، بَلْ فِيهِ.

وَفِي إيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ أَيْضًا مِمَّا لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ إلَى سَمَاعِ بَيِّنَةٍ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِهِ، بِخِلَافِ الْمُودِعِ فَإِنَّهُ الْمَأْمُورُ بِالْحِفْظِ فَقَطْ فَيَضْمَنُ إذَا أَعْطَاهُمْ بِلَا أَمْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمُودِعُ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ فِي عِيَالِ الْمُودِعِ بَرِئَ.

أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ لِلْحِفْظِ عَلَيْهِ لَا لِلْإِتْلَافِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَاضِي مِنْهَا كَفِيلًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ ذَهَابِهِ أَوْ عَجَّلَ لَهَا النَّفَقَةَ، لَكِنْ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَخْذُ الْكَفِيلِ إلَّا لِخَصْمٍ وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ طَالِبٌ هَذَا

ص: 144

وَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ جَاحِدَيْنِ أَصْلًا أَوْ كَانَا جَاحِدَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ وَالنَّسَبَ لَمْ يَنْتَصِبْ أَحَدٌ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ خَصْمًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيه لِلْغَائِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ.

قَالَ (وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ) وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَاهُ الْجِنُّ بِالْمَدِينَةِ وَكَفَى

فَلَوْ كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ جَاحِدَيْنِ أَصْلًا) أَيْ جَاحِدَيْنِ لِكُلٍّ مِنْ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالزَّوْجِيَّةِ (أَوْ جَاحِدَيْنِ النَّسَبَ وَالزَّوْجِيَّةَ) مُعْتَرِفَيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَلَيْسَا ظَاهِرَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي (لَمْ يَنْتَصِبْ أَحَدٌ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ) الزَّوْجَةِ أَوْ الْأَبِ أَوْ الِابْنِ (خَصْمًا فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ أَوْ النَّسَبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُودِعَ وَالْمَدْيُونَ لَيْسَا خَصْمًا فِي ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْقَضَاءِ بِهَا، وَلَا مَا يَدَّعِيهِ لِلْغَائِبِ سَبَبًا مُتَعَيِّنًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ النَّفَقَةُ (لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ) وَسَتَعْرِفُ تَفْصِيلَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَدَبِ الْقَاضِي

(قَوْلُهُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ، لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ بِالْمَدِينَةِ)

ص: 145

بِهِ إمَامًا، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ، وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَذَ الْمِقْدَارَ مِنْهُمَا الْأَرْبَعَ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ. وَلَنَا قَوْلُهُ «صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ» .

وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِيهَا: هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ

وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ) وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ (فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْقَاضِي بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ) فَإِنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا بَعْدَ مُدَّةٍ كَذَلِكَ، وَهَذَا مِنْهُ فِي الْإِيلَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بَلْ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بَعْدَهَا، وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَذَ فِي الْمُدَّةِ الْأَرْبَعَ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا (عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ) وَحَدِيثُ الَّذِي أَخَذَتْهُ الْجِنُّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ: أَنَّ رَجُلًا انْتَسَفَتْهُ الْجِنُّ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَأَتَتْ امْرَأَتُهُ عُمَرَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ أَمَرَ وَلِيَّهُ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَتْ، فَإِنْ جَاءَ زَوْجُهَا خُيِّرَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَالصَّدَاقِ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ الْفَقِيدِ الَّذِي فُقِدَ قَالَ: دَخَلْت الشِّعْبَ فَاسْتَهْوَتْنِي الْجِنُّ، فَمَكَثْت أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ أَتَتْ امْرَأَتِي عُمَرَ الْحَدِيثُ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَفِيهِ: فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَمَّا جَاءَ: إنْ شِئْت رَدَدْنَا إلَيْكَ امْرَأَتَكَ وَإِنْ شِئْتَ زَوَّجْنَاكَ غَيْرَهَا، قَالَ: بَلْ زَوِّجْنِي غَيْرَهَا، ثُمَّ جَعَلَ عُمَرُ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجِنِّ وَهُوَ يُخْبِرُهُ.

وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَفِيهِ: ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ فَقَدَتْ زَوْجَهَا فَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ تَحِلُّ. وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَالَا فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: تَذَاكَرَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ الْمَفْقُودَ فَقَالَا: تَتَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا وَلِيُّ زَوْجِهَا ثُمَّ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ إنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ») أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ» وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ " حَتَّى يَأْتِيَهَا الْخَبَرُ " وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ: إنَّهُ يَرْوِي عَنْ الْمُغِيرَةِ مَنَاكِيرَ أَبَاطِيلَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَسَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ. أَشْهَرُ فِي الْمَتْرُوكِينَ مِنْهُ.

ثُمَّ عَارَضَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ قَوْلَ عُمَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيُّ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَأْتِيَهَا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ. أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ أَنَّ عَلِيًّا مِثْلُهُ. وَقَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ

ص: 146

خَرَجَ بَيَانًا لِلْبَيَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَرْفُوعِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَالْغَيْبَةُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَالْمَوْتُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ فَلَا يُزَالُ النِّكَاحُ بِالشَّكِّ، وَعُمَرُ رضي الله عنه رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ مُؤَجَّلًا فَكَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ، وَلَا بِالْعُنَّةِ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَعْقُبُ الْأَوَدَةَ، وَالْعُنَّةُ قَلَّمَا تَنْحَلُّ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهَا سَنَةً.

قَالَ (وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذِهِ رِوَايَةُ

قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَافَقَ عَلِيًّا عَلَى أَنَّهَا تَنْتَظِرُ أَبَدًا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَجَابِرِ بْنِ يَزِيدَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ كُلُّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتُهُ. وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ إلَخْ الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى مَا تَقَدَّمَ. وَذَهَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ، وَالشَّأْنُ فِي التَّرْجِيحِ وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لَا مُثْبِتًا بِالْأَصَالَةِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ ابْنَ مَسْعُودٍ مُرَجِّحٌ آخَرُ.

ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي مُرَجِّحٍ آخَرَ فَقَالَ (وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَالْغَيْبَةُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَالْمَوْتُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ فَلَا يَزَالُ النِّكَاحُ بِالشَّكِّ) وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ. ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ رَجَعَ فِيهَا عُمَرُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ، وَامْرَأَةُ أَبِي كَنَفٍ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا.

وَقَوْلُنَا فِي الثَّلَاثِ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَامْرَأَةُ الْمَفْقُودِ عُرِفَتْ، وَأَمَّا امْرَأَةُ أَبِي كَنَفٍ فَكَانَ أَبُو كَنَفٍ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا وَلَمْ يُعْلِمْهَا حَتَّى غَابَ ثُمَّ قَدِمَ فَوَجَدَهَا قَدْ تَزَوَّجَتْ، فَأَتَى عُمَرَ رضي الله عنه فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ: إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَيْسَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ، فَقَدِمَ عَلَى أَهْلِهَا وَقَدْ وَضَعَتْ الْقُصَّةَ عَلَى رَأْسِهَا فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ لِي إلَيْهَا حَاجَةً فَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَبَاتَ عِنْدَهَا ثُمَّ غَدَا إلَى الْأَمِيرِ بِكِتَابِ عُمَرَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ جَاءَ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ، وَهَذَا أَعْنِي عَدَمَ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فِي حَقِّهَا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِهَا حَتَّى إذَا اعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ أَنَّ مُرَاجَعَتَهُ إيَّاهَا صَحِيحٌ وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَا.

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَالْمَرْأَةُ الَّتِي يُنْعَى إلَيْهَا زَوْجُهَا فَتَعْتَدُّ وَتَتَزَوَّجُ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ فِيهَا إذَا أَتَى زَوْجُهَا حَيًّا يُخَيِّرُهُ بَيْنَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ، وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَهُوَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي وَلَهَا الْمَهْرُ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ مُؤَجَّلًا) وَهَذَا عَلَى رَأْيِنَا بِأَنَّ الْوُقُوعَ بِهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ بِالْإِيلَاءِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي. قَالَ (وَلَا بِالْعُنَّةِ) لِأَنَّ فِي الْغَالِبِ تَعْقُبُهَا الرَّجْعَةُ (وَالْعُنَّةُ قَلَّمَا تَنْحَلُّ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهَا سَنَةً) فَكَانَ عَوْدُ الْمَفْقُودِ أَرْجَى مِنْ زَوَالِ الْعُنَّةِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ مَا شَرَعَ فِيهَا

(قَوْلُهُ وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله هَذِهِ رِوَايَةُ

ص: 147

الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ، وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ. وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ، وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ اعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ (وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعَايَنَةً إذْ الْحُكْمِيُّ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِيقِيِّ

الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ، وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ (وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ) وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَعْمَارَ فِي زَمَانِنَا قَلَّمَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، بَلْ لَا يُسْمَعُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُقَدَّرُ بِهَا تَقْدِيرًا بِالْأَكْثَرِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ إنَّ هَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الطَّبَائِعِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُمْ بَاطِلٌ بِالنُّصُوصِ كَنُوحَ عليه السلام وَغَيْرِهِ، فَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ تَوْجِيهًا لِمَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ، وَكَيْفَ وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالتَّوَارِيخُ بِالْأَعْمَارِ السَّالِفَةِ لِلْبَشَرِ بَلْ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا فِي قَوْلٍ لَهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ يَعْتَرِفُونَ بِبُطْلَانِهِ وَيُوجِبُونَ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ.

وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مِنْ النَّوَادِرِ أَنْ يَعِيشَ الْإِنْسَانُ بَعْدَ مَوْتِ أَقْرَانِهِ فَلَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَوْتُ أَقْرَانِهِ مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ وَآخَرُونَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَوْتُ أَقْرَانِهِ فِي بَلَدِهِ، فَإِنَّ الْأَعْمَارَ قَدْ تَخْتَلِفُ طُولًا وَقِصَرًا بِحَسَبِ الْأَقْطَارِ بِحَسَبِ إجْرَائِهِ سبحانه وتعالى الْعَادَةَ، وَلِذَا قَالُوا: إنَّ الصَّقَالِبَةَ أَطْوَلُ أَعْمَارًا مِنْ الرُّومِ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِأَقْرَانِهِ فِي بَلَدِهِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا كَبِيرًا فِي تَعَرُّفِ مَوْتِهِمْ مِنْ الْبُلْدَانِ، بِخِلَافِهِ مِنْ بَلَدِهِ فَإِنَّمَا فِيهِ نَوْعُ حَرَجٍ مُحْتَمَلٌ.

وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَذُكِرَ عَنْهُ وَجْهٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاعَبَةِ مِنْهُ لَهُمْ. قِيلَ إنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: أَنَا أُبَيِّنُهُ لَكُمْ بِطَرِيقٍ مَحْسُوسٍ فَإِنَّ الْمَوْلُودَ إذَا كَانَ بَعْدَ عَشْرٍ يَدُورُ حَوْلَ أَبَوَيْهِ هَكَذَا وَعَقَدَ عَشْرًا، فَإِذَا كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ فَهُوَ بَيْنَ الصِّبَا وَالشَّبَابِ هَكَذَا، وَعَقَدَ عِشْرِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ يَسْتَوِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ أَرْبَعِينَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ

ص: 148

(وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةً (وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ أَحَدًا مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ) لِأَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ

(وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِلْمَفْقُودِ وَمَاتَ الْمُوصِي) ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْمَفْقُودِ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِهِ يُعْطَى أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي

الْأَثْقَالُ هَكَذَا وَعَقَدَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ يَنْحَنِي مِنْ كَثْرَةِ الْأَثْقَالِ وَالْأَشْغَالِ هَكَذَا وَعَقَدَ خَمْسِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سِتِّينَ يَنْقَبِضُ لِلشَّيْخُوخِيَّةِ هَكَذَا وَعَقَدَ سِتِّينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سَبْعِينَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَا هَكَذَا وَعَقَدَ سَبْعِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ يَسْتَلْقِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَمَانِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ تِسْعِينَ تَنْضَمُّ أَعْضَاؤُهُ فِي بَطْنِهِ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ مِائَةٍ يَتَحَوَّلُ مِنْ الدُّنْيَا إلَى الْعُقْبَى كَمَا يَتَحَوَّلُ الْحِسَابُ مِنْ الْيُمْنَى إلَى الْيُسْرَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ بِمِثْلِ هَذَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الْحَمْلُ عَلَى طُولِ الْعُمُرِ فِي الْمَفْقُودِ احْتِيَاطًا، وَالْغَالِبُ فِيمَنْ طَالَ عُمُرُهُ أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْمِائَةَ.

فَقَوْلُهُ فِي الْمَبْسُوطِ: وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَسَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ مُوجِبًا لِخَطَئِهِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ عِنْدَهُ، وَكَوْنُهُ هُوَ خَرَجَ عَنْ الْغَالِبِ لَا يَكُونُ مُخْطِئًا فِيمَا أَعْطَى مِنْ الْحُكْمِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ سِرَاجُ الدِّينِ فِي فَرَائِضِهِ عَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهَا مِائَةُ سَنَةٍ لِأَنَّ الْحَيَاةَ بَعْدَهَا نَادِرٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِالنَّادِرِ. وُورِيَ أَنَّهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ قَوْلِهِ.

وَاخْتَارَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ أَنَّهَا تِسْعُونَ سَنَةً لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي أَعْمَارِ أَهْلِ زَمَانِنَا هَذَا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَعْمَارِ الطِّوَالِ فِي أَهْلِ زَمَانِنَا أَنْ لَا تَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ، نَعَمْ الْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ اخْتَارُوا سِتِّينَ بَنَوْهُ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ الْأَعْمَارِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ مَا جَاءَ إلَّا مِنْ اخْتِلَافِ الرَّأْيِ فِي أَنَّ الْغَالِبَ هَذَا فِي الطُّولِ أَوْ مُطْلَقًا، فَلِذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الْأَلْيَقُ بِطَرِيقِ الْفِقْهِ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ الْأَقْيَسُ إلَخْ، وَلَكِنْ نَقُولُ: إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ اعْتِبَارًا لِحَالِهِ بِحَالِ نَظَائِره، وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَرْفَقُ) أَيْ بِالنَّاسِ (أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ) وَأَرْفَقُ مِنْهُ التَّقْدِيرُ بِسِتِّينَ. وَعِنْدِي الْأَحْسَنُ سَبْعُونَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ» فَكَانَتْ الْمُنْتَهَى غَالِبًا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، فَأَيُّ وَقْتٍ رَأَى الْمَصْلَحَةَ حَكَمَ بِمَوْتِهِ وَاعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ لِلْوَفَاةِ كَأَنَّهُ مَاتَ فِيهِ مُعَايَنَةً، إذْ الْحُكْمِيُّ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِيقِيِّ (قَوْلُهُ وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ) أَيْ مِمَّنْ يَرِثُ الْمَفْقُودَ (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ (لَمْ يَرِثْ مِنْ الْمَفْقُودِ) بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَفْقُودِ فَتَجْرِي مُنَاسَخَةٌ فَتَرِثُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمَفْقُودِ (لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ بَعْدُ) وَحِينَ مَاتَ هَذَا كَانَ الْمَفْقُودُ مَحْكُومًا بِحَيَاتِهِ كَمَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةً (وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ أَحَدًا مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ لِأَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) يَعْنِي وَقْتَ مَوْتِ ذَلِكَ الْأَحَدِ (بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ) بَلْ فِي دَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ وَلِذَا جَعَلْنَاهُ حَيًّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يُورَثُ مَالُهُ فِي حَالِ فَقْدِهِ مَيِّتًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَرِثُ هُوَ غَيْرَهُ

(وَكَذَلِكَ) لَوْ (أَوْصَى لَهُ وَمَاتَ الْمُوصِي) فِي حَالِ فَقْدِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَقْضِي بِهَا وَلَا أُبْطِلُهَا حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَفْقُودِ: يَعْنِي يُوقَفُ نَصِيبُ الْمَفْقُودِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ إلَى أَنْ يَقْضِيَ بِمَوْتِهِ، فَإِذَا قُضِيَ بِهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ الْآنَ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَالِ غَيْرِهِ كَأَنَّهُ مَاتَ حِينَ فُقِدَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا الْمَفْقُودُ مَيِّتٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ مَنْ بِحَيْثُ يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ إنْ كَانَ مَعَ الْمَفْقُودِ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ بِالْمَفْقُودِ) حَجْبَ حِرْمَانٍ (وَلَكِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِهِ يُعْطِي) ذَلِكَ الْوَارِثُ (أَقَلَّ نَصِيبِهِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي) حَتَّى يَظْهَرَ

ص: 149

وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطَى أَصْلًا. بَيَانُهُ: رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ وَابْنِ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْأَجْنَبِيِّ وَتَصَادَقُوا عَلَى فَقْدِ الِابْنِ وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ الْمِيرَاثَ تُعْطَيَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ وَلَا يُعْطَى وَلَدَ الِابْنِ لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالْمَفْقُودِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ بِالشَّكِّ (وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ)

حَيَاةُ الْمَفْقُودِ أَوْ مَوْتُهُ أَوْ يُقْضَى بِمَوْتِهِ (وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطِي) لِذَلِكَ الْوَارِثِ شَيْئًا (بَيَانُهُ: رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ وَابْنٍ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ أَوْ ابْنَةِ ابْنٍ وَالْمَالُ) الْمَوْرُوثُ (فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ وَتَصَادَقُوا) أَيْ الْأَجْنَبِيُّ وَالْوَرَثَةُ (عَلَى فَقْدِ الِابْنِ وَطَلَبَتْ الْبِنْتَانِ الْمِيرَاثَ تُعْطَيَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ) لِأَنَّ أَخَاهُمَا الْمَفْقُودَ إنْ كَانَ حَيًّا فَلَهُمَا النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، فَالنِّصْفُ مُتَيَقَّنٌ فَتُعْطِيَانِهِ.

(وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ) فِي يَدِ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ (وَلَا يُعْطَى وَلَدُ الِابْنِ شَيْئًا) لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالْمَفْقُودِ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِالشَّكِّ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْأَجْنَبِيِّ (إلَّا إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ) بِأَنْ كَانَ أَنْكَرَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عِنْدَهُ مَالًا حَتَّى أَقَامَتْ الْبِنْتَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ فَقَضَى بِهَا، لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُؤْخَذُ الْفَضْلُ الْبَاقِي مِنْهُ وَيُوضَعُ فِي يَدِ عَدْلٍ لِظُهُورِ خِيَانَتِهِ، وَلَوْ كَانُوا لَمْ يَتَصَادَقُوا عَلَى فَقْدِ الِابْنِ بَلْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ مَاتَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهِ الثُّلُثَيْنِ لِلْبِنْتَيْنِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ مُعْتَبَرٌ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ ثُلُثَيْهِ لِلْبِنْتَيْنِ فَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهِ لَهُمَا وَلَا يَمْنَعُ إقْرَارَهُ قَوْلُ أَوْلَادِ الِابْنِ أَبُونَا أَوْ عَمُّنَا مَفْقُودٌ، لِأَنَّهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا وَيُوقَفُ الثُّلُثُ الْبَاقِي فِي يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْبِنْتَيْنِ وَاتَّفَقُوا عَلَى الْفَقْدِ لَا يُحَوَّلُ الْمَالُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَا يُؤَخَّرُ شَيْءٌ لِلْمَفْقُودِ بَلْ يُقْضَى لِلْبِنْتَيْنِ بِالنِّصْفِ مِيرَاثًا وَيُوقَفُ النِّصْفُ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ حَيًّا دُفِعَ إلَيْهِ.

وَإِنْ ظَهَرَ مَيِّتًا أُعْطِيَ

ص: 150

وَنَظِيرُ هَذَا الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنِ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا يُعْطَى، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ بِهِ يُعْطِي الْأَقَلَّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ كَمَا فِي الْمَفْقُودِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

الْبِنْتَانِ سُدُسَ كُلِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفِ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِوَلَدِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

وَلَوْ قَالَتْ الْبِنْتَانِ مَاتَ أَخُونَا وَلَيْسَ بِمَفْقُودٍ وَقَالَ وَلَدُ الِابْنِ بَلْ مَفْقُودٌ وَالْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا أُعْطِيَتَا الثُّلُثَيْنِ وَوُقِفَ الثُّلُثُ، لِأَنَّهُمَا فِي هَذِهِ يَدَّعِيَانِ الثُّلُثَيْنِ وَالْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا، فَإِنْ ظَهَرَ حَيَاتُهُ أَخَذَ مِنْهُمَا السُّدُسَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ وَلَدِ الْمَفْقُودِ وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ مَفْقُودٌ يُعْطَى الْبِنْتَانِ النِّصْفَ، لِأَنَّهُمَا إنَّمَا ادَّعَيَاهُ بِالْإِقْرَارِ بِفَقْدِهِ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ فِي يَدِ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ. وَلَوْ ادَّعَى وَلَدُ الْمَفْقُودِ أَنَّ أَبَاهُمَا مَاتَ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِمَا شَيْئًا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ أَبِيهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِذَا قَامَتْ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَهُ يُعْطَى لَهُمْ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ لِلْبِنْتَيْنِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ عَلَى هَذَا مَاتَ عَنْ بِنْتَيْنِ وَأَوْلَادِ ابْنٍ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ يُعْطَى لَهُمْ النِّصْفُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَاتَ عَنْ بِنْتٍ وَابْنٍ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ عَنْ وَلَدٍ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَنَظِيرُهُ) أَيْ فِي وَقْفِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي النَّصِيبِ (الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى) وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ أَرْبَعِ بَنِينَ لِمَا قَالَ شَرِيكٌ: رَأَيْت بِالْكُوفَةِ لِأَبِي إسْمَاعِيلَ أَرْبَعَ بَنِينَ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَعَمًّا، عَنْ مُحَمَّدٍ مِيرَاثُ ثَلَاثَةِ بَنِينَ، وَفِي أُخْرَى نَصِيبُ ابْنَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ نَصِيبُ ابْنٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (وَلَوْ كَانَ مَعَ الْحَمْلِ وَارِثٌ آخَرُ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ) يُعْطَى كُلُّ نَصِيبِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَكَذَا إذَا تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً حَامِلًا تُعْطَى الْمَرْأَةُ الثُّمُنَ (وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا يُعْطِي) شَيْئًا (وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ وَيُعْطِي الْأَقَلَّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ) مِثَالُهُ تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا: وَجَدَّةً تُعْطَى السُّدُسَ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ لَهَا، وَلَوْ تَرَكَ حَامِلًا وَأَخًا وَعَمًّا لَا يُعْطِي شَيْئًا لِأَنَّ الْأَخَ يَسْقُطُ بِالِابْنِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ابْنًا فَكَانَ بَيْنَ أَنْ يَسْقُطَ وَلَا يَسْقُطُ، فَكَانَ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ مَشْكُوكًا فِيهِ فَلَا يُعْطِي شَيْئًا.

وَلَوْ تَرَكَ حَامِلًا وَأُمًّا أَوْ زَوْجَةً تَأْخُذُ

ص: 151

‌كِتَابُ الشِّرْكَةِ

(الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ)«لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ» ،

الْأُمُّ السُّدُسَ وَالزَّوْجَةُ الثُّمُنَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَيِّتًا أَخَذَتْ الْأُمُّ الثُّلُثَ أَوْ حَيًّا أَخَذَتْ السُّدُسَ وَالزَّوْجَةُ الثُّمُنَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَيِّتًا أَخَذَتْ الرُّبُعَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

كِتَابُ الشِّرْكَةِ

هُوَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ فِي الْمَعْرُوفِ. أَوْرَدَ الشِّرْكَةَ عَقِيبَ الْمَفْقُودِ لِتَنَاسُبِهِمَا بِوَجْهَيْنِ: كَوْنُ مَالِ أَحَدِهِمَا أَمَانَةً فِي يَدِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ مَالَ الْمَفْقُودِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْحَاضِرِ.

وَكَوْنُ الِاشْتِرَاكِ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ كَمَا لَوْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ وَلَهُ وَارِثٌ آخَرُ وَالْمَفْقُودُ حَيٌّ، وَهَذِهِ مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بَيْنَهُمَا. وَالْأُولَى عَامَّةٌ فِيهِمَا. وَفِي الْآبِقِ وَاللَّقِيطِ وَاللُّقَطَةِ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِ مَالٍ مَعَ اللَّقِيطِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَفْقُودَ عَلَيْهَا وَأَوْلَاهُ الْإِبَاقَ لِشُمُولِ عَرَضِيَّةِ الْهَلَاكِ كُلًّا مِنْ نَفْسِ الْمَفْقُودِ وَالْآبِقِ. وَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ تَخَيَّلَ أَنَّ عَرَضِيَّةَ الْهَلَاكِ لِلْمَالِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْمَالَ عَلَى عَرَضِيَّةِ التَّوَى. وَحَاصِلُ مَحَاسِنِ الشِّرْكَةِ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ.

وَالشِّرْكَةُ لُغَةً: خَلْطُ النَّصِيبَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا، وَمَا قِيلَ إنَّهُ اخْتِلَاطُ النَّصِيبَيْنِ تَسَاهَلَ، فَإِنَّ الشِّرْكَةَ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ الشِّرْكُ مَصْدَرُ شَرِكْت الرَّجُلَ أُشْرِكُهُ شِرْكًا، فَظَهَرَ أَنَّهَا فِعْلُ الْإِنْسَانِ وَفِعْلُهُ الْخَلْطُ. وَأَمَّا الِاخْتِلَاطُ فَصَفْقَةٌ تَثْبُتُ لِلْمَالِ عَنْ فِعْلِهِمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ مِنْ الْمَادَّةِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ اسْمَهُ الِاشْتِرَاكُ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِعْلُهُمَا أَيْضًا مَصْدَرُ اشْتِرَاكِ الرَّجُلَانِ افْتِعَالٌ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَيُعَدَّى إلَى الْمَالِ بِحَرْفِ " فِي " فَيُقَالُ اشْتَرَكَا فِي الْمَالِ: أَيْ حَقَّقَا الْخَلْطَ فِيهِ، فَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ فِيهِ: أَيْ تَعَلَّقَ بِهِ اشْتِرَاكُهُمَا: أَيْ خَلْطُهُمَا. وَرُكْنُهَا فِي شَرِكَةِ الْعَيْنِ اخْتِلَاطُهُمَا، وَفِي شَرِكَةِ الْعَقْدِ اللَّفْظُ الْمُفِيدُ لَهُ.

هَذَا وَيُقَالُ الشَّرِكَةُ عَلَى الْعَقْدِ نَفْسُهُ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْخَلْطِ، فَإِذَا قِيلَ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِالْإِضَافَةِ فَهِيَ إضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ (قَوْلُهُ الشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ إلَى آخِرِهِ) قِيلَ شَرْعِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وَهَذَا خَاصٌّ بِشَرِكَةِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ شَرِكَةُ الْعَقْدِ، وقَوْله تَعَالَى {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} أَيْ مِنْ الْمُشْتَرِكِينَ لَا يَنُصُّ عَلَى جَوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ أَنَّهُ حِكَايَةُ قَوْلِ دَاوُد عليه الصلاة والسلام إخْبَارًا لِلْخَصْمَيْنِ عَنْ شَرِيعَتِهِ إذْ ذَاكَ فَلَا يَلْزَمُ اسْتِمْرَارُهُ فِي شَرِيعَتِنَا.

وَأَمَّا السُّنَّةُ

ص: 152

قَالَ (الشِّرْكَةُ ضَرْبَانِ: شِرْكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشِرْكَةُ عُقُودٍ. فَشِرْكَةُ الْأَمْلَاكِ: الْعَيْنُ يَرِثُهَا رَجُلَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهَا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ) وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ تَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا إذَا اتَّهَبَ رَجُلَانِ عَيْنًا أَوْ مَلَكَاهَا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ اخْتَلَطَ مَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدِهِمَا

فَمَا فِي أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ «عَنْ السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كُنْت شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْت خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِئُ وَلَا تُمَارِي» وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ «عَنْ السَّائِبِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَارَكَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي التِّجَارَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ جَاءَهُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي كَانَ لَا يُدَارِئُ وَلَا يُمَارِي، يَا سَائِبُ قَدْ كُنْت تَعْمَلُ أَعْمَالًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تُقْبَلُ مِنْك وَهِيَ الْيَوْمَ تُقْبَلُ مِنْك» وَكَانَ ذَا سَلَفٍ وَصَدَاقَةٍ، وَاسْمُ السَّائِبِ صَيْفِيُّ بْنُ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَقَوْلُ السُّهَيْلِيِّ فِيهِ إنَّهُ كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه عَنْ السَّائِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّائِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، وَهَذَا اضْطِرَابٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أَرَادَ الْحُجَّةَ فِي تَعْيِينِ الشَّرِيكِ مَنْ كَانَ، أَمَّا غَرَضُنَا وَهُوَ ثُبُوتُ مُشَارَكَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَثَابِتٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ: يُدَارِئُ مَهْمُوزٌ فِي الْحَدِيثِ: أَيْ يُدَافِعُ. ثُمَّ إيرَادُ الْمَشَايِخِ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الشَّرِكَةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ جُزْءُ الدَّلِيلِ: أَعْنِي أَنَّهُ بُعِثَ وَهُمْ يَتَشَارَكُونَ فَقَرَّرَهُمْ وَمُفِيدُ الْجُزْءِ الثَّانِي مَا فِي أَبِي دَاوُد وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَا خَرَجْت مِنْ بَيْنِهِمَا» زَادَ رَزِينٌ " وَجَاءَ يَد الشَّيْطَانِ " وَضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ بِجَهَالَةِ وَالِدِ أَبِي حَيَّانَ وَهُوَ سَعِيدٌ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ حَيَّانَ.

وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ «يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ رَفَعَهَا عَنْهُمَا» وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الشِّرْكَةِ مَشْرُوعَةً أَظْهَرُ ثُبُوتًا مِمَّا بِهِ ثُبُوتُهَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ، إذْ التَّوَارُثُ وَالتَّعَامُلُ بِهَا مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَلُمَّ جَرًّا مُتَّصِلٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إثْبَاتِ حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَزِدْ الْمُصَنِّفُ عَلَى ادِّعَاءِ تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا

(قَوْلُهُ الشِّرْكَةُ ضَرْبَانِ: شِرْكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشِرْكَةُ عُقُودٍ. فَشِرْكَةُ الْأَمْلَاكِ الْعَيْنُ يَرِثُهَا الرَّجُلَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهَا) وَظَاهِرُ هَذَا الْحَمْلِ مِنْ الْقُدُورِيِّ الْقَصْرُ، فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهَا لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ تَثْبُتُ فِيمَا إذَا اتَّهَبَا عَيْنًا أَوْ مَلَكَاهَا بِالِاسْتِيلَاءِ بِأَنْ اسْتَوْلَيَا عَلَى مَالِ حَرْبِيٍّ يُمْلَكُ مَالُهُ بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ اخْتَلَطَ مَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ مِنْ أَحَدِهِمَا بِأَنْ انْفَتَقَ كِيسَاهُمَا الْمُتَجَاوِرَانِ فَاخْتَلَطَ مَا فِيهِمَا أَوْ اخْتَلَطَ بِخَلْطِهِمَا خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ أَوْ يَتَعَسَّرُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ؛ وَلَوْ قَالَ: الْعَيْنُ يَمْلِكَانِهَا كَانَ شَامِلًا، إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ مِنْ شِرْكَةِ الْأَمْلَاكِ الشِّرْكَةُ فِي الدَّيْنِ فَقِيلَ مَجَازٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ لَا يُمْلَكُ، وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ يُمْلَكُ شَرْعًا وَلِذَا جَازَ هِبَتُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْهِبَةَ مَجَازٌ عَنْ الْإِسْقَاطِ وَلِذَا لَمْ تَجُزْ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ مَا ذَكَرُوا مِنْ مِلْكِهِ، وَلِذَا مَلَكَ مَا عَنْهُ مِنْ الْعَيْنِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ حَتَّى إذَا دَفَعَ مَنْ عَلَيْهِ إلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا كَانَ لِلْآخَرِ

ص: 153

أَوْ بِخَلْطِهِمَا خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ رَأْسًا أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَمِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى

(وَالضَّرْبُ الثَّانِي: شِرْكَةُ الْعُقُودِ، وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا شَارَكْتُك فِي كَذَا وَكَذَا وَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت)

الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الَّذِي أَخَذْته حِصَّتِي وَمَا بَقِيَ عَلَى الْمَدْيُون حِصَّتُك، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَدْيُونِ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ قَضَاهُ وَأَخَّرَ الْآخَرُ.

قَالُوا: وَالْحِيلَةُ فِي اخْتِصَاصِ الْآخِذِ بِمَا أَخَذَ دُونَ شَرِيكِهِ أَنْ يَهَبَهُ مَنْ عَلَيْهِ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ وَيُبَرِّئُهُ هُوَ مِنْ حِصَّتِهِ، وَحُكْمُ هَذِهِ الشِّرْكَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَّا بِأَمْرِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ الشِّرْكَةِ لِعَدَمِ تَضَمُّنِهَا وَكَالَةً، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مِنْ الشَّرِيكِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ (وَ) أَمًّا (مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إلَّا فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ) بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ (إلَّا بِإِذْنِ الشَّرِيكِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى) وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الشِّرْكَةَ إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا مِنْ الِابْتِدَاءِ بِأَنْ اشْتَرَيَا حِنْطَةً أَوْ وَرِثَاهَا كَانَتْ كُلُّ حَبَّةٍ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُمَا فَبَيْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ شَائِعًا جَائِزٌ مِنْ الشَّرِيكِ وَالْأَجْنَبِيِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِالْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ، لِأَنَّ كُلَّ حَبَّةٍ مَمْلُوكَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا لِأَحَدِهِمَا لَيْسَ لِلْآخَرِ فِيهَا شِرْكَةٌ، فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا مَخْلُوطًا بِنَصِيبٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مِنْ الشَّرِيكِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ خَلْطَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ تَعَدِّيًا سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَخْلُوطِ مَالُهُ إلَى الْخَالِطِ، فَإِذَا حَصَلَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ يَكُونُ سَبَبُ الزَّوَالِ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَاعْتُبِرَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ غَيْرَ زَائِلٍ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الشَّرِيكِ فَقَدْ يَمْنَعُ ثُبُوتُ الزَّوَالِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ تَمَامَ السَّبَبِ فِيهِ هُوَ التَّعَدِّي، فَعِنْدَ عَدَمِهِ لَا يَثْبُتُ مِنْ وَجْهٍ وَإِلَّا لَكَانَتْ جَمِيعُ الْمُسَبَّبَاتِ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ قَبْلَ أَسْبَابِهَا، وَأَيْضًا فَالزَّوَالُ إلَى الْخَالِطِ عَيْنًا لَا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ الْآخَرِ عِنْدَ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، بَلْ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُهُ زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ الْخَالِطِ عَيْنًا فَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ فِي الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، بَلْ اعْتِبَارُ نَصِيبِ غَيْرِ الْخَالِطِ فَقَطْ إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ تَمَامَ السَّبَبِ التَّعَدِّي لِأَنَّ الْخَلْطَ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَيُّ تَعَدٍّ هُوَ السَّبَبُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ فِي هَذَا الْمَالِ فَيُقَالُ التَّعَدِّي فِي خَلْطِهِ

(قَوْلُهُ وَالضَّرْبُ الثَّانِي شِرْكَةُ الْعُقُودِ، وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) ثُمَّ فَسَّرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا شَارَكْتُك فِي كَذَا وَكَذَا وَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت) أَيْ فِي كَذَا مِنْ الْمَالِ وَفِي كَذَا مِنْ التِّجَارَاتِ الْبَزَّازِيَّةِ أَوْ الْبَقَّالِيَّةِ فِي الْعِنَانِ أَوْ فِي كُلِّ مَالِي وَمَالِك وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ وَفِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ، وَكُلٌّ كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَيْسَ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ بِلَازِمٍ بَلْ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ أَلْفًا إلَى رَجُلٍ وَقَالَ أَخْرِجْ مِثْلَهَا وَاشْتَرِ وَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا وَقَبِلَ الْآخَرُ أَوْ أَخَذَهَا وَفَعَلَ انْعَقَدَتْ الشِّرْكَةُ، وَيُنْدَبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا.

وَذَكَرَ

ص: 154

وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشِّرْكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ

(ثُمَّ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، وَشِرْكَةُ الصَّنَائِعِ، وَشِرْكَةُ الْوُجُوهِ.

مُحَمَّدٌ رحمه الله كَيْفِيَّةَ كِتَابَتِهَا فَقَالَ: هَذَا مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ اشْتَرَكَا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، ثُمَّ يُبَيِّنُ قَدْرَ رَأْسِ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيَقُولُ: وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيْدِيهِمَا يَشْتَرِيَانِ بِهِ وَيَبِيعَانِ جَمِيعًا وَشَتَّى، وَيَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِرَأْيِهِ وَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَهَذَا وَإِنْ مَلَكَهُ كُلٌّ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الشِّرْكَةِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: لَا يَمْلِكُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْهُ يَكْتُبُ هَذَا، ثُمَّ يَقُولُ: فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا، وَمَا كَانَ مِنْ وَضِيعَةٍ أَوْ تَبَعَةٍ فَكَذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَضِيعَةِ بِخِلَافِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ بَاطِلٌ، وَاشْتِرَاطُ الرِّبْحِ مُتَفَاوِتًا عِنْدَنَا صَحِيحٌ فِيمَا سَيُذْكَرُ، فَإِنْ كَانَ شَرَطَا التَّفَاوُتَ فِيهِ كَتَبَاهُ كَذَلِكَ وَيَقُولُ اشْتَرَكَا عَلَى ذَلِكَ فِي يَوْمِ كَذَا فِي شَهْرِ كَذَا، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ التَّارِيخَ كَيْ لَا يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ حَقًّا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْآخَرُ قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ.

(قَوْلُهُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشِّرْكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ) وَعَقْدُ الشِّرْكَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ مَعْمُولًا لِمَعْقُودٍ، وَكُلُّ صُوَرِ عُقُودِ الشِّرْكَةِ يَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَتَخْتَصُّ الْمُفَاوَضَةُ بِالْكَفَالَةِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ (لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ) أَيْ حُكْمُ عَقْدِ الشِّرْكَةِ (الْمَطْلُوبُ مِنْهُ) وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ وَأَصِيلًا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لَا يَكُونُ الْمُسْتَفَادُ مُشْتَرَكًا لِاخْتِصَاصِ الْمُشْتَرَى بِالْمُشْتَرِي، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الِاشْتِرَاكِ فِي التَّكَدِّي وَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاصْطِيَادِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ

(قَوْلُهُ ثُمَّ هِيَ) أَيْ شِرْكَةُ الْعُقُودِ عَلَى (أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، وَشِرْكَةُ الصَّنَائِعِ، وَشِرْكَةُ الْوُجُوهِ) قِيلَ فِي وَجْهِ الْحَصْرِ إنَّ الْعَقْدَ إمَّا أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ مَالٌ أَوْ لَا، وَفِي الذِّكْرِ إمَّا أَنْ تُشْتَرَطَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَالِ وَرِبْحِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَنَفْعِهِ وَضَرَرِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَاوَضَةُ وَإِلَّا فَهُوَ الْعِنَانُ.

وَفِي عَدَمِ ذِكْرِ الْمَالِ إمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَمَلَ فِي مَالِ الْغَيْرِ أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ الصَّنَائِعُ، وَالثَّانِي الْوُجُوهُ. وَقِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَضِيَ أَنَّ شِرْكَةَ الصَّنَائِعِ وَالْوُجُوهِ لَا يَكُونَانِ مُفَاوَضَةً وَلَا عِنَانًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا يَأْتِي، فَوَجْهُ التَّقْسِيمِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ حَيْثُ قَالَا: الشِّرْكَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: شِرْكَةٌ بِالْأَمْوَالِ، وَشِرْكَةٌ

ص: 155

فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهِمَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا) لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ يُفَوِّضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرَ الشِّرْكَةِ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ، قَالَ قَائِلُهُمْ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ وَلَا سُرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا أَيْ مُتَسَاوِيِينَ.

فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً

بِالْأَعْمَالِ، وَشِرْكَةٌ بِالْوُجُوهِ.

وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ: مُفَاوَضَةٍ وَعِنَانٍ، وَسَيَأْتِي الْبَيَانُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا) وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ الْآخَرِ فِي كُلِّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ عُهْدَةِ مَا يَشْتَرِيه كَمَا أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ (لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ) يُفَوِّضُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْعُمُومِ (فِي التِّجَارَاتِ) وَالتَّصَرُّفَاتِ لِأَنَّ الْفَوْضَةَ الشِّرْكَةُ وَالْمُفَاوَضَةَ الْمُسَاوَاةُ، فَلَزِمَ مُطْلَقُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ فَعَمَّ التَّسَاوِي فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ تَسَاهُلٌ لِأَنَّهَا مَادَّةٌ أُخْرَى فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الِاشْتِقَاقُ، بَلْ هِيَ مِنْ التَّفْوِيضِ أَوْ الْفَوْضِ الَّذِي مِنْهُ فَاضَ الْمَاءُ: إذَا عَمَّ وَانْتَشَرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْمُسَاوَاةُ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ:

لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ

وَلَا سُرَاةَ إذَا جِهَالُهُمْ سَادُوا

وَبَعْدَهُ:

إذَا تَوَلَّى سُرَاةُ النَّاسِ أَمْرَهُمْ

نَمَا عَلَى ذَاكَ أَمْرُ الْقَوْمِ وَازْدَادُوا

وَقِيلَ بَعْدَهُ:

تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ

فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْجُهَّالِ يَنْقَادُوا

وَمَعْنَى الْبَيْتِ: إذَا كَانَ النَّاسُ مُتَسَاوِينَ لَا كَبِيرَ لَهُمْ وَلَا سَيِّدَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ بَلْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلًّا يُنَفِّذُ مُرَادَهُ كَيْفَ كَانَ تَحَقَّقَتْ الْمُنَازَعَةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَالسُّرَاةُ جَمْعُ سَرَى، وَهُوَ السَّيِّدُ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ اسْمَ جَمْعٍ لَهُ كَرَكْبٍ فِي رَاكِبٍ.

وَالسَّرِيُّ فَعِيلٌ جُمِعَ عَلَى فَعِلَة بِالتَّحْرِيكِ، وَأَصْلُهُ سَرْوَة تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا قُلِبَتْ أَلِفًا فَصَارَ سُرَاةَ، وَأَصْلُ سَرَى سَرَيَو اجْتَمَعَتَا وَسُبِقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ،

وَسَيَأْتِي وَجْهُ الْمُسَاوَاةِ (فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً) عِنْدَ عَقْدِ الشِّرْكَةِ (وَانْتِهَاءً) أَيْ فِي مُدَّةِ الْبَقَاءِ لِأَنَّ عَقْدَ الشِّرْكَةِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ إذَا شَاءَ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، فَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالَانِ سَوَاءً يَوْمَ الْعَقْدِ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ لِأَنَّ الشِّرْكَةَ انْتَقَلَتْ إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنَّمَا تَغَيَّرَ سِعْرُ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ الشِّرْكَةِ فِيهِ.

وَلَوْ اشْتَرَيَا بِجَمِيعِ مَالِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ فَضَلَ مَالُ الْآخَرِ فَفِي الْقِيَاسِ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا قَلَّ مَا يَتَّفِقُ فَيَلْزَمُ بِاشْتِرَاطِهِ حَرَجٌ، وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ قَائِمَةٌ مَعْنًى لِأَنَّ الْآخَرَ لَمَّا مَلَكَ نِصْفَ الْمُشْتَرِي صَارَ نِصْفُ الثَّمَنِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ وَنِصْفُ مَا لَمْ يَسْتَحِقُّ بِهِ لِصَاحِبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُهُمَا صِفَةً، فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ سُودٌ وَلِلْآخَرِ مِثْلُهَا بِيضٌ وَقِيمَتَاهُمَا

ص: 156

وَذَلِكَ فِي الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا يَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ، وَكَذَا فِي التَّصَرُّفِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَا يَمْلِكُ الْآخَرُ لَفَاتَ التَّسَاوِي، وَكَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ»

مُتَسَاوِيَةٌ صَحَّتْ الْمُفَاوَضَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَتْ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَلِلْآخَرِ مِائَةُ دِينَارٍ وَقِيمَتُهُمَا أَلْفٌ صَحَّتْ، فَإِنْ زَادَتْ صَارَتْ عِنَانًا، وَكَذَا لَوْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ أَوْ اتَّهَبَهَا تَنْقَلِبُ عِنَانًا.

ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَالِ الَّذِي يَلْزَمُ فِيهِ التَّسَاوِي مَا تَصِحُّ بِهِ الشِّرْكَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ عَلَى قَوْلِهِمَا دُونَ الْعُرُوضِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا وَدِيعَةٌ نَقْدٌ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ صَحَّتْ إلَى أَنْ يَقْبِضَهُ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَسَدَتْ وَصَارَتْ عِنَانًا، وَلِذَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخَرُ فَاتَ التَّسَاوِي، وَكَذَا فِي الدَّيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ عَنْ قَرِيبٍ (قَوْلُهُ وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا رحمهم الله اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ)

وَهَذَا لَا يَلْزَمُ تَنَاقُضٌ بِهِ كَمَا قِيلَ: إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا فَكَيْفَ حَكَمَ بِفَسَادِهَا لِأَنَّ الْعَالِمَ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ.

وَالْمَعْنَى: لَا وُجُودَ لِلْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فِي الشَّرْعِ، وَمَا لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا لَا صِحَّةَ لَهُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَجُوزُ وَهِيَ أَنْ يُفَوِّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ التَّصَرُّفَ فِي غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ وَتَكُونُ يَدُهُ كَيَدِهِ غَيْرَ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ الْقَوْلَ بِالْمُفَاوَضَةِ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا وَهُوَ وَجْهُ (الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ بِ) شِرَاءٍ (مَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْكَفَالَةِ بِمَجْهُولٍ، وَكُلٌّ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ) وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُك بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُبَيِّنَ نَوْعَهُ وَصِفَتَهُ، وَلَوْ كَفَّلَ لِمَنْ سَيَدِينُهُ بِمَا يَلْزَمُهُ لَا يَصِحُّ فَاجْتِمَاعُهَا يَزِيدُ فَسَادًا.

فَإِنْ قِيلَ: الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ جَائِزَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ لِآخَر وَكَّلْتُك فِي مَالِي اصْنَعْ فِيهِ مَا شِئْت حَتَّى يُجَوِّزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَا شَاءَ. قُلْنَا: الْعُمُومُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ وَكَالَةُ كُلٍّ فِي شِرَاءِ طَعَامِ أَهْلِ الْآخَرِ وَكِسْوَتِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامًّا كَانَ تَوْكِيلًا بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا (مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ») أَيْ أَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا فَاوَضْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْمُفَاوَضَةَ»

ص: 157

وَكَذَا النَّاسُ يُعَامِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةُ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ عِلْمِ الْعَوَامّ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه تَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى. قَالَ (فَتَجُوزُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْكَبِيرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي،

وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي التِّجَارَاتِ عَنْ صَالِحِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ: بَيْعٌ إلَى أَجْلٍ، وَالْمُقَارَضَةُ، وَإِخْلَاطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ» .

وَفِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ مَاجَهْ: الْمُفَاوَضَةُ بَدَلُ الْمُقَارَضَةِ، وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَضَبْطُهُ الْمُعَارَضَةُ بِالْعَيْنِ وَالضَّادِ وَفَسَّرَهَا بِبَيْعِ عَرَضٍ بِعَرَضٍ مِثْلِهِ (وَالْآخَرُ) مَا ذَكَرَهُ مِنْ (أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ) لِأَنَّ التَّعَامُلَ كَالْإِجْمَاعِ وَلَوْ مَنَعَ ظُهُورَ التَّعَامُلِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمُسَاوَاةِ فِي جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْ النُّقُودِ بَلْ عَلَى شَرْطِ التَّفْوِيضِ الْعَامِّ كَمَا عَنْ مَالِكٍ أَمْكَنَ.

ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْقِيَاسِ فَقَالَ (الْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ) لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ (تَبَعًا) وَالتَّصَرُّفُ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا وَلَا يَصِحُّ مَقْصُودًا (كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ) فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ بِشِرَاءِ مَجْهُولِ الْجِنْسِ، وَكَذَا شِرْكَةُ الْعِنَانِ فَلَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ، وَانْتَظَمَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمِّلَةٌ تَبَعًا الْجَوَاب عَنْ إلْزَامِ الْكَفَالَةِ لِمَجْهُولٍ، وَفَصَّلَ الْجَوَابَ فِيهَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَأَمَّا الْجَهَالَةُ فَعَيْنُهَا لَا تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ وَلَكِنْ تُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ بِسَبَبِهَا، وَهُوَ مُنْعَدِمٌ هُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ مَا لَزِمَهُ بِتِجَارَتِهِ، وَعِنْدَ اللُّزُومِ الْمَضْمُون لَهُ وَالْمَضْمُونُ بِهِ مَعْلُومٌ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِمَجْهُولٍ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ عِنْدَ اللُّزُومِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَاكْتَفَى بِنَفْيِ الْإِلْزَامِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا لَا قَصْدًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِم صِحَّةِ الْكَفَالَةِ كَذَلِكَ قَصْدًا عَدَمُ صِحَّتِهَا ضِمْنًا، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ صِحَّتِهَا شَرْعًا أَخْذًا مِنْ هَذَا الْجَوَابِ، هَكَذَا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ لَا مَانِعَ فِيهِ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ صِحَّتُهُ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْوَكَالَةُ بِمَجْهُولٍ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ يَمْنَعُ إذَا ثَبَتَ قَصْدًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ الشَّيْءِ إذَا ثَبَتَ قَصْدًا مَنْعُهُ إذَا ثَبَتَ ضِمْنًا.

فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ؟ قُلْنَا: هَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى مُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشِّرْكَةَ فِي صُورَةٍ يَكُونُ الشَّرِيكَانِ مُتَسَاوِيَيْ الْمَالَيْنِ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ عَلَى الْعُمُومِ جَائِزَةٌ بِلَا مَانِعٍ كَمَا فِي صُورَةِ عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا.

فَقُلْنَا: إنْ عَقَدَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ سَمَّيْنَا الشِّرْكَةَ مُفَاوَضَةً وَإِلَّا سَمَّيْنَاهَا عِنَانًا، غَيْرَ أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ فِي ثُبُوتِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ لِجَعْلِنَا إيَّاهُ عِلْمًا عَلَى تَمَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَمْرِ الشِّرْكَةِ، فَإِذَا ذَكَرَاهَا تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا إقَامَةً لِلَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرَاهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ رِضَاهُمَا بِأَحْكَامِهَا إلَّا أَنْ يَذْكُرَا تَمَامَ مَعْنَاهَا، بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: وَهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ بَالِغَانِ أَوْ ذِمِّيَّانِ شَارَكْتُك فِي جَمِيعِ مَا أَمْلِكُ مِنْ نَقْدٍ وَقَدْرُ مَا تَمْلِكُ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ الْعَامِّ مِنْ كُلٍّ مِنَّا لِلْآخَرِ فِي التِّجَارَاتِ وَالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَعَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَّا ضَامِنٌ عَلَى الْآخَرِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ أَمْرِ كُلِّ بَيْعٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَتَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ فَهْمِ الْعَوَامّ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى) وَاللَّفْظُ وَسِيلَةٌ إلَى إفْهَامِهِ، وَلَوْ عَقَدَا بِلَفْظِ

ص: 158

وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا تَجُوزُ أَيْضًا) لِمَا قُلْنَا (وَلَا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ) لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.

قَالَ (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُهُ أَحَدُهُمَا كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ. وَيَتَفَاوَتَانِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ خُمُورًا أَوْ خَنَازِيرَ صَحَّ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ لَا يَصِحُّ

(وَلَا يَجُوزُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ

الْمُفَاوَضَةِ وَبَعْضُ شَرَائِطِهَا مُنْتَفٍ انْعَقَدَتْ عِنَانًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُنْتَفَى مِنْ شُرُوطِ الْعِنَانِ وَيَكُونُ تَعْبِيرًا بِالْمُفَاوَضَةِ عَنْ الْعِنَانِ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا) إنَّ فِيهِ لِلْوَصْلِ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) أَيْ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي إذْ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ (قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ لِتَعَذُّرِ الْمُسَاوَاةِ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ) أَصْلًا وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ (وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ: وَلَا بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَجُوزُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ)

وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْكَافِرُ يَمْلِكُ زِيَادَةَ تَصَرُّفٍ لَا يَمْلِكُهُ الْآخَرُ كَالْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ بَعْدَ تَسَاوِيهِمَا فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ مُبَاشَرَةً وَوَكَالَةً وَكَفَالَةً (وَصَارَ كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ، وَيَتَفَاوَتَانِ فِي الْعَقْدِ عَلَى مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) أَيْ عَقْدُ الشِّرْكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.

(لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ أَوْ لَا يَحْتَرِزُ مِنْ الرِّبَا فَيَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْمُسْلِمِ فِي أَكْلِ الْحَرَامِ) وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اسْتِعْمَالِ الْجَوَازِ فِي أَعَمَّ مِنْ الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ مَا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَضِيَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ عَمَّا بَعُدَ إلَّا فَيَكُونُ قَدْ أَخْرَجَ الْكَرَاهَةَ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الْجَوَازُ عَنْهُ فَلَا يَثْبُتُ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ الْجَوَازِ فَإِنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِ الْمَكْرُوهِ فَاسْتَدْرَكَ مِنْهُ الْكَرَاهَةَ: أَيْ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَبَعْضُ أَهْلِ الدَّرْسِ قَالُوا: يُرِيدُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لِمَا رَأَوْهُ بِمَعْنَى لَكِنْ، هُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ مُخْرَجٌ مِنْ حُكْمِ الصَّدْرِ، فَالْحِمَارُ لَمْ يَجِئْ فِي قَوْلِك جَاءُوا إلَّا حِمَارًا فَيَقْتَضِي إخْرَاجَ الْكَرَاهَةِ عَنْ ثُبُوتِ الْجَوَازِ فَلَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ (وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ مَالِهِ خُمُورًا وَخَنَازِير يَصِحُّ، وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا الْمُسْلِمُ لَا يَصِحُّ) لَكِنْ بَقِيَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ مَعَ التَّفَاوُتِ فِيمَا يَمْلِكَانِ لَمْ يَجِبْ عَنْهُ، وَكَذَا بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوْقُوذَةِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ مَالِيَّتَهَا دُونَ الْكِتَابِيِّ، وَكَذَا الْكِتَابِيُّ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ دُونَ الْمَجُوسِيِّ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ

ص: 159

وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ) لِانْعِدَامِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْعِنَانِ كَانَ عِنَانًا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْعِنَانِ، إذْ هُوَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُون عَامًّا.

قَالَ (وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) أَمَّا الْوَكَالَةُ فَلِتَحَقُّقِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشِّرْكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ: فَلِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوَاجِبِ التِّجَارَاتِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا جَمِيعًا.

قَالَ (وَمَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَلَى الشِّرْكَةِ إلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكِسْوَتَهُمْ) وَكَذَا كِسْوَتُهُ، وَكَذَا الْإِدَامُ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُسَاوَاةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَوْقُوذَةَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ فَلَا فَضْلَ بَيْنَ الْمَجُوسِيِّ وَالْكِتَابِيِّ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي التَّصَرُّفِ، وَأَمَّا مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَقَبَّلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبُهُ وَإِجَارَةُ الْمَجُوسِيِّ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ جَائِزَةٌ لِيَسْتَوْجِبَ بِهَا الْأَجْرَ وَإِنْ كَانَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَأَمَّا الْحَنَفِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فَالْمُسَاوَاةُ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ مَالًا مُتَقَوِّمًا قَائِمٌ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ بِاتِّحَادِ الْمِلَّةِ وَالِاعْتِقَادِ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِلشَّافِعِيِّ كَالْحَنَفِيِّ.

وَأَمَّا الْمُسْلِمُ مَعَ الْمُرْتَدِّ فَلَا تَجُوزُ الشِّرْكَةُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِمْ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ. وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ

(قَوْلُهُ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ) يَعْنِي وَلَوْ أَذِنَ وَلِيُّهُمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَالْمُكَاتَبَيْنِ (قَوْلُهُ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا إلَخْ) وَذَلِكَ كَمَا لَوْ عَقَدَ بَالِغٌ وَصَبِيٌّ أَوْ حُرٌّ وَعَبْدٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ شَرَطَا عَدَمَ الْكَفَالَةِ تَصِيرُ عِنَانًا وَإِنْ عَمَّمَا التَّصَرُّفَ وَالْمَالَ وَتَسَاوَيَا فِيهِ، لِأَنَّ عَقْدَ شِرْكَةِ الْعِنَانِ قَدْ يَكُونُ عَامًّا كَمَا يَكُونُ خَاصًّا، بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَامَّةً

(قَوْلُهُ وَتَنْعَقِدُ) أَيْ الْمُفَاوَضَةُ (عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ اللَّفْظِ فَيَثْبُتُ بِذِكْرِهِ: أَيْ وَكَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي نِصْفِ مَا يَشْتَرِيه وَكَفَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآخَرَ (أَمَّا) انْعِقَادُهَا عَلَى (الْوَكَالَةِ فَلِتَحَقُّقِ غَرَضِ الشِّرْكَةِ) وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يُرِيدُ قَوْلَهُ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِهِ عَلَى الشِّرْكَةِ فَيَتَحَقَّقُ الِاشْتِرَاطُ فِي الرِّبْحِ (وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ) الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا بِسَبَبِ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِهَا وَمَا يُشْبِهُ مَا هُوَ تِجَارَةٌ (وَمَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَلَى الشِّرْكَةِ إلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكِسْوَتَهُمْ) فَيَخْتَصُّ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ

ص: 160

قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَكَانَ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ الْمُفَاوَضَةِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ الرَّاتِبَةَ مَعْلُومَةُ الْوُقُوعِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا التَّصَرُّفُ مِنْ مَالِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الشِّرَاءِ فَيَخْتَصُّ بِهِ ضَرُورَةً. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشِّرْكَةِ لِمَا بَيَّنَّا (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهمَا شَاءَ) الْمُشْتَرِي بِالْأَصَالَةِ وَصَاحِبُهُ بِالْكَفَالَةِ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا.

قَالَ (وَمَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الدُّيُونِ بَدَلًا عَمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فَالْآخَرُ ضَامِنٌ لَهُ) تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، فَمِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ وَالِاسْتِئْجَارُ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَعَنْ النَّفَقَةِ.

الْآخَرُ كَفِيلًا عَنْهُ لَهُ حَتَّى كَانَ لِبَائِعِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لَهُ وَلِعِيَالِهِ وَإِدَامِهِمْ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِمَا أَدَّى عَلَى الشَّرِيكِ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا جَارِيَةً لِلْوَطْءِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الشِّرْكَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَقَعْ عَلَى الشِّرْكَةِ اسْتِحْسَانًا بِالضَّرُورَةِ (فَإِنَّ الْحَاجَةَ الرَّاتِبَةَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا) أَيْ الْمُسْتَمِرَّةَ مِنْ قَوْلِهِمْ رَتَبَ الشَّيْءُ إذَا دَامَ، وَمِنْهُ أَمْرٌ تُرْتَب: أَيْ دَائِمٌ بِفَتْحِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّهَا.

(وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ نَفَقَةِ عِيَالِهِ عَلَى صَاحِبِهِ) فَكَانَ مُسْتَثْنًى ضَرُورَةً (وَالْقِيَاسُ وُقُوعُهُ عَلَى الشِّرْكَةِ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ

ص: 161

قَالَ (وَلَوْ كُفِّلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَلْزَمُهُ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْ الْمَرِيضِ يَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةُ بَقَاءً لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ،

الْمُسَاوَاةُ، ثُمَّ كَفَالَةُ كُلٍّ الْآخَرَ إنَّمَا هِيَ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ، أَمَّا مَا يُشْبِهُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ فَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِدَيْنِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِهِ شَرِيكُهُ، وَضَمَانُ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ وَقِيمَتُهُ فِي الْفَاسِدِ وَأُجْرَةُ مَا اسْتَأْجَرَهُ سَوَاءٌ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةِ التِّجَارَةِ، وَمَا يُشْبِهُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ ضَمَانُ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ وَدِيعَةٌ إذَا جَحَدَهَا أَوْ اسْتَهْلَكَهَا، كَذَا الْعَارِيَّةُ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُفِيدُ لَهُ تَمَلُّكَ الْأَصْلِ فَتَصِيرُ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ، وَلَوْ لِحَقِّ أَحَدِهِمَا ضَمَانٌ لَا يُشْبِهُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ لَا يُؤْخَذُ بِهِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَبَدَل الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَعَنْ هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الشَّرِيكَ عَلَى الْعِلْمِ إذَا أَنْكَرَ الشَّرِيكُ الْجَانِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَى أَحَدِهِمَا بَيْعَ خَادِمٍ فَأَنْكَرَ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْبَتَاتِ وَشَرِيكُهُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي يَلْزَمُهُمَا، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُ الْآخَرَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِحْلَافِ.

وَصُورَةُ الْخُلْعِ مَا لَوْ عَقَدَتْ امْرَأَةٌ شِرْكَةَ مُفَاوَضَةٍ مَعَ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ثُمَّ خَالَعَتْ زَوْجَهَا عَلَى مَالٍ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهَا، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِبَدَلِ الْخُلْعِ أَوْ الْتَزَمَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ (قَوْلُهُ وَلَوْ كُفِّلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلُ (مُتَبَرِّعٌ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ) الْكَفَالَةُ (مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَلِهَذَا) أَيْضًا (لَوْ صَدَرَ) أَيْ عَقْدُ الْكَفَالَةِ (مِنْ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ صَحَّ مِنْ الثُّلُثِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ) إذَا أَقْرَضَ أَحَدُهُمَا مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ لِإِنْسَانٍ لَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى صُدُورِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَوْ أَقَرَّ بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى الْمَرَضِ لَزِمَتْهُ فِي كُلِّ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا يُلَاقِي حَالَ بَقَائِهَا وَهِيَ فِي حَالِ الْبَقَاءِ مُعَاوَضَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.

ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ. وَكَوْنُ الْإِقْرَاضِ لَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ وَلَوْ أَخَذَ بِهِ سَفْتَجَةً هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ، وَنَسَبَهُ إلَى الْإِيضَاحِ، وَعِبَارَةُ الْإِيضَاحِ نَقَلَهَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا هَكَذَا، قَالَ يَضْمَنُ: يَعْنِي الْمُقْرِضَ لِشَرِيكِهِ تَوَى الْمَالَ أَوْ لَمْ يَتْوِ، وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ الْمُقْرِضُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ.

قَالَ: وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ضَمَانِ الْكَفَالَةِ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ ضَمَانُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ فَكَذَا الْمُقْرِضَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ يَلْزَمُ الشَّرِيكَ وَالْكَفِيلَ فِي حُكْمِ الْمُقْرِضِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ عَقْدُ الْكَفَالَةِ (عَقْدُ تَبَرُّعٍ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةٍ بَقَاءً) كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ (يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا يُؤَدِّيه عَنْهُ) إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ بَعْدَ مَا لَزِمَ عَلَيْهِ (فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ،

ص: 162

وَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَمْ تَصِحَّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ وَتَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ الْمَرِيضِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ، وَلَوْ سَلِمَ فَهُوَ إعَارَةٌ فَيَكُونُ لِمِثْلِهَا حُكْمُ عَيْنِهَا لَا حُكْمُ الْبَدَلِ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الْأَجَلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مُعَاوَضَةً، وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ تَلْزَمْ صَاحِبَهُ فِي الصَّحِيحِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ.

وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً.

وَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَا يَصِحُّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ) وَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ مِمَّنْ ذَكَرَاهُ: يَعْنِي الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَالْمُكَاتَبَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِلَا ضَمِيرٍ وَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ قَلَمِ الْكَاتِبِ مَا يُشْبِهُ الْهَاءَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الِابْتِدَاءِ تَبَرُّعٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَمَامُهَا مُعَاوَضَةً لِأَنَّ التَّمَامَ بِنَاءٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ.

وَقَدْ يُقَالُ تَلَاقِي الذِّمَّةِ وَالذِّمَّةُ فِي الْمَأْذُونِ كَالْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى حَتَّى صَحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَلَمْ تُلَاقِ الْكَفَالَةُ حَقَّهُ، بِخِلَافِ الْحُرِّ الْبَالِغِ لِأَنَّهَا لَاقَتْ حَقَّهُ فَصَحَّتْ ثُمَّ تَمَّتْ مُعَاوَضَةً فَلَزِمَتْ الشَّرِيكَ لِأَنَّ لُزُومَهَا لَيْسَ فِي حَالِ الْبَقَاءِ، لِأَنَّا إنَّمَا نَقُولُ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ بَعْدَ مَا لَزِمَ الْكَفِيلَ. بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، إذْ لَا يَسْتَوْجِبُ الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ الْمَالِ.

وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَإِنَّهُ إعَارَةٌ مَحْضَةٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً لَا مُعَاوَضَةً، وَإِلَّا كَانَ بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ (فَيَكُونُ لِمِثْلِهَا) أَيْ لِمِثْلِ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ الْمَقْرُوضَةِ (حُكْمُ عَيْنِهَا لَا حُكْمُ الْبَدَلِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْجِيلُ) أَيْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَجْرِي عَلَى مُوجِبِ التَّأْجِيلِ فِي الْإِعَارَةِ وَالْقَرْضِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْجَبْرُ فِيمَا فِيهِ تَبَرُّعٌ وَهُوَ بَاطِلٌ، عَلَى أَنَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ فِي الْقَرْضِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الشَّرِيكَ بِنَاءً عَلَى شِبْهِ الْمُعَاوَضَةِ بِلُزُومِ الْمِثْلِ فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ) الْكَفَالَةُ (بِغَيْرِ أَمْرِهِ) أَيْ أَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ (لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ فِي الصَّحِيحِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ) انْتِهَاءً أَيْضًا، إذْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ يُشِيرُ إلَى خِلَافِ الْمَشَايِخِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، وَحَمْلُ مُطْلَقِ جَوَابِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَيْهِ، عَامَّةُ الْمَشَايِخِ جَرَوْا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ كَوْنِهَا بِأَمْرِهِ أَوْ لَا (قَوْلُهُ وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ) وَكَذَا ضَمَانُ الْمُخَالَفَةِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْإِقْرَارُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْمُصَنِّفِ أَبَا حَنِيفَةَ هُنَا لِأَنَّ فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ

ص: 163

قَالَ (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ أَوْ وَهَبَ لَهُ وَوَصَلَ إلَى يَدِهِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا) لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ إذْ هِيَ شَرْطٌ فِيهِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَهَذَا لِأَنَّ الْآخَرَ لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا أَصَابَهُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ، إلَّا أَنَّهَا تَنْقَلِبُ عِنَانًا لِلْإِمْكَانِ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ، وَلِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ (وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا فَهُوَ لَهُ وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ) وَكَذَا الْعَقَارُ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ

مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَفِي الْكَفَالَةِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا نَقَلَهُ آنِفًا.

لِأَبِي يُوسُفَ فِيهِمَا أَنَّهُ ضَمَانٌ وَجَبَ بِسَبَبٍ غَيْرِ تِجَارَةٍ فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمُسْتَهْلَكِ وَالْمُسْتَهْلَكُ لَا تَحْتَمِلُهُ الشِّرْكَةُ. وَلَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ كَضَمَانِ التِّجَارَةِ، وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِهِ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا حُرًّا، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ هُوَ بَدَلُ مَالٍ تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلتَّمَلُّكِ، وَكَذَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ بِالضَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مُلْتَزِمًا لَهُ ضَرَرِهِ وَنَفْعِهِ وَفِي الْكَافِي: الْإِعَارَةُ لِلرَّهْنِ نَظِيرُ الْكَفَالَةِ خِلَافًا وَتَعْلِيلًا.

وَوَجْهُ كَوْنِهَا مُعَاوَضَةً عِنْدَهُ انْتِهَاءً أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ يَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الرَّاهِنِ بِقَدْرِ مَا سَقَطَ مِنْ دَيْنِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْآخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ عِنْدَهُمَا، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ مَعَ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ فَقَبَضَهُ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا) وَكَذَا إذَا وَهَبَ

ص: 164

فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ.

لَهُ فَقَبَضَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ أَوْ زَادَتْ قِيمَةُ دَرَاهِمِ أَحَدِهِمَا الْبِيضِ عَلَى دَرَاهِمِ الْآخَرِ السُّودِ أَوْ دَنَانِيرِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، كُلُّ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَى يَدِهِ صَارَتْ عِنَانًا، وَلَوْ وَرِثَ مَالًا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ اخْتَصَّ بِهِ وَلَا تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ، وَكَذَا فِي بَاقِي الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشِّرْكَةِ، إذْ هِيَ أَيْ الْمُسَاوَاةُ شَرْطٌ لِبَقَاءِ صِحَّتِهَا ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَإِنَّمَا كَانَ مَا هُوَ شَرْطُ ابْتِدَائِهَا شَرْطًا لِبَقَائِهَا لِكَوْنِهِ: أَيْ عَقْدِ الشِّرْكَةِ عَقْدًا غَيْرَ لَازِمِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ لَوْ أَرَادَ فَسْخَهَا فَسَخَهَا.

وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ لِبَقَائِهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِيهَا بِالْفَسْخِ بَلْ يُجْبِرُ الْقَاضِي الْمُمْتَنِعَ عَلَى الْمُضِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ لِدَوَامِهَا حُكْمَ الِابْتِدَاءِ حَتَّى لَا تَبْقَى بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ كَوْنَ الْعَقْدِ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ يَتَحَقَّقُ مَعَ كَوْنِهِ لَازِمًا كَمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْإِجَارَةِ أَنْ لَا تَكُونَ لَازِمَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ فَهُوَ كَالْعَارِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ وَاللُّزُومُ أَصْلٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ تَحْقِيقًا لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَانْفِسَاخُهُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ بَلْ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّ الدَّارَ تَنْتَقِلُ إلَى مِلْكِ الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَوْ بَقِيَتْ لَزِمَ إرْثُ الْمَنْفَعَةِ الْمُجَرَّدَةِ وَهِيَ لَا تُورَثُ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَلَا تَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُورَثُ وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَازِمَةً، وَلَا بَأْسَ أَنْ نَذْكُرَ فُرُوعًا مِنْ شِرْكَةِ الْعَيْنِ إذْ قَلَّ ذِكْرُهَا فِي الْكِتَابِ: أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَذَهَبَ فَاشْتَرَاهُ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً فَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ بِشِرَاءِ نِصْفِ الْمُعَيَّنِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسْتَطِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْخُرُوجَ مِنْ الشِّرْكَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَّا بِحُضُورِ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَكِيلٌ لِصَاحِبِهِ.

وَلَوْ أَشْهَدَ الْمُوَكِّلُ عَلَى إخْرَاجِ الْوَكِيلِ عَمَّا وَكَّلَهُ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى إذَا تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْآخَرِ فَكَذَلِكَ فِي الشِّرْكَةِ؛ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ نَعَمْ ثُمَّ لَقِيَهُ آخَرُ فَقَالَ اشْتَرِ هَذَا الْعَبْدَ بَيْنِي وَبَيْنَك فَقَالَ نَعَمْ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمَأْمُورُ فَالْعَبْدُ بَيْنَ الْآمِرَيْنِ نِصْفَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ. وَقِيلَ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ ذَلِكَ النِّصْفِ لِنَفْسِهِ، فَكَذَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ لِغَيْرِهِ مَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمَّا أَمَرَهُ الثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ فَيَنْصَرِفُ إلَى

ص: 165

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا تَصْحِيحُ هَذَا الْعَقْدِ وَقَدْ قَبِلَ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إلَّا بِذَلِكَ؛ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا وَقَبَضَهُ فَطَلَبَ إلَيْهِ آخَرُ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيهِ فَأَشْرَكَهُ فِيهِ فَلَهُ نِصْفُهُ بِمِثْلِ نِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الشِّرْكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} إلَّا أَنْ يَبِينُ خِلَافُهُ، وَلَوْ أَشْرَكَ اثْنَيْنِ فِيهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا فَأَشْرَكَا فِيهِ آخَرَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُهُ وَلِكُلٍّ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ رُبُعُهُ لِأَنَّ كُلًّا صَارَ مُمَلَّكًا نِصْفَ نَصِيبِهِ فَيَجْتَمِعُ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ ثُلُثُهُ، لِأَنَّهُمَا حِينَ أَشْرَكَاهُ سَوَّيَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا وَكَانَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى الْعَبْدَ مَعَهُمَا، وَلَوْ أَشْرَكَهُ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فِي نَصِيبِهِ وَنُصِبْ الْآخَرِ فَأَجَازَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ كَانَ لِلرَّجُلِ نِصْفُهُ وَلِلشَّرِيكَيْنِ نِصْفُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ أَشْرَكْتُك فِي هَذَا الْعَبْدِ فَأَجَازَ شَرِيكُهُ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَا لَوْ أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ وَلَمْ يُسَمِّ فِي كَمْ أَشْرَكَهُ ثُمَّ أَشْرَكَهُ الْآخَرُ فِي نَصِيبِهِ كَانَ لَهُ النِّصْفُ.

وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَانَ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَشْرَكْتُك بِنِصْفِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ وَاحِدًا فَقَالَ لِرَجُلٍ أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِهِ كَانَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ كَقَوْلِهِ أَشْرَكْتُك بِنِصْفِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَشْرَكْتُك فِي نَصِيبِي فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ بِإِقَامَةِ حَرْفٍ فِي مَقَامِ حَرْفِ الْبَاءِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَشْرَكْتُك بِنَصِيبِي كَانَ بَاطِلًا فَلِذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ نَصِيبِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ ثُبُوتَ الشِّرْكَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا كُلُّهُ يَنْبَنِي عَلَى صَيْرُورَةِ الْمُشْتَرِي بَائِعًا لِلَّذِي أَشْرَكَهُ وَهُوَ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْهُ، فَانْبَنَى عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَشْرَكَ فِيهِ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَا لَمْ يُقْبَضْ كَمَا لَوْ وَلَّاهُ إيَّاهُ، وَلَوْ أَشْرَكَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ حَتَّى هَلَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ثَمَنٌ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ الَّذِي أَشْرَكَهُ لِأَنَّ لَفْظَ أَشْرَكْتُك صَارَ إيجَابًا لِلْبَيْعِ، وَلَوْ قَالَ أَشْرَكْتُك فِيهِ عَلَى أَنْ تَنْقُدَ عَنِّي الثَّمَنَ فَفَعَلَ كَانَتْ شِرْكَةً فَاسِدَةً لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَشَرْطٌ فَاسِدٌ وَهُوَ أَنْ يَنْقُدَ عَنْهُ ثَمَنَ نِصْفِهِ الَّذِي هُوَ لَهُ.

وَلَوْ نَقَدَ عَنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَدَ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ كَانَ فَاسِدًا وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِدُونِ الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا؛ وَلَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْمَبِيعِ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ آخَرَ مَلَكَ الْآخَرُ نِصْفَ الْعَبْدِ لَا نِصْفَ النِّصْفِ الَّذِي قَبَضَهُ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا انْصَرَفَ إشْرَاكُهُ إلَى الْكُلِّ، ثُمَّ يَصِحُّ فِي الْمَقْبُوضِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ لِأَنَّ تَصْحِيحَ التَّصَرُّفِ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ اللَّفْظَ، وَقَضِيَّةُ اللَّفْظِ إشْرَاكُهُ فِي كُلِّهِ؛ وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ أَيُّنَا اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ فَقَدْ أَشْرَكَ فِيهِ صَاحِبَهُ أَوْ فَصَاحِبُهُ فِيهِ شَرِيكٌ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُوَكِّلٌ لِصَاحِبِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الْعَبْدِ لَهُ، فَأَيُّهُمَا اشْتَرَاهُ كَانَ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَهُوَ كَقَبْضِهِمَا لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ حَتَّى لَوْ مَاتَ كَانَ مِنْ مَالِهِمَا، فَإِنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا أَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ قَبْلَ صَاحِبِهِ ثُمَّ اشْتَرَى صَاحِبُهُ النِّصْفَ الْآخَرَ كَانَ بَيْنَهُمَا لِتَمَامِ مَقْصُودِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَوْ نَقَدَ أَحَدُهُمَا كُلَّ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ بَيْنَهُمَا صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ الْآخَرِ فِي نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا وَنَقَدَ الثَّمَنَ فَإِنْ أَذِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي بَيْعِهِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَهُ كَانَ بَائِعًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ.

وَلَوْ

ص: 166

(فَصْلٌ)

(وَلَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ)

وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ

بَاعَهُ إلَّا نِصْفَهُ كَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا الْبَيْعُ عَلَى نِصْفِ الْمَأْمُورِ خَاصَّةً، وَمَبْنَاهُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِهِ وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ نِصْفِهِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ.

وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ قَالَ بِعْتُكَ هَذَا إلَّا نِصْفَهُ بِأَلْفٍ كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِأَلْفٍ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ عِبَارَةٌ عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ بِعْتُك نِصْفَهُ بِأَلْفٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ فَحَاصِلُهُ ضَمَّ نَفْسَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا بَاعَهُ مِنْهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَكِنَّهُ إذَا كَانَ مُفِيدًا تَصِحُّ كَمَا فِي شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ فَكَانَ كَالْمُشْتَرِي هُوَ مَالَ نَفْسِهِ مَعَ الْمُشْتَرِي فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا فَيَسْقُطُ نِصْفُهُ عَنْهُ فَيَبْقَى نِصْفُ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي.

(مَسْأَلَةٌ)

اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةٍ وَاشْتَرَى آخَرُ نِصْفَهُ الْآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ بَاعَاهُ مُسَاوَمَةً بِثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ بِمِائَتَيْنِ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ بَاعَاهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةٍ أَوْ بِالْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ يُقَابِلُ الْمِلْكَ فَيُعْتَبَرُ الْمِلْكُ فِي الْمَحِلِّ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْوَضْعِيَّةِ فَبِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الْبُيُوعُ فِي الْمَغْصُوبِ لِعَدَمِ الثَّمَنِ وَيَسْتَقِيمُ بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُشْتَرِي بِعِوَضٍ لَا مِثْلَ لَهُ وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ كَانَ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمَا، فَكَذَا الثَّانِي يُوَضِّحُهُ أَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ الْمِلْكَ فِي قِسْمَةِ الثَّمَنِ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا وَوَضِيعَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَقَدْ نَصَّا عَلَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فِي نَصِيبِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُسَاوَمَةِ، الْكُلُّ مِنْ الْمَبْسُوطِ.

(فَصْلٌ)

لَمَّا ذَكَرَ اشْتِرَاطَ الْمُسَاوَاةِ فِي رَأْسِ مَالِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ احْتَاجَ إلَى بَيَانِ أَيِّ مَالٍ تَصِحُّ بِهِ، فَقَالَ:(لَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ) أَيْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ (إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ) يَعْنِي لَا تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ إذَا ذُكِرَ فِيهَا الْمَالُ إلَّا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ وَالْعِنَانَ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَالتَّقَبُّلِ فَيَصِحُّ قَوْلُنَا

ص: 167

أَيْضًا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى رَأْسِ مَالٍ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ النُّقُودَ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهَا لِمَا فِيهَا مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ.

الْمُفَاوَضَةُ تَنْعَقِدُ فِي الْوُجُوهِ وَالتَّقَبُّلِ بِلَا مَالٍ فَصَدَقَ بَعْضُ الْمُفَاوَضَةِ تَنْعَقِدُ بِلَا دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَفُلُوسٍ، وَهُوَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ لَا تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ إلَخْ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ يُنَاقِضُ السَّلْبَ الْكُلِّيَّ، وَالتَّقْيِيدُ بِمَا ذُكِرَ يُخْرِجُ الدَّيْنَ وَالْعُرُوضَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ يَجُوزُ بِالْعُرُوضِ الْمُثْلَى، وَقَالَ مَالِكٌ تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ إذَا اتَّحَدَ جِنْسُهَا.

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ، وَلَوْ وَقَعَ تَفَاضُلٌ فِي بَيْعِهَا يَرْجِعُ كُلٌّ بِقِيمَةِ عَرْضِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَكَمَا لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا بِالْعَرْضِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا عَرْضًا وَالْآخَرِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ حُضُورَ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ صَحِيحٌ، بَلْ الشَّرْطُ وُجُودُهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ.

وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا، وَقَالَ: أَخْرِجْ مِثْلَهَا وَاشْتَرِ بِهَا وَبِعْ فَمَا رَبِحْت فَهُوَ بَيْنَنَا فَفَعَلَ صَحَّ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ فَعَلَ لِيَلْزَمَ الْآخَرَ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ لَوْ ثَبَتَتْ وَضِيعَةٌ، وَقَيَّدَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِإِخْرَاجِ الْحُلِيِّ وَالتِّبْرِ فَلَا يَصْلُحَانِ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ إلَّا فِيمَا سَنَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ فَلَمْ يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ وَالْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فِي الْكَافِي فِيهَا خِلَافًا، بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ قَالَ: وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ.

وَخَصَّ الْكَرْخِيُّ الْجَوَازَ بِالْفُلُوسِ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الظَّاهِرَ الْجَوَازَ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا فُلُوسًا لَمْ تَجُزْ الشَّرِكَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا صَارَتْ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ، وَلَيْسَتْ ثَمَنًا فِي الْأَصْلِ وَهُمْ لَمْ يَتَعَامَلُوا أَنْ يَجْعَلُوهَا رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (قَالُوا) يَعْنِي الْمُتَأَخِّرِينَ: (هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ) وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الْفُلُوسَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ إذَا كَانَا بِعَيْنِهِمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا، وَسَيَأْتِي الْوَجْهُ وَالتَّقْيِيدُ بِأَعْيَانِهِمَا احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ بَاعَ فَلْسًا بِفَلْسَيْنِ دَيْنًا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّسَاءِ تَثْبُتُ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ.

وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْجِنْسَ إذَا كَانَ مُتَّحِدًا فَقَدْ (عُقِدَتْ عَلَى رَأْسِ مَالٍ مَعْلُومٍ) فَكَانَتْ كَالنُّقُودِ (بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ) حَيْثُ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالنُّقُودِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ (لِمَا فِيهَا مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ) فَإِنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُضَارِبِ

ص: 168

فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ. وَلَنَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ مَالِهِ وَتَفَاضَلَ الثَّمَنَانِ فَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ رِبْحُ مَا لَمْ يَمْلِكْ وَمَا لَمْ يَضْمَنْ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ ثَمَنَ مَا يَشْتَرِيهِ فِي ذِمَّتِهِ إذْ هِيَ لَا تَتَعَيَّنُ فَكَانَ رِبْحُ مَا يَضْمَنُ، وَلِأَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرُوضِ الْبَيْعُ وَفِي النُّقُودِ الشِّرَاءُ، وَبَيْعُ أَحَدِهِمَا مَالَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ لَا يَجُوزُ، وَشِرَاءُ أَحَدِهِمَا شَيْئًا بِمَالِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ جَائِزٌ.

وَأَمَّا الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ فَلِأَنَّهَا تَرُوجُ رَوَاجَ الْأَثْمَانِ فَالْتَحَقَتْ بِهَا.

وَيَسْتَحِقُّ رِبْحَهُ (فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ. وَلَنَا أَنَّ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ)

فِي الْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ (يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ)؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَرْضَهُ وَاتَّفَقَ تَفَاضُلُ الثَّمَنَيْنِ (فَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى حِصَّةِ رَأْسِ مَالِهِ) الَّذِي هُوَ ثَمَنُ عَرْضِهِ (رِبْحُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ) وَلَمْ يَضْمَنْهُ (بِخِلَافِ النُّقُودِ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ ثَمَّ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الشِّرَاءِ بِمَالِهِ، وَمَا يَشْتَرِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِرَأْسِ الْمَالِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ فَرِبْحُهُ رِبْحُ مَا ضَمِنَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ خَلْطَ الْعَرْضَيْنِ لِاتِّحَادِ جِنْسِهِمَا مَكِيلَيْنِ أَوْ مَوْزُونَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا مُتَّحِدِي الْقِيمَةِ كَثِيَابِ الْكِرْبَاسِ مِنْ بَابَةَ وَاحِدَةٍ.

قُلْنَا: الْخَلْطُ لَا يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي كُلِّ ثَوْبٍ وَحَبَّةٍ مَثَلًا، فَإِذَا بَاعَا جُمْلَةً فِي وَقْتِ طُلُوعِ السِّعْرِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَدَدَ مَا بِيعَ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مُتَسَاوِيَانِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مُتَفَاوِتَانِ، فَيَلْزَمُ اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِزِيَادَةِ رِبْحٍ لِزِيَادَةِ مِلْكِهِ، وَالتَّخَلُّصُ عَنْهُ لَيْسَ إلَّا بِضَبْطِ قَدْرِ مِلْكِهِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ فَقَدْ أَدَّى إلَى تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى قَدْرِ حَقِّهِ وَرِبْحِ الْآخَرِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَلَا يُفِيدَانِ الْعِلْمَ بِالْقِيمَةِ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَهَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ اُعْتُبِرَ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَةَ الْعُرُوضِ، أَمَّا إذَا كَانَ هُوَ نَفْسُ الْعُرُوضِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُتَّحِدَةِ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ

وَقَدْ خَلَطَاهُ فِيهِ فَلَا تَنَازُعَ.

نَعَمْ اللَّازِمُ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَتَعَذُّرُ مَا يَدْفَعُهُ (وَلِأَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرُوضِ الْبَيْعُ وَفِي النُّقُودِ الشِّرَاءُ، وَبَيْعُ الْإِنْسَانِ مَالَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ لَا يَجُوزُ، وَشِرَاؤُهُ شَيْئًا بِمَالِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ شَرِيكًا فِيهِ يَجُوزُ)، وَعَلِمْت أَنَّ الْخَلْطَ لَا يَنْفِي ذَلِكَ (وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْفُلُوسَ إذَا كَانَتْ نَافِقَةً تَرُوجُ رَوَاجَ الْأَثْمَانِ فَالْتَحَقَتْ بِهَا) وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

ص: 169

قَالُوا: هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالنُّقُودِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ بِأَعْيَانِهَا عَلَى مَا عُرِفَ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا لِأَنَّ ثُمْنِيَّتَهَا تَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَتَصِيرُ سِلْعَةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَظْهَرُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ صِحَّةُ الْمُضَارَبَةِ بِهَا.

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَتَعَامَلَ النَّاسُ بِالتِّبْرِ) وَالنُّقْرَةُ فَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِمَا، هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَلَا تَكُونُ الْمُفَاوَضَةُ بِمَثَاقِيلِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ) وَمُرَادُهُ التِّبْرُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ التِّبْرُ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَلَا تَصِحُّ رَأْسُ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّ النُّقْرَةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَا بِهَلَاكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ تَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِيهِمَا، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّهُمَا خُلِقَا ثَمَنَيْنِ فِي الْأَصْلِ،

أَنَّ ثُمْنِيَّتَهَا تَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً) فَإِنَّهَا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ لَا بِالْخِلْقَةِ، فَفِي كُلِّ سَاعَةٍ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْخِلْقَةِ.

وَتَصِيرُ ثَمَنًا بِالِاصْطِلَاحِ الْقَائِمِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ فِي الْمُلَاحَظَةِ، أَمَّا فِي الْخَارِجِ فَهِيَ ثَمَنٌ مُسْتَمِرٌّ مَا اسْتَمَرَّ الِاصْطِلَاحُ عَلَيْهَا، وَلِذَا قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ عَلَى الْفُلُوسِ يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِفُلُوسٍ بِعَيْنِهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الْفُلُوسُ حَتَّى لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِهَلَاكِهَا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَظْهَرُ)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ مُسْتَقِرٌّ فِي بَيْعِ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ، (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ الْمُضَارَبَةِ بِهَا) وَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَبْسُوطِ الْإِسْبِيجَابِيِّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْكُلِّ الْآنَ عَلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَعَدَمِ التَّعْيِينِ

وَعَلَى مَنْعِ بَيْعِ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ كَمَا ذُكِرَ فِيمَا يَلِيهِ حَيْثُ قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَتَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا كَالتِّبْرِ) وَهُوَ غَيْرُ الْمَصُوغِ (وَالنُّقْرَةِ) وَهِيَ الْقِطْعَةُ الْمُذَابَةُ مِنْهَا، وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ، رِوَايَةُ الْجَامِعِ: لَا تَكُونُ الْمُفَاوَضَةُ بِمَثَاقِيلِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَمُرَادُهُ التِّبْرُ فَعَلَى هَذِهِ التِّبْرُ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَلَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّ النُّقْرَةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَعَلَى هَذَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالٍ فِيهِمَا، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ

ص: 170

إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ خُلِقَتْ لِلتِّجَارَةِ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ الْمَخْصُوصِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا تُصْرَفُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُلُ بِاسْتِعْمَالِهِمَا ثَمَنًا فَنَزَلَ التَّعَامُلُ بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبِ فَيَكُونُ ثَمَنًا وَيَصْلُحُ رَأْسُ الْمَالِ.

ثُمَّ قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبَ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَنَا قَبْلَ الْخَلْطِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحُ مَتَاعِهِ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، وَإِنْ خَلَطَا ثُمَّ اشْتَرَكَا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ مِلْكٍ لَا شَرِكَةُ عَقْدٍ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ شَرِكَةُ الْعَقْدِ. وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ وَاشْتِرَاطِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بَعْدَ الْخَلْطِ كَمَا تَعَيَّنَ قَبْلَهُ.

أَنَّهُمَا خُلِقَا ثَمَنَيْنِ.

ثُمَّ قَالَ (إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ) يَعْنِي دِرَايَةً؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا خُلِقَا لِلتِّجَارَةِ (لَكِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ الْمَخْصُوصِ) فَخَرَجَ ضَرْبُهَا حُلِيًّا فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ أَلْبَتَّةَ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ (وَلَمْ يَجْرِ التَّعَامُلُ بِهِمَا) أَيْ ثُمَّ قَالَ (إلَّا أَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُلُ بِهِمَا) أَيْ بِالتِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ أَصَحُّ، وَهُوَ كَوْنُهُمَا لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِمَا فَكَانَ الثَّابِتُ أَنَّهُمْ إذَا تَعَامَلُوا بِقِطَعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ صَلَحَتْ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَوْلُهُ أَيْ الْقُدُورِيِّ

(لَا تَجُوزُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْمَعْدُودَ الْمُتَقَارِبَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ) بَيْنَنَا (قَبْلَ الْخَلْطِ)؛ لِأَنَّهَا عُرُوضٌ مَحْضَةٌ (لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَتَاعُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ) وَيَخْتَصُّ بِرِبْحِهِ، (وَكَذَا إنْ خَلَطَا ثُمَّ اشْتَرَكَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَتَاعُهُ يَخُصُّهُ رِبْحُهُ وَوَضِيعَتُهُ لِانْتِفَاءِ شَرِكَةِ الْعَقْدِ، وَالْوَضِيعَةُ خَسَارَةُ التَّاجِرِ، يُقَالُ مِنْهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وُضِعَ التَّاجِرُ وُكِسَ فِي سِلْعَتِهِ يُوضَعُ وَضِيعَةً: أَيْ خَسِرَ.

وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ: وَضِعَ يَوْضَعُ كَوَجِلِ يَوْجَلُ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تَصِحُّ شَرِكَةُ عَقْدٍ) إذَا كَانَ الْمَخْلُوطُ جِنْسًا وَاحِدًا (وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اشْتِرَاطِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ) فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِحُّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُ (وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ عَرَضًا مَحْضًا فَلَا يَصِحُّ رَأْسُ مَالِهَا، وَمَا لَا يَصِحُّ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْحَالُ بَيْنَ الْخَلْطِ وَعَدَمِهِ، كَمَا أَنَّ مَا يَصِحُّ مِنْ النُّقُودِ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْخَلْطِ وَعَدَمِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ قَبْلَ الْخَلْطِ هُوَ كَوْنُهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ بَعْدَ الْخَلْطِ بَلْ يَزْدَادُ تَقَرُّرًا؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوطَ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَعَيِّنًا فَيَتَقَرَّرُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدُ فَكَيْفَ يَكُونُ مُصَحِّحًا لِلْعَقْدِ، (قَوْلُهُ وَلِمُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهَا) أَيْ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ (عُرُوضٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ)

ص: 171

وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّهَا ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ بِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ. وَمَبِيعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَالَيْنِ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا بِحَالٍ

وَلَوْ اخْتَلَفَا جِنْسًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ فَخُلِطَا لَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ. وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَخْلُوطَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَمِنْ جِنْسَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَتَتَمَكَّنُ الْجَهَالَةُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ فَحُكْمُ الْخَلْطِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ.

ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَصِحُّ الشِّرَاءُ بِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ مِنْ حُكْمِ الْأَثْمَانِ فَعَمِلْنَا (بِالشَّبَهَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَالَيْنِ) وَهُمَا الْخَلْطُ وَعَدَمُهُ بِشَبَهِ الْعَرَضِ قَبْلَ الْخَلْطِ فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا قَبْلَهُ، وَيُشْبِهُ الثَّمَنَ بَعْدَ الْخَلْطِ فَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا بَعْدَهُ.

وَهَذَا لِأَنَّ بِالْخَلْطِ تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْمِلْكِ فَيَتَأَكَّدُ بِهَا شَرِكَةُ الْعَقْدِ (بِخِلَافِ الْعُرُوضِ) الْمَحْضَةِ (فَإِنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا بِحَالٍ) وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ هُوَ الْأَظْهَرُ وَجْهًا؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ قَبْلَ الْخَلْطِ لَيْسَ شَيْئًا غَيْرَ الْعَرْضِ لَهُ شَبَهٌ بِهِ بَلْ هُوَ عَرْضٌ مَحْضٌ، وَازْدَادَ فِي الْعَرْضِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ مُتَأَصِّلًا فِي حَقِيقَةٍ وَلَهُ شَبَهٌ بِأُخْرَى لَا يُقَالُ لَهُ شَبَهَانِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ عَرَضٌ عَامٌّ لِحَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَالْمُفْسِدُ وَهُوَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا يَخْتَلُّ بِالْخَلْطِ وَإِلَّا لَزِمَ قَوْلُ مَالِكٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.

وَلَوْ كَانَ الْمَخْلُوطُ لَهُمَا جِنْسَيْنِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ، ثُمَّ عَقَدَا لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالِاتِّفَاقِ (وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ) بَيْنَ الْعَقْدِ بَعْدَ صِحَّةِ الْخَلْطِ فِي مُتَّفِقِي الْجِنْسِ حَيْثُ يَجُوزُ، وَالْمُخْتَلِفِينَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ.

(أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ) حَتَّى يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ مِثْلَهُ فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ الْمَالِ كُلٌّ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِثْلِ (وَ) الْمَخْلُوطُ (مِنْ جِنْسَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ) حَتَّى يَلْزَمُ مُتْلِفَهُ قِيمَتُهُ (فَتَتَمَكَّنَ الْجَهَالَةُ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى غَيْرِ حَقِّهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ (كَمَا فِي الْعُرُوضِ)، (قَوْلُهُ فَحُكْمُ الْخَلْطِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ) قِيلَ أَرَادَ قَضَاءَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ بَيَّنَّهُ فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خِلَافُ الْمُعْتَادِ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي إطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَالِطَ تَعَدِّيًا يَضْمَنُ نَصِيبَ الْمَخْلُوطِ مَالُهُ إذَا خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ كَشَيْرَجِ رَجُلٍ خَلَطَهُ بِزَيْتِ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَمَيَّزُ بِعُسْرٍ كَحِنْطَةٍ خَلَطَهَا بِشَعِيرٍ؛ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ حَقُّ مَالِكِهَا بِهَذَا الْخَلْطِ، فَإِنَّ هَذَا الْخَلْطَ اسْتِهْلَاكٌ، بِخِلَافِ مَا تَيَسَّرَ مَعَهُ كَخَلْطِ السُّودِ بِالْبِيضِ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَيْسَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ الْمَالِكُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ، وَحَيْثُ وَجَبَ الضَّمَانُ يَجِبُ عَلَى الْخَالِطِ سَوَاءٌ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْ الْمَخْلُوطِ مَالُهُ كَغَيْرِ الْمُودِعِ وَغَيْرِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَانَ فِي عِيَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِالْخَالِطِ فَقَالَ أَحَدُ الْمَالِكَيْنِ أَنَا آخُذُ الْمَخْلُوطَ وَأُعْطِي صَاحِبِي مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ فَرَضِيَ صَاحِبُهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَإِذَا رَضِيَا بِذَلِكَ صَحَّ، وَإِنْ أَبَى يُبَاعُ الْمَخْلُوطُ وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ عَلَى مَا يُذْكَرُ، وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ بِقِيمَتِهَا مَخْلُوطَةً بِالشَّعِيرِ وَصَاحِبُ الشَّعِيرِ بِقِيمَتِهِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تَنْقُصُ بِاخْتِلَاطِهَا بِالشَّعِيرِ، وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَضْرِبُ بِقِيمَتِهَا إلَّا بِالصِّفَةِ الَّتِي بِيعَتْ بِهَا، وَالشَّعِيرُ يَزْدَادُ قِيمَةً بِالِاخْتِلَاطِ لَكِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ مَالِ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَضْرِبَ بِهَا مَخْلُوطًا فَلِهَذَا يَضْرِبُ بِقِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ.

قِيلَ هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الْمَخْلُوطِ بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَخْلُوطِ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الْخَالِطِ، فَأَمَّا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ الْمَخْلُوطُ مِلْكٌ لِلْخَالِطِ وَحَقُّهُمَا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يُبَاعُ مَالُهُ فِي دَيْنِهِمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى ذَلِكَ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا وَإِنْ انْقَطَعَ عَنْ الْمَخْلُوطِ فَالْحَقُّ فِيهِ بَاقٍ مَا لَمْ يَصِلْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى بَدَلِ مِلْكِهِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْخَالِطِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، فَلِبَقَاءِ حَقِّهِمَا يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا حَقَّهُمَا مِنْ الْمَخْلُوطِ، إمَّا صُلْحًا بِالتَّرَاضِي أَوْ بَيْعًا وَقِسْمَةَ الثَّمَنِ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْخَلْطِ وَرَضِيَا بِهِ، وَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ صَارَ عَيْنًا مُشْتَرَكَةً، فَإِذَا بَاعَهُ انْقَسَمَ عَلَى قَدْرِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ الْمَخْلُوطُ غَيْرَ مِثْلِيٍّ كَالثِّيَابِ فَبَاعَاهَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ اقْتَسَمَاهُ عَلَى قِيمَةِ مَتَاعِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَوْمَ بَاعَهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَائِعٌ لِمِلْكِهِ، وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ مَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مِنْ الْعَرْضِ، فَيُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ مِثْلَيْنِ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا إذَا بَاعَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ مَتَاعِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَوْمَ خَلَطَا مَخْلُوطًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ فَيُقَسَّمُ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمِلْكُ كُلٍّ مِنْهُمَا كَانَ مَعْلُومًا بِالْقِيمَةِ وَقْتَ الْخَلْطِ فَتُعْتَبَرُ تِلْكَ الْقِيمَةُ، لَكِنْ مَخْلُوطًا إنْ لَمْ تَزِدْ بِالْخَلْطِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَزِيدُهُ الْخَلْطُ خَيْرًا فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ غَيْرَ مَخْلُوطٍ.

مَثَلًا قِيمَةُ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ إذَا خُلِطَ بِالْحِنْطَةِ، وَقِيمَةُ الْحِنْطَةِ تَنْقُصُ، فَصَاحِبُ الشَّعِيرِ يَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ ظَهَرَتْ فِي مِلْكِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بِهِ مَعَهُ، وَصَاحِبُ الْحِنْطَةِ يَضْرِبُ بِقِيمَتِهَا مَخْلُوطَةً بِالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَاصِلٌ بِعَمَلٍ هُوَ رَاضٍ بِهِ وَهُوَ الْخَلْطُ، وَقِيمَةُ مِلْكِهِ عِنْدَ ذَلِكَ نَاقِصَةٌ فَلَا يَضْرِبُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَدْرِ.

وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى رحمه الله فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَقَالَ: قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ خَلَطَاهُ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ غَلَطٌ، بَلْ الصَّحِيحُ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَوْمَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ بِهِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ لَمْ يَخْلِطَاهُ وَبَاعَا الْكُلَّ جُمْلَةً، فَإِنَّ قِسْمَةَ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ تَكُونُ وَقْتَ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ وَيَوْمَ الْخَلْطِ وَالْقِسْمَةِ سَوَاءً.

وَرَدَّهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ قِيمَةِ الشَّيْءِ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ مِثْلِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوطِ مِثْلٌ يُبَاعُ فِيهَا حَتَّى يُمْكِنَ اعْتِبَارُ قِيمَةِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ هَذَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّقْوِيمِ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قِيمَةِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا

ص: 173

قَالَ (وَإِذَا أَرَادَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَالِ الْآخَرِ، ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ) قَالَ (وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ مِلْكٌ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ قِيمَةُ مَتَاعِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ،

كَمَا فِي جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا مَا فِي بَطْنِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهَا وَقْتَ الْعِتْقِ فَيُصَارُ إلَى تَقْوِيمِهِ فِي أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْقِيمَةِ فِيهَا وَهُوَ مَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، فَكَذَا هُنَا يُصَارُ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ كُلٍّ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَهُوَ عِنْدَ الْخَلْطِ إلَّا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْخَلْطَ يَزِيدُ فِي مَالِ أَحَدِهِمَا وَيُنْقِصُ فِي مَالِ الْآخَرِ فَقَدْ تَعَذَّرَ قِسْمَةُ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِهِمَا وَقْتَ الْخَلْطِ لِتَيَقُّنِنَا بِزِيَادَةِ مِلْكِ أَحَدِهِمَا وَنُقْصَانِ الْآخَرِ فَاعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عِنْدَ الْخَلْطِ مِلْكَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيُجْعَلُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا يَوْمَ الْخَلْطِ كَالْبَاقِي فِي الْمِثْلِ إلَى وَقْتِ الْقِسْمَةِ فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى مَا هُوَ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُخْلَطَا: لِأَنَّ تَقَوُّمَ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ هُنَاكَ مُمْكِنٌ، فَاعْتَبَرْنَا فِي قِسْمَةِ الثَّمَنِ قِيمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَرَادَ الشَّرِكَةَ فِي الْعُرُوضِ بَاعَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرَضِهِ بِنِصْفِ عَرَضِ الْآخَرِ فَتَصِيرُ شَرِكَةَ مِلْكٍ، ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ مُفَاوَضَةً أَوْ عِنَانًا) فَقِيلَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُضَافَةً

ص: 174

وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يَبِيعُ صَاحِبُ الْأَقَلِّ بِقَدْرِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الشَّرِكَةُ.

إلَى حَالِ بَيْعِهِمَا الْعُرُوضَ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُضَافٌ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَوْكِيلٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْعَقْدُ بِالدَّرَاهِمِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ جَوَازَ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ تَوَارَدَتْ كَلِمَةُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ كَوْنِ رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ عُرُوضًا كُلٌّ مِنْ أَمْرَيْنِ: لُزُومِ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَجَهَالَةِ رَأْسِ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ فَيَكُونُ كَمَا رَبِحَهُ أَحَدُهُمَا مَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَلَا تَحْصُلُ جَهَالَةٌ فِي رَأْسِ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَعَرُّفِ رَأْسِ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ بِالْحَزْرِ فَتَقَعُ الْجَهَالَةُ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْمَالِ شَرِيكَانِ فِيهِ، فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ كُلُّ مَا يَحْصُلُ مِنْ الثَّمَنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَهَذِهِ شَرِكَةُ مِلْكٍ مُشْكِلٌ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ قَصَدَ إلَى الْخِلَافِ حَقِيقَةً اخْتِيَارًا مِنْهُ لِعَدَمِ الْجَوَازِ وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ عَلَى طَرِيقِهِ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ الْقُدُورِيُّ أَوَّلَ الْكِتَابِ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَلَمْ يَضَعْ الْخِلَافَ وَضْعَهُ الْمَعْرُوفَ، وَلِذَا اخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَدَمَ جَوَازِ الشَّرِكَةِ لِبَقَاءِ جَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا، وَفَسَادُهَا بِالْعُرُوضِ

ص: 175

قَالَ (وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ دُونَ الْكَفَالَةِ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي نَوْعِ بُرٍّ أَوْ طَعَامٍ، أَوْ يَشْتَرِكَانِ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ وَلَا يَذْكُرَانِ الْكَفَالَةَ)، وَانْعِقَادُهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لِتَحَقُّقِ مَقْصُودِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَعْرَاضِ يُقَالُ عَنَّ لَهُ: أَيْ عَرَضَ، وَهَذَا لَا يُنْبِئُ عَنْ الْكَفَالَةِ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ لَا يَثْبُتُ بِخِلَافِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ

(وَيَصِحُّ التَّفَاضُلُ فِي الْمَالِ) لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ قَضِيَّةِ اللَّفْظِ الْمُسَاوَاةُ.

لَيْسَ لِذَاتِ الْعُرُوضِ بَلْ لِلَّازِمِ الْبَاطِلِ وَعَلِمْت أَنَّهُ مُنْتَفٍ

(قَوْلُهُ وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ دُونَ الْكَفَالَةِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَاتِ بُرٍّ أَوْ طَعَامٍ أَوْ يَشْتَرِكَا فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ وَلَا يَذْكُرَانِ الْكَفَالَةَ)؛ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْمُفَاوَضَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ ذَكَرَاهَا وَكَانَتْ بَاقِي شُرُوطِهَا مُتَوَفِّرَةً انْعَقَدَتْ مُفَاوَضَةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ فِي انْعِقَادِهَا بَعْدَ ذِكْرِ جَمِيعِ مُقْتَضَيَاتِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَوَفِّرَةً يَنْبَغِي أَنْ تَنْعَقِدَ عِنَانًا، ثُمَّ هَلْ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ؟ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَبْطُلُ لِأَنَّ الْعِنَانَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا عَدَمُ الْكَفَالَةِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا تَبْطُلُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا عَدَمُ اعْتِبَارِ الْكَفَالَةِ لَا اعْتِبَارُ عَدَمِهَا فَتَصِحُّ عِنَانًا، ثُمَّ كَفَالَةُ كُلٍّ الْآخَرَ زِيَادَةٌ عَلَى نَفْسِ الشَّرِكَةِ: أَيْ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ عِنَانًا مَعَ الْعُمُومِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الثَّابِتَ فِيهَا عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ لَا اعْتِبَارُ عَدَمِ الْعُمُومِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ يُرَجَّحُ بِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ لِمَجْهُولٍ فَلَا تَصِحُّ إلَّا ضِمْنًا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مِمَّا تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُهَا إلَّا قَصْدًا فَلَا تَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَقَدَ الْمُفَاوَضَةَ بِغَيْرِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ بِأَنْ ذَكَرَا كُلَّ مُقْتَضَيَاتِهَا فَإِنَّ مِنْهَا الْكَفَالَةَ وَتَصِحُّ، فَإِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُرَكَّبِ الْمُرَادِفِ لِلْمُفْرَدِ الدَّاخِلِ فِي مَفْهُومِهِ الْكَفَالَةُ، بِخِلَافِ الْعِنَانِ لَيْسَ الْمُفْرَدُ مُعْتَبَرًا فِي مَفْهُومِهِ الْكَفَالَةُ (قَوْلُهُ مِنْ عَنَّ لِي كَذَا) أَيْ عَرَضَ.

قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ

عَذَارَى دُوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَيَّلٍ

أَيْ اعْتَرَضَ لَنَا سِرْبٌ: أَيْ قَطِيعٌ يُرِيدُ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ كَأَنَّ نِعَاجَهُ عَذَارَى: أَيْ أَبْكَارَ دُوَارٍ، وَهُوَ اسْمُ صَنَمٍ

ص: 176

(وَيَصِحُّ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ). وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، فَإِنَّ الْمَالَ إذَا كَانَ نِصْفَيْنِ وَالرِّبْحَ أَثْلَاثًا فَصَاحِبُ الزِّيَادَةِ يَسْتَحِقُّهَا بِلَا ضَمَانٍ، إذْ الضَّمَانُ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَهُمَا فِي الرِّبْحِ لِلشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ، وَلِهَذَا يَشْتَرِطَانِ الْخَلْطَ، فَصَارَ رِبْحُ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَمَاءِ الْأَعْيَانِ فَيُسْتَحَقُّ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ. وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وسلم «الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ» وَلَمْ يَفْصِلْ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ كَمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ؛ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ وَأَهْدَى وَأَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقْوَى فَلَا يَرْضَى بِالْمُسَاوَاةِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفَاضُلِ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَخْرُجُ الْعَقْدُ بِهِ مِنْ الشَّرِكَةِ وَمِنْ الْمُضَارَبَةِ أَيْضًا إلَى قَرْضٍ بِاشْتِرَاطِهِ لِلْعَامِلِ أَوْ إلَى بِضَاعَةٍ بِاشْتِرَاطِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا الْعَقْدُ يُشْبِهُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْمَلُ

كَانَتْ الْعَرَبُ تَنْصِبُهُ وَتَدُورُ حَوْلَهُ، وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا.

وَقَوْلُهُ فِي مُلَاءٍ تَشْبِيهٌ لِنِعَاجِ الْبَقَرِ فِي اسْتِرْخَاءِ لَحْمِهَا لِسِمَنِهَا بِالْعَذَارَى، وَالْمُلَاءُ الْمُذَيَّلُ: أَيْ الطَّوِيلَاتُ الذَّيْلُ، وَهَذَا الِاشْتِقَاقُ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَلْ عُرُوضُ عَرَضٍ تَعَلَّقَ بِقَدْرٍ مِنْ الِاخْتِلَاطِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَعُمُومُهُ، وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكِسَائِيُّ وَالْأَصْمَعِيُّ، فَإِنَّهُ فِعْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنَانَ التَّصَرُّفِ فِي بَعْضِ مَالِهِ لِرَفِيقِهِ وَبَعْضِهِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَفَاوُتُهُمَا فِي الْمَالِ وَالرِّبْحِ كَمَا يَتَفَاوَتُ الْعِنَانُ فِي كَفِّ الْفَارِسِ طُولًا وَقِصَرًا فِي حَالَتَيْ الْإِرْخَاءِ وَضِدِّهِ، إلَّا أَنَّهُ اشْتِقَاقٌ غَيْرُ صَحِيحٍ إلَّا فِيمَا سُمِعَ وَلَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا فِي: اسْتَحْجَرَ الطِّينُ وَأَمْثَالِهِ

(قَوْلُهُ وَيَصِحُّ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ) وَعَكْسُهُ بِأَنْ يَتَفَاضَلَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَيَتَسَاوَيَانِ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ: لَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ وَيَتَفَاضَلَا إلَخْ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، بَلْ ذَلِكَ فِيمَا إذَا شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ عَمِلَ أَوْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا، أَوْ شَرَطَاهُ عَلَى مَنْ شَرَطَ لَهُ زِيَادَةَ الرِّبْحِ، وَإِنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى أَقَلِّهِمَا رِبْحًا لَا يَجُوزُ.

وَجْهُ قَوْلِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِهِمَا لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ بِلَا ضَمَانٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَصَارَ كَالْوَضِيعَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ اعْتِبَارٌ لِلرِّبْحِ بِالْخُسْرَانِ (وَلَنَا) مَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ مِنْ (قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ») وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ يَنْسُبُهُ إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه (وَلِأَنَّ الرِّبْحَ كَمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ وَأَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقْوَى فَلَا يَرْضَى بِالْمُسَاوَاةِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفَاضُلِ، وَ) رَأَيْنَا (هَذَا الْعَقْدَ) أَيْ شَرِكَةَ الْعِنَانِ (يُشْبِهُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْمَلُ

ص: 177

فِي مَالِ الشَّرِيكِ، وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ اسْمًا وَعَمَلًا فَإِنَّهُمَا يَعْمَلَانِ فَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْمُضَارَبَةِ.

وَقُلْنَا: يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ حَتَّى لَا تَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا.

قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ مَالِهِ دُونَ الْبَعْضِ) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمَالِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ إذْ اللَّفْظُ لَا يَقْتَضِيهِ (وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا وَمِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا دَنَانِيرُ وَمِنْ الْآخَرِ دَرَاهِمُ، وَكَذَا مِنْ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ بِيضٌ وَمِنْ الْآخَرِ سُودٌ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (وَمَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلشَّرِكَةِ طُولِبَ بِثَمَنِهِ دُونَ الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ دُونَ الْكَفَالَةِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْحُقُوقِ.

قَالَ (ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ) مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي حِصَّتِهِ فَإِذَا نَقَدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ فَعَلَيْهِ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي وُجُوبَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ

فِي مَالِ) غَيْرِهِ وَهُوَ (الشَّرِيكُ) وَيَسْتَرْبِحُ بِهِ (وَيُشْبِهُ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ اسْمًا وَعَمَلًا فَإِنَّهُمَا يَعْمَلَانِ فَعَمَلُنَا بِشَبَهِ الْمُضَارَبَةَ) فِي اشْتِرَاطِ الزِّيَادَةِ لِأَحَدِهِمَا، وَهُوَ الَّذِي شَرَطَ عَمَلَهُ مُنْفَرِدًا أَوْ مَعَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ رِبْحًا بِلَا ضَمَانٍ، وَيُشْبِهُ الْمُفَاوَضَةَ حَتَّى أَجَزْنَا شَرْطَ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا، وَكَوْنُ الْمُضَارَبَةِ تَفْسُدُ بِاشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لَا يُبْطِلُ اعْتِبَارَ شَبَهِهَا الْآخَرِ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ أَجَزْنَا الزِّيَادَةَ فِي الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ شُرِطَ كُلُّ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ أَيْضًا إلَى قَرْضٍ إنْ شُرِطَ لِلْعَامِلِ، كَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ مَالَهُ فَاسْتَحَقَّ جَمِيعَ رِبْحِهِ، وَإِلَى بِضَاعَةٍ إنْ شُرِطَ لِرَبِّ الْمَالِ، إلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا فَلَا يُعْتَبَرُ شَبَهُهَا إلَّا أَنْ يَمْنَعَ، وَيُقَالُ بَلْ الرِّبْحُ يُسْتَحَقُّ فِي الشَّرْعِ تَارَةً بِالْعَمَلِ وَتَارَةً بِالْمَالِ، وَالْمَشْرُوطُ لَهُ الزِّيَادَةُ مَشْرُوطٌ عَمَلُهُ، وَإِنْ شَرَطَ عَمَلَ الْآخَرِ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَحَذَقَ وَأَقْوَى إلَخْ

(قَوْلُهُ إذْ اللَّفْظُ) أَيْ لَفْظُ الْعِنَانِ (لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ) وَلَا يُنْبِئُ عَنْهُ لِيُعْتَبَرَ فِي مَفْهُومِهِ فَلِذَا جَازَ أَنْ يَعْقِدَهَا كُلٌّ بِبَعْضِ مَالِهِ، وَيَجُوزُ إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا دَنَانِيرُ وَمِنْ الْآخَرِ دَرَاهِمُ، وَيَجُوزُ بِدَرَاهِمَ سُودٍ مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا وَبِيضٍ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ قِيمَتُهُمَا وَالرِّبْحُ عَلَى

ص: 178

الْآخَرِ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ

قَالَ (وَإِذَا هَلَكَ مَالُ الشَّرِكَةِ أَوْ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ الْمَالُ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَبِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ كَمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الثَّمَنَانِ فِيهِمَا بِالتَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنَانِ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا هَلَكَ الْمَالَانِ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ إلَّا لِيُشْرِكَهُ فِي مَالِهِ، فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِشَرِكَتِهِ فَيَبْطُلُ

مَا شُرِطَ فِيهَا تَسَاوَيَا أَوْ تَفَاوَتَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ دَرَاهِمِهِمَا بِشَرْطِهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا هَلَكَ مَالُ الشَّرِكَةِ كُلُّهُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) وَكَذَا لَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قَبْلَ الْخَلْطِ وَقَبْلَ الشِّرَاءِ يَهْلِكُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ وَحْدِهُ سَوَاءٌ هَلَكَ فِي يَدِ مَالِكِهِ أَوْ يَدِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْخَلْطِ حَيْثُ يَهْلِكُ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ فَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْخَلْطِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الشَّرِكَةِ (فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ هُوَ الْمَالُ) الْمُعَيَّنُ (لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الشَّرِكَةِ) وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ (وَبِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ كَمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَالُ فِيهِمَا بِالتَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنَانِ بِالْقَبْضِ) حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِمُوَكِّلِهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ الشِّرَاءِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، أَمَّا لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَرْضَ بِكَوْنِ الثَّمَنِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ وَالْوَكَالَةُ الْمُفْرَدَةُ بِهَلَاكِ الْمَالِ.

وَاحْتُرِزَ بِالْمُفْرَدَةِ عَنْ الْوَكَالَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الشَّرِكَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا هَلَكَ الْمَالَانِ (وَكَذَا إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ) أَيْ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَهْلِكْ مَالُهُ (لَمْ يَرْضَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ إلَّا لِيُشْرِكَهُ) هُوَ أَيْضًا (فِي مَالِهِ) بِتَقْدِيرِ بَقَائِهِ، (فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ) ظَهَرَ وُقُوعُ مَا (لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا) بِهِ عِنْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ (فَيَبْطُلُ

ص: 179

الْعَقْدُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ، وَأَيُّهُمَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ؛ إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَلَكَ فِي يَدِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْخَلْطِ حَيْثُ يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فَيُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْ الْمَالَيْنِ.

(وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ وَهَلَكَ مَالُ الْآخَرِ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ حِينَ وَقَعَ وَقَعَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِقِيَامِ الشَّرِكَةِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِهَلَاكِ مَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَقْدٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، حَتَّى إنَّ أَيَّهُمَا بَاعَ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تَمَّتْ فِي الْمُشْتَرَى فَلَا يُنْتَقَضُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ تَمَامِهَا. قَالَ (وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةٍ مِنْ ثَمَنِهِ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِوَكَالَتِهِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، هَذَا إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ. أَمَّا إذَا هَلَكَ مَالُ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اشْتَرَى الْآخَرُ بِمَالٍ الْآخَرِ، إنْ صَرَّحَا بِالْوَكَالَةِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ فَالْمُشْتَرَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنْ بَطَلَتْ فَالْوَكَالَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا قَائِمَةٌ فَكَانَ مُشْتَرَكًا بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَيَكُونُ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ

الْعَقْدُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ) وَهِيَ الِاشْتِرَاكُ فِيمَا يَحْصُلُ

(قَوْلُهُ فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ فَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حِينَ وَقَعَ وَقَعَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِقِيَامِ الشَّرِكَةِ وَقْتَ الشِّرَاءِ) لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهُ لِيُبْطِلَ فَيَخْتَصُّ الْمُشْتَرِي بِمَا اشْتَرَاهُ (فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ) أَيْ حُكْمُ (الشَّرِكَةِ بِهَلَاكِ مَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ الشَّرِكَةُ).

الْوَاقِعَةُ فِي هَذَا الْمُشْتَرَى بَعْدَ هَلَاكِ مَالِ الْآخَرِ (شَرِكَةُ عَقْدٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) فَإِنَّهَا شَرِكَةُ مِلْكٍ عِنْدَهُ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي نَصِيبِهِ.

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدُ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ الْمَالِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِمَالِ الْآخَرِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا حُكْمُ ذَلِكَ الشِّرَاءِ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَلْزَمُ انْفِرَادُ الْمِلْكِ بِعَدَمِ مَا يُوجِبُ زِيَادَةً عَلَيْهِ. وَلِمُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَلَاكَ مَالِ أَحَدِهِمَا إذَا وَقَعَ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِمَالِ الْآخَرِ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِهَا فَلَا يَكُونُ الْهَلَاكُ مُبْطِلًا شَرِكَةَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَمَامِهَا كَمَا لَوْ كَانَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ. (وَإِذَا وَقَعَ الْمُشْتَرَى عَلَى الشَّرِكَةِ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ)؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ لَهُ بِوَكَالَتِهِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ) قَرِيبًا (هَذَا إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ، أَمَّا إذَا هَلَكَ مَالُ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اشْتَرَى الْآخَرُ) يَعْنِي الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ (بِالْمَالِ الْآخَرِ إنْ صَرَّحَا بِالْوَكَالَةِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ) بِأَنْ قَالَا عِنْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَالِهِ هَذَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَنَا، كَذَا صَوَّرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ (فَالْمُشْتَرَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنْ بَطَلَتْ فَالْوَكَالَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا قَائِمَةٌ فَتَكُونُ شَرِكَةَ مِلْكٍ) وَبِهَذَا جَمَعَ فِي الْمَبْسُوطِ بَيْنَ التَّنَاقُضِ الْوَاقِعِ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: فَاشْتَرَى بِالْمَالِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ، وَفِي بَعْضِهَا: إنْ اشْتَرَى الْآخَرُ بِمَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلَ مَحْمَلَ الْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرِكَةِ وَكَالَةٌ مُصَرَّحٌ بِهَا، وَمَحْمَلَ

ص: 180

لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ ذَكَرَا مُجَرَّدَ الشَّرِكَةِ وَلَمْ يَنُصَّا عَلَى الْوَكَالَةِ فِيهَا كَانَ الْمُشْتَرَى لِلَّذِي اشْتَرَاهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الشَّرِكَةِ لَهُ حُكْمُ الْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِكَةُ، فَإِذَا بَطَلَتْ يَبْطُلُ مَا فِي ضِمْنِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَرَّحَ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ.

قَالَ (وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ، وَلَا يَقَعُ الْفَرْعُ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَّا بَعْدَ الشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ وَأَنَّهُ بِالْخَلْطِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ هُوَ الْمَالُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ رَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرِكَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ عِمَالَةً عَلَى عَمَلِهِ، أَمَّا هُنَا بِخِلَافِهِ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ لَهُمَا حَتَّى يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ.

الثَّانِي إذَا صَرَّحَا بِهَا عَلَى مَا ذُكِرَ.

وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّاهُ) يُرِيدُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ إلَخْ

(قَوْلُهُ وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ مَالِكًا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ يَدِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ فِي حَانُوتٍ أَوْ فِي يَدِ وَكِيلِهِمَا، (وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ، وَلَا يَكُونُ الْفَرْعُ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَّا وَالْأَصْلُ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَإِنَّهُ) أَيْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَعْنَى الِاشْتِرَاكِ (بِالْخَلْطِ) لِمَا سَلَف مِنْ أَنَّ مَعْنَاهَا الِاخْتِلَاطُ أَوْ الْخَلْطُ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فَلَا تَتَحَقَّقُ شَرِكَةٌ بِلَا خَلْطٍ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كُلِّ عَقْدٍ شَرْعِيٍّ مَا هُوَ مُقْتَضَى اسْمِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الرِّبْحِ فَرْعَ الْمَالِ (أَصْلٌ كَبِيرٌ لَهُمَا) حَتَّى تَفَرَّعَ عَلَيْهِ (اعْتِبَارُ اتِّحَادِ الْجِنْسِ)

ص: 181

وَيُشْتَرَطُ الْخَلْطُ وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ.

وَلَا تَجُوزُ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ وَالْأَعْمَالِ لِانْعِدَامِ الْمَالِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُسَمَّى شَرِكَةً فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ الْخَلْطُ شَرْطًا، وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فَلَا يُسْتَفَادُ الرِّبْحُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ وَكِيلٌ. وَإِذَا تَحَقَّقَتْ الشَّرِكَةُ فِي التَّصَرُّفِ بِدُونِ الْخَلْطِ تَحَقَّقَتْ فِي الْمُسْتَفَادِ بِهِ وَهُوَ الرِّبْحُ بِدُونِهِ، وَصَارَ كَالْمُضَارَبَةِ

فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ وَلِلْآخَرِ دَنَانِيرُ، وَلَا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا بِيضٌ وَلِلْآخَرِ سُودٌ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ مَا لِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، (وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ) لِاخْتِلَافِ الشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَلَا شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ وَالْأَعْمَالِ لِعَدَمِ الْمَالِ

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ) حَاصِلُ تَقْرِيرِ الشَّارِحِينَ أَنَّ الرِّبْحَ يُضَافُ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَهُوَ الْعِلَّةُ، وَإِلَى الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّصَرُّفِ، وَالْحُكْمُ كَمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالذَّاتِ إنَّمَا يُضَافُ إلَى عِلَّتِهِ لِمَا عُرِفَ أَنْ لَا أَثَرَ لِلْعِلَّةِ الْبَعِيدَةِ فِي الْحُكْمِ، وَحَقِيقَةُ الْإِضَافَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ مَجَازِهَا فِي حُكْمٍ يَنْبَنِي عَلَى الْإِضَافَةِ، وَإِنَّمَا وَجْهُ التَّقْرِيرِ الْمُرَادِ أَنَّ الرِّبْحَ الْمُسْتَحَقَّ شَرْعًا لِكُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي مَالِ الْآخَرِ لَيْسَ مُضَافًا إلَّا إلَى الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي بِهِ حَلَّ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ غَيْرِهِ لَا إلَى نَفْسِ الْمَالِ وَلَا التَّصَرُّفِ فِيهِ، لِأَنَّ إضَافَةَ الرِّبْحِ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ مَعْنَاهَا أَنَّهُ اُكْتُسِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُفِيدٍ لَنَا إذْ هُوَ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا حَاجَتُنَا إلَى ثُبُوتِ حِلِّ الرِّبْحِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ حِلَّهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ لَا التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ نَفْسَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا لَا يُوجِبُ حِلَّ الرِّبْحِ لِلْمُتَصَرِّفِ، كَمَا فِي الْمُبْضِعِ وَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَحِلَّ إلَّا بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ مُتَحَقِّقًا فِيهِ مَعْنَى اسْمِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ الشَّرْعِيَّ يُسَمَّى شَرِكَةً، فَتَحَقُّقُ مَعْنَاهُ بِمَا يُفِيدُهُ شَرْعًا وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ وَالتَّصَرُّفِ مَعًا لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ لِيَكُونَ عِلَّةَ الْعِلَّةِ، بَلْ التَّصَرُّفُ عِلَّةٌ فِي وُجُودِ الرِّبْحِ وَالْعَقْدُ عِلَّةُ حِلِّهِ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ إلَّا فِيهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَوَقَّفْ الِاسْمُ عَلَى خَلْطِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلَّ الْعَقْدِ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِهَا خَارِجٌ عَنْهُ.

ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ يَعْنِي عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهِمَا) مَا فِيهِ الرِّبْحُ حَتَّى جَازَ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ الرِّبْحُ مُسْتَفَادًا بِعَيْنِ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَلْزَمَ فِيهِ بِالْخَلْطِ بَلْ بِالتَّصَرُّفِ، وَإِذَا ظَهَرَ تَحَقُّقُ الشَّرِكَةِ بِلَا خَلْطٍ (تَحَقَّقَتْ فِي الْمُسْتَفَادِ بِدُونِهِ) أَيْ بِدُونِ الْخَلْطِ (وَصَارَ كَالْمُضَارَبَةِ)

ص: 182

فَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَالتَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ، وَتَصِحُّ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ.

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُسَمَّاةً مِنْ الرِّبْحِ) لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الشَّرِكَةِ فَعَسَاهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا قَدْرَ الْمُسَمَّى لِأَحَدِهِمَا، وَنَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ.

قَالَ (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يُبْضِعَ الْمَالَ) لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ، وَالتَّحْصِيلُ بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَهُ فَيَمْلِكَهُ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يُودِعَهُ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ وَلَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا. قَالَ (وَيَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً)؛ لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ فَتَتَضَمَّنَهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ

تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ بِلَا خَلْطٍ.

فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْطُلَ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِوُجُودِ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ فِي الْمَحَلِّ. قُلْنَا: إنَّمَا بَطَلَتْ لِمُعَارِضٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ هَلَاكَ الْمَحَلِّ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ مِنْهُ يُبْطِلُهُ كَالْبَيْعِ يَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ الِاسْتِرْبَاحُ وَهُوَ بِالشِّرَاءِ أَوَّلًا، فَإِذَا هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَانَ كَهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْعَقْدُ لَا الْمَالُ (لَمْ يُشْتَرَطْ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَلَا التَّسَاوِي) فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَا (فِي الرِّبْحِ وَتَصِحُّ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ)

قَوْلُهُ (وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدٍ دَرَاهِمُ مُسَمَّاةً مِنْ الرِّبْحِ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا خِلَافَ فِي هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الشَّرِكَةِ فَعَسَاهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا قَدْرَ الْمُسَمَّى فَيَكُونُ اشْتِرَاطُ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَاشْتِرَاطُهُ لِأَحَدِهِمَا يُخْرِجُ الْعَقْدَ عَنْ الشَّرِكَةِ إلَى قَرْضٍ أَوْ بِضَاعَةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

وَقَوْلُهُ (وَنَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ) يَعْنِي إذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مُسَمَّاةً بَطَلَتْ لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ لَا تُخْرِجَ الْأَرْضُ غَيْرَهَا

(قَوْلُهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يُبْضِعَ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ) مِنْ الْمُتَشَارِكَيْنِ (وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى عَمَلِ التِّجَارَةِ، وَالتَّحْصِيلُ) لِلرِّبْحِ (بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَهُ) وَأَنَّهُ أَقَلُّ ضَرَرًا، فَإِذَا مَلَكَ مَا هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مَلَكَ مَا هُوَ أَقَلُّ، وَظَهَرَ أَنَّ لَفْظَ التَّحْصِيلِ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ (قَوْلُهُ وَكَذَا لَهُ أَنْ يُودِعَهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ وَلَا يَجِدُ التَّاجِرُ بُدًّا مِنْهُ) فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْمَضَايِقِ.

وَقَوْلُهُ (وَيَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ)؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ فِي الشَّرِكَةِ تَلْزَمُ الشَّرِيكَ وَلَا تَلْزَمُ الْمُضَارِبَ، فَتَتَضَمَّنُ الشَّرِكَةُ الْمُضَارَبَةَ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ (أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ) فِي الرِّبْحِ (وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ)

ص: 183

كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بِأَجْرٍ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ بِدُونِ ضَمَانٍ فِي ذِمَّتِهِ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ. قَالَ (وَيُوَكِّلُ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ) لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَالشَّرِكَةُ انْعَقَدَتْ لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ طُلِبَ مِنْهُ تَحْصِيلَ الْعَيْنِ فَلَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ

فَصَارَ (كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ بِأُجْرَةٍ) لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْضَ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ (بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ بِدُونِ ضَمَانٍ فِي ذِمَّةِ الشَّرِيكِ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ) فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ (لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ)، وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْمُكَاتِبُ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ وَالْمَأْذُونُ يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ وَالْمُتَنَفِّلِ بِمِثْلِهِمَا، وَالنَّاسِخُ مِثْلُ الْمَنْسُوخِ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ مِلْكَهُمَا ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ بَلْ بِإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا، وَكَذَا الِاقْتِدَاءُ لَيْسَ صَلَاةُ الْإِمَامِ مُسْتَتْبِعَةً لِصَلَاتِهِمَا بَلْ تِلْكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا، وَحَقِيقَةُ النَّاسِخِ مُبَيِّنٌ لَا غَيْرُ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وِزَانَ مَا نَحْنُ فِيهِ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالنَّسِيئَةِ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ فِي يَدِهِ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ لِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ الرَّهْنُ: أَيْ رَهْنُ عَيْنٍ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ مِنْ التِّجَارَةِ عَلَيْهِ وَالِارْتِهَانُ بِدَيْنٍ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُفَاوِضِ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ عَلَى شَرِيكِهِ، فَإِنْ رَهَنَ فِي الْعِنَانِ مَتَاعًا مِنْ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ ضَامِنًا لِلرَّهْنِ، وَلَوْ ارْتَهَنَ بِدَيْنٍ لَهُمَا لَمْ يَجُزْ عَلَى شَرِيكِهِ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ ذَهَبَ بِحِصَّتِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ وَيَرْجِعُ الْمَطْلُوبُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ شَاءَ شَرِيكُ الْمُرْتَهِنِ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ حِصَّتَهُ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ كَالِاسْتِيفَاءِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِلْآخَرِ قَبْضُهُ، وَلِلْمَدِينِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهِ، فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ بَرِئَ مِنْ حِصَّةِ الْقَابِضِ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُخَاصِمَ فِيمَا أَدَانَهُ الْآخَرُ أَوْ بَاعَهُ، وَالْخُصُومَةُ لِلَّذِي بَاعَ وَعَلَيْهِ، وَلَا أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنًا، فَإِنْ أَخَّرَهُ لَمْ يَمْضِ عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَا لَا يَمْضِي إقْرَارُ أَحَدِهِمَا بِدَيْنٍ فِي تِجَارَتِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ أَقَرَّ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَزِمَ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدَّيْنِ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي وَلِيَهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَكِيلًا كَانَ أَوْ مُبَاشِرًا، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا وَلِيَاهُ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَزِمَهُ نِصْفُهُ.

وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَلَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مَالًا مُضَارَبَةً اخْتَصَّ بِرِبْحِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ، بِخِلَافِ الْمُفَاوِضِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَيَمْضِي إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَيُشَارِكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ وَيَمْضِي عَلَى الْآخَرِ، بِخِلَافِ شَرِيكِ الْعِنَانِ. وَيَجُوزُ قَبْضُ كُلٍّ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَا أَدَانَهُ الْآخَرُ أَوْ أَدَانَاهُ، أَوْ وَجَبَ لَهُمَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَصْبٍ أَوْ كَفَالَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَرُدُّ بِعَيْبٍ مَا اشْتَرَاهُ الْآخَرُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَصْمٌ عَنْ الْآخَرِ يُطَالَبُ بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى الْعِلْمِ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا أَوَّلَ الْبَابِ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ (وَ) لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ (يُوَكِّلَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَاتِ، وَالشَّرِكَةُ انْعَقَدَتْ لَهَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ) صَرِيحًا (بِالشِّرَاءِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ طُلِبَ بِهِ) شِرَاءُ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ،

ص: 184

قَالَ (وَيَدُهُ فِي الْمَالِ يَدُ أَمَانَةٍ) لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ.

وَكُلُّ مَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَعْمَلَهُ إذَا نَهَاهُ شَرِيكُهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلُهُ فَإِنْ عَمِلَهُ ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا اُخْرُجْ لِدِمْيَاطَ وَلَا تُجَاوِزْهَا فَجَاوَزَ فَهَلَكَ الْمَالُ ضَمِنَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ حِصَّتَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَذَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ بَيْعِ النَّسِيئَةِ بَعْدَ مَا كَانَ أَذِنَ لَهُ فِيهِ (قَوْلُهُ وَيَدُهُ) أَيْ يَدُ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا (فِي الْمَالِ يَدُ أَمَانَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ) فَيَكُونُ أَمَانَةً، بِخِلَافِ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ إعْطَاءِ الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَقْبُوضٌ لِلتَّوَثُّقِ بِدَيْنِهِ فَيَضْمَنُ بِذَلِكَ الدَّيْنَ، وَإِذَا كَانَ مَقْبُوضًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا صَارَ كَالْوَدِيعَةِ فَكَانَ أَمَانَةً.

وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمَانَاتِ إذَا مَاتَ تَنْقَلِبُ مَضْمُونَةً بِالْمَوْتِ مَعَ التَّجْهِيلِ إلَّا فِي مَسَائِلَ: إحْدَاهَا إذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَالَ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نَصِيبَهُ.

وَالْأُخْرَى فِي السِّيَر إذَا أَوْدَعَ الْإِمَامُ بَعْضَ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْجُنْدِ فَمَاتَ.

وَنَذْكُرُ الثَّالِثَةَ فِي الْوَقْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فُرُوعٌ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ]

قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُقْرِضَ وَلَا يَهَبَ وَلَا يَتَصَدَّقَ وَلَا يُعِيرُ دَابَّةً مِنْ شَرِكَتِهِمَا؛ وَلَوْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَارَكَهُ مُفَاوَضَةً فَأَنْكَرَ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْجَاحِدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَاحِدِ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْعَقْدَ وَاسْتِحْقَاقَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَشَهِدُوا أَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ أَوْ زَادُوا عَلَى هَذَا فَقَالُوا الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، أَوْ قَالُوا هُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ قَضَى لِلْمُدَّعِي بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ، وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ مُقْتَضَاهُ انْقِسَامُ مَا فِي يَدِهِ فَيُقْضَى بِذَلِكَ. فَلَوْ ادَّعَى الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْعَيْنَ لِي مِيرَاثًا مِمَّا فِي يَدِهِ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ تُقْبَلْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، وَبَيِّنَةُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ قِبَلِ الْمَقْضِيِّ لَهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُفَسِّرَةً.

وَلَوْ ادَّعَى ذُو الْيَدِ عَيْنًا فِي يَدِهِ أَنَّهَا لَهُ خَاصَّةً وَهَبَ شَرِيكَهُ مِنْهُ حِصَّتَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ادَّعَى تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْهُ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَقَرَّ وَقَضَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى عَيْنًا مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ مِيرَاثًا أَوْ هِبَةً وَأَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ ذَا الْيَدِ هُنَا مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ مُدَّعٍ لِلْمِيرَاثِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي الْأَوَّلِ ذُو الْيَدِ جَاحِدٌ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَقَدْ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِحُجَّةِ صَاحِبِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي صُورَةِ الْإِنْكَارِ لَمْ يَسْتَحْلِفْ خَصْمَهُ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْحَيِّ فَادَّعَى الْوَرَثَةُ الْمُفَاوَضَةَ وَجَحَدَ الْحَيُّ ذَلِكَ فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ لَمْ يُقْضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ فِيمَا فِي يَدِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِعَقْدٍ عُلِمَ ارْتِفَاعُهُ لِانْتِقَاضِ الْمُفَاوَضَةِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَا حُكْمَ فِيمَا شَهِدَا

ص: 185

قَالَ (وَأَمَّا شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ) وَتُسَمَّى شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ (كَالْخَيَّاطِينَ وَالصَّبَّاغِينَ يَشْتَرِكَانِ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْأَعْمَالَ وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا)(فَيَجُوزُ ذَلِكَ) وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةٌ لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهَا وَهُوَ التَّثْمِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ تُبْتَنَى عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ عَلَى أَصْلِهِمَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّحْصِيلُ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِالتَّوْكِيلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَكِيلًا فِي النِّصْفِ أَصِيلًا فِي النِّصْفِ تَحَقَّقَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ

وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ

بِهِ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ فِيمَا مَضَى لَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا إلَّا أَنْ يُقِيمُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ شَهِدُوا بِالنِّصْفِ لِلْمَيِّتِ وَوَرَثَتُهُ خُلَفَاؤُهُ.

وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ وَجَحَدُوا الشَّرِكَةَ فَأَقَامَ الْحَيُّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ، وَأَقَامُوا أَنَّ أَبَاهُمْ مَاتَ وَتَرَكَ هَذَا مِيرَاثًا مِنْ مُفَاوَضَةٍ بَيْنَهُمَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ، فَإِنَّمَا يُقِيمُونَهَا عَلَى النَّفْيِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي الشَّرِكَةَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ فَيُقْضَى لَهُ بِنِصْفِهِ، وَصَحَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ وَلَوْ قَالُوا: مَاتَ جَدُّنَا وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لِأَبِينَا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا لَا تُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتُقْبَلُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ حَيًّا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْمُفَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ كَانَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّ قَاضِيَ بَلْدَةِ كَذَا قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِ، وَسَمَّوْا الْمَالَ، وَأَنَّهُ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَأَقَامَ الْآخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْقَاضِي بِعَيْنِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَاضٍ وَاحِدٍ، وَعُلِمَ تَارِيخُ الْقَضَاءَيْنِ أُخِذَ بِالْآخِرِ، وَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْأَوَّلِ وَنَقْضٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَوْ كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ قَاضِيَيْنِ لَزِمَ كُلًّا مِنْهُمَا الْقَضَاءُ الَّذِي أَنْفَذَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَحِيحٌ ظَاهِرًا فَيُحَاسِبُ كُلٌّ صَاحِبَهُ بِمَا عَلَيْهِ، وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ

(قَوْلُهُ وَأَمَّا شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ وَتُسَمَّى شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ) وَشَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَشَرِكَةَ الْأَعْمَالِ (فَنَحْوَ الْخَيَّاطِينَ وَالصَّبَّاغِينَ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنْ يَتَقَبَّلَ كُلٌّ الْأَعْمَالَ) أَوْ نَحْوَ الصَّبَّاغِ وَالْخَيَّاطِ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ (وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهَا) أَيْ الْمَقْصُودَ مِنْهَا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: مَقْصُودَهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ الشَّرِيكَيْنِ (وَهُوَ التَّثْمِيرُ) أَيْ الرِّبْحُ (لِأَنَّهُ لَا بُدَّ) فِي الرِّبْحِ (مِنْ رَأْسِ الْمَالِ)؛ لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَيْهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْخِلَافِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ، (وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ) عَلَى الِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَالِ بَلْ جَازَ بِالْعَمَلِ أَيْضًا كَمَا مَرَّ، فَجَازَ بِالتَّوْكِيلِ بِأَنْ وَكَّلَ الْآخَرَ بِقَبُولِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ كَمَا يَقْبَلُهُ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ كُلٌّ أَصِيلًا فِي نِصْفِ الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ وَوَكِيلًا فِي نِصْفِهِ الْآخَرِ، فَتَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِنْ عَمِلَا اسْتَحَقَّ كُلٌّ فَائِدَةَ عَمَلِهِ وَهُوَ الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ وَهُوَ كَسْبُهُ، وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْعَامِلُ مُعِينًا لِشَرِيكِهِ فِيمَا لَزِمَهُ بِتَقَبُّلِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ مُطْلَقُ الْعَمَلِ لَا عَمَلُ الْمُتَقَبَّلِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ بِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَحْوَ الْخَيَّاطِ يَتَقَبَّلُ ثُمَّ يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَعْمَلُهُ وَيَدْفَعُهُ إلَى مَالِكِهِ فَتَطِيبُ لَهُ الْأُجْرَةُ.

وَمِنْ صُوَرِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَجْلِسَ آخَرُ عَلَى دُكَّانِهِ فَيَطْرَحَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَحَدِهِمَا الْعَمَلَ وَمِنْ الْآخَرِ الْحَانُوتَ، وَاسْتُحْسِنَ جَوَازُهَا؛ لِأَنَّ التَّقَبُّلَ مِنْ صَاحِبِ الْحَانُوتِ عَمَلٌ

(قَوْلُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ)

ص: 186

اتِّحَادُ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَزُفَرَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَفَاوَتُ

(وَلَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ وَالْمَالَ أَثْلَاثًا جَازَ) وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ الْعَمَلِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ لِتَأْدِيَتِهِ إلَيْهِ، وَصَارَ كَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَا يَأْخُذُهُ لَا يَأْخُذُهُ رِبْحًا لِأَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَمَلٌ وَالرِّبْحَ مَالٌ فَكَانَ بَدَلَ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يُتَقَوَّمُ بِالتَّقْوِيمِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا قُوِّمَ بِهِ فَلَا يَحْرُمُ،

أَيْ فِي جَوَازِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ (اتِّحَادُ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَمَالِكٍ). وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدَّمَ فِي اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ لِزُفَرَ أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِهِ عَدَمَ جَوَازِ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ، وَهُوَ يُنَافِي اشْتِرَاطَهُ لِصِحَّتِهَا اتِّحَادَ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ.

أُجِيبُ بِأَنَّ عَنْ زُفَرَ فِي جَوَازِ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ رِوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي الْمَبْسُوطِ، فَفَرَّعَ رِوَايَةَ الْمَنْعِ عَلَى شَرْطِ خَلْطِ الْمَالِ، وَذَكَرَ هُنَا شَرْطَهُ فِي تَجْوِيزِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَجْهَ الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِشَرِكَةِ التَّقَبُّلِ) مِنْ كَوْنِ الْمَقْصُودِ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ (لَا يَتَفَاوَتُ) بَيْنَ كَوْنِ الْعَمَلِ فِي دُكَّانَيْنِ أَوْ دُكَّانٍ وَكَوْنِ الْأَعْمَالِ مِنْ أَجْنَاسٍ أَوْ جِنْسٍ فَلَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِ شَرْطٍ بِلَا دَلِيلٍ يُوجِبُهُ

(قَوْلُهُ وَلَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ) يَعْنِي التَّسَاوِيَ فِي الْعَمَلِ وَالرِّبْحَ أَثْلَاثًا (جَازَ) بِشَرْطِ كَوْنِ الْمَشْرُوطِ لَهُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِ الْعَمَلُ (وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ (لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَا إنَّمَا هُوَ بِقَبُولِ الْعَمَلِ) أَيْ لِأَنَّهُ لَا مَالَ عُقِدَتْ الشَّرِكَةُ عَلَيْهِ فَزِيَادَةُ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا (رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَمْ تَجُزْ) كَمَا لَمْ تَجُزْ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ مَعَ شَرْطِ

ص: 187

بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ وَالرِّبْحُ يَتَحَقَّقُ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّفِقِ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ.

قَالَ (وَمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ) حَتَّى إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُطَالَبُ بِالْعَمَلِ وَيُطَالِبُ بِالْأَجْرِ (وَيَبْرَأُ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَفِي غَيْرِهَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ خِلَافُ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً

التَّفَاضُلِ فِي رِبْحِ مَا يُبَاعُ مِمَّا اشْتَرَى بِالْوُجُوهِ، وَأَمَّا كَوْنُ التَّفَاضُلِ يَجْرِي فِيهَا إذَا شَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ لِلْآخَرِ رُبْعُهُ فَقَطْ، فَيَنْقَسِمُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ عَدَمُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ.

قُلْنَا: الْمَأْخُوذُ مِنْ هَذِهِ الشَّرِكَةِ لَيْسَ رِبْحًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الرِّبْحِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ جِنْسِ الرِّبْحِ وَمَا بِهِ الِاسْتِرْبَاحُ، وَهُوَ هُنَا مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَمَلٌ وَالرِّبْحَ مَالٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ رِبْحٌ مَجَازًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلُ عَمَلِهِ وَالْعَمَلُ يَتَقَدَّرُ بِالتَّقْدِيرِ: أَيْ بِحَسَبِ التَّرَاضِي، فَمَا قُدِّرَ لِكُلٍّ هُوَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّرَاضِي أَنْ يُجْعَلَ بَدَلَ عَمَلِهِ فَلَا يَحْرُمُ خُصُوصًا إذَا كَانَ أَحْذَقَ فِي الْعَمَلِ وَأَهْدَى، وَعَلَى هَذَا اتَّجَهَ خِلَافُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِيمَا لَوْ شُرِطَتْ الزِّيَادَةُ لِأَكْثَرِهِمَا عَمَلًا.

وَصَحَّحُوا الْجَوَازَ لِأَنَّ الرِّبْحَ لِضَمَانِ الْعَمَلِ لَا بِحَقِيقَةِ الْعَمَلِ، وَلِذَا لَوْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا أَوْ غَابَ فَلَمْ يَعْمَلْ وَعَمِلَ الْآخَرُ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِلَا خِلَافٍ يُعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ) فَإِنَّ الرِّبْحَ بَدَلُ مَا هُوَ مَالٌ فَيَتَحَقَّقُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. هَذَا وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ وَصَارَ كَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ يُعْطِي ظَاهِرُهُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ بِشَرْطِ الزِّيَادَةِ.

وَالْوَجْهُ أَنْ تَبْطُلَ الزِّيَادَةُ فَقَطْ وَيَسْتَحِقَّ مِثْلَ الْأَجْرِ، فَإِنَّهُ نَصَّ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ الَّتِي شَبَّهَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الضَّمَانِ وَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ بِخِلَافِ الضَّمَانِ بَيْنَهُمَا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ ضَمَانِهِمَا

(قَوْلُهُ وَمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ) حَتَّى أَنَّ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ الشَّرِيكَ بِعَمَلِهِ، وَلِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَتَقَبَّلْ الْعَمَلَ أَنْ يُطَالِبَ رَبَّ الثَّوْبِ مَثَلًا بِالْأُجْرَةِ، وَيَبْرَأَ الدَّافِعُ بِدَفْعِ الْأُجْرَةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا عَمَلُهُ الَّذِي تَقَبَّلَهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (هَذَا) وَهُوَ ضَمَانُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَمَلَ مَا تَقَبَّلَهُ الْآخَرُ، وَمُطَالَبَةُ كُلٍّ بِأُجْرَةِ الْآخَرِ وَبَرَاءَةُ الدَّافِعِ إلَيْهِ الْأُجْرَةَ (ظَاهِرٌ) فِيمَا إذَا عَقَدَا شَرِكَةَ الصَّنَائِعِ مُفَاوَضَةً (وَفِي غَيْرِهَا) وَهُوَ فِيمَا إذَا أَطْلَقَا الشَّرِكَةَ أَوْ قَيَّدَاهَا بِالْعِنَانِ (اسْتِحْسَانٌ) فَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَيْنَ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعِنَانِ فِيهَا (وَالْقِيَاسُ خِلَافُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً) وَإِذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً انْصَرَفَتْ إلَى الْعِنَانِ فَلَمْ تَثْبُتْ الْمُفَاوَضَةُ إلَّا بِالنَّصِّ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى مَعْنَاهُ، وَبِهَذَا عَلِمْت أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إطْلَاقِ الشَّرِكَةِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى جَعْلِهَا عِنَانًا فِي أَنَّ الْمُنْعَقِدَ عِنَانٌ

ص: 188

وَالْكَفَالَةُ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ (مُقْتَضِيَةٌ لِلضَّمَانِ)؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِسَبَبِ نَفَاذِ تَقَبُّلِهِ عَلَيْهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ وَاقْتِضَاءِ الْبَدَلِ.

قَالَ (وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَالرَّجُلَانِ يَشْتَرِكَانِ وَلَا مَالَ لَهُمَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا وَيَبِيعَا فَتَصِحَّ الشَّرِكَةُ عَلَى هَذَا) سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي بِالنَّسِيئَةِ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ مُفَاوَضَةً لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْكَفَالَةِ وَالْوَكَالَةِ فِي الْأَبْدَالِ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ تَكُونُ عِنَانًا لِأَنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ.

قَالَ (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ الْآخَرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ) لِأَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَكَالَةٍ أَوْ بِوِلَايَةٍ وَلَا وِلَايَةَ فَتَتَعَيَّنُ الْوَكَالَةُ (فَإِنْ شَرَطَا أَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ

وَالْكَفَالَةُ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ)

أَعْنِي شَرِكَةَ الصَّنَائِعِ (مُقْتَضِيَةٌ لِلضَّمَانِ) فِي الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، لَا أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ تَوْكِيلَ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالضَّرُورَةِ مَضْمُونًا عَلَى الْآخَرِ وَلِذَا اسْتَحَقَّ مِنْ الْأُجْرَةِ بَعْضَ مَا سُمِّيَ لِلْآخَرِ (بِسَبَبِ نَفَاذِ تَقَبُّلِهِ عَلَيْهِ فَجَرَى) هَذَا الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ عِنَانًا (مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ) عَنْ الْآخَرِ (وَاقْتِضَاءِ الْبَدَلِ) وَإِنْ لَمْ يَتَقَبَّلْ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ مَا سِوَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ هُوَ فِيهَا عَلَى مُقْتَضَى الْعِنَانِ، وَلِذَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ كَثَمَنِ صَابُونٍ أَوْ صَبْغٍ أَوْ بِدَيْنٍ لِلْعُمْلَةِ عَنْ عَمَلِهِمْ أَوْ أُجْرَةِ بَيْتٍ أَوْ دُكَّانٍ لِمُدَّةٍ مَضَتْ لَا يُصَدَّقُ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْآخَرِ مُوجَبٌ الْمُفَاوَضَةَ وَلَمْ يَنُصَّا عَلَيْهَا. ثَلَاثَةٌ لَمْ يَعْقِدُوا بَيْنَهُمْ شَرِكَةُ تَقَبُّلٍ تَقَبَّلُوا عَمَلًا ثُمَّ جَاءَ أَحَدُهُمْ فَعَمِلَهُ كُلَّهُ فَلَهُ ثُلُثُ الْأَجْرِ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ كَانَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ بِثُلُثِ الْأَجْرِ، فَإِذَا عَمِلَ الْكُلَّ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي الثُّلُثَيْنِ فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا ثُلُثَ الْأَجْرِ

(قَوْلُهُ وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَالرَّجُلَانِ يَشْتَرِكَانِ وَلَا مَالَ لَهُمَا لِيَشْتَرِيَا بِوَجْهِهِمَا) أَيْ بِوَجَاهَتِهِمَا وَجَاهِهِمَا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْجَاهَ مَقْلُوبُ الْوَجْهِ لِمَا عُرِفَ غَيْرَ أَنَّ الْوَاوَ انْقَلَبَتْ حِينَ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْعَيْنِ لِلْمُوجِبِ لِذَلِكَ، وَلِذَا كَانَ وَزْنُهُ عَفَلَ (وَأَنَّهَا تَكُونُ مُفَاوَضَةً) بِأَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ ثَمَنِهِ وَيَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحِ وَيَتَلَفَّظَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، أَوْ يَذْكُرَا مُقْتَضَيَاتِهَا كَمَا سَلَفَ (فَتَتَحَقَّقُ الْوَكَالَةُ وَالْكَفَالَةُ فِي الْأَبْدَالِ) أَيْ الْأَثْمَانِ وَالْمَبِيعَاتِ، وَإِنْ فَاتَ

ص: 189

وَالرِّبْحَ كَذَلِكَ يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ، وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَالرِّبْحُ كَذَلِكَ)، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْمَالِ أَوْ الْعَمَلِ أَوْ بِالضَّمَانِ فَرَبُّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّهُ بِالْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَمَلِ، وَالْأُسْتَاذُ الَّذِي يُلْقِي الْعَمَلَ عَلَى التِّلْمِيذِ بِالنِّصْفِ بِالضَّمَانِ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِمَا سِوَاهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ تَصَرَّفْ فِي مَالِكِ عَلَى أَنَّ لِي رِبْحَهُ لَمْ يَحُزْ لِعَدَمِ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالضَّمَانُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى وَكَانَ الرِّبْحُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْوُجُوهُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا، بِخِلَافِ الْعِنَانِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْمَلُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ فَيُلْحَقُ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا كَانَتْ عِنَانًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِتَبَادُرِهِ وَزِيَادَةِ تَعَارُفِهِ عَمَلًا.

وَمَنَعَهَا الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ تَقَدَّمَ فِي شَرِكَةِ الْأَعْمَالِ.

وَنَقُولُ: صِحَّةُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَتَوَصُّلُ كُلٍّ مِنْ الْآخَرِ بِالشَّرِكَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا صَحِيحٌ، فَكَذَا الشَّرِكَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْوَكَالَةَ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْبَاقِي غَيْرِ الْفَرْقِ بَيْنِ الْوُجُوهِ وَالْعِنَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لَا يَصِحُّ التَّفَاوُتُ فِي الرِّبْحِ وَيَصِحُّ فِي الْعِنَانِ مَعَ أَنَّ الرِّبْحَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ، فَفَرَّقَ بِأَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ فِي مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا عَامِلٌ فِي مَالِ صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ فَصَحَّ إعْمَالُ شَبَهِ الْمُضَارَبَةِ فِي الْعِنَانِ فِي إجَازَةِ تَفَاوُتِ الرِّبْحِ، بِخِلَافِ الْوُجُوهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَبَهَ الْمُضَارَبَةِ إنَّمَا جَوَّزَ زِيَادَةَ رِبْحِ أَحَدِهِمَا فِي الْعِنَانِ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ فِي مَالِ الْآخَرِ وَلَيْسَ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ أَحَدُهُمَا عَامِلٌ فِي مَالِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُجْعَلُ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ إلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ لِشَبَهِهِ بِهِ، بَلْ نَقُولُ الرِّبْحُ يُسْتَحَقُّ شَرْعًا بِأَحَدِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، مِنْهَا الْعَمَلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لِلِاسْتِحْقَاقِ شَرْعًا بِالْعَمَلِ فِي الْإِجَارَةِ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ اعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فِي الْعِنَانِ لِشَبَهِهِ بِالْمُضَارَبَةِ يَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ فِي الْعِنَانِ، وَنَحْنُ إنَّمَا لَمْ نُجَوِّزْهَا لِأَدَائِهَا إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ فِي جَعْلِ رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ عُرُوضًا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ لِلْمُسْتَحِقِّ فِي مَالِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عِنْدَ بَيْعِ الْعُرُوضِ مُتَفَاوِتَةَ الثَّمَنِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ فَضْلِ الْعَمَلِ كَمَا فِي الصَّنَائِعِ؟ أُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَكُونُ الْعَمَلُ فِي مَالٍ مَعْلُومٍ كَمَا فِي الْعِنَانِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا.

ص: 190

(فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ)

(وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، وَمَا اصْطَادَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ احْتَطَبَهُ فَهُوَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ)، وَعَلَى هَذَا الِاشْتِرَاكُ فِي أَخْذِ كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الْوَكَالَةِ، وَالتَّوْكِيلُ فِي أَخْذِ الْمَالِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ

فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ)

وَجْهُ تَقْدِيمِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الْفَاسِدَةِ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ) وَكَذَا الِاحْتِشَاشُ وَالتَّكَدِّي وَسُؤَالُ النَّاسِ (وَمَا اصْطَادَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ احْتَطَبَهُ) أَوْ أَصَابَهُ مِنْ التَّكَدِّي (فَهُوَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ، وَعَلَى هَذَا الِاشْتِرَاكُ فِي كُلِّ مُبَاحٍ) كَأَخْذِ الْحَطَبِ وَالثِّمَارِ مِنْ الْجِبَالِ كَالْجَوْزِ وَالتِّينِ وَالْفُسْتُقِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا فِي نَقْلِ الطِّينِ وَبَيْعِهِ مِنْ أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ الْحَصَى أَوْ الْمِلْحِ أَوْ الثَّلْجِ أَوْ الْكُحْلِ أَوْ الْمَعْدَنِ أَوْ الْكُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يُلَبِّنَا مِنْ طِينٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ وَيَطْبُخَا آجُرًّا، وَلَوْ كَانَ الطِّينُ مَمْلُوكًا أَوْ سَهْلَةَ الزُّجَاجِ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا وَيَطْبُخَا وَيَبِيعَا جَازَ وَهُوَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ كَالصَّبَّاغِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:«اشْتَرَكْنَا أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ، وَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ فَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» .

أُجِيبُ بِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مَقْسُومَةٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَشْتَرِكَ هَؤُلَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِخُصُوصِهِمْ، وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ تَنْفِيلٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدَّرَ مَا يَخُصُّهُمْ، وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 191

لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمَا بِالْأَخْذِ وَإِحْرَازِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ أَخَذَاهُ مَعًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا فَهُوَ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ فِي عَمَلِهِ بِأَنْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَهُ الْآخَرُ، أَوْ قَلَعَهُ وَجَمَعَهُ وَحَمَلَهُ الْآخَرُ فَلِلْمُعِينِ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ ثَمَنِ ذَلِكَ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ بِهِ) أَيْ بِأَخْذِ الْمُبَاحِ (غَيْرُ صَحِيحٍ) لِعَدَمِ مِلْكِهِ وَوِلَايَتِهِ (وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ) أَيْ يَمْلِكُ الْمُبَاحَ (بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَصْلُحُ الْوَكِيلُ نَائِبًا) عَنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ وِلَايَةٍ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لِلْوَكِيلِ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْوَكَالَةُ لَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ.

وَاسْتَشْكَلَ بِالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَبَعْدَهُ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ قَادِرًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ وَهُوَ شَغْلُ ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ لَوْلَا الْوَكَالَةُ فِيهَا تَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ أَنْ يَشْغَلَ ذِمَّتَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.

وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِمَا يُوجِبُ حَقًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إثْبَاتِهِ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي التَّوْكِيلِ بِخِلَافِهِ، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ سَبَبَ مِلْكِ الْمُبَاحِ سَبْقَ الْيَدِ إلَيْهِ، فَإِذَا وَكَّلَهُ بِهِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ سَبَقَ مِلْكُهُ لَهُ مِلْكَ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ قِيلَ عَلَيْهِ هَذَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَصْدِهِ لِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا قَصَدَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَلِمَ لَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ؟ يُجَابُ بِأَنَّ إطْلَاقَ نَحْوِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ قَصْدٍ وَقَصْدٍ (قَوْلُهُ فَإِنْ أَخَذَاهُ جَمِيعًا) يَعْنِي ثُمَّ خَلَطَاهُ وَبَاعَاهُ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى كَيْلِ أَوْ وَزْنِ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَزْنِيًّا وَلَا كَيْلِيًّا قُسِّمَ عَلَى قِيمَةِ مَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ مَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا صُدِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الِاكْتِسَابِ، وَكَانَ الْمُكْتَسَبُ فِي أَيْدِيهِمَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ (وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا فَهُوَ لِلْعَامِلِ) لِوُجُودِ السَّبَبِ مِنْهُ (وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ بِأَنْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا، وَجَمَعَهُ الْآخَرُ أَوْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَهُ وَالْآخَرُ حَمَلَهُ فَلِلْمُعِينِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ) وَقَوْلُهُ (وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) يَعْنِي كِتَابَ الشَّرِكَةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُسَمَّى

ص: 192

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ فَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلَّذِي اسْتَقَى، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الرَّاوِيَةِ إنْ كَانَ الْعَامِلُ صَاحِبَ الْبَغْلِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الرَّاوِيَةِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْبَغْلِ)

مَجْهُولٌ إذْ لَمْ يَدْرِ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ يُصِيبَانِ، وَهَلْ يُصِيبَانِ شَيْئًا أَوْ لَا، وَالرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَغْوٌ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ رِضَاهُ بِالنِّصْفِ لِلْجَهَالَةِ، وَصَارَ مُسْتَوْفِيًا مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.

وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا لَمْ يُصِيبَا شَيْئًا، وَفِيمَا إذَا أَصَابَا أَنَّهُ إنْ كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ فَهُوَ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَهُ مِنْ النِّصْفِ، وَكَوْنُهُ مَجْهُولًا فِي الْحَالِ فَهِيَ حَالَةٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ عَلَى عَرَضِ أَنْ يَصِيرَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمْعِ وَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصِيبَا شَيْئًا فَإِنَّ الْمُسَمَّى لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِجَهَالَتِهِ بِالتَّفَاحُشِ حَالًا وَمَآلًا فَحِينَئِذٍ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.

وَقَوْلُهُ (لَا يُجَاوَزُ بِهِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَوْلُهُ (نِصْفُ ثَمَنِ ذَلِكَ) بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ النَّائِبُ عَنْ الْفَاعِلِ. [فَرْعٌ]

لَهُمَا كَلْبٌ فَأَرْسَلَاهُ فَمَا أَصَابَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا وَأَرْسَلَاهُ جَمِيعًا كَانَ مَا أَصَابَهُ لِمَالِكِهِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ وَمَا تَحَصَّلَ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ) اعْلَمْ أَنَّ الرَّاوِيَةَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْجَمَلُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَاءُ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرْوِيهِ، وَيُقَالُ رَوَيْت لِلْقَوْمِ: إذَا سَقَيْت لَهُمْ، وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لِلْمَزَادَةِ وَهِيَ الْجُلُودُ الثَّلَاثَةُ الْمَصْنُوعَةُ لِنَقْلِ الْمَاءِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا جَمَلٌ وَلِلْآخَرِ بَغْلٌ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ كُلًّا يُؤَجِّرُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ فَمَا رُزِقَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلًّا قَالَ لِصَاحِبِهِ بِعْ مَنَافِعَ دَابَّتِك لِيَكُونَ ثَمَنُهُ بَيْنَنَا وَمَنَافِعَ دَابَّتِي عَلَى أَنَّ ثَمَنَهُ بَيْنَنَا، وَلَوْ صَرَّحَا بِهَذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً ثُمَّ إنْ أَجَرَاهُمَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ قُسِّمَ الْأَجْرُ عَلَى مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ وَمِثْلِ أَجْرِ الْجَمَلِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا فَسَدَتْ وَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لِانْعِقَادِهَا عَلَى مَنَافِعَ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ كَانَ الْأَجْرُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا، كَذَلِكَ كَمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْحُمُولَاتِ الْمَعْلُومَةَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَمْ يُؤَاجِرْ الْبَغْلَ وَالْجَمَلَ كَانَتْ صَحِيحَةً لِأَنَّهَا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَا يُعْتَبَرُ زِيَادَةُ حَمْلِ الْجَمَلِ عَلَى حَمْلِ الْبَغْلِ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ زِيَادَةُ عَمَلِ أَحَدِهِمَا كَصَبَّاغَيْنِ لِأَحَدِهِمَا آلَةُ الصَّبْغِ وَلِلْآخَرِ بَيْتٌ يَعْمَلُ فِيهِ اشْتَرَكَا عَلَى تَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ لِيَعْمَلَا بِتِلْكَ الْآلَةِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ.

وَإِنْ أَجَّرَ الْبَعِيرَ أَوْ الْبَغْلَ بِعَيْنِهِ كَانَ كُلُّ الْأَجْرِ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ، فَلَوْ أَعَانَهُ الْآخَرُ عَلَى التَّحْمِيلِ وَالنَّقْلِ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ نِصْفُ الْأَجْرِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ،

ص: 193

أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِانْعِقَادِهَا عَلَى إحْرَازِ الْمُبَاحِ وَهُوَ الْمَاءُ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْمُبَاحَ إذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُحْرِزِ وَهُوَ الْمُسْتَقِي، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْبَغْلُ أَوْ الرَّاوِيَةُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُهُ

(وَكُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ فَالرِّبْحُ فِيهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالِ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ) لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ تَابِعٌ لِلْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، كَمَا أَنَّ الرِّيعَ تَابِعٌ لِلْبَذْرِ فِي الزِّرَاعَةِ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ، وَقَدْ فَسَدَتْ فَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ

(وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِكَةُ عَلَى

وَبَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَكَذَا لَوْ دَفَعَ دَابَّتَهُ إلَى رَجُلٍ لِيُؤَاجِرَهَا وَمَا أَطْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِمَالِكِ الدَّابَّةِ، وَكَذَا فِي السَّفِينَةِ وَالْبَيْتِ لِمَا بَيَّنَّا، إذْ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ قَالَ بِعْ مَنَافِعَ دَابَّتِي لِيَكُونَ الْأَجْرُ بَيْنَنَا، ثُمَّ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ بِأَمْرِهِ، وَلِلْعَاقِدِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَعْمَلَ مَجَّانًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَابَّةً لِيَبِيعَ عَلَيْهَا طَعَامًا لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ وَالرِّبْحَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ وَلِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الدَّابَّةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا، وَالرِّبْحُ لِلْعَامِلِ وَهُوَ صَاحِبُ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ مَالِهِ.

وَعَلَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِهَذَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ مَزَادَةٌ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَسْتَقِيَا الْمَاءَ فِيهَا عَلَى الْبَغْلِ فَالشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِلَّذِي اسْتَقَى، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْمَزَادَةِ إنْ كَانَ صَاحِبَ الْبَغْلِ، وَأَجْرُ مِثْلِ الْبَغْلِ إنْ كَانَ صَاحِبَ الْمَزَادَةِ. وَجَمْعُ الْمَزَادَةِ مَزَادٌ وَمَزَايِدٌ.

(أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِانْعِقَادِهَا عَلَى إحْرَازِ الْمُبَاحِ وَهُوَ) نَقْلُ (الْمَاءِ)، وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِلْمُحْرِزِ، وَهُوَ الْمُسْتَقِي وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ

(قَوْلُهُ وَكُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ فَالرِّبْحُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ إلَخْ) كَأَلْفٍ لِأَحَدِهِمَا مَعَ أَلْفَيْنِ لِلْآخَرِ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَا شَرَطَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بَطَلَ ذَلِكَ الشَّرْطُ، وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ وَشَرَطَا الرِّبْحَ أَثْلَاثًا بَطَلَ شَرْطُ التَّفَاضُلِ وَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا (لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي) وُجُودِهِ (تَابِعٌ لِلْمَالِ)، وَإِنَّمَا طَابَ عَلَى التَّفَاضُلِ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ بَطَلَتْ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ فَيَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ الْمُوَلَّدِ لَهُ، وَنَظِيرُهُ الْبِزْرُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالرِّيعُ الزِّيَادَةُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) مُفَاوَضَةً كَانَتْ أَوْ عِنَانًا إذَا قَضَى بِلَحَاقِهِ عَلَى الْبَتَاتِ حَتَّى لَوْ عَادَ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ انْقَطَعَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِلَحَاقِهِ فَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَطَعَتْ، وَلَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ انْقَطَعَتْ الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْبُطْلَانِ حَتَّى أَسْلَمَ عَادَتْ الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ مَاتَ بَطَلَتْ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ، وَإِذَا انْقَطَعَتْ الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ هَلْ تَصِيرُ عِنَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؟ لَا. وَعِنْدَهُمَا تَبْقَى عِنَانًا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ.

وَإِنَّمَا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ: أَيْ مَشْرُوطٌ ابْتِدَاؤُهَا وَبَقَاؤُهَا بِهَا ضَرُورَةً فَإِنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ ابْتِدَاؤُهَا إلَّا بِوِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ، وَلَا تَبْقَى الْوِلَايَةُ إلَّا بِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ السُّؤَالُ الْقَائِلُ الْوَكَالَةُ تَثْبُتُ تَبَعًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ التَّبَعِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ وَبُطْلَانُهَا بِالِالْتِحَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْبُطْلَانِ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ الشَّرِيكُ

ص: 194

مَا مَرَّ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَكَذَا بِالِالْتِحَاقِ مُرْتَدًّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَمَا إذَا عَلِمَ الشَّرِيكُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ وَمَالُ الشَّرِكَةِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بِمَوْتِ شَرِيكِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ حَتَّى لَا تَنْفُذَ تَصَرُّفَاتُ الْآخَرِ عَلَى الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَإِنَّ مِلْكَهُ يَتَحَوَّلُ شَرْعًا إلَى وَارِثِهِ عَلِمَ مَوْتَهُ أَوْ لَا فَلَا يُمْكِنُ تَوَقُّفُهُ، وَقَدْ نَفَّذَهُ الشَّرْعُ حَيْثُ نَقَلَ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ وَمَالُهَا دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ فَيُشْتَرَطُ عِلْمُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَتَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عُرُوضًا فَلَا رِوَايَةَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا نَهَى الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ صَحَّ نَهْيُهُ غَيْرَ أَنَّهُ يَصْرِفُ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ إنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ دَنَانِيرَ وَعَكْسُهُ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ عُرُوضًا لَمْ يَصِحَّ فَجَعَلَ الطَّحَاوِيُّ الشَّرِكَةَ كَالْمُضَارَبَةِ فَقَالَ لَا تَنْفَسِخُ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالُوا: تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عُرُوضًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ بِأَنَّ مَالَ الشَّرِكَةِ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا وَوِلَايَةُ التَّصَرُّفِ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيَمْلِكُ كُلٌّ نَهْيَ صَاحِبِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ نَقْدًا كَانَ أَوْ عَرَضًا، بِخِلَافِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَمَا صَارَ عَرَضًا ثَبَتَ حَقُّ الْمُضَارِبِ فِيهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ رِبْحَهُ وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فَلَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ.

[فُرُوعٌ]

إنْكَارُ الشَّرِكَةِ فَسْخٌ. وَقَوْلُهُ لَا أَعْمَلُ فَسْخٌ، حَتَّى لَوْ عَمِلَ الْآخَرُ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: قَالَ: أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ لِنَفْسِي فَسَكَتَ فَاشْتَرَاهَا لَا تَكُونُ لَهُ. وَلَوْ قَالَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ فَسَكَتَ الْمُوَكِّلُ فَاشْتَرَاهَا تَكُونُ لَهُ. ثُمَّ فَرَّقَ فَقَالَ إنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ إذَا عَلِمَ الْمُوَكِّلُ رَضِيَ أَمْ سَخِطَ، بِخِلَافِ الشَّرِيكِ فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الشَّرِكَةِ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ اهـ. وَهَذَا غَلَطٌ، وَقَدْ صَحَّحَ هُوَ انْفِرَادَ الشَّرِيكِ بِالْفَسْخِ وَالْمَالُ عُرُوضٌ وَالتَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي التَّجْنِيسِ، فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ مُوجَبِهَا إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ، وَفِي الرِّضَا احْتِمَالٌ: يَعْنِي إذَا كَانَ سَاكِتًا، وَالْمُرَادُ بِمُوجَبِهَا وُقُوعُ الْمُشْتَرَى عَلَى الِاخْتِصَاصِ.

وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا ذُكِرَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي ثَلَاثَةٍ اشْتَرَكُوا شَرِكَةً صَحِيحَةً عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فَخَرَجَ وَاحِدٌ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ النَّوَاحِي لِشَرِكَتِهِمْ فَشَارَكَ الْحَاضِرَانِ آخَرَ عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لَهُ وَالثُّلُثَيْنِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْحَاضِرَيْنِ وَثُلُثُهُ لِلْغَائِبِ فَعَمِلَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْمَالِ

ص: 195

(فَصْلٌ)

وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ، فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ. فَإِنْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالثَّانِي ضَامِنٌ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ. وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَهَذَا إذَا أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ، أَمَّا إذَا أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَمَا أَدَّى الْآمِرُ بِنَفْسِهِ. لَهُمَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ التَّمْلِيكَ لَا وُقُوعَهُ زَكَاةً لِتَعَلُّقِهِ بِنِيَّةِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَا فِي وُسْعِهِ وَصَارَ كَالْمَأْمُورِ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ إذَا ذَبَحَ بَعْدَمَا زَالَ الْإِحْصَارُ وَحَجَّ الْآمِرُ لَمْ يَضْمَنْ

سِنِينَ مَعَ الْحَاضِرَيْنِ ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ فَاقْتَسَمُوا وَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ مَعَهُمْ هَذَا الرَّابِعُ حَتَّى خَسِرَ الْمَالَ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ، فَأَرَادَ الْغَائِبُ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَيْهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَعَمَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رِضًا بِالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنْ السُّكُوتِ الثَّابِتِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ.

(فَصْلٌ)

لَمَّا كَانَتْ أَحْكَامُ هَذَا الْفَصْلِ بَعِيدَةً عَنْ الشَّرِكَةِ إذْ لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ وَالِاسْتِرْبَاحِ أَفْرَدَهَا بِفَصْلٍ وَأَخَّرَهُ (قَوْلُهُ وَإِذَا أَذِنَ كُلٌّ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ فَحَالَ فَأَدَّى) وَقَدْ أَدَّى الْآذِنُ الْمَالِكَ ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ مَا أَدَّاهُ (عَلِمَ بِالْأَدَاءِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِأَدَائِهِ، هَكَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ.

وَنَقَلَ الْوَلْوَالِجِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُمَا وَإِنْ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمَالِكِ، وَنَصَّ فِي زِيَادَاتِ الْعَتَّابِيِّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمَا. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ لِيُكَفِّرَ عَنْهُ فَكَفَّرَ الْآمِرُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ كَفَّرَ الْمَأْمُورُ (وَعَلَى هَذَا الْمَأْمُورُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ) وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ، فَإِنْ أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلٌّ نَصِيبَ الْآخَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَزِيَادَاتِ الْعَتَّابِيِّ وَعَلَّلَ فِيمَا نَقَلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ زَكَاةَ كُلٍّ مِنْهُمَا تَقَعُ بِمَا أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ وَأَدَاؤُهُ بِنَفْسِهِ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمٍ أَنَّ أَدَاءَهُ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ وَهُوَ لَا يَنْعَزِلُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فِيهِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي خِلَافِيَّةِ الْكِتَابِ أَنَّهُ أَدَّاهُ بِالْأَمْرِ وَلَا ضَمَانَ مَعَ الْأَمْرِ. وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا أَمَرَهُ بِأَدَاءِ مَا هُوَ زَكَاةٌ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ وُسْعِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ زَكَاةً يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ

ص: 196

الْمَأْمُورُ عَلِمَ أَوْ لَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُؤَدَّى لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَصَارَ مُخَالِفًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الضَّرَرَ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَصَلَ بِأَدَائِهِ وَعَرَّى أَدَاءَ الْمَأْمُورِ عَنْهُ فَصَارَ مَعْزُولًا عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ. وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَزُولَ الْإِحْصَارُ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَدَاءُ وَاجِبٌ فَاعْتُبِرَ الْإِسْقَاطُ مَقْصُودًا فِيهِ دُونَ دَمِ الْإِحْصَارِ.

الْمُوَكِّلِ كَنِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا فِي وُسْعِهِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الْأَدَاءُ، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ لِيَقْضِيَ بِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ ثُمَّ أَدَّى الدَّافِعُ الدَّيْنَ لَا يَضْمَنُ إذَا دَفَعَ وَلَمْ يَعْلَمْ، وَصَارَ أَيْضًا كَدَمِ الْإِحْصَارِ إذَا ذَبَحَ الْمَأْمُورُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ.

(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُؤَدَّى) بَعْدَ أَدَائِهِ (لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَصَارَ مُخَالِفًا، وَهَذَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ الضَّرَرَ) بِتَنْقِيصِ الْمَالِ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الدِّينِيِّ، وَقَدْ خَلَا أَدَاؤُهُ عَنْ ذَلِكَ (فَصَارَ بِأَدَائِهِ مَعْزُولًا عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ) لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْعَزْلِ بِالْمَوْتِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، وَأَمَّا مَا الْتَزَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقِيلَ يَمْنَعُ تَسْلِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ الْجَوَابَ فِيهِمَا، وَقِيلَ بَلْ هُوَ عَلَى الِاتِّفَاقِ.

وَالْفَرْقُ (أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْآمِرِ الْمُحْصَرِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَزُولَ الْإِحْصَارُ) أَدْرَكَ الْحَجَّ أَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَيَفْعَلُ أَفْعَالَ فَائِتِ الْحَجِّ (وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَدَاءُ وَاجِبٌ فَاعْتُبِرَ الْإِسْقَاطُ مَقْصُودًا فِيهِ)، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الدَّيْنِ: فَالْفَرْقُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِدَفْعِ مَضْمُونٍ عَلَى الْآخِذِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ

ص: 197

قَالَ (وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَيَطَأَهَا فَفَعَلَ فَهِيَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنَصِيبِهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ (وَهَذَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لَهُ خَاصَّةً وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ. وَلَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الْبَتَاتِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ إذْ هُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ فَأَشْبَهَ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْهِبَةِ الثَّابِتَةِ

وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ دَائِنَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَ الدَّيْنِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بَلْ دَفْعُ مَالٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْقَابِضِ ثُمَّ يَصِيرُ الضَّمَانُ بِالضَّمَانِ قِصَاصًا، وَقَدْ وَقَعَ وَلَمْ يَفُتْ لِإِمْكَانِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْقَضَاءِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إيقَاعُهُ زَكَاةً فَكَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ دَفَعَهُ إلَى الْمَصْرِفِ وَقَدْ وُجِدَ، وَكَوْنُهُ عَزْلًا حُكْمِيًّا لَهُمَا أَنْ يَمْنَعَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ صَحَّ بِدَفْعِهِ مُقَيَّدًا بِوُقُوعِهِ زَكَاةً وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ كَانَ نَاوِيًا لَهَا، فَلَوْ بَادَرَ إلَى الْأَدَاءِ وَقَعَ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَلَمَّا أَخَّرَ حَتَّى أَدَّى الْآمِرُ كَانَ بِتَأْخِيرِهِ مُتَسَبِّبًا لِوُقُوعِهَا غَيْرَ زَكَاةٍ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِلْآخَرِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً وَيَطَأَهَا فَفَعَلَ) وَأَدَّى جَمِيعَ ثَمَنِهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ (فَهِيَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ) شَرِيكُهُ (بِنِصْفِ) مَا أَدَّى (لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لَهُ خَاصَّةً كَطَعَامِ أَهْلِهِ (وَلَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشِّرَاءِ عَلَى الشَّرِكَةِ) جَرْيًا عَلَى مُوجَبِ الْمُفَاوَضَةِ (إذْ لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ فَكَانَ كَحَالِ عَدَمِ الْإِذْنِ) ثُمَّ (الْإِذْنُ) لَهُ بِالْوَطْءِ (يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ) إذْ (لَا يَحِلُّ إلَّا فِي مِلْكٍ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيْعِ) الصَّادِرِ مِنْ الْبَائِعِ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ (لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ عَدَمِ مِلْكِهِمَا

ص: 198

فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ لَهُ خَاصَّةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَضَمَّنَتْ الْكَفَالَةَ فَصَارَ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ.

كِتَابُ الْوَقْفِ

تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا مِنْ الشَّرِيكِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الثَّمَنِ فَكَانَ هِبَةً وَإِنْ كَانَ شَائِعًا. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ حُكْمًا لِلْإِحْلَالِ لَكَانَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ أَحْلَلْت لَك وَطْءَ هَذِهِ الْأَمَةِ تَمْلِيكًا لَهَا مِنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ. وَأُجِيبُ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ أَقْبَلُ لِتَمَلُّكِ الشَّرِيكِ لَهَا مِنْ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ الْمُخَاطَبُ بِالْإِحْلَالِ شِقْصًا مِنْهَا، وَلِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيلَادِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ فَالرِّوَايَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فِي تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ بِالْإِحْلَالِ.

كِتَابُ الْوَقْفِ

مُنَاسَبَتُهُ بِالشَّرِكَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرَادُ لِاسْتِبْقَاءِ الْأَصْلِ مَعَ الِانْتِفَاعِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرِكَةِ

ص: 199

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مُسْتَبْقًى فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ، وَفِي الْوَقْفِ مَخْرَجٌ عَنْهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَمَحَاسِنُ الْوَقْفِ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ الِانْتِفَاعُ الدَّارُّ الْبَاقِي عَلَى طَبَقَاتِ الْمَحْبُوبِينَ مِنْ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْمَوْتَى لِمَا فِيهِ مِنْ إدَامَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ» الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرِهِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَبَيَانِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ، أَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً فَالْحَبْسُ مَصْدَرُ وَقَفْت أَقِفُ حَبَسْت، قَالَ عَنْتَرَةُ:

وَوَقَفْت فِيهَا نَاقَتِي فَكَأَنَّهَا

فَدَنٌ لِأَقْضِيَ حَاجَةَ الْمُتَلَوِّمِ

وَهُوَ أَحَدُ مَا جَاءَ عَلَى فَعَلْتُهُ فَفَعَلَ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَيَجْتَمِعَانِ فِي قَوْلِك وَقَفْت زَيْدًا أَوْ الْحِمَارَ فَوَقَفَ، وَأَمَّا أَوْقَفْته بِالْهَمْزِ فَلُغَةٌ رَدِيئَةٌ.

وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي: أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَازِنِيِّ قَالَ: يُقَالُ وَقَفْت دَارِي وَأَرْضِي وَلَا يُعْرَفُ أَوْقَفْت مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، ثُمَّ اُشْتُهِرَ الْمَصْدَرُ: أَعْنِي الْوَقْفَ فِي الْمَوْقُوفِ. فَقِيلَ هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ، فَلِذَا جُمِعَ عَلَى أَفْعَالٍ فَقِيلَ وَقْفٌ وَأَوْقَافٌ كَوَقْتِ وَأَوْقَاتٍ.

وَأَمَّا شَرْعًا: فَحَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِمَنْفَعَتِهَا أَوْ صَرْفُ مَنْفَعَتِهَا عَلَى مَنْ أَحَبَّ وَعِنْدَهُمَا حَبْسُهَا لَا عَلَى مِلْكِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى

إلَخْ. وَقَدْ انْتَظَمَ هَذَا بَيَانَ حُكْمِهِ وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فَلَا حَاجَةَ لِإِفْرَادِهِ هُنَا أَيْضًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: أَوْ صَرْفُ مَنْفَعَتِهَا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ لِمَنْ يُحِبُّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ بِلَا قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِي آخِرِهِ مِنْ الْقُرْبَةِ بِشَرْطِ التَّأْبِيدِ، وَهُوَ بِذَلِكَ كَالْفُقَرَاءِ وَمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ لَكِنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا قَبْلَ انْقِرَاضِ الْأَغْنِيَاءِ بِلَا تَصَدُّقٍ. وَسَبَبُهُ إرَادَةُ مَحْبُوبِ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا بَيْنَ الْأَحْيَاءِ. وَفِي الْآخِرَةِ بِالتَّقَرُّبِ إلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ جَلَّ وَعَزَّ. وَأَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ الشَّرْطُ فِي سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ مِنْ كَوْنِهِ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا، وَأَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ، فَلَوْ قَالَ: إنْ قَدِمَ وَلَدِي فَدَارِي صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَجَاءَ وَلَدُهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، فَلَوْ وَقَفَ الذِّمِّيُّ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ، وَجَعَلَ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ جَازَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ لِمَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ خَصَّ فِي وَقْفِهِ مَسَاكِينَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ، وَيُفَرَّقُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس مِنْهُمْ إلَّا إنْ خَصَّ صِنْفًا مِنْهُمْ، فَلَوْ دَفَعَ الْقَيِّمُ إلَى غَيْرِهِمْ كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ ثُمَّ لِلْفُقَرَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الصَّدَقَةِ لَزِمَ شَرْطُهُ، وَكَذَا إنْ قَالَ مَنْ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ النَّصْرَانِيَّةِ خَرَجَ اُعْتُبِرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْخَصَّافُ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ تَعَقَّبَهُ غَيْرَ مُتَأَخِّرٍ يُسَمَّى الطَّرَسُوسِيُّ شَنَّعَ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْكُفْرَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْإِسْلَامَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ، وَهَذَا لِلْبُعْدِ مِنْ الْفِقْهِ

فَإِنَّ شَرَائِطَ الْوَاقِفِ مُعْتَبَرَةٌ إذَا لَمْ تُخَالِفْ الشَّرْعَ، وَالْوَاقِفُ مَالِكٌ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مِنْ الْفُقَرَاءِ دُونَ صِنْفٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ فِي كُلِّهِمْ قُرْبَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قُرْبَةٌ حَتَّى جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَنَا فَكَيْفَ لَا يُعْتَبَرُ شَرْطُهُ فِي صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ؟ أَرَأَيْت لَوْ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُمْ أَلَيْسَ يُحْرَمُ مِنْهُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ دَفَعَ الْمُتَوَلِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ضَامِنًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ بَلْ الْحِرْمَانُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ سَبَبِ تَمَلُّكِهِ هَذَا الْمَالَ، وَالسَّبَبُ هُوَ إعْطَاءُ الْوَاقِفِ الْمَالِكِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ وَقْفِهِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى بَيْعَةٍ مَثَلًا فَإِذَا خَرِبَتْ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ ابْتِدَاءً، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ مِيرَاثًا عَنْهُ

ص: 200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ فِي وَقْفِهِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَ هُمْ؛ فَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ: الْوَقْفُ كَالْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَنْكَرَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ ذِمِّيَّانِ عَدْلَانِ فِي مِلَّتِهِمْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِهِ أَوْ يَعْتَمِرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قُرْبَةً عِنْدَهُمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ إذَا وَقَفَ حَالَ رِدَّتِهِ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مَوْقُوفٌ إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ بَطَلَ وَقْفُهُ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إذَا انْتَحَلَ دِينًا جَازَ مِنْهُ مَا نُجِيزُهُ لِأَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ. أَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُجِيزُ وَقْفَهَا لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ.

وَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا وَقَفَ وَقْفًا صَحِيحًا فِي أَيِّ وَجْهٍ كَانَ ثُمَّ ارْتَدَّ يَبْطُلُ الْوَقْفُ وَيَصِيرُ مِيرَاثًا سَوَاءٌ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ أَوْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا إنْ أَعَادَ الْوَقْفَ بَعْدَ عَوْدِهِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَحَكَى الْخَصَّافُ فِي وَقْفِ الْمُرْتَدِّينَ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي الذِّمِّيِّ يَتَزَنْدَقُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا، قَالَ بَعْضُهُمْ: أُقِرُّهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ وَأُقِرُّ الْجِزْيَةَ عَلَيْهِ لِأَنِّي إنْ أَخَذْته بِالرُّجُوعِ فَإِنَّمَا أَرُدُّهُ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ وَلَا أَرَى ذَلِكَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أُقِرُّهُ عَلَى الزَّنْدَقَةِ. وَأَمَّا الصَّابِئَةُ فَإِنْ كَانُوا دَهْرِيَّةً يَقُولُونَ مَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ فَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الزَّنَادِقَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ صَحَّ مِنْ وُقُوفِهِمْ مَا يَصِحُّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بَعْدَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، حُكْمُ وَقْفِهِمْ وَوَصَايَاهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَبُولِ شَهَادَاتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا حُكْمٌ بِإِسْلَامِهِمْ.

وَأَمَّا الْخَطَابِيَّةُ فَإِنَّمَا لَمْ يُقْبَلُوا؛ لِأَنَّهُ قِيلَ إنَّهُمْ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِالزُّورِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ. وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ صَدَقَ الْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ. وَمِنْ الشُّرُوطِ الْمِلْكُ وَقْتَ الْوَقْفِ، حَتَّى لَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَوَقَفَهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْ مَالِكِهَا وَدَفَعَ ثَمَنَهَا إلَيْهِ أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ لَا تَكُونُ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ وَقَفَهَا، هَذَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْوَاقِفُ. أَمَّا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةَ غَيْرِهِ عَلَى جِهَاتٍ فَبَلَغَ فَأَجَازَهُ جَازَ بِشَرْطِ الْحُكْمِ وَالتَّسْلِيمِ أَوْ عَدَمِهِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِجَوَازِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ، وَسَتَأْتِيك فُرُوعٌ أُخَرُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ فَوَقَفَ أَرْضًا لَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَخْرُجَ مَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ لِيَضُرَّ بِأَرْبَابِ الدُّيُونِ أَوْ بِنَفْسِهِ كَذَا أَطْلَقَهَا الْخَصَّافُ. وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا وَقَفَهَا فِي الْحَجْرِ لِلسَّفَهِ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَنْ يَصِحَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَعِنْدَ الْكُلِّ إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ، هَذَا وَأَمَّا عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ كَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، فَلَوْ أَجَّرَ أَرْضًا عَامَيْنِ فَوَقَفَهَا قَبْلَ مُضِيِّهَا لَزِمَ الْوَقْفُ بِشَرْطِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ رَجَعَتْ الْأَرْضُ إلَى مَا جَعَلَهَا لَهُ مِنْ الْجِهَاتِ، وَكَذَا لَوْ رَهَنَ أَرْضَهُ ثُمَّ وَقَفَهَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَكَّهَا لَزِمَ الْوَقْفُ وَلَا تَخْرُجُ عَنْ الرَّهْنِ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَقَامَتْ سِنِينَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ

ص: 201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَافْتَكَّهَا تَعُودُ إلَى الْجِهَةِ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الِافْتِكَاكِ وَتَرَكَ قَدْرَ مَا يَفْتَكُّ بِهِ افْتَكَّ وَلَزِمَ الْوَقْفُ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِيعَتْ وَبَطَلَ الْوَقْفُ، وَفِي الْإِجَارَةِ إذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَآجِرَيْنِ تَبْطُلُ وَتَصِيرُ وَقْفًا.

وَأَمَّا شَرْطُهُ الْخَاصُّ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْمِلْكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ، أَوْ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمٌ بِهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَشْتَرِطُ سِوَى كَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا لَهُ مِنْ كَوْنِهِ عَقَارًا أَوْ دَارًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَبَّدًا مَقْسُومًا غَيْرَ مُشَاعٍ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمُسَلَّمًا إلَى مُتَوَلٍّ.

وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ كَأَنْ يَقُولَ أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْدَ شُرُوطِهِ.

وَلَا بَأْسَ أَنْ نَسُوقَ شَيْئًا مِنْ الْأَلْفَاظِ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ، أَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِأَرْضِي هَذِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَا تَكُونُ وَقْفًا بَلْ نَذْرًا يُوجِبُ التَّصَدُّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا، فَإِنْ فَعَلَ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَإِلَّا وُرِثَتْ عَنْهُ، كَمَنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ فَمَاتَ بِلَا إيصَاءٍ تُورَثُ عَنْهُ، وَمَوْقُوفَةٌ فَقَطْ لَا تَصِحُّ إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِخُصُوصِ الْمَصْرِفِ: أَعْنِي الْفُقَرَاءَ لَزِمَ كَوْنُهُ مُؤَبَّدًا؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْفُقَرَاءِ لَا تَنْقَطِعُ.

قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَمَشَايِخُ بَلْخَ يُفْتُونَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَنَحْنُ نُفْتِي بِقَوْلِهِ أَيْضًا لِمَكَانِ الْعُرْفِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ رَدُّ هِلَالٍ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَبَطَلَ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ إذَا كَانَ يَصْرِفُهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ قَالَ مَوْقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ عِنْدَ هِلَالٍ أَيْضًا لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَحْبُوسَةٌ أَوْ حَبْسٌ، وَلَوْ كَانَ فِي حَبْسِ مِثْلِ هَذَا الْعُرْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ مَوْقُوفَةً، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلسَّبِيلِ إذَا تَعَارَفُوهُ وَقْفًا مُؤَبَّدًا عَلَى الْفُقَرَاءِ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلَّا سُئِلَ.

فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ، أَوْ قَالَ أَرَدْت مَعْنَى صَدَقَةٍ فَهُوَ نَذْرٌ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَانَتْ مِيرَاثًا ذَكَرَهُ فِي النَّوَازِلِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ جَعَلْتهَا لِلْفُقَرَاءِ إنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا سُئِلَ، فَإِنْ أَرَادَ الْوَقْفَ فَهِيَ وَقْفٌ أَوْ الصَّدَقَةَ فَهُوَ نَذْرٌ، وَكَذَا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى، فَإِثْبَاتُهُ بِهِ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ أَوْلَى.

وَاعْتَرَضَهُ فِي فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَذَكَرَ فِي إحْدَاهُمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَكُونُ مِيرَاثًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهُ مِيرَاثًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَذْرًا؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إذَا مَاتَ النَّاذِرُ وَلَمْ يُوَفِّ بِنَذْرِهِ يَكُونُ مِيرَاثًا إلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى تَمَامِ التَّفْصِيلِ فِي إحْدَاهُمَا، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَكُونُ نَذْرًا، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ وَلَا بِقِيمَتِهِ يَكُونُ مِيرَاثًا؛ وَلَوْ قَالَ صَدَقَةً مُوَقْوِقَةً فَهِلَالٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صَدَقَةً عُرِفَ مَصْرِفُهُ، وَانْتَفَى بِقَوْلِهِ مَوْقُوفَةً احْتِمَالُ كَوْنِهِ نَذْرًا، وَكَذَلِكَ حَبْسُ صَدَقَةٍ. وَكَذَلِكَ صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ. قِيلَ وَمُحَرَّمَةٌ بِمَنْزِلَةِ وَقْفٍ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ حَبْسٌ أَوْ مَحْبُوسَةٌ مَوْقُوفَةٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَوْقُوفَةٍ فَكَانَ كَإِفْرَادِ لَفْظِ مَوْقُوفَةٍ.

وَفِي النَّوَازِلِ: لَوْ قَالَ جَعَلْت نُزُلَ كَرْمِي وَقْفًا وَفِيهِ ثَمَرٌ أَوْ لَا يَصِيرُ الْكَرْمُ وَقْفًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ جَعَلْت غَلَّتَهُ وَقْفًا تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ مَا أَمْكَنَ كَأَنَّهُ قَالَ جَعَلْت كَرْمِي بِمَا فِيهِ وَقْفًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَدْخُلَ الثِّمَارُ لِمَا سَنَذْكُرُهُ؛ وَلَوْ زَادَ فَقَالَ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ مَعَ

ص: 202

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ فَيَقُولَ إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ (يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَزُولُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ وَلِيًّا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ) قَالَ رضي الله عنه: الْوَقْفُ لُغَةً. هُوَ الْحَبْسُ تَقُولُ وَقَفْت الدَّابَّةَ وَأَوْقَفْتهَا بِمَعْنًى. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ. ثُمَّ قِيلَ الْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ، فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ

ذَلِكَ مُؤَبَّدًا، وَهُوَ مَوْضِعُ اتِّفَاقِ مُجِيزِي الْوَقْفِ عَلَى أَنَّهَا الْعِبَارَةُ الْوَافِيَةُ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَسْرَارِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ مُؤَبَّدًا كَانَ وَقْفًا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ مَنْ يُجِيزُ الْوَقْفَ يُفِيدُ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا، وَلَا يَنْبَغِي فَإِنَّ التَّأْبِيدَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَوْ آخِرِهِ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ وَجَعْلُهُ لِلْفُقَرَاءِ يُفِيدُ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ مَوْقُوفَةً لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ

(قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ حَاكِمٌ) أَيْ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، (أَوْ يُعَلِّقَهُ) أَيْ يُعَلِّقَ الْوَقْفَ (بِمَوْتِهِ فَيَقُولَ: إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ (يَزُولُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ) الَّذِي قَدَّمْنَا صِحَّةَ الْوَقْفِ بِهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ (لَا يَزُولُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ مُتَوَلِّيًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ) بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ بُخَارَى، وَإِذَا لَمْ يَزُلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَبْلَ الْحُكْمِ يَكُونُ مُوجَبُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ حَبْسَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقَ بِالْمَنْفَعَةِ، وَحَقِيقَتُهُ لَيْسَ إلَّا التَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلَفْظُ حَبَسَ إلَى آخِرِهِ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ لَهُ بَيْعَهُ مَتَى شَاءَ وَمِلْكُهُ مُسْتَمِرٌّ فِيهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِمَنْفَعَتِهِ فَلَمْ يُحْدِثْ الْوَاقِفُ إلَّا مَشِيئَةَ التَّصَدُّقِ بِمَنْفَعَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ مَتَى شَاءَ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَانَ ثَابِتًا لَهُ قَبْلَ الْوَقْفِ بِلَا ذِكْرِ لَفْظِ الْوَقْفِ فَلَمْ يُفِدْ لَفْظُ الْوَقْفِ شَيْئًا، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ قَوْلِهِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْوَقْفَ، وَهُوَ مَا أَرَادَ الْمُصَنِّفُ. بِقَوْلِهِ (وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ كَانَ كَالْمَعْدُومِ، وَالْجَوَازُ وَالنَّفَاذُ وَالصِّحَّةُ فَرْعُ اعْتِبَارِ الْوُجُودِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يُجِيزُ لَيْسَ الْمُرَادُ التَّلَفُّظَ بِلَفْظِ الْوَقْفِ بَلْ لَا يُجِيزُ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا أَحْكَامُ ذِكْرِ الْوَقْفِ فَلَا خِلَافَ إذَنْ؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْوَقْفَ: أَيْ لَا تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ لَهُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهَا حَاكِمٌ. وَقَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى غَيْرِهِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ أَخْرَجَهُ إلَى غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ هُوَ، الْمُسْتَوْفِي لِمَنَافِعِهِ. [فَرْعٌ]

يَثْبُتُ الْوَقْفُ بِالضَّرُورَةِ. وَصُورَتُهُ أَنْ يُوصِيَ بِغَلَّةِ هَذِهِ الدَّارِ لِلْمَسَاكِينِ أَبَدًا أَوْ لِفُلَانٍ وَبَعْدَهُ لِلْمَسَاكِينِ أَبَدًا، فَإِنَّ هَذِهِ الدَّارَ تَصِيرُ وَقْفًا بِالضَّرُورَةِ. وَالْوَجْهُ أَنَّهَا كَقَوْلِهِ إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ

ص: 203

مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ.

وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا وَالتَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ. لَهُمَا «قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ رضي الله عنه حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَرْضٍ لَهُ تُدْعَى ثَمْغَ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا يُبَاعُ وَلَا

تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى سِوَى قَوْلِنَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَلَى وَجْهٍ يُحْبَسُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ اللَّهِ فِي الْأَشْيَاءِ لَمْ يَزُلْ قَطُّ وَلَا يُزَالُ، فَالْعِبَارَةُ الْجَيِّدَةُ قَوْلُ قَاضِي خَانْ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ لَا إلَى مَالِكٍ فَيَلْزَمُ وَلَا يَمْلِكُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ يَنْتَقِلُ إلَى مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ لِامْتِنَاعِ السَّائِبَةِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ مِلْكُهُ لَكِنْ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ. وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «حَبِّسْ الْأَصْلَ وَسَبِّلْ الثَّمَرَةَ» اهـ

، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ فَإِنَّ خِلَافَ الْأَصْلِ وَالْقِيَاسِ ثَابِتٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ خُرُوجُهُ لَا إلَى مَالِكٍ وَثُبُوتُ مِلْكِهِ أَوْ مِلْكِ غَيْرِهِ فِيهِ مَعَ مَنْعِهِ مِنْ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ؛ فَمِنْ الْأَوَّلِ الْمَسْجِدُ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ الثَّانِي أُمُّ الْوَلَدِ يَكُونُ الْمِلْكُ فِيهَا بَاقِيًا وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُوَرَّثُ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَنَا فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ بِالدَّلِيلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِلْكَ الْوَاقِفِ كَانَ مُتَيَقَّنَ الثُّبُوتِ، وَالْمَعْلُومُ بِالْوَقْفِ مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَلْيَثْبُتْ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَقَطْ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمُزِيلُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ، فَإِنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ» مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِلَّا لَخَرَجَ إلَى مَالِكٍ آخَرَ.

ثُمَّ رَأَيْنَا غَيْرَهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ «إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا» أَيْ بِالثَّمَرَةِ أَوْ الْغَلَّةِ، وَظَاهِرُهُ حَبْسُهَا عَلَى مَا كَانَ فَلَمْ يَخْلُصْ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ، وَكَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ يُفِيدُ لُزُومَهُ لَا غَيْرُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ثَبَتَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ " تَصَدَّقْ " وَقَوْلُهُ " حَبِّسْ " وَالْمَفْهُومَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا مَلِّكْهُ الْفَقِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَمَعْنَى حَبِّسْ احْبِسْهُ: أَيْ عَلَى مَا كَانَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا إلَّا مَعْنَى أَحَدِهِمَا، وَإِلَّا كَانَ صلى الله عليه وسلم مُجِيبًا لِعُمَرَ رضي الله عنه فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ. فَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ حَبِّسْ عَلَى مَعْنَى تَصَدَّقْ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى نَفْيِهِ إذْ لَا يَقُولُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ بِمِلْكِ الْفَقِيرِ لِلْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ تَصَدَّقْ عَلَى مَعْنَى حَبَسَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، فَيُحْبَسُ عَلَى الْمِلْكِ شَرْعًا، وَإِذَا حَبَسَ عَلَيْهِ شَرْعًا امْتَنَعَ بَيْعُهُ.

وَصُورَةُ حُكْمِ الْحَاكِمِ الَّذِي بِهِ يَزُولُ الْمِلْكُ عِنْدَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ، ثُمَّ يُظْهِرَ الرُّجُوعَ فَيُخَاصِمَهُ إلَى الْقَاضِي فَيَقْضِي الْقَاضِي بِلُزُومِهِ، قَالُوا: فَإِنْ خَافَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبِيعَهُ قَاضٍ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ يَكْتُبُ فِي صَكِّ الْوَقْفِ: فَإِنْ أَبْطَلَهُ أَوْ غَيَّرَهُ قَاضٍ فَهَذِهِ الْأَرْضُ بِأَصْلِهَا وَجَمِيعُ مَا فِيهَا وَصِيَّةٌ مِنْ فُلَانٍ الْوَاقِفِ تُبَاعُ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ هَذَا لَا يُخَاصِمُ أَحَدٌ فِي إبْطَالِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْوَصِيَّةُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَإِذَا أَبْطَلَهُ قَاضٍ يَصِيرُ وَصِيَّةً يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا إذَا وَقَفَ فِي صِحَّتِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ يَكُونُ فِي نَقْضِهِ وَبَيْعِهِ فَائِدَةٌ لِلْوَرَثَةِ، فَمَحْمَلُ مَا ذَكَرَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَقَفَ فِي الْمَرَضِ، أَوْ كَانَ فِيهِ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ (قَوْلُهُ وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا) أَيْ لَفْظُ الْوَقْفِ يَصْدُقُ مَعَ كُلٍّ مِنْ زَوَالِ

ص: 204

يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ» وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ مِنْهُ لِيَصِلَ ثَوَابُهُ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَدْ أَمْكَنَ دَفْعُ حَاجَتِهِ

الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ، إذْ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ لَفْظِ وَقَفْت دَارِي أَوْ حَبَسْتهَا خُرُوجُهَا عَنْ الْمِلْكِ فَيَصْدُقُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالتَّرْجِيحُ: أَيْ تَرْجِيحُ الْخُرُوجِ وَعَدَمِهِ بِالدَّلِيلِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ قِبَلِهِمَا إنَّمَا تُفِيدُ اللُّزُومَ لَا الْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ، وَمِنْ قِبَلِهِ تُفِيدُ نَفْيَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا دَلِيلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُفِيدُ تَمَامَ الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِدَلِيلِهِمَا فَذَكَرَ حَدِيثَ ثَمْغَ وَهُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا مِيمٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ حَافِظُ الدِّينِ أَنَّهُ بِلَا تَنْوِينٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَنَّهَا فِي كُتُبِ غَرَائِبِ الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحَةِ عِنْدَ الثِّقَاتِ مُنَوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ كَمَا فِي دَعْدٍ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْأَصْلِ: أَخْبَرَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ تُدْعَى ثَمْغَ، وَقَالَ: كَانَ نَخْلًا نَفِيسًا، قَالَ: فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اسْتَفَدْت مَالًا هُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ تُنْفَقُ ثَمَرَتُهُ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَلِلضَّعِيفِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُؤَكِّلَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ» ، وَحَدِيثُ عُمَرَ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَاقِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَصَبْت أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ» الْحَدِيثَ.

وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ تُنْفَقُ ثَمَرَتُهُ» ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفَ لِحَاجَتِهِ إلَى أَنْ يَصِلَ ثَوَابُهُ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّرْعُ إلَى إعْمَالِ مَا يَدْفَعُ هَذِهِ الْحَاجَةَ فِيمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَلَا طَرِيقَ إلَى تَحَقُّقِ دَفْعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ وَإِثْبَاتِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ إلَّا لُزُومُهُ، وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ تَحَقَّقَتْ حَاجَةُ اسْتِمْرَارِ وُصُولِ ثَوَابِهِ، وَيُمْكِنُ بِإِسْقَاطِ مِلْكِهِ فَيَسْقُطُ ظَاهِرُ الْمَنْعِ إذْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِذَلِكَ سُقُوطُ الْمِلْكِ طَرِيقًا بَلْ يَتَحَقَّقُ بِالْحُكْمِ بِلُزُومِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ زَوَالُ الْمِلْكِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَقْدَحُ فِيمَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ فِيمَا مَضَى، ثُمَّ عَلَى تَقْرِيرِنَا يَحْصُلُ مَطْلُوبُهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا تَمَّتْ الدَّلَالَةُ عَلَى لُزُومِهِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِمُوَافَقَتِنَا لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِاعْتِقَادِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ رحمهم الله التَّلَازُمَ بَيْنَ اللُّزُومِ وَالْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ.

وَقَوْلُهُ كَالْمَسْجِدِ نَظِيرُ مَا خَرَجَ عَنْ الْمِلْكِ بِالْإِجْمَاعِ لَا إلَى مَالِكٍ، وَكَذَا

ص: 205

بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» وَعَنْ شُرَيْحٍ: جَاءَ مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام بِبَيْعِ الْحَبِيسِ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ وَالْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَاقِفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلَّاتِهِ إلَى مَصَارِفِهَا وَنَصْبِ الْقَوَّامِرِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَنَافِعِهِ فَصَارَ شَبِيهَ الْعَارِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا وَلَا تَصَدُّقَ عَنْهُ إلَّا بِالْبَقَاءِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ، لَا إلَى مَالِكٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَ بَقَائِهِ كَالسَّائِبَةِ. بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ،

الْإِعْتَاقُ، وَسَيُجِيبُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْعِتْقِ وَمُطْلَقِ الْوَقْفِ (قَوْلُهُ وَلَهُ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ إلَى عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَأَنْزَلَ فِيهَا الْفَرَائِضَ نَهَى عَنْ الْحَبْسِ» . وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَخِيهِ وَضَعَّفُوهُمَا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ كُرَاعٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْمَوْقُوفِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ ثُبُوتَ الْوَقْفِ وَلِهَذَا اسْتَثْنَى الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ لَا يُقَالُ إلَّا سَمَاعًا وَإِلَّا فَلَا يَحِلُّ، وَالشَّعْبِيُّ أَدْرَكَ عَلِيًّا وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ فِي الْبُخَارِيِّ ثَابِتَةٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ شُرَيْحٍ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْبُيُوعِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَابْنُ زَائِدَةَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: «جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِبَيْعِ الْحَبِيسِ» . وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَشُرَيْحٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ رَفَعَ الْحَدِيثَ فَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ إلَخْ) ظَاهِرُ مُصَادَرَةٍ لِجَعْلِهِ الدَّعْوَى جُزْءَ الدَّلِيلِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِيَصِلَ الدَّلِيلَ بِالدَّعْوَى، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ حَتَّى جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى لِغَيْرِ الْوَاقِفِ، وَتَعَلُّقُ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْعَيْنِ أَثَرُ ثُبُوتِ مِلْكِهِمْ فِيهَا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمِلْكُ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ أَوْ لَهُ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِلْكًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، وَكَذَا الِاسْتِيضَاحُ بِنَصْبِ الْقَوَّامِ وَصَرْفِ غَلَّاتِهِ بِحَسَبِ الْأَصْلِ يَكُونُ عَنْ مِلْكِهِ لِلْعَيْنِ إلَّا أَنْ يُوجِبَ مُوجِبٌ لَا مَرَدَّ لَهُ خُرُوجَهُ عَنْ

ص: 206

وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ جُعِلَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُنَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْعَبْدِ عَنْهُ فَلَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ رضي الله عنه: قَالَ فِي الْكِتَابِ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ، أَمَّا فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَدُّقٌ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ الْمَوْلَى، فَأَمَّا الْمُحَكِّمُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.

مِلْكِهِ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِوِلَايَةِ غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْفَرْقِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ جُعِلَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ مُحَرَّرًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ الْعِبَادُ فِيهِ شَيْئًا غَيْرَ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ أَصْلُهُ الْكَعْبَةُ، وَالْوَقْفُ غَيْرُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَنْتَفِعُ الْعِبَادُ بِعَيْنِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَهُمَا كَمَا يَنْتَفِعُ بِالْمَمْلُوكَاتِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ كَالْمَسْجِدِ فَيُلْحَقُ بِالْكَعْبَةِ كَمَا أُلْحِقَ الْمَسْجِدُ بِهَا. وَأَيْضًا قَضِيَّةُ كَوْنِ الْحَاصِلِ مِنْهُ صَدَقَةً دَائِمَةً عَنْ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ بَاقِيًا إذْ لَا تَصَدُّقَ بِلَا مِلْكٍ فَاقْتَضَى قِيَامَ الْمِلْكَ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِتْلَافٌ لِلْمَمْلُوكِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَيْسَ الْوَقْفُ كَذَلِكَ. وَجَوَابُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مَالِكًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ، وَإِنَّمَا عَرَضَ فِيهِ الْمَمْلُوكِيَّةُ وَبِالْإِعْتَاقِ يَعُودُ إلَى مَا كَانَ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِتُتَمَلَّكَ فَبِالْوَقْفِ لَا تَعُودُ إلَى أَصْلٍ هُوَ عَدَمُ الْمَمْلُوكِيَّةِ بَلْ إلَى الْحَضِّ عَلَى مِلْكِهِ وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَنْفَعَةِ وَهَذَا حَقٌّ، وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ، لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ عَدَمَ الْخُرُوجِ مَلْزُومًا لِعَدَمِ لُزُومِهِ صَدَقَةً أَوْ بِرًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا مُنْفَكَّانِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ.

وَالْحَقُّ تَرَجُّحُ قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ بِلُزُومِهِ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ قَوْلًا كَمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ» إلَى آخِرِهِ، وَتَكَرَّرَ هَذَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَدَقَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ أُخْتِهَا وَأُمِّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ وَصْفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي أَرْوَى الدَّوْسِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ كُلُّهَا بِرِوَايَاتٍ، وَتَوَارَثَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ ذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ بِمِثْلِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ شُرَيْحٍ بَيَانُ نَسْخِ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْحَامِي وَنَحْوِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ الْعَمَلِيُّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُتَوَارَثًا عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فَلِذَا تَرَجَّحَ خِلَافُهُ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِالْمَوْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُ) وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ

ص: 207

وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَزُولُ عِنْدَهُمَا يَزُولُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي

الْوَصِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ مَوْتِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَى مُقَابِلِهِ مِنْ جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ، وَالْوَقْفُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ.

وَلِذَا لَوْ قَالَ إذَا مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَقَدْ وَقَفْت أَرْضِي إلَى آخِرِهِ فَمَاتَ لَمْ تَصِرْ وَقْفًا وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الْمَوْتِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إذَا مِتُّ فَاجْعَلُوهَا وَقْفًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّوْكِيلِ لَا تَعْلِيقُ الْوَقْفِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِ الْهِبَةِ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّمْلِيكَاتُ غَيْرُ الْوَصِيَّةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ. وَنَصَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ بَاطِلًا أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى مَا عَرَفْت بِأَنَّ صِحَّتَهُ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ وَصِيَّةً. قَالُوا: لَوْ قَالَ دَارِي هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَصَالِحِ مَسْجِدِ كَذَا بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ، وَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهَا، أَمَّا لَوْ قَالَ إنْ قَدِمَ وَلَدِي فَعَلَيَّ أَنْ أَقِفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى ابْنِ السَّبِيلِ فَقَدِمَ فَهُوَ نَذْرٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَإِنْ وَقَفَهُ عَلَى وَلَدِهِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ جَازَ فِي الْحُكْمِ وَنَذْرُهُ بَاقٍ. إنْ وَقَفَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ سَقَطَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، وَتَعْيِينُ الْمُعْطَى لَهُ النَّذْرَ لَغْوٌ فَصَارَ الثَّابِتُ النَّذْرَ بِالْوَقْفِ فَجَازَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَيْسَ كَنَفْسِهِ. فَإِنْ قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ النَّذْرُ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ. قُلْت: بَلْ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَّخِذَ الْإِمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَسْجِدًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ مَالِهِمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيْتُ مَالٍ. وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت ثُمَّ قَالَ شِئْت كَانَ بَاطِلًا لِلتَّعْلِيقِ، أَمَّا لَوْ قَالَ شِئْت وَجَعَلْتهَا صَدَقَةً صَحَّ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِي مِلْكِي فَهِيَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَظَهَرَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى أَمْرٍ كَائِنٍ، وَالتَّعْلِيقُ عَلَى أَمْرٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ، الْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ: يَعْنِي فِي قَوْلِهِ أَوْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ الْقَاضِي. وَأَمَّا الْمُحَكِّمُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَ الْوَقْفَ بَعْدَ حُكْمِهِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ كَالْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ) حَتَّى يَلْزَمُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُحْكَمَ بِهِ فَلَهُ بَيْعُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ. وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ إلَّا أَنَّهُ مِنْ الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِهِ فِي الصِّحَّةِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: مَرِيضٌ وَقَفَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ يُبَاعُ وَيُنْقَضُ الْوَقْفُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ دَارًا ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَيَنْقُضَ الْوَقْفَ انْتَهَى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ الْمَدْيُونُ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ، فَإِنَّ وَقْفَهُ لَازِمٌ لَا يَنْقُضُهُ أَرْبَابُ الدُّيُونِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْحَجْرِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِالْعَيْنِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، (قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَزُولُ عِنْدَهُمَا يَزُولُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ) قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ

ص: 208

لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا، وَقَدْ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ.

لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ لِزَوَالِهِ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلَّهِ فَيَصِيرَ حَقًّا لَهُ، وَحَقُّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ مُسَلَّمًا فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ لِلْعَبْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى (وَالتَّمْلِيكُ مِنْهُ وَهُوَ مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا وَقَدْ يَتَحَقَّقُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ) الْمُنَجَّزَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّمْلِيكَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ لَا مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ الْمُسْتَمِرِّ، ثُمَّ لَا مُوجِبَ لِاعْتِبَارِهِ حَتَّى يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ تَوْجِيهِهِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ إمَّا خُرُوجُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْوَقْفِ لَا إلَى أَحَدٍ، وَتَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِصَرْفِ غَلَّتِهِ إلَى مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ أَوْ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ، فَإِذَا فَعَلَ خَرَجَ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ كَمَا هُوَ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ تَكَلُّفِ اعْتِبَارٍ آخَرَ. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُلَاحَظَ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ تَسْلِيمًا إلَيْهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ نَائِبَهُ فِي قَبْضِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ بِقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ لَا الْمُتَوَلِّي كَالزَّكَاةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يُلَاحَظَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ إلَّا فِعْلُ مَا وَجَبَ بِالْوَقْفِ، فَلِذَا كَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْجَهَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. وَفِي الْمُنْيَةِ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهَذَا قَوْلُ مَشَايِخِ بَلْخَ. وَأَمَّا الْبُخَارِيُّونَ: فَأَخَذُوا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله كَمَا تَقَدَّمَ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ يَقُولُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَقْوَى، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْآثَارِ: يَعْنِي مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ وَقْفَهُ فِي يَدِ حَفْصَةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَرَدَّهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ فَعَلَهُ لِيُتِمَّ الْوَقْفَ بَلْ لِشَغْلِهِ وَخَوْفِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ، وَكَذَا جَمِيعُ مَنْ يَنْصِبُ الْمُتَوَلِّينَ لَا يَخْطِرُ لَهُ غَيْرُ تَفْرِيغِ نَفْسِهِ مِنْ أَمْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله: لَوْ تَمَّ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي صَارَتْ يَدُ الْوَاقِفِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّعُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ، فَجَوَابُهُ مَنْعُ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِ مَا فِي يَدِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ يَدِهِ كَعِتْقِ الْعَبْدِ الْكَائِنِ فِي يَدِ سَيِّدِهِ الْمُعْتِقِ لَهُ، وَالنَّاذِرِ بِالْعَيْنِ الْكَائِنَةِ فِي يَدِهِ هِيَ وَقِيمَتُهَا يُوجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجَ أَحَدِهِمَا مِنْ يَدِهِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ.

وَمِمَّا بُنِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ الْوِلَايَةَ فِي عَزْلِ الْقَوَّامِ وَالِاسْتِبْدَالَ بِهِمْ لِنَفْسِهِ وَلِأَوْلَادِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ وَسَلَّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ فَهَذَا جَائِزٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يُخِلُّ بِشَرَائِطِ الْوَقْفِ، وَلَوْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى قَيِّمٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وِلَايَةَ لَهُ وَالْوِلَايَةُ لِلْقَيِّمِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ وَلَهُ وَصِيٌّ فَلَا وِلَايَةَ لِوَصِيِّهِ وَالْوِلَايَةُ لِلْقَيِّمِ، وَلَوْ أَرَادَ الْوَاقِفُ أَنْ يَعْزِلَ الْقَيِّمَ وَيَرُدَّهُ لِنَفْسِهِ أَوْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْوِلَايَةُ لِلْوَاقِفِ، وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَ الْقَيِّمَ فِي حَيَاتِهِ وَيُوَلِّيَ غَيْرَهُ أَوْ يَرُدَّ النَّظَرَ إلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ بَطَلَ وِلَايَةُ الْقَيِّمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ عِنْدَهُ، وَهَذَا الْخِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْقَيِّمِ فَلَا يَكُونُ لِلْوَاقِفِ وِلَايَةٌ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِدُونِ التَّسْلِيمِ إلَى الْقَيِّمِ يَتِمُّ الْوَقْفُ، فَإِذَا سَلَّمَ إلَى قَيِّمٍ كَانَ وَكِيلَهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيَنْعَزِلَ بِمَوْتِهِ إلَّا إذَا جَعَلَهُ قَيِّمًا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ لِلْمَسْجِدِ

ص: 209

قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَإِذَا اُسْتُحِقَّ مَكَانَ قَوْلِهِ إذَا صَحَّ (خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَنْفُذُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ لَمَا انْتَقَلَ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ. قَالَ رضي الله عنه: قَوْلُهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.

قَالَ (وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ)

لَا تَصِيرُ لِلْمَسْجِدِ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى قَيِّمِ الْمَسْجِدِ (قَوْلُهُ وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ) وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا فِي قَوْلٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُتَمَلَّكُ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمَالِكِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِفُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ لَكِنَّهُ يَنْتَقِلُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِ فُلَانٍ عَلَى كَذَا. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَوْلُهُ أَيْ الْقُدُورِيِّ (خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُمَا)؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ غَيْرُ اللُّزُومِ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ إذَا لَزِمَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ لِيَكُونَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ بَلْ قَالَ: إذَا صَحَّ وَصِحَّةُ الْعَقْدِ لَا تَسْتَلْزِمُ اللُّزُومَ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الْعُقُودِ فَقَدْ يَكُونُ عَقْدٌ حُكْمُهُ اللُّزُومَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُهُ غَيْرَ اللُّزُومِ كَالْعَارِيَّةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَجَوَّزَ بِالصِّحَّةِ عَنْ اللُّزُومِ

(قَوْلُهُ وَقْفُ الْمَشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى

ص: 210

لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ وَالْقَبْضُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَذَا تَتِمَّتُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ شَرْطٌ فَكَذَا مَا يَتِمُّ بِهِ، وَهَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَيَجُوزُ مَعَ الشُّيُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِيهِمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ بِأَنْ يُقْبَرَ فِيهِ الْمَوْتَى سَنَةً، وَيُزْرَعَ سَنَةً وَيُصَلَّى فِيهِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذَ إصْطَبْلًا فِي وَقْتٍ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْلَالِ وَقِسْمَةِ الْغَلَّةِ.

الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ تَسْلِيمِ الْوَقْفِ، فَلَمَّا شَرَطَهُ مُحَمَّدٌ قَالَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْمَشَاعِ (لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فَوَجَبَ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمُتَوَلِّي فَلَا يُشْتَرَطُ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي خُرُوجِهِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَهُمْ مَشَايِخُ بَلْخَ أَخَذَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ، وَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي تِلْكَ وَهُمْ مَشَايِخُ بُخَارَى أَخَذَ بِقَوْلِهِ فِي وَقْفِ الْمَشَاعِ. وَأَمَّا إلْحَاقُ مُحَمَّدٍ رحمه الله بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ (الْمُنَفَّذَةِ) أَيْ الْمُنَجَّزَةِ فِي الْحَالِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مَشَاعًا، فَكَذَا الصَّدَقَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ؛ فَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي تَيْنِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنْ التَّمْلِيكِ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ مِنْ الْغَيْرِ حَتَّى يُشْتَرَطَ قَبْضُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ بِلَا تَمْلِيكٍ فَلَا يَرِدُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ فَلَا مُوْجِبَ لِاشْتِرَاطِ الْقِسْمَةِ فِيهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشَاعَ إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلَهَا، فَفِيمَا يَحْتَمِلُهَا أَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَقْفَهُ إلَّا الْمَسْجِدَ وَالْمَقْبَرَةَ وَالْخَانَ وَالسِّقَايَةَ، وَمَنَعَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله مُطْلَقًا، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا اتَّفَقُوا عَلَى إجَازَةِ وَقْفِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ وَالْمَقْبَرَةَ، فَصَارَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ جَعْلِ الْمَشَاعِ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهَا.

وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ وَعَدَمِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْهُ أَبُو يُوسُفَ أَجَازَ وَقْفَهُ، وَلَمَّا شَرَطَهُ مُحَمَّدٌ مَنَعَهُ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّائِعَ كَانَ مَقْبُوضًا لِمَالِكِهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَهُ لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ فَلِذَا مَنَعَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عِنْدَ إمْكَانِ تَمَامِ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقْسِمَ أَوَّلًا ثُمَّ يَقِفَهُ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ اعْتِبَارَ تَمَامِ الْقَبْضِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا، لِأَنَّهُ لَوْ قُسِمَ قَبْلَ الْوَقْفِ فَاتَ الِانْتِفَاعُ كَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَالْحَمَّامِ فَاكْتَفَى بِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا

ص: 211

وَلَوْ وَقَفَهُ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ بَطَلَ فِي الْبَاقِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مُقَارَنٌ كَمَا فِي الْهِبَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْبَعْضِ أَوْ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ وَقَدْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْقَفَهُ فِي مَرَضِهِ وَفِي الْمَالِ ضِيقٌ، لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي ذَلِكَ طَارِئٌ.

وَلَوْ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مُمَيَّزٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ وَلِهَذَا جَازَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ.

اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ وَقْفِ الْمَشَاعِ مُطْلَقًا مَسْجِدًا وَمَقْبَرَةً؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ خُلُوصَ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ جَوَازَ وَقْفِ الْمَشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّهَايُؤِ، وَالتَّهَايُؤُ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَحٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ مَسْجِدًا سَنَةً وَإِصْطَبْلًا لِلدَّوَابِّ سَنَةً وَمَقْبَرَةً عَامًا وَمَزْرَعَةً عَامًا أَوْ مِيضَأَةً عَامًا

وَأَمَّا النَّبْشُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ الْمُهَايَأَةِ بَلْ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ ذَلِكَ، ثُمَّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِصِحَّتِهِ وَطَلَبَ بَعْضُهُمْ الْقِسْمَةَ لَا يَقْسِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَتَهَايَئُونَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْسِمُ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْكُلَّ لَوْ كَانَ وَقْفًا عَلَى الْأَرْبَابِ وَأَرَادُوا الْقِسْمَةَ لَا تَجُوزُ، وَكَذَا التَّهَايُؤُ، وَعَلَيْهِ فُرِّعَ مَا لَوْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى سُكْنَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ مَا تَنَاسَلُوا، فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ غَلَّتُهَا لِلْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْفَ جَائِزٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَإِذَا انْقَرَضُوا تُكْرَى وَتُوضَعُ غَلَّتُهَا لِلْمَسَاكِينِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ السُّكْنَى أَنْ يُكْرِيَهَا، وَلَوْ زَادَتْ عَلَى قَدْرِ حَاجَةِ سُكْنَاهُ، نَعَمْ لَهُ الْإِعَارَةُ لَا غَيْرُ، وَلَوْ كَثُرَ أَوْلَادُ هَذَا الْوَاقِفِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الدَّارُ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا سُكْنَاهَا تُقَسَّطُ عَلَى عَدَدِهِمْ؛ وَلَوْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا إنْ كَانَ فِيهَا حُجَرٌ وَمَقَاصِيرُ كَانَ لِلذُّكْرَانِ أَنْ يُسَكِّنُوا نِسَاءَهُمْ مَعَهُمْ وَلِلْإِنَاثِ أَنْ تُسَكِّنَ أَزْوَاجَهُنَّ مَعَهُنَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَرٌ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تُقْسَمَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَقَعُ فِيهَا مُهَايَأَةٌ إنَّمَا سُكْنَاهُ لِمَنْ جَعَلَ لَهُ الْوَاقِفُ ذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ لَوْ سَكَنَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَجِدْ الْآخَرُ مَوْضِعًا يَكْفِيهِ لَا يَسْتَوْجِبُ أُجْرَةَ حِصَّتِهِ عَلَى السَّاكِنِ، بَلْ إنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْكُنَ مَعَهُ فِي بُقْعَةٍ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ بِلَا زَوْجَةٍ أَوْ زَوْجٍ إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ ذَلِكَ، وَإِلَّا تَرَكَ الْمُتَضَيِّقُ وَخَرَجَ أَوْ جَلَسُوا مَعًا كُلٌّ فِي بُقْعَةٍ إلَى جَنْبِ الْآخَرِ.

وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الشُّرُوحِ وَالْفَرْعِ فِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْت، وَكَيْفَ يُخَالِفُ، وَقَدْ نَقَلُوا إجْمَاعَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ؛ وَلَوْ اقْتَسَمَا: أَعْنِي الْوَاقِفَ لِلْمَشَاعِ وَشَرِيكَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَوَقَعَ نَصِيبُ الْوَاقِفِ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ كَانَ هُوَ الْوَقْفُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَهُ ثَانِيًا (قَوْلُهُ وَلَوْ وَقَفَ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ) يَعْنِي شَائِعًا (بَطَلَ الْوَقْفُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله)؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ الشُّيُوعَ كَانَ مُقَارِنًا لِلْوَقْفِ (كَمَا فِي الْهِبَةِ) إذَا وَهَبَ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهُ بَطَلَتْ لِهَذَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَ الْكُلَّ (ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْبَعْضِ أَوْ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ) الَّذِي وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الْكُلَّ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ طَارَ، وَإِذَا بَطَلَ الْوَقْفُ فِي الْبَاقِي رَجَعَ إلَى الْوَاقِفِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَإِلَى وَرَثَتِهِ إنْ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْوَاقِفِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يَجْعَلُهُ وَقْفًا (وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ جُزْءًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ) فَلِهَذَا جَازَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَقِفَ ذَلِكَ الْبَاقِيَ فَقَطْ (وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ) لَوْ اُسْتُحِقَّ مِنْهُمَا جُزْءٌ شَائِعٌ بَطَلَتْ، وَلَوْ

ص: 212

قَالَ: وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا سَمَّى فِيهِ جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ. لَهُمَا أَنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ، فَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، فَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ التَّقَرُّبَ تَارَةً يَكُونُ فِي الصَّرْفِ

اُسْتُحِقَّ مُعَيَّنٌ لَا تَبْطُلُ.

وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَقَفَاهَا عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَدَفَعَاهَا إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَمَامِ الصَّدَقَةِ شُيُوعٌ فِي الْمَحَلِّ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ، وَلَا شُيُوعَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَدَقَةٌ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْقَبْضِ مِنْ الْوَالِي فِي الْكُلِّ وُجِدَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهَا شَائِعًا عَلَى حِدَةٍ وَجَعَلَ لَهَا وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَتَانِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصَدَّقَ بِنَصِيبِهِ بِعُقْدَةٍ عَلَى حِدَةٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ لِنَصِيبِهِ وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ، حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا مَشَاعًا عَلَى رَجُلٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْآخَرُ بِالنِّصْفِ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ كُلٍّ مِنْهُمَا لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا؛ فَكَذَا قَبْضُ الْوَالِيَيْنِ هُنَا. وَلَوْ وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ وَجَعَلَا الْوَالِيَ وَاحِدًا فَسَلَّمَاهَا إلَيْهِ جَمِيعًا جَازَ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِالْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ مُجْتَمِعٌ (قَوْلُهُ وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا) كَالْمَسَاكِينِ وَمَصَالِحِ الْحَرَمِ وَالْمَسَاجِدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ لَا يَصِحُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخَرِّبَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ) هَذَا كَلَامُ الْقُدُورِيِّ.

وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا يُنَاسِبُ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ (إنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ) يَعْنِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَبَعْدَ الْحُكْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (زَوَالُ الْمِلْكِ بِلَا تَمْلِيكٍ وَزَوَالُهُ يَتَأَبَّدُ بِعِتْقٍ، وَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ) كَمَا لَوْ وَقَفَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لَوْ قَالَ بِجَوَازِ انْقِطَاعِهِ

ص: 213

إلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَمَرَّةً بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَتَأَبَّدُ فَيَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ كَالْعِتْقِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ أَوْ بِالْغَلَّةِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى التَّأْبِيدِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ.

وَعَوْدِهِ إلَى الْوَاقِفِ بَعْدَ انْقِطَاعِ تِلْكَ الْجِهَةِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ إذَا انْقَطَعَتْ صَارَ لِلْفُقَرَاءِ. ثُمَّ نَقَلَ الْقُدُورِيُّ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ثَابِتًا عَنْهُ مِنْ التَّأْبِيدِ حَيْثُ قَالَ (وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَشْتَرِطُ ذِكْرَ التَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مُنْبِئٌ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ) وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ) إنْ كَانَ وَقَفَ لِلسُّكْنَى (أَوْ بِالْغَلَّةِ) إنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَ السُّكْنَى، (وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُؤَبَّدًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمُؤَبَّدِ) بِعَيْنِهِ (فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ) عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُولِيَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لِمَا نَقَلَهُ مِنْ عِبَارَةِ الْقُدُورِيِّ؛ ثُمَّ يَذْكُرَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَيَذْكُرَ دَلِيلَهُمَا الْأَوَّلَ.

فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يُنَاسِبُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْجِهَةِ يَرْجِعُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ، وَقَدْ نَقَلَ مِنْ الْفُرُوعِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَمِنْهَا مَا فِي الْمَبْسُوطِ فِيمَا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَجَعَلَ لَهُنَّ السُّكْنَى بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَأَيُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ مِنْهُنَّ أَوْ خَرَجَتْ مُنْتَقِلَةً إلَى غَيْرِهِ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي السُّكْنَى، وَنَصِيبُهَا مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ بَقِيَتْ مِنْهُنَّ، فَذَلِكَ جَائِزٌ اعْتِبَارًا لِلسُّكْنَى بِالْغَلَّةِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَصِحُّ مِنْهُ لَهُنَّ فِي الْغَلَّةِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ كَانَ مِيرَاثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَوَسَّعُ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ فَلَا يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ، وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ زَوَالِ حَاجَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يُفَوِّتُ مُوجَبَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله التَّأْبِيدُ شَرْطٌ وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ يُبْطِلُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ وَصِيَّةً عِنْدَ مَوْتِهِ فَيَجُوزُ كَالْوَصِيَّةِ لِمَعْلُومٍ بِسُكْنَى دَارِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَلْزَمَ وَيَعُودَ إلَى الْوَرَثَةِ إذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا نُقِلَ لِلنَّاطِفِيِّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ شُرُوطِ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا وَقَفَ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ جَازَ، وَإِذَا مَاتَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ رَجَعَ الْوَقْفُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ.

قَالَ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَإِذَا عُرِفَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ جَوَازُ عَوْدِهِ إلَى الْوَرَثَةِ فَقَدْ يَقُولُ فِي وَقْفِ عِشْرِينَ سَنَةً بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ أَصْلًا، وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي الْبَرَامِكَةِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا انْقَرَضَ

ص: 214

قَالَ (وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ) لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَقَفُوهُ

الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ يُصْرَفُ الْوَقْفُ إلَى الْفُقَرَاءِ. قَالَ فِي الْأَجْنَاسِ: فَحَصَلَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ مَنْ تَزَوَّجَتْ أَوْ خَرَجَتْ مُنْتَقِلَةً عَنْهُ فَلَا حَقَّ لَهَا فَصَحِيحٌ، فَلَوْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ أَوْ عَادَتْ بَعْدَمَا انْتَقَلَتْ لَا يَرْجِعُ لَهَا مَا كَانَ لَهَا فِي الْوَقْفِ، بَلْ قَدْ سَقَطَ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ اسْتِحْقَاقَهَا بِأَحَدِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا يَعُودُ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولَ فَإِنْ عَادَتْ أَوْ فَارَقَتْ عَادَ مَا كَانَ لَهَا

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ) وَهُوَ الْأَرْضُ مَبْنِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ وَيَدْخُلُ الْبِنَاءُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ تَبَعًا فَيَكُونُ وَقْفًا مَعَهَا. وَفِي دُخُولِ الشَّجَرِ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الْخُلَاصَةِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: تَدْخُلُ الْأَشْجَارُ وَالْبِنَاءُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ كَمَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَيَدْخُلُ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تُوقَفُ إلَّا لِلِاسْتِغْلَالِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَاءِ وَالطَّرِيقِ فَيَدْخُلَانِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَلَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ الْقَائِمَةُ وَقْتَ الْوَقْفِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تُؤْكَلُ أَوْ لَا كَالْوَرْدِ وَالرَّيَاحِينِ؛ وَلَوْ قَالَ وَقَفْتهَا بِحُقُوقِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا قَالَ هِلَالٌ: لَا تَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُ التَّصَدُّقُ بِهَا عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا فَقَدْ تَكَلَّمَ بِمَا يُوجِبُ التَّصَدُّقَ، وَلَا تَدْخُلُ الزُّرُوعُ كُلُّهَا إلَّا مَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَا يُقْطَعُ فِي سَنَةٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ شَجَرٍ يُقْطَعُ فِي سَنَةٍ فَهُوَ لِلْوَاقِفِ، وَمَا لَا يُقْطَعُ فِي سَنَةٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْوَقْفِ؛ فَيَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ أُصُولُ الْبَاذِنْجَانِ وَقَصَبُ السُّكَّرِ، وَيَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْحَمَامِ الْقِدْرُ وَمُلْقَى سِرْقِينِهِ وَرَمَادِهِ، وَلَا يَدْخُلُ مَسِيلُ مَاءٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ طَرِيقٍ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ وَقَفُوهُ) قَدَّمْنَا ذِكْرَ جَمَاعَةٍ مِنْ الرِّجَالِ الصَّحَابَةِ وَنِسَائِهِمْ وَقَفُوا، وَأَسَانِيدُهَا مَذْكُورَةٌ فِي وَقْفِ الْخَصَّافِ. وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَقْفِ عُمَرَ رضي الله عنه أَرْضَهُ ثَمْغَ. وَأَخْرَجَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّام رضي الله عنه وَقَفَ دَارًا لَهُ عَلَى الْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ. قَالَ: وَالْمَرْدُودَةُ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَالْفَاقِدَةُ الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ: «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْضًا وَجَعَلَهَا لِابْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَنَا وَسَكَتَ هُوَ عَلَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ سَبْعِ الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ أَبِي سَابِعَ سَبْعَةٍ. وَكَانَتْ دَارُهُ عَلَى الصَّفَا وَهِيَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَفِيهَا دَعَا النَّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَسُمِّيَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا الْأَرْقَمُ عَلَى وَلَدِهِ. وَذَكَرَ أَنَّ نُسْخَةَ صَدَقَتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَضَى الْأَرْقَمُ، إلَى أَنْ قَالَ: لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ. وَفِي الْخِلَافِيَّاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ: وَتَصَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِدَارِهِ بِمَكَّةَ عَلَى وَلَدِهِ فَهِيَ إلَى الْيَوْمِ، وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بِرُبْعِهِ، وَتَصَدَّقَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه بِدَارِهِ بِالْمَدِينَةِ وَبِدَارِهِ بِمِصْرَ عَلَى وَلَدِهِ فَذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ، وَعُثْمَانُ رضي الله عنه بِرُومَةَ فَهِيَ إلَى الْيَوْمِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْوَهْطِ مِنْ الطَّائِفِ وَدَارِهِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَدِهِ فَذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ.

قَالَ: وَمَا لَا يَحْضُرُنِي كَثِيرٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ إجَازَتِهِ الْوَقْفَ. [فَرْعٌ]

إذَا كَانَتْ الدَّارُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً صَحَّ وَقْفُهَا وَإِنْ لَمْ تُحَدَّدْ اسْتِغْنَاءً لِشُهْرَتِهَا عَنْ تَحْدِيدِهَا. [فَرْعٌ آخَرُ]

وَقَفَ عَقَارًا عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ هَيَّأَ مَكَانًا لِبِنَائِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَهَا اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ وَالصَّحِيحُ

ص: 215

(وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأُكْرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ) وَكَذَا سَائِرُ آلَاتِ الْحِرَاسَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشُّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ، وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولِ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ فِيهِ تَبَعًا أَوْلَى.

(وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ) وَمَعْنَاهُ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ. الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ: مِنْهَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ حَبَسَ

الْجَوَازُ وَتُصْرَفُ غَلَّتُهَا إلَى الْفُقَرَاءِ إلَى أَنْ تُبْنَى، فَإِذَا بُنِيَتْ رُدَّتْ إلَيْهَا الْغَلَّةُ أَخْذًا مِنْ الْوَقْفِ عَلَى أَوْلَادِ فُلَانٍ وَلَا أَوْلَادَ لَهُ حَكَمُوا بِصِحَّتِهِ، وَتُصْرَفُ غَلَّتُهُ لِلْفُقَرَاءِ إلَى أَنْ يُولَدَ لِفُلَانٍ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ) كَذَا قَالَ الْقُدُورِيُّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ) أَيْ عَلَى الْإِطْلَاقِ (قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) ثُمَّ قَالَ الْقُدُورِيُّ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأُكْرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ) وَالْأُكْرَةُ الْحَرَّاثُونَ (وَكَذَا آلَاتُ الْحِرَاثَةِ) إذَا كَانَتْ تَبَعًا لِلْأَرْضِ يَجُوزُ (لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ) مِنْهَا (وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَبَيْعِ الشُّرْبِ) وَالطَّرِيقُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ تَبَعًا، وَهَذَا كَثِيرٌ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْعَدِّ.

وَلَوْ مَرِضَ بَعْضُهُمْ فَتَعَطَّلَ عَنْ الْعَمَلِ إنْ كَانَ الْوَاقِفُ جَعَلَ نَفَقَتَهُمْ فِي مَالِ الْوَقْفِ وَصَرَّحَ بِهَا فَهِيَ فِي مَالِ الْوَقْفِ وَإِلَّا لَا نَفَقَةَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي مَالِ الْوَقْفِ فَلِلْقَيِّمِ أَنْ يَبِيعَ مَنْ عَجَزَ، وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ آخَرَ يَعْمَلُ كَمَا لَوْ قُتِلَ فَأَخَذَ دِيَتَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا آخَرَ، وَلَوْ جَنَى أَحَدُهُمْ جِنَايَةً فَعَلَى الْقَيِّمِ أَنْ يَنْظُرَ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ دَفْعَ هَذَا الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ دَفَعَهُ أَوْ فِدَاءَهُ فَدَاهُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ، وَإِذَا فَدَاهُ بِفِدْيَةٍ تَزِيدُ عَلَى أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ مِنْ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ شَيْءٌ، فَإِنْ فَدَوْهُ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ (وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ) يَعْنِي فَلَا مَعْنَى لِإِفْرَادِ أَبِي يُوسُفَ (لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله، فَتَجْوِيزُهُ تَبَعًا لِلْعَقَارِ أَوْلَى وَضَمِيرُ لِأَنَّهُ لِلشَّأْنِ، أَمَّا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةً فِيهَا بَقَرٌ وَعَبِيدٌ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ الْآلَاتِ وَالْبَقَرِ وَالْعَبِيدِ فِي الْوَقْفِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ) وَهِيَ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ، (وَمَعْنَاهُ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ) أَيْضًا فِي ذَلِكَ (عَلَى مَا قَالُوا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ) مِنْ شَرْطِ التَّأْبِيدِ وَالْمَنْقُولُ لَا يَتَأَبَّدُ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ) أَيْ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ. مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَمَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ

ص: 216

أَدْرُعًا وَأَفْرَاسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلْحَةُ حَبَسَ دُرُوعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَيُرْوَى أَكْرَاعُه. وَالْكُرَاعُ: الْخَيْلُ. وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ الْإِبِلُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا، وَكَذَا السِّلَاحُ يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ مَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ كَالْفَأْسِ وَالْمَرِّ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْقُدُورِ وَالْمَرَاحِلِ وَالْمَصَاحِفِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ.

وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا وَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا شَعَرْت أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ طَلْحَةَ حَبَسَ دُرُوعَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فَلَمْ يُعْرَفْ، وَكَذَا لَمْ يُعْرَفْ جَمْعُهُ عَلَى أَكْرَاعٍ؛ لِأَنَّ فُعَالًا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ بَلْ عَلَى أَفْعُلٍ كَعُقَابٍ وَأَعْقُبٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَهُ فِي الصِّحَاحِ صِيغَتَيْ جَمْعٍ، قَالَ: فَالْجَمْعُ أَكْرُعٌ ثُمَّ أَكَارِعٌ، إلَّا أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الْوَفَاةُ قَالَ: لَقَدْ طَلَبْت الْقَتْلَ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي إلَّا أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي، وَمَا مِنْ عَمَلٍ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ، ثُمَّ قَالَ: إذَا أَنَا مِتّ فَانْظُرُوا سِلَاحِي وَفَرَسِي فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا السَّنَدِ فِي تَارِيخِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَقَالَ فِيهِ: مَا مِنْ عَمَلٍ أَرْجَى عِنْدِي بَعْدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ وَالسَّمَاءُ تَهُلْنِي نَنْظُرُ الصُّبْحَ حَتَّى نُغِيرَ عَلَى الْكُفَّارِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْإِبِلُ تَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَغْزُونَ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا مَعْقِلٍ جَعَلَ نَاضِحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ أَفَأَرْكَبُهُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ارْكَبِيهِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَقْفَ الْمَنْقُولِ تَبَعًا لِلْعَقَارِ يَجُوزُ. وَأَمَّا وَقْفُهُ مَقْصُودًا، إنْ كَانَ كُرَاعًا أَوْ سِلَاحًا جَازَ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَجْرِ التَّعَامُلُ بِوَقْفِهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ مُتَعَارَفًا كَالْجِنَازَةِ وَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَثِيَابِ الْجِنَازَةِ وَمِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَوَانِي وَالْقُدُورِ فِي غُسْلِ الْمَوْتَى وَالْمَصَاحِفِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ. وَفِي الْفَتَاوَى لِقَاضِي خَانْ. وَقَفَ بِنَاءً بِدُونِ أَرْضٍ قَالَ هِلَالٌ: لَا يَجُوزُ انْتَهَى. لَكِنْ فِي الْخَصَّافِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَتْ مُتَقَرِّرَةً لِلِاحْتِكَارِ جَازَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ وَقَفَ بِنَاءَ دَارٍ لَهُ دُونَ الْأَرْضِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ، قِيلَ لَهُ فَمَا تَقُولُ فِي حَوَانِيتِ السُّوقِ إنْ وَقَفَ رَجُلٌ حَانُوتًا مِنْهَا؟ قَالَ: إنْ كَانَ الْأَرْضُ إجَارَةً فِي أَيْدِي الْقَوْمِ الَّذِينَ بَنَوْهَا لَا يُخْرِجُهُمْ السُّلْطَانُ عَنْهَا فَالْوَقْفُ جَائِزٌ لِأَنَّا رَأَيْنَاهَا فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْبِنَاءِ يَتَوَارَثُونَهَا وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ السُّلْطَانُ وَلَا يُزْعِجُهُمْ عَنْهَا، وَإِنَّمَا لَهُ غَلَّةٌ يَأْخُذُهَا وَتَدَاوَلَهَا الْخُلَفَاءُ وَمَضَى عَلَيْهِ الدُّهُورُ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمْ يَتَبَايَعُونَهَا وَيُؤَاجِرُونَهَا وَتَجُوزُ فِيهَا وَصَايَاهُمْ وَيَهْدِمُونَ بِنَاءَهَا وَيَبْنُونَ غَيْرَهُ، فَأَفَادَ أَنَّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ جَازَ وَقْفُ الْبُنْيَانِ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا.

وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إذَا بَنَى قَنْطَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ وَلَا يَكُونُ بِنَاؤُهَا مِيرَاثًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا خَصَّ الْبِنَاءَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ تُتَّخَذَ عَلَى جَنْبَتَيْ النَّهْرِ الْعَامِّ وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَصْلِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّ وَقْفَ الْبِنَاءِ بِدُونِ أَصْلِ الدَّارِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْبِنَاءِ فِي أَرْضٍ هِيَ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِوَاقِفِ الْبِنَاءِ جَازَ عِنْدَ الْبَعْضِ.

ص: 217

وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْقِيَاسُ قَدْ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَعَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ إلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمْسَكُ لِلدِّينِ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَقِرَاءَةً، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَقْفُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ وَقْفُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْعَقَارَ وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ. وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لَا يَتَأَبَّدُ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ، وَلَا مُعَارِضَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي أَرْضِ وَقْفٍ جَازَ وَقْفُهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَكُونُ الْأَرْضُ وَقْفًا عَلَيْهَا.

ذَكَرَ الْكُلَّ فِي الْفَتَاوَى. وَإِطْلَاقُ الْإِجَارَةِ يُعَارِضُ قَوْلَ الْخَصَّافِ فِي أَرْضِ الْحُكُورِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ تَخْصِيصَهَا بِسَبَبِ أَنَّهَا صَارَتْ كَالْأَمْلَاكِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَسَمِعْته. وَفِي الْخُلَاصَةِ، إذَا وَقَفَ مُصْحَفًا عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إنْ كَانُوا يُحْصُونَ جَازَ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْمَسْجِدِ جَازَ وَيُقْرَأُ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا وَقْفُ الْكُتُبِ فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ لَا يُجِيزُهُ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى يُجِيزُهُ وَوَقَفَ كُتُبَهُ، وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُجِيزُهُ وَبِهِ نَأْخُذُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَى خِلَافِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ (وَمُحَمَّدٌ رحمه الله يَقُولُ: الْقِيَاسُ يَنْزِلُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ عِنْدَنَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: كُلُّ مَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ وَقْفُهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَيْضًا.

وَأَمَّا وَقْفُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَمَا لَيْسَ بِحُلِيٍّ. وَأَمَّا الْحُلِيُّ فَيَصِحُّ وَقْفُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ حَفْصَةَ رضي الله عنها ابْتَاعَتْ حُلِيًّا بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَحَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاتَهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ، وَأَنْكَرَ الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي. وَحَاصِلُ وَجْهِ الْجَمَاعَةِ الْقِيَاسُ عَلَى الْكُرَاعِ، وَعَارَضَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ حُكْمَ

ص: 218

وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقَارَ يَتَأَبَّدُ، وَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ، فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِمَا أَقْوَى فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا.

الْوَقْفِ الشَّرْعِيِّ التَّأْبِيدُ وَلَا يَتَأَبَّدُ غَيْرُ الْعَقَارِ، غَيْرَ أَنَّهُ تُرِكَ فِي الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ سَنَامُ الدِّينِ، فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِمَا أَقْوَى، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْوَقْفِ فِيهِمَا شَرْعِيَّتُهُ فِيمَا هُوَ دُونَهُمَا، وَلَا يُلْحَقُ دَلَالَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا. وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَنْقُولِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لِمَا رَأَوْا مِنْ جَرَيَانِ التَّعَامُلِ فِيهَا. فَفِي الْخُلَاصَةِ: وَقَفَ بَقَرَةً عَلَى أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْ لَبَنِهَا وَسَمْنِهَا يُعْطَى لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ قَالَ: إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ غَلَبَ ذَلِكَ فِي أَوْقَافِهِمْ رَجَوْت أَنْ يَكُونَ جَائِزًا.

وَعَنْ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ زُفَرَ فِيمَنْ وَقَفَ الدَّرَاهِمَ أَوْ الطَّعَامَ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ مَا يُوزَنُ أَيَجُوزُ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قِيلَ وَكَيْفَ؟ قَالَ يَدْفَعُ الدَّرَاهِمَ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ، وَمَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ يُبَاعُ وَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً. قَالَ: فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إذَا وَقَفَ هَذَا الْكُرَّ مِنْ الْحِنْطَةِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقْرَضَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا بَذْرَ لَهُمْ لِيَزْرَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَدْرُ الْقَرْضِ، ثُمَّ يُقْرَضُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَبَدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا. قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الرَّيِّ وَنَاحِيَةِ دَنْبَاوَنْدَ، وَالْأَكْسِيَةُ وَأَسْتِرَةُ الْمَوْتَى إذَا وَقَفَ صَدَقَةً أَبَدًا جَازَ فَتُدْفَعُ الْأَكْسِيَةُ لِلْفُقَرَاءِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهَا فِي أَوْقَاتِ لُبْسِهَا؛ وَلَوْ وَقَفَ ثَوْرًا لِإِنْزَاءِ بَقَرِهِمْ لَا يَصِحُّ. ثُمَّ إذَا عَرَفَ جَوَازَ وَقْفِ الْفَرَسِ وَالْجَمَلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَوْ وَقَفَهُ عَلَى أَنْ يَمْسِكَهُ مَا دَامَ حَيًّا إنْ أَمْسَكَهُ لِلْجِهَادِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لِجَاعِلِ فَرَسِ السَّبِيلِ أَنْ يُجَاهِدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَصَحَّ جَعْلُهُ لِلسَّبِيلِ: يَعْنِي يَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيَصِحُّ وَقْفُهُ، وَلَا يُؤَاجَرُ فَرَسُ السَّبِيلِ إلَّا إذَا اُحْتِيجَ إلَى نَفَقَتِهِ فَيُؤَاجَرُ بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ.

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَهَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا احْتَاجَ إلَى نَفَقَةٍ يُؤَاجِرُ قِطْعَةً مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ اهـ. وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْقُبْحِ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ الْمَسْجِدَ مِنْ وَقْفِ الْمَشَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ عَامًا وَإِصْطَبْلًا يُرْبَطُ فِيهِ الدَّوَابُّ عَامًا، وَلَوْ قِيلَ إنَّمَا يُؤَاجَرُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَنَقُولُ غَايَةُ مَا يَكُونُ لِلسُّكْنَى وَيَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الْمُجَامَعَةِ فِيهِ وَإِقَامَةَ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فِيهِ، وَلَوْ قِيلَ لَا يُؤَاجَرُ لِذَلِكَ فَكُلُّ عَمَلٍ يُؤَاجَرُ لَهُ فِيهِ تَغْيِيرُ أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بِاحْتِيَاجِهِ إلَى النَّفَقَةِ لَا تَتَغَيَّرُ أَحْكَامُهُ الشَّرْعِيَّةُ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا.

نَعَمْ إنْ خَرِبَ مَا حَوْلَهُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَتَجِبُ عِمَارَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي الْخُلَاصَةِ أَيْضًا: يَجُوزُ وَقْفُ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي عَلَى مَصَالِحِ الرِّبَاطِ، وَإِذَا زَوَّجَ السُّلْطَانُ أَوْ الْقَاضِي جَارِيَةَ الْوَقْفِ يَجُوزُ، وَلَوْ زَوَّجَ عَبْدَ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ اكْتِسَابًا لِلْوَقْفِ دُونَ الثَّانِي، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ أَمَةَ الْوَقْفِ مِنْ عَبْدِ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ. وَمِنْ فُرُوعِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ وَقْفُ دَارٍ فِيهَا حَمَّامَاتٌ يَخْرُجْنَ وَيَرْجِعْنَ يَدْخُلُ فِي وَقْفِهِ الْحَمَّامَاتُ الْأَصْلِيَّةُ قَالَ الْفَقِيهُ: هُوَ كَوَقْفِ الضَّيْعَةِ مَعَ الثِّيرَانِ. وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَمَّنْ وَقَفَ شَجَرَةً بِأَصْلِهَا وَالشَّجَرَةُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِأَوْرَاقِهَا وَثَمَرِهَا قَالَ: الْوَقْفُ جَائِزٌ وَيُنْتَفَعُ بِثَمَرِهَا وَلَا يُقْطَعُ أَصْلُهَا إلَّا أَنْ تَفْسُدَ أَغْصَانُهَا، فَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِأَوْرَاقِهَا وَثَمَرِهَا فَإِنَّهَا تُقْطَعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهَا إلَى سَبِيلِهِ، فَإِنْ نَبَتَتْ ثَانِيًا وَإِلَّا غَرَسَ مَكَانَهَا. وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عَنْ شَجَرَةِ وَقْفٍ يَبِسَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَقَالَ: مَا يَبِسَ مِنْهَا فَسَبِيلُهُ

ص: 219

قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبُ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ) أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ فَلِأَنَّهَا تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَقْفِ جَعَلْنَا الْغَالِبَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا وَتَمْلِيكًا؛ ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ إلَى وَصِيَّةٍ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَاَلَّذِي يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي أَوْ يَبِيعُ نَصِيبَهُ الْبَاقِي مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ

سَبِيلُ غَلَّتِهَا، وَمَا بَقِيَ مَتْرُوكٌ عَلَى حَالِهَا

(قَوْلُهُ وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ) أَيْ لَزِمَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ. ثُمَّ قَوْلُهُ (لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ) هُوَ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا فَيَطْلُبَ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَتَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ، أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا) مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ» وَمِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى آخِرِهِ، وَلِأَنَّهُ بِاللُّزُومِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَبِلَا مِلْكٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْعِ (وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ) أَيْ عِنْدَهُمَا، فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِصِحَّةِ وَقْفِ الْمَشَاعِ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةٌ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الرَّاجِحُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ (فَلِأَنَّهَا تَمْيِيزٌ) مَعْنًى (وَإِفْرَازُ غَايَةِ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَقْفِ جَعَلْنَا الْغَالِبَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا وَتَمْلِيكًا، ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَوَقْفُ الْمَشَاعِ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ (وَ) لَوْ طَلَبَ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ (بَعْدَ مَوْتِهِ) فَالْقِسْمَةُ (إلَى وَصِيِّهِ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَ) لِلْقِسْمَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ (يُقَاسِمَهُ الْقَاضِي) بِأَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَيْهِ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ الْقِسْمَةَ فَيَأْمُرَ رَجُلًا أَنْ يُقَاسِمَهُ (الثَّانِي أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ الْبَاقِيَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُقَاسِمَ الْمُشْتَرِيَ ثُمَّ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ مِنْهُ)

ص: 220

لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ إنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ لَا يَجُوزُ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْوَقْفِ، وَإِنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ جَازَ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ شِرَاءً

قَالَ (وَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ) لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا، وَلَا تَبْقَى دَائِمَةً إلَّا بِالْعِمَارَةِ فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْعِمَارَةِ اقْتِضَاءً

إنْ أَحَبَّ، وَهَذَا (لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ) بِأَنْ كَانَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ أَجْوَدَ مِنْ الْآخَرِ فَجَعَلَ بِإِزَاءِ الْجَوْدَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَ الْآخِذُ لِلدَّرَاهِمِ هُوَ الْوَاقِفُ بِأَنْ كَانَ النِّصْفُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْوَقْفِ هُوَ الْأَحْسَنُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا بَعْضَ الْوَقْفِ وَبَيْعُ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ شَرِيكَهُ بِأَنْ كَانَ النَّصِيبُ الْوَقْفُ أَحْسَنَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ مُشْتَرٍ لَا بَائِعٌ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بَعْضَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَوَقَفَهُ.

فَقَوْلُهُ (إنْ أُعْطَى الْوَاقِفُ لَا يَجُوزُ) يَصِحُّ عَلَى بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ الْوَاقِفِ، وَيَصِحُّ عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْوَاقِفِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ فِي غَيْرِ الْقِسْمَةِ فِيمَا إذَا كَانَ قَائِمًا عَامِرًا، أَمَّا إذَا تَهَدَّمَ وَلَا حَاصِلَ لَهُ يَعْمُرُ بِهِ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ إنْ كَانَ حَيًّا، وَإِلَى وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا. وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَظَرٌ: يَعْنِي لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَمَا خَرَجَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِرُجُوعِهِ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ خُلُوصَهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَافِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْفَائِدَةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ انْتِفَاؤُهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رِيعٌ يُعَادُ بِهِ وَلَا يُوجَدُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَيُعَمِّرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ حَانُوتٌ احْتَرَقَ فِي السُّوقِ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُسْتَأْجَرُ أَلْبَتَّةَ، وَحَوْضُ مَحَلَّةٍ خَرِبَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ عِمَارَتُهُ فَهُوَ لِلْوَاقِفِ وَلِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاقِفُهُ وَوَرَثَتُهُ لَا تُعْرَفُ فَهُوَ لُقَطَةٌ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.

زَادَ فِي فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ: إذَا كَانَ كَاللُّقَطَةِ يَتَصَدَّقُونَ بِهِ عَلَى فَقِيرٍ ثُمَّ يَبِيعُهُ الْفَقِيرُ فَيَنْتَفِعُ بِثَمَنِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا يَصِيرُ لِبَيْتِ الْمَالِ إذَا عُرِفَ الْوَاقِفُ وَعُرِفَ مَوْتُهُ وَانْقِرَاضُ عَقِبِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا ضَعُفَتْ الْأَرْضُ عَنْ الِاسْتِغْلَالِ وَيَجِدُ الْقَيِّمُ بِثَمَنِهَا أُخْرَى هِيَ أَكْثَرُ رِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ رِيعًا. وَأَمَّا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا خَافَ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ مِنْ وَارِثٍ أَوْ سُلْطَانٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِ. قَالَ فِي النَّوَازِلِ: يَبِيعُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا. قَالَ: وَكَذَا كُلُّ قَيِّمٍ خَافَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: فَالْفَتْوَى عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَ مَا صَحَّ بِشَرَائِطِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى ذَكَرَ فِي شَجَرَةِ جَوْزٍ وَقْفٍ فِي دَارِ وَقْفٍ خَرِبَتْ الدَّارُ لَا تُبَاعُ الشَّجَرَةُ لِعِمَارَةِ الدَّارِ بَلْ تُكْرَى الدَّارُ، وَيُسْتَعَانُ بِنَفْسِ الْجَوْزِ عَلَى الْعِمَارَةِ، ثُمَّ إذَا جَازَ بَيْعُ الْأَشْجَارِ الْمَوْقُوفَةِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْقَطْعِ بَلْ بَعْدَهُ، هَكَذَا عَنْ الْفَضْلِيِّ فِي الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَفِي غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ قَالَ: يَجُوزُ قَبْلَ الْقَلْعِ لِأَنَّهَا هِيَ الْغَلَّةُ، وَبِنَاءُ الْوَقْفِ وَالنَّبَاتِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْهَدْمِ وَالْقَلْعِ كَالْمُثْمِرَةِ كَذَا قَبْلُ. وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي إذَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ كَوْنُهُ قَبْلَ الْهَدْمِ دَفْعًا لِزِيَادَةِ مُؤْنَةِ الْهَدْمِ، إلَّا أَنْ تَزِيدَ الْقِيمَةُ بِالْهَدْمِ. وَفِي زِيَادَاتِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَامِدٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَحَصِيرِهِ إذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُ

(قَوْلُهُ وَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ) لِأَنَّ الْغَرَضَ لِكُلِّ وَاقِفٍ وُصُولُ الثَّوَابِ مُؤَبَّدًا وَذَلِكَ (بِصَرْفِ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا) وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِلَا عِمَارَةٍ، فَكَانَتْ الْعِمَارَةُ مَشْرُوطَةً اقْتِضَاءً، وَلِهَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ فِي شَيْءٍ مِنْ رَسْمِ الصُّكُوكِ فَاشْتَرَطَ أَنْ يَرْفَعَ الْوَالِي مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ عَامٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْبَذْرِ وَأَرْزَاقِ الْوُلَاةِ عَلَيْهَا

ص: 221

وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، فَإِنَّهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا. ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَظْفَرُ بِهِمْ، وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ هَذِهِ الْغَلَّةُ فَتَجِبُ فِيهَا. وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَهُوَ فِي مَالِهِ: أَيِّ مَالٍ شَاءَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعِمَارَةَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَفَهُ، وَإِنْ خَرِبَ يَبْنِي عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهَا بِصِفَتِهَا صَارَتْ غَلَّتُهَا مَصْرُوفَةً إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ عَلَيْهِ وَالْغَلَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْعِمَارَةِ ضَرُورَةُ إبْقَاءِ الْوَقْفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ.

وَالْعَمَلَةِ وَأُجُورِ الْحُرَّاسِ وَالْحَصَّادِينَ وَالدَّارِسِينَ؛ لِأَنَّ حُصُولَ مَنْفَعَتِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِدَفْعِ هَذِهِ الْمُؤَنِ مِنْ رَأْسِ الْغَلَّةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَقُّ بِلَا شَرْطٍ عِنْدَنَا لَكِنْ لَا يُؤْمَنُ جَهْلُ بَعْضِ الْقُضَاةِ فَيَذْهَبُ رَأْيُهُ إلَى قِسْمَةِ جَمِيعِ الْغَلَّةِ، فَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي صَكِّهِ يَقَعُ الْأَمْنُ بِالشَّرْطِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ) أَيْ الِانْتِفَاعُ بِخَرَاجِ الشَّيْءِ كَغَلَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِقِيَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ: أَيْ لِكَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لَوْ تَلِفَ تَلِفَ مِنْ ضَمَانِ الْمُسْتَغِلِّ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مَخْلَدِ بْنِ أَبِي خِفَافٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْمَمْلُوكَ فَيَسْتَغِلُّهُ، ثُمَّ يَجِدُ بِهِ عَيْبًا كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَقُضِيَ أَنَّهُ يَرُدُّ الْعَبْدَ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ، وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ فَيَأْخُذُهُ وَتَكُونُ لَهُ الْغَلَّةُ طَيِّبَةً وَهُوَ الْخَرَاجُ، وَإِنَّمَا طَابَتْ لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لِلْعَبْدِ، وَلَوْ مَاتَ مَاتَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ اهـ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ نَقَضَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَاءَهُ حِينَ قَضَى بِالْغَلَّةِ لِلْبَائِعِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَفِي مَعْنَاهُ:«الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ» . وَقَدْ جَرَى لَفْظُهُ مَجْرَى الْمَثَلِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ.

وَقَوْلُهُ (وَصَارَ) أَيْ عِمَارَةُ الْوَقْفِ (كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ فَإِنَّهَا) تَكُونُ (عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا)(قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَا يَظْفَرُ بِهِمْ) لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَلْزَمُوا لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ وَلِعُسْرَتِهِمْ (وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ هَذِهِ الْغَلَّةُ) الْكَائِنَةُ لِلْوَقْفِ (فَتَجِبُ) الْعِمَارَةُ فِيهَا (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) أَوْ رِجَالٍ (وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَهُوَ فِي مَالِهِ أَيِّ مَالٍ شَاءَ فِي حَيَاتِهِ) فَإِذَا مَاتَ فَمِنْ الْغَلَّةِ (وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ) عَيْنًا (لِأَنَّهُ) رَجُلٌ (مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ) ثُمَّ هُوَ يُعْطِي إنْ شَاءَ مِنْ الْغَلَّةِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا، ثُمَّ الْعِمَارَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَيْهِ إنَّمَا هِيَ (بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ بِهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَفَ) عَلَيْهَا (فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ) فَلَا تُصْرَفُ فِي الْعِمَارَةِ (إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ) أَيْ لَا يُزَادُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا (وَعِنْدَ آخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ) أَيْ الزِّيَادَةُ (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) لِأَنَّهُ صَرَفَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ إلَى غَيْرِ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمْ، وَلَا تُؤَخَّرُ الْعِمَارَةُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا

ص: 222

قَالَ (فَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ سُكْنَى) لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ (فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا آجَرَهَا الْحَاكِمُ وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا، وَإِذَا عَمَّرَهَا رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ، وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ.

وَتُقْطَعُ الْجِهَاتُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَيْهَا لَهَا إنْ لَمْ يُخَفْ ضَرَرٌ بَيِّنٌ، فَإِنْ خِيفَ قُدِّمَ.

وَأَمَّا النَّاظِرُ فَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ مِنْ الْوَاقِفِ فَهُوَ كَأَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَإِذَا قَطَعُوا لِلْعِمَارَةِ قَطَعَ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ كَالْفَاعِلِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوَهُمَا فَيَأْخُذُ قَدْرَ أُجْرَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ لَا يَأْخُذْ شَيْئًا. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ: رَجُلٌ وَقَفَ ضَيْعَةً عَلَى مَوَالِيهِ وَمَاتَ فَجَعَلَ الْقَاضِي الْوَقْفَ فِي يَدِ قَيِّمٍ، وَجَعَلَ لَهُ عُشْرَ الْغَلَّاتِ مَثَلًا وَفِي الْوَقْفِ طَاحُونَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ بِالْمُقَاطَعَةِ لَا حَاجَةَ فِيهَا إلَى الْقَيِّمِ، وَأَصْحَابُ هَذِهِ الطَّاحُونَةِ يَقْسِمُونَ غَلَّتَهَا لَا يَجِبُ لِلْقَيِّمِ فِيهَا ذَلِكَ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْقَيِّمَ لَا يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْأَجْرِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِلَا عَمَلٍ اهـ. فَهَذَا عِنْدَنَا فِيمَنْ لَمْ يَشْرِطْ لَهُ الْوَاقِفُ شَيْئًا؛ أَمَّا إذَا شَرَطَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ

(قَوْلُهُ فَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ) أَوْ غَيْرِ وَلَدِهِ (فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى)؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ فَقِيرًا أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ (وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا) ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى (لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ) وَهُوَ الْعِمَارَةُ (أَوْلَى) مِنْ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ عِمَارَتِهَا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ إحْدَاهُمَا (وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ) إلْزَامِ الضَّرَرِ (بِإِتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ) فِيهِمَا إذَا عَقَدَ عَقْدَ (الْمُزَارَعَةِ) وَبَيَّنَا مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ فَامْتَنَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ عَنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ (ثُمَّ لَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ) يَعْنِي دَلَالَةَ الِامْتِنَاعِ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مُتَرَدِّدٌ فِيهَا لِجَوَازِ كَوْنِ امْتِنَاعِهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعِمَارَةِ أَوْ لِرَجَائِهِ اصْطِلَاحَ الْقَاضِي كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُ لِرِضَاهُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا قَالَ أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ (لَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى) وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ) وَفِي تَقْرِيرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْمَنْفَعَةِ بَلْ أُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ.

فَإِنَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ السُّكْنَى أَنْ يُعِيرَ الدَّارَ، وَالْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِلَا عِوَضٍ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي وَقْفِ الْخَصَّافِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْعَيْنِ وَالْإِجَارَةُ تَتَوَقَّفُ

ص: 223

قَالَ (وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ) صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفَهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِمَارَةِ لِيَبْقَى عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ. فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ صَرَفَهَا فِيهَا، وَإِلَّا أَمْسَكَهَا حَتَّى لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوَانَ الْحَاجَةِ فَيَبْطُلُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إعَادَةُ عَيْنِهِ إلَى مَوْضِعِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إلَى الْمَرَمَّةِ صَرْفًا لِلْبَدَلِ إلَى مَصْرِفِ الْمُبْدَلِ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَهُ) يَعْنِي النَّقْضَ (بَيْنَ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِيهِ: وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ، وَالْعَيْنُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصْرِفُ إلَيْهِمْ غَيْرَ حَقِّهِمْ.

عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا بَيْعُ الْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ مَعْدُومَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِلْكُهَا لِيَمْلِكَهَا فَأُقِيمَتْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِيَرُدَّ عَلَيْهَا الْعَقْدَ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ إجَارَةُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَأَنْ لَا يَصِحَّ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ السُّكْنَى الْإِعَارَةُ لَكِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا ذَكَرْنَا؛ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ؛ لِأَنَّهُ تَمَلُّكُ الْمَنَافِعِ بِلَا بَدَلٍ فَلَمْ يَمْلِكَ تَمْلِيكَهَا بِبَدَلٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ، وَإِلَّا لَمَلَكَ أَكْثَرَ مِمَّا مَلَكَ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ يُفِيدُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ السُّكْنَى وَغَيْرِهِ، حَتَّى أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الدَّارُ الْمُسْتَحِقَّ لِلْغَلَّةِ أَيْضًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْعَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَيْنِ مَقَامَ مَنَافِعِهَا لِيَرُدَّ عَلَيْهِ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بَلْ مَا مَلَكَهُ مِنْ الْمَنَافِعِ بِلَا بَدَلٍ.

وَنَصَّ الْأُسْرُوشَنِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنْقُولِ أَنَّ إجَارَةَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ الْمُتَوَلِّي أَوْ الْقَاضِي. وَنُقِلَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْوَقْفُ لَا يَسْتَرِمُّ تَجُوزُ إجَارَتُهُ وَهَذَا فِي الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ. وَأَمَّا الْأَرَاضِي فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ تَقْدِيمَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ فَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ وَيَكُونَ الْخَرَاجُ وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ، هَذَا وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ السُّكْنَى بِالْعِمَارَةِ وَلَمْ يَجِدْ الْقَاضِي مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا لَمْ أَرَ حُكْمَ هَذِهِ فِي الْمَنْقُولِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَالْحَالُ فِيهَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ تَصِيرَ نَقْضًا عَلَى الْأَرْضِ كَرَمَادٍ تَسْفُوهُ الرِّيَاحُ، وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ يُخَيِّرُهُ الْقَاضِي بَيْنَ أَنْ يُعَمِّرَهَا فَيَسْتَوْفِيَ مَنْفَعَتَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ

(قَوْلُهُ وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ) وَهُوَ بِالْجَرِّ كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَقَدْ يُضَمُّ عَطْفًا عَلَى مَا صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بِالِانْهِدَامِ تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى عِمَارَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَا مَعْنَى لِلشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّهَيُّؤُ لِلْعِمَارَةِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ صَرَفَهُ إلَيْهَا، وَإِلَّا حَفِظَهُ حَتَّى يَتَهَيَّأَ ذَلِكَ وَتَتَحَقَّقَ الْحَاجَةُ، فَإِنَّ الْمُنْهَدِمَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا جِدًّا لَا يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْوَقْفِ وَلَا يَقْرَبُهُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَيُؤَخَّرُ حَتَّى تَحْسُنَ أَوْ تَجِبَ الْعِمَارَةُ؛ وَإِنْ تَعَذَّرَتْ إعَارَتُهُ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ الصَّلَاحِيَةِ لِذَلِكَ لِضَعْفِهِ وَنَحْوِهِ بَاعَهُ وَصَرَفَ ثَمَنَهُ فِي ذَلِكَ إقَامَةً لِلْبَدَلِ مَقَامَ الْمُبْدَلِ، وَلَا يَقْسِمُهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَيْنِ الْوَقْفِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ، لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّهُمْ فِي الْغَلَّةِ فَقَطْ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ بِهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَقْفُ الْوَاقِفِ، أَمَّا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُتَوَلِّي مِنْ مُسْتَغَلَّاتِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَا هَذَا الشَّرْطِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي صَيْرُورَتِهِ وَقْفًا خِلَافًا،

ص: 224

قَالَ (وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) قَالَ رضي الله عنه: ذَكَرَ فَصْلَيْنِ شَرْطَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ وَجَعْلَ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ الرَّازِيّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَالْإِفْرَازِ. وَقِيلَ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَعْضَ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَفِيمَا إذَا شَرَطَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ سَوَاءٌ؛ وَلَوْ وَقَفَ وَشَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ مَا دَامُوا أَحْيَاءً، فَإِذَا مَاتُوا فَهُوَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ.

وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَقْفًا فَلِلْقَيِّمِ أَنْ يَبِيعَهُ مَتَى شَاءَ لِمَصْلَحَةٍ عَرَضَتْ

(قَوْلُهُ وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) فَهَذَانِ فَصْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْقُدُورِيُّ (شَرَطَ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ وَجَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ)

وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالزُّهْرِيِّ. وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ابْنُ سُرَيْجٍ (وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهِلَالٍ) الرَّأْيِيِّ وَهُوَ هِلَالُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُسْلِمٍ الْبَصْرِيُّ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إلَى الرَّأْيِ: أَيْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَرَأْيِهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ الْبَصْرِيِّ، وَيُوسُفُ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ إنَّ هِلَالًا أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ. وَوَقَعَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا الرَّازِيّ. وَفِي الْمُغْرِبِ هُوَ تَحْرِيفٌ، بَلْ هُوَ الرَّأْيِيُّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ لِأَنَّهُ مِنْ الْبَصْرَةِ لَا مِنْ الرَّيِّ. وَالرَّازِيُّ نِسْبَةً إلَى الرَّيِّ، وَهَكَذَا صَحَّحَ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ، وَالْخِلَافُ فِي شَرْطِ كُلِّ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ وَبَعْدَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ بَعْضِهَا وَبَعْدَهُ لِلْفُقَرَاءِ.

ثُمَّ (قِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ) أَيْ قَبْضِ الْمُتَوَلِّي، فَلَمَّا شَرَطَهُ مُحَمَّدٌ مَنَعَ اشْتِرَاطَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ فِيهِ، وَمَا شَرَطَ الْقَبْضَ إلَّا لِيَنْقَطِعَ حَقُّهُ، وَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْهُ أَبُو يُوسُفَ لَمْ يَمْنَعْهُ (وَقِيلَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ) غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ وَهُوَ أَوْجَهُ، ثُمَّ وَصَلَ الْمُصَنِّفُ

ص: 225

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، فَاشْتِرَاطُهُ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفِّذَةِ، وَشَرْطَ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ.

وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ» وَالْمُرَادُ مِنْهَا صَدَقَتُهُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بِالشَّرْطِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، فَقَدْ جَعَلَ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ يَجْعَلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ،

بِهَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ مَا إذَا شَرَطَ الْغَلَّةَ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ مَا دَامُوا أَحْيَاءً، فَإِذَا مَاتُوا كَانَ لِلْفُقَرَاءِ بِنَاءً عَلَى جَعْلِ الْخِلَافِ الْمَعْلُومِ جَارِيًا فِيهَا عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ. وَقِيلَ بَلْ صِحَّةُ شَرْطِ الْغَلَّةِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ، فَإِنَّ الْكُلَّ جَعَلُوا الصِّحَّةَ بِالِاتِّفَاقِ.

وَفَرَّقَ فِي الْمَبْسُوطِ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله بَيْنَ شَرْطِ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَلِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ حَيْثُ يَجُوزُ مَعَ أَنَّ شَرْطَهُ لَهُنَّ وَلِمُدَبَّرِيهِ كَشَرْطٍ لِنَفْسِهِ بِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ ثَبَتَتْ بِمَوْتِهِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَجَانِبِ، وَيَكُونُ ثُبُوتُهُ لَهُمْ حَالَةَ حَيَاتِهِ تَبَعًا لِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ إذَا قَالَ فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ وَفَاتِي يَلْزَمُ، أَمَّا لَوْ وَقَفَ عَلَى عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتِقُونَ بِمَوْتِهِ فَلَا تَبَعِيَّةَ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَشَرْطِهِ لِنَفْسِهِ (وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله إنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ) لِلْغَلَّةِ أَوْ لِلسُّكْنَى (فَاشْتِرَاطُ الْبَعْضِ أَوْ الْكُلِّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ) بِأَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ بِمَالٍ وَسَلَّمَ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ لِي لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، إذْ لَمْ يَكُنْ مُمَلَّكًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إلَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَكَذَا فِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ (وَكَشَرْطِ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ) بَيْتًا (وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ» وَالْمُرَادُ صَدَقَتُهُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بِالشَّرْطِ) فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا لَمْ يَشْرِطْ لِنَفْسِهِ الْأَكْلَ مِنْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَطَهُ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا أَنَّ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ «قَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ حُجْرًا الْمَدْرِيَّ أَخْبَرَنِي قَالَ: إنَّ فِي صَدَقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهَا أَهْلُهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ» .

(وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فَقَدْ جَعَلَ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ لِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ)

ص: 226

كَمَا إذَا بَنَى خَانًا أَوْ سِقَايَةً أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً، وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَهُ أَوْ يَشْرَبَ مِنْهُ أَوْ يُدْفَنَ فِيهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْقُرْبَةُ وَفِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ» .

وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.

كَذَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَعَلَى مَا سَلَفَ لَنَا فِي اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرِّرَ هَكَذَا الْمَوْقُوفُ إزَالَةَ الْمِلْكِ الْكَائِنِ بِالْعَيْنِ وَإِسْقَاطَهُ لَا إلَى مَالِكٍ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ شَرْطُهُ الْغَيْرُ الْمُنَافِي لِلْقُرْبَةِ وَالشَّرْعِ، وَشَرْطُ النَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ (كَمَا إذَا بَنَى خَانًا وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ أَوْ سِقَايَةً وَشَرَطَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهَا أَوْ مَقْبَرَةً وَشَرَطَ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ») رُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ يَبْلُغُ بِهَا الشُّهْرَةَ، فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَا مِنْ كَسْبِ الرَّجُلِ كَسْبٌ أَطْيَبُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ بُجَيْرٍ بِلَفْظِ: «مَا أَطْعَمْت نَفْسَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَيُّمَا رَجُلٍ كَسَبَ مَالًا حَلَالًا فَأَطْعَمَهُ نَفْسَهُ أَوْ كَسَاهَا فَمَنْ دُونَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ لَهُ زَكَاةً» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ «فَإِنَّهُ لَهُ زَكَاةٌ» وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى بِهِ عِرْضَهُ صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ. وَفِيهِ فَقُلْت لِمُحَمَّدٍ بْنِ الْمُنْكَدِرِ: مَا مَعْنَى وَقَى بِهِ عِرْضَهُ قَالَ: أَنْ يُعْطِيَ الشَّاعِرَ وَذَا اللِّسَانِ الْمُتَّقَى. وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِرَجُلٍ ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِك» الْحَدِيثَ، فَقَدْ تَرَجَّحَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَنَحْنُ أَيْضًا نُفْتِي بِقَوْلِهِ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ، وَاخْتَارَهُ مَشَايِخُ بَلْخَ، وَكَذَا ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ حَيْثُ أَخَّرَ وَجْهَهُ وَلَمْ يَدْفَعْهُ.

وَمِنْ صُوَرِ الِاشْتِرَاطِ لِنَفْسِهِ مَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ غَلَّتِهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا حَدَثَ عَلَيَّ الْمَوْتُ وَعَلَيَّ دَيْنٌ يُبْدَأُ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ بِقَضَاءِ مَا عَلَيَّ فَمَا فَضَلَ فَعَلَى سَبِيلِهِ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ إذَا شَرَطَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَحَشَمِهِ وَعِيَالِهِ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ فَجَاءَتْ غَلَّتُهُ فَبَاعَهَا وَقَبَضَ ثَمَنَهَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُنْفِقَ ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِأَهْلِ الْوَقْفِ؟ قَالَ: يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ ذَلِكَ وَكَانَ لَهُ فَقَدْ عُرِفَ أَنَّ شَرْطَ بَعْضِ الْغَلَّةِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ بَعْضًا مُعَيَّنًا كَالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إذَا حَدَثَ عَلَى فُلَانٍ الْمَوْتُ: يَعْنِي الْوَاقِفَ نَفْسَهُ أُخْرِجَ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ عَشْرَةِ أَسْهُمٍ مَثَلًا سَهْمٌ يُجْعَلُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ أَوْ فِي كَفَّارَاتِ أَيْمَانِهِ، وَفِي كَذَا وَكَذَا وَسَمَّى أَشْيَاءَ، أَوْ قَالَ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لِتُصْرَفَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَيُصْرَفَ الْبَاقِي فِي كَذَا وَكَذَا عَلَى مَا سَبَّلَهُ

(قَوْلُهُ وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا أَرْضًا أُخْرَى) تَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهُ (فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَهِلَالٍ وَالْخَصَّافِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا

ص: 227

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أُخْرَى مَكَانًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ اسْتِبْدَالِهِ مَرَّةً أَنْ يَسْتَبْدِلَ ثَانِيًا لِانْتِهَاءِ الشَّرْطِ بِمَرَّةٍ، إلَّا أَنْ يَذْكُرَ عِبَارَةً تُفِيدُ لَهُ ذَلِكَ دَائِمًا، وَكَذَا لَيْسَ لِلْقَيِّمِ الِاسْتِبْدَالُ إلَّا أَنْ يَنُصَّ لَهُ بِذَلِكَ، وَعَلَى وِزَانِ هَذَا لَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ الْمَعَالِيمِ إذَا شَاءَ وَيَزِيدَ وَيُخْرِجَ مَنْ شَاءَ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِقَيِّمِهِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُ، وَإِذَا أَدْخَلَ وَأَخْرَجَ مَرَّةً لَيْسَ لَهُ ثَانِيًا إلَّا بِشَرْطِهِ، وَلَوْ شَرَطَهُ لِلْقَيِّمِ وَلَمْ يَشْرِطْهُ لِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ إفَادَتَهُ الْوِلَايَةَ لِغَيْرِهِ بِذَلِكَ فَرْعُ كَوْنِهِ يَمْلِكُهَا، وَلَوْ قَيَّدَ شَرْطَ الِاسْتِبْدَالِ لِلْقَيِّمِ بِحَيَاةِ الْوَاقِفِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: قَوْلُ هِلَالٍ وَأَبِي يُوسُفَ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يُبْطِلُ الْوَقْفَ، لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ، فَإِنَّ أَرْضَ الْوَقْفِ إذَا غَصَبَهَا غَاصِبٌ وَأَجْرَى عَلَيْهَا الْمَاءَ حَتَّى صَارَتْ بَحْرًا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَيَشْتَرِي بِهَا أَرْضًا أُخْرَى فَتَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا، وَكَذَا أَرْضُ الْوَقْفِ إذَا قَلَّ نُزُلُهَا بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ الزِّرَاعَةَ وَلَا تَفْضُلُ غَلَّتُهَا مِنْ مُؤْنَتِهَا وَيَكُونُ صَلَاحُ الْأَرْضِ فِي الِاسْتِبْدَالِ بِأَرْضٍ أُخْرَى، وَفِي نَحْوِ هَذَا عَنْ الْأَنْصَارِيِّ صِحَّةُ الشَّرْطِ لَكِنْ لَا يَبِيعُهَا إلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَأْذَنَ فِي بَيْعِهَا إذَا رَآهُ أَنْظَرَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ، وَإِذَا كَانَ حَاصِلُهُ إثْبَاتَ وَقْفٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فَاسِدًا هُوَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ حُكْمِهِ وَهُوَ التَّأْبِيدُ بَلْ هُوَ تَأْبِيدٌ مَعْنًى. وَلَا يُقَالُ: حُكْمُ الْوَقْفِ إذَا صَحَّ الْخُرُوجُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ.

لِأَنَّا نَقُولُ: حُكْمُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَنْفُذُ فِيهِ شَرْطُهُ الَّذِي شَرَطَ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ إذَا لَمْ يُخَالِفْ أَمْرًا شَرْعِيًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِبْدَالِ لَا يُخَالِفُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَكَوْنُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ مَسْأَلَةً ثُمَّ قَالَ: وَلِهَذَا تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ يُجَوِّزُ اسْتِبْدَالَ الْوَقْفِ، وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ رُجُوعُهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُفْتِي بِهِ لَا يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ مَعَ قِيَامِ وَجْهٍ غَيْرِهِ، وَلَوْ أُرِيدَ تَجْوِيزُ الِاسْتِبْدَالِ بِغَيْرِ شَرْطِ الِاسْتِبْدَالِ فِيمَا إذَا كَانَ أَحْسَنَ لِلْوَقْفِ كَانَ حَسَنًا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ إمَّا عَنْ شَرْطِهِ الِاسْتِبْدَالَ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَوْ لَا عَنْ شَرْطٍ، فَإِنْ كَانَ لِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ انْتِفَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ كَالصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِقَاضِي خَانْ، وَإِنْ كَانَ لَا لِذَلِكَ بَلْ اتَّفَقَ أَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِثَمَنِ الْوَقْفِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إبْقَاءُ الْوَقْفِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ دُونَ زِيَادَةٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِتَجْوِيزِهِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ فِي الْأَوَّلِ الشَّرْطُ وَفِي الثَّانِي الضَّرُورَةُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي هَذَا إذْ لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ فِيهِ بَلْ تَبْقِيَتُهُ كَمَا كَانَ، وَلَعَلَّ مَحْمَلَ مَا نُقِلَ عَنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ اسْتِبْدَالُ الْوَقْفِ بَاطِلٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَذَا الِاسْتِبْدَالُ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالشَّرْطِ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْمَعْرُوفُ لَا مُجَرَّدُ رِوَايَةٍ، وَالِاسْتِبْدَالُ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ كَمَا قُلْنَا.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: أَجْمَعُوا أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ لِنَفْسِهِ يَصِحُّ الشَّرْطُ وَالْوَقْفُ وَيَمْلِكُ الِاسْتِبْدَالَ. أَمَّا بِلَا شَرْطٍ أَشَارَ فِي السِّيَرِ إلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ كَوْنُ الِاسْتِبْدَالِ لِنَفْسِهِ إذَا شَرَطَهُ لَهُ. وَفِي الْقَاضِي فِيمَا لَا شَرْطَ فِيهِ لَا فِي أَصْلِ الِاسْتِبْدَالِ، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ نَقَلَ الْخِلَافَ. وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَحْمَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْأَنْصَارِيِّ

ص: 228

وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا.

مَا إذَا لَمْ يَشْرِطْهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إذَا اشْتَرَى الْبَدَلَ لِلْوَقْفِ صَارَ وَقْفًا، وَلَا يَتَوَقَّفُ وَقْفِيَّتُهُ عَلَى أَنْ يَقِفَهُ بِلَفْظٍ يَخُصَّهُ، وَلَيْسَ لِلْقَيِّمِ أَنْ يُوصِيَ بِالِاسْتِبْدَالِ لِمَنْ يُوصَى إلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ بِالْوَقْفِ. وَمِنْ فُرُوعِ الِاسْتِبْدَالِ لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ أَوْ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا عَبْدًا نَصَّ هِلَالٌ عَلَى فَسَادِ الْوَقْفِ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَى أَنْ أُبْطِلَهَا، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أَرْضًا جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَإِذَا قَالَ عَلَى أَنْ أَسْتَبْدِلَ أَرْضًا أُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَلَ دَارًا، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ؛ وَلَوْ قَالَ بِأَرْضٍ مِنْ الْبَصْرَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي جَوْدَةِ الْأَرْضِ، وَيَنْبَغِي إنْ كَانَتْ أَحْسَنَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ؛ وَلَوْ شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا اسْتَبْدَلَ مَا شَاءَ مِنْ الْعَقَارِ خَاصَّةً، وَلَوْ بَاعَ الْوَقْفَ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ وَلَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ، أَمَّا لَوْ ضَاعَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ عَرْضًا مِمَّا لَا يَكُونُ وَقْفًا فَهُوَ لَهُ وَالدَّيْنُ عَلَيْهِ، وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ الْهِبَةُ وَيَضْمَنُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ. أَمَّا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ وَهَبَهُ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ اتِّفَاقًا، وَلَوْ بَاعَهُ بِعَرَضٍ فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهِلَالٌ: لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِأَرْضٍ تَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا؛ وَإِذَا بَاعَ الْوَقْفَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بِمَا هُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا ثَانِيًا، وَإِنْ عَادَتْ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَقْفًا فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عَمَّمَ لِنَفْسِهِ الِاسْتِبْدَالَ، وَلَوْ رُدَّتْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَضَاءٍ عَادَتْ وَقْفًا؛ وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِالْأُخْرَى مَا شَاءَ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى فِي الْقِيَاسِ تَبْقَى الثَّانِيَةُ وَقْفًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَانَتْ وَقْفًا بَدَلًا عَنْ الْأُولَى وَبِالِاسْتِحْقَاقِ انْتَقَضَتْ تِلْكَ الْمُبَادَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا تَبْقَى الثَّانِيَةُ وَقْفًا، وَلَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ فَوَكَّلَ بِهِ جَازَ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْوَكَالَةِ وَهُوَ حَيٌّ لَوْ تَمَكَّنَ خَلَلُهُ أَمْكَنَهُ الِاسْتِبْدَالُ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ، وَلَوْ شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ لِنَفْسِهِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنْ يَسْتَبْدِلَا مَعًا فَتَفَرَّدَ بِذَلِكَ الرَّجُلُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ تَفَرَّدَ بِهِ الْوَاقِفُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَرَطَهُ لِذَلِكَ، وَمَا شَرَطَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مَشْرُوطٌ لَهُ، كَمَا لَوْ نَصَّبَ قَاضِيَا بَلَدَيْنِ كُلٌّ قَيِّمًا كَانَ لِكُلٍّ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَحْدَهُ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقَاضِيَيْنِ أَرَادَ أَنْ يَعْزِلَ الَّذِي أَقَامَهُ الْقَاضِي الْآخَرُ قَالَ: إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ كَانَ لَهُ عَزْلُهُ وَإِلَّا فَلَا

(قَوْلُهُ وَلَوْ شَرَطَ) أَيْ الْوَاقِفُ (الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) بِأَنْ قَالَ وَقَفْت دَارِي هَذِهِ عَلَى كَذَا عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: الْوَقْفُ بَاطِلٌ)

وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَهِلَالٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا) يُرِيدُ الْأَصْلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ: أَعْنِي شَرْطَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا

ص: 229

وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ،

شَرَطَ تَمَامَ الْقَبْضِ لِيَنْقَطِعَ حَقُّ الْوَاقِفِ فَلَا شَكَّ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَفُوتُ مَعَهُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ تَمَامُ الْقَبْضِ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْ تَمَامَ قَبْضِ مُتَوَلٍّ انْبَنَى عَلَيْهِ جَوَازُ شَرْطِ الْخِيَارِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ كَالْإِعْتَاقِ فِي أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، فَكَذَا يَجِبُ هَذَا وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي الْمَسْجِدِ يَبْطُلُ وَيَتِمُّ وَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ: عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ وَيَبْطُلَ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الزَّوَالِ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ يَقُولُ بِتَمَامِ الرِّضَا وَالْقَبْضِ يَتِمُّ الْوَقْفُ، وَمَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَتِمُّ الرِّضَا وَلَا الْقَبْضُ فَكَانَ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْوَقْفِ، فَلَا يَتِمُّ مَعَهُ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ عِنْدَهُ بَلْ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِجَمَاعَةٍ، وَكَذَا فِي الْإِعْتَاقِ فَإِنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لَيْسَ شَرْطًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ تَمَّ لَهُ شَرْطُ التَّسْلِيمِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ تَمَّ لَهُ هَذَا وَقَدَّمْنَا مَا فِيهِ، وَتَقْيِيدُ الْخِيَارِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ قَيْدًا بَلْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا؛ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً بِأَنْ وَقَفَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ لَا يَجُوزُ الِاتِّفَاقُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ بَيَّنَ لِلْخِيَارِ وَقْتًا جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ لَهُ فَالْوَقْفُ وَالشَّرْطُ بَاطِلَانِ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَلَوْ أَبْطَلَ الْخِيَارَ قَبْلَ الثَّلَاثِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَبَّدًا وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ التَّأْبِيدَ، وَكَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْخِيَارَ فِيهِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ بَلْ يُفْسِدُهُ إذَا شَرَطَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِامْتِنَاعِ لُزُومِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَكُنْ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ جَازَ، ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. وَلَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَفَ أَرْضًا عَلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ جَازَ الْوَقْفُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَيْضًا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ وَقَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مَوْقُوفٌ فَكَذَا الْوَقْفُ، وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فَوَقَفَهَا، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَلَا يَكُونُ لِلْوَقْفِ بَلْ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ. [فُرُوعٌ]

اشْتَرَى أَرْضًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَوَقَفَهَا ثُمَّ أَسْقَطَ الْخِيَارَ صَحَّ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَوَقَفَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَسْقَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لَا تَكُونُ وَقْفًا، وَلَوْ وَقَفَهَا الْبَائِعُ صَحَّ، وَلَوْ وَقَفَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَرْضَ قَبْلَ قَبْضِهَا، ثُمَّ قَبَضَهَا لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَهَا الْمُوصَى لَهُ بِهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، وَكَذَا لَوْ وَقَفَهَا فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَبْلَ قَبْضِهَا

(قَوْلُهُ وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ) أَيْ الْقُدُورِيُّ (عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ) حَيْثُ قَالَ:

ص: 230

وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ وَقَالَ أَقْوَامٌ: إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ. قَالَ مَشَايِخُنَا: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّي إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى هَذَا الْوَقْفِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ، كَمَنْ اتَّخَذَ مَسْجِدًا يَكُونُ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصْبِ الْمُؤَذِّنِ فِيهِ، وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ

أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ بِهِ إلَيْهِ جَازَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ) فَقَالَ (وَقَالَ أَقْوَامٌ: إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ. قَالَ مَشَايِخُنَا: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ)

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَصْرِيحُ مُحَمَّدٍ بِهِ، وَلِذَا أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ مُقْتَضَى اشْتِرَاطِ مُحَمَّدٍ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْوَاقِفِ وِلَايَةٌ وَإِنْ شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي هَذَا الشَّرْطَ. أُجِيبُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ سَلَّمَهَا إلَى الْمُتَوَلِّي فَإِنَّ الْوِلَايَةَ تَكُونُ لَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً وَأَخْرَجَهَا إلَى الْقَيِّمِ لَا تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْرِطْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطُ الْوَقْفِ فَلَا تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ هَذَا التَّسْلِيمِ، إلَّا إنْ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ التَّسْلِيمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَانَ الْوِلَايَةُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهَا، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مَذْكُورٌ فِي التَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ، وَالْآخَرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ فَهِيَ لَهُ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ يَسْقُطُ شَرْطُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ تُرَاعَى، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُ التَّسْلِيمِ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَذَا وَجَدْت فِي مَوْضِعٍ بِخَطِّ ثِقَةٍ، وَقَدَّمْنَا فَرْعًا آخَرَ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الَّذِي جَعَلَهُ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ (وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُهَا مِنْهُ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ اسْتِفَادَةَ الْوِلَايَةِ مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ التَّسْلِيمِ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ فَيَصِيرُ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْوِلَايَةِ فِيهِ لِلْحَاكِمِ يُوَلِّي فِيهِ مَنْ شَاءَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَسْأَلْ الْوِلَايَةَ فِي الْوَقْفِ، وَلَيْسَ فِيهِ فِسْقٌ يُعْرَفُ بِنَاءً عَلَى خُلُوصِ الْحَقِّ لِلَّهِ عز وجل لِأَنَّ الْحَاكِمَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ تَخْرِيجٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فَلَا بُدَّ لِكَوْنِ الْوِلَايَةِ لَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ دَلِيلٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ، وَقَدْ يَتِمُّ قَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْوَقْفِ فَكَانَ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ) دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَيْهِ

وَالْفَرْضُ أَنَّ الْوَاقِفَ عَدْلٌ مَأْمُونٌ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ زَالَ الْمِلْكُ فَهُوَ عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ لِلْوَاقِفِ يَصْرِفُهُ إلَى الْجِهَاتِ الَّتِي عَيَّنَهَا، وَهُوَ أَنْصَحُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَيَنْتَصِبُ وَلِيًّا. وَقَوْلُهُ (كَمَنْ اتَّخَذَ مَسْجِدًا كَانَ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصْبِ الْمُؤَذِّنِ، وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ

ص: 231

لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ. وَلَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ وِلَايَتَهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْزِعَهَا مِنْ يَدِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ نَظَرًا لِلصِّغَارِ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ وَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَبَطَلَ

(فَصْلٌ)

أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ) أَمَّا عِمَارَتُهُ فَلَا خِلَافَ يُعْلَمُ فِيهِ، وَأَمَّا نَصْبُ الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ فَقَالَ أَبُو نَصْرٍ فَلِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَلَيْسَ الْبَانِي أَحَقَّ مِنْهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافِ: الْبَانِي أَحَقُّ بِنَصْبِهِمَا مِنْ غَيْرِهِ كَالْعِمَارَةِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: وَبِهِ نَأْخُذُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ إمَامًا وَمُؤَذِّنًا وَالْقَوْمُ يُرِيدُونَ الْأَصْلَحَ فَلَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، كَذَا فِي النَّوَازِلِ (ثُمَّ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، وَكَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ نَظَرًا لِلصِّغَارِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِسُلْطَانٍ وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْهُ وَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ) لَا يُلْتَفَتُ إلَى شَرْطِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَبْطُلُ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مِمَّا يَخْرُجُ بِهِ النَّاظِرُ مَا إذَا ظَهَرَ بِهِ فِسْقٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ جَعَلَ الْوَاقِفُ وِلَايَةَ الْوَقْفِ إلَى رَجُلَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَوْصَى أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ وَمَاتَ جَازَ تَصَرُّفُ الْحَيِّ فِي جَمِيعِ الْوَقْفِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا. وَفِيهَا لَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ وَقْفًا فَمَرَضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَجَعَلَ رَجُلًا وَصِيَّ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَمْرِ الْوَقْفِ شَيْئًا فَإِنَّ وِلَايَةَ الْوَقْفِ لَا تَكُونُ إلَى الْوَصِيِّ، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ وَصِيِّ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ خَاصَّةً قَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ كَمَا قَالَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَصِيٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.

(فَصْلٌ)

لَمَّا اخْتَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَحْكَامٍ تُخَالِفُ أَحْكَامَ مُطْلَقِ الْوَقْفِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَسْجِدِ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَلَا الْإِيصَاءُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ مَشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَفْرَدَهُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ وَأَخَّرَهُ. هَذَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهَا، ثُمَّ وَقَفَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ اتَّخَذَهَا مَسْجِدًا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا شِرَاءً فَاسِدًا وَبَنَاهَا بِنَاءَ الْمَسْجِدِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْبَائِعِ،

ص: 232

(وَإِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مِلْكِهِ) أَمَّا الْإِفْرَازُ فَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا بِهِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ، وَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فَقَامَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ مَقَامَهُ ثُمَّ يُكْتَفَى بِصَلَاةِ الْوَاحِدِ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجِنْسِ مُتَعَذِّرٌ فَيُشْتَرَطُ أَدْنَاهُ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَزُولُ مِلْكُهُ بِقَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِمِلْكِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى

وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَتُرَدُّ الْأَرْضُ إلَى الْبَائِعِ بِفَسَادِ الْبَيْعِ.

قَالَ: فَاشْتِرَاطُ الْبِنَاءِ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَسْجِدًا قَبْلَ الْبِنَاءِ عِنْدَ الْكُلِّ. وَذَكَرَ هِلَالٌ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا فَصَارَ فِيهِ رِوَايَتَانِ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: فِي الْوَقْفِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ. وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ فِي الْوَقْفِ حَقَّ الْعِبَادِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَخَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ خَبِيثٌ لَا يُصْلَحُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ اشْتَرَى دَارًا لَهَا شَفِيعٌ فَجَعَلَهَا مَسْجِدًا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَكَذَا إذَا كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَانَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْمَسْجِدَ (قَوْلُهُ وَإِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُفْرِزَهُ بِطَرِيقِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ مِلْكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَمُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُمَا: لَا يَزُولُ إلَّا بِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا. أَمَّا قَوْلُهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَزُلْ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ فَمَشَى مُحَمَّدٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَهُ لِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ إلَى مَنْ أَخْرَجَ إلَيْهِ وَهُوَ اللَّهُ سبحانه وتعالى وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ عَلَى مَا مَرَّ لَا كُلَّ عَبْدٍ، بَلْ الَّذِي تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ يُقَامُ مَقَامَهُمْ فِي الْقَبْضِ، وَمَقَامَ الْوَاقِفِ فِي إقْبَالِ الْغَلَّةِ لَهُمْ لِكُلِّ وَقْفٍ فِي الْعَادَة، فَتَبَيَّنَ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِذَلِكَ إذْ لَيْسَ لَهُ غَلَّةٌ يَسْتَحِقُّهَا النَّاسُ فَأُقِيمَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ مَقَامَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَنْ الْمِلْكِ بِصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْجِنْسِ مُتَعَذَّرٌ فَاكْتَفَى بِالْوَاحِدِ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اخْتَلَفُوا لَوْ صَلَّى الْوَاقِفُ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِأَجْلِ الْقَبْضِ لِلْعَامَّةِ وَقَبْضُهُ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَكْفِي، فَكَذَا صَلَاتُهُ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهَا الْمَقْصُودُ بِالْمَسْجِدِ لَا مُطْلَقَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَكَانَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ عِنْدَهُمَا.

وَلَوْ جَعَلَ لَهُ وَاحِدًا مُؤَذِّنًا وَإِمَامًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى وَحْدَهُ صَارَ مَسْجِدًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَالْجَمَاعَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا يُكْرَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْمُؤَذِّن هَذِهِ أَنْ تُعَادَ الْجَمَاعَةُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَ الْبَعْضِ. وَقَوْلُنَا لَا يَتَعَيَّنُ الْمُتَوَلِّي يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ جَعَلَهُ لَهُ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ. وَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ. وَالْوَجْهُ الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي أَيْضًا يَحْصُلُ تَمَامُ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ تَعَالَى لِرَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ.

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ بِلَا حُكْمٍ مِمَّا سَيَأْتِي بِأَنَّ لَفْظَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ فِي قَوْلِ الْوَاقِفِ جَعَلْت أَرْضِي صَدَقَةً مَوْقُوفَةً

ص: 233

بِسُقُوطِ حَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ: وَمَنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ وَجَعَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ إلَى الطَّرِيقِ، وَعَزَلَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَلَوْ كَانَ السِّرْدَابُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ جَازَ كَمَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا وَعَلَى ظَهْرِهِ مَسْكَنٌ فَهُوَ مَسْجِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلُوِّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغَلٌّ يَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ.

وَنَحْوَهَا لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَقْفِ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ، وَالصَّدَقَةُ لَيْسَ مَعْنَاهَا إلَّا التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ فَلَا يَصِحُّ، بَلْ الْوَقْفُ يُنْبِئُ عَنْ الْإِبْقَاءِ فِي الْمِلْكِ لِتَحْصُلَ الْغَلَّةُ عَلَى مِلْكِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا فَيَحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مُنْبِئًا عَنْ إبْقَاءِ الْمِلْكِ لِيَحْتَاجَ إلَى الْقَضَاءِ بِزَوَالِهِ، فَإِذَا أَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ فَصَلَّى كَمَا ذَكَرْنَا، قَضَى الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ عَنْهُ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي جَعْلِهِ مَسْجِدًا إلَى قَوْلِهِ وَقَفْته وَنَحْوَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ وَقَفْته أَوْ حَبَسْته وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى قُرْبَةٍ فَكَانَ كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَالتَّخْلِيَةِ يُفِيدُ الْوَقْفَ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ كَالتَّعْبِيرِ بِهِ، فَكَانَ كَمَنْ قَدَّمَ طَعَامًا إلَى ضَيْفِهِ أَوْ نَثَرَ نِثَارًا كَانَ إذْنًا فِي أَكْلِهِ وَالْتِقَاطِهِ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَمْ تَجْرِ عَادَةٌ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ وَالْإِذْنِ بِالِاسْتِغْلَالِ، وَلَوْ جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ فِي الْعُرْفِ اكْتَفَيْنَا بِذَلِكَ كَمَسْأَلَتِنَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَقَفْتُهُ مَسْجِدًا، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا بِلَا حُكْمٍ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ زَوَالِ الْمِلْكِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَذِنَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، وَيَصِيرُ مَسْجِدًا بِلَا حُكْمٍ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ كَالْإِعْتَاقِ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ كُلًّا مِنْ مُجَرَّدِ الْقَوْلِ وَالْإِذْنِ كَمَا قَالَا مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَصَيْرُورَتِهِ مَسْجِدًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعُرْفِ

(قَوْلُهُ وَمِنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ) وَهُوَ بَيْتٌ يُتَّخَذُ تَحْتَ الْأَرْضِ لِتَبْرِيدِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ (أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ) لَيْسَ لِلْمَسْجِدِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَيْسَ بِمَسْجِدٍ (وَلَهُ بَيْعُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ إذَا مَاتَ)، وَلَوْ عَزَلَ بَابَهُ إلَى الطَّرِيقِ (لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ) وَالْمَسْجِدُ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ فَكَانَ فَائِدَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ اخْتِصَاصَهُ بِهِ، وَهُوَ بِانْقِطَاعِ حَقِّ كُلِّ مَنْ سِوَاهُ عَنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيمَا ذَكَرَ. أَمَّا إذَا كَانَ السُّفْلُ مَسْجِدًا فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ حَقًّا فِي السُّفْلِ حَتَّى يَمْنَعَ صَاحِبَهُ أَنْ يَنْقُبَ فِيهِ كُوَّةً أَوْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِاتِّفَاقِهِمْ لَا يُحْدِثُ فِيهِ بِنَاءً وَلَا مَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعُلُوُّ مَسْجِدًا فَلِأَنَّ أَرْضَ الْعُلُوِّ مِلْكٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ السِّرْدَابُ أَوْ الْعُلْوُ مَوْقُوفًا لِصَاحِبِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إذْ لَا مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ بَلْ هُوَ مِنْ تَتْمِيمِ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ كَسِرْدَابِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا جَعَلَ السُّفْلَ

ص: 234

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الرَّيَّ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا قُلْنَا.

قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ) يَعْنِي لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقُّ الْمَنْعِ، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِجَوَانِبِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ) اعْتَبَرَهُ مَسْجِدًا، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِهِ مَسْجِدًا وَلَا يَصِيرُ مَسْجِدًا إلَّا بِالطَّرِيقِ دَخَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ وَصَارَ مُسْتَحَقًّا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ.

قَالَ (وَمَنْ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ.

مَسْجِدًا دُونَ الْعُلُوِّ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ، بِخِلَافِ الْعُلُوِّ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، فَإِنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ وَهُوَ مَعَ الْمُقْتَضَى، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ مَعَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقٍّ وَاحِدٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ وَهُوَ تَعْلِيلٌ بِحُكْمِ الشَّيْءِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِهِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي الْأَوَّلَيْنِ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْأَمَاكِنِ وَ) كَذَا (عَنْ مُحَمَّدٍ لَمَّا دَخَلَ الرَّيَّ) وَهَذَا تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ بِالضَّرُورَةِ

(وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ) إذْنًا عَامًّا (لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِجَوَانِبِهِ) الْأَرْبَعِ (كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى) وَعَنْ كُلٍّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا وَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا إلَّا بِالطَّرِيقِ دَخَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ وَصَارَ دَاخِلًا بِلَا ذِكْرٍ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ بِلَا ذِكْرٍ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يُورَثَ عَنْهُ) يَعْنِي بَعْدَ صِحَّتِهِ بِشَرْطِهِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: رَجُلٌ لَهُ سَاحَةٌ لَا بِنَاءَ فِيهَا أَمَرَ قَوْمًا أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا بِجَمَاعَةٍ، قَالُوا: إنْ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ فِيهَا أَبَدًا أَوْ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَبَدَ إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ الْأَبَدَ، ثُمَّ مَاتَ لَا يَكُونُ مِيرَاثًا عَنْهُ، وَإِنْ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً ثُمَّ مَاتَ يُورَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّأْبِيدِ وَالتَّوْقِيتُ يُنَافِيه، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَصِيرَ لَيْسَ مَسْجِدًا فِيمَا إذَا أَطْلَقَ إلَّا إذَا اعْتَرَفَتْ الْوَرَثَةُ بِأَنَّهُ أَرَادَ الْأَبَدَ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ لَا تُعْلَمُ فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَنْعِ إرْثِهِمْ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ.

وَلَوْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ وَبِجَنْبِهِ أَرْضٌ وَقْفٌ عَلَيْهِ أَوْ حَانُوتٌ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ وَيُدْخَلَ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ مِلْكَ رَجُلٍ أُخِذَ بِالْقِيمَةِ كُرْهًا، فَلَوْ كَانَ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ أُدْخِلَ بَعْضُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ. وَفِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ مِنْ الْخُلَاصَةِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الطَّرِيقِ مَسْجِدًا، أَوْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ اهـ. يَعْنِي إذَا احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ، وَلِأَهْلِ الْمَسْجِدِ

ص: 235

وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مِنْهُ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَانِي، أَوْ إلَى وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ فَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ،

أَنْ يَجْعَلُوا الرَّحْبَةَ مَسْجِدًا، وَكَذَا عَلَى الْقَلْبِ وَيُحَوِّلُوا الْبَابَ أَوْ يُحْدِثُوا لَهُ بَابًا آخَرَ، وَلَوْ اخْتَلَفُوا يُنْظَرُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وِلَايَةً لَهُ ذَلِكَ، وَثُمَّ أَنْ يَهْدِمُوهُ وَيُجَدِّدُوهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَهُمْ أَنْ يَضَعُوا الْحَبَابَ وَيُعَلِّقُوا الْقَنَادِيلَ وَيَفْرِشُوا الْحُصْرَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَلَا يَفْعَلُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّي إلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي، الْكُلُّ مِنْ الْخُلَاصَةِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَى الْقَلْبِ يَقْتَضِي جَعْلَ الْمَسْجِدِ رَحْبَةً، وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي عَلَامَةِ النُّونِ مِنْ كِتَابِ التَّجْنِيسِ: قَيِّمُ الْمَسْجِدِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ حَوَانِيتَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي فِنَائِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْمَسْجِدَ سَكَنًا تَسْقُطُ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا الْفِنَاءُ فَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ) أَيْ اسْتَغْنَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ أَوْ الْقَرْيَةِ بِأَنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَخَرِبَتْ وَحُوِّلَتْ مَزَارِعَ يَبْقَى مَسْجِدًا عَلَى حَالِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ يُبَاعُ نَقْضُهُ وَيُصْرَفُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ، وَكَذَا فِي الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا خَرِبَتْ يُبَاعُ نَقْضُهَا وَيُصْرَفُ ثَمَنُهَا إلَى وَقْفٍ آخَرَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى لَمَّا نُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ اُنْقُلْ الْمَسْجِدَ الَّذِي بِالتَّمَارِينِ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ) إنْ كَانَ حَيًّا (وَإِلَى وَرَثَتِهِ) إنْ كَانَ مَيِّتًا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بَانِيه وَلَا وَرَثَتُهُ كَانَ لَهُمْ بَيْعُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِثَمَنِهِ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ (عَيَّنَّهُ لِقُرْبَةٍ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ فَيَنْقَطِعُ هُوَ أَيْضًا وَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ) وَقِنْدِيلُهُ إذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ يَعُودُ إلَى مِلْكِ مُتَّخِذِهِ،

ص: 236

إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ إنَّهُ يُنْقَلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ.

وَكَمَا لَوْ كَفَّنَّ مَيِّتًا فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ عَادَ الْكَفَنُ إلَى مِلْكِ مَالِكِهِ، وَكَهَدْيِ الْإِحْصَارِ إذَا زَالَ الْإِحْصَارُ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ.

وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِالْكَعْبَةِ. فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِ مَوْضِعِهَا عَنْ الْمَسْجِدِيَّةِ وَالْقُرْبَةِ، إلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقُرْبَةُ الَّتِي عُيِّنَتْ لَهُ هُوَ الطَّوَافُ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ. وَلَمْ يَنْقَطِعْ الْخَلْقُ عَنْ ذَلِكَ زَمَانَ الْفَتْرَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ لِكُفْرِهِمْ، عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ الدُّنْيَا رَأْسًا، فَقَدْ كَانَ لِمِثْلِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ أَمْثَالٌ. فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ سُقُوطِ الْمِلْكِ فِيهِ لَا يَعُودُ كَالْمُعْتَقِ كَمَا لَا يَعُودُ إذَا زَالَ إلَى مَالِكٍ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إلَّا بِسَبَبٍ، وَوَجَبَ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ، فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ لَمْ يَعُدْ. وَأَمَّا مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ هَدْيِ الْإِحْصَارِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَكَذَا الْكَفَنُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ، إنَّمَا أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَقَدْ اسْتَغْنَى الْمُسْتَعِيرُ فَيَعُودُ إلَى الْمُعِيرِ، وَأَمَّا الْحَصِيرُ وَالْقِنْدِيلُ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ مُتَّخِذِهِ بَلْ يُحَوَّلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ أَوْ يَبِيعُهُ قَيِّمُ الْمَسْجِدِ لِلْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّهُ مَا جَعَلَهُ مَسْجِدًا لِيُصَلِّيَ فِيهِ أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ لَا غَيْرُ بَلْ يُصَلِّيَ فِيهِ الْعَامَّةُ مُطْلَقًا أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ وَغَيْرُهُمْ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَحْمَدَ بِمَا كَتَبَهُ عُمَرُ لَا يُفِيدُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِاِتِّخَاذِ بَيْتِ الْمَالِ فِي الْمَسْجِدِ. وَاسْتِدْلَالُهُ بِالِانْتِفَاعِ بِالِاسْتِبْدَالِ مَرْدُودٌ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْفَرَسِ إذَا جَعَلَهُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُرْكَبَ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ وَرَثَتِهِ كَمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبُهُ يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ فَرَسٌ آخَرُ يُغْزَى عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَاكِمِ، وَلَوْ جَعَلَ جِنَازَةً وَمُلَاءَةً وَمُغْتَسَلًا وَقْفًا فِي مَحَلَّةٍ، وَمَاتَ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ لَا يُرَدُّ إلَى الْوَرَثَةِ بَلْ يُحْمَلُ إلَى مَكَان آخَرَ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا مِنْ مُحَمَّدٍ فَهُوَ رِوَايَةٌ فِي الْحُصْرِ وَالْبَوَارِي أَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى الْوَرَثَةِ.

وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْحَلْوَانِيِّ فِي الْمَسْجِدِ وَالْحَوْضِ إذَا خَرِبَ وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَفَرُّقِ النَّاسِ عَنْهُ أَنَّهُ يُصْرَفُ أَوْقَافُهُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ أَوْ حَوْضٍ آخَرَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْمَسْجِدِ لِخَرَابِ الْمَحَلَّةِ وَالْقَرْيَةِ وَتَفَرُّقِ أَهْلِهَا مَا إذَا انْهَدَمَ الْوَقْفُ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْغَلَّةِ مَا يُمْكِنُ بِهِ عِمَارَتُهُ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْوَقْفُ وَيَرْجِعُ النَّقْضُ إلَى بَانِيهِ أَوْ وَرَثَتِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَكَذَا حَانُوتٌ فِي سُوقٍ احْتَرَقَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُسْتَأْجَرُ بِشَيْءٍ أَلْبَتَّةَ يَخْرُجُ عَنْ الْوَقْفِيَّةِ، وَكَذَا فِي حَوْضِ مَحَلَّةٍ خَرِبَ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يُعَمَّرُ بِهِ فَهُوَ لِوَارِثِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَهُوَ لُقَطَةٌ، وَكَذَا الرِّبَاطُ إذَا خَرِبَ يَبْطُلُ الْوَقْفُ وَيَصِيرُ مِيرَاثًا، وَلَوْ بَنَى رَجُلٌ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فَالْبِنَاءُ لِلْبَانِي، وَأَصْلُ الْوَقْفِ لِوَرَثَةِ الْوَاقِفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَظَرٌ فَلْيَتَأَمَّلْ عِنْدَ الْفَتْوَى غَيْرَ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ. وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: سُئِلَ الْحَلْوَانِيُّ عَنْ أَوْقَافِ الْمَسْجِدِ إذَا تَعَطَّلَتْ وَتَعَذَّرَ اسْتِغْلَالُهَا هَلْ لِلْمُتَوَلِّي بَيْعُهَا، وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهَا أُخْرَى؟ قَالَ نَعَمْ.

وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَارَ الْوَقْفُ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَسَاكِينُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ غَيْرَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْتِيَ عَلَى قَوْلِهِ بِرُجُوعِهِ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَوَرَثَتِهِ بِمُجَرَّدِ تَعَطُّلِهِ وَخَرَابِهِ، بَلْ إذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ وَقْفٌ آخَرُ يُسْتَغَلُّ، وَلَوْ كَانَتْ غَلَّتُهُ دُونَ غَلَّةِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَبِيعَ مِنْ تُرَابِ مُسْبِلَةٍ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَقَفَ عَلَى مِسَمَّيْنِ خَرِبَ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُسْتَأْجَرُ أَصْلُهُ يَبْطُلُ الْوَقْفُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ يُسْتَأْجَرُ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ يَبْقَى أَصْلُهُ وَقْفًا انْتَهَى.

وَيَجِبُ حِفْظُ هَذَا فَإِنَّهُ قَدْ تَخْرَبُ الدَّارُ وَتَصِيرُ كَوْمًا وَهِيَ بِحَيْثُ لَوْ نُقِلَ نَقْضُهَا اسْتَأْجَرَ أَرْضَهَا مَنْ يَبْنِي أَوْ يَغْرِسُ وَلَوْ بِقَلِيلٍ فَيُغْفَلُ عَنْ ذَلِكَ وَتُبَاعُ

ص: 237

قَالَ (وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَيَسْكُنَ فِي الْخَانِ وَيَنْزِلَ فِي الرِّبَاطِ وَيَشْرَبَ مِنْ السِّقَايَةِ، وَيُدْفَنَ فِي الْمَقْبَرَةِ فَيُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَخَلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ) كَمَا هُوَ أَصْلُهُ، إذْ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْوَقْفُ لَازِمٌ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنْ السِّقَايَةِ وَسَكَنُوا الْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَدُفِنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ زَالَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ، وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْجِنْسِ كُلِّهِ، وَعَلَى هَذَا الْبِئْرُ الْمَوْقُوفَةُ وَالْحَوْضُ،

كُلُّهَا لِلْوَاقِفِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْهَا إلَيْهِ إلَّا النَّقْضُ. فَإِنْ قُلْت: عَلَى هَذَا تَكُونُ مَسْأَلَةُ الرِّبَاطِ الَّتِي ذَكَرْنَا مُقَيَّدَةً بِمَا إذَا لَمْ تَكُنْ أَرْضُهُ بِحَيْثُ تُسْتَأْجَرُ. قُلْنَا: إلَّا لِأَنَّ الرِّبَاطَ مَوْقُوفٌ لِلسُّكْنَى وَامْتَنَعَتْ بِانْهِدَامِهِ، بِخِلَافِ هَذِهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ وَقْفٌ يَكُونُ لِاسْتِغْلَالِ الْجَمَاعَةِ الْمُسَمَّيْنَ، وَلَوْ انْهَدَمَ بَعْضُ بِنَاءِ الدَّارِ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَا يُعَادُ بِهِ يُبَاعُ وَيُحْفَظُ ثَمَنُهُ فِي يَدِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ الْوَاقِفِ إلَى أَنْ يَحْتَاجَ الْبَاقِي إلَى الْعِمَارَةِ فَيُصْرَفُ فِيهِ، وَكَذَا إذَا يَبَسَ بَعْضُ أَشْجَارِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ يَبِيعُهَا وَلَا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِ الْأَرْضِ لِذَلِكَ وَلَا يُعْطَى الْمُسْتَحَقُّونَ شَيْئًا مِنْ ثَمَنِ النَّقْضِ وَلَا مِنْ عَيْنِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا سِوَى الْغَلَّةِ، بَلْ الْحَالُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ شِرَاءُ شَيْءٍ يُسْتَغَلُّ وَلَوْ قَلِيلًا أَوْ إجَارَةٌ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ وَلَوْ قَلِيلًا فَعَلَ وَحَفِظَهُ لِعِمَارَةِ مَا بَقِيَ.

وَلَوْ خَرِبَ الْكُلُّ وَتَعَذَّرَ أَنْ يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مُسْتَغَلٌّ وَلَوْ قَلِيلًا حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا، أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) وَلَوْ سَلَّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ (لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُ عَنْهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ) فِي الْحَالِ (فَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِي الْخَانِ وَيَنْزِلَ فِي الرِّبَاطِ، وَيَشْرَبَ مِنْ السِّقَايَةِ وَيُدْفَنَ فِي الْمَقْبَرَةِ فَيُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ) لِيَكُونَ وَصِيَّةً فَيَلْزَمُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَا مَرَّ (كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَهَاءِ) بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لَفْظٌ يُنْبِئُ عَنْ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي وَقَفْت وَتَصَدَّقْت، وَفِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَعَ ذَلِكَ ثُبُوتُ تَعَلُّقِ حَقِّهِ انْتِفَاعًا بِعَيْنِ الْوَقْفِ كَمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِ (بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ) لَا يُشْتَرَطُ فِي زَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ حُكْمٌ وَلَا وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَخَلَصَ لِلَّهِ عز وجل بِلَا حُكْمٍ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ. وَقَوْلُهُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كَمَا مَرَّ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ) لَا يَزُولُ (حَتَّى يَسْتَقِيَ النَّاسُ مِنْ السِّقَايَةِ وَيَسْكُنُوا الْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَيُدْفَنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ شَرْطٌ) وَتَسْلِيمُ هَذِهِ (بِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ سُكْنَاهُمْ الْخَانَ وَالرِّبَاطَ إلَى آخِرِهِ (وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ) فِي التَّسْلِيمِ الْمُوجِبِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ (لِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْجِنْسِ) أَيْ تَسَلُّمِ الْكُلِّ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِمْ (وَعَلَى هَذَا الْبِئْرُ) إذَا احْتَفَرَهُ (وَالْحَوْضُ) يَزُولُ الْمِلْكُ إذَا اسْتَقَى مِنْهُمَا وَاحِدٌ أَوْ شَرِبَتْ دَابَّةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَدْخَلَ قِطْعَةَ أَرْضٍ لَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَهَا طَرِيقًا يُشْتَرَطُ فِيهِ مُرُورُ وَاحِدٍ بِإِذْنِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ الْقَبْضَ فِي الْأَوْقَافِ وَكَذَا الْقَنْطَرَةُ

ص: 238

وَلَوْ سُلِّمَ إلَى الْمُتَوَلِّي صَحَّ التَّسْلِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ قِيلَ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لِلْمُتَوَلِّي فِيهِ، وَقِيلَ يَكُونُ تَسْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْنُسُهُ وَيُغْلِقُ بَابَهُ، فَإِذَا سُلِّمَ إلَيْهِ صَحَّ التَّسْلِيمُ، وَالْمَقْبَرَةُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُتَوَلِّيَ لَهُ عُرْفًا. وَقِيلَ هِيَ بِمَنْزِلَةِ السِّقَايَةِ وَالْخَانِ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِّبَ الْمُتَوَلِّي يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْعَادَةِ، وَلَوْ جَعَلَ دَارًا لَهُ بِمَكَّةَ سُكْنَى لِحَاجِّ بَيْتِ اللَّهِ وَالْمُعْتَمِرِينَ، أَوْ جَعَلَ دَارِهِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ جَعَلَهَا فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ. أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ فِي الْغَلَّةِ تَحِلُّ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَفِيمَا سِوَاهُ مِنْ سُكْنَى الْخَانِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالسِّقَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ،

يَتَّخِذُهَا لِلْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُ بِمُرُورِ وَاحِدٍ وَلَا يَكُونُ بِنَاؤُهَا مِيرَاثًا (وَلَوْ سُلِّمَ إلَى الْمُتَوَلِّي صَحَّ التَّسْلِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ) أَعْنِي السِّقَايَةَ وَالْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَالْمَقْبَرَةَ وَالْبِئْرَ وَالْحَوْضَ (لِأَنَّهُ) أَعْنِي الْمُتَوَلِّيَ (نَائِبٌ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فَفِعْلُهُ) أَيْ تَسْلِيمُهُ (كَفِعْلِهِمْ) أَيْ تَسَلُّمِهِمْ (وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا، وَقِيلَ يَكُونُ) وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مَعَ وَجْهِهِ، وَوَجْهُ الْمُصَنِّفِ الصِّحَّةُ (بِأَنَّهُ) أَيْ الْمَسْجِدَ (يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْنُسُهُ وَيُغْلِقُ بَابَهُ فَإِذَا سُلِّمَ إلَيْهِ صَحَّ التَّسْلِيمُ).

؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلٍّ لَهُ عُرْفًا وَاخْتُلِفَ فِي الْمَقْبَرَةِ. قِيلَ كَالْمَسْجِدِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي إزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْهُ التَّسْلِيمُ إلَى مُتَوَلٍّ (لِأَنَّهُ لَا مُتَوَلِّيَ لَهُ) فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ إلَّا بِالدَّفْنِ فِيهَا (وَقِيلَ كَالسِّقَايَةِ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي)(قَوْلُهُ وَلَوْ جَعَلَ دَارًا لَهُ بِمَكَّةَ سُكْنَى لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِينَ، أَوْ حَمَلَ دَارِهِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ جَعَلَهَا فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ، أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا رُجُوعَ فِيهَا) أَيْ فِي السِّقَايَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَفِي الدَّارِ الْمُسَبَّلَةِ عِنْدَهُمَا لِلْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِلَا شَرْطِ الدَّفْعِ إلَى الْمُتَوَلِّي كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ حَاكِمٌ. ثُمَّ رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ بَعْدَ الدَّفْنِ لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ وَيَرْجِعُ فِيمَا سِوَاهُ، ثُمَّ إذَا رَجَعَ فِي الْمَقْبَرَةِ بَعْدَ الدَّفْنِ لَا يَنْبُشُهَا؛ لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ، وَلَكِنْ يُسَوِّي الْأَرْضَ وَيَزْرَعُ، وَهَذَا عَلَى غَيْرِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ.

وَالْفَتْوَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه لِلتَّعَامُلِ الْمُتَوَارَثِ، هَذَا وَتُفَارِقُ الْمَقْبَرَةُ غَيْرَهَا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَقْبَرَةِ أَشْجَارٌ وَقْتَ الْوَقْفِ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْطَعُوهَا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِهَا، كَمَا لَوْ جَعَلَ دَارِهِ مَقْبَرَةً لَا يَدْخُلُ مَوْضِعُ الْبِنَاءُ فِي الْوَقْفِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَقْبَرَةِ فَإِنَّ الْأَشْجَارَ وَالْبِنَاءَ إذَا كَانَ فِي عَقَارٍ وَقَفَهُ دَخَلَتْ فِي الْوَقْفِ تَبَعًا، وَلَوْ نَبَتَتْ فِيهَا بَعْدَ الْوَقْفِ إنْ عَلِمَ غَارِسُهَا كَانَتْ لِلْغَارِسِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالرَّأْيُ فِيهَا لِلْقَاضِي إنْ رَأَى بَيْعَهَا وَصَرْفَ ثَمَنِهَا عَلَى عِمَارَةِ الْمَقْبَرَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَتَكُونُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهَا وَقْفٌ.

وَلَوْ كَانَتْ قَبْلَ الْوَقْفِ لَكِنَّ الْأَرْضَ مَوَاتٌ لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ فَاِتَّخَذَهَا أَهْلُ الْقَرْيَةِ مَقْبَرَةً فَالْأَشْجَارُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ جَعْلِهَا مَقْبَرَةً. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا غَرَسَ شَجَرَةً فِي الْمَسْجِدِ فَهِيَ لِلْمَسْجِدِ، أَوْ فِي أَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ عَلَى رِبَاطٍ مَثَلًا فَهِيَ لِلْوَقْفِ إنْ قَالَ لِلْقَيِّمِ تَعَاهَدْهَا، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ فَهِيَ لَهُ يَرْفَعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَلَا يَكُونُ غَارِسًا لِلْوَقْفِ. وَلَوْ غَرَسَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ أَوْ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ الْعَامِّ أَوْ

ص: 239

وَالْفَارِقُ هُوَ الْعُرْفُ فِي الْفَصْلَيْنِ. فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ الْفُقَرَاءَ، وَفِي غَيْرِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ فِي الشُّرْبِ وَالنُّزُولِ. وَالْغَنِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَى صَرْفِ هَذَا الْغَلَّةِ لِغِنَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

شَطِّ الْحَوْضِ الْقَدِيمِ فَهِيَ لِلْغَارِسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ جَعْلِهَا لِلْعَامَّةِ، وَكَذَا عَلَى شَطِّ نَهْرِ الْقَرْيَةِ. وَلَوْ قَطَعَهَا فَنَبَتَ مِنْ عُرُوقِهِمَا أَشْجَارٌ فَهِيَ لِلْفَارِسِ وَلَوْ بَنَى رَجُلٌ فِي الْمَقْبَرَةِ بَيْتًا لِحِفْظِ اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ، إنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ سَعَةٌ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، لَكِنْ إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ يُرْفَعُ الْبِنَاءُ لِيَقْبُرَ فِيهِ.

وَمَنْ حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْرًا فَلِغَيْرِهِ أَنْ يَقْبُرَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ سَعَةٌ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُوحِشَهُ إنْ كَانَ فِيهَا سَعَةٌ، وَهُوَ كَمَنْ بَسَطَ سَجَّادَةً فِي الْمَسْجِدِ أَوْ نَزَلَ فِي الرِّبَاطِ فَجَاءَ آخَرُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوحِشَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ فِي الْمَكَانِ سَعَةٌ.

وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْحَفْرِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَقْبَرَةِ الدَّائِرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا حَشِيشٌ يُحَشُّ وَيُخْرَجُ إلَى الدَّوَابِّ وَلَا يُرْسَلُ الدَّوَابُّ فِيهَا، ثُمَّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سُكْنَى الْخَانِ وَدَارِ الْغُزَاةِ وَالسِّقَايَةِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ يَسْتَوِي الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، بِخِلَافِ وَقْفِ الْغَلَّةِ عَلَى الْغُزَاةِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْفَارِقُ) فِيهِ (الْعُرْفُ فَإِنَّ) الْوَاقِفِينَ مِنْ (أَهْلِ الْعُرْفِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ الْفُقَرَاءَ وَفِي غَيْرِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ فِي الشُّرْبِ وَالنُّزُولِ)؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِصْحَابِ مَا يَشْرَبُهُ فِي كُلِّ مَكَان، وَلَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ مِنْ السَّفَرِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ فِي الرِّبَاطِ أَنْ يَخُصَّ سُكْنَاهُ بِالْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ الْأَرْبِطَةِ لِلْفُقَرَاءِ.

وَهَذَانِ فَصْلَانِ فِي الْمُتَوَلِّي وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْمُتَوَلِّي)

قَالُوا: لَا يُوَلَّى مَنْ طَلَبَ الْوِلَايَةَ عَلَى الْأَوْقَافِ كَمَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ لَا يُقَلَّدُ، وَلِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا فَضَلَ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْعِمَارَةِ. مُسْتَغِلًّا، وَلَا يَكُونُ وَقْفًا فِي الصَّحِيحِ حَتَّى جَازَ بَيْعُهُ. وَمَنْ سَكَنَ دَارَ الْوَقْفِ غَصْبًا أَوْ بِإِذْنِ الْمُتَوَلِّي بِلَا أُجْرَةٍ كَانَ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ مُعَدًّا لِلِاسْتِغْلَالِ أَوْ غَيْرَ مُعَدٍّ لَهُ، حَتَّى لَوْ بَاعَ الْمُتَوَلِّي دَارًا لِلْوَقْفِ فَسَكَنَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَفَعَ إلَى قَاضٍ هَذَا الْأَمْرَ فَأَبْطَلَ الْبَيْعَ وَظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْوَقْفِ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَلِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَخْدُمُ الْمَسْجِدَ بِكَنْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ زِيَادَةً يَتَغَابَنُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَالْإِجَارَةُ لَهُ وَعَلَيْهِ الدَّفْعُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ لَوْ دَفَعَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ، وَإِنْ عَلِمَ الْأَجِيرُ أَنَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى حَاجَةِ الْوَقْفِ. وَلَوْ أَدْخَلَ جِذْعًا مِنْ مَالِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ كَالْوَصِيِّ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الصَّغِيرِ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَلَّةِ الْمَسْجِدِ دُهْنًا وَحَصِيرًا وَآجُرًّا وَحُصًّا لِفُرُشِ الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ الْوَاقِفُ وَسَّعَ فَقَالَ يَفْعَلُ مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً، وَإِنْ وَقَفَ لِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَزِدْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ شَرْطٌ يَعْمَلُ مَا عَمِلَ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَا يَسْتَدِينُ عَلَى الْوَقْفِ إلَّا إذَا اسْتَقْبَلَهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَيَسْتَدِينُ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَيَرْجِعُ فِي غَلَّةِ الْوَقْفِ.

وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ: وَكَذَا لَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ لِزِرَاعَةِ الْوَقْفِ وَبِزْرِهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَمْلِكُ الِاسْتِدَانَةَ عَلَى الْوَقْفِ فَصَحَّ بِأَمْرِهِ، بِخِلَافِ الْمُتَوَلِّي لَا يَمْلِكُهُ، وَالِاسْتِدَانَةُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَيَسْتَدِينُ وَيَرْجِعُ. أَمَّا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالُ الْوَقْفِ فَاشْتَرَى وَنَقَدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ

ص: 240

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذَا اشْتَرَى وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ دَارَ الْوَقْفِ، فَإِنْ فَعَلَ وَسَكَنَهَا الْمُرْتَهِنُ ضَمِنَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ.

وَلَوْ أَنْفَقَ دَرَاهِمَ الْوَقْفِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ ثُمَّ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ مِثْلَهَا فِي الْوَقْفِ جَازَ وَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، وَلَوْ خَلَطَ دَرَاهِمَ الْوَقْفِ بِمِثْلِهَا مِنْ مَالِهِ كَانَ ضَامِنًا لِلْكُلِّ. وَلَوْ اجْتَمَعَ مَالُ الْوَقْفِ ثُمَّ نَابَتْ نَائِبَةٌ مِنْ الْكَفَرَةِ فَاحْتِيجَ إلَى مَالٍ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: مَا كَانَ مِنْ غَلَّةِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ لِلْمَسْجِدِ إلَيْهِ.

وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ظُلَّةً لِدَفْعِ أَذَى الْمَطَرِ عَنْ الْبَابِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ إنْ كَانَ عَلَى مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عِمَارَتِهِ أَوْ تَرْمِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ ظَهِيرُ الدِّينِ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ. وَإِذَا كَانَ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ لَا يَشْتَرِي مِنْهُ الزَّيْتَ وَالْحَصِيرَ وَلَا يَصْرِفُ مِنْهُ لِلزِّينَةِ وَالشُّرُفَاتِ، وَيَضْمَنُ إنْ فَعَلَ، وَمَنْ وَقَفَ وَقْفًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مُتَوَلِّيًا حَتَّى حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ قَالُوا يَكُونُ وَصِيًّا وَقَيِّمًا، هَذَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَصَحَّ الْوَقْفُ فِي حَيَاتِهِ بِلَا تَسْلِيمٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَعَلَ لَهُ قَيِّمًا ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَأَوْصَى لَا يَكُونُ هَذَا الْوَصِيُّ قَيِّمًا فِي الْوَقْفِ.

قَيِّمُ مَسْجِدٍ مَاتَ فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ عَلَى جَعْلِ رَجُلٍ قَيِّمًا بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، فَقَامَ وَأَنْفَقَ مِنْ غَلَّاتِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ فِي عِمَارَتِهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي هَذِهِ التَّوْلِيَةِ وَالْأَصَحُّ لَا تَصِحُّ. بَلْ نَصْبُ الْقَيِّمِ إلَى الْقَاضِي لَكِنْ لَا يَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ فِي الْعِمَارَةِ مِنْ غَلَّاتِهِ إذَا كَانَ أَجَّرَ الْوَقْفَ وَأَخَذَ الْغَلَّةَ فَأَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ وِلَايَتُهُ فَإِنَّهُ غَاصِبٌ، وَالْغَاصِبُ إذَا أَجَّرَ الْمَغْصُوبَ كَانَ الْأَجْرُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ. كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ تَضْمِينُ غَاصِبِ الْأَوْقَافِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ وُقِفَ عَلَى أَرْبَابٍ مَعْلُومِينَ فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يُنَصِّبُوا مُتَوَلِّيًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ. لَكِنْ قِيلَ الْأَوْلَى أَنْ يَرْفَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى الْقَاضِي لِيُنَصِّبَ لَهُمْ. وَقِيلَ بَلْ الْأَوْلَى فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ لَا يَفْعَلُوا وَيُنَصِّبُوا لَهُمْ. وَلَيْسَ لِلْمُشْرِفِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْوَقْفِ بَلْ وَظِيفَتُهُ الْحِفْظُ لَا غَيْرُ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي مَعْنَى الْمُشْرِفِ، وَلِلْمُتَوَلِّي أَنْ يُفَوِّضَ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ كَالْوَصِيِّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ جَعَلَ لِذَلِكَ الْمُتَوَلِّي مَالًا مُسَمًّى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ بَلْ يُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْقَاضِي إذَا تَبَرَّعَ بِعَمَلِهِ لِيُفْرَضَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ جَعَلَ ذَلِكَ لِكُلِّ مُتَوَلٍّ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ لِلَّذِي أَدْخَلَهُ مَا كَانَ الْوَاقِفُ جَعَلَهُ لِلَّذِي كَانَ أَدْخَلَهُ؛ لِأَنَّ لِلْوَاقِفِ فِي هَذَا مَا لَيْسَ لِلْحَاكِمِ، وَكَذَا إذَا أَخَذَ الْمُتَوَلِّي مِنْ مَالِ الْوَقْفِ وَمَاتَ بِلَا بَيَانٍ لَا يَضْمَنُ. فَالْأَمَانَاتُ تَنْقَلِبُ مَضْمُونَةً بِالْمَوْتِ عَنْ تَجْهِيلٍ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: هَذِهِ إحْدَاهَا.

وَالثَّانِيَةُ إذَا أَوْدَعَ السُّلْطَانُ الْغَنِيمَةَ عِنْدَ بَعْضِ الْغَانِمِينَ، وَمَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ مَنْ أَوْدَعَ. وَالثَّالِثَةُ الْقَاضِي إذَا أَخَذَ مَالَ الْيَتِيمِ وَأَوْدَعَ غَيْرَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ مَنْ أَوْدَعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْقَاضِي أَخَذَ مَالَ الْيَتِيمِ عِنْدَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى مَاتَ فَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ.

وَلَوْ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ ضَاعَ مَالُ الْيَتِيمِ عِنْدِي أَوْ أَنْفَقْته عَلَيْهِ، وَمَاتَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا، أَمَّا لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ ضَمِنَ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُتَوَلِّي دَارَ الْوَقْفِ، وَمَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيْنَ الثَّمَنُ فَإِنَّهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ، وَلِلنَّاسِ أَنْ يَأْخُذُوا الْمُتَوَلِّيَ بِتَسْوِيَةِ حَائِطِ الْوَقْفِ إذَا مَالَ إلَى أَمْلَاكِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ يُرْفَعُ إلَى الْقَاضِي لِيَأْمُرَ بِالِاسْتِدَانَةِ لِإِصْلَاحِهَا، وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ قَرْيَةً فِي أَرْضِ الْوَقْفِ لِلْأُكْرَةِ وَحُفَّاظِهَا، وَلِيَجْمَعَ فِيهَا الْغَلَّةَ وَأَنْ يَبْنِيَ بُيُوتًا يَسْتَغِلُّهَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ مُتَّصِلَةً بِبُيُوتِ الْمِصْرِ لَيْسَتْ لِلزِّرَاعَةِ، فَإِنْ كَانَ زِرَاعَتُهَا أَصْلَحَ مِنْ الِاسْتِغْلَالِ لَا يَبْنِي. وَفِي النَّوَازِلِ فِي إقْرَاضِ مَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ قَالَ:

ص: 241

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إنْ كَانَ أَحْرَزَ لِلْغَلَّةِ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ وَاسِعًا وَلَا يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ إجَارَةً طَوِيلَةً وَأَكْثَرُ مَا يَجُوزُ سِنِينَ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِقَالَةُ إلَّا إنْ كَانَتْ أَصْلَحَ لِلْوَقْفِ.

وَلَوْ زَرَعَ الْوَاقِفُ أَوْ الْمُتَوَلِّي أَرْضُ الْوَقْفِ وَقَالَ زَرَعْتهَا لِنَفْسِي وَقَالَ الْمُسْتَحِقُّونَ بَلْ لِلْوَقْفِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَعَلَى الْوَاقِفِ وَالْمُتَوَلِّي فِي هَذَا نُقْصَانُ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ، وَيَقُولُ الْقَاضِي لَهُ ازْرَعْهَا لِلْوَقْفِ، فَإِنْ قَالَ لَيْسَ لِلْوَقْفِ مَالٌ أَزْرَعُهَا بِهِ يَأْمُرُهُ بِالِاسْتِدَانَةِ لِذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ لَا يُمْكِنُنِي يَقُولُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ اسْتَدِينُوا، فَإِنْ قَالُوا لَا يُمْكِنُنَا بَلْ نَزْرَعُ لِأَنْفُسِنَا لَا يُمَكِّنُهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ فِي يَدِ الْوَاقِفِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَأْمُونٍ، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِفُرُوعِهَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ.

وَيَنْعَزِلُ النَّاظِرُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ إذَا دَامَ سَنَةً نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ لَا إنْ دَامَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ عَادَ إلَيْهِ عَقْلُهُ وَبَرَأَ مِنْ عِلَّتِهِ عَادَ إلَيْهِ النَّظَرُ. وَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقُومُ بِمَا كَانَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْوَقْفِ، وَيَجْعَلَ لَهُ مِنْ جَعْلِهِ شَيْئًا، وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ أَوْ لَا يَسْتَبْدِلَ، وَلَوْ جُنَّ انْعَزَلَ وَكِيلُهُ وَيَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي فِي النَّصْبِ.

وَلَوْ أَخْرَجَ حَاكِمٌ قَيِّمًا فَمَاتَ أَوْ عُزِلَ فَتَقَدَّمَ الْمُخْرَجُ إلَى الْقَاضِي الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ بِلَا جُنْحَةٍ لَا يُدْخِلْهُ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَوَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى السَّدَادِ، وَلَكِنْ يُكَلِّفُهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَهْلٌ وَمَوْضِعٌ لِلنَّظَرِ فِي هَذَا الْوَقْفِ، فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَهُ.

وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَهُ لِفِسْقٍ وَخِيَانَةٍ فَبَعْدَ مُدَّةٍ أَنَابَ إلَى اللَّهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَارَ أَهْلًا لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعِيدُهُ، وَلَيْسَ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا يَفْعَلُهُ أَمْثَالُهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْمَصَالِحِ، وَيَصْرِفُ الْأَجْرَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ لِلْعَمَلَةِ بِأَيْدِيهِمْ، وَلِذَا قُلْنَا لَوْ عَمِيَ أَوْ طَرِشَ أَوْ خَرِسَ أَوْ فَلَجَ، إنْ كَانَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ فَلَهُ الْأَجْرُ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ الْوَاقِفُ؛ وَلِلنَّاظِرِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَنْ يُعْطِيَ قَوْمًا مُدَّةً وَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُمْ وَيُعْطِيَ غَيْرَهُمْ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ كَثْرَةٌ بِحَيْثُ يُحَاصِصُونَهُمْ. وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ: أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي أَنْ لَا يُعْطِيَ غَيْرَ هَذَا الرَّجُلِ لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ، وَمَا لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ وَيَحْرِمَهُ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَنْفِيذُ شَرْطِ الْوَاقِفِ، وَقَدْ اُسْتُبْعِدَتْ صِحَّةُ هَذَا الْحُكْمِ، وَكَيْفَ سَاغَ بِلَا شُرُوطٍ حَتَّى ظَفِرَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِقُوَيْلَةٍ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَصِحُّ وَلَا يَلْزَمُ.

(الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ)

وُقِفَ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ الْمَسَاكِينِ فَرَدَّ زَيْدٌ فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ، وَكَذَا عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَرَدَّ أَحَدُهُمَا أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا فَنُصِيبُهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَكَذَا إذَا رَدَّا جَمِيعًا، وَمَنْ قَبِلَ بَعْدَ الرَّدِّ لَا يَعُودُ، وَمَنْ أَخَذَ سَنَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ بَعْدَ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ قَالَ لَا أَقْبَلُهَا سَنَةً، وَأَقْبَلُ مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَحِصَّتُهُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ لِلْبَاقِي مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، ثُمَّ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا بَعْدَهَا، وَلَوْ قَبِلَ سِنِينَ وَسَمَّاهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بَلْ بَعْدَهَا عَلَى وَلَدِهِ، وَقَوْلُهُ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا فَرَدَّهُ الْمَوْجُودُونَ صَارَ لِلْفُقَرَاءِ، فَإِذَا جَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ رَجَعَ مِنْ الْفُقَرَاءِ إلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَرُدُّوهُ، وَلَوْ رَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَطْ فَالْغَلَّةُ كُلُّهَا لِمَنْ قَبِلَ، وَيُجْعَلُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ كَالْمَيِّتِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِوَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانُوا يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعَةً فَرَدَّ وَاحِدٌ فَحِصَّتُهُ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَهَذِهِ مِمَّا افْتَرَقَ فِيهِ الْوَصِيَّةُ وَالْوَقْفُ، وَالْفَرْقُ ذَكَرَهُ هِلَالٌ وَغَيْرُهُ. وَعَلَى فُلَانٍ وَوَلَدِهِ فَرَدَّهُ فُلَانٌ لَمْ يُعْمَلْ رَدُّهُ فِي رَدِّ مَا لِوَلَدِهِ صِغَارًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا.

وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ لِلْمَسَاكِينِ فَلِوَلَدِ صُلْبِهِ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى إلَّا أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مَا دَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَالْكُلُّ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَقْتَ الْوَقْفِ بَلْ وَلَدُ ابْنٍ كَانَ لَهُ

ص: 242

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لَا يُشَارِكُهُ مَنْ دُونَهُ مِنْ الْبُطُونِ، فَإِنْ كَانَ ابْنَ بِنْتٍ لَا يَدْخُلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَبِهِ أَخَذَ هِلَالٌ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ وَصَحَّحَ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ.

ثُمَّ إذَا وُلِدَ لِلْوَاقِفِ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ رَجَعَ مِنْ ابْنِ الِابْنِ إلَيْهِ، وَلَوْ ضُمَّ إلَى الْوَلَدِ وَلَدُ الْوَلَدِ فَقَالَ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي ثُمَّ لِلْمَسَاكِينِ اشْتَرَكَ فِيهِ الصُّلْبِيُّونَ وَأَوْلَادُ بَنِيهِ وَأَوْلَادُ بَنَاتِهِ، كَذَا اخْتَارَهُ هِلَالٌ وَالْخَصَّافُ وَصَحَّحَهُ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.

وَأَنْكَرَ الْخَصَّافُ رِوَايَةَ حِرْمَانِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ مَنْ يَقُومُ بِرِوَايَةِ ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِوَلَدِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنْ وُجِدَ لَهُ وَلَدٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ لِصُلْبِهِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي كَانَ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ بَلْ وَلَدُ وَلَدٍ مِنْ أَوْلَادِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَانَ لِوَلَدِ الذُّكُورِ دُونَ الْبَنَاتِ فَكَأَنَّهُمْ قَاسُوا عَلَى ذَلِكَ وَهَذِهِ هِيَ وَزَانُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.

وَفَرَّقَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ بِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ اسْمٌ لِمَنْ وَلَدُهُ وَلَدُهُ وَبِنْتُهُ وَلَدُهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَلَدِي فَإِنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ لَا يَدْخُلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ وَلَدِهِ يَتَنَاوَلُ وَلَدَهُ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ فِي وَلَدِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ عُرْفًا.

قَالَ: وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الْبِنْتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، لَكِنْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الِاخْتِيَارِ، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مِنْ صِدْقِ وَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى وَلَدِ الْبِنْتِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، لَكِنْ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْعُرْفِ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ وَلَدُ وَلَدِ فُلَانٍ كَذَا، وَكَذَا وَلَدُ ابْنِهِ وَكَلَامُ الْوَاقِفِينَ مُنْصَرِفٌ إلَى الْعُرْفِ فَإِنَّ تَخَاطُبَهُمْ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُضِفْ إلَى الْوَلَدِ كَمَا يُقَالُ وَلَدَتْ فُلَانَةُ فَإِنَّهُ يُقَالُ أَوَلَدْت ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؟ فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ فَهْمِ الذَّكَرِ بِخُصُوصِهِ، وَإِذَا عُرِفَ الِاخْتِلَافُ فِي دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي أَوْلَادِ أَوْلَادِي فَيَجِبُ فِيمَا لَوْ قَالَ عَلَى الذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي إدْخَالُ ابْنِ الْبِنْتِ عَلَى الْخِلَافِ لَا يَدْخُلُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنَ وَلَدِ الْوَلَدِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَدْخُلُ؛ ثُمَّ إذَا انْقَرَضَ وَلَدُ الْوَلَدِ لَا يُعْطِي لِمَنْ بَعْدَهُمْ بَلْ لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ قَالَ وَلَدِي وَوَلَدُ وَلَدِي وَوَلَدُ وَلَدِي صُرِفَتْ إلَى أَوْلَادِهِ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا، وَلَا يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ مَا كَانَ مِنْ نَسْلِهِ وَاحِدٌ، وَيَسْتَوِي الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ إلَّا أَنْ يُرَتِّبَ الْوَاقِفُ.

وَلَوْ قَالَ أَوْلَادِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ النَّسْلُ كُلُّهُ كَذِكْرِ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ بِلَفْظِ وَلَدِي، وَلَوْ قَالَ وَلَدِي وَأَوْلَادُهُمْ وَلَهُ أَوْلَادُ أَوْلَادٍ مَاتَ آبَاؤُهُمْ قَبْلَ الْوَقْفِ لَا يَدْخُلُونَ مَعَ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ الْمَوْجُودِينَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ مَوْتِ أُولَئِكَ عَلَى أَوْلَادِي فَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَوْجُودِينَ، وَضَمِيرُ أَوْلَادِهِمْ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ خَاصَّةً، بِخِلَافِ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي لَا مُوجِبَ لِقَصْرِهِ عَلَى الْأَوْلَادِ الْمَوْجُودِينَ فَتُدَخِّلُ أَوْلَادَ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ قَبْلُ مَعَهُمْ، وَلَوْ قَالَ أَوْلَادِي وَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَبَعْدَهُمْ لِلْفُقَرَاءِ فَمَاتَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أُعْطِيَ نَصِيبُهُ لِلْفُقَرَاءِ لَا لِلْبَاقِينَ مِنْ إخْوَتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَقُلْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بَلْ أَوْلَادِي ثُمَّ الْفُقَرَاءُ يُصْرَفُ الْكُلُّ لِلْوَاحِدِ إذَا مَاتَ مَنْ سِوَاهُ.

وَلَوْ قَالَ عَلَى بَنِيَّ وَلَهُ ذَكَرَانِ صُرِفَ إلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلَهُ النِّصْفُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، فَإِنَّمَا جُعِلَ مُسْتَحِقَّ كُلِّهِ اثْنَيْنِ. وَعَلَيْهِ فَرَّعَ ابْنُ الْفَضْلِ قَوْلَهُ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ وَلَدِي وَلَيْسَ فِي وَلَدِهِ مُحْتَاجٌ إلَّا وَاحِدٌ أَنَّ النِّصْفَ لَهُ وَالنِّصْفَ الْآخَرَ لِلْفُقَرَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُشْكِلُ بِأَوْلَادِي فَإِنَّهُ يُصْرَفُ لِلْوَاحِدِ الْكُلُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُرْفٌ فِي أَوْلَادِي يُخَالِفُ كُلَّ جَمْعٍ لِمَادَّةِ غَيْرِهِ كَبَنِيَّ وَالْمُحْتَاجِينَ وَنَحْوَهُ مِمَّا هُوَ جَمْعٌ غَيْرُ لَفْظِ أَوْلَادِي.

وَنُقِلَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيمَا لَوْ أَعْطَى الْقَيِّمَ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ لِوَاحِدٍ أَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ لَا يُحْصُونَ فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْجِنْسَ. وَمَعَهُ مُحَمَّدٌ لِلْجَمْعِيَّةِ فَوَجَبَ إعْطَاءُ اثْنَيْنِ، وَتَدْخُلُ الْبَنَاتُ

ص: 243

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فِي قَوْلِهِ بَنِيَّ وَاخْتَارَهُ هِلَالٌ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِصَاصُ الذُّكُورِيَّةِ. قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ الدُّخُولُ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَيْهِ بَنَوْا قَوْلَ الْمُسْتَأْمَنِ آمِنُونِي عَلَى بَنِيَّ تَدْخُلُ الْبَنَاتُ.

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي بَنِي أَبٍ يُحْصَوْنَ، أَمَّا فِيمَا لَا يُحْصَوْنَ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ انْتَهَى يَعْنِي فَتَدْخُلُ الْمَرْأَةُ بِلَا تَرَدُّدٍ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا بَنَاتٌ صُرِفَتْ الْغَلَّةُ لِلْفُقَرَاءِ، وَعَلَى بَنَاتِي لَا تَدْخُلُ الذُّكُورُ، ثُمَّ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ الْوَلَدِ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَ خُرُوجَ الْغَلَّةِ عَالِقًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، حَتَّى لَوْ حَدَثَ وَلَدٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْغَلَّةِ بِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ اسْتَحَقَّ، وَمَنْ حَدَثَ إلَى تَمَامِهَا فَصَاعِدًا لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْأَوَّلِ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ خُرُوجِ الْغَلَّةِ فَاسْتَحَقَّ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَ لِوَرَثَتِهِ. وَهَذَا فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ، أَمَّا لَوْ جَاءَتْ أَمَتُهُ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَاعْتَرَفَ بِهِ لَا يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى الْغَيْرِ: أَعْنِي بَاقِيَ الْمُسْتَحِقِّينَ، بِخِلَافِ وَلَدِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ حِينَ يُولَدُ ثَابِتُ النَّسَبِ.

وَلَوْ مَاتَ الْوَاقِفُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ وَقَفَ اسْتَحَقَّ مِنْ كُلِّ غَلَّةٍ خَرَجَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ الْوَقْفِ بِلَا تَخَلُّلِ مُدَّةٍ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَوْتُ وَالطَّلَاقُ بَعْدَ زَمَانٍ يُمْكِنُ فِيهِ الرُّجُوعُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْ حَمْلٍ حَدَثَ، وَخُرُوجُ الْغَلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَنَاطُ وَقْتَ انْعِقَادِ الزَّرْعِ حَبًّا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَوْمَ يَصِيرُ الزَّرْعُ مُتَقَوِّمًا ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. وَهَذَا فِي الْحَبِّ خَاصَّةً. وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ يَوْمَ طَلَعَتْ الثَّمَرَةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ وَقْتُ أَمَانِهِ الْعَاهَةُ كَمَا فِي الْحَبِّ؛ لِأَنَّهُ بِالِانْعِقَادِ يَأْمَنُ الْعَاهَةَ، وَقَدْ اُعْتُبِرَ انْعِقَادُهُ. وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ بِلَادِنَا مِنْ إجَارَةِ أَرْضِ الْوَقْفِ لِمَنْ يَزْرَعُهَا لِنَفْسِهِ بِأُجْرَةٍ تُسْتَحَقُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَاطٍ كُلُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قِسْطٌ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ إدْرَاكِ الْقِسْطِ فَهُوَ كَإِدْرَاكِ الْغَلَّةِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ الرَّابِعِ حَتَّى تَمَّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ اسْتَحَقَّ هَذَا الْقِسْطَ وَمَنْ لَا فَلَا، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ عَلَى أَصَاغِرِ وَلَدِي أَوْ الْعُمْيَانِ مِنْهَا أَوْ الْعُورِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَيُعْتَبَرُ الصِّغَرُ وَالْعَوَرُ وَالْعَمَى يَوْمَ الْوَقْفِ لَا يَوْمَ الْغَلَّةِ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى سَاكِنِي الْبَصْرَةِ مَثَلًا وَبَغْدَادَ يُعْتَبَرُ سُكْنَى الْبَصْرَةِ يَوْمَ الْغَلَّةِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ لَا يَزُولُ فَهُوَ كَالِاسْمِ الْعَلَمِ. وَكَذَلِكَ إذَا زَالَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ يَوْمَ الْوَقْفِ، بِخِلَافِ الْفَقْرِ وَسُكْنَى الْبَصْرَةِ يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ بَعْدَ الزَّوَالِ.

وَلَوْ قَالَ مَنْ خَرَجَ يَسْقُطُ سَهْمُهُ فَخَرَجَ وَاحِدٌ ثُمَّ عَادَ لَا يَعُودُ سَهْمُهُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْأَيَامَى عَلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَتْ سَقَطَ سَهْمُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِوَاحِدٍ، ثُمَّ طَلُقَتْ لَا يَعُودُ إلَّا إنْ كَانَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلُّ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْوَاقِفُ حَالَ حِصَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يُقَسَّمُ عَلَى الْبَاقِينَ، فَقَدْ تُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيُعْطَى الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ مِنْ الْأَوْلَادِ إلَّا أَنْ يُعِينَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ وَلَدِهِ فَيَلْزَمُ؛ فَمَنْ ادَّعَى الْحَاجَةَ مِنْهُمْ لَا يُعْطَى مَا لَمْ يُثَبِّتْهَا عِنْدَ الْقَاضِي. وَلَوْ تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَا فَقْرِهِ وَغِنَاهُ حُرِمَ تَقْدِيمًا لِبَيِّنَةِ غِنَاهُ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا. وَمَنْ وُلِدَ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ خُرُوجِ الْغَلَّةِ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَ هِلَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْحَاجَةِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَلِذَا لَمْ يَجْعَلْ نَفَقَةَ الْحَامِلِ فِي مَالِ مَنْ فِي بَطْنِهَا، وَاسْتَحَقَّ عِنْدَ الْخَصَّافِ لِأَنَّهُ كَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَلَّةِ وَلَا مَالَ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُحْتَاجٌ كَانَ لِلْمَسَاكِينِ؛ وَمَنْ افْتَقَرَ بَعْدَ الْغِنَى رَجَعَ إلَيْهِ الْكُلُّ.

وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ رحمه الله: لَوْ اجْتَمَعَتْ عِدَّةُ سِنِينَ بِلَا قِسْمَةٍ حَتَّى اسْتَغْنَى قَوْمٌ وَافْتَقَرَ آخَرُونَ ثُمَّ قُسِّمَتْ يُعْطَى مَنْ كَانَ فَقِيرًا يَوْمَ الْقِسْمَةِ، وَلَا أَنْظُرُ إلَى مَنْ كَانَ فَقِيرًا وَقْتَ الْغَلَّةِ ثُمَّ اسْتَغْنَى فَأُعْطِيَهُ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْقِسْمَةِ لَا يُعْطَى مِنْ هَذِهِ الْقِسْمَةِ شَيْئًا بَلْ مِمَّا بَعْدَهَا، وَكَذَا

ص: 244

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لَوْ خَصَّ عُمْيَانَ أَوْلَادِهِ وَنَحْوَهُ تَعَيَّنُوا، وَالْمُحْتَاجُ الَّذِي يُصْرَفُ إلَيْهِ مَنْ تُدْفَعُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَرْضٌ أَوْ دَارٌ يَسْتَغِلُّهَا، وَإِنْ لَمْ تَفِ غَلَّتُهَا بِكِفَايَتِهِ حَتَّى يَبِيعَهَا وَيُنْفِقَ ثَمَنَهُمَا، أَوْ يَفْضُلَ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ.

بِخِلَافِ الدَّارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ وَلَيْسَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ الدَّارُ سُكْنَاهَا بَلْ الِاسْتِغْلَالُ، كَمَا لَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ السُّكْنَى الِاسْتِغْلَالُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ أَوْلَادَهُ وَأَقَارِبَهُ صَحَّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يَخْتَصَّ الْفُقَرَاءَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إذَا ذَكَرَ مَصْرِفًا يَسْتَوِي فِيهِمْ تَنْصِيصٌ عَلَى الْحَاجَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ سَوَاءً كَانُوا يُحْصَوْنَ أَوْ لَا يُحْصَوْنَ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتَى ذَكَرَ مَصْرِفًا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ، فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهُوَ بَاطِلٌ، إلَّا إنْ كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالًا بَيْنَ النَّاسِ لَا بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ كَالْيَتَامَى فَالْوَقْفُ عَلَيْهِمْ صَحِيحٌ، وَيُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ. فَانْبَنَى عَلَى هَذِهِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ أَوْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الصِّبْيَانِ أَوْ عَلَى مُضَرَ أَوْ رَبِيعَةَ أَوْ عَلَى تَمِيمٍ أَوْ بَنِي هَاشِمٍ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِانْتِظَامِهِ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ مَعَ عَدَمِ الْإِحْصَاءِ، وَلَا مُمَيِّزَ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَنَصَّ الْخَصَّافُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَالْعُورَانِ بَاطِلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْتَظِمَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، وَكَذَا عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الْفُقَهَاءِ. أَوْ قَالَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَوْ الشُّعَرَاءِ كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه الضَّابِطُ الَّذِي ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ كَالْيَتَامَى لِإِشْعَارِ الْأَسْمَاءِ بِالْحَاجَةِ اسْتِعْمَالًا؛ لِأَنَّ الْعَمَى وَالِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ يَقْطَعُ عَنْ الْكَسْبِ فَيَغْلِبُ فِيهِمْ الْفَقْرُ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَهَاءِ بِاسْتِحْقَاقِ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ فَرْعُ الصِّحَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْهِدَايَةِ تُفِيدُ ذَلِكَ، وَهِيَ مَا إذَا جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ وَقْفًا عَلَى الْغُزَاةِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ إلَى فُقَرَاءِ الْغُزَاةِ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْغُزَاةِ يَنْتَظِمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ غَيْرَ أَنَّهُ يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ، وَنَصَّ فِي وَقْفِ هِلَالٍ عَلَى جَوَازِهِ عَلَى الزَّمْنَى، وَيُدْفَعُ لِفُقَرَائِهِمْ.

وَصَرَّحَ فِي وَقْفِ الْخَصَّافِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى أَرَامِلِ بَنِي فُلَانٍ، وَأَنَّهُ لِكُلِّ أَرْمَلَةٍ كَانَتْ يَوْمَ الْوَقْفِ أَوْ حَدَثَتْ سَوَاءٌ كُنَّ يُحْصَيْنَ أَوْ لَا، وَهُوَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُنَّ إذَا كَانَتْ بَالِغَةً، فَمَنْ أُعْطِيَ مِنْهُنَّ أَجْزَأَ. وَالْأَرْمَلَةُ الْمُسْتَحِقَّةُ: كُلُّ بَالِغَةٍ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَطَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ. وَخَالَفُوا فِي الْأَيَامَى، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى أَيَامَى بَنِي فُلَانٍ وَبَعْدَهُنَّ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ أَيَامَى قَرَابَتِي إنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ، فَالْوَقْفُ جَائِزٌ وَغَلَّتُهُ لِلْغَنِيَّةِ وَالْفَقِيرَةِ، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لَمْ يَجُزْ الْوَقْفُ فَيَكُونُ لِلْمَسَاكِينِ وَالْأَيِّمُ الْمُسْتَحِقَّةُ: كُلُّ أُنْثَى جُومِعَتْ وَلَوْ بِفُجُورٍ وَلَا زَوْجَ لَهَا بَالِغَةً أَوْ لَا. وَلَوْ قَالَ عَلَى كُلِّ ثَيِّبٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ قَرَابَتِي فَإِنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ جَازَ لَهُنَّ وَلِكُلِّ مَنْ يَحْدُثُ مِنْهُنَّ، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ؛ فِي وَقْتِ قِسْمَةٍ مِنْ الْقَسْمِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَالْغَلَّةُ لِلْمَسَاكِينِ. وَالثَّيِّبُ: كُلُّ مَنْ جُومِعَتْ وَلَوْ بِفُجُورٍ وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ لَا وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ، وَلِأَبْكَارِ قَرَابَتِي أَوْ بَنِي فُلَانٍ. فَإِنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ فَهُوَ لَهُنَّ وَلِمَنْ يَحْدُثُ أَبَدًا، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ فَالْوَقْفُ عَلَيْهِنَّ بَاطِلٌ وَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ.

وَالْبِكْرُ: مَنْ لَمْ تُجَامَعْ وَإِنْ كَانَتْ الْعُذْرَةُ زَائِلَةً. وَفِي كُلِّ مَا لَا يُحْصَى مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَهُ الْوَقْفُ لَوْ قَيَّدَ فَقَالَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُنَّ جَازَ، وَمَنْ أَعْطَى أَجْزَأَ كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَقَارِبِ. وَقَفَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ ثُمَّ الْمَسَاكِينِ دَخَلَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ مِمَّنْ يُنَاسِبُهُ إلَى الْأَبِ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ أَسْلَمَ ذَلِكَ الْأَبُ أَوْ لَا مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْوَقْفِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَجِيءِ الْغَلَّةِ، وَلَوْ كَانُوا مَرْقُوقِينَ لِقَوْمٍ أَوْ كُفَّارٍ أَوْ ذِمِّيِّينَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَبُ وَيَدْخُلُ

ص: 245

‌كِتَابُ الْبُيُوعِ

أَبُو الْوَاقِفِ وَأَجْدَادُهُ وَوَلَدُهُ لِصُلْبِهِ وَأَوْلَادُ الذُّكُورِ مِنْهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلَا تَدْخُلُ أَبْنَاءُ الْبَنَاتِ مِنْ وَلَدِهِ إلَّا إذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ مِمَّنْ يُنَاسِبُهُ إلَى ذَلِكَ الْجَدِّ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَلَا يَدْخُلُ الْوَاقِفُ وَلَا أَوْلَادُ عَمَّاتِهِ وَلَا أَوْلَادُ أَخَوَاتِهِ إذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ.

وَقَوْلُهُ عَلَى آلِي وَجِنْسِي كَأَهْلِ بَيْتِي وَلَا يَخُصُّ الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ إلَّا إنْ خَصَّهُمْ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَعَلَى مَنْ افْتَقَرَ مِنْهُمْ سَوَاءً، حَيْثُ يَكُونُ لِمَنْ يَكُونُ فَقِيرًا وَقْتَ الْغَلَّةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الْوَقْفِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى قَرَابَتِهِ فَهُوَ لِمَنْ يُنَاسِبُهُ إلَى أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، أَوْ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ، لَكِنْ لَا يَدْخُلُ أَبُو الْوَاقِفِ وَلَا أَوْلَادُهُ لِصُلْبِهِ.

وَفِي دُخُولِ الْجَدِّ رِوَايَتَانِ. وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا يَدْخُلُ، وَيَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ وَأَوْلَادُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْأَجْدَادُ الْأَعْلَوْنَ وَالْجَدَّاتُ وَرَحِمِي وَأَرْحَامِي وَكُلِّ ذِي نَسَبٍ مِنِّي كَالْقَرَابَةِ. وَعَلَى عِيَالِي يَدْخُلُ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ مِنْ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ وَالْجَدَّاتِ، وَمَنْ كَانَ يَعُولُهُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ وَغَيْرِ ذَوِي الرَّحِمِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَلَوْ قَالَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِي فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى قَرَابَتِي فَهُوَ صَحِيحٌ وَتُصْرَفُ بَعْدَهُمْ لِمَنْ يُنَاسِبُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، وَلَوْ عَكَسَ فَقَالَ عَلَى قَرَابَتِي فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى أَهْلِ بَيْتِي لَمْ يَصِحَّ، وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ عَلَى إخْوَتِي فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى إخْوَتِي لِأَبِي، وَلَهُ إخْوَةٌ مُتَفَرِّقُونَ إذْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْكُلِّ لَا يَبْقَى لَهُ أَخٌ فَيَكُونُ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ لِلْمَسَاكِينِ وَعَلَى جِيرَانِهِ يَجُوزُ، ثُمَّ هُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه الْمُلَاصِقُونَ فَهُوَ لِجَمِيعِ مَنْ فِي كُلِّ دَارٍ لَاصَقَتْهُ مِنْ الْأَحْرَارِ، وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ وَالْعَبِيدُ بِالسَّوِيَّةِ قَرُبَتْ الْأَبْوَابُ أَوْ بَعُدَتْ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُمْ الَّذِينَ تَجْمَعُهُمْ مَحَلَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ جَمَعَتْهُمْ مَحَلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَتَفَرَّقُوا فِي مَسْجِدَيْنِ فَهِيَ مَحَلَّةٌ وَاحِدَةٌ إنْ كَانَ الْمَسْجِدَانِ صَغِيرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، فَإِنْ تَبَاعَدَا وَكَانَ مَسْجِدًا عَظِيمًا جَامِعًا فَكُلُّ أَهْلِ مَسْجِدٍ جِيرَانٌ دُونَ الْآخَرِينَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُمْ الْمُلَازِقُونَ السُّكَّانَ سَوَاءٌ كَانُوا مَالِكِينَ لِلدَّارِ أَوْ لَا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَدْخُلُ الْأَرِقَّاءُ وَمَنْ انْتَقَلَ مِنْ الْجِوَارِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْجَارِ بَطَلَ حَقُّهُ مِنْ الْوَقْفِ.

كِتَابُ الْبُيُوعِ

عُرِفَ أَنَّ مَشْرُوعَاتِ الشَّارِعِ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً، وَحُقُوقِ الْعِبَادِ خَالِصَةً، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّهُ تَعَالَى غَالِبٌ. وَمَا اجْتَمَعَا فِيهِ وَحَقُّ الْعِبَادِ غَالِبٌ. فَحُقُوقُهُ تَعَالَى عِبَادَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ،

ص: 246

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ شَرَعَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ، ثُمَّ فِي تَرْتِيبِ خُصُوصِ بَعْضِ الْأَبْوَابِ عَلَى بَعْضِ مُنَاسَبَاتٍ خَاصَّةٍ ذُكِرَتْ فِي مَوَاضِعِهَا، وَوَقَعَ فِي آخِرِهَا تَرْتِيبُ أَوَّلِ أَقْسَامِ حُقُوقِ الْعِبَادِ: أَعْنِي الْبَيْعَ عَلَى الْوَقْفِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا صَحَّ خَرَجَ الْمَمْلُوكُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ لَا إلَى مَالِكٍ. وَفِي الْبَيْعِ إلَى مَالِكٍ فَنَزَلَ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْبَسِيطِ مِنْ الْمُرَكَّبِ، وَالْبَسِيطُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُرَكَّبِ فِي الْوُجُودِ فَقَدَّمَهُ فِي التَّعْلِيمِ، هَكَذَا ذَكَرَ. وَلَا يَخْفَى شُرُوعُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ زَمَانٍ، فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ وَالْمَفْقُودِ وَالشَّرِكَةِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ. ثُمَّ الْبَيْعُ مَصْدَرٌ؛ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ فَيُجْمَعُ بِاعْتِبَارِهِ كَمَا يُجْمَعُ الْمَبِيعُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ فَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ سَلَمًا وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَقَلَبَهُ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ، وَصَرْفًا وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ، وَمُقَابَضَةً وَهُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَبِخِيَارٍ وَمُنْجَزٍ أَوْ مُؤَجَّلِ الثَّمَنِ، وَمُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً وَوَضِيعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَالْبَيْعُ مِنْ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ بَاعَهُ: إذَا أَخَّرَ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِهِ إلَيْهِ، وَبَاعَهُ: أَيْ اشْتَرَاهُ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْحَرْفِ، بَاعَ زَيْدٌ الثَّوْبَ وَبَاعَهُ مِنْهُ. وَأَمَّا مَفْهُومُهُ لُغَةً وَشَرْعًا فَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: الْبَيْعُ لُغَةً: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَكَذَا فِي الشَّرْعِ، لَكِنْ زِيدَ فِيهِ قَيْدُ التَّرَاضِي اهـ.

وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّرَاضِيَ لَا بُدَّ مِنْهُ لُغَةً أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مَنْ بَاعَهُ وَبَاعَ زَيْدٌ عَبْدَهُ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُبْدِلَ بِهِ بِالتَّرَاضِي، وَأَنَّ الْأَخْذَ غَصْبًا وَإِعْطَاءَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لَا يَقُولُ فِيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ بَاعَهُ. وَشَرْعِيَّةُ الْبَيْعِ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَالسُّنَّةُ وَهِيَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ بَيْعَكُمْ هَذَا يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» وَبَعَثَ عليه الصلاة والسلام وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ.

وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ. وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهِ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَعْلُومِ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ جَمِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ اسْتَقَلَّ بِابْتِدَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ مِنْ حَرْثِ الْأَرْضِ ثُمَّ بَذْرِ الْقَمْحِ وَخِدْمَتِهِ وَحِرَاسَتِهِ وَحَصْدِهِ وَدِرَاسَتِهِ ثُمَّ تَذْرِيَتِهِ ثُمَّ تَنْظِيفِهِ وَطَحْنِهِ بِيَدِهِ وَعَجْنِهِ وَخَبْزِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَفِي الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ لِلِبْسِهِ وَبِنَاءِ مَا يُظِلُّهُ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَدْفَعَهُ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَ

ص: 247

قَالَ (الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ

شَيْئًا وَيَبْتَدِئَ مُزَاوَلَةَ شَيْءٍ، فَلَوْ لَمْ يُشَرَّعْ الْبَيْعُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لَاحْتَاجَ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى التَّغَالُبِ وَالْمُقَاهَرَةِ أَوْ السُّؤَالِ وَالشِّحَاذَةِ أَوْ يَصْبِرَ حَتَّى يَمُوتَ وَفِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَا يَخْفَى مِنْ الْفَسَادِ.

وَفِي الثَّانِي مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ وَيُزْرِي بِصَاحِبِهِ. فَكَانَ فِي شَرْعِيَّتِهِ بَقَاءُ الْمُكَلَّفِينَ الْمُحْتَاجِينَ وَدَفْعُ حَاجَتِهِمْ عَلَى النِّظَامِ الْحَسَنِ. وَشَرْطُهُ فِي الْمُبَاشِرِ: التَّمْيِيزُ وَالْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَائِنَةُ عَنْ مِلْكٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَيَصِحُّ بَيْعُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ اللَّذَيْنِ يَعْقِلَانِ الْبَيْعَ وَأَثَرَهُ. وَفِي الْمَبِيعِ كَوْنُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا شَرْعًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ فَيَدْخُلُ السَّلَمُ وَقَدْ قَالُوا شُرُوطُهُ: مِنْهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ وَالْوِلَايَةُ وَكَوْنُ الْمَبِيعِ مُتَقَوِّمًا. وَمِنْهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ، حَتَّى إذَا بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ تَوَقَّفَ النَّفَاذُ عَلَى الْإِجَازَةِ مِمَّنْ لَهُ الْوِلَايَةُ.

وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْفِعْلُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْبَدَلَيْنِ مِنْ الْمُتَخَاطِبَيْنِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا الدَّالُّ عَلَى الرِّضَا بِتَبَادُلِ الْمِلْكِ فِيهِمَا وَهَذَا مَفْهُومُ الِاسْمِ شَرْعًا. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لَفْظُ الْفِعْلِ قَوْلًا، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلًا غَيْرَ قَوْلٍ كَمَا فِي التَّعَاطِي كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ يَكُونُ الرِّضَا ثَابِتًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ فَإِنَّ لَفْظَ بِعْت مَثَلًا لَيْسَ عِلَّةً لِثُبُوتِ الرِّضَا بَلْ أَمَارَةٌ عَلَيْهِ. فَقَدْ يَتَحَقَّقُ مَعَ انْتِفَائِهِ كَالْغَيْمِ الرَّطْبِ لِلْمَطَرِ، فَكَذَا يَتَحَقَّقُ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَلَا رِضَا كَمَا فِي الْمُكْرَهِ، وَهَذَا عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّرَاضِي لَيْسَ جُزْءَ مَفْهُومِ الْبَيْعِ الشَّرْعِيِّ بَلْ شَرْطُ ثُبُوتِ حُكْمِهِ شَرْعًا.

(قَوْلُهُ الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) يَعْنِي إذَا سَمِعَ كُلٌّ كَلَامَ الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَيْسَ بِهِ وَقَدْ سَمِعَهُ مَنْ فِي الْمَجْلِسِ لَا يُصَدَّقُ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْبَيْعِ هُنَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الْخَاصُّ الْمَعْلُومُ حُكْمُهُ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ يَنْعَقِدُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَجَعَلَهُمَا غَيْرَهُ يَثْبُتُ هُوَ بِهِمَا مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ إلَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُمَا رُكْنَاهُ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ رُكْنَهُ الْفِعْلُ الدَّالُّ إلَى آخِرِهِ. هَذَا وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْعِ هُنَا لَيْسَ إلَّا نَفْسَ حُكْمِهِ لَا مَعْنَى لَهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَمَا قِيلَ الْبَيْعُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى شَرْعِيٍّ يَظْهَرُ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حَتَّى يَكُونَ الْعَاقِدُ قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ لَيْسَ غَيْرُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ قُدْرَةُ التَّصَرُّفِ.

فَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ الشَّرْعِ لَيْسَ إلَّا ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْمَعْلُومِ مِنْ تَبَادُلِ الْمِلْكَيْنِ عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلَيْنِ: أَعْنِي الشَّطْرَيْنِ بِوَضْعِهِمَا سَبَبًا لَهُ شَرْعًا، وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ ثَالِثٌ، فَالْمِلْكُ هُوَ قُدْرَةٌ يُثْبِتُهَا الشَّارِعُ ابْتِدَاءً عَلَى التَّصَرُّفِ فَخَرَجَ نَحْوُ الْوَكِيلِ. فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يُرَادَ الْفِعْلُ الْخَاصُّ لَزِمَ الْآخَرُ. وَالْإِيجَابُ لُغَةً الْإِثْبَاتُ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَالْمُرَادُ هُنَا إثْبَاتُ الْفِعْلِ الْخَاصِّ الدَّالِ عَلَى الرِّضَا الْوَاقِعِ أَوَّلًا سَوَاءٌ وَقَعَ مِنْ الْبَائِعِ كَبِعْتُ أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي كَأَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ اشْتَرَيْت هَذَا بِأَلْفٍ وَالْقَبُولُ الْفِعْلُ الثَّانِي، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنْهُمَا إيجَابٌ، أَيْ إثْبَاتٌ، فَسُمِّيَ الْإِثْبَاتُ الثَّانِي بِالْقَبُولِ تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ الْإِثْبَاتِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ يَقَعُ قَبُولًا وَرِضًا بِفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَحَيْثُ لَمْ تَصِحَّ إرَادَةُ اللَّفْظَيْنِ بِالْبَيْعِ بَلْ حُكْمُهُمَا وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْبَدَلَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ يَنْعَقِدُ يَثْبُتُ: أَيْ الْحُكْمُ فَإِنَّ الِانْعِقَادَ إنَّمَا هُوَ لِلَّفْظَيْنِ لَا لِلْمِلْكِ

ص: 248

إذَا كَانَا بِلَفْظَيْ الْمَاضِي) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْت وَالْآخَرُ اشْتَرَيْت؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ، وَالْإِنْشَاءُ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَالْمَوْضُوعُ لِلْإِخْبَارِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْآخَرُ لَفْظُ الْمَاضِي،

أَيْ انْضِمَامُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ، وَقَوْلُنَا فِي الْقَبُولِ إنَّهُ الْفِعْلُ الثَّانِي يُفِيدُ كَوْنَهُ أَعَمَّ مِنْ اللَّفْظِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ الْفُرُوعِ مَا لَوْ قَالَ كُلْ هَذَا الطَّعَامِ بِدِرْهَمٍ فَأَكَلَهُ تَمَّ الْبَيْعُ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ وَالرُّكُوبُ وَاللُّبْسُ بَعْدَ قَوْلِ الْبَائِعِ ارْكَبْهَا بِمِائَةٍ وَالْبَسْهُ بِكَذَا رِضًا بِالْبَيْعِ، وَكَذَا إذَا قَالَ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَبَضَهُ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا كَانَ قَبْضُهُ قَبُولًا، بِخِلَافِ بَيْعِ التَّعَاطِي فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إيجَابٌ بَلْ قَبْضٌ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ فَقَطْ وَسَيَأْتِي، فَفِي جَعْلِ مَسْأَلَةِ الْقَبْضِ بَعْدَ قَوْلِهِ بِعْتُكَ بِأَلْفٍ مِنْ صُوَرِ التَّعَاطِي كَمَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ نَظَرٌ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا بِكَذَا فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ فَفَعَلَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ، وَكَذَا اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَاقْطَعْهُ لِي قَمِيصًا فَقَطَّعَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ.

وَقَوْلُهُ (إذَا كَانَا بِلَفْظِ الْمَاضِي مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْت وَالْآخَرُ اشْتَرَيْت) قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ) أَيْ إثْبَاتُ تَصَرُّفٍ يُفِيدُ حُكْمًا يَثْبُتُ جَبْرًا (وَالْإِنْشَاءُ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا (يُعْرَفُ) إلَّا (بِالشَّرْعِ) لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ مَعْنًى يَكُونُ اللَّفْظُ عِلَّةً لَهُ، وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا لَهُ قُدْرَةُ الْإِخْبَارِ عَنْ الْكَائِنِ أَوْ مَا سَيَكُونُ وَطَلَبُهُ، فَقَوْلُهُمْ مِنْ الْإِنْشَاءِ التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالْقَسَمُ وَالِاسْتِفْهَامُ اصْطِلَاحٌ فِي تَسْمِيَةِ مَا لَا خَارِجَ لِمَعْنَاهُ يُطَابِقُهُ أَوْ لَا يُطَابِقُهُ إنْشَاءٌ، وَهُوَ يَعُمُّ مَا ذُكِرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا يُبَايِنُهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ لَعَلَّ زَيْدًا يَأْتِي وَلَيْتَ لِي مَالًا لَيْسَ عِلَّةً لِتَرَجِّي ذَلِكَ أَوْ تَمَنِّيهِ بَلْ دَالٌّ عَلَى التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي الْقَائِمَيْنِ بِالْمُتَكَلِّمِ كَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ قِيَامِهِمَا بِهِ، غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الِاصْطِلَاحِ لَا يُسَمُّونَهُ إخْبَارًا لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ بِعْت وَطَالِقٌ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ تَثْبُتُ بِهِ شَرْعًا مَعَانٍ لَا قُدْرَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ عَلَى إثْبَاتِهَا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَوَاءٌ سُمِّيَ غَيْرُهُ إنْشَاءً اصْطِلَاحًا أَوْ لَا، وَإِذَا كَانَ الْإِنْشَاءُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يُوضَعْ لَهُ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ يَخُصُّهُ. وَالشَّرْعُ اسْتَعْمَلَ فِي إثْبَاتِهِ مِنْ اللُّغَةِ لَفْظَ الْخَبَرِ: أَيْ وَضَعَهُ عِلَّةً لِإِثْبَاتِهِ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ فَيَنْعَقِدُ: أَيْ يَثْبُتُ بِهِ. وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ لَفْظَ الْمَاضِي أَدَلُّ عَلَى الْوُجُودِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِتَحَقُّقِ الْوُجُودِ سَابِقًا فَاخْتِيرَ لَهُ فَرُبَّمَا يُعْطَى قَصْرَ الْعِلِّيَّةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّهُ تَعْلِيلُ أَوْلَوِيَّةِ لَفْظِ الْمَاضِي بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ كَمَا سَتَسْمَعُ (قَوْلُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ،

ص: 249

بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ.

بِخِلَافِ النِّكَاحِ) فَإِنَّهُ إذَا قَالَ زَوِّجْنِي فَقَالَ زَوَّجْتُك يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، أَمَّا الْبَيْعُ فَإِذَا قَالَ بِعْنِيهِ بِأَلْفٍ فَقَالَ بِعْتُك لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ الْأَوَّلُ اشْتَرَيْت وَنَحْوَهُ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا قَالَ الطَّحَاوِيُّ إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ. قَالَ (وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ) يَعْنِي قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ: يَعْنِي زَوِّجْنِي، فَإِذَا قَالَ زَوَّجْتُك كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ الْمُوَكِّلِ مُزَوِّجًا لَهُ وَوَلِيًّا لِمَنْ زَوَّجَهَا وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ.

وَقَدَّمْنَا مَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَةَ الْأَمْرِ فِي النِّكَاحِ جُعِلَتْ إيجَابًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُصَرَّحُ بِالْخِطْبَةِ فِيهِ، وَطَلَبُهُ إلَّا بَعْدَ مُرَاجَعَاتٍ وَتَأَمُّلٍ وَاسْتِخَارَةٍ غَالِبًا فَلَا يَكُونُ لَفْظُ طَلَبِهِ: أَعْنِي زَوِّجْنِي مُسَاوَمَةً بَلْ تَحْقِيقًا فَاعْتُبِرَ إيجَابًا. بِخِلَافِ الْبَيْعِ لَا يَكُونُ مَسْبُوقًا بِمِثْلِ ذَلِكَ فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ مُسَاوَمَةً فَلَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِمُجَرَّدِ جَوَابِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ فَرْقُ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِ تَوْكِيلًا. وَأَمَّا الْفَرْقُ بِأَنَّ رَدَّ النِّكَاحِ بَعْدَ إيجَابِهِ يُلْحِقُ الشَّيْنَ بِالْأَوْلِيَاءِ، بِخِلَافِ رَدِّ الْبَيْعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ الْأَمْرِ فِيهِ إيجَابًا. ثُمَّ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَزِمَ امْتِنَاعُ رُجُوعِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ زَوِّجْنِي بِنْتَك قَبْلَ قَوْلِهِ زَوَّجْتُك؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا شَيْنٌ وَانْكِسَارٌ يَلْحَقُهُمْ.

وَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ مَوَاضِعَ: مِنْهَا الْبَيْعُ، وَالْإِقَالَةُ لَا يُكْتَفَى بِالْأَمْرِ فِيهِمَا عَنْ الْإِيجَابِ. وَمِنْهَا النِّكَاحُ وَالْخُلْعُ يَقَعُ فِيهِمَا إيجَابًا. الْخَامِسَةُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ نَفْسَك مِنِّي بِأَلْفٍ فَقَالَ فَعَلْت عَتَقَ. السَّادِسَةُ فِي الْهِبَةِ قَالَ هَبْ لِي هَذَا فَقَالَ وَهَبْته مِنْك تَمَّتْ الْهِبَةُ. السَّابِعَةُ قَالَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَبْرِئْنِي عَمَّا لَك عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَقَالَ أَبْرَأْتُك تَمَّتْ الْبَرَاءَةُ. الثَّامِنَةُ الْكَفَالَةُ قَالَ اُكْفُلْ بِنَفْسِ فُلَانٍ لِفُلَانٍ قَالَ كَفَلْت تَمَّتْ الْكَفَالَةُ، فَإِذَا كَانَ غَائِبًا فَقَدَّمَ وَأَجَازَ كَفَالَتَهُ جَازَ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ الِانْعِقَادِ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُوَ إذَا لَمْ يَتَصَادَقَا عَلَى نِيَّةِ الْحَالِ، أَمَّا إذَا تَصَادَقَا عَلَى نِيَّةِ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِقْبَالِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ فَيَثْبُتُ بِالنِّيَّةِ.

ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ فِي صِفَةِ الِاسْتِقْبَالِ مُطْلَقًا. وَفِي الْكَافِي قَصَرَ الْكَلَامَ عَلَى الْمُضَارِعِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ فِي الْأَصْلِ

ص: 250

وَقَوْلُهُ رَضِيت بِكَذَا أَوْ أَعْطَيْتُك بِكَذَا أَوْ خُذْهُ بِكَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ بِعْت وَاشْتَرَيْت؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ،

مَوْضُوعٌ لِلْحَالِ وَوُقُوعُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ نَوْعُ تَجَوُّزٍ اهـ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ إذَا ادَّعَاهُ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْأَمْرُ، فَلَوْ ادَّعَى فِي قَوْلِهِ يَعْنِي أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى اشْتَرَيْته بِكَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ الْقَاضِي؛ مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُ مِنْك هَذَا بِكَذَا أَوْ أُعْطِيكَهُ فَقَالَ اشْتَرَيْته أَوْ آخُذُهُ وَنَوَيَا الْإِيجَابَ لِلْحَالِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ بِنِيَّةِ الْحَالِ هُوَ الْمُضَارِعُ وَتَسْمِيَتُهُ مُسْتَقْبَلًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِلَّا فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْحَالِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ التَّمْثِيلُ بِهِ لِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقْبَلُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ كَمَالُ انْقِطَاعٍ فَلَا يَتَجَوَّزُ بِهِ فِيهِ، فَلَا يُقَالُ بِعْنِيهِ وَالْمُرَادُ اشْتَرَيْته فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ إلَّا فِي قَوْلِهِ خُذْهُ بِكَذَا فَيَنْعَقِدُ لِثُبُوتِهِ الْإِيجَابَ اقْتِضَاءً، وَمِثْلُ الْأَمْرِ الْمُضَارِعُ الْمَقْرُونُ بِالسِّينِ نَحْوَ سَأَبِيعُك فَلَا يَصِحُّ بَيْعًا وَلَا يَتَجَوَّزُ بِهِ فِي مَعْنَى بِعْتُك فِي الْحَالِ.

فَإِنَّ ذِكْرَ السِّينِ يُنَاقِضُ إرَادَةَ الْحَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْوَاحِدِ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ مَخْصُوصٌ مِنْهُ الْأَبُ يَشْتَرِي مَالَ ابْنِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَبِيعُ مَالَهُ مِنْهُ، وَالْوَصِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا اشْتَرَى لِلْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ مِنْهُ بِشَرْطِهِ الْمَعْرُوفِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ فِي نَظْمِ الزندويستي بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي (قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ رَضِيت) هَذَا بِدِرْهَمٍ فَقَالَ بِعْتُكَهُ، وَقَالَ اشْتَرَيْته بِدِرْهَمٍ فَقَالَ رَضِيت أَوْ قَالَ بِعْتُكَهُ بِكَذَا فَقَالَ فَعَلْت أَوْ أَجَزْت أَوْ أُخِذَتْ كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي يَتِمُّ بِهَا الْبَيْعُ لِإِفَادَتِهَا إثْبَاتَ الْمَعْنَى وَالرِّضَا بِهِ، وَكَذَا لَفْظَةُ خُذْهُ بِكَذَا يَنْعَقِدُ بِهِ إذَا قَبِلَ بِأَنْ قَالَ أَخَذْته وَنَحْوَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا لَكِنَّ خُصُوصَ مَادَّتِهِ: أَعْنِي الْأَمْرَ بِالْأَخْذِ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الْبَيْعِ فَكَانَ كَالْمَاضِي، إلَّا أَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْمَاضِي سَبَقَ الْبَيْعَ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَاسْتِدْعَاءَ خُذْهُ سَبَقَهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، فَهُوَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ، وَيَثْبُتُ اشْتَرَيْت اقْتِضَاءً، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ بِلَا فَاءٍ لَا يُعْتَقُ. وَإِنَّمَا صَحَّ بِهَذِهِ وَنَحْوِهَا (لِأَنَّهَا تُؤَدِّي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ) أَلَا يَرَى إلَى مَا قَالُوا لَوْ قَالَ: وَهَبْتُك أَوْ وَهَبْت لَك هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذَا الْعَبْدَ بِثَوْبِك هَذَا فَرَضِيَ فَهُوَ بَيْعٌ بِالْإِجْمَاعِ.

قَالُوا: إنَّمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ احْتِرَازٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّ اللَّفْظَ فِيهِمَا يُقَامُ مَقَامَ الْمَعْنَى، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ إقَامَةَ اللَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى أَثَرٌ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ بِلَا نِيَّةٍ لَيْسَ غَيْرُ، فَإِذَا فَارَقَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ ذَلِكَ اقْتَضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ بِلَا نِيَّةٍ فَلَا يَثْبُتُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ حُكْمُهُ إلَّا إذَا أَرَادَهُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بِعْت وَأَبِيعُ فِي تَوَقُّفِ الِانْعِقَادِ بِهِ عَلَى النِّيَّةِ وَلِذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ بِعْت هَزْلًا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَغَيْرِهِ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْمَاضِي وَغَيْرِهِ بِلَا نِيَّةٍ وَمِنْ الصُّوَرِ

ص: 251

وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ هُوَ الصَّحِيحُ لِتَحَقُّقِ الْمُرَاضَاةِ.

لَفْظَةُ نَعَمْ تَقَعُ إيجَابًا فِي قَوْلِ الْمُسْتَفْهِمِ أَتَبِيعُنِي عَبْدَك بِأَلْفٍ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَخَذْته فَهُوَ بَيْعٌ لَازِمٌ، وَكَذَا أَبِيعُك. وَمِنْهَا اشْتَرَيْته مِنْك بِأَلْفٍ فَقَالَ نَعَمْ أَوْ هَاتِ الثَّمَنَ انْعَقَدَ، وَكَذَا إذَا قَالَ هَذَا عَلَيْك بِأَلْفٍ فَقَالَ فَعَلْت؛ وَلَوْ قَالَ هُوَ لَك بِأَلْفٍ إنْ وَافَقَك أَوْ إنْ أَعْجَبَك، أَوْ إنْ أَرَدْت فَقَالَ وَافَقَنِي أَوْ أَعْجَبَنِي أَوْ أَرَدْت انْعَقَدَ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَهُ بِكَذَا بَعْدَ وُجُودِ مُقَدِّمَاتِ الْبَيْعِ فَقَالَ اشْتَرَيْت، وَلَمْ يَقُلْ مِنْك صَحَّ، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ، وَكَذَا إذَا قَالَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ إنْ أَدَّيْت ثَمَنَهُ فَقَدْ بِعْته مِنْك فَأَدَّى فِي الْمَجْلِسِ جَازَ اسْتِحْسَانًا. [فُرُوعٌ:

فِي اخْتِلَافِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ] قَالَ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَالَ اشْتَرَيْته بِأَلْفَيْنِ جَازَ، فَإِنْ قَبِلَ الْبَائِعُ الزِّيَادَةَ ثُمَّ بِأَلْفَيْنِ وَالْأَصَحُّ بِأَلْفٍ إذْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إدْخَالِ الزِّيَادَةِ فِي مِلْكِهِ بِلَا رِضَاهُ؛ وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْته بِأَلْفَيْنِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ جَازَ كَأَنَّهُ قَبِلَ بِأَلْفَيْنِ وَحَطَّ عَنْهُ أَلْفًا، وَلَوْ سَاوَمَهُ بِعَشَرَةٍ فَقَالَ بِعِشْرِينَ فَقَبَضَهُ مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ لَزِمَ بِعَشَرَةٍ، فَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَذَهَبَ بِهِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ فَبِعِشْرِينَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يَلْزَمُ بِآخِرِهِمْ كَلَامًا مُطْلَقًا. وَلَوْ قَالَ بِعْتُك بِأَلْفٍ بِعْتُكَهُ بِأَلْفَيْنِ فَقَالَ قَبِلْت الْأَوَّلَ بِأَلْفٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَلَيْسَ هَكَذَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِنْ قَالَ قَبِلْت الْبَيْعَيْنِ جَمِيعًا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِ قَبِلْت الْآخَرَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ: يَعْنِي يَكُونُ الْبَيْعُ بِأَلْفَيْنِ وَالْأَلْفُ زِيَادَةٌ إنْ شَاءَ قَبِلَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَكَذَا بِأَلْفٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الثَّانِي، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ الثَّمَنَانِ وَالْأَوَّلُ فِي الزِّيَادَاتِ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَإِذَا قَبِلَ الزِّيَادَةَ فِي الْمَجْلِسِ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ) أَيْ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى يَنْعَقِدُ (بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ) قِيلَ النَّفِيسُ نِصَابُ السَّرِقَةِ فَصَاعِدًا وَالْخَسِيسُ مَا دُونَهُ (وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ مِنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ إنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي الْخَسِيسِ فَقَطْ، وَأَرَادَ بِالْخَسِيسِ الْأَشْيَاءَ الْمُحْتَقَرَةَ كَالْبَقْلِ وَالرَّغِيفِ وَالْبِيضِ وَالْجَوْزِ اسْتِحْسَانًا لِلْعَادَةِ.

قَالَ أَبُو مُعَاذٍ: رَأَيْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ جَاءَ إلَى صَاحِبِ الرُّمَّانِ فَوَضَعَ عِنْدَهُ فَلْسًا، وَأَخَذَ رُمَّانَةً وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَمَضَى. وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَعْنَى وَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرَاضِي يَشْمَلُ الْكُلَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْصِيلِ. وَفِي الْإِيضَاحِ: هُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ اهـ. وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَاهُ لَهُ، ثُمَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ فُلَانٌ فَقَالَ أَنَا أَمَرْته، قَالَ يَأْخُذُهُ فُلَانٌ، فَإِنْ قَالَ لَمْ آمُرْهُ، وَقَدْ كَانَ اشْتَرَاهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرِي لَهُ، فَإِنْ سَلَّمَهُ وَأَخَذَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ كَانَ بَيْعًا لِلَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَكَأَنَّ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ: أَيْ لِلْآخِذِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ التَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ.

وَفِي الْمُنْتَقَى: لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ لِلَّذِي لَهُ الْمَالُ أَعْطَيْتُك بِمَالِك دَنَانِيرَ فَسَاوَمَهُ بِالدَّنَانِيرِ، وَلَمْ يَقَعْ بَيْعٌ ثُمَّ فَارَقَهُ فَجَاءَهُ بِهَا فَدَفَعَهَا إلَيْهِ يُرِيدُ الَّذِي كَانَ سَاوَمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ فَارَقَهُ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ بَيْعًا جَازَ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَكَذَا لَوْ سَاوَمَ رَجُلًا بِشَيْءٍ وَلَيْسَ مَعَهُ وِعَاءٌ، ثُمَّ فَارَقَهُ وَجَاءَ بِالْوِعَاءِ فَأَعْطَاهُ الثَّمَنَ وَكَالَ لَهُ جَازَ.

وَمِنْ صُوَرِهِ إذَا جَاءَ الْمُودَعُ بِأَمَةٍ غَيْرَ الْمُودَعَةِ

ص: 252

قَالَ (وَإِذَا)(أَوْجَبَ) أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ لِحُكْمٍ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ فَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ فَاعْتُبِرَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ،

وَقَالَ: هَذِهِ أَمَتُك وَالْمُودَعُ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ إيَّاهَا، وَحَلَفَ فَأَخَذَهَا حَلَّ الْوَطْءُ لِلْمُودِعِ وَلِلْأَمَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ قَالَ لِلْخَيَّاطِ لَيْسَتْ هَذِهِ بِطَانَتِي فَحَلَفَ الْخَيَّاطُ أَنَّهَا هِيَ وَسِعَهُ أَخْذُهَا، وَمِنْهَا قَوْلُ الدَّلَّالِ لِلْبَزَّازِ هَذَا الثَّوْبُ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ ضَعْهُ.

وَفِي أَجْنَاسِ النَّاطِفِيِّ: لَوْ قَالَ بِكَمْ تَبِيعُ قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَقَالَ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ اعْزِلْهُ فَعَزَلَهُ فَهُوَ بَيْعٌ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِلْقَصَّابِ مِثْلَهُ فَوَزَنَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ فَهُوَ بَيْعٌ. حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْقَصَّابُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ وَأَخْذِ اللَّحْمِ، أَوْ امْتَنَعَ الْقَصَّابُ مِنْ دَفْعِ اللَّحْمِ أَجْبَرَهُمَا الْقَاضِي. وَكَذَا إذَا قَالَ زِنْ لِي مَا عِنْدَك مِنْ اللَّحْمِ عَلَى حِسَابِ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ فَوَزَنَ. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ زِنْ لِي ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ فَوَزَنَهَا لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مِنْ هَذَا الْجَنْبِ وَمِنْ هَذَا الْفَخِذِ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِمَنْ جَاءَ بِوَقْرِ بِطِّيخٍ فِيهِ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ بِكَمْ عَشَرَةٍ مِنْ هَذِهِ فَقَالَ بِدِرْهَمٍ فَعَزَلَ عَشَرَةً، وَاخْتَارَهَا فَذَهَبَ بِهَا وَالْبَائِعُ يَنْظُرُ، أَوْ عَزَلَ الْبَائِعُ عَشَرَةً فَقَبِلَهَا الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ. وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ شَرْطٌ فِي بَيْعِ التَّعَاطِي أَوْ أَحَدُهُمَا كَافٍ، وَالصَّحِيحُ الثَّانِي.

وَنَصَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله عَلَى أَنَّ بَيْعَ التَّعَاطِي يَثْبُتُ بِقَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَهَذَا يَنْتَظِمُ الثَّمَنُ وَالْمَبِيعُ. وَنَصُّهُ فِي الْجَامِعِ عَلَى أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَكْفِي لَا يَنْفِي الْآخَرَ. وَمِنْهَا لَوْ رَدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالْبَائِعُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ فَأَخَذَهَا وَرَضِيَ فَهُوَ بَيْعٌ بِالتَّعَاطِي

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ، وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) وَلِلْمُوجِبِ أَيُّهُمَا كَانَ بَائِعًا وَمُشْتَرِيًا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ عَنْ

ص: 253

وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ

الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ يُبْطِلُهُ الْآخَرُ بِلَا مُعَارِضٍ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ بَعْدَ الْإِيجَابِ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَالْمُوجِبُ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ؛ وَلَوْ سَلَّمَ فَلَا يُعَارِضُ حَقُّ التَّمَلُّكِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ لَزِمَ تَعْطِيلُ حَقِّ الْمِلْكِ بِحَقِّ التَّمَلُّكِ، وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ تَنْفِيهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لِلْأَبِ حَقَّ التَّمَلُّكِ لِمَالِ وَلَدِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَبْلَ تَمَلُّكِهِ بِالْفِعْلِ كَانَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، وَلَوْ صَادَفَ رَدُّ الْبَائِعِ قَبُولَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ. وَأَوْرَدَ فِي الْكَافِي الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ لَيْسَ لَهُ حَقُّ اسْتِرْدَادِهَا لِثُبُوتِ حَقِّ التَّمَلُّكِ لِلْفَقِيرِ. وَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّ الْأَصْلَ الْمُوجِبَ لِلدَّفْعِ قَائِمٌ وَهُوَ النِّصَابُ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ وَصْفُهُ وَهُوَ النَّمَاءُ فَبَعْدَ أَخْذِ السَّبَبِ حُكْمَهُ تَمَّ الْأَمْرُ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ الْأَصْلُ بَلْ شَطْرُهُ فَلَا يَكُونُ الْبَيْعُ مَوْجُودًا. وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ، وَاخْتِلَافُهُ بِاعْتِرَاضِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ وَنَحْوِهِ. أَمَّا لَوْ قَامَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَذْهَبْ فَظَاهِرُ الْهِدَايَةِ وَعَلَيْهِ مَشَى جَمْعٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قَامَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ: يَعْنِي الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ.

فَإِنْ قِيلَ: الصَّرِيحُ أَقْوَى مِنْ الدَّلَالَةِ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْقِيَامِ قَبِلْت يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْإِعْرَاضُ. قُلْنَا: الصَّرِيحُ إذَا كَانَ أَقْوَى وَيُعْمَلُ إذَا بَقِيَ الْإِيجَابُ بَعْدَ قِيَامِهِ، وَهُنَا لَمْ يَبْقَ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَبْقَى اللَّفْظُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ قَوْلُهُ قَبِلْت بِهِ إلَّا أَنَّ لِلْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ وَبِالْقِيَامِ لَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ: إذَا قَامَ الْبَائِعُ وَلَمْ يَذْهَبْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ قَبِلَ الْمُشْتَرِي صَحَّ، وَإِلَيْهِ أُشِيرُ فِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ، وَهَذَا شَرْحٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي وَأَيُّهُمَا قَامَ إلَى آخِرِهِ، وَعَلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مَا إذَا تَبَايَعَا، وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ لَوْ كَانَا عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَأَجَابَ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ لِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إنْ أَجَابَ عَلَى فَوْرِ كَلَامِهِ مُتَّصِلًا جَازَ. وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ النَّوَازِلِ: إذَا أَجَابَ بَعْدَمَا مَشَى خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ جَازَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا يَمْشِيَانِ مَشْيًا مُتَّصِلًا لَا يَقَعُ الْإِيجَابُ إلَّا فِي مَكَان آخَرَ بِلَا شُبْهَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ فَفَرَغَ مِنْهَا وَأَجَابَ صَحَّ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي نَافِلَةٍ فَضَمَّ إلَى رَكْعَةِ الْإِيجَابِ أُخْرَى ثُمَّ قَبِلَ جَازَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكْمَلَهَا أَرْبَعًا. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كُوزٌ فَشَرِبَ ثُمَّ أَجَابَ جَازَ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ لُقْمَةً لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ إلَّا إذَا اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ، وَلَوْ نَامَا جَالِسَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَوْ مُضْطَجِعَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهِيَ فُرْقَةٌ. وَالسَّفِينَةُ كَالْبَيْتِ، فَلَوْ عَقَدَا وَهِيَ تَجْرِي فَأَجَابَ الْآخَرُ لَا يَنْقَطِعُ الْمَجْلِسُ بِجَرَيَانِهَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ إيقَافَهَا. وَقِيلَ يَجُوزُ فِي الْمَاشِيَيْنِ أَيْضًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِذَاتَيْهِمَا، أَمَّا الْمَسِيرُ بِلَا افْتِرَاقٍ فَلَا، وَهَكَذَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ بِخِلَافِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُك بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ بِعْتُك بِأَلْفٍ فَقَبِلَا فَهِيَ لِلثَّانِي لَا لِلْأَوَّلِ.

وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَهُ بِكَذَا فَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى قَامَ الْبَائِعُ فِي حَاجَةٍ بَطَلَ (قَوْلُهُ وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ

ص: 254

وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بِبَعْضِ الثَّمَنِ لِعَدَمِ رِضَا الْآخَرِ بِتَفَرُّقِ

وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ) فَصُورَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَكْتُبَ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بِعْت عَبْدِي مِنْك بِكَذَا. فَلَمَّا بَلَغَهُ الْكِتَابُ وَفَهِمَ مَا فِيهِ قَالَ قَبِلْت فِي الْمَجْلِسِ انْعَقَدَ، وَالرِّسَالَةُ أَنْ يَقُولَ: اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ وَقُلْ لَهُ إنَّ فُلَانًا بَاعَ عَبْدَهُ فُلَانًا مِنْك بِكَذَا فَجَاءَ فَأَخْبَرَهُ فَأَجَابَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ.

وَكَذَا إذَا قَالَ بِعْت عَبْدِي فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا فَاذْهَبْ يَا فُلَانُ فَأَخْبِرْهُ فَذَهَبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَبِلَ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّسُولَ نَاقِلٌ، فَلَمَّا قَبِلَ اتَّصَلَ لَفْظُهُ بِلَفْظِ الْمُوجِبِ حُكْمًا، فَلَوْ بَلَّغَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَبِلَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَسُولًا بَلْ فُضُولِيًّا، وَلَوْ كَانَ قَالَ بَلِّغْهُ يَا فُلَانُ فَبَلَّغَهُ غَيْرُهُ فَقَبِلَ جَازَ.

وَلَوْ كَانَ الْمَكْتُوبُ بِعْنِيهِ بِكَذَا فَكَتَبَ بِعْتُكَهُ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَقُلْ الْأَوَّلُ قَبِلْت. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ كَتَبَ إلَيْهِ يَعْنِي بِكَذَا فَقَالَ بِعْته يَتِمُّ الْبَيْعُ، فَلَيْسَ مُرَادُ مُحَمَّدٍ هُنَا مِنْ هَذَا سِوَى الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ فِي شَرْطِ الشُّهُودِ لَا بَيَانَ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ. وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فَبِعْنِي مِنْ الْحَاضِرِ يَكُونُ اسْتِيَامًا عَادَةً، وَأَمَّا مِنْ الْغَائِبِ بِالْكِتَابَةِ فَيُرَادُ بِهِ أَحَدُ شَطْرَيْ الْعَقْدِ، هَذَا وَيَصِحُّ رُجُوعُ الْكَاتِبِ وَالْمُرْسِلِ عَنْ الْإِيجَابِ الَّذِي كَتَبَهُ وَأَرْسَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْآخَرِ وَقَبُولِهِ سَوَاءٌ عَلِمَ الْآخَرُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، حَتَّى لَوْ قَبِلَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ الْبَيْعُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَ بِالْبَيْعِ ثُمَّ عَزَلَ الْوَكِيلَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ بِالْعَزْلِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَبَيْعُهُ نَافِذٌ، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالْكِتَابَةِ، فَأَمَّا الْخُلْعُ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ شَطْرُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَا غَائِبَيْنِ عَلَى الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ خَالَعْتُ زَوْجِي وَهُوَ غَائِبٌ، أَوْ يَقُولَ الْعَبْدُ قَبِلْت عِتْقَ سَيِّدِي الْغَائِبِ عَلَى أَلْفٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ.

وَفِي النِّكَاحِ مَرَّ الْخِلَافُ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتَوَقَّفُ وَعِنْدَهُمَا لَا (قَوْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ إلَى آخِرِهِ) يَعْنِي إلَّا أَنْ يَرْضَى الْآخَرُ بِذَلِكَ بَعْدَ قَبُولِهِ فِي الْبَعْضِ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ بِالْإِجْزَاءِ كَعَبْدٍ وَاحِدٍ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ إلَّا بِالْقِيمَةِ كَثَوْبَيْنِ وَعَبْدَيْنِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَبِلَ الْآخَرُ. وَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى عِبَارَةِ الْكِتَابِ هُنَا فَإِنَّهَا مِمَّا وَقَعَ فِيهَا تَجَاذُبٌ فَنَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ أَنَّ ضَمِيرَ لَهُ فِي وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ أَوْ لِلْآخَرِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَمَعْنَاهُ فِي الْبَائِعِ: أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ بِأَنْ قَالَ اشْتَرَيْت هَذِهِ الْأَثْوَابَ أَوْ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ مِنْ أَثْوَابٍ أَوْ الثَّوْبِ لِعَدَمِ رِضَا الْآخَرِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ غَرَضُهُ بِالْجُمْلَةِ بِسَبَبِ حَاجَتِهِ إلَى الْكُلِّ وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ بَاقِي الْأَثْوَابِ لِعِزَّتِهَا وَبَعْضُهَا لَا يَقُومُ بِحَاجَتِهِ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ انْصَرَفَ مَالُهُ وَلَمْ تَنْدَفِعْ حَاجَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ. وَأَمَّا فِي الْمُشْتَرِي فَمَعْنَاهُ: إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ

ص: 255

الصَّفْقَةِ، إلَّا إذَا بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ صَفَقَاتُ مَعْنًى. قَالَ (وَأَيُّهُمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ) وَالرُّجُوعِ، وَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

الْمَبِيعَ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِهِ إذْ قَدْ يَتَضَرَّرُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَضُمَّ الْبَائِعُونَ الْجَيِّدَ إلَى الرَّدِيءِ لَيُرَوِّجُونَهُ. فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْبَيْعَ بَقِيَ الرَّدِيءُ وَذَهَبَ مَا يُرَوِّجُهُ بِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَبُولَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ يَكُونُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ فَحَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ لِلْعِلْمِ بِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ لِقَوْلِهِ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بِبَعْضِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ الْعِبَارَةِ الْأُولَى بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَلَزِمَ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِلْبَائِعِ وَلَفْظُ الْمُشْتَرِي بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ، أَيْ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ، وَلَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْبَلُ الْمُشْتَرَى فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوجِبُ هُنَا الْبَائِعَ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ الْقَبُولِ فِي الْبَعْضِ لِلُزُومِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْرَفَ بِمَاذَا يَثْبُتُ اتِّحَادُهَا وَتَفْرِيقُهَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَكُونُ تَارَةً مِنْ تَعَدُّدِ الْقَابِلِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِ. فَمَا مِنْ تَعَدُّدِ الْقَابِلِ امْتِنَاعُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ

ص: 256

وَإِذَا حَصَلَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَوْ عَدَمِ رُؤْيَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَلَنَا أَنَّ فِي الْفَسْخِ إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ. وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ.

إلْزَامِ الشَّرِكَةِ.

مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِمُشْتَرِيَيْنِ بِعْتُكُمَا هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا اشْتَرَيْت دُونَ الْآخَرِ تَعَدَّدَتْ؛ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ فِي الصَّفِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَاطَبَهُمَا بِالْكُلِّ فَكَانَ مُخَاطِبًا كُلًّا بِالنِّصْفِ، فَلَوْ لَزِمَ صَارَ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَيْبُ الشَّرِكَةِ بِلَا رِضَاهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكَيْ عَيْنٍ اشْتَرَيْت مِنْكُمَا هَذِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّ بَيْعَهُ إنَّمَا يَتِمُّ فِي نَصِيبِهِ فَتَعَدَّدَتْ، فَلَوْ تَمَّ تَضَرَّرَ الْمُشْتَرِي الْمُوجِبُ بِالشَّرِكَةِ أَيْضًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُوجِبُ اثْنَيْنِ خَاطَبَا وَاحِدًا فَقَالَا بِعْنَاك أَوْ اشْتَرَيْنَا مِنْك هَذَا بِكَذَا فَأَجَابَ هُوَ فِي بَعْضِهِ لَا يَلْزَمُ، لَكِنْ لَا لِتَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ بَلْ لِإِجَابَتِهِ فِي الْبَعْضِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوجِبَ فِيهَا لَوْ كَانَ وَاحِدًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ كَانَ مِنْ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ أَيْضًا، فَعُرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَا مِنْ تَعَدُّدِ الْعَاقِدِ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ فَبِصُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يُوجِبَ الْبَائِعُ فِي مِثْلِيَّيْنِ أَوْ وَاحِدٍ قِيَمِيٍّ أَوْ مِثْلِيٍّ فَقَبِلَ فِي الْبَعْضِ أَوْ يُوجِبُ الْمُشْتَرِي فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت مِنْك بِكَذَا فَقَبِلَ الْبَائِعُ فِي الْبَعْضِ فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا قَبِلَ فِي بَعْضِهِمَا فَرَّقَهَا فَلَا يَصِحُّ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَ ثَمَنِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا تَكْرَارِ لَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ بِتَكْرَارِهِ، فَفِيمَا إذَا كَرَّرَهُ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ صَفْقَتَانِ، فَإِذَا قَبِلَ فِي أَحَدِهِمَا يَصِحُّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ وَبِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ أَوْ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ اشْتَرَيْت هَذَا بِأَلْفٍ وَاشْتَرَيْت هَذَا بِأَلْفٍ كَذَا فِي مَوْضِعٍ، وَفِي مَوْضِعٍ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَيْنِ بِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ وَهَذَا بِأَلْفَيْنِ وَفِيمَا إذَا لَمْ يُكَرِّرْهُ مِثْلُ بِعْتُك هَذَيْنِ هَذَا بِمِائَةٍ وَهَذَا بِمِائَةٍ فَظَاهِرُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ صِفَتَانِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ إذَا كَرَّرَ لَفْظَ الْبَيْعِ؛ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُكَرِّرْهُ، وَقَدْ اتَّحَدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالْعَاقِدُ، وَلَمْ يَتَعَدَّدْ الثَّمَنُ فَالصَّفْقَةُ وَاحِدَةٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي أَحَدِهِمَا.

وَقِيلَ الْأَوَّلُ اسْتِحْسَانٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَالثَّانِي قِيَاسٌ وَهُوَ قَوْلُهُمَا. وَالْوَجْهُ الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ تَفْرِيقِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فَائِدَتَهُ لَيْسَ إلَّا قَصْدَهُ بِأَنْ يَبِيعَ مِنْهُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ لَا يَبِيعَهُمَا مِنْهُ إلَّا جُمْلَةً لَمْ تَكُنْ فَائِدَةً لِتَعَيُّنِ ثَمَنِ كُلٍّ مِنْهُمَا

(قَوْلُهُ وَإِذَا حَصَلَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَوْ عَدَمِ رُؤْيَةٍ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (لَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا») أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا أَنَّ

ص: 257

وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِعَانِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ لَا بَعْدَهَا أَوْ يَحْتَمِلَهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ،

ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه، عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» ، وَلَنَا السَّمْعُ وَالْقِيَاسُ أَمَّا السَّمْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَهَذَا عَقْدٌ قَبْلَ التَّخْيِيرِ وقَوْله تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَبَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ تَصْدُقُ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ غَيْرِ مُتَوَقِّفٍ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَقَدْ أَبَاحَ تَعَالَى أَكْلَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّخْيِيرِ وقَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} أَمْرٌ بِالتَّوَثُّقِ بِالشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يَقَعَ التَّجَاحُدُ لِلْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ يَصْدُقُ قَبْلَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ وَعَدَمُ اللُّزُومِ قَبْلَهُ كَانَ إبْطَالًا لِهَذِهِ النُّصُوصِ، وَلَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْ هَذَا إلَّا أَنْ يُمْنَعَ تَمَامُ الْعَقْدِ قَبْلَ الْخِيَارِ وَيَقُولُ الْعَقْدُ الْمُلْزِمُ يُعْرَفُ شَرْعًا، وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ فِي كَوْنِهِ مُلْزِمًا اخْتِيَارَ الرِّضَا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَكَذَا لَا تَتِمُّ التِّجَارَةُ عَنْ التَّرَاضِي إلَّا بِهِ شَرْعًا، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الْأَكْلَ بَعْدَ الِاخْتِيَارِ لِاعْتِبَارِهِ فِي التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ لَهُ:«إذَا ابْتَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِي الْخِيَارُ» فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ اشْتِرَاطَ خِيَارٍ آخَرَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِيَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالِاشْتِرَاطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لَا أَصْلَ الْخِيَارِ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَسْلِيمِ إمْكَانِ اعْتِبَارِ الْخِيَارِ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ وَادِّعَاءِ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْمُتَشَاغِلَانِ بِأَمْرِ الْبَيْعِ لَا مَنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا وَانْقَضَى؛ لِأَنَّهُ مَجَازُهُ، وَالْمُتَشَاغَلَانِ: يَعْنِي الْمُسَاوِمَيْنِ يَصْدُقُ عِنْدَ إيجَابِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ قَبُولِ الْآخِرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ، وَهَذَا هُوَ خِيَارُ الْقَبُولِ، وَهَذَا حَمْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

لَا يُقَالُ: هَذَا أَيْضًا مَجَازٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ الثَّابِتُ بَائِعٌ وَاحِدٌ لَا مُتَبَايِعَانِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَصْدُقُ الْحَقِيقَةُ فِيهَا بِجُزْءٍ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ كَالْمُخْبِرِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ إلَّا حَالَ التَّكَلُّمِ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ لَا يَقُومُ بِهِ دَفْعَةً لِتَصْدُقَ حَقِيقَتُهُ حَالَ قِيَامِ الْمَعْنَى بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ فِي أَجْزَائِهِ، فَبِالضَّرُورَةِ يَصْدُقُ مُخْبِرًا حَالَ النُّطْقِ بِبَعْضِ حُرُوفِ الْخَبَرِ، وَإِلَّا لَا يَتَحَقَّقُ لَهُ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّا نَفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو هُنَاكَ يَتَبَايَعَانِ عَلَى وَجْهِ التَّبَادُرِ أَنَّهُمَا مُتَشَاغِلَانِ بِأَمْرِ الْبَيْعِ مُتَرَاوِضَانِ فِيهِ فَلْيَكُنْ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقِيِّ مُتَعَيِّنٌ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ دَلِيلَ إثْبَاتِ خِيَارِ الْقَبُولِ لِنَفْيِ تَوَهُّمِ أَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ وَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ يَلْزَمُ الْآخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ أَصْلًا لِلِاتِّفَاقِ وَالتَّرَاضِي السَّابِقِ فِي إلْزَامِهِ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا بَعْدُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (أَوْ) هُوَ (يَحْتَمِلُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ) جَمْعًا بَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْآيَاتِ حَيْثُ كَانَ الْمُتَبَادِرُ إلَى الْفَهْمِ فِيهَا تَمَامُ الْبَيْعِ وَالْعَقْدِ وَالتِّجَارَةُ عَنْ تَرَاضٍ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَعَدَمِ تَوَقُّفِ الْأَسْمَاءِ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ. لَا يُقَالُ: إنَّ مَا فِي خِيَارِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَهُوَ الثَّانِي الْقَابِلُ لَا خِيَارَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْمُوجِبُ أَيْضًا لَهُ خِيَارُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ وَأَنْ لَا يَرْجِعَ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّفَرُّقُ الَّذِي هُوَ غَايَةُ قَبُولِ الْخِيَارِ تَفَرُّقُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْآخَرُ بَعْدَ الْإِيجَابِ لَا أَشْتَرِي أَوْ يَرْجِعُ الْمُوجِبُ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَإِسْنَادُ التَّفَرُّقِ إلَى النَّاسِ مُرَادًا بِهِ تَفَرُّقَ أَقْوَالِهِمْ كَثِيرًا فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

ص: 258

وَالتَّفَرُّقُ فِيهِ تَفَرُّقُ الْأَقْوَالِ.

قَالَ (وَالْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ) لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ كِفَايَةٌ فِي التَّعْرِيفِ وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ

{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} «وَقَالَ صلى الله عليه وسلم افْتَرَقَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» وَحِينَئِذٍ؛ فَيُرَادُ بِأَحَدِهِمَا فِي قَوْلِهِ أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ الْمُوجِبُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ إيجَابِهِ لِلْآخِرِ اخْتَرْ أَتَقْبَلُ أَوْ لَا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ اخْتَرْ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بَلْ حَتَّى يَخْتَارَ الْبَيْعَ بَعْدَ قَوْلِهِ اخْتَرْ فَكَذَا فِي خِيَارِ الْقَبُولِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةِ كُلٌّ مِنْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتِمُّ بِلَا خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا فَكَذَا الْبَيْعُ. وَأَمَّا مَا يُقَالُ تَعَلَّقَ حَقُّ كُلٍّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ بِبَدَلِ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ فَيُرَدُّ مَنْعُهُ بِأَنْ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ نَفَاهُ إلَى غَايَةِ الْخِيَارِ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْكَلَامُ فِيهِ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ حَدِيثُ التَّفَرُّقِ رَوَاهُ مَالِكٌ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ لَعَمِلَ بِهِ فَغَايَةٌ فِي الضَّعْفِ، إذْ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ غَيْرِهِ بَلْ مَالِكٌ عِنْدَهُ مَحْجُوجٌ بِهِ

(قَوْلُهُ وَالْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا) سَوَاءٌ كَانَتْ مَبِيعَاتٍ كَالْحُبُوبِ وَالثِّيَابِ أَوْ أَثْمَانًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ) فَإِذَا قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ هَذِهِ الْكَوْرَجَةَ مِنْ الْأَرْزِ وَالشَّاشَاتِ وَهِيَ مَجْهُولَةُ الْعَدَدِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي فِي يَدِك وَهِيَ مَرْئِيَّةٌ لَهُ فَقَبِلَ جَازَ وَلَزِمَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ جَهَالَةُ الْوَصْفِ: يَعْنِي الْقَدْرَ وَهُوَ لَا يَضُرُّ، إذْ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ لِتَعَجُّلِهِ كَجَهَالَةِ الْقِيمَةِ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى: قَالَ لِغَيْرِهِ: لَك

ص: 259

(وَالْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ) لَا تَصِحُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرُوفَةَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَالتَّسَلُّمَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ،

فِي يَدَيَّ أَرْضٌ خَرِبَةٌ لَا تُسَاوِي شَيْئًا فَبِعْهَا مِنِّي بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ جَازَ الْبَيْعُ. بِخِلَافِ السَّلَمِ لَا يُشَارُ لِلْعِوَضِ فِيهِ لِلْأَجَلِ فَلَا يَصِحُّ فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَلَا فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه لِمَا يَجِيءُ.

ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ مُقَيَّدَةٌ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَبِالرِّبَوِيَّةِ إذَا قُوبِلَتْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا، أَمَّا الرِّبَوِيَّةُ إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَاحْتِمَالُ الرِّبَا مَانِعٌ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا شَرْعًا، وَالتَّقْيِيدُ بِمِقْدَارِهَا فِي قَوْلِهِ لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا احْتِرَازٌ عَنْ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَاهُ دَرَاهِمَ وَقَالَ اشْتَرَيْته بِهَذِهِ فَوَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ بَهْرَجَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْجِيَادِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّرَاهِمِ كَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا وَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ، وَلَوْ وَجَدَهَا سَتُّوقَةً أَوْ رَصَاصًا فَسَدَ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ أَتْلَفَهَا، وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْتهَا بِهَذِهِ الصُّرَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَوَجَدَ الْبَائِعُ مَا فِيهَا خِلَافَ نَقْدِ الْبَلَدِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الدَّرَاهِمِ فِي الْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ وَجَدَهَا نَقْدَ الْبَلَدِ جَازَ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اشْتَرَيْت بِمَا فِي هَذِهِ الْخَابِيَةِ ثُمَّ رَأَى الدَّرَاهِمَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَتْ نَقْدَ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الصُّرَّةَ يُعْرَفُ مِقْدَارُ مَا فِيهَا مِنْ خَارِجِهَا، وَفِي الْخَابِيَةِ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ الْخَارِجِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَيُسَمَّى هَذَا الْخِيَارُ خِيَارَ الْكَمِّيَّةِ لَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَثْبُتُ فِي النُّقُودِ

(قَوْلُهُ وَالْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ) أَيْ عَنْ قَيْدِ الْإِشَارَةِ (لَا تَصِحُّ حَتَّى تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ) كَخَمْسَةِ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عِوَضًا مُشَارًا إلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ الْحَجَرُ وَلَا يُعْلَمُ قَدْرَ جُرْمِ مَا يُوزَن بِهِ مِنْ الذَّهَبِ، فَلِهَذَا إذَا اشْتَرَى بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا فَوَزَنَ بِهِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ. وَمِمَّا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِهِ الْبَيْعُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِمَا حَلَّ بِهِ، أَوْ بِمَا تُرِيدُ أَوْ تُحِبُّ أَوْ بِرَأْسِ مَالِهِ أَوْ بِمَا اشْتَرَاهُ أَوْ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى فُلَانٌ لَا يَجُوزُ. فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ فِي الْمَجْلِسِ فَرَضِيَهُ عَادَ جَائِزًا، وَكَذَا لَا تَجُوزُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ إلَّا دِرْهَمًا. وَكَذَا لَا يَجُوزُ بِمِثْلِ مَا يَبِيعُ النَّاسُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَتَفَاوَتُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ (وَالصِّفَةُ) كَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ بُخَارِيَّةٍ أَوْ سَمَرْقَنْدِيَّةٍ. وَكَذَا حِنْطَةٌ بُحَيْرِيَّةٌ أَوْ صَعِيدِيَّةٌ، وَهَذَا لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ الصِّفَةُ مَجْهُولَةً تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ فِي وَصْفِهَا.

فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الْأَدْوَنَ، وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الْأَرْفَعَ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ وَهُوَ دَفْعُ، الْحَاجَةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَعْوَاضَ فِي الْبَيْعِ إمَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَهِيَ ثَمَنٌ سَوَاءٌ قُوبِلَتْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِجِنْسِهَا وَتَكُونُ صَرْفًا. وَإِمَّا أَعْيَانًا لَيْسَتْ مَكِيلَةً وَلَا مَوْزُونَةً فَهِيَ مَبِيعَةٌ أَبَدًا، وَلَا يَجُوزُ فِيهَا الْبَيْعُ إلَّا عَيْنًا إلَّا فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ كَالثِّيَابِ، وَكَمَا تَثْبُتُ الثِّيَابُ مَبِيعًا فِي الذِّمَّةِ بِطَرِيقِ السَّلَمِ تَثْبُت دَيْنًا مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ

ص: 260

وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَمْتَنِعُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ

قَالَ (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ إذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا) لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى

عَلَى أَنَّهَا ثَمَنٌ، وَحِينَئِذٍ يُشْتَرَطُ الْأَجَلُ لَا لِأَنَّهَا ثَمَنٌ بَلْ لِتَصِيرَ مُلْحَقَةً بِالسَّلَمِ فِي كَوْنِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَلِذَا قُلْنَا إذَا بَاعَ عَبْدًا بِثَوْبٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ جَازَ. وَيَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّ الْعَبْدِ حَتَّى لَا يَشْتَرِطَ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ فِي الثَّوْبِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ أَحْكَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الثَّوْبِ حَتَّى شَرَطَ فِيهِ الْأَجَلَ وَامْتَنَعَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لِإِلْحَاقِهِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ كَالْبَيْضِ، فَإِنْ قُوبِلَتْ بِالنُّقُودِ فَهِيَ مَبِيعَاتٌ أَوْ بِأَمْثَالِهَا مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ، فَمَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ ثَمَنٌ، وَمَا كَانَ مُعَيَّنًا فَمَبِيعٌ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُعَيَّنًا. فَمَا صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَفْظُ عَلَى كَانَ ثَمَنًا وَالْآخَرُ مَبِيعًا. وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ رحمه الله فِي شَهَادَاتِ الْجَامِعِ: الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَهُوَ ثَمَنٌ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَلِذَا لَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك كَذَا حِنْطَةً بِهَذَا الْعَبْدِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ فَيَجِبُ أَنْ يَضْرِبَ الْأَجَلَ لِلْحِنْطَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ الْمَشْرُوطَ قَدْ يَكُونُ عُرْفًا كَمَا يَكُونُ نَصًّا فِي الْفَتَاوَى لَوْ قَالَ: اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ الْبِطِّيخَةَ بِعَشَرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ يَبْتَاعُ النَّاسُ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ فِي الدَّارِ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَفِي الثَّوْبِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِي الْبِطِّيخَةِ بِعَشَرَةِ أَفْلُسٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَبْتَاعُ النَّاسُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَبْتَاعُ النَّاسُ بِذَلِكَ النَّقْدِ انْتَهَى.

وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِالْعَدَدِ فَتَعَيَّنَ الْمَعْدُودُ مِنْ كَوْنِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا يَثْبُتُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْمَبِيعَ، وَوَقَعَ شَكٌّ يُنَاسِبُ الْمَبِيعَ وَجَبَ أَنْ لَا يَتِمَّ الْبَيْعُ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ) لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى

ص: 261

{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» . وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مَانِعَةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ بِهِ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا يُسَلِّمُهُ فِي بِعِيدِهَا.

قَالَ (وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ كَانَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ)؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَفِيهِ التَّحَرِّي لِلْجَوَازِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ

{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَمَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ بَيْعٌ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ» ، وَفِي لَفْظِ الصَّحِيحَيْنِ:«طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ» .

وَقَدْ سُمِّيَ هَذَا الْيَهُودِيُّ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ أَخْرَجَهُ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَهَنَ دِرْعًا عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ظُفْرٍ فِي شَعِيرٍ» ، (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ وَذَاكَ فِي بِعِيدِهَا) وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فِي مَوْضِعِ شَرْطِ الْأَجَلِ وَهُوَ السَّلَمُ أَوْجَبَ فِيهِ التَّعْيِينَ حَيْثُ قَالَ «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» ، وَعَلَى كُلِّ ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ، وَأَمَّا الْبُطْلَانُ فِيمَا إذَا قَالَ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ حَالًّا وَبِأَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ فَلِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، وَمِنْ جَهَالَةِ الْأَجَلِ مَا إذَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَلَوْ قَالَ إلَى شَهْرٍ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ آخَرَ جَازَ بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ الْإِيفَاءِ فِي بَلَدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ لَا يَصِحُّ، فَلَوْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ صَحَّ، وَمِنْهُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا إذَا بَاعَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ فَإِنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله عَلَّلَهُ بِتَضَمُّنِهِ أَجَلًا مَجْهُولًا حَتَّى لَوْ سُمِّيَ الْوَقْفُ الَّذِي يُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ الْمَبِيعُ جَازَ الْبَيْعُ.

وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّمَا عَلَّلَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي لَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ) أَيْ أَطْلَقَهُ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ بِأَنْ قَالَ عَشَرَةُ دَرَاهِمِ مِثْلًا (انْصَرَفَ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَيَنْصَرِفُ) الْمُطْلَقُ (إلَيْهِ) فَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ اسْمِ الدَّرَاهِمِ

ص: 262

(فَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا) وَهَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي الرَّوَاجِ سَوَاءً؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِالْبَيَانِ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ وَأَرْوَجَ فَحِينَئِذٍ يُصْرَفُ إلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً فِيهَا كَالثُّنَائِيِّ وَالثُّلَاثِيِّ وَالنُّصْرُتِيِّ الْيَوْمَ بِسَمَرْقَنْدَ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعَدَالِيِّ بِفَرْغَانَةَ جَازَ الْبَيْعُ إذَا أُطْلِقَ اسْمُ الدِّرْهَمِ، كَذَا قَالُوا، وَيَنْصَرِفُ إلَى مَا قَدَّرَ بِهِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْمَالِيَّةِ.

فِي الْعُرْفِ يَخْتَصُّ بِهَا مَعَ وُجُودِ دَرَاهِمَ غَيْرِهَا فَهُوَ تَخْصِيصُ الدَّرَاهِمِ بِالْعُرْفِ الْقَوْلِيِّ، وَهُوَ مِنْ إفْرَادِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ التَّعَامُلُ بِهَا فِي الْغَالِبِ كَانَ مَنْ تَرَكَهَا بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَاجِبٌ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ وَعَدَمِ إهْدَارِ كَلَامِ الْعَاقِلِ (فَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةَ) الْمَالِيَّةِ كَالذَّهَبِ الْأَشْرَفِيِّ وَالنَّاصِرِيِّ بِمِصْرَ لَكِنَّهَا فِي الرَّوَاجِ سَوَاءٌ (فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) لِعَدَمِ إمْكَانِ الصَّرْفِ إلَى أَحَدِهَا بِعَيْنِهِ دُونَ الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحَكُّمِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الرَّوَاجِ،

ص: 263

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ مُكَايَلَةً وَمُجَازَفَةً) وَهَذَا إذَا بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّرْفُ إلَى أَحَدِهَا وَالْحَالَةُ أَنَّهَا مُتَفَاوِتَةُ الْمَالِيَّةِ جَاءَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُرِيدُ دَفْعَ الْأَنْقَصِ مَالِيَّةً، وَالْبَائِعُ يُرِيدُ دَفْعَ الْأَعْلَى فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ، إلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِبَيَانِ أَحَدِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى الْآخَرُ لِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ الدَّائِنُ لِمَدْيُونِهِ بِعْنِي هَذَا الثَّوْبَ بِبَعْضِ الْعَشَرَةِ الَّتِي لِي عَلَيْك وَبِعْنِي هَذَا الْآخَرَ بِبَاقِي الْعَشَرَةِ فَقَالَ نَعَمْ كَانَ صَحِيحًا لِعَدَمِ إفْضَاءِ جَهَالَةِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إلَى الْمُنَازَعَةِ بِضَمِّ الْمَبِيعِ الثَّانِي إلَيْهِ إذْ بِهِ يَصِيرُ ثَمَنُهُمَا عَشَرَةً، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى قَبُولِ الدَّائِنِ بَعْدَ قَوْلِ الْمَدْيُونِ نَعَمْ وَنَحْوُهُ.

وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ مَعًا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَيُصْرَفُ إلَى الْأَرْوَجِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. وَكَذَا إذَا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيُؤَدِّي مِنْ أَيُّهَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدِهَا فَلَوْ طَلَبَ الْبَائِعُ أَحَدَهَا بِعَيْنِهِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الصِّنْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قَبْضِ مَا أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّعَنُّتُ.

وَبِهَذَا قُلْنَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ، حَتَّى لَوْ أَرَاهُ دِرْهَمًا اشْتَرَى بِهِ فَبَاعَهُ ثُمَّ حَبَسَهُ وَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا آخَرَ جَازَ: يَعْنِي إذَا كَانَا مُتَّحِدَيْ الْمَالِيَّةِ وَالثُّنَائِيُّ وَالثُّلَاثِيُّ اسْمَا دَرَاهِمَ كَانَتْ بِبِلَادِهِمْ مُخْتَلِفَةَ الْمَالِيَّةِ، وَكَذَا الرُّكْنِيُّ وَالْخَلِيفَتِيُّ فِي الذَّهَبِ كَانَ الْخَلِيفَتِيُّ أَفْضَلَ مَالِيَّةً عِنْدَهُمْ وَالْعِدَالِيُّ اسْمٌ لِدَرَاهِمَ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ) وَهِيَ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا خَاصَّةً فِي الْعُرْفِ الْمَاضِي كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْفِطْرَةِ: «كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» . فَقَوْلُهُ (وَالْحُبُوبُ) عَطَفَ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ يُقَدَّرُ وَكَذَا بَاقِي: أَيْ وَبَاقِي الْحُبُوبِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الطَّعَامَ (مُكَايَلَةً) أَيْ بِشَرْطِ عَدَدٍ مِنْ الْكَيْلِ. وَإِلَّا فَفِي اللُّغَةِ الْمُكَايَلَةُ أَنْ تَكِيلَ لَهُ وَيَكِيلَ لَك (وَمُجَازَفَةً) أَيْ بِلَا كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ بَلْ بِإِرَاءَةِ الصُّبْرَةِ وَالْجَزْفُ فِي الْأَصْلِ: الْأَخْذُ بِكَثْرَةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ جَزَفَ لَهُ فِي الْكَيْلِ إذَا أَكْثَرَ، وَمَرْجِعُهُ إلَى الْمُسَاهَلَةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) يَعْنِي الْبَيْعَ مُجَازَفَةً مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ إذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا، فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ إذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا فَلَا يَجُوزُ مُجَازَفَةً لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَهُوَ مَانِعٌ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا. وَهَذَا أَيْضًا مُقَيَّدٌ بِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَا لَا يَدْخُلُ كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ فَيَجُوزُ وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّمْرَةَ بِالتَّمْرَتَيْنِ فَقَالَ: مَا حُرِّمَ فِي الْكَثِيرِ حُرِّمَ فِي الْقَلِيلِ. وَالْقَيْدُ مُقَيَّدٌ أَيْضًا بِمَا إذَا بَاعَ غَيْرَ الْحُبُوبِ مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ بِجِنْسِهَا كِفَّةً بِكِفَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمُجَازَفَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ. وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْفِضَّةَ كِفَّةَ مِيزَانٍ بِكِفَّةِ مِيزَانٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا هُوَ احْتِمَالُ الرِّبَا وَهُوَ بِاحْتِمَالِ التَّفَاضُلِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيمَا إذَا

ص: 264

وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَشَابَهَ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ وَبِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ)؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِمَا أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فِيهِ التَّسْلِيمَ فَيُنْدَرُ هَلَاكُهُ قَبْلَهُ بِخِلَافِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ وَالْهَلَاكَ لَيْسَ بِنَادِرٍ قَبْلَهُ فَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ.

وَضَعَ صُبْرَةَ فِضَّةٍ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ، وَوَضَعَ مُقَابِلَتَهَا فِضَّةً حَتَّى وَزَنَتْهَا فَيَجُوزُ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ مَا رَوَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ «قَالَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَتْ يَدًا بِيَدٍ» (وَلِأَنَّ) هَذِهِ (الْجَهَالَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ) لِتَعَجُّلِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَلَا يُمْنَعُ (فَشَابَهَ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ) لِلْمَبِيعِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِدِرْهَمٍ، وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ قِيمَةَ مَا بَاعَ لَزِمَ الْبَيْعُ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ وَبِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ) قَدْ قَيَّدَ الْإِنَاءَ بِكَوْنِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانَ كَأَنْ يَكُونَ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ يَحْتَمِلُ كَالزِّنْبِيلِ وَالْجَوَالِقِ فَلَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا بَيْعُ مِلْءِ قِرْبَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ رِوَايَةً مِنْ النِّيلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عِنْدَهُ وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ الْقِرْبَةِ لَكِنْ أُطْلِقَ فِي الْمُجَرَّدِ جَوَازُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْقِرَبِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الْبَلَدِ مَعَ غَالِبِ السَّقَّائِينَ، فَلَوْ مَلَأَ لَهُ بِأَصْغَرِ مِنْهَا لَا يُقْبَلُ، وَكَذَا رِوَايَةٌ مِنْهُ يُوفِيهِ فِي مَنْزِلِهِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا مَلَأَهَا ثُمَّ تَرَاضَيَا جَازَ كَمَا قَالُوا لَوْ بَاعَ الْحَطَبَ وَنَحْوَهُ أَحْمَالًا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ ثُمَّ بَاعَهُ الْحِمْلَ جَازَ لِتَعَيُّنِ قَدْرِ الْمَبِيعِ فِي الثَّانِي. وَفِي الْخُلَاصَةِ اشْتَرَى كَذَا كَذَا قِرْبَةً مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ جَازَ اسْتِحْسَانًا إذَا كَانَتْ الْقِرْبَةُ مُعَيَّنَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا يَجُوزُ فِي الْقِرَبِ مُطْلَقًا. وَفِي الْمُحِيطِ: بَيْعُ الْمَاءِ فِي الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا جَعَلَهُ فِي وِعَاءٍ. وَوَجَّهَ فِي الْمَبْسُوطِ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ بِأَنَّ فِي الْمُعَيَّنِ مُجَازَفَةً يَجُوزُ فَبِمِكْيَالٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْلَى، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ فِي الْمُجَازَفَةِ الْإِشَارَةُ إلَى عَيْنِ الْمَبِيعِ

ص: 265

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ

ثَابِتَةٌ تُفِيدُ الْإِحَاطَةَ بِمِقْدَارِ جَرْمِهِ وَأَقْطَارِهِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّمْيِيزِ لَا يَحْصُلُ لَهَا فِي كَيْلٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ قَبْلَ أَنْ يُصَبَّ فَالْأَوْلَوِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ بِلَا شَكٍّ. وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ إذَا كَانَ بِهِ أَوْ وَزَنَ لِلْمُشْتَرِي كَمَا فِي الشِّرَاءِ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا نَصَّ فِي جَمْعِ النَّوَازِلِ عَلَى أَنَّ فِيهِ الْخِيَارَ إذَا عَلِمَ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بِالْوَزْنِ. وَفِي جَمِيعِ التَّفَارِيقِ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله جَوَازُ الشِّرَاءِ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ، وَفِيهِ الْخِيَارُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحْمَلَ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي السَّلَمِ، فَقَوْلُهُ لَا يَجُوزُ أَيْ يَلْزَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ (وَأَظْهَرُ) أَيْ مِنْ حَيْثُ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَكِنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهِيَ الْمَانِعَةُ، وَذَلِكَ لَأَنْ يَتَعَجَّلَ فَيَنْدُرَ هَلَاكُهُ، بِخِلَافِ السَّلَمِ لَا يَتَعَجَّلُ فَقَدْ يَهْلِكُ ذَلِكَ الْكَيْلُ وَالْحَجَرُ فَيَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ: وَهِيَ مَا إذَا بَاعَ صُبْرَةً كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى عُرِفَ الْمِقْدَارُ صَحَّ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا إذَا رَآهُ، وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ مَعَ أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ رَأَى الصُّبْرَةَ قَبْلَ الْكَيْلِ وَوَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا، لَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَتَمُّ، وَصَارَ كَمَا إذَا رَأَى الدُّهْنَ فِي قَارُورَةِ زُجَاجٍ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بَعْدَ صَبِّهِ.

وَهَذَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اشْتِرَاطُ كَوْنِ مَا يُوزَنُ بِهِ وَلَا يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ حَتَّى لَا يَجُوزَ بِوَزْنِ هَذِهِ الْبِطِّيخَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهَا تَنْقُصُ بِالْجَفَافِ، وَعَوَّلَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ تَعْجِيلِ السَّلَمِ، وَلَا جَفَافَ يُوجِبُ نَقْصًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَمَا قَدْ يَعْرِضُ مِنْ تَأَخُّرِهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ مَمْنُوعٌ، بَلْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِي وَزْنِ ذَلِكَ الْحَجَرِ لِخَشْيَةِ الْهَلَاكِ فَيَتَعَذَّرُ التَّسْلِيمُ، وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ الْمَانِعَةُ مِنْهُ، وَالْفَرْضُ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ السَّلَمِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأَخُّرَ التَّسْلِيمِ فِيهِ إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَهُ إنْ نَدَرَ فَالِاخْتِلَافُ فِي أَنَّهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ وَالتُّهْمَةُ فِيهِ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَكُلُّ الْعِبَارَاتِ تُفِيدُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ بِالتَّعْجِيلِ كَمَا فِي عِبَارَةِ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى بِهَذَا الْإِنَاءِ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ إنَّ فِي الْمُعَيَّنِ الْبَيْعُ مُجَازَفَةً يَجُوزُ فَبِمِكْيَالٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْبَيْعِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ وَتَقَدَّمَ النَّظَرُ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ.

وَهَذَا وَأَوْرَدَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ مَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مِنْ أَرْبَعَةٍ يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي أَيَّهُمْ شَاءَ أَوْ بَاعَ بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُبْطِلَ فِي الْمُورَدِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ عَدَمُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لَا الْجَهَالَةُ، وَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي عَبْدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، لَكِنْ جَازَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِرْبَةِ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ، وَأَنَّهُ كَبَيْعِ الطَّيْرِ قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ، وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ حِنْطَةٌ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَلَمًا، وَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِالتَّعَامُلِ فَمُقْتَضَاهُ الْجَوَازُ بَعْدَ أَنْ يُسَمِّيَ نَوْعَ الْقِرْبَةِ فِي دِيَارِنَا بِمِصْرَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً مِثْلَ قِرْبَةٍ كَتَافِيَّةٍ أَوْ سِقَاوِيَّةٍ أَوْ رَوَاسِيَّةٍ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ يَسِيرٌ أَهْدَرَ فِي الْمَاءِ.

وَنَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ مَا إذَا بَاعَ حِنْطَةً مَجْمُوعَةً فِي بَيْتٍ أَوْ مَطْمُورَةٍ فِي الْأَرْضِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا وَلَا مُنْتَهَى حَفْرِ الْحَفِيرَةِ أَنَّ لَهُ الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعٍ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مُنْتَهَى الْمَطْمُورَةِ وَلَا يَعْلَمُ مَبْلَغَ الْحِنْطَةِ جَازَ وَلَا خِيَارَ لَهُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ تَحْتَهَا دُكَّانٌ: أَيْ صِفَةٌ وَنَحْوُهَا، كَذَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي

ص: 266

(قَالَ وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا وَقَالَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ) لَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَى الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيُصْرَفُ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِلَّا أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُلُّ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ.

وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ بَاعَهُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ قَدْرَ مَا يَمْلَأُ هَذَا الطَّشْتَ جَازَ، وَلَوْ بَاعَهُ قَدْرَ مَا يَمْلَأُ هَذَا الْبَيْتَ لَا يَجُوزُ.

وَفِي الْفَتَاوَى: بِعْت مِنْك مَا لِي فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا فَهُوَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ؛ وَلَوْ قَالَ مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ يَسِيرَةٌ، وَإِذَا جَازَ فِي الْبَيْتِ جَازَ فِي الصُّنْدُوقِ وَالْجَوَالِقِ، وَلَوْ قَالَ بِعْت مِنْك نَصِيبِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَشَرْطُ الْجَوَازِ عِلْمُ الْمُشْتَرِي بِنَصِيبِهِ دُونَ عِلْمِ الْبَائِعِ وَتَصْدِيقُ الْبَائِعِ فِيمَا يَقُولُ، وَلَوْ اشْتَرَى مَوْزُونًا بِإِنَاءٍ عَلَى أَنْ يُفْرِغَهُ وَيَزِنَ الْإِنَاءَ فَيَحُطُّ قَدْرَ وَزْنِهِ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ، وَكَمَا تُمْنَعُ الْجَهَالَةُ السَّابِقَةُ كَذَلِكَ تُمْنَعُ اللَّاحِقَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَلِذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا بَاعَ الْجَمْدَ الْكَائِنَ فِي الْمُجَمَّدَةِ، قِيلَ لَا يَجُوزُ حَتَّى يُسَلِّمَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَبِيعُ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ إذَا سَلَّمَ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ سَلَّمَ بَعْدَهَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تَذُوبُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَهُوَ وَجْهُ مَنْ مَنَعَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، غَيْرَ أَنَّ النَّقْصَ قَلِيلٌ قَبْلَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فَلِهَذَا أُهْدِرَ وَجَازَ، وَقِيلَ إنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَغَلَاءِ الْجَمْدِ وَرُخْصِهِ فَيَنْظُرُ إلَى مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ كَثِيرًا بِحَسَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَجُوزُ إذَا سَلَّمَهُ قَبْلُ، وَسَيَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) يَعْنِي أَنَّ مُوجِبَ هَذَا اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةُ إيجَابُ الْبَيْعِ فِي وَاحِدٍ عِنْدَهُ، وَيَتَوَقَّفُ فِي الْبَاقِي إلَى تَسْمِيَةِ الْكُلِّ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ كَيْلِهِ فِيهِ فَيَثْبُتُ حِينَئِذٍ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، فَإِنْ رَضِيَ هَلْ يَلْزَمُ الْبَيْعُ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ أَيْضًا، رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، وَرَوَى مُحَمَّدٌ خِلَافَهُ حَتَّى لَوْ فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بَعْدَ الْكَيْلِ وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِ الْكُلِّ لَا يَعْمَلُ فَسْخُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ إذَا جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ فَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ دُونَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَسْمِيَتِهِ جُمْلَةَ الْقُفْزَانِ (وَلَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ صَرْفُ الْبَيْعِ إلَى الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ) وَلَا جَهَالَةَ فِي الْقَفِيزِ فَلَزِمَ فِيهِ، وَإِذَا زَالَتْ بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ الْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ كَمَا إذَا ارْتَفَعَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ بِالرُّؤْيَةِ إذْ الْمُؤْثِرُ

ص: 267

وَلَهُمَا أَنَّ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا وَمِثْلُهَا غَيْرُ مَانِعٍ، وَكَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ. ثُمَّ إذَا جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ،

فِي الْأَصْلِ ارْتِفَاعُ الْجَهَالَةِ بَعْدَ لَفْظِ الْعَقْدِ وَكَوْنُهُ بِالرُّؤْيَةِ مُلْغًى، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لِتَقَرُّرِ الْمُفْسِدِ وَمَا فِي الْمُحِيطِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ عِنْدَهُ يَصِحُّ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْمَجْلِسِ كَالثَّابِتِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ، وَلَا يَلْزَمُ إسْقَاطُ خِيَارِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَكَذَا زَوَالُ جَهَالَةِ الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ بَعْدَهُ حَيْثُ يَجُوزُ الْعَقْدُ بِزَوَالِ الْمُفْسِدِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ فِيهِمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَلَا يَتَقَيَّدُ رَفْعُ الْمُفْسِدِ بِالْمَجْلِسِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَثَرَ الْفَسَادِ فِيهِمَا لَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِ بَلْ يَظْهَرُ عِنْدَ دُخُولِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَامْتِدَادِ الْأَجَلِ.

وَأَمَّا مَا أُورِدَ مِنْ أَنَّ الْجَهَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَكِنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ بَيْنَ كَوْنِ الْقُفْزَانِ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَا جَهَالَةُ الثَّمَنِ كَمِّيَّةً خَاصَّةً وَقَدْرًا لِعَدَمِ الْإِشَارَةِ وَلَا مُعَرَّفَ شَرْعًا لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِمَنْعِ كَوْنِهَا غَيْرَ مُفْضِيَةٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ يَطْلُبُ الْمُشْتَرِيَ بِتَسْلِيمِهِ الثَّمَنَ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ فَيَتَنَازَعَانِ فَتَهَافُتٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُطَالِبَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكِيلَهُ لِيَعْرِفَ الْقَدْرَ الَّذِي يُطَالِبُ بِهِ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُطَالِبَهُ إلَّا بِكَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ مُشَارٍ إلَيْهَا أَوْ مَضْبُوطَةِ الْوَزْنِ، وَحِينَئِذٍ يَعْلَمُهَا الْمُشْتَرِي فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَوْ امْتَنَعَ بَعْدَ هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ مَطْلًا لِلْمُنَازَعَةِ الْمُفْسِدَةِ (وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا) بِأَنْ يَكِيلَا فِي الْمَجْلِسِ، وَالْجَهَالَةُ الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَبَيْعِ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عَلَى أَنَّ

ص: 268

وَكَذَا إذَا كِيلَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ سَمَّى جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ الْآنَ فَلَهُ الْخِيَارُ، كَمَا إذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ

الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ.

وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ لَوْ صَحَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْجَهَالَةَ الَّتِي بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ الصِّحَّةِ لَزِمَ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِالرَّقْمِ عِنْدَهُمَا، وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ عَبْدٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ، عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ فِي تَعْيِينِهِ، وَأَنْ يَجُوزَ الْبَيْعُ بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ، لَكِنَّ الْبَيْعَ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ. أُجِيبُ بِأَنَّ الْبَيْعَ بِالرَّقْمِ تَمَكَّنَتْ الْجَهَالَةُ بِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ بِسَبَبِ الرَّقْمِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْقِمَارِ لِلْخَطَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ كَذَا وَكَذَا، وَجَوَازُهُ إذَا عُلِمَ فِي الْمَجْلِسِ بِعَقْدٍ آخَرَ هُوَ التَّعَاطِي كَمَا قَالَهُ الْحَلْوَانِيُّ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَعْلَمُ بِكَيْلِ الْبَيْعِ يَعْلَمُ بِكَيْلِ الْمُشْتَرِي، وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ الْبَيْعُ بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ، وَمِثْلُهُ فِي أَحَدِ الْعَبِيدِ الْأَرْبَعَةِ فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَكَانَ بَيْعًا بِلَا مَبِيعٍ، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ فِي عَبْدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ نَصِّ شَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ

ص: 269

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ كُلُّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ ثَوْبًا مُذَارَعَةً كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ جُمْلَةَ الذِّرَاعَانِ، وَكَانَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُتَفَاوِتٍ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ) لِمَا بَيَّنَّا غَيْرَ أَنَّ بَيْعَ شَاةٍ مِنْ قَطِيعِ غَنَمٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ لَا يَجُوزُ لِلتَّفَاوُتِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ أَجْوِبَةِ هَذِهِ النُّقُوضِ تَصْلُحُ أَدِلَّةً لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ تَسْلِيمَ أَنَّ الْجَهَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا بَعْدَ كَوْنِهَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ فِي الثَّمَنِ كَالْبَيْعِ بِالرَّقْمِ وَبِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ، أَوْ فِي الْمَبِيعِ كَبَيْعِ عَبْدٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ تَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ عَلَى وَجْهٍ يُشْبِهُ الْقِمَارَ وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ مَعَ إمْكَانِ إزَالَتِهَا ثَابِتٌ فِي حَمْلِ النِّزَاعِ إذْ جَازَ أَنْ يَظْهَرَ كَوْنُهُ مِائَةً أَوْ خَمْسِينَ إلَّا بِكَيْلِ أَحَدِهِمَا، وَكَوْنُ ذَلِكَ بِكَيْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَفِي الرَّقْمِ يَظْهَرُ بِالْبَائِعِ فَقَطْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي دَفْعِ مَنْعِ الْحَظْرِ وَالتَّمَكُّنِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ

وَإِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ فِي عَبْدٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالْجَهَالَةُ فِي مَضْبُوطٍ لِانْحِصَارِهَا فِي احْتِمَالَاتٍ أَرْبَعَةٍ لَا تَتَعَدَّاهَا، فَلَأَنْ تَفْسُدَ فِي صُبْرَةٍ لَا تَقِفُ الِاحْتِمَالَاتُ فِي خُصُوصِ الثَّمَنِ عَلَى كَوْنِهِ أَرْبَعَ إمْكَانَاتٍ أَوْ عَشَرَةً أَوْلَى، بَلْ وَيُسَجَّلُ عَلَيْهِمَا بِبُطْلَانِ قِيَاسِهِمَا عَلَى بَيْعِ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ إذْ ظَهَرَ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ الْقِيَاسِ وَلِذَا امْتَنَعَ فِي أَرْبَعَةِ أَعْبُدٍ، وَحِينَئِذٍ تَرَجَّحَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَظَهَرَ أَنَّ كَوْنَ الْعَاقِدَيْنِ بِيَدِهِمَا إزَالَةُ جَهَالَةِ صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْمَبِيعُ لَا يُوجِبُ صِحَّةَ الْبَيْعِ قَبْلَ إزَالَتِهَا بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ إمْكَانِ إزَالَتِهَا فِيهَا، وَغَايَتُهُ إذَا أُزِيلَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَهُمَا عَلَى رِضَاهُمَا ثَبَتَ بِعَقْدِ التَّرَاضِي وَالْمُعَاطَاةِ لَا بِعَيْنِ الْأَوَّلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الرَّقْمِ، بَلْ وَلِهَذِهِ الْفُرُوعِ الْمَذْكُورَةِ أَمْثَالٌ يَطُولُ عَدُّهَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيهَا لِجَهَالَةٍ فِي الثَّمَنِ أَوْ الْمَبِيعِ مَعَ إمْكَانِ إزَالَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهَا، وَتَأْخِيرُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ دَلِيلَهُمَا ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِهِ قَوْلَهُمَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَأَمَّا مَا يُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ مِمَّا.

ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَتَى أُضِيفَ كَلِمَةُ كُلٍّ إلَى مَا لَا تُعْلَمُ نِهَايَتُهُ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَدْنَاهُ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ كَالْإِقْرَارِ بِأَنَّ عَلَيْهِ كُلَّ دِرْهَمٍ إنَّمَا يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا إجَارَةُ كُلِّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ تَلْزَمُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَلَا حَاجَةَ لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ صِحَّةَ هَذَا الْأَصْلِ كَانَ إثْبَاتُهُ بِعَيْنِ مَا ذُكِرَ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ ثُبُوتِ الْجَهَالَةِ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّيَقُّنِ فِي الْوَاحِدِ فَهُوَ نَفْسُهُ أَصْلُ هَذَا الْأَصْلِ. [فَرْعٌ]

اشْتَرَى طَعَامًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ خَارِجَ الْمِصْرِ وَشَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلٍ مِنْ الْمِصْرِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الْحَمْلِ فَسَدَ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ وَشَرَطَ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ بِشَرْطِ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَفِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ جَوَازَهُ بِالْعُرْفِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَشْتَرِي الْحَطَبَ وَالشَّعِيرَ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْمِصْرِ وَلَا يَكْتَرِي دَابَّةً أُخْرَى يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا بَلْ الْبَائِعُ هُوَ يَحْمِلُهُ بِخِلَافِهِ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ لَفْظِ الْحَمْلِ وَالْإِيفَاءِ فِي الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْفَرْقَ فَإِنَّ الْإِيفَاءَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ فَشَرْطُهُ مُلَائِمٌ بِخِلَافِ الْحَمْلِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ إلَخْ) لَمَّا ذَكَرَ الصُّورَةَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ ذَكَرَ نَظِيرَهَا فِي الْقِيَمِيَّاتِ، فَإِذَا أَضَافَ الْبَيْعَ

ص: 270

وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ فَلَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَتَقْضِي إلَيْهَا فِي الْأَوَّلِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ

قَالَ (وَمَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ) لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ، فَلَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِالْمَوْجُودِ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ وَالْقَدْرُ لَيْسَ بِوَصْفٍ

(وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ

عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَيَوَانَاتِ بِأَنْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الْقَطِيعَ كُلُّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ هَذَا الثَّوْبَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمِ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الْغَنَمِ وَلَا الذِّرَاعَيْنِ وَلَا جُمْلَةَ الثَّمَنِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا إذَا سَمَّى أَحَدَهُمَا فَيَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ لِلْعِلْمِ بِتَمَامِ الثَّمَنِ مُطَابَقَةً أَوْ الْتِزَامًا فِيمَا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ عَدَدِ الْقَطِيعِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا وَعِنْدَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ جَهَالَةِ كُلِّ الثَّمَنِ وَإِلْغَاءِ كَوْنِ ارْتِفَاعِهَا بِيَدِهِمَا غَيْرَ أَنَّ الْآحَادَ هُنَا مُتَفَاوِتَةٌ فَلَمْ يَنْقَسِمْ الثَّمَنُ عَلَى الْجُمْلَةِ بِالْإِجْزَاءِ فَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ فَفَسَدَ فِي الْكُلِّ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ شَاةً أَوْ عَشَرَةً مِنْ مِائَةٍ أَوْ بِطِّيخَةً أَوْ عَشْرًا مِنْ وَقْرِ بِطِّيخٍ كَانَ بَاطِلًا.

وَأَمَّا الْجَوَازُ فِيمَا إذَا عَزَلَهَا وَذَهَبَ وَالْبَائِعُ سَاكِتٌ فَبِالتَّعَاطِي عَلَى مَا قَدَّمْنَا قَالَ الْعَتَّابِيُّ: إنَّ ذَلِكَ فِي ثَوْبٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، أَمَّا فِي الْكِرْبَاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عِنْدَهُ فِي ذِرَاعٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الطَّعَامِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَعْدُودٍ مُتَفَاوِتٍ كَحِمْلِ بِطِّيخٍ كُلُّ بِطِّيخَةٍ بِفَلْسٍ وَالرُّمَّانُ وَالسَّفَرْجَلُ وَالْخَشَبُ وَالْأَوَانِي وَالرَّقِيقُ وَالْإِبِلُ. وَلَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا فِي الدَّارِ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَلْيَقِ بِأَصْلِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْخِلَافِيَّةِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ اشْتَرَى الْعِنَبَ كُلُّ وَقْرٍ بِكَذَا، وَالْوَقْرُ عِنْدَهُ مَعْرُوفٌ، إذَا كَانَ الْعِنَبُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ فِي وَقْرٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَ الْعِنَبُ أَجْنَاسًا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَطِيعِ الْغَنَمِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا فِي كُلِّ الْعِنَبِ كُلُّ وَقْرٍ بِمَا قَالَ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا فَكَذَا أَوْرَدَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ جَعَلَ الْجَوَابَ بِالْجَوَازِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعِنَبُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلَفًا فِيهِ.

ثُمَّ قَالَ الْفَقِيهُ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ انْتَهَى، وَتَفْرِيعُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ أَوْجَهُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ) مَثَلًا (بِمِائَةٍ) تَعَلَّقَ الْعَقْدُ عَلَى ذَلِكَ الْكَيْلِ الْمُسَمَّى بِعَيْنِهِ حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ نَاقِصَةً (كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ بِالْأَجْزَاءِ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ الْمِثْلِيِّ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، (فَإِنْ شَاءَ فَسْخَ الْبَيْعَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ) الْوَاحِدَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْخُلَاصَةُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ (وَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ) لَيْسَ

ص: 271

أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَالْوَصْفُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَخْتَلُّ الرِّضَا. قَالَ (وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ الذِّرَاعِ الَّذِي سَمَّاهُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي

لَهُ جِهَةُ الْوَصْفِيَّةِ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ،

وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى ثَوْبًا أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ أَوْ مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةٍ فَوَجَدَ الْمَبِيعَ أَقَلَّ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً عَلَى الْعَشَرَةِ أَوْ الْمِائَةِ كَانَ الْكُلُّ لِلْمُشْتَرِي (وَلَوْ) كَانَ (قَالَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ) مَثَلًا (بِمِائَةٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ) إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ) وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، أَصْلُ هَذَا أَنَّ الذِّرَاعَ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَصْفٌ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ طُولٍ فِيهِ لَكِنَّهُ وَصْفٌ يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ لَمْ يُفْرَدْ بِثَمَنٍ كَانَ تَابِعًا مَحْضًا فَلَا يُقَابَلُ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا قَالَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ بِمِائَةٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ تَابِعًا مَحْضًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالتَّوَابِعُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ حَتَّى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَنْقُصُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، أَوْ اعْوَرَّتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي جَازَ لَهُ أَنْ يُرَابَحَ عَلَى ثَمَنِهَا بِلَا بَيَانٍ فَعَلَيْهِ تَمَامُ الثَّمَنِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ فَوَجَدَهُ

ص: 272

وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ)؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا بَاعَهُ مَعِيبًا، فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ

(وَلَوْ قَالَ بِعْتُكهَا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَكِنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِإِفْرَادِهِ بِذَكَرِ الثَّمَنِ فَيَنْزِلُ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ

لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَلَهُ الزَّائِدُ فِي الصُّورَةِ الزَّائِدَةِ (كَمَا إذَا بَاعَهُ) عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَهُ سَلِيمًا، هَذَا إذَا لَمْ يُفْرِدْ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ أَفْرَدَ بِالثَّمَنِ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ بِمِائَةٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ صَارَ أَصْلًا وَارْتَفَعَ عَنْ التَّبَعِيَّةِ فَنَزَلَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ

وَلَوْ بَاعَهُ هَذِهِ الرِّزْمَةَ مِنْ الثِّيَابِ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْأَثْوَابَ الْمَوْجُودَةَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، فَكَذَا إذَا وَجَدَ الذِّرَاعَيْنِ نَاقِصَةً فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا بِكُلِّ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَلَوْ وَجَدَهَا زَائِدَةً لَمْ تُسْلَمْ لَهُ الزِّيَادَةُ لِصَيْرُورَتِهِ أَصْلًا كَمَا لَوْ لَمْ يُسْلَمْ لَهُ الثَّوْبُ الْمُفْرَدُ فِيمَا إذَا زَادَتْ عَدَدُ الثِّيَابِ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ

ص: 273

بِكُلِّ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا لِكُلِّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ (وَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ) لِأَنَّهُ إنْ حَصَلَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ فَكَانَ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ فَيَتَخَيَّرُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَارَ أَصْلًا، وَلَوْ أَخَذَهُ بِالْأَقَلِّ لَمْ يَكُنْ آخِذًا بِالْمَشْرُوطِ.

عَدَدَ الثِّيَابِ إذَا زَادَتْ فَسَدَ الْبَيْعُ لِلُزُومِ جَهَالَةِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ تَجْرِي فِي تَعْيِينِ الثَّوْبِ الَّذِي يُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

أَمَّا هُنَا فَالذِّرَاعُ لَيْسَ أَصْلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِيُفْسِدَ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الزَّائِدَ بِحِصَّتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ لَهُ أَخْذُ الزَّائِدِ لَكِنَّهُ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ وَهُوَ زِيَادَةُ الثَّمَنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَلْزَمُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا الطُّولَ وَصْفًا تَارَةً وَأَصْلًا أُخْرَى، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا الْقَدْرَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ إلَّا أَصْلًا دَائِمًا مَعَ أَنَّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْقَدْرَ وَصْفًا اُحْتِيجَ إلَى الْفَرْقِ فَقِيلَ لِأَنَّ الْمِثْلِيَّ لَا تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بِنُقْصَانِ الْقَدْرِ، فَإِنَّ الصُّبْرَةَ الْكَائِنَةَ مِائَةُ قَفِيزٍ لَوْ صَارَتْ إلَى قَفِيزَيْنِ فِي الْقِلَّةِ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَةُ الْقَفِيزِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ وَالْأَرْضِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي عَادَتُهُ عَشَرَةٌ وَهُوَ قَدْرُ مَا يُفَصِّلُ قَبَاءً أَوْ فَرَجِيَّةً كَانَ بِثَمَنٍ إذَا قُسِّمَ عَلَى أَجْزَائِهِ يُصِيبُ كُلَّ ذِرَاعٍ مِنْهُ مِقْدَارٌ، وَلَوْ أُفْرِدَ الذِّرَاعُ وَبِيعَ بِمُفْرَدِهِ لَمْ يُسَاوِ فِي الْأَسْوَاقِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ بَلْ أَقَلَّ مِنْهُ بِكَثِيرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْغَرَضَ الَّذِي يُصْنَعُ بِالثَّوْبِ الْكَامِلِ فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ

ص: 274

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لَهُمَا أَنَّ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ عُشْرُ الدَّارِ فَأَشْبَهَ عَشْرَةَ أَسْهُمٍ. وَلَهُ أَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِمَا يَذْرَعُ بِهِ، وَاسْتُعِيرَ لِمَا يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ دُونَ الْمَشَاعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بِخِلَافِ السَّهْمِ. وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ مِنْ جُمْلَةِ الذِّرَاعَانِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْخَصَّافُ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ.

لَمْ يُعْتَبَرْ كَثَوْبٍ كَامِلٍ مُفْرَدٍ

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَقَالَا: هُوَ جَائِزٌ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله (وَإِنْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ) مِنْهَا (جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْمُؤَدَّى مِنْ عَشْرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مُعَيَّنٌ أَوْ شَائِعٌ فَعِنْدَهُمَا شَائِعٌ كَأَنَّهُ بَاعَ عُشْرَ مِائَةٍ وَبَيْعُ الشَّائِعِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا كَمَا فِي بَيْعِ عَشْرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ، وَعِنْدَهُ مُؤَدَّاةُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَالْجَوَانِبُ مُخْتَلِفَةُ الْجَوْدَةِ فَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي تَعْيِينِ مَكَانِ الْعَشَرَةِ فَفَسَدَ الْبَيْعُ، فَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُؤَدَّى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ شَائِعٌ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لَمْ يَخْتَلِفُوا، فَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي نِكَاحِ الصَّابِئَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ أَوْ لَهُمْ كِتَابٌ، فَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى الثَّانِي اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ، أَوْ عَلَى الْأَوَّلِ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، فَالشَّأْنُ فِي تَرْجِيحِ الْمَبْنِيِّ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ (الذِّرَاعُ اسْمٌ لِمَا يُذْرَعُ بِهِ) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْمَبِيعِ عَشْرًا مِنْ الْخَشَبَاتِ الَّتِي يَذْرَعُ بِهَا فَكَانَ مُسْتَعَارًا لِمَا يَحِلُّهَا، وَمَا يَحِلُّهُ مُعَيَّنٌ فَكَانَ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا مُقَدَّرًا بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ (بِخِلَافِ) عَشَرَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ اسْمٌ لِلْجُزْءِ الشَّائِعِ فَكَانَ الْمَبِيعُ عَشْرَةَ أَجْزَاءٍ شَائِعَةٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ.

ص: 275

وَلَوْ اشْتَرَى عِدْلًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَثْوَابٍ فَإِذَا هُوَ تِسْعَةٌ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَسَدَ الْبَيْعُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ (وَلَوْ بَيَّنَ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا جَازَ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ بِقَدْرِهِ وَلَهُ الْخِيَارُ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الزِّيَادَةِ) لِجَهَالَةِ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ.

وَقَدْ يُقَالُ إنَّ تَعْيِينَ جُمْلَةِ ذُرْعَانِ الدَّارِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بَيْعَ الشَّائِعِ؛ لِأَنَّ بِهِ يُعْرَفُ نِسْبَةُ الْعَشَرَةِ مِنْ الْكُلِّ أَنَّهَا بِالْعُشْرِ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ أَذْرُعٍ لَا يَتَفَاوَتُ مِقْدَارُهَا بِتَعْيِينِ الْكُلِّ وَعَدَمِهِ. وَقَدْ يُقَالُ فَائِدَتُهُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُرْفَعَ بِهِ الْفَسَادُ، فَإِنَّ بَيْعَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ ثَوْبٍ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا عَلَى قَوْلِهِمَا عَلَى تَخْرِيجِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ، وَعَلَى قَوْلِ آخَرِينَ يَجُوزُ لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا فَيُذْرَعُ الْكُلُّ فَيُعْرَفُ نِسْبَةُ الْعَشَرَةِ، وَصُحِّحَ هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمَا مِنْ بَيْعِ صُبْرَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ يَرَى الرَّأْيَ الْأَوَّلَ.

وَلَمَّا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ ظَهَرَ أَنَّ مَا قَالَ الْخَصَّافُ مِنْ أَنَّ الْفَسَادَ عِنْدَهُ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ جُمْلَةُ الذُّرْعَانِ؛ وَأَمَّا إذَا عُرِفَ جُمْلَتُهَا فَالْبَيْعُ عِنْدَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ فَإِنَّ الْفَسَادَ عِنْدَهُ لِلْجَهَالَةِ كَمَا قُلْنَا، وَبِمَعْرِفَةِ قَدْرِ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ لَا تَنْتَفِي الْجَهَالَةُ عَنْ الْبَعْضِ الَّذِي بِيعَ مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا بَاعَ ذِرَاعًا أَوْ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يُسَمِّ جُمْلَتَهَا فَقِيلَ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ عَلَى قَوْلِهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جُزْءٌ شَائِعٌ مَعْلُومُ النِّسْبَةِ مِنْ الْكُلِّ، وَذَلِكَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ جُمْلَتِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ بِأَيْدِيهِمَا إزَالَتُهَا بِأَنْ تُقَاسَ كُلُّهَا فَيُعْرَفُ نِسْبَةُ الذِّرَاعِ أَوْ الْعَشَرَةِ مِنْهَا فَيُعْلَمُ قَدْرُ الْمَبِيعِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ عِدْلًا) صُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ بِعْتُك مَا فِي هَذَا الْعِدْلِ عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَثْوَابٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا، وَلَمْ يُفَصِّلْ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا بَلْ قَالَ الْمَجْمُوعُ بِالْمَجْمُوعِ (فَإِذَا هُوَ تِسْعَةٌ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَسَدَ الْبَيْعُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ) فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالذِّرَاعِ الَّذِي صَارَ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ (وَالثَّمَنُ) فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَنْقَسِمُ أَجْزَاؤُهُ عَلَى حَسَبِ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ الْقِيَمِيِّ وَالثِّيَابِ مِنْهُ فَلَمْ يُعْلَمْ لِلثَّوْبِ الذَّاهِبِ حِصَّةً مَعْلُومَةً مِنْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى لِيُنْقِصَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْهُ فَكَانَ النَّاقِصُ مِنْ الثَّمَنِ قَدْرًا مَجْهُولًا فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا (وَلَوْ) كَانَ (فَصَّلَ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا) بِأَنْ قَالَ كُلُّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ (جَازَ) الْبَيْعُ (فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ بِقَدْرِهِ) أَيْ بِمَا سِوَى قَدْرِ النَّاقِصِ لِعَدَمِ الْجَهَالَةِ لَكِنْ مَعَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ (وَلَمْ يَجُزْ فِي الزِّيَادَةِ)؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَبِيعِ لَا تَرْتَفِعُ فِيهِ لِوُقُوعِ الْمُنَازَعَةِ فِي تَعْيِينِ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ مِنْ الْأَحَدَ عَشَرَ

ص: 276

وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ أَيْضًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَرْوِيٌّ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا، وَإِنْ بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْمَرْوِيِّ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ فِي الْهَرَوِيِّ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَلَا قَبُولَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْدُومِ فَافْتَرَقَا.

وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ) الْبَيْعُ (فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ أَيْضًا) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ فِي الثِّيَابِ الْمَوْجُودَةِ قَوْلُهُمَا.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ فِي الْبَعْضِ بِمُفْسِدٍ مُقَارَنٍ وَهُوَ الْعَدَمُ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى فَسَدَ فِي الْبَعْضِ بِفَسَادٍ مُقَارَنٍ يَفْسُدُ فِي الْبَاقِي، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مَسْأَلَةً فِي الْجَامِعِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا وَهِيَ رَجُلٌ (اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ) كُلُّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ (فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَرْوِيٌّ) بِسُكُونِ الرَّاءِ نِسْبَةً إلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْكُوفَةِ، أَمَّا النِّسْبَةُ إلَى مَرْوَ الْمَعْرُوفَةِ بِخُرَاسَانَ فَقَدْ الْتَزَمُوا فِيهَا زِيَادَةَ الزَّايِ فَيُقَالُ مَرْوَزِيُّ وَكَأَنَّهُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ، قَالَ: فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الثَّوْبَيْنِ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْهَرَوِيِّ، وَالْفَائِتُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصِّفَةُ لَا أَصْلُ الثَّوْبِ وَقَدْ فَسَدَ فِي الْكُلِّ بِفَوَاتِهِ فَفَسَادٌ فِي الْكُلِّ وَالْفَائِتِ أَحَدُهَا أَوْلَى، وَإِلَيْهِ مَالَ الْحَلْوَانِيُّ وَقَالَ إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَهُ، وَكَذَا نَسَبَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إلَى أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا: يَعْنِي عَدَمَ الْفَسَادِ فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِيمَا يَفْسُدُ فِيهِ الْعَقْدُ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ فِي الْآخَرِ وَهُنَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا فَإِنَّهُ مَا شَرَطَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ وَلَا قَصَدَ إيرَادَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَعْدُومِ بَلْ عَلَى الْمَوْجُودِ فَقَطْ فَغَلَطَ فِي الْعَدَدِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي كُلٍّ مِنْ الثَّوْبَيْنِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي الْآخَرِ وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ.

وَأَقُولُ: قَوْلُهُ مَا شَرَطَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ إنْ كَانَ صَرِيحًا مَعْلُومًا وَلَا يَضُرُّ، فَإِنَّ فِي الثَّوْبَيْنِ أَيْضًا مَا شَرَطَ قَبُولَهُ فِي الْمَرْوِيِّ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى مُتَعَدِّدِ صَفْقَةٍ كَانَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي كُلٍّ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ فِي الْآخَرِ كَمَا فِي الثَّوْبَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْعَشَرَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَكَانَ قَبُولُهُ فِي الْعَاشِرِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِيمَا سِوَاهُ وَلَا وُجُودَ لِلْعَاشِرِ، فَكَانَ قَبُولُهُ فِي الْمَعْدُومِ شَرْطًا إلَى آخِرِهِ.

وَحَاصِلُ قَوْلِهِ وَمَا قَصَدَهُ إلَى آخِرِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ الْمَوْجُودَيْنِ الْمَوْصُوفَيْنِ بِوَصْفٍ إذَا دَخَلَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ كَانَ قَبُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِذَلِكَ الْوَصْفِ شَرْطًا لِلْقَبُولِ فِي الْآخَرِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ

ص: 277

(وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَإِذَا هُوَ عَشْرَةٌ وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِعَشْرَةٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَأْخُذُهُ بِتِسْعَةٍ إنْ شَاءَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِأَحَدَ عَشَرَ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي يَأْخُذُ بِعَشْرَةٍ إنْ شَاءَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَأْخُذُ فِي الْأَوَّلِ بِعَشْرَةٍ وَنِصْفٍ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ وَيُخَيَّرُ)؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ

ذَلِكَ شَرْطًا فَاسِدًا فِي الْقَبُولِ فِي الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا إذْ كَانَ مَعْدُومًا بِذَاتِهِ وَوَصْفِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ حِينَئِذٍ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ قَبُولُهُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ غَلَطًا، فَلَمَّا لَمْ يُجْعَلْ شَرْطًا لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ فِي الْآخَرَ.

فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَحَطَّ الْفَرْقِ فِي اعْتِبَارِ الْغَلَطِ وَعَدَمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ الْغَلَطِ إنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ فِي تِسْعَةٍ؛ وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِعَشَرَةٍ غَلَطًا، فَالْمُشْتَرِي لَمَّا قَبِلَ فِي عَشَرَةٍ مَا كَانَ غَالِطًا فَمَا تَلَاقَى الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، كَمَا لَوْ عَزَلَ تِسْعَةَ أَثْوَابٍ مِنْ الْعَشَرَةِ وَقَالَ بِعْتُك هَذِهِ التِّسْعَةَ فَقَالَ قَبِلْت فِي الْعَشَرَةِ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ فِي التِّسْعَةِ وَلَا الْعَشَرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى غَلَطِهِ أَنَّهُ قَصَدَ الْإِيجَابَ فِي عَشَرَةٍ وَلَيْسَ فِي الْوَاقِعِ إلَّا تِسْعَةٌ لَمْ يُفْسِدْ الصِّحَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ وَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِيهِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي التِّسْعَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ جَادٌّ فِي اعْتِقَادِ قِيَامِ الْعَشَرَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاطِلًا كَمَا ذَكَرَ فِيمَنْ بَاعَ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ حِنْطَةٌ الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ.

وَفِي الْمُحِيطِ: رَوَى قَاضِي الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ أَبِيعُك هَذِهِ الْحِنْطَةَ عَلَى أَنَّهَا أَقَلَّ مِنْ كُرٍّ فَوَجَدَهَا كَذَلِكَ جَازَ، إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ وَجَدَهَا كُرًّا أَوْ أَكْثَرَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ كُرٍّ فَوَجَدَهَا كَذَلِكَ، وَإِنْ وَجَدَهَا كُرًّا أَوْ دُونَهُ فَفَاسِدٌ، وَلَوْ قَالَ كُرًّا أَوْ كُرَّيْنِ جَازَ كَيْفَ مَا كَانَ غَيْرَ أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي الْأَقَلِّ، كَمَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنَّهَا كُرٌّ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى عِنَبًا فِي كَرْمٍ مُعَيَّنٍ عَلَى أَنَّهُ كَذَا وَكَذَا مَنًّا، وَكَذَا فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ انْتَهَى. وَوَجْهُ الْفَسَادِ فِي الْأَكْثَرِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ الزَّائِدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْأَقَلِّ مِنْ الْكُرِّ وَالْأَكْثَرِ مِنْهُ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ لِيُعْرَفَ الزَّائِدُ عَلَيْهِ فَيُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ كُرًّا أَوْ كُرَّيْنِ، وَلَا وَجْهَ لِلرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَاعَ صُبْرَةً بِشَرْطِ أَنْ لَا تَبْلُغَ الْمِقْدَارَ الْفُلَانِيَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمِ فَإِذَا هُوَ عَشَرَةٌ وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِعَشَرَةٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي أَخَذَهُ بِتِسْعَةٍ إنْ شَاءَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: فِي الْأَوَّلِ يَأْخُذُ بِأَحَدَ عَشَرَ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي بِعَشَرَةٍ إنْ شَاءَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِعَشَرَةٍ وَنِصْفٍ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ وَيُخَيَّرُ) وَجْهُ قَوْلِهِ (إنَّ مِنْ ضَرُورَةِ

ص: 278

مُقَابَلَةِ الذِّرَاعِ بِالدِّرْهَمِ مُقَابَلَةُ نِصْفِهِ بِنِصْفِهِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهَا. وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِبَدَلٍ نَزَلَ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ وَقَدْ انْتَقَضَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْمِقْدَارِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالذِّرَاعِ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ. وَقِيلَ فِي الْكِرْبَاسِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهُ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي مَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْزُونِ حَيْثُ لَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْهُ.

مُقَابَلَةِ الذِّرَاعِ بِالدِّرْهَمِ مُقَابَلَةُ نِصْفِهِ بِنِصْفِهِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُقَابَلَةِ)، وَحُكْمُهَا أَنْ يَجِبَ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ جُزْءٍ إضَافِيٍّ مِنْ الذِّرَاعِ مِثْلُهُ مِنْ الدِّرْهَمِ فَنِصْفُ الذِّرَاعِ بِنِصْفِ الدِّرْهَمِ وَرُبْعُهُ بِرُبْعِهِ وَثُمُنُهُ بِثُمُنِهِ وَهَكَذَا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيُجَزَّأُ الدِّرْهَمُ عَلَيْهِ: أَيْ يُقَابِلُ كُلُّ جُزْءٍ لَهُ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ بِجُزْءٍ كَذَلِكَ مِنْ الْآخَرِ، وَضَمِيرُ يُجَزَّأُ يَصِحُّ عَوْدُهُ إلَى كُلٍّ مِنْ الذِّرَاعِ وَالدِّرْهَمِ، إلَّا أَنَّ الدِّرْهَمَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا يُخَيَّرُ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ النِّصْفِ بِمُقَابَلَةِ ضَرَرٍ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالْتِزَامِهِ، وَفِي النُّقْصَانِ لِفَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَهُوَ وَصْفُ الْعَشَرَةِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ نَزَلَ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ مُفْرَدٍ) بِيعَ عَلَى أَنَّهُ ذِرَاعٌ لِمَا عُرِفَ أَنَّ إفْرَادَهُ الذِّرَاعَ بِالثَّمَنِ يُخْرِجُهُ عَنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الْأَصْلِيَّةِ، (وَقَدْ انْتَقَصَ) عَنْ الذِّرَاعِ فَلَا يُنْتَقَصُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِي الزِّيَادَةِ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، وَفِي النُّقْصَانِ فَوَاتَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْمِقْدَارِ بِالشَّرْطِ) وَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَقُولَ: حُكْمُ الْأَصْلِ أَوْ الثَّوْبِ الْمُنْفَصِلِ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ أَيْضًا وَصْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَخْذُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ ذِرَاعًا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يُوجَدْ مَا أَخَذَ حُكْمَ الْأَصْلِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ مِنْ كَوْنِهِ وَصْفًا لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا وَجْهَ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ فِي فَصْلِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ ضَرَرٌ فِي مُقَابَلَةِ الزَّائِدِ بَلْ نَفْعٌ خَالِصٌ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ مَعِيبًا فَوَجَدَهُ سَلِيمًا، وَيَتَخَيَّرُ فِي النُّقْصَانِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، ثُمَّ مِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ اخْتَارَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ، وَفِي الذَّخِيرَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَصَحُّ، وَذَكَرَ

ص: 279

(فَصْلٌ)

(وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ بِنَاؤُهَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ وَالْبِنَاءَ فِي الْعُرْفِ) وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا اتِّصَالَ قَرَارٍ فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ. . .

حَاصِلَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَهُ.

وَفِي قَوْلِهِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ ذِرَاعًا إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَنْقَسِمُ أَجْزَاءُ الدِّرْهَمِ عَلَى أَجْزَاءِ الذِّرَاعِ فَقَالَ هَذَا إذَا كَانَ تَمَامُ الذِّرَاعِ مَوْجُودًا وَالْمَوْجُودُ هُنَا بَعْضُهُ وَبَعْضُهُ لَيْسَ كُلَّهُ فَكَانَ لِلْبَعْضِ مِنْهُ حُكْمُ الْوَصْفِ لِانْعِدَامِ الْمُقَابَلَةِ

(فَصْلٌ)

لَمَّا ذَكَرَ مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ وَمَا لَا يَنْعَقِدُ ذَكَرَ مَا يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ مِمَّا لَمْ يُسَمَّ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ، وَاسْتَتْبَعَ مَا يَخْرُجُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ دَارًا إلَخْ) فِي الْمُحِيطِ: الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي الدَّارِ مِنْ الْبِنَاءِ أَوْ مُتَّصِلًا بِالْبِنَاءِ تَبَعٌ لَهَا فَيَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا كَالسَّالِمِ الْمُتَّصِلِ وَالسِّوَارِ وَالدَّرَجِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْحَجَرِ الْأَسْفَلِ مِنْ الرَّحَى، وَيَدْخُلُ الْحَجَرُ الْأَعْلَى عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَالْمُرَادُ بِحَجَرِ الرَّحَى الْمَبْنِيَّةِ فِي الدَّارِ، وَهَذَا مُتَعَارَفٌ فِي دِيَارِهِمْ، أَمَّا فِي دِيَارِ مِصْرَ لَا تَدْخُلُ رَحَا الْيَدِ؛ لِأَنَّهَا بِحَجَرَيْهَا تُنْقَلُ وَتُحَوَّلُ وَلَا تُبْنَى فَهِيَ كَالْبَابِ الْمَوْضُوعِ، وَالْبَابُ الْمَوْضُوعُ لَا يَدْخُلُ بِالِاتِّفَاقِ فِي بَيْعِ الدَّارِ. نَعَمْ لَوْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ هَذَا مِلْكِي وَضَعْته فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى دُخُولِ الْبِنَاءِ (بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ وَالْبِنَاءَ بِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا اتِّصَالَ قَرَارٍ) وَاسْتُشْكِلَ الْأَوَّلُ بِمَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَا يَدْخُلُ

ص: 280

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَ بِنَاؤُهَا يَحْنَثُ، فَلَوْ كَانَ الْبِنَاءُ مِنْ مُسَمَّى لَفْظِ الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا لَوْ أُبْطِلَ التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ لَا يَضُرُّ بِالْمَقْصُودِ مِنْ الْحُكْمِ لِثُبُوتِ الْعِلَّةِ الْأُخْرَى. ثُمَّ أُجِيبَ بِأَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ فِيهَا وَهُوَ لَغْوٌ فِي الْمُعَيَّنَةِ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْمَكَانِ.

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الَّتِي تُسَمَّى الْآنَ دَارًا فَلَا يَتَقَيَّدُ الدُّخُولُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهَا دَارًا وَقْتَ الدُّخُولِ، وَتَدْخُلُ الْبِئْرُ الْكَائِنَةُ فِي الدَّارِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا بَكَرَةٌ تَدْخُلُ، وَلَا يَدْخُلُ الدَّلْوُ وَالْحَبْلُ الْمُعَلَّقَانِ عَلَيْهَا إلَّا إنْ كَانَ قَالَ بِمَرَافِقِهَا، وَيَدْخُلُ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِي الدَّارِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الدَّارِ لَا يَدْخُلُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَابٌ فِي الدَّارِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْ الدَّارِ وَمِفْتَحُهُ فِيهَا يَدْخُلُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ أَوْ مِثْلَهَا لَا يَدْخُلُ، وَقِيلَ إنْ صَغُرَ دَخَلَ وَإِلَّا لَا. وَقِيلَ يُحَكَّمُ الثَّمَنُ. وَفِي الْمُنْتَقَى: اشْتَرَى حَائِطًا يَدْخُلُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَكَذَا فِي التُّحْفَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ. وَفِي الْمُحِيطِ جَعَلَهُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لَا يَدْخُلُ، وَأَمَّا أَسَاسُهُ قَبْلَ الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْحَائِطِ حَقِيقَةً، وَيَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْحَمَّامِ الْقُدُورُ دُونَ قِصَاعِهِ، وَأَمَّا قِدْرُ الْقَصَّارِينَ وَالصَّبَّاغِينَ وَأَجَاجِينُ الْغَسَّالِينَ وَخَوَابِي الزَّيَّاتِينَ وَحُبَّابُهُمْ وَدِنَانُهُمْ وَجِذْعُ الْقَصَّارِ الَّذِي يَدُقُّ عَلَيْهِ الْمُثَبَّتُ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَلَا يَدْخُلُ، وَإِنْ قَالَ بِحُقُوقِهَا. قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ كَمَا إذَا قَالَ بِمَرَافِقِهَا، وَأَمَّا الطَّرِيقُ وَنَحْوُهُ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْحُقُوقِ.

[فُرُوعٌ]

بَاعَ فَرَسًا دَخَلَ الْعَذَارَ تَحْتَ الْبَيْعِ وَالزِّمَامُ فِي بَيْعِ الْبَعِيرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ مَا إذَا بَاعَ فَرَسًا وَعَلَيْهِ سَرْجٌ، قِيلَ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ أَوْ يُحَكَّمُ الثَّمَنُ؛ وَلَوْ بَاعَ حِمَارًا قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: لَا يَدْخُلُ الْإِكَافُ بِلَا شَرْطٍ وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مُوكَفًا أَوْ غَيْرَ مُوكَفٍ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالْإِكَافُ فِيهِ كَالسَّرْجِ فِي الْفَرَسِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَدْخُلُ الْإِكَافُ وَالْبَرْذعَةُ تَحْتَ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوكَفٍ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَإِذَا دَخَلَا بِلَا ذِكْرٍ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ مَا قُلْنَا فِي ثَوْبِ الْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ، وَلَا يَدْخُلُ الْمِقْوَدُ فِي بَيْعِ الْحِمَارِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَادُ دُونَهُ، بِخِلَافِ الْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ وَلْيُتَأَمَّلْ فِي هَذَا.

بَاعَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً كَانَ عَلَى الْبَائِعِ مِنْ الْكِسْوَةِ قَدْرَ مَا يُوَارِي عَوْرَتَهُ، فَإِنْ بِيعَتْ فِي ثِيَابِ مِثْلِهَا دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُمْسِكَ تِلْكَ الثِّيَابَ وَيَدْفَعَ غَيْرَهَا مِنْ ثِيَابِ مِثْلِهَا يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا يَكُونُ لِلثِّيَابِ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ، حَتَّى لَوْ اُسْتُحِقَّ الثَّوْبُ أَوْ وُجِدَ بِالثَّوْبِ عَيْبًا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الثَّوْبَ؛ وَلَوْ هَلَكَ الثِّيَابُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ تَعَيَّبَتْ ثُمَّ رَدَّ الْجَارِيَةَ بِعَيْبٍ رَدَّهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الثَّوْبَ بِالْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ لَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَعَلَى هَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي مِنْ رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ وَفِيهَا نَخْلٌ لِغَيْرِهِ فَبَاعَهُمَا رَبُّ الْأَرْضِ بِإِذْنِ الْآخَرِ بِأَلْفٍ وَقِيمَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ، فَلَوْ هَلَكَ النَّخْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ التَّرْكِ وَأَخْذِ الْأَرْضِ بِكُلِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ دَخَلَ تَبَعًا فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، ثُمَّ الثَّمَنُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ لِانْتِقَاضِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ النَّخْلِ، وَالثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ، وَهُوَ لَهُ دُونَ التَّبَعِ. وَلَوْ بَاعَ أَتَانًا لَهَا جَحْشٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا عُجُولٌ اُخْتُلِفَ، قِيلَ يَدْخُلَانِ، وَقِيلَ لَا يَدْخُلَانِ، وَقِيلَ يَدْخُلُ الْعُجُولُ دُونَ الْجَحْشِ. وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا لَهُ مَالٌ إنْ لَمْ يَذْكُرْ

ص: 281

(وَمَنْ بَاعَ أَرْضًا دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ) لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا لِلْقَرَارِ فَأَشْبَهَ الْبِنَاءَ (وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ) لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا لِلْفَصْلِ فَشَابَهَ الْمَتَاعَ الَّذِي فِيهَا. .

الْمَالَ فِي الْبَيْعِ فَمَالُهُ لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ بَاعَهُ مَعَ مَالِهِ بِكَذَا وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمَالَ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَكَذَا لَوْ سَمَّى الْمَالَ، وَهُوَ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ أَوْ بَعْضُهُ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا جَازَ الْبَيْعُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَثْمَانِ، فَإِنْ كَانَ مِنْهَا وَكَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِهِ بِأَنْ كَانَ دَرَاهِمَ وَالثَّمَنُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ جَازَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلْعَبْدِ بِلَا ثَمَنٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ بِأَنْ كَانَ دَرَاهِمَ وَمَالُ الْعَبْدِ دَنَانِيرُ أَوْ بِالْقَلْبِ جَازَ إذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ؛ وَكَذَا لَوْ قَبَضَ مَالَ الْعَبْدِ، وَنَقَدَ حِصَّتَهُ فَقَطْ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي مَالِ الْعَبْدِ. اشْتَرَى دَارًا فَوَجَدَ فِي بَعْضِ جُذُوعِهَا مَالًا، وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ هُوَ لِي كَانَ لَهُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْمُشْتَرِي مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ لِي كَانَ كَاللُّقَطَةِ. وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ عُلُوٍّ وَسُفْلٍ لِآخَرَ بِعْت مِنْك عُلُوَّ هَذَا بِكَذَا فَقَبِلَ جَازَ وَيَكُونُ سَطْحُ السُّفْلِ لِصَاحِبِ السُّفْلِ وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْقَرَارِ عَلَيْهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ أَرْضًا دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا اتِّصَالَ قَرَارٍ فَأَشْبَهَ الْبِنَاءَ) وَلَمْ يُفَصِّلْ مُحَمَّدٌ بَيْنَ الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ وَلَا بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، فَكَانَ الْحَقُّ دُخُولَ الْكُلِّ، خِلَافًا لِمَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّ غَيْرَ الْمُثْمِرَةِ لَا تَدْخُلُ إلَّا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُغْرَسُ لِلْقَرَارِ بَلْ لِلْقَلْعِ إذَا كَبُرَ خَشَبُهَا فَصَارَتْ كَالزَّرْعِ وَلِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تَدْخُلُ.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَلَوْ بَاعَ أَرْضًا، وَفِيهَا أَشْجَارٌ صِغَارٌ تُحَوَّلُ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ وَتُبَاعُ، إنْ كَانَتْ تُقْلَعُ مِنْ أَصْلِهَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ تُقْطَعُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَهِيَ لِلْبَائِعِ إلَّا بِشَرْطٍ.

نَعَمْ الشَّجَرَةُ الْيَابِسَةُ لَا تَدْخُلُ؛ لِأَنَّهَا عَلَى شَرَفِ الْقَلْعِ فَهِيَ كَحَطَبٍ مَوْضُوعٍ فِيهَا، وَلَا يَدْخُلُ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَكَذَا فِي الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَيَدْخُلَانِ فِي الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْوَقْفِ وَالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ وَلَا انْتِفَاعَ بِدُونِهِمَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُعْقَدُ لَمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الِانْتِفَاعُ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَلَا يَدْخُلُ الثَّمَرُ الَّذِي عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْأَوْرَاقِ وَأَوْرَاقِ الْفِرْصَادِ وَالتُّوتِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الشَّجَرِ ثِمَارٌ فَشَرَطَهُ الْمُشْتَرِي لَهُ فَأَكَلَ الْبَائِعُ سَقَطَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فِي الصَّحِيحِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى شَاةً بِعَشْرَةٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي خَمْسَةً فَأَكَلَهُ الْبَائِعُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَلْزَمُهُ الشَّاةُ بِخَمْسَةٍ وَلَا خِيَارَ لَهُ وَالْفَرْقُ غَيْرُ خَافٍ؛ وَكَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ أَشْيَاءُ بِلَا تَسْمِيَةٍ وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَبَعًا كَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْهُ أَشْيَاءُ بِلَا تَسْمِيَةٍ، كَمَا إذَا بَاعَ قَرْيَةً يُخْرِجُ مِنْهَا الطَّرِيقَ وَالْمَسَاجِدَ وَالْفَارِقَيْنِ وَسُورَ الْقَرْيَةِ؛ لِأَنَّ السُّورَ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ. وَفِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْخُلَاصَةِ: بَاعَ قَرْيَةً وَفِيهَا مَسْجِدٌ وَاسْتَثْنَاهُ هَلْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْحُدُودِ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ، وَاسْتَثْنَى الْحِيَاضَ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ إلَّا أَنْ تَكُونَ رَبْوَةً (قَوْلُهُ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا لِلْفَصْلِ) أَيْ لِفَصْلِ الْآدَمِيِّ إيَّاهَا لِانْتِفَاعِهِ بِهَا (فَشَابَهَ الْمَتَاعَ الَّذِي فِيهِ) أَيْ فِي الْمَبِيعِ، فَانْدَفَعَ مَا أُورِدَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْعِ الْجَارِيَةِ الْحَامِلِ وَنَحْوِ الْبَقَرَةِ

ص: 282

(وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا فِيهِ ثَمَرٌ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ وَإِنْ كَانَ خِلْقَةً فَهُوَ لِلْقَطْعِ لَا لِلْبَقَاءِ فَصَارَ كَالزَّرْعِ.

الْحَامِلِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ حَمْلُهَا فِي الْبَيْعِ مَعَ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ لِلْفَصْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ فَصْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَبَادِرٌ فَتَرَكَ التَّقْيِيدَ بِهِ، وَأَيْضًا الْأُمُّ وَمَا فِي بَطْنِهَا مُجَانِسٌ مُتَّصِلٌ فَيَدْخُلُ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ لَيْسَ مُجَانِسًا لِلْأَرْضِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْجُزْئِيَّةِ لِيَدْخُلَ بِذِكْرِ الْأَصْلِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ اتِّصَالُهُ لِلْقَرَارِ كَمَا فِي الشَّجَرِ كَانَ مُتَّصِلًا لِلْحَالِ، وَفِي ثَانِي الْحَالِ فَيَدْخُلُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِشِدَّةِ الِاتِّصَالِ لَا الْجِنْسِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ اتِّصَالًا لِلْفَصْلِ فِي ثَانِي الْحَالِ كَالزَّرْعِ يُجْعَلُ مُنْفَصِلًا فَلَا يَدْخُلُ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ قَائِمٌ فِي الْحَالِ، وَالِانْفِصَالُ مَعْدُومٌ فِيهِ فَيَتَرَجَّحُ الْمَوْجُودُ عَلَى الْمَعْدُومِ. وَالْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلدُّخُولِ إمَّا شُمُولُ حَقِيقَةِ الْمُسَمَّى فِي الْبَيْعِ لَهُ أَوْ تَبَعِيَّتُهُ لَهُ. وَالتَّبَعِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرَّ الِاتِّصَالِ بِهِ لَا مُجَرَّدَ اتِّصَالِهِ الْحَالِيِّ مَعَ أَنَّهُ بِعَرْضِيَّةِ الْفَصْلِ وَانْتِفَاءِ الْمُجَانَسَةِ ظَاهِرٌ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مُوجِبُ الدُّخُولِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا فِيهِ ثَمَرٌ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ) لِنَفْسِهِ: أَيْ يَشْتَرِي الشَّجَرَةَ مَعَ الثَّمَرَةِ الَّتِي فَوْقَهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُؤَبَّرَةِ وَغَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ فِي كَوْنِهَا لِلْبَائِعِ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَيَدْخُلُ فِي الثَّمَرَةِ الْوَرْدُ وَالْيَاسَمِينُ وَالْخِلَافُ وَنَحْوُهَا مِنْ الْمَشْمُومَاتِ فَالْكُلُّ لِلْبَائِعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ يُشْتَرَطُ فِي ثَمَرِ النَّخْلِ التَّأْبِيرُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُبِّرَتْ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي. وَالتَّأْبِيرُ: وَالتَّلْقِيحُ، وَهُوَ أَنْ يُشَقَّ عَنَاقِيدُ الْكُمِّ وَيَذُرَّ فِيهَا مِنْ طَلْعِ الْفَحْلِ فَإِنَّهُ يُصْلِحُ ثَمَرَ إنَاثِ النَّخْلِ، لِمَا رَوَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ «النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ، وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ يُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَحَاصِلُهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، فَمَنْ قَالَ بِهِ يَلْزَمُهُ وَأَهْلُ الْمَذْهَبِ يَنْفُونَ حُجِّيَّتَهُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي شُفْعَةِ الْأَصْلِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُؤَبَّرِ وَغَيْرِ الْمُؤَبَّرِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَمَا قِيلَ إنَّ مَرْوِيَّهُمْ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَّاهُ، إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ لَوْ كَانَ لَقَبًا لِيَكُونَ مَفْهُومَ لَقَبٍ لَكِنَّهُ صِفَةٌ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فَهُمْ يَحْمِلُونَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَعَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ أَيْضًا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَاَلَّذِي يَلْزَمُهُمْ مِنْ الْوَجْهِ الْقِيَاسُ عَلَى الزَّرْعِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ إنَّهُ مُتَّصِلٌ لِلْقَطْعِ لَا الْبَقَاءِ فَصَارَ كَالزَّرْعِ، وَهُوَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَهُمْ يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ عَلَى الْمَفْهُومِ إذَا تَعَارَضَا، وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْإِبَارُ عَلَى الْإِثْمَارِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤَخِّرُونَهُ عَنْهُ فَكَانَ الْإِبَارُ عَلَامَةَ الْإِثْمَارِ فَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ نَخْلًا مُؤَبَّرًا: يَعْنِي مُثْمِرًا، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مِنْ أَنَّ الثَّمَرَةَ مُطْلَقًا لِلْمُشْتَرِي بَعِيدٌ إذْ يُضَادُّ الْأَحَادِيثَ الْمَشْهُورَةَ

ص: 283

(وَيُقَالُ لِلْبَائِعِ اقْطَعْهَا وَسَلِّمْ الْمَبِيعَ) وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهَا زَرْعٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ عَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ وَتَسْلِيمُهُ، كَمَا إذَا كَانَ فِيهِ مَتَاعٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُتْرَكُ حَتَّى يَظْهَرَ صَلَاحُ الثَّمَرِ وَيُسْتَحْصَدُ الزَّرْعُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ التَّسْلِيمُ الْمُعْتَادُ، وَالْمُعْتَادُ أَنْ لَا يُقْطَعَ كَذَلِكَ وَصَارَ كَمَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ. وَقُلْنَا: هُنَاكَ التَّسْلِيمُ وَاجِبٌ أَيْضًا حَتَّى يُتْرَكَ بِأَجْرٍ، وَتَسْلِيمُ الْعِوَضِ كَتَسْلِيمِ الْمُعَوَّضِ،.

وَإِذَا) كَانَتْ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ (يُقَالُ لَهُ اقْطَعْهَا وَسَلِّمْ الْمَبِيعَ)، وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهَا زَرْعٌ (يُقَالُ لَهُ اقْلَعْهُ) وَسَلِّمْ الْمَبِيعَ (لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ عَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ وَتَسْلِيمُهُ، كَمَا إذَا كَانَ فِيهِ مَتَاعٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُتْرَكُ حَتَّى يَظْهَرَ صَلَاحُ الثَّمَرِ وَيُسْتَحْصَدُ الزَّرْعُ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّسْلِيمُ الْمُعْتَادُ) وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي الدَّارِ تَسْلِيمُهَا فِي الْحَالِ إذَا بِيعَتْ لَيْلًا أَوْ كَانَ لَهُ فِيهَا مَتَاعٌ بَلْ يَنْتَظِرُ طُلُوعَ النَّهَارِ وَوُجُودَ الْحَمَّالِينَ (وَفِي الْعَادَةِ لَا يُقْطَعُ إلَّا بَعْدَمَا قُلْنَا وَصَارَ كَمَا إذَا انْقَطَعَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ) فَإِنَّهُ يُتْرَكُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ رَضِيَ الْمُؤَجِّرُ أَوْ لَمْ يَرْضَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُبَالِي بِتَضَرُّرِ الْمُشْتَرِي بِالِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ بِلَا عِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقْدَمَ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْعَادَةُ مَا ذَكَرْنَا كَانَ مُلْتَزِمًا لِلضَّرَرِ الْمَذْكُورِ، وَيُقَالُ اسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ يَسْتَحْصِدُ بِكَسْرِ الصَّادِ: جَاءَ وَقْتُ حَصَادِهِ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ (بِأَنَّ هُنَاكَ) أَيْ فِي الْإِجَارَةِ (أَيْضًا يَجِبُ التَّسْلِيمُ) وَلِذَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ فِي التَّبْقِيَةِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ تَسْلِيمُ الْمُعَوَّضِ، وَلَا بُدَّ فِي تَمَامِهِ مِنْ التَّسْلِيمِ الْمُعْتَادِ فِي الْإِجَارَةِ التَّبْقِيَةُ بِالْأُجْرَةِ وَعَدَمُ تَسْلِيمِ عَيْنِ الْأَرْضِ فِي الْحَالِ وَإِلَّا لَوْ لَمْ يَرْضَ الْمُؤَجِّرُ بِالتَّبْقِيَةِ وَأَخَذَ الْأُجْرَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ أَنْ يَقْلَعَهُ فِي الْحَالِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَظَهَرَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُعْتَادَ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ، ثُمَّ يَقُولُ هُوَ فِي الْبَيْعِ بِتَرْكِهِ إلَى مَا ذَكَرْنَا مَجَّانًا، وَفِي الْإِجَارَةِ بِتَرْكِهِ بِأَجْرٍ وَلَا مَخْلَصَ مِنْ هَذَا إلَّا أَنْ يَتِمَّ مَنْعُ أَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي الْبَيْعِ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِأَنَّ إقْدَامَ الْبَائِعِ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُبْتَاعَ يُطَالِبُهُ بِتَفْرِيغِ مِلْكِهِ وَتَسْلِيمِهِ فَارِغًا دَلَالَةُ الرِّضَا بِقَطْعِهِ فَلَمْ تَجِبْ رِعَايَةُ جَانِبِهِ بِتَبْقِيَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِقَطْعِ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ فَوَجَبَ رِعَايَةُ جَانِبِهِ بِتَبْقِيَتِهِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ بِالْأُجْرَةِ، اُتُّجِهَ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا يَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الْبَيْعِ رِضًا بِالْقَطْعِ فِي الْحَالِ لَوْ لَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ إلَى الصَّلَاحِ مُعْتَادًا، أَمَّا إذَا كَانَ مُعْتَادًا فَلَا، وَقَدْ مَنَعَتْ الْعَادَةُ

ص: 284

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحِيحِ وَيَكُونُ فِي الْحَالَيْنِ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ. .

وَأَمَّا إذَا بِيعَتْ الْأَرْضُ وَقَدْ بَذَرَ فِيهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ لَمْ يَدْخُلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا كَالْمَتَاعِ،.

الْمُسْتَمِرَّةُ بِذَلِكَ بَلْ هِيَ مُشْتَرَكَةٌ، فَقَدْ يَتْرُكُونَ وَقَدْ يَبِيعُونَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ هَلْ تَدْخُلُ أَرْضُ الشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ بِبَيْعِهَا إنْ اشْتَرَاهَا لِلْقَطْعِ؟ لَا تَدْخُلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بَيْعًا مُطْلَقًا لَا تَدْخُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ، فَلَا يَنْقَلِبُ الْأَصْلُ تَبَعًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: يَدْخُلُ مَا تَحْتَهَا بِقَدْرِ غِلَظِ سَاقِهَا. وَفِي جَمْعِ النَّوَازِلِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى: وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى الشَّجَرَ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُسْتَقِرِّ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِلَّا فَهُوَ جِذْعٌ وَحَطَبٌ فَيَدْخُلُ مِنْ الْأَرْضِ مَا يَتِمُّ بِهِ حَقِيقَةُ اسْمِهَا فَهُوَ دُخُولٌ بِالضَّرُورَةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَقِيلَ قَدْرُ سَاقِهَا، وَقِيلَ بِقَدْرِ ظِلِّهَا عِنْدَ الزَّوَالِ، وَقِيلَ بِقَدْرِ عُرُوقِهَا الْعِظَامِ، وَلَوْ شَرَطَ قَدْرًا فَعَلَى مَا شَرَطَ. وَقَوْلُهُ (وَلَا فَرْقَ) بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَا فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ الْبَعْضِ إنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ يَدْخُلُ، وَالصَّحِيحُ لَا يَدْخُلُ فِي الْحَالَتَيْنِ إنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَعَلَّلَهُ أَنَّ بَيْعَهُ يَصِحُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ لِلْقَرَارِ، وَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَيْسَ لِلْقَرَارِ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا وَلَكِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْقَرَارِ.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا إذَا بِيعَتْ الْأَرْضُ وَقَدْ بَذَرَ فِيهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يَنْبُتْ لَمْ يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا كَالْمَتَاعِ) هَكَذَا أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ، وَكَذَا أَطْلَقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَيَّدَهُ فِي الذَّخِيرَةِ بِمَا إذَا لَمْ يَعْفَنْ، أَمَّا إذَا عَفِنَ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْعَفَنَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى الِانْفِرَادِ فَصَارَ كَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَيَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ. وَاخْتَارَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِكُلِّ حَالٍ كَمَا هُوَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ. وَفِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ كَمَا فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ: وَلَوْ عَفِنَ الْبَذْرُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي وَإِلَّا فَلِلْبَائِعِ، وَلَوْ سَقَاهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى نَبَتَ وَلَمْ يَكُنْ عَفِنَ وَقْتَ الْبَيْعِ فَهُوَ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مُتَطَوِّعٌ؛ وَلَوْ بَاعَهَا بَعْدَمَا نَبَتَ وَلَمْ تَصِرْ لَهُ قِيمَةٌ فَقَدْ قِيلَ لَا يَدْخُلُ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ، وَقِيلَ يَدْخُلُ، وَلَمْ يُرَجِّحْ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا شَيْئًا وَرَجَّحَ فِي التَّجْنِيسِ قَالَ فِيهِ: قَالَ الْفَقِيهُ: لَا يَدْخُلُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَدْخُلُ، نَصَّ عَلَيْهِ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ وَفِي شَرْحِ الْإِسْبِيجَابِيِّ انْتَهَى.

وَقَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ هُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، قَالَ شَيْخُ الْإِمَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا إذَا صَارَ الزَّرْعُ مُتَقَوِّمًا: أَيْ لَا يَدْخُلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا يَدْخُلُ الزَّرْعُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا تُعْرَفُ قِيمَتُهُ بِأَنْ تُقَوَّمَ الْأَرْضُ مَبْذُورَةً وَغَيْرَ مَبْذُورَةٍ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مَبْذُورَةً أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا غَيْرَ مَبْذُورَةٍ عُلِمَ أَنَّهُ صَارَ مُتَقَوِّمًا انْتَهَى.

وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ حِكَايَةَ اتِّفَاقِ

ص: 285

وَلَوْ نَبَتَ وَلَمْ تَصِرْ لَهُ قِيمَةٌ فَقَدْ قِيلَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ، وَقَدْ قِيلَ يَدْخُلُ فِيهِ، وَكَأَنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ تَنَالَهُ الْمَشَافِرُ وَالْمَنَاجِلُ، وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْهُمَا. وَلَوْ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ وَمِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ قَالَ مِنْ مَرَافِقِهَا لَمْ يَدْخُلَا فِيهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ مِنْ مَرَافِقِهَا دَخَلَا فِيهِ. وَأَمَّا الثَّمَرُ الْمَجْذُوذُ وَالزَّرْعُ الْمَحْصُودُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ. .

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً

الْمَشَايِخِ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ مُطْلَقًا لَيْسَتْ وَاقِعَةً بَلْ قَوْلَانِ: عَدَمُ الدُّخُولِ مُطْلَقًا، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَعْفَنَ فَيَدْخُلَ أَوْ لَا فَلَا، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: تُقَوَّمُ الْأَرْضُ بِلَا ذَلِكَ الزَّرْعِ وَبِهِ، فَإِنْ زَادَ فَالزَّائِدُ قِيمَتُهُ، وَأَمَّا تَقْوِيمُهَا مَبْذُورَةً وَغَيْرَ مَبْذُورَةٍ فَإِنَّمَا الْمُنَاسِبُ مَنْ يَقُولُ إذَا عَفِنَ الْبَذْرُ يَدْخُلُ وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي، وَيُعَلِّلُهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَأَنَّ هَذَا) بِتَشْدِيدِ النُّونِ: يَعْنِي الِاخْتِلَافَ فِي دُخُولِ الزَّرْعِ الَّذِي لَيْسَتْ لَهُ قِيمَةٌ وَعَدَمُهُ (بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ تَنَالَهُ الْمَشَافِرُ وَالْمَنَاجِلُ) مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَالَ: يَدْخُلُ، وَمَنْ قَالَ يَجُوزُ قَالَ لَا يَدْخُلُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلًّا مِنْ الِاخْتِلَافَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى سُقُوطِ تَقَوُّمِهِ وَعَدَمِهِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ وَبِدُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ كِلَاهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى سُقُوطِ تَقَوُّمِهِ، وَالْأَوْجُهُ جَوَازُ بَيْعِهِ عَلَى رَجَاءِ تَرْكِهِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَحْشِ كَمَا وُلِدَ عَلَى رَجَاءِ حَيَاتِهِ فَيُنْتَفَعُ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ (قَوْلُهُ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ إلَخْ) يَعْنِي إذَا بَاعَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ وَشَجَرٌ وَعَلَيْهِ ثَمَرٌ أَوْ بَاعَ شَجَرًا فَقَطْ وَعَلَيْهِ ثَمَرٌ وَقَالَ: بِعْتهَا أَوْ اشْتَرَيْتهَا بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا لَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ فِيهَا أَوْ مِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ مِنْ مَرَافِقِهَا لَمْ يَدْخُلَا أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ فِيهَا أَوْ مِنْهَا أَوْ عَلَى قَوْلِهِ بِكُلِّ قَلِيلٍ فِيهَا أَوْ مِنْهَا دَخَلَا، هَذَا فِي الْمُتَّصِلِ بِالْأَرْضِ وَالشَّجَرِ؛ أَمَّا الثَّمَرُ الْمَجْذُوذُ وَالزَّرْعُ الْمَحْصُودُ فِيهَا فَلَا يَدْخُلُ، وَلَوْ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ وَالْمَجْدُودُ بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ وَمُعْجَمَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: أَيْ الْمَقْطُوعُ غَيْرَ أَنَّ الْمُهْمَلَتَيْنِ هُنَا أَوْلَى لِيُنَاسِبَ الْمَحْصُودَ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً

ص: 286

لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا أَوْ قَدْ بَدَا جَازَ الْبَيْعُ)؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، إمَّا لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الثَّانِي، وَقَدْ قِيلَ لَا يَجُوزُ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (وَعَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ) تَفْرِيغًا لَمِلْكِ الْبَائِعِ، وَهَذَا.

لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا) لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ، وَلَا فِي عَدَمِ جَوَازِهِ بَعْدَ الظُّهُورِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ التَّرْكِ، وَلَا فِي جَوَازِهِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِيمَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَا فِي الْجَوَازِ بَعْد بُدُوِّ الصَّلَاحِ، لَكِنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ عِنْدَنَا أَنْ تَأْمَنَ الْعَاهَةَ وَالْفَسَادَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ ظُهُورُ النُّضْجِ وَبُدُوُّ الْحَلَاوَةِ، وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي بَيْعِهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَعْنَاهُ لَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ؛ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَا يَجُوزُ؛ وَعِنْدَنَا إنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْأَكْلِ وَلَا فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ، قِيلَ لَا يَجُوزُ، وَنَسَبَهُ قَاضِي خَانْ لِعَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ. وَقَدْ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إلَى جَوَازِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ بَاعَ الثِّمَارَ فِي أَوَّلِ مَا تَطْلُعُ وَتَرَكَهَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ حَتَّى أَدْرَكَ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمْ يُوجِبْ فِيهِ الْعُشْرَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَصِحَّةُ الْبَيْعِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِنَاءً عَلَى التَّعْوِيلِ عَلَى إذْنِ الْبَائِعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ وَإِلَّا فَلَا انْتِفَاعَ بِهِ مُطْلَقًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ بِاتِّفَاقِ الْمَشَايِخِ أَنْ يَبِيعَ الْكُمَّثْرَى أَوَّلَ مَا تَخْرُجُ مَعَ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ فَيَحُوزُ فِيهَا تَبَعًا لِلْأَوْرَاقِ كَأَنَّهُ وَرَقٌ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا، وَيَجِبُ قَطْعُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ، فَإِنْ بَاعَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَنَاهَى عِظَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَنَاهَى عِظَمُهُ فَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ لِعُمُومِ الْبَلْوَى. وَفِي الْمُنْتَقَى: ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ وَجْهَ قَوْلِهِمَا فِي الصُّورَتَيْنِ

ص: 287

إذَا اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ (وَإِنْ شَرَطَ تَرْكَهَا عَلَى النَّخِيلِ فَسَدَ الْبَيْعُ)؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ هُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ وَهُوَ إعَارَةٌ أَوْ إجَارَةٌ فِي بَيْعٍ، وَكَذَا بَيْعُ الزَّرْعِ بِشَرْطِ التَّرْكِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا إذَا تَنَاهَى عِظَمُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا قُلْنَا، وَاسْتَحْسَنَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله لِلْعَادَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ الْجُزْءُ الْمَعْدُومُ وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ لِمَعْنًى فِي الْأَرْضِ أَوْ الشَّجَرِ.

وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا وَتَرَكَهَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ فِي ذَاتِهِ لِحُصُولِهِ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ، وَإِنْ تَرَكَهَا بَعْدَمَا تَنَاهَى عِظَمُهَا لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ.

أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ هُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ)؛ لِأَنَّهُ إنْ شَرَطَ بِلَا أُجْرَةٍ فَشَرْطُ إعَارَةٍ فِي الْبَيْعِ أَوْ بِأُجْرَةٍ فَشَرْطُ إجَارَةٍ فِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا بَيْعُ الزَّرْعِ بِشَرْطِ التَّرْكِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمُتَنَاهِي الِاسْتِحْسَانُ بِالتَّعَامُلِ؛ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوا التَّعَامُلَ، كَذَلِكَ فِيمَا تَنَاهَى عِظَمُهُ فَهُوَ شَرْطٌ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَهَذَا دَعْوَى الشَّافِعِيِّ فِيمَا تَنَاهَى عِظَمُهُ وَمَا لَمْ يَتَنَاهَ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَرْكُهُمْ إيَّاهُ إلَى الْجُذَاذِ. وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ بِمَنْعِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْجُزْءِ الْمَعْدُومِ، وَهُوَ الْأَجْزَاءُ الَّتِي تَزِيدُ بِمَعْنًى مِنْ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ إلَى أَنْ يَتَنَاهَى الْعِظَمُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَجْهَ لَا يَتِمُّ فِي الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ إلَّا بِادِّعَاءِ عَدَمِ الْعُرْفِ فِيمَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ، إذْ الْقِيَاسُ عَدَمُ الصِّحَّةِ لِلشَّرْطِ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فِي الْمُتَنَاهِي وَغَيْرِهِ خَرَجَ مِنْهُ الْمُتَنَاهِي لِلتَّعَامُلِ، فَكَوْنُ مَا لَمْ يَتَنَاهَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ إنَّمَا يَكُونُ لِعَدَمِ التَّعَامُلِ فِيهِ وَالْجُزْءُ الْمَعْدُومُ طُرِدَ، وَلَوْ بَاعَ مَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ ثُمَّ تَرَكَهُ، فَإِمَّا بِإِذْنِ الْبَائِعِ إذْنًا مُجَرَّدًا، أَوْ بِإِذْنٍ فِي ضِمْنِ الْإِجَارَةِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ الْأَشْجَارَ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، أَوْ بِلَا إذْنٍ فَفِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ وَالْأَكْلُ، أَمَّا فِي الْإِذْنِ الْمُجَرَّدِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْإِجَارَةِ؛ فَلِأَنَّهَا إجَارَةٌ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ فِي إجَارَةِ الْأَشْجَارِ وَالْحَاجَةِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ لَيْسَتْ بِمُتَعَيِّنَةٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَخْلَصٌ إلَّا بِالِاسْتِئْجَارِ، وَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ الثِّمَارَ مَعَ أُصُولِهَا فَيَتْرُكَهَا عَلَيْهَا. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ الْعُسْرِ فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي شِرَاءَ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهِ أَوْ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ثَمَنِهِ، وَقَدْ لَا يُوَافِقُهُ الْبَائِعُ عَلَى بَيْعِ الْأَشْجَارِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَأَصْلُ الْإِجَارَةِ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِيهَا الْبُطْلَانُ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَجَازَهَا لِلْحَاجَةِ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَلَا تَعَامُلَ فِي إجَارَةِ الْأَشْجَارِ الْمُجَرَّدَةِ فَلَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَشْجَارًا لِيُجَفِّفَ عَلَيْهَا ثِيَابَهُ لَا يَجُوزُ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ. وَإِذَا بَطَلَتْ بَقِيَ الْإِذْنُ مُعْتَبَرًا فَيَطِيبُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الزَّرْعَ وَاسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ حَيْثُ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ هُنَا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ يَجُوزُ إجَارَتُهَا، وَإِنَّمَا فَسَدَتْ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فَأَوْرَثَ خُبْثًا أَمَّا هُنَا الْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ وَالْبَاطِلُ لَا وُجُودَ لَهُ فَلَمْ يُوجَدْ إلَّا الْإِذْنُ فَطَابَ، أَمَّا الْفَاسِدُ فَلَهُ وُجُودٌ فَكَانَ الْإِذْنُ ثَابِتًا فِي ضِمْنِهِ بِاعْتِبَارِهِ فَمُنِعَ، وَهُنَا صَارَ الْإِذْنُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ عُذْرِهِ بِالْجَهْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إنْ كَانَ جَاهِلًا

ص: 288

لِأَنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ لَا تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا وَتَرَكَهَا عَلَى النَّخِيلِ وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّخِيلَ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ وَالْحَاجَةِ فَبَقِيَ الْإِذْنُ مُعْتَبَرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الزَّرْعَ وَاسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ وَتَرَكَهُ حَيْثُ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ لِلْجَهَالَةِ فَأَوْرَثَتْ خُبْثًا؛. .

بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ. وَفِي الثَّالِثَةِ لَا يَطِيبُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ، أَمَّا إذَا بَاعَ مَا تَنَاهَى عِظَمُهُ فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزْدَدْ فِي ذَاتِهَا شَيْءٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (؛ لِأَنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ لَا تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ) أَيْ تَغَيُّرٌ مِنْ وَصْفٍ إلَى آخَرَ بِوَاسِطَةِ إنْضَاجِ الشَّمْسِ عَلَيْهِ، نَعَمْ عَلَيْهِ إثْمُ غَصْبِ الْمَنْفَعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ لَا بِالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ بِإِثْبَاتِ خُبْثٍ فِيهَا. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ فِي الْخِلَافِيَّةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَعَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ. قِيلَ: وَمَا تَزْهُو؟ قَالَ: تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ» خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي الزَّكَاةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. وَكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهَا» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد

ص: 289

وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا فَأَثْمَرَتْ ثَمَرًا آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمٌ فَالْقِوَامُ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ.

وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْحَدِيثُ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اشْتَرَى نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» فَجَعَلَهُ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ دُخُولَهُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الْمُبْتَاعِ بِكَوْنِهِ بَدَا صَلَاحُهُ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ «ابْتَاعَ رَجُلٌ ثَمَرَةَ حَائِطٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَالَجَهُ وَقَامَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ النُّقْصَانُ، فَسَأَلَ رَبَّ الْحَائِطِ أَنْ يَضَعَ لَهُ أَوْ يُقِيلَهُ، فَحَلَفَ لَا يَفْعَلُ فَذَهَبْت بِالْمُشْتَرِي إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: يَأْبَى أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَبُّ الْحَائِطِ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هُوَ لَهُ» وَلَوْلَا صِحَّةُ الْبَيْعِ لَمْ تَتَرَتَّبْ الْإِقَالَةُ عَلَيْهِ. أَمَّا النَّهْيُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ قَدْ تَرَكُوا ظَاهِرَهُ، فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ صَرِيحَةٌ لِمَنْطُوقِهِ، فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ إنْ لَمْ يَكُنْ لِمُوجِبٍ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ تَعْلِيلُهُ عليه الصلاة والسلام بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا مُدْرَكَةً، قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَمُزْهِيَةً قَبْلَ الزَّهْوِ. وَقَدْ فَسَّرَ أَنَسٌ رضي الله عنه زَهْوَهَا بِأَنْ تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ، وَفَسَّرَهَا ابْنُ عُمَرَ بِأَنْ تَأْمَنَ الْعَاهَةَ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهَا مُحْمَرَّةً قَبْلَ الِاحْمِرَارِ وَمُصْفَرَّةً قَبْلَ الِاصْفِرَارِ أَوْ آمِنَةً مِنْ الْعَاهَةِ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَنَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ النَّاسَ يَبِيعُونَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ أَنْ تُقْطَعَ، فَنَهَى عَنْ هَذَا الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ نَهْيِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ وَهُوَ لَا يَكُونُ عِنَبًا قَبْلَ السَّوَادِ يُفِيدُهُ فَإِنَّهُ قَبْلَهُ حِصْرِمٌ، فَكَانَ مَعْنَاهُ عَلَى الْقَطْعِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ عِنَبًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ عِنَبًا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَنْ يَبْدُوَ الصَّلَاحُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «أَرَأَيْت لَوْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» فَالْمَعْنَى إذَا بِعْتُمُوهُ عِنَبًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ عِنَبًا بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَنْ يَصِيرَ عِنَبًا فَمَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَلَمْ يَصِرْ عِنَبًا بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ يَعْنِي الْبَائِعُ مَالَ أَخِيهِ الْمُشْتَرِي، وَالْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلنَّهْيِ، وَإِذَا صَارَ مَحَلُّ النَّهْيِ بَيْعَهَا بِشَرْطِ تَرْكِهَا إلَى أَنْ تَصْلُحَ فَقَدْ قَضَيْنَا عُهْدَةَ هَذَا النَّهْيِ، فَإِنَّا قَدْ أَفْسَدْنَا هَذَا الْبَيْعَ وَبَقِيَ بَيْعُهَا مُطْلَقًا غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لِلنَّهْيِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَلِهَذَا تَرَكَ الْمُصَنِّفُ الِاسْتِدْلَالَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ بِالْحَدِيثِ، وَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَنَا فِيهَا: أَعْنِي حَدِيثَ التَّأْبِيرِ سَالِمٌ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ مَبِيعٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الثَّانِي إلَى آخِرِهِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ ظَهَرَ أَنَّ لَيْسَ حَدِيثُ التَّأْبِيرِ عَامًّا عَارَضَهُ خَاصٌّ وَهُوَ حَدِيثُ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ هُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْخَاصِّ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ وَحَدِيثُنَا مُبِيحٌ بَلْ لَا يَتَنَاوَلُ أَحَدُهُمَا مَا يَتَنَاوَلُ الْآخَرُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا إمَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَهُوَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلنَّهْيِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا مُطْلَقًا فَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ لُزُومُ الْقَطْعِ كَانَ بِمِثْلِهِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فَلَمْ يَبْقَ مَحَلُّ النَّهْيِ إلَّا بَيْعُهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ.

(وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا فَأَثْمَرَتْ ثَمَرًا آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ) فَأَشْبَهَ هَلَاكَهُ

ص: 290

وَلَوْ أَثْمَرَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ لِلِاخْتِلَاطِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَكَذَا فِي الْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ، وَالْمَخْلَصُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْأُصُولَ لِتَحْصُلَ الزِّيَادَةُ عَلَى مِلْكِهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةً وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهَا، أَرْطَالًا مَعْلُومَةً) خِلَافًا لِمَالِكٍ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَجْهُولٌ،.

قَبْلَ التَّسْلِيمِ (وَلَوْ أَثْمَرَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ لِلِاخْتِلَاطِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِهِ) مَعَ يَمِينِهِ (لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَكَذَا فِي) بَيْعِ (الْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ) إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ خُرُوجُ بَعْضِهَا اشْتَرَكَا لِمَا ذَكَرْنَا. وَكَانَ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي بِجَوَازِهِ فِي الْكُلِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا حُكِيَ عَنْ الْإِمَامِ الْفَضْلِيِّ وَكَانَ يَقُولُ: الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَصْلٌ وَمَا يَحْدُثُ تَبَعٌ نَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَنْهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ عَنْهُ بِكَوْنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ يَكُونُ أَكْثَرَ بَلْ قَالَ عَنْهُ: اجْعَلْ الْمَوْجُودَ أَصْلًا فِي الْعَقْدِ وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَعًا وَقَالَ: اُسْتُحْسِنَ فِيهِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوا بَيْعَ ثِمَارِ الْكَرْمِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ وَفِي نَزْعِ النَّاسِ مِنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ، وَقَدْ رَأَيْت رِوَايَةً فِي نَحْوِ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَهُوَ بَيْعُ الْوَرْدِ عَلَى الْأَشْجَارِ فَإِنَّ الْوَرْدَ مُتَلَاحِقٌ، ثُمَّ جَوَّزَ الْبَيْعَ فِي الْكُلِّ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله (وَالْمَخْلَصُ) مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ الصَّعْبَةِ (أَنْ يَشْتَرِيَ) أُصُولَ الْبَاذِنْجَانِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّطَبَةِ لِيَكُونَ مَا يَحْدُثُ (عَلَى مِلْكِهِ) وَفِي الزَّرْعِ وَالْحَشِيشِ يَشْتَرِي الْمَوْجُودَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَيَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ مُدَّةً مَعْلُومَةً يَعْلَمُ غَايَةَ الْإِدْرَاكِ وَانْقِضَاءَ الْغَرَضِ فِيهَا بِبَاقِي الثَّمَنِ. وَفِي الْأَشْجَارِ يَشْتَرِي الْمَوْجُودَ وَيُحِلُّ لَهُ الْبَائِعُ مَا يُوجَدُ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَرْجِعَ يَفْعَلُ كَمَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْإِذْنِ فِي تَرْكِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ وَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّهُ مَتَى رَجَعَ عَنْ الْإِذْنِ كَانَ مَأْذُونًا فِي التَّرْكِ بِإِذْنٍ جَدِيدٍ فَيُحِلُّهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ.

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةً وَيَسْتَثْنِي مِنْهَا أَرْطَالًا مَعْلُومَةً خِلَافًا لِمَالِكٍ) أَجَازَهُ قِيَاسًا عَلَى اسْتِثْنَاءِ شَجَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ. قُلْنَا: قِيَاسٌ مَعَ

ص: 291

بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ وَاسْتَثْنَى نَخْلًا مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ. قَالَ رضي الله عنه: قَالُوا هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ؛ أَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْحِمْلِ وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ.

الْفَارِقِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهِ، وَلَا مَعْلُومُ الْكَيْلِ الْمَخْصُوصِ فَكَانَ مَجْهُولًا، بِخِلَافِ الْبَاقِي بَعْدَ إخْرَاجِ الشَّجَرَةِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ مُفْرَزٌ بِالْإِشَارَةِ (قَالُوا: هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رحمهم الله). وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّعْلِيلِ لَا يَرِدُ مَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْبَيْعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ إخْرَاجِ الْمُسْتَثْنَى فَظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْرَقٌ فَيَبْقَى الْكُلُّ مَبِيعًا؛ لِأَنَّ وُرُودَ هَذَا عَلَى التَّعْلِيلِ يَجُوزُ أَنْ لَا يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْءٌ وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ بِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، وَهُوَ يُوجِبُ الْفَسَادَ وَإِنْ ظَهَرَ ارْتِفَاعُهَا بِالْآخِرَةِ وَاتُّفِقَ أَنَّهُ بَقِيَ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَائِمَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ هِيَ الْمُفْسِدَةُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (فَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ) مِنْ الْجَارِيَةِ الْحَامِلِ أَوْ الشَّاةِ (وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ) كَمَا إذَا بَاعَ هَذِهِ الشَّاةَ إلَّا أَلْيَتَهَا وَهَذَا الْعَبْدَ إلَّا يَدَهُ فَيَصِيرُ مُشْتَرَكًا مُتَمَيِّزًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا عَلَى الشُّيُوعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَنْبَغِي؛ لِأَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

ص: 292

(وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا وَالْبَاقِلَاءِ فِي قِشْرِهِ) وَكَذَا الْأُرْزُ وَالسِّمْسِمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَاقِلَاءِ الْأَخْضَرِ، وَكَذَا الْجَوْزُ وَاللَّوْزُ وَالْفُسْتُقُ فِي قِشْرِهِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُ. وَلَهُ فِي بَيْعِ السُّنْبُلَةِ قَوْلَانِ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ. لَهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَسْتُورٌ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ تُرَابَ الصَّاغَةِ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ.

وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ إفْرَادُهُ بِإِيرَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ جَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ وَيَصِيرُ الْبَاقِي مَبِيعًا إلَّا أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ أَقْيَسُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَيْعِ صُبْرَةِ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّهُ أَفْسَدَ الْبَيْعَ بِجَهَالَةِ قَدْرِ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ لَازِمٌ فِي اسْتِثْنَاءِ أَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ مِمَّا عَلَى الْأَشْجَارِ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إلَى الْمُنَازَعَةِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ مُبْطِلَةٌ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنَّ مَا لَمْ يُفْضِ إلَيْهَا يَصِحُّ مَعَهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَدَمِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الصِّحَّةِ مِنْ كَوْنِ الْبَيْعِ عَلَى حُدُودِ الشَّرْعِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ قَدْ يَتَرَاضَيَانِ عَلَى شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَعَلَى الْبَيْعِ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ كَقُدُومِ الْحَاجِّ وَنَحْوِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مُصَحَّحًا. وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي تَوْجِيهِ الْمَنْعِ لَعَلَّ الْمَبِيعَ لَا يَبْلُغُ إلَّا تِلْكَ الْأَرْطَالَ فَبَعِيدٌ إذْ الْمُشَاهَدَةُ تُفِيدُ كَوْنَ تِلْكَ الْأَرْطَالِ لَا تَسْتَغْرِقُ الْكُلَّ، وَإِلَّا فَلَا يَرْضَى الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ بِذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا وَالْبَاقِلَاءِ فِي قِشْرِهِ، وَكَذَا الْأُرْزُ وَالسِّمْسِمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَاقِلَاءِ الْأَخْضَرِ، وَكَذَا الْجَوْزُ وَاللَّوْزُ وَالْفُسْتُقُ فِي قِشْره الْأَوَّلِ عِنْدَهُ. وَلَهُ) فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ (فِي السُّنْبُلِ قَوْلَانِ)، وَأَجَازَ بَيْعَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ فِي سُنْبُلِهَا (وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَلَهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ) وَهُوَ الْمَبِيعُ (مَسْتُورٌ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ عَلَيْهِ) فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَتُرَابِ الصَّاغَةِ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ بِجَامِعِ اسْتِتَارِهِ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَالْمِعْوَلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ.

ص: 293

وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُزْهِيَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ» ؛ وَلِأَنَّهُ حَبٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ فِي سُنْبُلِهِ كَالشَّعِيرِ وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا، بِخِلَافِ تُرَابِ الصَّاغَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَازَ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ بَاعَهُ بِجِنْسِهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِشُبْهَةِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي قَدْرَ مَا فِي السَّنَابِلِ.

نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَفِي هَذَا غَرَرٌ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي قَدْرَ الْحِنْطَةِ الْكَائِنَةِ فِي السَّنَابِلِ، وَالْمَبِيعُ مَا أُرِيدَ بِهِ إلَّا الْحَبُّ لَا السَّنَابِلُ فَرَجَعَ إلَى جَهَالَةِ قَدْرِ الْمَبِيعِ، وَأَلْزَمَ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ اللَّوْزِ وَنَحْوِهِ فِي قِشْرِهِ الثَّانِي لَكِنَّهُ تَرَكَهُ لِلتَّعَامُلِ الْمُتَوَارَثِ (وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ») رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.

وَيُقَالُ زَهَا النَّخْلُ وَالثَّمَرُ يَزْهُو وَأَزْهَى يُزْهِي لُغَةً، فَفِي الِاشْتِقَاقِ مِنْ الزَّهْوِ لُغَتَانِ. وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ الرُّبَاعِيَّةَ يُزْهِي كَمَا نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُ عَنْ الْغَيْرِ إنْكَارَ يَزْهُو الثُّلَاثِيَّةِ. لَا يُقَالُ: أَنْتُمْ لَمْ تَعْمَلُوا بِصَدْرِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّا عَامِلُونَ وَأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى انْحِطَاطِ النَّهْيِ عَلَى بَيْعِهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى الزَّهْوِ وَقَدْ مَنَعْنَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مَعْلُومٌ (فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَالشَّعِيرِ فِي سُنْبُلِهِ) بِخِلَافِ بَيْعِهِ بِمِثْلِهِ فِي سُنْبُلِ الْحِنْطَةِ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، أَمَّا أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ؛ فَلِأَنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ وَبِالْإِشَارَةِ كِفَايَةٌ فِي التَّعْرِيفِ، إذْ الْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَةِ عَيْنِهَا لَا يُخِلُّ بِدَرْكِ قَدْرِهِ فِي الْجَهَالَةِ، وَلَيْسَ مَعْرِفَتُهُ عَلَى التَّحْرِيرِ شَرْطًا وَإِلَّا امْتَنَعَ بَيْعُ الصُّبْرَةِ الْمُشَاهَدَةِ. وَأَوْرَدَ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا بَاعَ حَبَّ قُطْنٍ فِي قُطْنٍ بِعَيْنِهِ أَوْ نَوَى تَمْرٍ فِي تَمْرٍ بِعَيْنِهِ أَيْ بَاعَ مَا فِي هَذَا الْقُطْنِ مِنْ الْحَبِّ وَمَا فِي هَذَا التَّمْرِ مِنْ النَّوَى فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا فِي غِلَافِهِ. أَشَارَ أَبُو يُوسُفَ إلَى الْفَرْقِ بِأَنَّ النَّوَى هُنَاكَ مُعْتَبَرٌ عَدَمًا هَالِكًا فِي الْعُرْفِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ هَذَا تَمْرٌ وَقُطْنٌ وَلَا يُقَالُ هَذَا نَوًى فِي تَمْرِهِ وَلَا حَبٌّ فِي قُطْنِهِ وَيُقَالُ هَذِهِ حِنْطَةٌ فِي سُنْبُلِهَا وَهَذَا لَوْزٌ وَفُسْتُقٌ وَلَا يُقَالُ هَذِهِ قُشُورٌ فِيهَا لَوْزٌ وَلَا يَذْهَبُ إلَيْهِ وَهُمْ (بِخِلَافِ تُرَابِ الصَّاغَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا) حَتَّى لَوْ بَاعَ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَازَ، وَبِمَا ذَكَرْنَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ امْتِنَاعِ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ فِي الشَّاةِ وَالْأَلْيَةِ وَالْأَكَارِعِ وَالْجِلْدِ فِيهَا وَالدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ وَالْعَصِيرِ فِي الْعِنَبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فِي الْعُرْفِ. لَا يُقَالُ: هَذَا عَصِيرٌ وَزَيْتٌ فِي مَحَلِّهِ،

ص: 294

(وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَفَاتِيحُ إغْلَاقِهَا)؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِغْلَاقُ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِيهَا لِلْبَقَاءِ وَالْمِفْتَاحُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْغَلْقِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَعْضٍ مِنْهُ إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِهِ. .

قَالَ (وَأُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَنَاقِدِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ) أَمَّا الْكَيْلُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِلتَّسْلِيمِ وَهُوَ عَلَى الْبَائِعِ وَمَعْنَى هَذَا إذَا بِيعَ مُكَايَلَةً، وَكَذَا أُجْرَةُ الْوَزَّانِ وَالزَّرَّاعِ وَالْعَدَّادِ، وَأَمَّا النَّقْدُ فَالْمَذْكُورُ رِوَايَةُ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ يَكُونُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْوَزْنِ وَالْبَائِعُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ لِيُمَيِّزَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ لِيَعْرِفَ الْمَعِيبَ لِيَرُدَّهُ.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ الْمُقَدَّرِ، وَالْجُودَةُ تُعْرَفُ بِالنَّقْدِ كَمَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ بِالْوَزْنِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ. قَالَ (وَأُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَبِالْوَزْنِ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ.

وَكَذَا الْبَاقِي. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ الِاسْتِخْرَاجِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَفَاتِيحُ إغْلَاقِهَا) الْمُرَادُ بِالْغَلْقِ مَا نُسَمِّيهِ ضَبَّةً، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً؛ لِأَنَّهَا تُرَكَّبُ لِلْبَقَاءِ إلَّا إذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً فِي الدَّارِ وَلِهَذَا لَا تَدْخُلُ الْأَقْفَالُ فِي بَيْعِ الْحَوَانِيتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُرَكَّبُ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْأَلْوَاحَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً؛ لِأَنَّهَا فِي الْعُرْفِ كَالْأَبْوَابِ الْمُرَكَّبَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَلْوَاحِ مَا تُسَمَّى فِي عُرْفِنَا بِمِصْرَ دَرَارِيبِ الدُّكَّانِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهَا عَدَمَ الدُّخُولِ وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ (وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِهِ) أُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّ شِرَاءَ الدَّارِ مَقْصُورٌ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِذَاتِهَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ لِغَرَضِ مُجَرَّدِ الْمِلْكِ لِيَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ بِوَاسِطَتِهَا أَوْ يَتَّجِرَ بِهَا، وَلِذَا لَمَّا كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَقْصُورًا عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ أَدْخَلْنَا الطَّرِيقَ. [فَرْعٌ]

يُنَاسِبُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ الْبَيْعُ بِلَا تَنْصِيصٍ مِنْ الْمَالِكِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنًى آخَرَ اشْتَرَى مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى غَابَ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ آخَرَ وَيَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ رَضِيَ بِهَذَا فَفَسَخَ دَلَالَةً فَيَحِلُّ لِلْبَائِعِ بَيْعُهُ وَحَلَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَإِنَّمَا كَتَبْتهَا؛ لِأَنَّهَا كَثِيرًا مَا تَقَعُ فِي الْأَسْوَاقِ.

(قَوْلُهُ وَأُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَوَزَّانِ الْمَبِيعِ وَذُرَّاعِهِ وَعَادِّهِ) وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَوْ الذَّرَعِ أَوْ الْعَدِّ (عَلَى الْبَائِعِ)؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ إيفَاءَ الْمَبِيعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِكَيْلِهِ وَوَزْنِهِ وَنَحْوِهِ؛ وَلِأَنَّ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ يُمَيِّزُ مِلْكَهُ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى هَذِهِ إذَا بَاعَ مُكَايَلَةً

ص: 295

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ الثَّمَنَ أَوَّلًا)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ فَيُقَدَّمُ دَفْعُ الثَّمَنِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ بِالْقَبْضِ لِمَا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ.

أَوْ مُوَازَنَةً أَوْ نَحْوَهُ إذْ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الْمُجَازَفَةِ، وَأُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَتَمْيِيزِهِ عَنْهُ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا أُجْرَةُ نَاقِدِ الثَّمَنِ فَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ وَالْمَشَايِخُ، فَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّقْدَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى تَمْيِيزِ حَقِّهِ، وَهُوَ الْجِيَادُ عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ وَتَعَرُّفُهُ بِالنَّقْدِ كَمَا يُعْرَفُ الْمِقْدَارُ بِالْوَزْنِ فَكَانَ هُوَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أُجْرَةُ النَّقْدِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَمَا فِي الثَّمَنِ أَنَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا قَبَضَ الدَّيْنَ ثُمَّ ادَّعَى عَدَمَ النَّقْدِ فَالْأُجْرَةُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَا قَالَ الْقُدُورِيُّ إنَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ ثُمَّ جَاءَ يَرُدُّهُ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ، قَالَ: وَاخْتَارَهُ فِي الْوَاقِعَاتِ أَنَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَفِي الْبَابِ الْعَيْنِ لَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً مُكَايَلَةً فَالْكَيْلُ عَلَى الْبَائِعِ وَصَبُّهَا فِي وِعَاءِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَيْضًا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَفِي الْمُنْتَقَى: إخْرَاجُ الطَّعَامِ مِنْ السُّفُنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً فِي سُنْبُلِهَا فَعَلَى الْبَائِعِ تَخْلِيصُهَا بِالدَّرْسِ وَالتَّذْرِيَةِ وَدَفْعُهَا إلَى الْمُشْتَرِي وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَقَطْعُ الْعِنَبِ الْمُشْتَرَى جُزَافًا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ بَاعَهُ جُزَافًا كَالثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْجَزَرِ إذَا خَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا قَطْعُ الثَّمَرِ: يَعْنِي إذَا خَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، الْكُلُّ مِنْ الْخُلَاصَةِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ الثَّمَنَ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ فَيُقَدَّمُ دَفْعُ الثَّمَنِ لِتَعَيُّنِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْقَبْضِ)؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَوْ عَيَّنَ دَرَاهِمَ اشْتَرَى بِهَا (لَمَا) عُرِفَ (أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ) فِي الْبَيْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ قَبْضِهَا لِيَتَسَاوَيَا، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا لَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي دَفْعُ الثَّمَنِ وَلِلْبَائِعِ حَبْسُ جَمِيعِ الْمَبِيعِ وَلَوْ بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ حَبْسِ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ وَلَوْ أَخَذَ بِالثَّمَنِ كَفِيلًا أَوْ رَهَنَ الْمُشْتَرِي بِهِ رَهْنًا، أَمَّا لَوْ أَحَالَ الْبَائِعُ بِهِ عَلَيْهِ وَقَبْلَ سَقْطِ حَقِّ الْحَبْسِ، وَكَذَا إذَا أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ إذَا أَحَالَ الْبَائِعُ بِهِ رَجُلًا سَقَطَ، وَإِذَا أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِهِ لَا يَسْقُطُ، وَمَا لَمْ يُسَلَّمْ الْمَبِيعُ هُوَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ فِي جَمِيعِ زَمَانِ حَبْسِهِ، فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ أَوْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ بَطَلَ الْبَيْعُ، فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ أَعَادَهُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ إنْ كَانَ الْبَيْعُ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لَزِمَهُ

ص: 296

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ قِيلَ لَهُمَا سَلِّمَا مَعًا) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعَيُّنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا فِي الدَّفْعِ.

ضَمَانُ مِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَيَضْمَنُ لَهُ الْجَانِي فِي الْمِثْلِيِّ وَإِلَّا فَالْقِيمَةُ؛ فَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ وَفِيهِ فَضْلٌ لَا يَطِيبُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِهِ طَابَ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَأَتْبَعَ الْجَانِيَ فِي الضَّمَانِ فَإِنَّ لَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ فِي الضَّمَانِ فَضْلٌ فَعَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ قِيلَ لَهُمَا سَلِّمَا مَعًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي تَعَيُّنِ حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا) قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِيجَابُ تَقْدِيمِ دَفْعِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ عَلَى الْآخَرِ تَحَكُّمٌ فَيَدْفَعَانِ مَعًا وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمُ الْمُوجِبُ لِلْبَرَاءَةِ. فِي التَّجْرِيدِ: تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَبِيعِ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، وَكَذَا تَسْلِيمُ الثَّمَنِ. وَفِي الْأَجْنَاسِ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ التَّسْلِيمِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَنْ يَقُولَ خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَ الْمَبِيعِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي عَلَى صِفَةٍ يَتَأَتَّى فِيهِ الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُفْرِزًا غَيْرَ مَشْغُولٍ بِحَقِّ غَيْرِهِ. وَعَنْ الْوَبَرِيِّ: الْمَتَاعُ لِغَيْرِ الْبَائِعِ لَا يَمْنَعُ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ الْمَتَاعِ وَالْبَيْتِ صَحَّ وَصَارَ الْمَتَاعُ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: الْقَبْضُ أَنْ يَقُولَ: خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَ الْمَبِيعِ فَاقْبِضْهُ، وَيَقُولَ الْمُشْتَرِي وَهُوَ عِنْدَ الْبَائِعِ قَبَضْته، فَإِنْ أَخَذَهُ بِرَأْسِهِ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ فَقَادَهُ فَهُوَ قَبْضٌ دَابَّةً كَانَ أَوْ بَعِيرًا، وَإِنْ كَانَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي تَعَالَ مَعِي أَوْ امْشِ فَخَطَا مَعَهُ فَهُوَ قَبْضٌ. وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ. وَفِي الثَّوْبِ إنْ أَخَذَهُ بِيَدِهِ أَوْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَهُوَ مَوْضُوعٌ عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ: خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهُ فَاقْبِضْهُ فَقَالَ قَبَضْته فَهُوَ قَبْضٌ، وَكَذَا الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِالتَّخْلِيَةِ وَلَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً فِي بَيْتٍ وَدَفَعَ الْبَائِعُ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ وَقَالَ خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهَا فَهُوَ قَبْضٌ، وَإِنْ دَفَعَهُ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا لَا يَكُونُ قَبْضًا، وَلَوْ بَاعَ دَارًا غَائِبَةً فَقَالَ سَلَّمْتهَا إلَيْك وَقَالَ قَبَضْتهَا لَمْ يَكُنْ قَبْضًا، وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً كَانَ قَبْضًا، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ بِحَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إغْلَاقِهَا، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إغْلَاقِهَا فَهِيَ بَعِيدَةٌ، وَأَطْلَقَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ بِالتَّخْلِيَةِ يَقَعُ الْقَبْضُ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ يَبْعُدُ عَنْهُمَا.

وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ إذَا بَاعَ ضَيْعَةً وَخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ يَقْرُبُ مِنْهَا يَصِيرُ قَابِضًا أَوْ يَبْعُدُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا. قَالَ وَالنَّاسُ عَنْهُ غَافِلُونَ، فَإِنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّيْعَةَ بِالسَّوَادِ وَيُقِرُّونَ بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ بِهِ الْقَبْضُ وَفِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ: يَصِحُّ الْقَبْضُ وَإِنْ كَانَ الْعَقَارُ غَائِبًا عَنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا. وَفِي جَمْعِ النَّوَازِلِ: دَفْعُ الْمِفْتَاحِ فِي بَيْعِ الدَّارِ تَسْلِيمٌ إذَا تَهَيَّأَ لَهُ فَتْحُهُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى بَقَرًا فِي السَّرْحِ فَقَالَ: الْبَائِعُ اذْهَبْ وَاقْبِضْ إنْ كَانَ يَرَى بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ يَكُونُ قَبْضًا. وَلَوْ بَاعَ خَلًّا وَنَحْوَهُ فِي دَنٍّ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي فِي دَارِ نَفْسِهِ وَخَتَمَ الْمُشْتَرِي عَلَى الدَّنِّ فَهُوَ قَبْضٌ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَأَمَرَهُ الْبَائِعُ بِقَبْضِهِ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَخَذَهُ إنْسَانٌ، وَإِنْ كَانَ حِينَ أَمَرَهُ بِقَبْضِهِ أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ صَحَّ التَّسْلِيمُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِقِيَامٍ لَا يَصِحُّ. وَلَوْ اشْتَرَى طَيْرًا فِي بَيْتٍ وَالْبَابُ مُغْلَقٌ فَأَمَرَهُ الْبَائِعُ بِالْقَبْضِ

ص: 297

(بَابُ خِيَارِ الشَّرْطِ)

قَالَ: (خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزٌ فِي الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي

فَلَمْ يَقْبِضْ حَتَّى هَبَّتْ رِيحٌ فَفَتَحَتْ الْبَابَ فَطَارَ لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ، وَإِنْ فَتَحَهُ الْمُشْتَرِي فَطَارَ صَحَّ التَّسْلِيمُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ بِأَنْ يُحْتَاطَ فِي الْفَتْحِ. وَلَوْ اشْتَرَى فَرَسًا فِي حَظِيرَةٍ فَقَالَ الْبَائِعُ سَلَّمْتهَا إلَيْك فَفَتَحَ الْمُشْتَرِي الْبَابَ فَذَهَبَ الْفَرَسُ إنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ عَوْنٍ كَانَ قَبْضًا، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الطَّيْرِ، وَفِي مَكَان آخَرَ مِنْ غَيْرِ عَوْنٍ وَلَا حَبْلٍ وَلَوْ اشْتَرَى دَابَّةً وَالْبَائِعُ رَاكِبُهَا فَقَالَ الْمُشْتَرِي: احْمِلْنِي مَعَك فَحَمَلَهُ فَعَطِبَتْ هَلَكَتْ عَلَى الْمُشْتَرِي. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّابَّةِ سَرْجٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا سَرْجٌ وَرَكِبَ الْمُشْتَرِي فِي السَّرْجِ يَكُونُ قَابِضًا وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ كَانَا رَاكِبَيْنِ فَبَاعَ الْمَالِكُ مِنْهُمَا الْآخَرَ لَا يَصِيرُ قَابِضًا كَمَا إذَا بَاعَ الدَّارَ وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِيهَا مَعًا.

(بَابُ خِيَارِ الشَّرْطِ)

قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْبَيْعَ عِلَّةٌ لِحِكْمَةِ لُزُومِ تَعَاكُسِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ حُكْمُ الْعِلَّةِ عَنْهَا فَقَدَّمَ مَا هُوَ الْأَصْلُ. ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي تَخَلَّفَ عَنْهَا مُقْتَضَاهَا، وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَظَهَرَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ مَانِعٌ ثَابِتٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَيُقَالُ لِلْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا، وَلِلْمُسْتَلْزِمِ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ اصْطِلَاحِهِمْ فِي الْأُصُولِ. وَالْمَوَانِعُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: مَانِعٌ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ وَهُوَ حُرِّيَّةُ الْمَبِيعِ فَلَا يَنْعَقِدُ الْمَبِيعُ فِي الْحُرِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا فِي مَحَلِّهَا، وَمَحَلُّ الْبَيْعِ الْمَالُ وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا وُجُودَ لِلْبَيْعِ أَصْلًا فِيهِ كَانْقِطَاعِ الْوَتَرِ يَمْنَعُ أَصْلَ الرَّمْيِ بَعْدَ الْقَصْدِ إلَيْهِ. وَمَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُضَافُ إلَى مَالِ الْغَيْرِ كَإِصَابَةِ السَّهْمِ بَعْدَ الرَّمْيِ حَائِطًا فَرَدَّهُ عَنْ سَنَنِهِ. وَمَانِعٌ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ وَهُوَ خُرُوجُ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى مِثَالِ اسْتِتَارِ الْمُرْمَى إلَيْهِ بِتِرْسٍ يَمْنَعُ مِنْ إصَابَةِ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَمَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِلْمُشْتَرِي. وَمَانِعٌ يَمْنَعُ لُزُومَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَإِضَافَةُ الْخِيَارِ إلَى الشَّرْطِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ، وَهِيَ إضَافَةُ الْخِيَارِ إلَى سَبَبِهِ إذْ سَبَبُهُ الشَّرْطُ، وَحِينَ وَرَدَ شَرْعِيَّتُهُ جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا فِي الْحُكْمِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِهِ تَقْلِيلًا لِعَمَلِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ إثْبَاتُ الْحَظْرِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَبِذَلِكَ يُشْبِهُ الْقِمَارَ فَقَلَّلْنَا شَبَهَهُ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقِمَارُ مَا حَرُمَ لِمَعْنَى الْحَظْرِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ تَعْلِيقِ الْمِلْكِ بِمَا لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَضَعْ ظُهُورَ الْعَدَدِ الْفُلَانِيِّ فِي وَرَقَةٍ مَثَلًا سَبَبًا لِلْمِلْكِ، وَالْحَظْرُ طَرْدٌ فِي ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ. نَعَمْ يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ اعْتَبَرْنَاهُ فِي الْحُكْمِ تَقْلِيلًا، بِخِلَافِ الْأَصْلِ وَأَمَّا كَوْنُهُ فِيهِ غَرَرٌ وَقَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَذَلِكَ الْغَرَرُ فِي الْمَبِيعِ، وَهَذَا فِي أَنَّ الْمِلْكَ هَلْ يَثْبُتُ أَوْ لَا (قَوْلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزٌ فِي الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي

ص: 298

وَلَهُمَا الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا)

وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِي الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» .

وَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) يُرْوَى بِنَصْبِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى الظَّرْفِ: أَيْ فِي ثَلَاثَةٍ وَبِرَفْعِهَا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. ثُمَّ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إذَا شُرِطَ الْخِيَارُ لَهُمَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ أَصْلًا وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالصَّحِيحِ (قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ) الْحَدِيثَ. رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ حِبَّانُ بْنُ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو رَجُلًا ضَعِيفًا، وَكَانَ قَدْ أَصَابَتْهُ فِي رَأْسِهِ مَأْمُومَةٌ فَجَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخِيَارَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِيمَا اشْتَرَاهُ، وَكَانَ قَدْ ثَقُلَ لِسَانُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِعْ وَقُلْ لَا خِلَابَةَ» وَكَانَ يَشْتَرِي الشَّيْءَ فَيَجِيءُ بِهِ إلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُونَ لَهُ هَذَا غَالٍ فَيَقُولُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَيَّرَنِي فِي بَيْعِي وَسَكَتَ عَلَيْهِ. وَحَبَّانُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمُنْقِذٌ بِالْمُعْجَمَةِ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَالْأَصْلُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ أَنَّهُ فَاسِدٌ، وَلَكِنْ لَمَّا شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُصَرَّاةِ خِيَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْبَيْعِ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ جَعَلَ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ خِيَارَ ثَلَاثَةٍ فِيمَا ابْتَاعَ انْتَهَيْنَا إلَى مَا قَالَ صلى الله عليه وسلم. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «سَمِعْت رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يَشْكُو إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يُزَالُ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَالَ لَهُ: إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ» قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ: كَانَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أُصِيبَ فِي رَأْسِهِ وَكَانَ يُغْبَنُ فِي الْبَيْعِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ: كَانَ جَدِّي مُنْقِذَ بْنَ عَمْرٍو

ص: 299

(وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَا (يَجُوزُ إذَا سَمَّى مُدَّةً مَعْلُومَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَجَازَ الْخِيَارَ إلَى شَهْرَيْنِ)؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّرَوِّي لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْأَكْثَرِ فَصَارَ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ.

وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ آمَةٌ فِي رَأْسِهِ فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ، وَكَانَ لَا يَدَعُ عَلَى ذَلِكَ التِّجَارَةَ وَكَانَ لَا يُزَالُ يُغْبَنُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. الْحَدِيثَ. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَقُولَ لَهُ مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو، لَا حِبَّانُ ابْنُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَغَلَطُ مَنْ عَزَاهُ لِأَبِي دَاوُد، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْأَوْسَطِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ: كَانَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو فَذَكَرَهُ قَالَ: وَعَاشَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً

وَالْحَدِيثُ وَإِنْ دَار عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ فَالْأَكْثَرُ عَلَى تَوْثِيقِهِ، وَرَجَعَ مَالِكٌ عَمَّا قَالَ فِيهِ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ الْأَنِفِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ:«قَالَ عليه الصلاة والسلام لِمُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو قُلْ لَا خِلَابَةَ، وَإِذَا بِعْت بَيْعًا فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ» وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْوَاقِعَةِ لِحِبَّانَ أَرْجَحَ؛ لِأَنَّ هَذَا مُنْقَطِعٌ وَذَلِكَ مَوْصُولٌ، هَذَا وَشَرْطُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ: إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» وَالْخِلَابَةُ الْخَدِيعَةُ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَقْصُودِ؛ وَالْعَجَبُ مِمَّنْ قَالَ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ شَرْطِ الْخِيَارِ ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَهُوَ لَا يَمَسُّ الْمَطْلُوبَ. [فَرْعٌ]

يَجُوزُ إلْحَاقُ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالْبَيْعِ، لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَوْ بِأَيَّامٍ جَعَلْتُك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَوْ شُرِطَ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبَيْعِ الْبَاتِّ شَهْرًا وَرَضِيَا بِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ أَلْحَقَا بِهِ شَرْطًا فَاسِدًا بَطَلَ الشَّرْطُ، وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي قَوْلِهِمَا وَيَفْسُدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَغِلَّهُ وَيَسْتَخْدِمَهُ جَازَ وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ. وَلَوْ قَالَ فِي بَيْعِ بُسْتَانٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرَتِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُسْقِطَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ. وَلَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ بِالْخِيَارِ كَانَ لَهُ خِيَارُ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَطْ، وَلَوْ قَالَ إلَى الظُّهْرِ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَمِرُّ لَهُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ (قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ) وَكَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذَا أَطْلَقَ (وَقَالَا: يَجُوزُ إذَا سَمَّى مُدَّةً مَعْلُومَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَجَازَ الْبَيْعَ إلَى شَهْرَيْنِ) وَهَذَا دَلِيلُ جُزْءِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ جَوَّزَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يُفِيدُ جَوَازَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثَةِ بِمُدَّةٍ خَاصَّةٍ لَا غَيْرُ (لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّرَوِّي لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْأَكْثَرِ فَصَارَ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ) شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّأْخِيرِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، ثُمَّ جَازَ أَيُّ مِقْدَارٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ أَحْمَدُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُونَ

ص: 300

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ النَّصِّ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَانْتَفَتْ الزِّيَادَةُ.

عِنْدَ شُرُوطِهِمْ». وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ كَالْفَاكِهَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ الْخِيَارُ فِي أَكْثَرِ مِنْ يَوْمٍ، وَإِنْ كَانَ ضَيْعَةً لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَتَعَيَّنْ اشْتِرَاطُ الْأَكْثَرِ طَرِيقًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لِإِمْكَانِ أَنْ يَذْهَبَ فَيَرَاهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ لَا حَاجَةَ إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ثَابِتٌ لَهُ وَلَوْ تَأَخَّرَتْ رُؤْيَتُهُ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ لِلتَّرَوِّي فِي أَمْرِهَا هَلْ تُسَاوِي الثَّمَنَ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا أَوْ هِيَ مُنْتَفَعٌ بِهَا عَلَى الْكَمَالِ أَوْ لَا وَإِنْ لَمْ يَرَهَا؟ فَهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالسُّؤَالِ وَالْمُرَاجَعَةِ لِلنَّاسِ الْعَارِفِينَ وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي مُدَّةِ الثَّلَاثِ. وَأَمَّا مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ بِفَسَادٍ فَحُكْمُهُ مَسْطُورٌ. فِي فَتَاوَى الْقَاضِي: اشْتَرَى شَيْئًا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْقِيَاسِ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى شَيْءٍ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَفْسَخَ الْبَيْعَ وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذَ الْمَبِيعَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْك مِنْ الثَّمَنِ حَتَّى تُجِيزَ الْبَيْعَ أَوْ يَفْسُدَ الْمَبِيعُ عِنْدَك دَفْعًا لِلضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ادَّعَى فِي يَدِ رَجُلٍ بِشِرَاءِ شَيْءٍ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالسَّمَكَةِ الطَّرِيَّةِ وَجَحَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَيُخَافُ فَسَادُهَا فِي مُدَّةِ التَّزْكِيَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ وَيَأْخُذَ السَّمَكَةَ ثُمَّ الْقَاضِي يَبِيعُهَا مِنْ آخَرَ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهَا وَيَضَعُ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي عَلَى يَدِ عَدْلٍ، فَإِنْ عُدِّلَتْ الْبَيِّنَةُ يُقْضَى لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الثَّانِي وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ لِلْبَائِعِ؛ وَلَوْ ضَاعَ الثَّمَنَانِ عِنْدَ الْعَدْلِ يَضِيعُ الثَّمَنُ الثَّانِي مِنْ مَالِ مُدَّعِي الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْقَاضِي كَبَيْعِهِ، وَلَوْ لَمْ تَعْدِلْ الْبَيِّنَةُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّمَكَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَثْبُتْ وَبَقِيَ آخِذًا مَالَ الْغَيْرِ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ) ثَبَتَ نَصًّا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلتَّرَوِّي فِيمَا يَدْفَعُ الْغَبْنَ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّظَرَ لِاسْتِكْشَافِ كَوْنِهِ فِي هَذَا الْمَبِيعِ مَغْبُونًا أَوْ غَيْرَ مَغْبُونٍ مِمَّا يَتِمُّ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَلْ فِي أَقَلَّ مِنْهَا؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِهِ مَغْبُونًا فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ أَوْ لَا لَيْسَ مِنْ الْعُلُومِ الْبَالِغَةِ فِي الْخَفَاءِ وَالْإِشْكَالِ لِيَحْتَاجَ فِي حُصُولِهِ إلَى مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَيْهَا، فَكَانَ الزَّائِدُ عَلَى الثَّلَاثِ لَيْسَ فِي مَحِلِّ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِحُصُولِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِالثَّلَاثِ دَلَالَةً كَمَا لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ فُرِضَ مِنْ الْغَبَاوَةِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَفِيدُ كَوْنَهُ مَغْبُونًا لَمْ يُعْذَرْ، وَلَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ زَائِلُ الْعَقْلِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ فِي قَوْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ إنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ضَرَبَ الثَّلَاثَ لِمَنْ كَانَتْ غَايَةً فِي ضَعْفِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَمْرِ حِبَّانَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا ضَعِيفًا وَكَانَ بِدِمَاغِهِ مَأْمُومَةٌ أَفْسَدَتْ، أَوْ أَنَّهُ مُنْقِذٌ وَكَانَ قَدْ أَصَابَتْهُ آمَةٌ فِي رَأْسِهِ فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ وَنَازَعَتْ عَقْلَهُ وَبَلَغَ مِنْ السِّنِّ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً كَمَا فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ الْأَوْسَطِ، فَأَيُّ حَالَةٍ تَزِيدُ عَلَى هَذِهِ مِنْ الضَّعْفِ إلَّا عَدَمُ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِوَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ الزَّائِدِ مَعَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي السَّمْعِ مَا يَنْفِيهِ صَرِيحًا، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْحُجَّةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ بَعْدَ تَمَامِ الْحُجَّةِ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ بَعِيرًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْخِيَارَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْعَ وَقَالَ: الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» إلَّا أَنَّهُ أُعِلَّ بِأَبَانَ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَذَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

ص: 301

(إلَّا أَنَّهُ إذَا أَجَازَ فِي الثَّلَاثِ) جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِزُفَرِ، هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا. وَلَهُ أَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَيَعُودُ جَائِزًا كَمَا إذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ وَأَعْلَمَهُ فِي الْمَجْلِسِ.

قَالَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» وَفِيهِ أَحْمَدُ بْنُ مَيْسَرَةَ مَتْرُوكٌ. وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْآثَارِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْأَجَلِ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَلَا يَضُرُّنَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمَّا شَرَعَ الْأَجَلَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ شَرَعَهُ مُطْلَقًا فَعَمِلْنَا بِإِطْلَاقِهِ، وَهُنَا لَمَّا شَرَعَ الْخِيَارَ شَرَعَهُ مُقَيَّدًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بِثَلَاثِ لَيَالٍ فَعَمِلْنَا بِتَقْيِيدِهِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ الْأَجَلَ أَيْضًا مُقَيَّدًا بِمُدَّةٍ كُنَّا نَقُولُ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا أَيْضًا، وَلِوُجُوبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ نُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخِيَارِ مَا وَرَدَ إلَّا لِلْمُشْتَرِي. قُلْنَا: مَمْنُوعٌ بَلْ لِلْأَعَمِّ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ " إذَا بَايَعْت " وَهُوَ يَصْدُقُ بِكَوْنِهِ بَائِعًا وَمُشْتَرِيًا (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا: أَيْ لَا يَجُوزُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَّا فِي وَقْتِ إجَازَتِهِ دَاخِلَ الثَّلَاثَةِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه خِلَافًا لِزُفَرَ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ (هُوَ) أَيْ زُفَرُ (يَقُولُ إنَّهُ) أَيْ الْعَقْدُ (انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا) كَمَا إذَا بَاعَ الدِّرْهَمَ بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْقَطَ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ لَا يَقَعُ صَحِيحًا، أَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَرِطْلٍ خَمْرًا ثُمَّ أَسْقَطَ الْخَمْرَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى حَسَبِ الثُّبُوتِ فَإِنَّ الْبَاقِيَ هُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ ثَبَتَ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ (أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ) وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ (قَبْلَ تَقَرُّرِهِ) أَيْ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَتَحَقُّقِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَيَعُودُ جَائِزًا (كَمَا إذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ وَعَلِمَهُ بِالْمَجْلِسِ فَرَضِيَ بِهِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لَيْسَ هُوَ شَرْطُ الْخِيَارِ، بَلْ وَصْلُهُ بِالرَّابِعِ وَهُوَ بِعَرْضِ الْفَصْلِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ فَقَدْ تَحَقَّقَ زَوَالُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدِ قَبْلَ مَجِيئِهِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَعِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ حُكْمُهُ الْفَسَادُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إذْ الظَّاهِرُ دَوَامُهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَيَنْقَلِبُ صَحِيحًا، وَقَالَ مَشَايِخُ خُرَاسَانَ وَالْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ: هُوَ مَوْقُوفٌ، وَبِالْإِسْقَاطِ قَبْلَ الرَّابِعِ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا، وَإِذَا مَضَى جُزْءٌ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَسَدَ الْعَقْدُ الْآنَ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَالذَّخِيرَةِ

ص: 302

وَلِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَإِذَا أَجَازَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّصِلْ الْمُفْسِدُ بِالْعَقْدِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِمُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ بِحَذْفِ الشَّرْطِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

(وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا جَازَ

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ نَصًّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُشْتَرِي وَأَثْبَتَ لِلْبَائِعِ حَقَّ الْفَسْخِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَقُّ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى بِحَسَبِ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ إلَّا عَدَمَ الْفَسَادِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ الرَّابِعُ فَيَثْبُتُ الْفَسَادُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَحَقِيقَةُ الْقَوْلَيْنِ لَا فَسَادَ قَبْلَ الرَّابِعِ بَلْ مَوْقُوفٌ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ أَنَّ الْفَسَادَ ثَابِتٌ عَلَى وَجْهٍ شَرْعًا بِإِسْقَاطِهِ خِيَارَ الرَّابِعِ قَبْلَ مَجِيئُهُ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ بِحَذْفِ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي قَوْلَهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَهُوَ كَالْقَلْبِ، فَإِنَّ التَّعْلِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ لَا أَنَّ أَصْلَ الْقَاعِدَةِ يَنْبَنِي عَلَى التَّعْلِيلِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا لِزُفَرَ أَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَبِيعِ وَهُوَ الْبَدَلُ فَلَمْ يُمْكِنْ رَفْعُهُ وَهُنَا فِي شَرْطِهِ، وَكَمَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ جَائِزًا إذَا أَسْقَطَ الْخِيَارَ قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ كَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَحْدَثَ بِهِ مَا يُوجِبُ لُزُومَ الْبَيْعِ يَنْقَلِبُ جَائِزًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا جَازَ) وَالْمُنْتَفِعُ بِهَذَا الشَّرْطِ هُنَا هُوَ الْبَائِعُ،

ص: 303

وَإِلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ نَقَدَ فِي الثَّلَاثِ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ إذْ الْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الِانْفِسَاخِ عِنْدَ عَدَمِ النَّقْدِ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُمَاطَلَةِ فِي الْفَسْخِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ.

وَقَدْ مَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ، وَنَفَى الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ وَكَذَا مُحَمَّدٌ فِي تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ. وَأَبُو يُوسُفَ أَخَذَ فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ.

وَكَذَا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ وَقَالَ إنْ رَدَّهُ الْبَائِعُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ. يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَيَصِيرُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ حَتَّى إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ نَفَذَ (وَإِلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) فَإِنْ نَقَدَ الثَّمَنَ قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثَةِ تَمَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُدْهُ فِيهَا فَسَدَ الْبَيْعُ وَلَا يَنْفَسِخُ نَصَّ عَلَيْهِ ظَهِيرُ الدِّينِ وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ حِفْظِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ فِي يَدِهِ عَتَقَ لَا إنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ) عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ (فَإِنْ دَفَعَ الثَّمَنَ فِي الثَّلَاثَةِ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَالْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الثَّمَنِ (أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً لَا قِيَاسًا وَالدَّلَالَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا سِوَى التَّسَاوِي) وَفَهْمُ الْمُلْحَقِ بِمُجَرَّدِ فَهْمِ الْأَصْلِ مَعَ فَهْمِ الْأَصْلِ مَعَ فَهْمِ اللُّغَةِ، وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ صِحَّةَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلتَّرَوِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَبَادَرَ إلَيْهِ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِلتَّرَوِّي لِدَفْعِ ضَرَرِ الْغَبْنِ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيَتَبَادَرُ إلَيْهِ جَوَازُهُ لِدَفْعِ الْغَبْنِ فِي الثَّمَنِ لِلْمُمَاطَلَةِ. وَكَوْنُ هَذَا يَنْفَسِخُ بِتَمَامِ الْمُدَّةِ قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ وَذَاكَ يَنْبَرِمُ بِتَمَامِهَا بِلَا رَدٍّ لَا أَثَرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الدَّلَالَةِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْجَامِعِ الَّذِي يَفْهَمُهُ مَنْ فَهِمَ اللُّغَةَ. إلَّا أَنَّك سَمِعْت أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِتَمَامِهَا بَلْ يَرْجِعُ فَاسِدًا (وَقَدْ مَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ) وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ حَيْثُ جَعَلَهُ جَائِزًا بِلَا تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ،

ص: 304

وَفِي هَذَا بِالْقِيَاسِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ آخَرُ وَإِلَيْهِ مَال زُفَرُ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ شُرِطَ فِيهِ إقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالشَّرْطِ، وَاشْتِرَاطُ الصَّحِيحِ مِنْهَا فِيهِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، فَاشْتِرَاطُ الْفَاسِدِ أَوْلَى وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّا.

قَالَ (وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ)؛ لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا السَّبَبِ بِالْمُرَاضَاةِ وَلَا يَتِمُّ مَعَ الْخِيَارِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ.

وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ فَأَخَذَ فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ: يَعْنِي أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ فِي جَوَازِ شَرْطِ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَخَذَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْقِيَاسِ: أَيْ فِي نَفْيِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثَةِ.

وَأَمَّا فِي الثَّلَاثَةِ فَبِحَدِيثِ ابْنِ الْبَرْصَاءِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ لَهُ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ. هَذَا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هُنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ. وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمْ يُرَجِّحُوا عَنْهُ شَيْئًا وَحَكَمُوا عَلَى قَوْلِهِ بِالِاضْطِرَابِ (وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ آخَرُ) يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الْبَيْعُ أَصْلًا (وَهُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ شُرِطَتْ فِيهِ إقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ دَفْعِ الثَّمَنِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ، وَالْإِقَالَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ)؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى جُعِلَتْ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، وَهُوَ لَوْ شَرَطَ الْإِقَالَةَ الصَّحِيحَةَ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَعْلَقْ بِالشَّرْطِ قَالَ بِعْتُك عَلَى أَنْ أُقِيلُك وَتَقْبَلُهَا أَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك عَلَى أَنْ تُقِيلَنِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ (فَاشْتِرَاطُ الْفَاسِدَةِ أَوْلَى) وَبِهَذَا الْقِيَاسِ قَالَ زُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، فَكُلُّهُمْ مَنَعُوا صِحَّةَ الْبَيْعِ. وَالْوَجْهُ عَلَيْهِمْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْإِلْحَاقِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّاهُ.

(قَوْلُهُ وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا السَّبَبِ) الَّذِي هُوَ الْبَيْعُ (بِالْمُرَاضَاةِ) لِمَا عُرِفَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (وَلَا يَتِمُّ) الرِّضَا (مَعَ الْخِيَارِ)؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ عَدَمَ الرِّضَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَتِمَّ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إلَّا مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الرِّضَا فَلَا يُوجِبُ حُكْمَهُ فِي حَقِّهِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَنَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ لِبَقَاءِ مِلْكِ الْبَائِعِ فِيهِ بِلَا اخْتِلَالٍ، وَبِالتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ يُعْرَفُ أَنَّ

ص: 305

وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ (وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا، وَلَا نَفَاذَ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَبَقِيَ مَقْبُوضًا فِي يَدِهِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ الْقِيمَةُ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْمُطْلَقِ.

قَالَ (وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي جَانِبِ الْآخَرِ لَازِمٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْبَدَلِ.

خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ خُرُوجَ الثَّمَنِ عَنْ مِلْكِهِ لِاتِّحَادِ نِسْبَتِهِ إلَى كُلِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ (فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا) فِي حَقِّ الْمَبِيعِ، وَلَا يُمْكِنُ نَفَاذُهُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ (لَا نَفَاذَ بِلَا مَحَلٍّ فَبَقِيَ) فِي يَدِ الْمُشْتَرِي (مَقْبُوضًا) لَا عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ الْمَحْضَةِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْإِعَارَةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رحمه الله أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبْضِهِ إلَّا عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَالْمَقْبُوضِ (عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَفِي) الْمَقْبُوضِ عَلَى (سَوْمِ الشِّرَاءِ الْقِيمَةُ) إذَا هَلَكَ وَهُوَ قِيَمِيٌّ وَالْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ إذَا كَانَ الْقَبْضُ بَعْدَ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ، أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمَّ ثَمَنٌ فَلَا ضَمَانَ فِي الصَّحِيحِ.

وَعَلَيْهِ فَرْعُ مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْعُيُونِ: فِي رَجُلٍ أَخَذَ ثَوْبًا فَقَالَ اذْهَبْ بِهِ فَإِنْ رَضِيته اشْتَرَيْته فَضَاعَ فِي يَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ قَالَ إنْ رَضِيته اشْتَرَيْته بِعَشْرَةٍ كَانَ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ، وَبِثُبُوتِ الضَّمَانِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي هَذَا الْبَيْعِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ؛ وَعِنْدَهُمْ وَجْهٌ فِي ضَمَانِهِ بِالثَّمَنِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَمَّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ ثُبُوتُ حَقِّ الْفَسْخِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّ الْفَسْخِ انْتِفَاءُ حَقِّ الْمِلْكِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ. قُلْنَا: قَوْلُك تَمَّ الْبَيْعُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إنْ أَرَدْت فِي حَقِّ حُكْمِهِ مَنَعْنَاهُ أَوْ تَمَّتْ صُورَتُهُ فَمُسَلَّمٌ، وَلَا يُفِيدُ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ حَتَّى يُوجَدَ شَرْطُ عَمَلِهِ وَهُوَ تَمَامُ الرِّضَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَتَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ الْهَلَاكَ بِكَوْنِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِيَخْرُجَ مَا إذَا هَلَكَ بَعْدَهَا، وَأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَضْمَنُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْدَمَا انْبَرَمَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ فَسْخِ الْبَائِعِ فِي الْمُدَّةِ (وَلَوْ هَلَكَ) الْمَبِيعُ (فِي يَدِ الْبَائِعِ) وَالْحَالُ أَنَّ الْخِيَارَ لَهُ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ يَنْفَسِخُ (وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْمُطْلَقِ) عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ فِيهِ: إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَالتَّقْيِيدُ بِالصَّحِيحِ لَيْسَ لِإِخْرَاجِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَذَلِكَ أَعْنِي الِانْفِسَاخَ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، بَلْ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ الْأَصَالَةُ وَالْفَاسِدُ يَأْخُذُ حُكْمَهُ مِنْهُ.

(قَوْلُهُ وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ) وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْبَيْعَ) إلَى آخِرِهِ تَعْلِيلٌ لِمَحْذُوفٍ وَهُوَ قَوْلُنَا فَيَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي جَانِبِهِ لَازِمٌ بَاتٌّ فَقَدْ تَمَّ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ وَانْتَفَى مَا يَمْنَعُهُ مِنْ عَمَلِهِ إذَا كَانَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُهُ فَيَخْرُجُ (وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْبَدَلِ) الَّذِي هُوَ

ص: 306

عَنْ مِلْكِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ دُونَ الْآخَرِ. قَالَ: إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ زَائِلًا لَا إلَى مَالِكٍ وَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشَّرْعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِهِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَتَرَوَّى فَيَقِفَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ رُبَّمَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِأَنْ كَانَ قَرِيبَهُ فَيَفُوتُ النَّظَرُ.

مِنْ جِهَةِ (مَنْ لَهُ الْخِيَارُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُوجِبُ عَدَمَ الرِّضَا بِخُرُوجِ مِلْكِهِ عَنْهُ فَلَا يُؤَثِّرُ السَّبَبُ خُرُوجَهُ لِعَدَمِ شَرْطِ عَمَلِهِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُهُ) بِمَعْنَى لَكِنَّ، وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ لِأَمْرٍ مُتَبَادِرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ بِخُرُوجِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْمُقَدَّرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَمْلِكُهُ) الْمُشْتَرِي، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ (لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ زَائِلًا لَا إلَى) مِلْكِ (مَالِكٍ وَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشَّرْعِ) فِي بَابِ التِّجَارَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ فَيَكُونُ كَالسَّائِبَةِ فَلَا يَرِدُ شِرَاءُ مُتَوَلِّي أَمْرِ الْكَعْبَةِ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا لِسَدَانَةِ الْكَعْبَةِ، وَالضَّيْعَةُ الْمَوْقُوفَةُ بِعَبِيدِهَا إذَا ضَعُفَ أَحَدُهُمْ فَاشْتَرَى بِبَدَلِهِ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ مِنْ بَابِ الْأَوْقَافِ وَحُكْمُ الْأَوْقَافِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَا تَرِدُ التَّرِكَةُ الْمُسْتَغْرَقَةُ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمَيِّتِ وَلَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ وَلَا الْغُرَمَاءِ لِلْقَيْدِ الْمَذْكُورِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِهِ اجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ) وَالثَّمَنُ وَالْمَبِيعُ (فِي مِلْكِ) أَحَدِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ (حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ) وَأَنَّى يَكُونُ (وَالْمُعَاوَضَةُ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ) بَيْنَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ فِي تَبَادُلِ مِلْكَيْهِمَا، بِخِلَافِ ضَمَانِ غَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا أَبَقَ مِنْ عِنْدِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُ بَدَلُ الْيَدِ أَوْ الْمِلْكِ حَيْثُ لَا يَخْرُجُ الْمُدَبَّرُ بِهِ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ فَيَجْتَمِعُ الْعِوَضَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ لَا ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهَذَا أَلْزَمُ فِي الشَّرْعِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلسَّدَانَةِ وَالْوَقْفِ كَائِنٌ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ يَخْرُجُ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ (وَلِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي شُرِعَ نَظَرًا لَهُ لِيَتَرَوَّى فَيَقِفُ عَلَى الْمُصْلِحَةِ) فِي رَأْيِهِ (وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لَهُ) بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ مَعَ خِيَارِهِ أَلْحَقْنَاهُ نَقِيضَ مَقْصُودِهِ (إذْ رُبَّمَا) كَانَ الْمَبِيعُ مَنْ (يَعْتِقُ عَلَيْهِ) فَيَعْتِقُ (مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ) فَيَعُودُ شَرْعُ الْخِيَارِ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ إذَا كَانَ مُفَوِّتًا لِلنَّظَرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ

ص: 307

قَالَ (فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ بِالثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ) بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَالْهَلَاكُ لَا يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ فَيَهْلِكُ، وَالْعَقْدُ قَدْ انْبَرَمَ فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ بِدُخُولِ الْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ حُكْمًا بِخِيَارِ الْبَائِعِ فَيَهْلِكُ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ

لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْمِلْكِ وَلِذَا لَا تَثْبُتُ بِحَقِّ السُّكْنَى لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا إذَا بِيعَتْ بِجِوَارِهَا بِالِاتِّفَاقِ وَالْإِجْمَاعِ أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهَا تَصَرُّفًا لَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ يَسْتَحِقُّهَا إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجِوَارِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَحَاصِلُ هَذَا مَعَ قَصْرِ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ بَلْ هُوَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ مُعَلَّلَةً بِانْبِرَامِ الْبَيْعِ فِي ضِمْنِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ فَيَثْبُتُ مُقْتَضًى تَصْحِيحًا، وَمَا فِي الْأَجْنَاسِ لَوْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إذَا رَآهَا وَيَبْطُلُ خِيَارُ الشَّرْطِ (فَإِنْ هَلَكَ) الْمَبِيعُ (فِي يَدِ الْمُشْتَرِي) وَلَوْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ (هَلَكَ بِالثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ) لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَأَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ فِي الْمُدَّةِ بِأَنْ مَرِضَ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ عَلَى خِيَارِهِ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ مَرِيضًا بَلْ حَتَّى يَبْرَأَ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَبْرَأْ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَبْطُلُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي فِي كُلِّ عَيْبٍ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ إلَّا فِي خَصْلَةٍ، وَهِيَ أَنَّ النُّقْصَانَ إذَا حَصَلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْلِ الْبَائِعِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ، بَلْ إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَأَخَذَ الْأَرْشَ مِنْ الْبَائِعِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ هَلَكَ بِالثَّمَنِ: يَعْنِي الْفَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَهَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَهْلِكُ بِالْقِيمَةِ، وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ هُوَ أَنَّ الْهَلَاكَ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ وَدُخُولُ الْعَيْبِ يَمْنَعُ الرَّدَّ حَالَ قِيَامِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْهَلَاكُ لَمْ تُوجَدْ حَالَةٌ مُجَوِّزَةٌ لِلرَّدِّ فَيَهْلِكُ وَقَدْ انْبَرَمَ الْعَقْدُ، وَانْبِرَامُ الْعَقْدِ يُوجِبُ الثَّمَنَ لَا الْقِيمَةَ (بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ) مِنْ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ حُكْمًا لِخِيَارِ الْبَائِعِ (فَيَهْلِكُ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ) فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فَلَا يَضْمَنُ الثَّمَنَ بَلْ الْقِيمَةَ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ

ص: 308

عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا لِمَا لَهُ مِنْ الْخِيَارِ (وَإِنْ وَطِئَهَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا)؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ بِحُكْمِ النِّكَاحِ (إلَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا)؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُنْقِصُهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَا: يَفْسُدُ النِّكَاحُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا (وَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَرُدَّهَا)؛ لِأَنَّ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا؛ وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَخَوَاتٌ كُلُّهَا تَبْتَنِي عَلَى وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَعَدَمِهِ: مِنْهَا عِتْقُ الْمُشْتَرَى عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ قَرِيبًا لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَمِنْهَا: عِتْقُهُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي حَلَفَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ.

عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا لِمَا لَهُ مِنْ الْخِيَارِ) وَالْمَبِيعُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، فَلَوْ رَدَّ الْبَيْعَ اسْتَمَرَّتْ زَوْجَةً عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا إذَا فَسَخَهُ رَجَعَتْ إلَى مَوْلَاهَا بِلَا نِكَاحٍ عَلَيْهَا (وَإِنْ وَطِئَهَا) بَعْدَ الشِّرَاءِ (لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا) بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَلْزَمُ هُنَا أَنْ يَكُونَ إجَازَةً؛ لِأَنَّ لَهُ فِي النِّكَاحِ مِلْكًا قَائِمًا يُحِلُّ لَهُ الْوَطْءَ فَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ وَطْئِهِ إجَازَةً (إلَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُنْقِصُ الْبِكْرَ) فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ لِلْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَهُ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّهُ لَوْ نَقَصَهَا الْوَطْءُ وَهِيَ ثَيِّبٌ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ عِنْدَهُ أَيْضًا لِلنَّقْصِ الَّذِي دَخَلَهَا لَا لِذَاتِ الْوَطْءِ، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا الَّذِي بَاعَهَا فَقَدْ رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ بِزَوَالِ الْبَكَارَةِ وَحِينَ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ فَقَدْ رَضِيَ بِالرَّدِّ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِرَدِّهَا نَاقِصَةً. أُجِيبَ بِمَنْعِ بَقَاءِ الرِّضَا بِذَلِكَ بَعْدَ الْبَيْعِ بَلْ لَمَّا بَاعَهَا نُسِخَ ذَلِكَ الرِّضَا إلَى الرِّضَا بِمَا هِيَ أَحْكَامُ هَذَا الْبَيْعِ وَأَحْكَامُ هَذَا الْبَيْعِ مَا ذَكَرْنَاهُ (وَقَالَا: يَفْسُدُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا، فَإِنْ وَطِئَهَا لَا يَرُدُّهَا) وَلَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ لَيْسَ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ مُسْقِطًا لِلْخِيَارِ وَرِضًا بِالْبَيْعِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ فُرُوعِ الْخِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَعَدَمِهِ (وَلَهَا أَخَوَاتٌ) ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ (مِنْهَا عِتْقُ) الْعَبْدِ (الْمُشْتَرَى عَلَى الْمُشْتَرِي) بِشَرْطِ الْخِيَارِ (وَفِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إذَا كَانَ قَرِيبَهُ) قَرَابَةً مُحَرِّمَةً عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَعْتِقُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يُفْسَخْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ (وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ) فَاشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِسَبَبِ الْخِيَارِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَعِنْدَهُمَا وُجِدَ فَعَتَقَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ. أَمَّا لَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهَذَا شِرَاءٌ فَيَكُونُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ بَعْدَهُ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِذَا لَا يُعْتَقُ عَنْ الْكَفَّارَةِ إذَا نَوَى الْحَالِفُ بِشِرَائِهِ أَنْ يُعْتِقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ. وَمِنْهَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَحَاضَتْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ وَجَدَ بَعْضَ الْحَيْضَةِ فِيهَا ثُمَّ اخْتَارَ الْبَيْعَ عِنْدَهُ لَا يَجْتَزِئُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ الْمِلْكِ وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ الْمِلْكِ بَعْضُ الْحَيْضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَيْضَةٍ أُخْرَى لِحِلِّ الْوَطْءِ. وَعِنْدَهُمَا يَجْتَزِئُ بِهَا لِوُجُودِهَا بَعْدَ الْمِلْكِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِكَوْنِ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لِوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ الْمِلْكُ، وَالْمِلْكُ الْمُؤَكَّدُ يَكُونُ بِالْقَبْضِ، وَلَوْ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَرَدَّهَا إلَى الْبَائِعِ

ص: 309

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ، وَمِنْهَا أَنَّ حَيْضَ الْمُشْتَرَاةِ فِي الْمُدَّةِ لَا يُجْتَزَأُ بِهِ عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُجْتَزَأُ؛ وَلَوْ رُدَّتْ بِحُكْمِ الْخِيَارِ إلَى الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ إذَا رُدَّتْ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَمِنْهَا إذَا وَلَدَتْ الْمُشْتَرَاةُ فِي الْمُدَّةِ بِالنِّكَاحِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا،.

لَا يَحْتَاجُ الْبَائِعُ إلَى اسْتِبْرَائِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ.

وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ اسْتِبْرَاؤُهَا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِاسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ بَعْدَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْمِلْكَ الْمُؤَكَّدَ بِالْقَبْضِ فَيَثْبُتُ تَوَهُّمُ الشُّغْلِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْعَقْدَ لَوْ كَانَ بَاتًّا ثُمَّ فُسِخَ بِإِقَالَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَالِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَفَسَخَ فِي الْمُدَّةِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ أَجَازَهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ بَعْدَ الْإِجَازَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَمِنْهَا إذَا وَلَدَتْ مَنْكُوحَتُهُ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي الْمُدَّةِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ قَيَّدَ الشَّارِحُونَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِأَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ وَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ بِالْوِلَادَةِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْإِجْمَاعِ. وَصَوَّرَ الطَّحَاوِيُّ هَذِهِ الْخِلَافِيَّةَ فِيمَا إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ قَالَ: اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَخِيَارُهُ عَلَى حَالِهِ إلَّا إذَا اخْتَارَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَعِنْدَهُمَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِالشِّرَاءِ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ، وَتَقْيِيدُهُ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَحْسَنَ وَهُوَ يَصْدُقُ بِصُورَتَيْنِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَالشِّرَاءِ وَمَا قَبْلَ

ص: 310

وَمِنْهَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي الْمُدَّةِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ لِارْتِفَاعِ الْقَبْضِ بِالرَّدِّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْإِيدَاعِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ.

وَمِنْهَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ بَقِيَ عَلَى خِيَارِهِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ امْتِنَاعٌ عَنْ التَّمَلُّكِ وَالْمَأْذُونُ لَهُ يَلِيهِ، وَعِنْدَهُمَا بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَهُ كَانَ الرَّدُّ مِنْهُ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.

الْقَبْضِ بَعْدَ الشِّرَاءِ (وَمِنْهَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي) بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ (الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي الْمُدَّةِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ) عِنْدَهُ (لِارْتِفَاعِ الْقَبْضِ بِالرَّدِّ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ ارْتَفَعَ الْقَبْضُ بِالْإِيدَاعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُودَعًا لَمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ الْإِيدَاعُ صَحِيحًا، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ (وَعِنْدَهُمَا) يَهْلَكُ (مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْإِيدَاعِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ مِلْكِهِ)

وَقَدْ يُقَالُ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِيدَاعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَالِكَ لَا يَصْلُحُ مُودَعًا لَمِلْكِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْمَبِيعَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِاتِّفَاقٍ فَلَا يَكُونُ مُودَعًا لِمِلْكِ نَفْسِهِ فَتَصِحُّ وَدِيعَةُ الْمُشْتَرِي لِتَحَقُّقِ إيدَاعِ غَيْرِ الْمَالِكِ كَالْمُضَارِبِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُرَادُ مِلْكُهُ بِحَسَبِ الْمَآلِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَئُولَ إلَى مِلْكِهِ بِأَنْ يَخْتَارَ مُشْتَرِي الْبَيْعَ. أَمَّا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْدَعَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ الْبَائِعَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ نَفَاذِ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَهُ فِيهِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٌ فَأَوْدَعَهُ الْبَائِعُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْخِيَارَيْنِ لَا يَمْنَعَانِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَصَحَّ الْإِيدَاعُ مِنْهُ (وَمِنْهَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي) بِالْخِيَارِ (عَبْدًا مَأْذُونًا فَأَبْرَأهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ) يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَمْلِكُ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فَلَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَصِحُّ لِوُجُوبِ سَبَبِ مِلْكِهِ لِلثَّمَنِ وَهُوَ الْبَيْعُ. وَإِذَا صَحَّ إبْرَاؤُهُ إلَّا لِاتِّفَاقٍ (بَقِيَ عَلَى خِيَارِهِ) فِي السِّلْعَةِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ فَيَأْخُذُهَا بِلَا ثَمَنٍ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ فَيَرُدُّ السِّلْعَةَ لِلْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الْمَبِيعَ فَكَانَ رَدُّهُ امْتِنَاعًا عَنْ تَمَلُّكِ شَيْءٍ بِلَا عِوَضٍ (وَالْمَأْذُونُ يَلِيهِ) أَيْ يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ قَبُولِ الْهِبَةِ (وَعِنْدَهُمَا) لَمَّا بَرِئَ مِنْ الثَّمَنِ وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْمَبِيعَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لَوْ رَدَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا

ص: 311

وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَطَلَ الْخِيَارُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فَلَا يَمْلِكُ رَدَّهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ. وَعِنْدَهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا فَلَا يَتَمَلَّكُهَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ بَعْدَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ.

قَالَ (وَمَنْ شُرِطَ لَهُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي الْمُدَّةِ وَلَهُ أَنْ يُجِيزَ، فَإِنْ أَجَازَهُ بِغَيْرِ حَضْرَةِ صَاحِبِهَا جَازَ

مُمَلَّكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعَاتِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ انْبَرَمَ الْبَيْعُ بِلَا شَيْءٍ.

وَاسْتَشْكَلَ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ بِسَبَبِ أَنَّ الثَّمَنَ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَعْتَمِدُ شَغْلَ الذِّمَّةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالُ مِلْكِ الْمَشْغُولِ ذِمَّتُهُ عَنْ مِقْدَارِهِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ مَشْغُولُ الذِّمَّةِ وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَإِنَّمَا اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ لِصِحَّةِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لَيْسَ دَاخِلًا عَلَى السَّبَبِ بَلْ عَلَى حُكْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِوُجُودِ الْبَيْعِ لَا بُدَّ أَنْ تُشْغَلَ الذِّمَّةُ بِالثَّمَنِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ يُقَارِنُ وُجُوبَ أَدَائِهِ بَلْ الثَّابِتُ أَصْلُ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ طَلَبٌ أَصْلًا عَلَى مَا عُرِفَ (وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثُمَّ أَسْلَمَ) الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ (بَطَلَ خِيَارُهُ) عِنْدَهُمَا (لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فَلَا يَمْلِكُ رَدَّهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَا يُمْكِنُهُ تَمَلُّكُهَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ) بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَتَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ أَمَّا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَأَسْلَمَ فَبُطْلَانُ الْبَيْعِ بِالْإِجْمَاعِ، هَذَا آخِرُ مَا فَرَّعَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمِنْ الْفُرُوعِ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ فِي دُخُولِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ مَا لَوْ اشْتَرَى مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ عَصِيرًا بِالْخِيَارِ فَتَخَمَّرَ فِي الْمُدَّةِ فَسَدَ الْبَيْعُ عِنْدَهُ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمَلُّكِهِ بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ وَتَمَّ عِنْدَهُمَا لِعَجْزِهِ عَنْ رَدِّهِ بِفَسْخِهِ.

وَمِنْهَا مَا إذَا اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَهُوَ سَاكِنُهَا بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ فَاسْتَدَامَ سَاكِنُهَا قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ ابْتِدَاءُ السُّكْنَى. وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ: اسْتِدَامَةُ السُّكْنَى اخْتِيَارٌ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ؛ لِأَنَّهُ بِإِجَارَةٍ أَوْ الْإِعَارَةِ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا وَمِنْهَا حَلَالٌ اشْتَرَى ظَبْيًا بِالْخِيَارِ فَقَبَضَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ وَالظَّبْيُ فِي يَدِهِ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ عِنْدَهُ وَيُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ. وَقَالَا: يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يُنْتَقَضُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَأَحْرَمَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَفُسِخَ الْعَقْدُ فَالزَّوَائِدُ تُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي.

وَعِنْدَهُمَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ شُرِطَ لَهُ الْخِيَارُ) سَوَاءٌ كَانَ بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا أَوْ أَجْنَبِيًّا (لَهُ أَنْ يُجِيزَ) فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ (وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ، فَإِنْ أَجَازَ بِغَيْرِ حَضْرَةِ صَاحِبِهِ) يُرِيدُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ (جَازَ) فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَنَفَاذُ الْبَيْعِ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَبِمَوْتِهِ وَبِإِغْمَائِهِ وَجُنُونِهِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ أَفَاقَ فِيهَا قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى خِيَارٍ، وَلَوْ سَكِرَ مِنْ الْخَمْرِ لَمْ يُبْطِلْ سُكْرُهُ مِنْ الْبَنْجِ، وَلَوْ ارْتَدَّ فَعَلَى

ص: 312

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خِيَارِهِ إجْمَاعًا، فَلَوْ تَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا. وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ أَنْ يُجِيزَ الْبَائِعُ كَأَنْ يَقُولَ: أَجَزْت الْبَيْعَ وَرَضِيته وَأَسْقَطْت خِيَارِي وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَنَفَاذُهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لِلْبَائِعِ، وَبِالْفِعْلِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بِأَنْ يُعْتِقَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُدَبِّرَ أَوْ يَبِيعَ الْمَبِيعَ أَوْ يَهَبَهُ وَيُسَلِّمَهُ أَوْ يَرْهَنَهُ أَوْ يُؤَجِّرَهُ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَذَا إذَا عَلَّقَ عِتْقَهُ فِي الْمُدَّةِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فِيهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُبَاشِرَ فِي الْمَبِيعِ فِعْلًا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِامْتِحَانِ، وَلَا يَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِحَالٍ، فَإِنْ كَانَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِامْتِحَانِ وَيَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ، فَالْوَطْءُ إجَازَةٌ، وَكَذَا التَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ، وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ لَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الطَّبِيبَ وَالْقَابِلَةَ يَحِلُّ لَهُمَا النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ. نَعَمْ التَّقْبِيلُ لَا إلَّا أَنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَسٌّ، وَلَوْ أَنْكَرَ الشَّهْوَةَ فِي هَذِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ سُقُوطَ خِيَارِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَتْ الْجَارِيَةُ ذَلِكَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فِعْلُهَا أَلْبَتَّةَ إجَازَةً لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِيَخْتَارَ هُوَ لَا لِيُخْتَارَ عَلَيْهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْوَطْءِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْوَطْءِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ كَالْمُضَافِ إلَى الرَّجُلِ. وَأَمَّا الْمُبَاضَعَةُ مُكْرَهًا كَانَ أَوْ مُطَاوِعًا اخْتِيَارٌ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ

وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ فَلِأَنَّ الْوَطْءَ تَنْقِيصٌ، حَتَّى لَوْ وُجِدْت مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، فَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ إذَا ابْتَدَأَتْهَا وَالْمُشْتَرِي كَارِهٌ ثُمَّ تَرَكَهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَهُوَ اخْتِيَارٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ سُقُوطُ الْخِيَارِ فِي غَيْرِ الْمُبَاضَعَةِ إذَا أَقَرَّ بِشَهْوَتِهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا يَلْزَمُ إسْقَاطُ خِيَارِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَا يُسْقِطُ خِيَارَهُ، وَلَوْ دَعَا الْجَارِيَةَ إلَى فِرَاشِهِ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَالِاسْتِخْدَامُ لَيْسَ بِإِجَازَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِهِ، وَالِاسْتِخْدَامُ ثَانِيًا إجَازَةٌ إلَّا إذَا كَانَ فِي نَوْعٍ آخَرَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فَقَالَ: الِاسْتِخْدَامُ مِرَارًا لَا يَكُونُ إجَازَةً. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قَالَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ تُبْطِلُ الْخِيَارَ، وَأَكْلُهُ الْمَبِيعَ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ يُسْقِطُ الْخِيَارَ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إذَا لَبِسَهُ مَرَّةً وَاسْتَخْدَمَ الْخَادِمَ مَرَّةً لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ وَيَبْطُلُ بِمَرَّتَيْنِ، وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا وَيَعْلِفَهَا إجَازَةٌ. وَقِيلَ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ بِدُونِ الرُّكُوبِ لَا يَكُونُ إجَازَةً. وَأَطْلَقَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ فَقَالَ: وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ اسْتِحْسَانًا فَجَعَلَهُ الِاسْتِحْسَانَ. وَلَوْ قَطَعَ حَوَافِرَ الدَّابَّةِ أَوْ أَخَذَ بَعْضَ عُرْفِهَا لَا يَبْطُلُ. وَلَوْ نَسَخَ مِنْ الْكِتَابِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ لَا يَسْقُطُ. وَلَوْ دَرَسَ فِيهِ يَسْقُطُ، وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو اللَّيْثِ، وَطَلَبُ الشُّفْعَةِ بِالدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ رِضًا بِهَا، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ. وَلَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي بَطَلَ خِيَارُهُ سَوَاءٌ حَدَثَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إلْزَامِ الْبَيْعِ، وَمَتَى قُلْنَا إنَّهُ يَلْزَمُ بِجِنَايَتِهِ أَثْبَتْنَا لَهُ قُدْرَةَ إلْزَامِهِ فَتَفُوتُ فَائِدَةُ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ لُزُومَهُ لَا مِنْ قِبَلِهِ.

وَلَهُمَا أَنَّ مَا يَنْقُصُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَلِفَ فِي ضَمَانِهِ وَتَعَذَّرَتْ عَلَى الْبَائِعِ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَمَتَى رَدَّ الْبَاقِيَ كَانَ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ فِي حَقِّ الرَّدِّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ؛ وَإِذَا.

ص: 313

وَإِنْ فَسَخَ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ حَاضِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ)

وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالشَّرْطُ هُوَ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِالْحَضْرَةِ عَنْهُ. لَهُ أَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ كَالْإِجَازَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْعَقْدُ بِالرَّفْعِ، وَلَا يَعْرَى عَنْ الْمَضَرَّةِ؛ لِأَنَّهُ.

عُرِفَ هَذَا عُرِفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالْأَرْشِ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَصَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوْ سَقَطَتْ أَطْرَافُهُ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ حَدَثَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ انْتَقَصَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَصَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَيُسْقِطُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَلَوْ نَفَيْنَا الْخِيَارَ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَوْ بَزَغَ الدَّابَّةَ فَهُوَ رِضًا، وَلَوْ حَلَبَ لَبَنَهَا فَهُوَ رِضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ رِضًا حَتَّى يَشْرَبَهُ أَوْ يَسْتَهْلِكَهُ، وَلَوْ سَقَى حَرْثًا فِي الْأَرْضِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى الْأَرْضَ أَوْ حَصَدَ الزَّرْعَ أَوْ فَصَلَ مِنْهُ شَيْئًا فِيمَا إذَا اشْتَرَى الزَّرْعَ فَهُوَ رِضًا. وَلَوْ سَقَى دَوَابَّهُ مِنْ النَّهْرِ أَوْ شَرِبَ هُوَ فَلَيْسَ بِرِضًا، وَلَوْ طَحَنَ فِي الرَّحَى فَهُوَ رِضًا، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَذَلِكَ فِي رَحَى الْمَاءِ وَلَيْسَتْ فِي دِيَارِنَا. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فِيهَا سَاكِنٌ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي الْأُجْرَةَ مِنْ السَّاكِنِ فَهُوَ إجَازَةٌ. وَلَوْ غَسَلَ الْعَبْدَ أَوْ الْجَارِيَةَ أَوْ مَشَّطَهَا بِالْمُشْطِ وَالدُّهْنِ وَأَلْبَسَهَا فَلَيْسَ بِرِضًا (قَوْلُهُ وَإِنْ فَسَخَ) أَيْ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُدَّةِ (بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْآخَرِ) أَيْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ (لَمْ يَجُزْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ (وَإِنَّمَا كَنَّى بِالْحَضْرَةِ عَنْ الْعِلْمِ) حَتَّى لَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْفَسْخُ إلَّا بَعْدَ الْمُدَّةِ تَمَّ الْبَيْعُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَسْخِ

(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ) وَكَذَا الْخِلَافُ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْفَسْخُ بِالْقَوْلِ فِي الْمُدَّةِ بِأَنْ يَقُولَ فَسَخْت أَوْ رَدَدْت الْبَيْعَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى رَدِّ الْبَيْعِ، وَهَذَا الْفَسْخُ بِالْقَوْلِ هُوَ الَّذِي الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْفِعْلِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ اتِّفَاقًا، وَكَانَ مُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِمَنْعِ الْفَسْخِ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ بِالْقَوْلِ أَنْ يَقُولَ بِهِ فِيمَا هُوَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ؛ لِأَنَّهُ كَالْقَوْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ اخْتِيَارٌ يَثْبُتُ بِهِ الِانْفِسَاخُ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ وَفِعْلِ الْأَمَةِ وَدُخُولِ الْعَيْبِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ وَالْهَلَاكِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَهُوَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ كَالْعِتْقِ وَالْبَيْعِ وَالْوَطْءِ، وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إجَازَةٌ إذَا صَدَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَفْعَالِ فَهُوَ فَسْخٌ إذَا صَدَرَ مِنْ الْبَائِعِ (لَهُ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ (أَنَّهُ) أَيْ الْفَاسِخُ مِنْهُمَا (مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ) يَعْنِي الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ (فَلَا يَتَوَقَّفُ) فَسْخُهُ (عَلَى عِلْمِهِ) كَبَيْعِ الْوَكِيلِ يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ (وَلَهُمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ) وَهُوَ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ (بِالرَّفْعِ وَلَا يَعْرَى عَنْ الضَّرَرِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْغَيْرُ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ

ص: 314

عَسَاهُ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الْبَيْعِ السَّابِقِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَتَلْزَمُهُ غَرَامَةُ الْقِيمَةِ بِالْهَلَاكِ فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، أَوْ لَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا نَوْعُ ضَرَرٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ وَصَارَ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ، بِخِلَافِ.

عَسَاهُ يَعْتَمِدُ عَلَى تَمَامِ الْبَيْعِ السَّابِقِ) إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْفَسْخُ (فَيَتَصَرَّفُ) الْمُشْتَرِي (فِيهِ) فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ فَسْخٌ (فَتَلْزَمُهُ غَرَامَةُ الْقِيمَةِ بِالْهَلَاكِ) وَقَدْ تَكُونُ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ

(وَلَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا) اعْتِمَادًا عَلَى نَفَاذِ الْبَيْعِ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْفَسْخُ فِي الْمُدَّةِ اعْتِمَادًا عَلَى تَمَامِهِ (فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا نَوْعُ ضَرَرٍ) يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الِانْفِرَادِ بِالْفَسْخِ فَيَتَوَقَّفُ عِلْمُهُ وَصَارَ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا حَالَ عَدَمِ عِلْمِهِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَزْلِ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِلُزُومِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ إذَا كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ، وَبِبُطْلَانِ قَوْلِهِ وَتَصَرُّفِهِ إذَا كَانَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ، وَرُبَّمَا يَعْتَمِدُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ النَّفَاذَ فَيَتَشَعَّبُ الْفَسَادُ. وَالْحَاصِلُ قِيَاسَانِ تَعَارَضَا قِيَاسُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ وَقِيَاسُهُمَا عَلَى عَزْلِ الْوَكِيلِ، ثُمَّ فِي قِيَاسِهِمَا أُمُورٌ طَرْدِيَّةٌ لَا مَعْنَى لَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِالرَّفْعِ، فَإِنَّ هَذَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ الصِّحَّةِ بِلَا عِلْمٍ، إنَّمَا أَثَرُهُ فِي نَفْيِ الصِّحَّةِ بِلَا إذْنٍ، فَإِنَّ كَوْنَهُ حَقَّ الْغَيْرِ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ بِلَا إذْنٍ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلْمِ طَرْدٌ، وَالْإِذْنُ قَدْ وُجِدَ فِي ضِمْنِ شَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ تَضَمَّنَ الْإِذْنَ لَهُ بِالْفَسْخِ مُطْلَقًا إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَظِنَّةَ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ، أَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ طَرِيقَ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلَا. قُلْنَا فَاسْتَقَامَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَيْسَ إلَّا كَوْنُ فَسْخِهِ مَظِنَّةَ ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَصَحَّ قَوْلُنَا إنَّ مَا سِوَاهُ لَا أَثَرَ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ تَصَرَّفَ فِي حَقِّهِ بِلَا عِلْمِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَقْتَصِرُ النَّظَرُ عَلَى إثْبَاتِ الضَّرَرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الضَّرَرَ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لُزُومُ الْقِيمَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِنَاءً عَلَى زِيَادَةِ الْقِيمَةِ عَلَى الثَّمَنِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا أَكْثَرِيٍّ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ فَهُمَا فِي مَحَلِّ التَّعَارُضِ، بَلْ الْغَالِبُ أَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ بِمَا هُوَ قِيمَةُ الْمَبِيعِ خُصُوصًا بِيَاعَاتُ الْأَسْوَاقِ فَبَطَلَ ذَلِكَ الشِّقُّ

وَأَمَّا ضَرَرُ الْبَائِعِ بِاعْتِمَادِهِ فَلَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا، فَإِنَّمَا لَحِقَهُ مِنْ تَقْصِيرِهِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَكْشِفْ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الْمُدَّةِ هَلْ فَسَخْت أَوْ لَا، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْفِقْهِ أَعْنِي إلْزَامَ مَا هُوَ ضَرَرٌ لِتَقْصِيرِ مَنْ لَزِمَهُ فِي احْتِيَاطِهِ لِنَفْسِهِ مَعَ الْمُكْنَةِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ لَازِمٌ بِإِلْزَامِ ثَمَنِ مَا يَشْتَرِيهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ وَكِيلًا لِلشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وُجِدَ نَفَاذًا لَا يَتَوَقَّفُ فَيَتَضَرَّرُ بِإِلْزَامِ ثَمَنِ مَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِمِقْدَارِهِ وَبِإِهْدَارِ أَقْوَالِهِ: أَعْنِي عُقُودَهُ إذَا كَانَ

ص: 315

الْإِجَازَةِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهِ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ مُسَلَّطٌ، وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَصَاحِبُهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَلَا تَسْلِيطَ فِي غَيْرِ.

وَكِيلًا بِالْبَيْعِ. وَهَذَا أَضَرُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ اقْتِرَاضِ الْمَالِ لِدَفْعِ الدَّيْنِ لِمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ تَحْقِيرِ شَأْنِهِ وَوَضْعِ قَدْرِهِ، فَالْوَجْهُ لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَقْوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ حِينَئِذٍ (وَلَا نَقُولُ إنَّهُ مُسَلَّطٌ) مِنْ جِهَتِهِ (وَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَلَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَهُ) مُشَاحَّةٌ لَفْظِيَّةٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مَنْ سَلَّطَهُ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ بِالرَّفْعِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِذَا مَنَعَ تَضَمُّنَ شَرْطِ الْخِيَارِ الْإِذْنُ بِلَا عِلْمِهِ لِلضَّرَرِ، فَكَانَ الْإِذْنُ مُقَيَّدًا بِعَدَمِ مَحَلِّ الضَّرَرِ وَهُوَ حَالُ الْعِلْمِ. فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَائِهِ فِي صُورَةِ التَّعَارُضِ وَعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي أُخْرَى لِتَقْصِيرِهِ مَنْ يَلْزَمُهُ، وَبِهَذَا أَجَابُوا عَنْ الْمُعَارَضَةِ الْقَائِلَةِ لَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بِالْفَتْحِ يَتَضَرَّرُ هُوَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَفِيَ صَاحِبُهُ فِي الْمُدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ، فَقَالُوا: هَذَا الضَّرَرُ إنَّمَا لَزِمَهُ مِنْ جَانِبِهِ بِتَقْصِيرِهِ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الضَّرَرَ بِالِاخْتِفَاءِ عَلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ لِعَجْزِهِ عَنْ إحْضَارِهِ لَا بِالِاخْتِفَاءِ فَفِي سِعَةِ فَضْلِ اللَّهِ التَّجَاوُزُ عَنْهُ. وَقِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَفِي؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ حَيْثُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِصَاحِبِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِلْزَامَ بِهَذَا الْفَرْعِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: جَاءَ إلَى بَابِ الْبَائِعِ لِيَرُدَّهُ فَاخْتَفَى فِيهِ فَطَلَبَ مِنْ الْقَاضِي خَصْمًا لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُنَصَّبُ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: لَا يُجِيبُهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ حَيْثُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ وَكِيلًا مَعَ احْتِمَالِ غِيبَتِهِ فَلَا يُنْظَرُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يُنَصِّبْ الْقَاضِي وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَاضِي الْإِعْذَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: وَفِي رِوَايَةٍ يُجِيبُهُ فَيَبْعَثُ مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى بَابِ الْبَائِعِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ: إنَّ خَصْمَك فُلَانًا يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ عَلَيْك، فَإِنْ حَضَرْت وَإِلَّا نَقَضْت الْبَيْعَ وَلَا يَنْقُضُ الْقَاضِي بِلَا إعْذَارٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يُجِيبُهُ إلَى الْإِعْذَارِ أَيْضًا، وَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ يَعْنِي عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَيْفَ يَصْنَعُ الْمُشْتَرِي؟ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَوْثِقَ فَيَأْخُذَ مِنْهُ وَكِيلًا ثِقَةً إذَا خَافَ الْغَيْبَةَ حَتَّى إذَا غَابَ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ: وَطَرِيقُ نَقْضِ الْقَاضِي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْخَصْمُ: إنِّي أَعْذَرْت إلَيْهِ وَأَشْهَدْت فَتَوَارَى فَيَقُولُ الْقَاضِي اشْهَدُوا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ أَعْذَرَ إلَى صَاحِبِهِ فِي الْمُدَّةِ كُلَّ يَوْمٍ وَاخْتَفَى، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ فَقَدْ أَبْطَلْت عَلَيْهِ الْخِيَارَ، فَإِنْ ظَهَرَ وَأَنْكَرَ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ بِالْخِيَارِ وَالْإِعْذَارِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَى غَائِبٍ وَلَا تُسْمَعُ حَالَ غَيْبَتِهِ لِلْحُكْمِ بِهَا عَلَيْهِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْمَسَائِلُ الْمُورَدَةُ نَقْضًا مُسَلَّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا عَلَى

ص: 316

مَا يَمْلِكُهُ الْمُسَلَّطُ، وَلَوْ كَانَ فَسَخَ فِي حَالِ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ وَبَلَغَهُ فِي الْمُدَّةِ تَمَّ الْفَسْخُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ، وَلَوْ بَلَغَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ تَمَّ الْعَقْدُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْفَسْخِ.

وَفْقِ مَا تَرَجَّحَ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، لَكِنَّا نُورِدُهَا بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ تَمَامِ الدَّلِيلِ: فَمِنْهَا أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ يَتِمُّ اخْتِيَارُهَا لِنَفْسِهَا بِلَا عِلْمِ زَوْجِهَا وَيَلْزَمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ لُزُومَ حُكْمِ الطَّلَاقِ عَلَى الزَّوْجِ بِإِيجَابِهِ نَفْسِهِ وَهُوَ تَخْيِيرُهُ وَهُوَ بَعْدَ الرِّضَا وَالْعِلْمِ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ إثْبَاتَ خِيَارِ الْفَسْخِ بِمَنْزِلَةِ إثْبَاتِ خِيَارِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِإِيجَابِهِ فَيَجُوزُ حَالَ غَيْبَتِهِ فَكَذَا الْفَسْخُ بِإِيجَابِهِ فَيَجُوزُ حَالَ غَيْبَتِهِ. وَمِنْهَا الرَّجْعَةُ يَنْفَرِدُ بِهَا الزَّوْجُ وَيَلْزَمُ حُكْمُهَا الْمَرْأَةَ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ثَلَاثِ حِيَضٍ فُسِخَ إذَا أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ قَبْلَهَا

أُجِيبَ بِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُلْزِمُهَا حُكْمًا جَدِيدًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ الْبَيْنُونَةَ عِنْدَ فَرَاغِ الْعِدَّةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الرَّجْعَةِ فَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَكْشِفَ شَرْطَ تَصَرُّفِهَا هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ أَوْ لَا. وَمِنْهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ بِلَا عِلْمِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا إسْقَاطَاتٌ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ مَنْ أُسْقِطَ عَنْهُ فَلَا يَتَوَقَّف عَلَى عِلْمِهِ. وَمِنْهَا خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ يَصِحُّ اخْتِيَارُهَا الْفُرْقَةَ بِلَا عِلْمِ زَوْجِهَا. أُجِيبَ لَا رِوَايَةَ فِيهَا. وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالتَّخْيِيرُ أَثْبَتَهُ لَهَا الشَّرْعُ مُطْلَقًا وَلَا الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّرْعِ أَثْبَتَ حُكْمَ التَّصَرُّفِ عَلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّرْعَ لَا يُوقِفُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ فِي حَقِّهِ. فَإِنْ قُلْت: فَمَا الضَّرَرُ الَّذِي يَلْزَمُهُ أَوَّلًا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى جَوَابِهِ؟ قُلْنَا: امْتِنَاعُهُ عَنْ تَزَوُّجِ أَمَةٍ بِنَاءً عَلَى قِيَامِ نِكَاحِ الَّتِي أُعْتِقَتْ. وَمِنْهَا خِيَارُ الْمَالِكِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ بِدُونِ عِلْمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. أُجِيبَ بِأَنَّ عَقْدَهُمَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ، فَإِذَا رُدَّ فَقَدْ بَقِيَ عَدَمُ شَرْطِ الثُّبُوتِ فَانْعَدَمَ أَصْلًا فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الِانْعِقَادُ حُكْمًا. وَمِنْهَا الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِتَطْلِيقِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ نَفَاذُ الطَّلَاقِ عَلَى عِلْمِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ الطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِإِزَالَةِ مِلْكٍ أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَإِنَّمَا تَلْزَمُ فِي ضِمْنِ الطَّلَاقِ وَالْعِبْرَةُ لِلْمُتَضَمِّنِ لَا لِلْمُتَضَمَّنِ، وَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَ جَوَازُ الْفَسْخِ لَهُ بِتَسَلُّطِ صَاحِبِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ. [فُرُوعٌ]

اشْتَرَيَا غُلَامًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا لَا رَدَّ لِلْآخَرِ عِنْدَهُ. وَقَالَا عِنْدَهُ. وَقَالَا لَهُ رَدُّ نَصِيبِهِ. وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدَيْنِ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِحُضُورِ الْمُشْتَرِي أَجَزْته ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي: فَسَخْته بِحُضُورِهِ انْفَسَخَ، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي سَقَطَ الثَّمَنُ، وَلَوْ بَدَأَ الْمُشْتَرِي بِالْفَسْخِ ثُمَّ الْبَائِعُ بِالْإِجَازَةِ ثُمَّ هَلَكَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ، وَلَوْ تَفَاسَخَا الْعَقْدَ ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الرَّدِّ يَبْطُلُ حُكْمُ الْفَسْخِ ذَكَرَهُ فِي الْمُجْتَبِي. وَفِي الْفَتَاوَى: بَاعَ أَرْضًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ نَقَضَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ تَبْقَى الْأَرْضُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي وَلِلْمُشْتَرِي حَبْسُهَا لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ الَّذِي كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ أَذِنَ الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فِي زِرَاعَتِهَا تَصِيرُ أَمَانَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَكَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مَتَى شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الثَّمَنَ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي حَبْسُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَرَعَهَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ صَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَهَا إلَى الْبَائِعِ، وَلَوْ مَرِضَ الْعَبْدُ وَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلَقِيَ الْبَائِعَ فَقَالَ لَهُ نَقَضْت الْبَيْعَ وَرَدَدْت الْعَبْدَ عَلَيْك فَلَمْ يَقْبَلْ الْبَائِعُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَبْدُ مَرِيضٌ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ، وَإِنْ صَحَّ فِيهَا فَلَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى مَضَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِذَلِكَ الرَّدِّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ. وَمَنْ بَاعَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَصَالَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَرَضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيُمْضِيَ

ص: 317

قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى وَرَثَتِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ. وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةً وَإِرَادَةً وَلَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ، وَالْإِرْثُ فِيمَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ.

الْبَيْعَ جَازَ وَطَابَ لَهُ إذْ حَاصِلُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيَحُطَّ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ يُعْطِيَهُ هَذَا الْعَرَضَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْمَبِيعِ أَوْ حَطٌّ مِنْ الثَّمَنِ؛ وَلَوْ أَمَرَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَبَاعَهُ مُطْلَقًا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَمَرَهُ مُطْلَقًا فَبَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْآمِرِ أَوْ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحَّ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ تَوْكِيلًا صَحِيحًا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ إلَّا أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى لَمْ يَنْفُذْ عَلَى الْآمِرِ يَنْفُذْ عَلَى الْمَأْمُورِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا نَفَذَ عَلَى الْعَاقِدِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَطَلَ خِيَارُهُ) بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا (وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى وَرَثَتِهِ) وَإِذَا بَطَلَ خِيَارُهُ يَلْزَمُ الْبَيْعُ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ دَخَلَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي دَخَلَ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ فِي التَّرِكَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ. وَقُيِّدَ بِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ الْعَاقِدُ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ فَالْآخَرُ عَلَى خِيَارِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أَمْضَى مَضَى وَإِنْ فَسَخَ انْفَسَخَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُورَثُ عَنْهُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ عَلَى مَا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ الْمَشْهُورَةِ (؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْخِيَارُ (حَقٌّ) لِلْإِنْسَانِ (لَازِمٌ) حَتَّى إنَّ صَاحِبَهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ (فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ) فَإِنَّهُمَا يُورَثَانِ بِالِاتِّفَاقِ (وَلَنَا أَنَّ الْخِيَار لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةً وَإِرَادَةً فَلَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ)؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ شَخْصِيٌّ لَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ (وَالْإِرْثُ فِيمَا) يُمْكِنُ (فِيهِ الِانْتِقَالُ) وَهُوَ الْأَعْيَانُ، وَلَفْظُ مَشِيئَةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ، وَمَا فِي الشُّرُوحِ مِنْ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْخَبَرِ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الْخِيَارَ لَيْسَ شَيْئًا إلَّا مَشِيئَةً مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَعْمُولُ غَيْرَ مَا فَرَغَ الْعَامِلُ لَهُ وَيُجْعَلَ مَا بَعْدَ إلَّا بَدَلَهُ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُفَرَّغَ لَهُ هُوَ الْمَعْمُولُ، فَفِي مَا قَامَ إلَّا زَيْدٌ زَيْدٌ فَاعِلٌ، بِخِلَافِ مَا قَاسُوا

ص: 318

بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعِ سَلِيمًا فَكَذَا الْوَارِثُ، فَأَمَّا نَفْسُ الْخِيَارِ لَا يُوَرَّثُ، وَأَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لِاخْتِلَاطِ مِلْكِهِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا أَنْ يُوَرَّثَ الْخِيَارُ.

عَلَيْهِ مِنْ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ فِيهِ لِلْعَيْنِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ الْجُزْءُ الْمُسْتَحَقُّ، فَإِذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ تَمَامُ الْأَجْزَاءِ وَبَعْضُهَا مُحْتَبَسٌ عِنْدَ إنْسَانٍ كَأَنْ يَخْتَارَ أَنْ يَتْرُكَ حَقَّهُ أَوْ يَطْلُبَهُ وَهَذَا مَعْنَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْعَيْبِ غَيْرَ أَنَّ طَلَبَهُ لَا يُمْكِنُ شَرْعًا إلَّا بِرَدِّ الْكُلِّ. وَأَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ فَجَعَلَهُ أَصْلًا آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ خِيَارَ التَّعْيِينِ فَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ إلْزَامًا لَنَا.

وَجَوَابُهُ كَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْرُوثَ هُوَ أَحَدُ الْعَيْنَيْنِ الْمُخَيَّرِ فِي تَعْيِينِهِ فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ ذَلِكَ وَلَازِمُهُ اخْتِلَاطُ الْمِلْكَيْنِ فَصَارَ كَمَا إذَا وَرِثَ مَالًا مُشْتَرَكًا فَيَثْبُتُ حُكْمُ ذَلِكَ، وَهُوَ وُجُوبُ التَّعْيِينِ وَالْإِفْرَازِ، وَهُوَ مَعْنَى الْخِيَارِ، فَجَاءَ الْخِيَارُ لَازِمًا لِلْعَيْنِ الْمَوْرُوثَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ضِمْنًا لَا قَصْدًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيمَا فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ مَلْزُومًا لِلْخِيَارِ لِيَنْتَقِلَ إلَى الْوَارِثِ بِمَا فِيهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُورَثُ، وَوَجْهُهُ قَوِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَيُقَالُ: عَلَى أَصْلِ الدَّلِيلِ قَوْلُكُمْ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُ الْوَصْفِ إنْ أَرَدْت حَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ مُرَادَنَا بِالِانْتِقَالِ أَنْ يَثْبُتَ لِلْوَارِثِ شَرْعًا مِلْكٌ خَلْفَ مِلْكِ الْمَيِّتِ أَوْ اسْتِحْقَاقَهُ لَا عَيْنُ ذَلِكَ الْمِلْكِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ الْمُقَيَّدُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَيْسَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: ثُبُوتُ ذَلِكَ شَرْعًا فِي أَمْلَاكِ الْأَعْيَانِ مَعْلُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ عَنْ الشَّرْعِ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْحُقُوقِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَلَمْ يُوجَدْ، وَنَفْيُ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ يَكْفِي لِنَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ قَالُوا: بَلْ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ» قُلْنَا: الثَّابِتُ قَوْلُهُ مَالًا فِي الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْأُخْرَى فَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَنَا وَمَا لَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَتِمَّ بِهِ الدَّلِيلُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَنْتَقِلُ فِي ضِمْنِ انْتِقَالِ الْعَيْنِ فَيُعَدُّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِرْثِ انْتِقَالًا لِنَفْسِ ذَاتِ الْعَيْنِ وَالْمِلْكُ يَتْبَعُهَا بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ انْتِقَالِهَا إنَّمَا هُوَ فِي الْمَكَانِ فَآلَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ انْتِقَالُ مِلْكِهَا لَيْسَ غَيْرُ، ثُمَّ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ انْتَقَلَ مِلْكُهَا بِمَا يَنْفِي كُلَّ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْمُحَاوَرَاتِ الْمَكْتُوبَةِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ. هَذَا وَيَلْزَمُهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ أَنْ يُورَثَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُمْ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ عَدَمُهُ. ثُمَّ نَقُولُ: مُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَدَمُ انْتِقَالِ الْخِيَارِ إلَى الْوَرَثَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُورَثَ فَإِنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْعَيْنِ فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ عَيْنٌ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فِيهَا خِيَارٌ أَنْ يَفْسَخَ كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ بِعَيْنِهِ، وَفِي خِيَارِ

ص: 319

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَأَيُّهُمَا أَجَازَ الْخِيَارَ وَأَيُّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مَوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِهِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي.

الْبَائِعِ يَنْتَقِلُ الثَّمَنُ مَمْلُوكًا لَهُمْ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ) يَعْنِي لِغَيْرِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَاقِدًا وَإِلَّا فَغَيْرُهُ يَصْدُقُ عَلَى الْبَائِعِ (فَأَيُّهُمَا أَجَازَ) مِنْ الشَّارِطِ الْعَاقِدِ أَوْ الْمَشْرُوطِ لَهُ الَّذِي هُوَ غَيْرُهُ (جَازَ، وَأَيُّهُمَا نَقَضَ) الْبَيْعَ (انْتَقَضَ) فَلَفْظُ مَنْ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَهِيَ " أَيُّهُمَا أَجَازَ " خَبَرُهُ، وَإِذَا تَضَمَّنَ الْمُبْتَدَأُ مَعْنَى الشَّرْطِ جَازَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ نَحْوُ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ (وَأَصْلُ هَذَا) أَيْ جَوَازُ اشْتِرَاطِهِ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ (أَنَّ جَوَازَهُ اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ) وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ فِي ثُبُوتِهِ لِلْعَاقِدِ مَعَ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَجْهَيْنِ: وَفِي وَجْهٍ يَثْبُتُ لَهُمَا، وَفِي وَجْهٍ يَثْبُتُ لِلْغَيْرِ وَحْدَهُ. وَعَلَى قَوْلِهِ الْمُوَافِقِ لِقَوْلِ زُفَرَ فِيهِ وَجْهَانِ وَفِي وَجْهٍ يُفْسَخُ الْبَيْعُ، وَفِي وَجْهٍ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَجْهُ (قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مُوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي) وَاشْتِرَاطُ مِلْكِ الْمَبِيعِ لِغَيْرِ الْمُشْتَرِي، وَاشْتِرَاطُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوْ الْمَبِيعِ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ وَانْبِرَامِهِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ وَالْبَيْعُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَقِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَمَسُّ إلَى اشْتِرَاطِهِ لِلْغَيْرِ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِاسْتِخْلَاصِ الرَّأْيِ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ قُصُورَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ غَيْرَ وَاثِقٍ بِهَا فِي ذَلِكَ بَلْ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْلَمُ حَزْمَهُ وَجَوْدَةَ رَأْيِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْقِيَمِ وَأَحْوَالِ الْبِيَاعَاتِ، فَيَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لَهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ، وَأَجْنَبِيَّتُهُ عَنْ الْعَقْدِ إنَّمَا تَمْنَعُ إنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ مَانِعِيَّتِهِ لَوْ أَجَزْنَاهُ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا، لَكِنَّا

ص: 320

وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْعَاقِدِ فَيُقَدَّرُ الْخِيَارُ لَهُ اقْتِضَاءً ثُمَّ يُجْعَلُ هُوَ نَائِبًا عَنْهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ، فَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ، وَأَيُّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ (وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ يُعْتَبَرُ السَّابِقُ) لِوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مِنْهُمَا مَعًا يُعْتَبَرُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ فِي رِوَايَةٍ وَتَصَرُّفُ الْفَاسِخِ فِي أُخْرَى. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِدِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ.

لَمْ نَعْتَبِرْهُ إلَّا تَبَعًا لِثُبُوتِ الِاشْتِرَاطِ لِلْعَاقِدِ فَيَثْبُتُ اشْتِرَاطُهُ لِنَفْسِهِ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ فَيَثْبُتُ لَهُمَا. وَاسْتُشْكِلَ بِاسْتِلْزَامِهِ ثُبُوتَ مَا هُوَ الْأَصْلُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، وَالثَّابِتُ بِهِ إنَّمَا هُوَ يَكُونُ تَبَعًا. قُلْنَا: الْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّبَعِيَّةُ، وَالْأَصَالَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُجُودِ، فَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي قَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ إنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ، فَكَانَ التَّمَلُّكُ مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ تَبَعًا لِقَصْدِهِ لِيَصِحَّ الْعِتْقُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُجُودِ فَكَذَا هُنَا الْمَقْصُودُ أَوَّلًا بِالذَّاتِ لَيْسَ إلَّا الِاشْتِرَاطُ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْعَاقِدِ بِالْفَرْضِ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ لِلْعَاقِدِ تَبَعًا لِلْمَقْصُودِ لِيَصِحَّ الْمَقْصُودُ بِهِ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ وَاقِعًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الِاقْتِضَاءِ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا حَاجَةَ فِي جَوَابِهِ إلَى تَكَلُّفٍ زَائِدٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَجُرْ اشْتِرَاطُ الثَّمَنِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَتَثْبُتُ كَفَالَتُهُ اقْتِضَاءً كَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهُ وَيَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ اقْتِضَاءً؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ عَلَى الْعَاقِدِ، وَالْكَفَالَةُ لَيْسَ فِيهَا نَقْلُ الدَّيْنِ عَلَى الْكَفِيلِ، فَلَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ اقْتِضَاءً لِاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَبْطَلْت الْمُقْتَضَى وَهُوَ اشْتِرَاطُهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي بِهِ ثُبُوتَهُ عَلَى الْمُشْتَرَطِ عَلَيْهِ عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ عَلَى الْعَاقِدِ. نَعَمْ لَوْ كَفَّلَهُ كَفَالَةً صَرِيحَةً بِالثَّمَنِ الدَّيْنُ صَحَّ (وَعِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ صَيْرُورَةِ الْخِيَارِ لَهُمَا (وَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارُ، فَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ وَأَيُّهُمَا نَقَضَ) الْبَيْعَ (انْتَقَضَ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ يُعْتَبَرُ السَّابِقُ لِوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا يُعْتَبَرُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ فِي رِوَايَةِ) كِتَابِ الْبُيُوعِ نَقَضَ أَوْ أَجَازَ (وَالتَّصَرُّفُ) وَاَلَّذِي هُوَ (الْفَسْخُ فِي أُخْرَى) هِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعَاقِدِ أَوْ وَكِيلِهِ الْأَجْنَبِيِّ (وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِدِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ)

ص: 321

وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْفَسْخَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَالْمَفْسُوخُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَلَمَّا مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ رَجَّحْنَا بِحَالِ التَّصَرُّفِ. وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَاسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ مِمَّا إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلٍ وَالْمُوَكَّلُ مِنْ غَيْرِهِ مَعًا؛ فَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُوَكَّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُهُمَا.

وَالتَّصَرُّفُ الصَّادِرُ عَنْ أَصَالَةٍ أَقْوَى مِنْ التَّصَرُّفِ الصَّادِرِ عَنْ نِيَابَةٍ. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا آخَرَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَاهَا مَعًا فَالْوَاقِعُ طَلَاقُ أَحَدِهِمَا لَا طَلَاقُ الْمُوَكِّلِ عَيْنًا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَجَّحُ الْأَصِيلَ تَعَيَّنَ طَلَاقُهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الطَّلَاقِ سَفِيرٌ كَالْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ عِبَارَتَهُ فَالصَّادِرُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَيْنُ الصَّادِرِ مِنْ الْآخَرِ (وَجْهُ الثَّانِي أَنْ) لَا تَرْجِيحَ بِكَوْنِهِ أَصِيلًا أَوْ وَكِيلًا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بَعْدَمَا اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ مِثْلَهُ فَاسْتَوَيَا ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِنَفْسِ التَّصَرُّفِ، وَ (الْفَسْخُ أَقْوَى)؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ الْمَجَازَ فَيُبْطِلُهُ وَالْإِجَازَةُ لَا تَلْحَقُ الْمَفْسُوخَ فَتُبْرِمُهُ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ ثُمَّ قَالُوا (الْأَوَّلُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَاسْتُخْرِجَ) هَذَا التَّرْجِيحُ مِنْ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَا فِيهَا هِيَ مَا إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَ الْمُوَكِّلُ مِنْ رَجُلٍ وَالْوَكِيلُ مِنْ آخَرَ؛ فَمُحَمَّدٌ جَعَلَ الْبَيْعَ مِمَّنْ بَاعَ مِنْهُ الْمُوَكِّلُ تَرْجِيحًا لِتَصَرُّفِهِ لِلْأَصَالَةِ (وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُهُمَا) عَلَى السَّوَاءِ فَيَجْعَلُ الْعَبْدَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَيُخَيَّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ وَعَيْبِ الشَّرِكَةِ. وَقِيلَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ فِي النِّصْفِ

ص: 322

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَإِنْ بَاعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ جَازَ الْبَيْعُ) وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ لَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَلَا يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ وَفَسَادُهُ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ كَالْخَارِجِ عَنْ الْعَقْدِ، إذْ الْعَقْدُ مَعَ الْخِيَارِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَبَقِيَ الدَّاخِلُ فِيهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَيُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ،

وَيَنْفَسِخُ فِي النِّصْفِ: أَيْ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ لَكِنْ يَتَخَيَّرُ صَاحِبُهُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَخْ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ) فِي ثَلَاثَةٍ الْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَفِي وَاحِدَةٍ صَحِيحٌ (أَحَدُهَا أَنْ لَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَلَا يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ) وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ (وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) الْمَذْكُورُ (فِي الْكِتَابِ) وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْبِدَايَةَ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ شَرْحُهَا (وَفَسَادُهَا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ) جَمِيعًا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ فِيهِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ كَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ، ثُمَّ ثَمَنُ الْمَبِيعِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَنْقَسِمُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْأَجْزَاءِ. وَثَانِيهَا، وَهُوَ الْوَجْهُ الْجَائِزُ أَنْ يُعَيِّنَ كُلًّا بِأَنْ يَقُولَ بِعْتُك كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي هَذَا لِانْتِفَاءِ الْمُفْسِدِ مِنْ جَهَالَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ انْتَفَى مُفْسِدُ الْجَهَالَةِ فَقَدْ يَتَحَقَّقُ مُفْسِدٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ، وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ شَرْطًا لِانْعِقَادِهِ فِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الْخِيَارُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ أَجَابَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ

ص: 323

وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُكْسِدٍ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ.

وَالثَّالِثُ أَنْ يُفَصِّلَ وَلَا يُعَيِّنَ. وَالرَّابِعُ أَنْ يُعَيِّنَ وَلَا يُفَصِّلَ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ: إمَّا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ.

بَعْدَ الْإِشَارَةِ إلَى السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ (وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ لَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ) أَيْ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ (مَحَلًّا لِلْبَيْعِ) فَهُوَ (كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ) وَبَاعَهُمَا بِأَلْفٍ حَيْثُ يَنْفُذُ الْبَيْعُ فِي الْقِنِّ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي الْمُدَبَّرِ شَرْطًا فِيهِ وَذَلِكَ لِدُخُولِ الْمُدَبَّرِ فِي الْبَيْعِ لِمَحَلِّيَّتِهِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَ فَكَانَ الْقَبُولُ شَرْطًا صَحِيحًا، بِخِلَافِ مَا شُبِّهَ بِهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِحَالٍ فَكَانَ اشْتِرَاطُ قَبُولِهِ اشْتِرَاطَ شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ فِي الْبَيْعِ خِلَافٌ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَثَالِثُهَا يُفَصِّلُ وَلَمْ يُعَيِّنْ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ كَأَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُك كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا فَفَسَادُهُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ بِسَبَبِ جَهَالَةِ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ وَرَابِعُهَا أَنْ يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَلَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَيْنِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي هَذَا وَالْفَسَادُ فِيهِ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِتَعَيُّنِ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ إلَّا أَنَّ ثَمَنَهُ مَجْهُولٌ لِمَا قُلْنَا إنَّ الثَّمَنَ لَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ. فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ فِيهِ الثَّمَنُ وَبَيْنَ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدَيْنِ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ جَارِيَتَيْنِ فَإِذَا إحْدَاهُمَا أُمُّ وَلَدٍ حَيْثُ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْقِنِّ بِحِصَّتِهِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ مَعَ أَنَّ ثَمَنَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَجْهُولُ الْكَمْيَّةِ حَالَ الْعَقْدِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ بِالْحِصَّةِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْفَرْقِ وَقَالَ: قِيَاسُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ فِي الْقِنِّ وَيَصِيرُ مَا ذُكِرَ هُنَا رِوَايَةً فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَغَلَ بِالْفَرْقِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ هُنَا مُقْتَرِنٌ بِالْعَقْدِ لَفْظًا وَمَعْنًى،

ص: 324

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ بِعَشْرَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَا الثَّلَاثَةُ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَثْوَابٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ شَرْعَ الْخِيَارِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ لِيَخْتَارَ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ وَالْأَوْفَقُ، وَالْحَاجَةُ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ اخْتِيَارِ مَنْ يَشْتَرِيهِ لِأَجْلِهِ،

فَأَثَّرَ الْفَسَادَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ فِي الْمَشْرُوطِ فِيهِ فَيَكُونُ كَالْمَعْدُومِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فِيهِ ابْتِدَاءً فَيَنْعَقِدُ فِي الْآخَرِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ الْمَانِعَ مُقْتَرِنٌ فِيهَا مَعْنًى لَا لَفْظًا فَيَدْخُلُ الْمُدَبَّرُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَحَلِّيَّتِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ بِنَاءً عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ حُكْمُ قَاضٍ يُسْقِطُهُ، وَعَلَى مَا ذُكِرَ هُنَا يَتَفَرَّعُ مَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: بَاعَ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهِمَا وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى إجَازَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي الْبَاقِي بِالْحِصَّةِ؛ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقَضْت الْبَيْعَ فِي هَذَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ لَغْوًا كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَخِيَارُهُ فِيهِمَا بَاقٍ، كَمَا كَانَ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا وَاحِدًا أَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَنَقَضَ الْبَيْعَ فِي نِصْفِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ إلَخْ) الْمُرَادُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَ ثَوْبَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً غَيْرَ مُعَيِّنٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ، وَهَذَا خِيَارُ التَّعْيِينِ: يَعْنِي أَيَّ الثَّوْبَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ شَاءَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِيمَا يُعَيِّنُهُ بَعْدَ تَعْيِينِهِ لِلْمَبِيعِ. أَمَّا إذَا قَالَ بِعْتُك عَبْدًا مِنْ هَذَيْنِ بِمِائَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ فِي أَيِّهِمَا شِئْت لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا كَقَوْلِهِ بِعْتُك عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدٌ أَرْبَعَةً لَا يَجُوزُ (وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ) فِي أَحَدِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ كَمَا يَفْسُدُ فِي الْأَرْبَعَةِ (وَهُوَ) أَيْ الْقِيَاسُ (قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ شَرْعَ الْخِيَارِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْحَاجَةِ إلَى رَفْعِ الْغَبْنِ لِيَخْتَارَ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ وَالْأَوْفَقُ، وَالْحَاجَةُ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ) قَدْ (يَحْتَاجُ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ) فِي اخْتِيَارِ الْمَبِيعَاتِ وَهُوَ لَيْسَ بِحَاضِرٍ وَلَيْسَ يَحْضُرُ لِعُلُوِّهِ أَوْ لِتَحَجُّبِهَا خُصُوصًا إذَا كَانَتْ أَهْلَهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا تَلِجُ

ص: 325

وَلَا يُمَكِّنُهُ الْبَائِعُ مِنْ الْحَمْلِ إلَيْهِ إلَّا بِالْبَيْعِ فَكَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالثَّلَاثِ لِوُجُودِ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ فِيهَا، وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الثَّلَاثِ لِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِ، إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهَا غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ وَالرُّخْصَةُ ثُبُوتُهَا بِالْحَاجَةِ وَكَوْنُ الْجَهَالَةِ غَيْرَ مُفْضِيَةٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا تَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا. ثُمَّ قِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْعَقْدِ خِيَارُ الشَّرْطِ مَعَ خِيَارِ التَّعْيِينِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

(وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ)، فَيَكُونُ ذِكْرُهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ وِفَاقًا لَا شَرْطًا؛ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ بِالثَّلَاثِ عِنْدَهُ وَبِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَيَّتُهَا كَانَتْ عِنْدَهُمَا.

الْأَسْوَاقَ وَتُمَارِسُ الرِّجَالَ لِشِرَاءِ حَاجَتِهَا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْعَدَدَ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ لِيَخْتَارَ الْأَوْفَقَ (وَلَا يُمَكِّنُهُ الْبَائِعُ مِنْ حَمْلِهِ إلَيْهِ إلَّا مَبِيعًا فَكَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ) فَيَجُوزُ (غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِالثَّلَاثِ لِتَحَقُّقِ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَالْوَسَطِ فِيهَا) فَيَنْدَفِع بِحَمْلِ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَلَا تُشْرَعُ الرُّخْصَةُ فِي الزَّائِدِ؛ لِأَنَّ شَرْعَ الرُّخْصَةِ لِلْحَاجَةِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ) جَوَابٌ عَنْ تَعْلِيلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ بِهَا، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ جَوَازَ هَذَا الْبَيْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى اخْتِيَارِ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ وَالْأَوْفَقُ لِمَنْ يَقَعُ الشِّرَاءِ لَهُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ بَلْ يَخْتَصُّ خِيَارُ التَّعْيِينِ بِالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى اخْتِيَارِ الْأَوْفَقِ وَالْأَرْفَقِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَهُوَ أَدْرَى بِمَا لَاءَمَهُ مِنْهُ فَيُرَدُّ جَانِبُ الْبَائِعِ إلَى الْقِيَاسِ؛ فَلِهَذَا نَصَّ فِي الْمُجَرَّدِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ يَجُوزُ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي فَيَجُوزُ مَعَ خِيَارِ الْبَائِعِ قِيَاسًا عَلَى الشَّرْطِ، وَأَنْتَ عَرَفْت الْفَرْقَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ هَلْ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ أَعْنِي الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الصُّورَةِ. قِيلَ نَعَمْ كَمَا (هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) تَصْوِيرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَنَسَبَهُ قَاضِي خَانْ إلَى أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: فِي جَامِعِهِ هُوَ الصَّحِيحُ (وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ) وَغَيْرِهِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ الصُّورَةِ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَيْدًا، وَصَحَّحَهُ

ص: 326

ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ، وَالْأَوَّلُ تَجَوُّزٌ وَاسْتِعَارَةٌ.

فَخْرُ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُجَاعٍ. وَجْهُ الِاشْتِرَاطِ وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ هَذَا الْعَقْدِ لِجَهَالَةِ وَقْتِ الْمَبِيعِ وَقْتَ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا جَازَ اسْتِحْسَانًا بِمَوْضِعِ السُّنَّةِ وَهُوَ شَرْطُ الْخِيَارِ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِهِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ شَرْطَ الْإِلْحَاقِ بِالدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ الصُّورَةِ الْمُلْحَقَةِ الصُّورَةُ الثَّابِتَةُ بِالْعِبَارَةِ، وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْبَيْعُ بِخِيَارِ النَّقْدِ إلَّا فِي بَيْعِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ مِمَّا أُثْبِتَ بِدَلَالَةِ نَصِّ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَا يُعْلَمُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمَا إنْ تَرَاضَيَا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ مَعَ خِيَارِ التَّعْيِينِ ثَبَتَ حُكْمُهُ، وَهُوَ جَوَازُ أَنْ يَرُدَّ كُلًّا مِنْ الثَّوْبَيْنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ بَعْدَ تَعْيِينِ الثَّوْبِ الَّذِي فِيهِ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ التَّعْيِينِ فِي هَذَا الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ أَنَّهُ عَيْنُ الْمَبِيعِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ لَا أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَلَوْ رَدَّ أَحَدَهُمَا كَانَ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ وَيَثْبُتُ الْبَيْعُ فِي الْآخَرِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَلَوْ مَضَتْ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ رَدِّ شَيْءٍ وَتَعْيِينِهِ بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَانْبَرَمَ الْبَيْعُ فِي أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَيِّنَ

وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الثَّلَاثَةِ تَمَّ بَيْعُ أَحَدِهِمَا وَعَلَى الْوَارِثِ التَّعْيِينُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ وَالتَّعْيِينُ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ لِيُمَيِّزَ مِلْكَهُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ وَلِهَذَا لَا يُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ الْمُخْتَلِطِ مَالُهُ بِمَالِ غَيْرِهِ، فَمَا لَمْ يَطْلُبْ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ وَلَا يَفُوتُ وَقْتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ مَعَهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ بِالثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُهُ، وَعِنْدَهُمَا أَيُّ مُدَّةٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهَا بَعْدَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ حَتَّى انْبَرَمَ فِي أَحَدِهِمَا وَلَزِمَ التَّعْيِينُ أَنْ يَتَقَيَّدَ التَّعْيِينُ بِثَلَاثَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ مُؤَقَّتٌ بِالثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِهَا عِنْدَهُمَا وَخِيَارُ التَّمْيِيزِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ قَصَرَ الْمُدَّةَ

ص: 327

وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالتَّعَيُّبِ، وَلَوْ هَلَكَا جَمِيعًا مَعًا يَلْزَمُهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالْأَمَانَةِ فِيهِمَا.

عَلَى الثَّلَاثِ فِي خِيَارِ النَّقْدِ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ وَلَمْ يُقْصِرْ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ عَلَيْهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي خِيَارِ النَّقْدِ تَعَلُّقًا صَرِيحًا بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ الْوَارِدُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَارِدًا فِيهِ بِخِلَافِ خِيَارِ التَّعْيِينِ لَيْسَ فِي صَرِيحِ التَّعْلِيقِ فَكَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ أَخْذَهُ فِي خِيَارِ النَّقْدِ فِي الثَّلَاثَةِ بِأَثَرٍ لِابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَنَفْيُ الزَّائِدِ بِالْقِيَاسِ، وَأَثَرُ ابْنِ عُمَرَ نَقَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى ابْنِ الْبَرْصَاءِ قَالَ: بِعْت مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا، فَأَجَازَ ابْنُ عُمَرَ هَذَا الْبَيْعَ.

وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَابِقُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي مَسْأَلَةِ خِيَارِ النَّقْدِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ فَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ، وَفِي هَذَا بِالْقِيَاسِ (قَوْلُهُ وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالتَّعَيُّبِ) عَلَّلَهُ الْمُصَنِّفُ بِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالتَّعْيِيبِ فَيُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُمَا لِامْتِنَاعِ رَدِّهِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ عِنْدَهُ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْهَلَاكَ لَا يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ، فَلَوْ هَلَكَ الْآخَرُ بَعْدَهُ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ أَنَّهُ أَمَانَةٌ، أَمَّا لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ تَعَيَّبَ فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ (وَلَوْ هَلَكَا مَعًا) بَعْدَ الْقَبْضِ (لَزِمَهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالْأَمَانَةِ) فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ الْمَبِيعَ مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَا إذَا هَلَكَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَلَمْ يُدْرَ السَّابِقُ مِنْهُمَا. وَأَثَرُ هَذَا إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَ ثَمَنُهُمَا مُتَفَاوِتَ الْكَمْيَّةِ، فَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فَلَا، وَكَذَا إذَا هَلَكَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَاخْتَلَفَا فِي الْهَالِكِ أَوَّلًا فَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ أَكْثَرُهُمَا ثَمَنًا وَقَالَ الْمُشْتَرِي الْأَقَلُّ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا يَتَحَالَفَانِ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ، وَإِنْ حَلَفَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا مَعًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَيُّهُمَا بُيِّنَ قُبِلَ، فَإِنْ أَقَامَاهَا قُضِيَ بِبَيِّنَةِ الْبَائِعِ لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ، وَلَوْ تَعَيَّبَا مَعًا بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ رَدُّهُمَا وَخِيَارُ التَّعْيِينِ عَلَى حَالِهِ فَيُمْسِكُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِثَمَنِهِ وَيَرُدُّ الْآخَرَ، وَلَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ عَيْبِ الْمَرْدُودِ شَيْئًا اسْتِحْسَانًا

ص: 328

وَلَوْ كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُ أَنْ يَرَهُمَا جَمِيعًا.

وَلَوْ مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ خِيَارُ التَّعْيِينِ لِلِاخْتِلَاطِ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ. وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

لِأَنَّ الْمَعِيبَ مَحَلٌّ لِابْتِدَاءِ الْبَيْعِ أَيْضًا، بِخِلَافِ الْهَالِكِ لَيْسَ مَحَلًّا لِابْتِدَائِهِ فَلَيْسَ مَحَلًّا لِتَعْيِينِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَقَبَضَهُمَا فَأَحَدُهُمَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ، وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ ثَمَنِ كُلٍّ. فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ يَتَعَيَّنُ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ دُونَ الْأَمَانَةِ وَأَحَدُهُمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ مَبِيعٌ كَمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ أَمَانَةٌ وَامْتِنَاعُ الرَّدِّ لِلْعَيْبِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فَرْعُ اعْتِبَارٍ أَنَّهُ هُوَ الْمَبِيعُ وَفِيهِ التَّحَكُّمُ. إذْ اعْتِبَارُ أَنَّهُ الْمَبِيعُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ الْأَمَانَةَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ اعْتِبَارَهُ الْمَبِيعَ عَمَلٌ بِالدَّلِيلِ الْحَادِثِ وَهُوَ الْبَيْعُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي مُخْتَلِفَاتِهِ. وَأَمَّا عَدَمُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ فَبِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَضْمَنُ الْآخَرُ إذَا هَلَكَ ثَانِيًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ؟ الْجَوَابُ بِمَنْعِ أَنَّهُ كَتِلْكَ بَلْ الْمَقْبُوضُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حَقِيقَةِ الشِّرَاءِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لَا يُنْجَزُ فِيهِ عَقْدٌ بَلْ تَعَيُّنُ الثَّمَنِ فَقَطْ وَهُنَا تُنْجَزُ تَمَامُ الْعَقْدِ فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ قَبْضَ الْعَيْنَيْنِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ مَبِيعًا وَأَحَدَهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ أَمَانَةً، فَإِذَا فُرِضَ وُجُودِ مَا يُعَيِّنُ الْمَبِيعَ مِنْهُمَا مِنْ الْأَسْبَاب تُعِيِّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِأَيِّ شَيْءٍ انْعَكَسَ حُكْمُ طَلَاقِ إحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ وَعِتْقُ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ هُنَا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الْبَاقِي لَا الْهَالِكُ وَهُنَا يَتَعَيَّنُ الْهَالِكُ لِلْبَيْعِ؟ أَجَابَ عَلِيٌّ الْقُمِّيُّ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ تَعَيَّنَ الْبَاقِي بِالضَّرُورَةِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِذَا هَلَكَ الْعَبْدُ هُنَا عَلَى مِلْكِهِ تَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلْأَمَانَةِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ حَقِيقَةَ السُّؤَالِ أَنَّهُ لِأَيِّ شَيْءٍ جُعِلَ الْهَالِكُ هُنَا هُوَ الْمَحَلُّ لِلتَّصَرُّفِ دُونَ الْبَاقِي، وَهُنَاكَ جُعِلَ الْمَحَلُّ لِلتَّصَرُّفِ الْبَاقِي دُونَ الْهَالِكِ مَعَ التَّصَرُّفِ فِي الْكُلِّ فِي الْأَحَدِ الدَّائِرِ بَيْنَ الْمُعَيَّنَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ هُنَا لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلرَّدِّ بِالْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ الْمُخْتَلِفَاتِ فَتَعَيَّنَ الْعَقْدُ فِيهِ بِتَعَيُّنِ الْبَاقِي لِلضَّرُورَةِ، وَحِينَ أَشْرَفَتْ الزَّوْجَةُ وَالْعَبْدُ عَلَى الْهَلَاكِ لَمْ يَخْرُجَا عَنْ كَوْنِهِمَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، هُوَ التَّصَرُّفُ فَتَعَيَّنَ الْبَاقِي لَهُمَا ضَرُورَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَشْرَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

ص: 329

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَبِيعَتْ دَارٌ أُخْرَى بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ رِضًا)؛ لِأَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ الْمِلْكَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ إلَّا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ وَذَلِكَ بِالِاسْتِدَامَةِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ الْخِيَارِ سَابِقًا عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِوَارَ كَانَ ثَابِتًا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً.

فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ رَدُّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُمَا جَمِيعًا حَتَّى مَلَكَ إتْمَامَ الْعَقْدِ فِيهِمَا، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ أَحَدِهِمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّ الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَهُنَا الْعَقْدُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا حَتَّى لَا يَمْلِكَ إتْمَامَ الْعَقْدِ فِيهِمَا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَهُمَا (فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ رِضًا) بِالْبَيْعِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى دَارًا بِالْخِيَارِ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ بِهَا فِيمَا يُبَاعُ بِجَنْبِهَا؛ لِأَنَّ لَهُ الْإِجَازَةَ وَالرِّضَا وَالشُّفْعَةُ بِهَا رِضًا بِهَا؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ لِلْمِلْكِ فِيمَا يُشْفَعُ بِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الشَّأْنُ (مَا ثَبَتَتْ) الشُّفْعَةُ (إلَّا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ وَذَلِكَ) أَيْ ضَرَرُ الْجِوَارِ يَحْصُلُ (بِاسْتِدَامَةِ) الْمِلْكِ فَحَيْثُ شَفَعَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ لِلْمِلْكِ (فَيَتَضَمَّنُ سُقُوطَ الْخِيَارِ سَابِقًا عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْمَلِكُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِوَارَ كَانَ ثَابِتًا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً)؛ لِأَنَّهُ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لَا يَدْخُلُ

ص: 330

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ خِيَارُ الْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ، لَهُمَا أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ. وَلَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ غَيْرَ مَعِيبِ الشَّرِكَةِ، فَلَوْ رَدَّهُ أَحَدُهُمَا رَدَّهُ مَعِيبًا بِهِ وَفِيهِ إلْزَامُ ضَرَرٍ زَائِدٍ،

فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَشْفَعُ بِهَا، وَقَدْ قَالَ يَشْفَعُ بِهَا فَاحْتَاجَ إلَى جَعْلِهِ فِعْلًا يُفِيدُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فَيَنْبَرِمُ الْبَيْعُ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ عَقْدِ الْخِيَارِ فَيَكُونُ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ مَا فِيهِ الشُّفْعَةُ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا حَاجَةَ؛ لِأَنَّهُمَا قَائِلَانِ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ مَلَكَهَا فَتَتَّجِهُ لَهُ الشُّفْعَةُ بِهَا. وَالْوَجْهُ أَنَّهُمَا أَيْضًا يَحْتَاجَانِ إلَى زِيَادَةٍ ضِمْنِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا عِنْدَهُمَا فَلَهُ رَفْعُهُ فَهُوَ مُزَلْزَلٌ وَالشُّفْعَةُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُسْتَمِرِّ، فَحِينَ شَفَعَ دَلَّ عَلَى قَصْدِهِ اسْتِبْقَاءَ الْمِلْكِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ فَلَا يُفْسَخُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِي الْمَبْسُوطِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَدَمُ هَذَا التَّقْرِيرِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَذَلِكَ يَكْفِيهِ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهَا كَالْمَأْذُونِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ وَالْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ الشُّفْعَةَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا رَقَبَةَ الدَّارِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَاكَ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ كَالْوَكِيلِ عَنْ السَّيِّدِ فِي الْحَالِ كَانَ حَسَنًا وَرَجَعَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ، وَهَذَا وَلَوْ كَانَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ إلَى جَانِبِهَا، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ حَتَّى إذَا رَآهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَمَا شَفَعَ بِهَا، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ صَرِيحًا لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالرُّؤْيَةِ فَقَبْلَهَا هُوَ عَدَمٌ، فَحَقِيقَةُ قَوْلِنَا ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ إذَا رَآهَا ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَكَذَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْعَيْبِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا) مَثَلًا (عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ وَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ) بَطَلَ خِيَارُ الْآخَرِ (فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ خِيَارُ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ) بِأَنْ اشْتَرَى الرَّجُلَانِ شَيْئًا فَاطَّلَعَا عَلَى عَيْبٍ فَرَضِيَ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ رَدُّهُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ أَوْ اشْتَرَيَا وَلَمْ يَرَيَا فَعِنْدَ الرُّؤْيَةِ رَضِيَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ (وَلَهُمَا أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتُهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ) حَقَّهُ (وَلَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ فَلَوْ رَدَّهُ أَحَدُهُمَا رَدَّهُ مَعِيبًا بِهِ وَفِيهِ إلْزَامُ ضَرَرٍ زَائِدٍ)

ص: 331

وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمَا الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا لِتَصَوُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الرَّدِّ. .

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ وَكَانَ بِخِلَافِهِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ

فَإِنَّ الْبَائِعَ كَانَ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَتَى شَاءَ كَيْفَ شَاءَ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ، وَالْخِيَارُ مَا شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ أَحَدِهِمَا بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الضَّرَرُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ. قُلْنَا مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ فَإِنَّ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا شَرَطَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَقَدْ رَضِيَ بِهَذَا الْعَيْبِ. أُجِيبَ أَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِهِ فِي مِلْكِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ رَضِيَ بِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ فَسْخٍ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ إبْرَامٍ فَشَرْطُهُ رِضًا بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. أَجَابَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةٍ إلَى آخِرِهِ) يَعْنِي لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ شَرَطَهُ لَهُمَا أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِرِضَاهُ بِفَسْخِهِمَا، فَإِذَا جَازَ هَذَا كَانَ هُوَ الظَّاهِرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّصَرُّفَ مِنْ الْعَاقِلِ إذَا احْتَمَلَ كُلًّا مِنْ أَمْرَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا ضَرَرٌ دُونَ الْآخَرِ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْمُحْتَمَلَ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَلْ اللَّازِمَ عَدَمُ قَصْدِ الْعَاقِلِ إلَى مَا يَضُرُّهُ بِلَا فَائِدَةٍ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ) أَيْ حِرْفَتُهُ ذَلِكَ (فَكَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ) وَلَوْ مَاتَ هَذَا الْمُشْتَرِي انْتَقَلَ الْخِيَارُ إلَى وَرَثَتِهِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ مِلْكِ الْعَيْنِ، وَهَذَا الشَّرْطُ حَاصِلُهُ شَرْطُ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ، فَكَانَ شَرْطُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَرٌ صَحِيحًا، وَالْأَصْلُ فِي اشْتِرَاطِ الْأَوْصَافِ أَنَّ مَا كَانَ وَصْفًا لَا غَرَرَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَا فِيهِ غَرَرٌ

ص: 332

فَيُسْتَحَقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ، ثُمَّ فَوَاتُهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِهِ دُونَهُ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ، فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَصَارَ كَفَوَاتِ

لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُهُ بِمَعْنَى الْبَرَاءَةِ مِنْ وُجُودِهِ، وَهُوَ مَا لَيْسَ مَرْغُوبًا فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ مَا لَوْ بَاعَ نَاقَةً أَوْ شَاةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ أَوْ تَحْلِبُ كَذَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ زِيَادَةً مَجْهُولَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، حَتَّى لَوْ شَرَطَ أَنَّهَا حَلُوبٌ جَازَ، كَمَا إذَا شَرَطَ فِي الْفَرَسِ أَنَّهُ هِمْلَاجٌ وَفِي الْكَلْبِ أَنَّهُ صَائِدٌ حَيْثُ يَصِحُّ، وَمِنْهُ شَرْطُ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَشَرْطُ كَوْنِ الثَّمَنِ مَكْفُولًا بِهِ.

أَمَّا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ فَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ. قِيلَ لَا يَجُوزُ كَالنَّاقَةِ وَالشَّاةِ، وَقِيلَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ فِي الْجَوَارِي عَيْبٌ بِخِلَافِ الْبَهَائِمِ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِلْبَرَاءَةِ عَنْ هَذَا الْعَيْبِ، وَقِيلَ إنْ اشْتَرَاهَا لِيَتَّخِذَهَا ظِئْرًا فَشَرَطَ أَنَّهَا حَامِلٌ يَعْنِي ذَكَرَ غَرَضَهُ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ زِيَادَةً مَجْهُولَةً فِي وُجُودِهَا غَرَرٌ فَكَانَتْ كَالنَّاقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ جَازَ حَمْلًا لِقَصْدِ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَيْبِ الْحَبَلِ وَمِنْهُ لَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَهُ سَلِيمًا صَحَّ، وَكَانَ لَهُ. هَذَا وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي شَرْطِ الْحَمْلِ فِي الْبَقَرِ وَالْجَارِيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ.

وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي اشْتِرَاطِ أَنَّهَا حَلُوبَةٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هُنَا أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ اللَّبَنُ، قَالَ مُحَمَّدٌ فِي مَسْأَلَتِنَا: فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَوَجَدَهُ كَاتِبًا أَوْ خَبَّازًا عَلَى أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَاتِبِ وَالْخَبَّازِ: أَعْنِي الِاسْمَ الَّذِي يُشْعِرُ بِالْحِرْفَةِ، فَإِنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِأَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا يَسِيرًا نَاقِصًا فِي الْوَضْعِ أَوْ يَخْبِزُ قَدْرَ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْهَلَاكَ بِأَكْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْهُ كَمَا ذَكَرَ وَامْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْعَبْدُ كَاتِبًا وَغَيْرَ كَاتِبٍ فَيَرْجِعُ بِالتَّفَاوُتِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ لَا بِالْعَقْدِ، وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ فَكَذَا هَذَا، وَالصَّحِيحُ مَا فِي ظَاهِرِ

ص: 333

وَصْفِ السَّلَامَةِ، وَإِذَا أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ.

الرِّوَايَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَصْفَ السَّلَامَةِ كَمَا فِي الْعَيْبِ.

وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَمْ أَجِدْهُ كَاتِبًا وَقَالَ الْبَائِعُ سَلَّمْته إلَيْك كَاتِبًا وَلَكِنَّهُ نَسِيَ عِنْدَك وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَنْسَى فِي مِثْلِهَا فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْقَوْلَ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ وَأَنَّ الْعَدَمَ فِي الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ فِي الصِّفَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةٌ إذَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ، وَإِنْ لَمْ تَتَأَيَّدْ تُعْتَبَرُ فِي ثُبُوتِ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لَا فِي إلْزَامِ الْخَصْمِ. إذَا عُرِفَ هَذَا، فَإِذَا اخْتَلَفَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَيْسَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَقَالَ الْبَائِعُ: هُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ لِلْحَالِ يُؤْمَرُ بِالْخَبْزِ وَالْكِتَابَةِ، فَإِنْ فَعَلَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ وَلَا يُرَدُّ وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: سَلَّمْته بِهَا وَنَسِيَ عِنْدَك وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَيَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبْضِهِ وَدَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى تُعْرَفَ هَذِهِ الصِّفَةُ.

وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ ثُمَّ اخْتَلَفَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِكْرٌ لِلْحَالِ وَقَالَ الْمُشْتَرِي ثَيِّبٌ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُرِيهَا النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ بِكْرٌ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ بِلَا يَمِينِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ تَأَيَّدَتْ هُنَا بِمُؤَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَكَارَةُ، وَإِنْ قُلْنَ ثَيِّبٌ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الْفَسْخِ بِشَهَادَتِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقٌّ قَوِيٌّ وَشَهَادَتُهُنَّ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ، لَكِنْ يَثْبُتُ حَقُّ الْخُصُومَةِ لِتَتَوَجَّهَ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ، إذْ لَا بُدَّ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ، وَالْخُصُومَةُ حَقٌّ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ بِشَهَادَتِهِنَّ، فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهِيَ بِكْرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتهَا وَهِيَ بِكْرٌ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا تُرَدُّ بِشَهَادَتِهِنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا يَمِينٍ مِنْ الْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَثِقُ بِهِنَّ لَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَلَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ فَتَلْزَمُ الْجَارِيَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى أَنْ يَحْضُرَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يُوثَقُ بِهِنَّ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتهَا وَسَلَّمْتهَا إلَيْك وَهِيَ بِكْرٌ وَزَالَتْ بَكَارَتُهَا فِي يَدِك فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هِيَ الْبَكَارَةُ، وَلَا يُرِيهَا الْقَاضِي النِّسَاءَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُضَرٌّ بِزَوَالِ الْبَكَارَةِ، وَإِنَّمَا يَقُولُ زَالَتْ فِي يَدِك. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ مَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فَوَجَدَهُ بِخِلَافِهِ فَتَارَةً يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَتَارَةً يَسْتَمِرُّ عَلَى الصِّحَّةِ وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَتَارَةً يَسْتَمِرُّ صَحِيحًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ مَا إذَا وَجَدَهُ خَيْرًا مِمَّا شَرَطَهُ وَضَابِطُهُ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَفِيهِ الْخِيَارُ، وَالثِّيَابُ أَجْنَاسٌ: أَعْنِي الْهَرَوِيَّ وَالْإِسْكَنْدَرِيّ وَالْمَرْوِيَّ وَالْكَتَّانَ وَالْقُطْنَ. وَالذَّكَرُ مَعَ الْأُنْثَى فِي بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ، وَفِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَالضَّابِطُ فُحْشُ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ وَعَدَمُهُ، فَإِنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ إسْكَنْدَرِيٌّ فَوَجَدَهُ بَلَدِيًّا، أَوْ هِنْدِيٌّ فَوَجَدَهُ مَرْوِيًّا، أَوْ كَتَّانٌ فَوَجَدَهُ قُطْنًا، أَوْ أَبْيَضُ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ فَإِذَا هُوَ بِزَعْفَرَانٍ، أَوْ دَارًا عَلَى أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ فَإِذَا هُوَ لَبِنٌ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا بِنَاءَ وَلَا نَخْلَ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا بِنَاءٌ أَوْ نَخْلٌ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِهَا مُثْمِرَةٌ فَوَجَدَ وَاحِدَةً غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ، أَوْ فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.

وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا مُوَلِّدَةُ الْكُوفَةِ فَإِذَا هِيَ مُوَلِّدَةُ بَغْدَادَ، أَوْ غُلَامٌ عَلَى أَنَّهُ تَاجِرٌ

ص: 334

(بَابُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ)

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ) بِجَمِيعِ الثَّمَنِ (وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ)

أَوْ كَاتِبٌ فَإِذَا هُوَ لَا يُحْسِنُهُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَحْلٌ فَإِذَا هُوَ خَصِيٌّ أَوْ عَكْسُهُ أَوْ أَنَّهَا بَغْلَةٌ فَإِذَا هُوَ بَغْلٌ أَوْ نَاقَةٌ فَكَانَ جَمَلًا أَوْ لَحْمُ مَاعِزٍ فَكَانَ لَحْمَ ضَأْنِ أَوْ عَلَى عَكْسِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَهُ الْخِيَارُ وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ بَغْلٌ فَوَجَدَهُ بَغْلَةً أَوْ حِمَارٌ أَوْ بَعِيرٌ فَإِذَا هُوَ أَتَانٌ أَوْ نَاقَةٌ أَوْ جَارِيَةٌ عَلَى أَنَّهَا رَتْقَاءُ أَوْ حُبْلَى أَوْ ثَيِّبٌ فَإِذَا هِيَ بِخِلَافِهِ جَازَ وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ أَفْضَلُ مِنْ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ وَيَنْبَغِي فِي مَسْأَلَةِ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ أَمَّا أَهْلُ الْمُدُنِ وَالْمُكَارِيَةُ فَالْبَعِيرُ أَفْضَلُ وَلَوْ بَاعَ دَارًا بِمَا فِيهَا مِنْ الْجُذُوعِ وَالْخَشَبِ وَالْأَبْوَابِ وَالنَّخِيلِ فَإِذَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي

(بَابُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ)

قَدَّمَهُ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ وَاللُّزُومُ بَعْدَ التَّمَامِ، وَالْإِضَافَةُ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى شَرْطِهِ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَعَدَمُ الرُّؤْيَةِ هُوَ السَّبَبُ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ (قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) سَوَاءً رَآهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وُصِفَتْ لَهُ أَوْ عَلَى خِلَافِهَا، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ جِرَابًا فِيهِ أَثْوَابٌ هَرَوِيَّةٌ أَوْ زَيْتًا فِي زِقٍّ، أَوْ حِنْطَةً فِي غِرَارَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَى شَيْئًا، وَمِنْهُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك دُرَّةً فِي كُمِّي صِفَتُهَا كَذَا أَوْ ثَوْبًا فِي كُمِّي صِفَتُهُ كَذَا أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ وَهِيَ حَاضِرَةٌ مُنْتَقِبَةٌ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَوْ إلَى مَكَانِهِ شَرْطُ الْجَوَازِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُشِرْ إلَيْهِ وَلَا إلَى مَكَانِهِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى. لَكِنَّ إطْلَاقَ الْكِتَابِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ سَوَاءٌ سَمَّى جِنْسَ الْمَبِيعِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ أَشَارَ إلَى مَكَانِهِ أَوْ إلَيْهِ وَهُوَ حَاضِرٌ مَسْتُورٌ أَوْ لَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بِعْت مِنْك مَا فِي كُمِّي، بَلْ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ قَالُوا: إطْلَاقُ الْجَوَابِ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَهُ. وَطَائِفَةٌ قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِطْلَاقِ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُ كَصَاحِبِ الْأَسْرَارِ وَالذَّخِيرَةِ لِبُعْدِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ مَا لَمْ يُعْلَمْ جِنْسُهُ أَصْلًا

ص: 335

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ» ؛ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ يَرُدُّهُ،

كَأَنْ يَقُولَ بِعْتُك شَيْئًا بِعَشَرَةٍ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ أَصْلًا) هُوَ فِيمَا لَمْ يُسَمِّ جِنْسَهُ قَوْلًا وَاحِدًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا فِيمَا سَمَّى جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ عَلَى مَا نُقِلَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ وَالْحِلْيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ لَا يَجُوزُ.

وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَاخْتَارَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ الْقَفَّالُ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ رضي الله عنهما. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ: يَعْنِي وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِنَهْيِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِلْجَهَالَةِ.

قُلْنَا: أَمَّا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا لَيْسَ فِي الْمِلْكِ اتِّفَاقًا لَا مَا لَيْسَ فِي حَضْرَتِك، وَنَحْنُ شَرَطْنَا فِي هَذَا الْبَيْعِ كَوْنَ الْمَبِيعِ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ فَقَضَيْنَا عُهْدَتَهُ، وَأَمَّا بَيْعُ الْغَرَرِ فَلَفْظُهُ يُفِيدُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ إلَّا بِأَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَا لَيْسَ فِي الْوَاقِعِ فَيُبْنَى عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَغْرُورًا بِذَلِكَ فَيَظْهَرُ لَهُ خِلَافُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَكَيْف كَانَ فَلَا شَكَّ بَعْدَ الْقَطْعِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَا يَلْزَمُ الضَّرَرُ فِيهِ، وَنَقْطَعُ بِأَنْ لَا ضَرَرَ فِيمَا أَجَزْنَا مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا يَلْزَمُ الضَّرَرُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ.

فَأَمَّا إذَا أَوْجَبْنَا لَهُ الْخِيَارَ إذَا رَآهُ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ أَصْلًا بَلْ فِيهِ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ وَهُوَ إدْرَاكُ حَاجَةِ كُلٍّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ بِهِ حَاجَةٌ وَهُوَ غَائِبٌ وَأَوْقَفْت جَوَازَ الْبَيْعِ عَلَى حُضُورِهِ وَرُؤْيَتِهِ رُبَّمَا تَفُوتُ بِأَنْ يَذْهَبَ فَيُسَاوِمُهُ فِيهِ آخَرُ رَآهُ فَيَشْتَرِيه مِنْهُ فَكَانَ فِي شَرْعِ هَذَا الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ إثْبَاتِ الْخِيَارِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ لِكُلٍّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ غَيْرَ لُحُوقِ شَيْءٍ مِنْ الضَّرَرِ فَأَنَّى يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَالْأَحْكَامُ لَمْ تُشْرَعْ إلَّا لِمَصَالِح الْعِبَادِ قَطْعًا فَكَانَ مَشْرُوعًا قَطْعًا، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى الْبَيْعِ الْبَاتِّ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ ضَرَرَ الْمُشْتَرِي، وَالنَّهْيُ قَطْعًا لَيْسَ إلَّا لِذَلِكَ، فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ لَمْ يَنْفِ مَا أَجَزْنَاهُ فَكَانَ نَفْيُهُ قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ، وَكَفَانَا فِي إثْبَاتِهِ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ مَالٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ لَا ضَرَرَ فِي بَيْعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَكَانَ جَائِزًا، وَيَبْقَى الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ زِيَادَةً فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا.

حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مَكْحُولٍ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 336

فَصَارَ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ فِي الْمُعَايِنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ.

(وَكَذَا إذَا قَالَ رَضِيت ثُمَّ رَآهُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ) لِأَنَّ الْخِيَارَ مُعَلَّقٌ بِالرُّؤْيَةِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهَا، وَحَقُّ الْفَسْخُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِحُكْمِ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ لَا بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ،

«مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ» وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَضْعِيفُ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ بِجَهَالَةِ عَدَالَتِهِ لَا يَنْفِي عِلْمَ غَيْرِ الْمُضَعِّفِينَ بِهَا.

وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَلَمَةُ بْنُ الْمُحَبَّقِ وَابْنُ سِيرِينَ وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا، وَعَمِلَ بِهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ تَضْعِيفُ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ، فَدَلَّ قَبُولُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثُبُوتِهِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ عَمَلَ مَنْ ضَعَّفَ ابْنَ أَبِي مَرْيَمَ عَلَى وَفْقِ حَدِيثِهِ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِ الْحَدِيثِ هَلْ هُوَ تَصْحِيحٌ لَهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْمُخْتَارُ لَا، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَمَلَهُ عَنْ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ أَيْضًا مَرْفُوعًا، رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ» وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّ فِي طَرِيقِهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ عُمَرَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الْكُرْدِيَّ نُسِبَ إلَى وَضْعِ الْحَدِيثِ.

هَذَا وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ فِي الْحَدِيثِ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ فَهُوَ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ، عَبَّرَ بِالرُّؤْيَةِ عَنْ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ فَصَارَتْ حَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهَذَا لِوُجُودِ مَسَائِلَ اتِّفَاقِيَّةٍ لَا يُكْتَفَى بِالرُّؤْيَةِ فِيهَا.

مِثْلُ مَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُعْرَفُ بِالشَّمِّ كَمِسْكٍ اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهُ عِنْدَ شَمِّهِ فَلَهُ الْفَسْخُ عِنْدَ شَمِّهِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ، وَكَذَا لَوْ رَأَى شَيْئًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَوَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ غَيْرُ مُعَرَّفَةٍ لِلْمَقْصُودِ الْآنَ، وَكَذَا اشْتِرَاءُ الْأَعْمَى يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ الْوَصْفِ لَهُ فَأُقِيمَ فِيهِ الْوَصْفُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (فَصَارَ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ فِي الْمُعَايِنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ) يَعْنِي فِيمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا مُشَارًا إلَيْهِ لَا يُعْلَمُ عَدَدُ ذُرْعَانِهِ يُرِيدُ تَشْبِيهَهُ بِذَلِكَ فِي مُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْجَوَازِ لَا بِقَيْدِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ، أَعْنِي الثَّوْبَ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى لُزُومِ ذِكْرِ الْجِنْسِ فِي هَذَا الْبَيْعِ فَيَبْقَى الْفَائِتُ مُجَرَّدَ عِلْمِ الْوَصْفِ،

وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا قَالَ رَضِيت) إلَى آخِرِهِ، أَيْ وَكَذَا لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ: يَعْنِي إذَا قَالَ رَضِيت كَائِنًا مَا كَانَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ ثُمَّ رَآهُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ مُعَلَّقٌ فِي النَّصِّ بِالرُّؤْيَةِ حَيْثُ قَالَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِهِ وَالْإِسْقَاطُ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الثُّبُوتِ. وَقَوْلُهُ وَحَقُّ الْفَسْخِ إلَخْ جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ وَهُوَ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ. فَإِنَّهُ إذَا أَجَازَ قَبْلَهَا لَا يَلْزَمُ،

ص: 337

وَلِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ رَضِيت قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ رَدَدْت.

وَإِذَا فَسَخَ قَبْلَهَا لَزِمَ مَعَ اسْتِوَاءِ نِسْبَةِ التَّصَرُّفَيْنِ فِي تَعْلِيقِهِمَا بِالشَّرْطِ فِي الْحَدِيثِ وَلَا وُجُودَ لِلْمُعَلَّقِ قَبْلَ الشَّرْطِ.

وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ هُوَ عَدَمٌ قَبْلَ وُجُودِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ غَيْرُ ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ؛ فَالْحَدِيثُ لَمَّا عَلَّقَ الْخِيَارَ بِالرُّؤْيَةِ ثَبَتَ بِهِ تَعْلِيقُ كُلٍّ مِنْ الْإِجَازَةِ وَالْفَسْخِ بِهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْخِيَارِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُجِيزَ وَأَنْ يَفْسَخَ، ثُمَّ لَمْ تَثْبُتْ الْإِجَازَةُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَبَقِيَ عَلَى الْعَدَمِ حَتَّى يَثْبُتَ سَبَبُهُ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ سَبَبُهُ وَهُوَ الْعَيْبُ قَائِمٌ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، فَإِذَا قَالَ رَضِيت قَبْلَ الرُّؤْيَةِ سَقَطَ خِيَارُهُ إذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ لِرِضَاهُ بِالْعَيْبِ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْفَسْخُ فَثَبَتَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ عَدَمُ لُزُومِ هَذَا الْعَقْدِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَمَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ عَلَيْهِ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ بِالضَّرُورَةِ كَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَإِلَّا فَهُوَ لَازِمٌ وَقَدْ فَرَضَ غَيْرَ لَازِمٍ، هَذَا خُلْفٌ.

وَقَدْ سَلَكَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله مَسْلَكَ الطَّحَاوِيِّ فِي عَدَمِ نَقْلِ خِلَافٍ فِي جَوَازِ الرَّدِّ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، وَنَقَلَ فِي التُّحْفَةِ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ وَأَنَّهُ لَا رِوَايَةَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَلِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ رَضِيتُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ) فَلَوْ تَمَّ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْعَيْبِ، ثُمَّ لِمَنْ يَمْنَعُ الْفَسْخَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَمْنَعَ وُجُودَ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرَ الرُّؤْيَةِ، وَقَوْلُكُمْ عَدَمُ اللُّزُومِ سَبَبٌ آخَرُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ.

قُلْنَا: نَمْنَعُ تَحَقُّقَ عَدَمِ اللُّزُومِ بَلْ نَقُولُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ الْبَيْعُ بَاتٌّ فَلَيْسَ لَهُ فَسْخُهُ، فَإِنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ إثْبَاتَ قُدْرَةِ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ الَّتِي هِيَ الْخِيَارُ بِالرُّؤْيَةِ فَقَبْلَهُ يَثْبُتُ حُكْمُ السَّبَبِ وَهُوَ اللُّزُومُ إلَى غَايَةِ الرُّؤْيَةِ ثُمَّ يَرْفَعُهُ عِنْدَهَا فَتَثْبُتُ قُدْرَةُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ مَعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ لَيْسَ غَيْرَ شِرَاءِ الْأَعْيَانِ وَالْإِجَازَةِ.

وَالصُّلْحُ عَنْ دَعْوَى مَالٍ عَلَى عَيْنٍ وَالْقِسْمَةِ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الدُّيُونِ فَلَا يَكُونُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَا فِي الْأَثْمَان الْخَالِصَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْبَيْعُ إنَاءً مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَإِنَّ فِيهِ الْخِيَارَ.

وَلَوْ تَبَايَعَا مُقَايَضَةً ثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَمَحَلُّهُ كُلُّ مَا كَانَ فِي عَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِالْفَسْخِ لَا مَا لَا يَنْفَسِخُ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ الِانْفِسَاخَ بَقِيَ الْعَقْدُ قَائِمًا، وَقِيَامُهُ يُوجِبُ الْمُطَالَبَةَ بِالْعَيْنِ لَا بِمَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْقِيمَةِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ أَبَدًا، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ مَا لَمْ يَسْقُطْ

ص: 338

قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَوَّلًا لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ بِتَمَامِ الرِّضَا زَوَالًا وَثُبُوتًا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ بِالرُّؤْيَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ رَاضِيًا بِالزَّوَالِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالشِّرَاءِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ.

وَرُوِيَ " أَنَّ

خِيَارُ الرُّؤْيَةِ مِنْهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ الْفَسْخُ عَلَى قَضَاءٍ وَلَا رِضًا بَلْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ رَدَدْت يَنْفَسِخُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ عِلْمِ الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَمَا هُوَ خِلَافُهُمْ فِي الْفَسْخِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ) بِأَنْ وَرِثَ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى فَبَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَرَاهَا (فَلَا خِيَارَ لَهُ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه يَقُولُ أَوَّلًا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الْعَيْبِ) فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَرُدَّ الثَّمَنَ بِالزِّيَافَةِ (وَخِيَارُ الشَّرْطِ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا.

وَلَوْ اخْتَصَرَ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ كَانَ أَقْرَبَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْعَيْبِ مَعْقُولٌ لِاحْتِبَاسِ مَا هُوَ بَعْضُ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ تَرْكِ حَقِّهِ أَوْ أَخْذِهِ بِأَخْذِ الثَّمَنِ وَرَدِّ الْمَبِيعِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَفِي عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِتَحْصِيلِ شَرْطِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْعِلْمُ التَّامُّ بِالْمَبِيعِ غَيْرَ أَنَّهُ جَوَّزَ مُتَأَخِّرًا لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. ثُمَّ تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ (وَهَذَا؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْعَقْدِ بِتَمَامِ الرِّضَا زَوَالًا) يَعْنِي فِي حَقِّ الْبَائِعِ (وَثُبُوتًا) فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي (وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ) أَيْ تَمَامُ الرِّضَا (إلَّا بِالْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ بِالرُّؤْيَةِ) يَخَالُ أَنَّهُ قِيَاسٌ يُجَامِعُ عَدَمَ الرِّضَا بِالْبَيْعِ عَلَى الْبَتَاتِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ بِالْعَدَمِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَا بِأَحْكَامِ الْعَقْدِ فَكَذَا هُنَا.

وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ: أَعْنِي خِيَارَ الشَّرْطِ مُتَوَقِّفٌ شَرْعًا عَلَى تَرَاضِيهمَا، فَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِتَرَاضِيهِمَا لَا إذَا سَكَتَا عَنْهُ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ فَكَذَا هُنَا، وَلَيْسَ الْوَاقِعُ هَذَا لِظُهُورِ اخْتِلَافِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفَا فَالْأَصْلُ مَعْدُولٌ عَنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَلِذَا حَقَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ.

وَذَكَرَ لِلْمَرْجُوعِ إلَيْهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: (أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالشِّرَاءِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ) وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ نَفْيٌ لِلْحُكْمِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ إذْ حَاصِلُهُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ

ص: 339

عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بَاعَ أَرْضًا لَهُ بِالْبَصْرَةِ مِنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقِيلَ لِطَلْحَةَ: إنَّك قَدْ غُبِنْت، فَقَالَ: لِي الْخِيَارُ؛ لِأَنِّي اشْتَرَيْت مَا لَمْ أَرَهُ. وَقِيلَ لِعُثْمَانَ: إنَّك قَدْ غُبِنْت، فَقَالَ: لِي الْخِيَارُ؛ لِأَنِّي بِعْت مَا لَمْ أَرَهُ. فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ". فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.

ثُمَّ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بَلْ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُهُ، وَمَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ مِنْ تَعَيُّبٍ أَوْ تَصَرُّفٍ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالْإِعْتَاقِ

لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ. وَالثَّانِي مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ " أَنَّ طَلْحَةَ رضي الله عنه اشْتَرَى مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه مَالًا، فَقِيلَ لِعُثْمَانَ: إنَّك قَدْ غُبِنْت، فَقَالَ عُثْمَانُ: لِي الْخِيَارُ، لِأَنِّي بِعْت مَا أَرَهُ، وَقَالَ طَلْحَةُ رضي الله عنه: لِي الْخِيَارُ؛ لِأَنِّي اشْتَرَيْت مَا لَمْ أَرَهُ، فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ رضي الله عنهم فَقَضَى أَنَّ الْخِيَارَ لِطِلْحَةٍ وَلَا خِيَارَ لِعُثْمَانَ ".

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؛ لِأَنَّ قَضِيَّةً يَجْرِي فِيهَا التَّخَالُفُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَبِيرَيْنِ ثُمَّ إنَّهُمَا حَكَّمَا فِيهَا غَيْرَهُمَا فَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ شُهْرَتُهَا وَانْتِشَارُ خَبَرِهَا فَحِينَ حَكَمَ جُبَيْرٌ بِذَلِكَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ خِلَافُهُ كَانَ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا ظَاهِرًا

(قَوْلُهُ ثُمَّ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ) بِوَقْتٍ خِلَافًا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْفَسْخِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلَمْ يَفْسَخْ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّتُ (بَلْ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُهُ، وَ) يُبْطِلُهُ (مَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ مِنْ تَعَيُّبٍ) يَعْنِي بَعْدَ الرُّؤْيَةِ (أَوْ تَصَرُّفٍ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ) بِقَيْدِ تَفْصِيلٍ نَذْكُرُهُ فِي التَّصَرُّفِ لَا مُطْلَقًا فَلِذَا وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ (ثُمَّ إنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ) لِلْمُتَصَرِّفِ (كَالْإِعْتَاقِ) لِلْعَبْدِ الَّذِي اشْتَرَاهُ

ص: 340

وَالتَّدْبِيرِ أَوْ تَصَرُّفًا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَبَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ تَعَذُّرُ الْفَسْخِ فَبَطَلَ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَالْمُسَاوَمَةُ وَالْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ لَا يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْبُو عَلَى صَرِيحِ الرِّضَا وَيُبْطِلُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الرِّضَا.

وَلَمْ يَرَهُ (وَتَدْبِيرِهِ أَوْ تَصَرُّفًا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ) كَالْبَيْعِ وَلَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِخُلُوصِ الْحَقِّ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي.

وَقَوْلُهُ (كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ) إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْمُطْلَقَ عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ بِهِ لَا يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ وَكَالْهِبَةِ مَعَ التَّسْلِيمِ (وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ) سَوَاءً وُجِدَتْ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ أَوْ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ مَانِعَةٌ مِنْ الْفَسْخِ.

(وَإِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ شَرْعًا بَطَلَ الْخِيَارُ) وَوَجَبَ تَقْدِيرُ قَيْدٍ فِي الْحَدِيثِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ» مُقَيَّدًا بِمَا إذَا لَمْ يُوجِبْ مُوجِبٌ شَرْعِيٌّ عَدَمَهُ إذَا رَآهُ، وَحَاصِلُهُ تَقْدِيرٌ مُخَصَّصٌ بِالْعَقْلِ (وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ) لِلْبَائِعِ (وَالْمُسَاوَمَةِ، وَهِبَتِهِ بِلَا تَسْلِيمٍ لَا يُبْطِلُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ) لِأَنَّهُ لَوْ أَبْطَلَ الْخِيَارَ كَانَ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى

ص: 341

(قَالَ: وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ، أَوْ إلَى ظَاهِرِ الثَّوْبِ مَطْوِيًّا أَوْ إلَى وَجْهِ الْجَارِيَةِ أَوْ إلَى وَجْهِ الدَّابَّةِ وَكَفَلِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ رُؤْيَةَ جَمِيعِ الْمَبِيعِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ لِتَعَذُّرِهِ فَيَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ.

الرِّضَا، وَصَرِيحُ الرِّضَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ فَبِدَلَالَتِهِ أَوْلَى، وَيُبْطِلُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الرِّضَا.

وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَمَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ يُبْطِلُهُ مُقَيَّدًا بِالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَبِالْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ، فَإِنَّهُمَا إذَا وُجِدَا مِنْ الْمُشْتَرِي الَّذِي لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ يَبْطُلُ خِيَارُهُ وَلَا يَبْطُلُ بِهِمَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ يَرُدَّ الدَّارَ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الرِّضَا لَا تَعْمَلُ فِي إسْقَاطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ ثُمَّ فِي التَّصَرُّفِ الَّذِي تَعَلَّقَ فِيهِ حَقُّ الْغَيْرِ لَوْ عَادَ إلَى مِلْكِهِ بِرَدٍّ بِقَضَاءٍ أَوْ بِفَكِّ الرَّهْنِ أَوْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ ثُمَّ رَآهُ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ بِظَاهِرِ النَّصِّ تَقَدَّمَ وُجُوبُ تَخْصِيصِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْكَائِنَةُ بَعْدَ الْعَوْدِ مِنْ مُحَالِ التَّخْصِيصِ.

وَمِمَّا يُسْقِطُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَقْبِضَهُ إذَا رَآهُ لِدَلَالَةِ الْقَبْضِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ عَلَى الرِّضَا بِهِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ أَوْ إلَى ظَاهِرِ الثَّوْبِ مَطْوِيًّا أَوْ إلَى وَجْهِ الْجَارِيَةِ إلَخْ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ رُؤْيَةَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ (الْمَبِيعِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ) فِي انْتِفَاءِ ثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ (لِتَعَذُّرِهِ) عَادَةً وَشَرْعًا، وَإِلَّا لَجَازَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ اللَّذَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَهُمَا، وَلَزِمَ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ النَّظَرُ إلَى كُلِّ حَبَّةٍ مِنْهَا، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ فَيَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَإِذَا رَآهُ جَعَلَ غَيْرَ الْمَرْئِيِّ تَبَعًا لِلْمَرْئِيِّ، فَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ فِي الْأَصْلِ سَقَطَ فِي التَّبَعِ.

إذَا عُرِفَ هَذَا انْبَنَى عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ الْجَارِيَةِ أَوْ الْعَبْدِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَرَأَى الْبَاقِيَ فَلَا خِيَارَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأْي بَطْنَهُمَا أَوْ ظَهْرَهُمَا وَسَائِرَ أَعْضَائِهِمَا إلَّا الْوَجْهَ فَإِنَّ لَهُ الْخِيَارَ إذَا رَأَى وَجْهَهُمَا؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ فِي الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ تَبَعٌ لِلْوَجْهِ وَلِذَا تَتَفَاوَتُ الْقِيمَةُ إذَا فُرِضَ تَفَاوُتُ الْوَجْهِ مَعَ تَسَاوِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ.

وَفِي الدَّوَابِّ يُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ الْوَجْهِ وَالْكَفَلِ؛ لِأَنَّهُمَا الْمَقْصُودَانِ فَيَسْقُطُ بِرُؤْيَتِهِمَا وَلَا

ص: 342

وَلَوْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ أَشْيَاءُ، فَإِنْ كَانَ لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَعْرِضَ بِالنَّمُوذَجِ يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَّا إذَا كَانَ الْبَاقِي أَرْدَأَ مِمَّا رَأَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ. وَإِنْ كَانَ تَتَفَاوَت آحَادُهَا كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَالْجَوْزُ وَالْبَيْضُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِكَوْنِهَا مُتَقَارِبَةً. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الصُّبْرَةِ كَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ وَصْفَ الْبَقِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ يُعْرَضُ بِالنَّمُوذَجِ، وَكَذَا النَّظَرُ إلَى ظَاهِرِ الثَّوْبِ مِمَّا يَعْلَمُ بِهِ الْبَقِيَّةَ إلَّا إذَا كَانَ فِي طَيِّهِ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا كَمَوْضِعِ الْعَلَمِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْآدَمِيِّ، وَهُوَ وَالْكَفَلُ فِي الدَّوَابِّ فَيُعْتَبَرُ رُؤْيَةِ الْمَقْصُودِ وَلَا يُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ غَيْرِهِ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الْقَوَائِمِ.

وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.

يَسْقُطُ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِمَا مِنْهَا وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقِيلَ لَا يَسْقُطُ مَا لَمْ يَرَ قَوَائِمَهَا. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْأَجْنَاسِ عَنْ الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الدَّابَّةِ إذَا رَأَى عُنُقَهَا أَوْ سَاقَهَا أَوْ فَخِذَهَا أَوْ جَنْبَهَا أَوْ صَدْرَهَا لَيْسَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.

وَإِنْ رَأَى حَوَافِرَهَا أَوْ نَاصِيَتَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَكْفِي الْوَجْهُ اعْتِبَارًا بِالْعَبْدِ.

وَفِي رِوَايَةِ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ فِي الدَّوَابِّ عُرْفُ التُّجَّارِ (فَإِنْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ أَشْيَاءُ، فَإِنْ كَانَتْ الْآحَادُ لَا تَتَفَاوَتُ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَعَلَامَتُهُ) أَيْ عَلَامَةُ مَا لَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ (أَنْ يَعْرِضَ بِالنَّمُوذَجِ فَيَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ وَاحِدٍ مِنْهَا) فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ (إلَّا إذَا كَانَ الْبَاقِي أَرْدَأَ مِمَّا رَأَى حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ) يَعْنِي خِيَارَ الْعَيْبِ لَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ذَكَرَهُ فِي الْيَنَابِيعِ. وَفِي الْكَافِي: إذَا كَانَ أَرْدَأَ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي رَآهَا لَا بِغَيْرِهَا وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُفِيدُ أَنَّهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ مُقْتَضَى سَوْقِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ خِيَارُ عَيْبٍ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ اخْتِلَافُ الْبَاقِي يُوَصِّلُهُ إلَى حَدِّ الْعَيْبِ وَخِيَارُ رُؤْيَةٍ إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَى اسْمِ الْمَعِيبِ بَلْ الدُّونِ.

وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى ذَكَرَ لَهُ الْبَائِعُ بِهِ عَيْبًا ثُمَّ أَرَاهُ الْمَبِيعَ فِي الْحَالِ (وَإِنْ كَانَ آحَادُهُ مُتَفَاوِتَةً كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ فَلَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ لَكِنْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا): أَعْنِي رُؤْيَةَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ (وَالْجَوْزُ وَالْبِيضُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِيمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِكَوْنِهَا مُتَقَارِبَةً) وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمُحِيطِ وَفِي الْمُجَرَّدِ هُوَ الْأَصَحُّ. ثُمَّ السُّقُوطُ بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ فِي الْمَكِيلِ إذَا كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ اخْتَلَفُوا، فَمَشَايِخُ الْعِرَاقِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ أَحَدِهِمَا كَرُؤْيَةِ الْكُلِّ، وَمَشَايِخُ بَلْخٍ لَا يَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وِعَاءٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ حَالَ الْبَاقِيَ، هَذَا إذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ مَا فِي الْوِعَاءِ الْآخَرِ مِثْلُهُ أَوْ أَجْوَدُ، أَمَّا إذَا كَانَ أَرْدَأَ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ فَلَا يَكْفِي رُؤْيَةُ بَعْضِهَا فِي سُقُوطِ خِيَارِهِ فِي الْبَاقِي، وَلَوْ قَالَ رَضِيت وَأَسْقَطْت خِيَارِي، وَفِي شِرَاءِ الرَّحَى

ص: 343

وَفِي شَاةِ اللَّحْمِ لَا بُدَّ مِنْ الْجَسِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ اللَّحْمُ يُعْرَفُ بِهِ. وَفِي شَاةِ الْقُنْيَةِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّرْعِ. وَفِيمَا يُطْعَمُ لَا بُدَّ مِنْ الذَّوْقِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَقْصُودِ.

(قَالَ وَإِنْ رَأَى صَحْنَ الدَّارِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ بُيُوتَهَا) وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى خَارِجَ الدَّارِ أَوْ رَأَى أَشْجَارَ الْبُسْتَانِ مِنْ خَارِجٍ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ دَاخِلِ الْبُيُوتِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى وِفَاقِ عَادَتِهِمْ فِي الْأَبْنِيَةِ، فَإِنَّ دُورَهُمْ لَمْ تَكُنْ مُتَفَاوِتَةً يَوْمَئِذٍ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَلَا بُدَّ مِنْ الدُّخُولِ فِي دَاخِلِ الدَّارِ لِلتَّفَاوُتِ، وَالنَّظَرُ إلَى الظَّاهِرِ لَا يُوقِعُ الْعِلْمَ بِالدَّاخِلِ.

بِآلَاتِهِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْكُلِّ، وَكَذَا السَّرْجُ بِأَدَاتِهِ وَلَبَدِهِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْكُلِّ (وَفِي شَاةِ اللَّحْمِ لَا بُدَّ مِنْ الْجَسِّ) بِالْيَدِ فَلَا يُكْتَفَى بِالرُّؤْيَةِ مَا لَمْ يَجِسَّهَا (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اللَّحْمُ، وَفِي شَاةِ الْقُنْيَةِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّرْعِ، وَفِيمَا يُطْعَمُ لَا بُدَّ مِنْ الذَّوْقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَقْصُودِ) فَلَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِدُونِ ذَلِكَ.

وَكَذَا إذَا رَأَى وَجْهَ الثَّوْبِ مَطْوِيًّا؛ لِأَنَّ الْبَادِيَ يَعْرِفُ مَا فِي الطَّيِّ، فَلَوْ شَرَطَ فَتْحَهُ لَتَضَرَّرَ الْبَائِعُ بِتَكَسُّرِ ثَوْبِهِ وَنُقْصَانِ بَهْجَتِهِ وَبِذَلِكَ يَنْقُصُ ثَمَنُهُ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ كِلَا الْوَجْهَيْنِ، أَوْ يَكُونَ فِي طَيِّهِ مَا يُقْصَدُ بِالرُّؤْيَةِ كَالْعَلَمِ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، أَمَّا فِي عُرْفِنَا فَمَا لَمْ يَرَ بَاطِنَ الثَّوْبِ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ اخْتِلَافُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ فِي الثِّيَابِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ، وَفِي الْبِسَاطِ: لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ جَمِيعِهِ، وَلَوْ نَظَرَ إلَى ظُهُورِ الْمَكَاعِبِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ، وَلَوْ نَظَرَ إلَى وَجْهِهَا دُونَ الصِّرْمِ يَبْطُلُ. قِيلَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى الصِّرْمِ فِي زَمَانِنَا لِتَفَاوُتِهِ وَكَوْنِهِ مَقْصُودًا.

وَفِي الْجُبَّةِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ بِرُؤْيَةِ بَاطِنِهَا وَيَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ ظَاهِرِهَا إلَّا إذَا كَانَتْ الْبِطَانَةُ مَقْصُودَةً بِأَنْ كَانَ فِيهَا فَرْوٌ، وَأَمَّا الْوِسَادَةُ الْمَحْشُوَّةُ إذَا رَأَى ظَاهِرَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَحْشُوَّةً مِمَّا يُحْشَى بِهَا مِثْلُهَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْشَى بِهِ مِثْلُهَا فَلَهُ الْخِيَارُ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ وَاحِدًا

(قَوْلُهُ وَإِنْ رَأَى صَحْنَ الدَّارِ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ بُيُوتَهَا، وَكَذَا إذَا رَأَى خَارِجَ الدَّارِ وَرَأَى أَشْجَارَ الْبُسْتَانِ مِنْ خَارِجٍ)؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا مُتَعَذِّرٌ، إذْ لَا يُمْكِنُ النَّظَرُ إلَى مَا تَحْتَ السُّرَرِ وَإِلَى مَا بَيْنَ الْحِيطَانِ مِنْ الْجُذُوعِ فَيَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا (وَعِنْدَ زُفَرَ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ الْبُيُوتِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى وَفْقِ عَادَتِهِمْ فِي الْأَبْنِيَةِ)

فِي الْكُوفَةِ (فَإِنَّ دُورَهُمْ لَمْ تَكُنْ مُتَفَاوِتَةً) وَأَمَّا فِي دِيَارِنَا (فَلَا بُدَّ مِنْ الدُّخُولِ دَاخِلَ الدَّارِ) كَمَا قَالَ زُفَرُ (لِتَفَاوُتِ الدُّورِ) بِكَثْرَةِ

ص: 344

قَالَ (وَنَظَرُ الْوَكِيلِ كَنَظَرِ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَا يَرُدَّهُ إلَّا مِنْ عَيْبٍ، وَلَا يَكُونُ نَظَرُ الرَّسُولِ كَنَظَرِ الْمُشْتَرِي،

الْمَرَافِقِ وَقِلَّتِهَا فَلَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالنَّظَرِ إلَى صَحْنِهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ.

إلَّا أَنْ يُقَالَ: وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ مَقْصُودٌ، وَعَلَى هَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْعُلُوِّ إلَّا فِي بَلَدٍ يَكُونُ الْعُلُوُّ مَقْصُودًا كَمَا فِي سَمَرْقَنْدَ، وَلَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْمَطْبَخِ وَالْمَزْبَلَةِ عَلَى خِلَافِ بِلَادِنَا بِدِيَارِ مِصْرَ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الْكُلِّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْبَهُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَ فِي الْأَشْجَارِ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِرُؤْيَةِ رُءُوسِ الْأَشْجَارِ أَوْ رُؤْيَةِ خَارِجِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْ الْبُسْتَانِ بَاطِنُهُ فَلَا يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ ظَاهِرِهِ.

وَفِي جَامِعِ قَاضِي خَانَ: لَا يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ الْخَارِجِ وَرُءُوسِ الْأَشْجَارِ انْتَهَى.

وَفِي الْكَرْمِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ عِنَبِ الْكَرْمِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شَيْئًا، وَفِي الرُّمَّانِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْحُلْوِ الْحَامِضِ. وَلَوْ اشْتَرَى دُهْنًا فِي زُجَاجَةٍ فَرُؤْيَتُهُ مِنْ خَارِجِ الزُّجَاجَةِ لَا تَكْفِي حَتَّى يَصُبَّهُ فِي كَفِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الدُّهْنَ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْحَائِلِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: يَكْفِي؛ لِأَنَّ الزُّجَاجَ لَا يُخْفِي صُورَةَ الدُّهْنِ، وَرَوَى هِشَامُ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي التُّحْفَةِ: لَوْ ظَهَرَ فِي الْمِرْآةِ فَرَأَى الْمَبِيعَ قَالُوا لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَأَى عَيْنَهُ بَلْ مِثَالَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى سَمَكًا فِي الْمَاءِ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ اصْطِيَادٍ فَرَآهُ فِي الْمَاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ رَأَى عَيْنَ الْمَبِيعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَسْقُطُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا يُرَى فِي الْمَاءِ عَلَى حَالِهِ بَلْ يُرَى أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ، فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ لَا تُعَرِّفُ الْمَبِيعَ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُغَيَّبًا فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ شَيْئًا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ بَعْدَ الْقَلْعِ كَالثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالسَّلْجَمِ إنْ بَاعَهُ بَعْدَمَا نَبَتَ نَبَاتًا يُفْهَمُ بِهِ وُجُودُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ جَازَ الْبَيْعُ، فَإِنْ قَلَعَ الْبَعْضَ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ حَتَّى إذَا رَضِيَ بِهِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ إنْ قَلَعَ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، فَلَوْ رَضِيَ بِهِ لَزِمَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ لِمَا عُرِفَ أَنَّ رُؤْيَةَ بَعْضِ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ كَرُؤْيَةِ الْكُلِّ، وَإِنْ قَلَعَهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إذْنِهِ إنْ كَانَ الْمَقْلُوعُ شَيْئًا لَهُ ثَمَنٌ بَطَلَ خِيَارُهُ فِي الْكُلِّ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ رَضِيَ بِالْمَقْلُوعِ أَوْ لَمْ يَرْضَ وُجِدَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ بِالْقَلْعِ صَارَ الْمَقْلُوعُ مَعِيبًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا يَنْمُو وَبَعْدَهُ صَارَ مَوَاتًا. وَالتَّعَيُّبُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْلُوعُ شَيْئًا لَا ثَمَنَ لَهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ.

وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يُبَاعُ عَدَدًا إنْ قَلَعَهُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِهِ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي، حَتَّى لَوْ رَضِيَ بِهِ لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ، فَرُؤْيَةُ بَعْضِهِ لَا تَكُونُ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ، وَإِنْ قَلَعَهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ بَطَلَ خِيَارُهُ. وَقَدْ حُكِيَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَهُمَا فَمَا ذَكَرْنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: رُؤْيَةُ بَعْضِهِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ، وَجَعَلَاهُ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ؛ لِأَنَّ بِبَعْضِهَا يُسْتَدَلُّ فِي الْعَادَةِ عَلَى الْكُلِّ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الْقَلْعِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَخَاف إنْ قَلَعْته لَا يَصْلُحُ لِي وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الرَّدِّ، وَقَالَ الْبَائِعُ: لَوْ قَلَعْته فَقَدْ لَا تَرْضَى بِتَطَوُّعِ إنْسَانٍ بِالْقَلْعِ فَإِنْ تَشَاحَّا فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا

(قَوْلُهُ وَنَظَرُ الْوَكِيلِ) إلَى الْمَبِيعِ مَكْشُوفًا: يَعْنِي الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ كَمَا فَسَرَّهُ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ مَنْ يَقُولُ لَهُ الْمُوَكِّلُ وَكَّلْتُك بِقَبْضِهِ أَوْ كُنْ وَكِيلًا عَنِّي بِقَبْضِهِ (كَنَظَرِ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَا يَرُدُّهُ) الْمُشْتَرِي بَعْدَ قَبْضِ الْوَكِيلِ وَرُؤْيَتِهِ (إلَّا مِنْ عَيْبٍ، وَلَا يَكُونُ نَظَرُ الرَّسُولِ كَنَظَرِ الْمُرْسِلِ) وَالرَّسُولُ هُوَ مَنْ يَقُولُ لَهُ الْمُشْتَرِي قُلْ لِفُلَانٍ يَدْفَعُ إلَيْك الْمَبِيعَ أَوْ أَنْتَ رَسُولِي إلَيْهِ فِي قَبْضِهِ

ص: 345

وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَا: هُمَا سَوَاءٌ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ) قَالَ مَعْنَاهُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَرُؤْيَتُهُ تُسْقِطُ الْخِيَارَ بِالْإِجْمَاعِ، لَهُمَا لِأَنَّهُ تَوَكَّلَ بِالْقَبْضِ دُونَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَلَا يَمْلِكُ مَا لَمْ يَتَوَكَّلْ بِهِ وَصَارَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالشَّرْطِ وَالْأَسْقَاطِ قَصْدًا. وَلَهُ أَنَّ الْقَبْضَ نَوْعَانِ: تَامٌّ وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ يَرَاهُ. وَنَاقِصٌ، وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ مَسْتُورًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَلَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْمُوَكِّلُ مَلَكَهُ بِنَوْعَيْهِ، فَكَذَا الْوَكِيلُ. وَمَتَى قَبَضَ الْمُوَكِّلُ وَهُوَ يَرَاهُ سَقَطَ الْخِيَارُ فَكَذَا الْوَكِيلُ لِإِطْلَاقِ التَّوْكِيلِ.

أَوْ أَرْسَلْتُك لِقَبْضِهِ أَوْ أَمَرْتُك بِقَبْضِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ اذْهَبْ فَاقْبِضْهُ يَكُونُ رَسُولًا لَا وَكِيلًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَا صَدَقَاتِ أَمَرْتُك، وَقَدْ قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْوَكِيلِ فِي فَصْلِ الْأَمْرِ بِأَنْ قَالَ اقْبِضْ الْمَبِيعَ فَلَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ فِيمَا إذَا قَالَ أَمَرْتُك بِمَادَّةِ أَلِفٍ مِيمٍ رَاءٍ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَقَالَا: هُمَا) يَعْنِي الرَّسُولَ وَالْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ (سَوَاءٌ) فَيَرُدُّ الْمُوَكِّلُ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ مَا قَبَضَهُ وَكِيلُهُ كَمَا يَرُدُّ مَا قَبَضَهُ رَسُولُهُ (فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَرُؤْيَتُهُ تُسْقِطُ الْخِيَارَ بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّهُ تَوَكَّلَ) أَيْ قَبِلَ الْوَكَالَةَ (بِالْقَبْضِ دُونَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَلَا يَمْلِكُ مَا لَمْ يَتَوَكَّلْ بِهِ) وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَا يَثْبُتُ عَنْ فِعْلِهِ (وَصَارَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالشَّرْطِ) بِأَنْ اشْتَرَى مَعِيبًا لَمْ يَرَ عَيْبَهُ ثُمَّ وَكَّلَ بِقَبْضِهِ فَقَبَضَهُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُ الشَّرْطِ (و) صَارَ أَيْضًا (كَالْإِسْقَاطِ قَصْدًا) بِأَنْ قَبَضَهُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ مَسْتُورًا ثُمَّ رَآهُ فَأَسْقَطَ الْخِيَارَ قَصْدًا لَا يَسْقُطُ (وَلَهُ أَنَّ الْقَبْضَ عَلَى نَوْعَيْنِ) قَبْضٌ (تَامٌّ) وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ يَرَاهُ.

وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْضًا تَامًّا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَبْطُلُ بِهَذَا الْقَبْضِ وَبَقَاءَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ، فَلَمَّا بَطَلَ بِهَذَا الْقَبْضِ مِنْ الْمُشْتَرِي كَانَ هَذَا الْقَبْضُ تَامًّا (وَنَاقِصٌ وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَهُ مَسْتُورًا) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَبْضُ مَعَ الرُّؤْيَةِ مُتَضَمِّنًا لِسُقُوطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِاسْتِلْزَامِهِ تَمَامَ الصَّفْقَةِ وَلَا يَتِمُّ دُونَهُ (ثُمَّ الْمُوَكِّلُ مَلَكَ الْقَبْضَ بِنَوْعَيْهِ، فَكَذَا وَكِيلُهُ لِإِطْلَاقِ التَّوْكِيلِ) بِخِلَافِ

ص: 346

وَإِذَا قَبَضَهُ مَسْتُورًا انْتَهَى التَّوْكِيلُ بِالنَّاقِصِ مِنْهُ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ قَصْدًا بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَيَتِمُّ الْقَبْضُ مَعَ بَقَائِهِ،

مَا إذَا أَسْقَطَ الْخِيَارَ قَصْدًا بِأَنْ قَبَضَهُ مَسْتُورًا ثُمَّ رَآهُ فَأَسْقَطَ الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ بِقَبْضِهِ (مَسْتُورًا انْتَهَى التَّوْكِيلُ) بِالْقَبْضِ (النَّاقِصِ فَلَا يَمْلِكُ) الْوَكِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ (إسْقَاطَهُ) لِانْتِفَاءِ وِلَايَتِهِ، وَنُقِضَ بِمَسْأَلَتَيْنِ لَمْ يَقُمْ الْوَكِيلُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِيهِمَا. إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ رَأَى قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَسْقُطْ بِرُؤْيَتِهِ الْخِيَارُ، وَالْمُوَكِّلُ لَوْ رَأَى وَلَمْ يَقْبِضْ يَسْقُطُ خِيَارَهُ.

وَالثَّانِيَةُ: لَوْ قَبَضَهُ الْمُوَكِّلُ مَسْتُورًا ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَأَبْطَلَ الْخِيَارَ بَطَلَ، وَالْوَكِيلُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ سُقُوطَ الْخِيَارِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ إنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِتَمَامِ قَبْضِهِ بِسَبَبِ وِلَايَتِهِ بِالْوَكَالَةِ، وَلَيْسَ هَذَا ثَابِتًا فِي مُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَنَقُولُ: بَلْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ لِلْمُوَكِّلِ، وَهُوَ سُقُوطُ خِيَارِهِ إذَا رَآهُ إنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مُجَرَّدَ مُضِيِّ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ يَسْقُطُ الْخِيَارُ، وَلَيْسَ هُوَ بِالصَّحِيحِ، وَبِعَيْنِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ يَقَعُ الْفَرْقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ضِمْنًا لِلْقَبْضِ الصَّحِيحِ، بَلْ ثَبَتَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْوَكَالَةِ بِالْقَبْضِ النَّاقِصِ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ) يَثْبُتُ مَعَ (تَمَامِ الصَّفْقَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لِتَتْمِيمِ الْقَبْضِ بَلْ لِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ ضِمْنِ الْقَبْضِ مَعَ بَقَاءِ الْخِيَارِ، وَلِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ وَحْدَهُ فِيمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئَيْنِ. وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ إلَّا مِنْ عَيْبٍ. قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: يُحْتَمَلُ

ص: 347

وَخِيَارُ الشَّرْطِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُوَكِّلُ لَا يَمْلِكُ التَّامَّ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِيَارِ يَكُونُ بَعْدَهُ، فَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ وَكِيلُهُ، وَبِخِلَافِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَإِنَّمَا إلَيْهِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ، وَالتَّسْلِيمَ إذَا كَانَ رَسُولًا فِي الْبَيْعِ.

قَالَ (وَبَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا اشْتَرَى) لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ (ثُمَّ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِجَسِّهِ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالْجَسِّ، وَيَشُمُّهُ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالشَّمِّ، وَيَذُوقُهُ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ) كَمَا فِي الْبَصِيرِ (وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي الْعَقَارِ حَتَّى يُوصَفَ لَهُ)

إلَّا مِنْ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ الْوَكِيلُ، فَإِنْ كَانَ عَلِمَهُ يَجِبُ أَنْ يُبْطِلَ خِيَارَ الْعَيْبِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَلَمْ يُسَلِّمْ مَسْأَلَةَ خِيَارِ الْعَيْبِ. وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ إبْطَالَ خِيَارِ الْعَيْبِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.

وَقَوْلُهُ (وَخِيَارُ الشَّرْطِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ إلَخْ) يَعْنِي وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا نَصَّ فِيهِ، فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَهُ فَيَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْهِنْدُوَانِيُّ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ التَّامَّ لَا يَحْصُلُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يُجِيزُ الْفَسْخَ فَلَا يَتِمُّ الْقَبْضُ مَعَ ذَلِكَ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ بِعَيْنِهِ (وَلَئِنْ سَلَّمَ) أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالْقَبْضِ التَّامِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ (فَالْمُوَكِّلُ لَا يَمْلِكُ التَّامَّ مِنْهُ) فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ التَّامَّ لَا يَكُونُ مَعَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ (بِخِلَافِ الرَّسُولِ) بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا) مِنْ الْقَبْضِ لَا التَّامِّ وَلَا النَّاقِصِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقَبْضِ بَلْ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلِذَا لَا يَمْلِكُ التَّسْلِيمَ أَيْضًا، وَصُوَرُ الْإِرْسَالِ فِي الْبَيْعِ تَقَدَّمَتْ أَوَائِلَ كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَصُورَتُهَا بِالشِّرَاءِ أَنْ يَقُولَ قُلْ لِفُلَانٍ إنِّي اشْتَرَيْت مِنْك كَذَا وَكَذَا بِمُعَيَّنِ كَذَا وَكَذَا

(قَوْلُهُ وَبَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ) بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا فِي السَّلَمِ، وَالشِّرَاءُ يُمَدُّ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَيَقْصُرُ لِأَهْلِ نَجْدٍ (وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا اشْتَرَى؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ) فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ «مَنْ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ» (وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) فِي أَوَّلِ الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا مُعَامَلَةَ الْعُمْيَانِ بَيْعًا وَشِرَاءً، وَالتَّعَارُفُ بِلَا نَكِيرٍ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ (ثُمَّ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِجَسِّهِ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالْجَسِّ) كَالشَّاةِ (وَيَشُمُّهُ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالشَّمِّ) كَالطِّيبِ (وَبِذَوْقِهِ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ) كَالْعَسَلِ. وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي الْبَصِيرِ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْبَصِيرَ إذَا لَمْ يَرَ الْمَبِيعَ وَلَكِنْ شَمَّهُ فَقَطْ وَهُوَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالشَّمِّ كَالْمِسْكِ وَنَحْوِهِ فَرَضِيَ بِهِ ثُمَّ رَأَى فَلَا خِيَارَ لَهُ (وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي الْعَقَارِ حَتَّى يُوصَفَ لَهُ)

ص: 348

لِأَنَّ الْوَصْفَ يُقَامُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي السَّلَمِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إذَا وَقَفَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ وَقَالَ: قَدْ رَضِيتُ سَقَطَ خِيَارُهُ، لِأَنَّ التَّشَبُّهَ يُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الْعَجْزِ كَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ يُقَامُ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِجْرَاءُ الْمُوسَى مَقَامَ الْحَلْقِ فِي حَقِّ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ فِي الْحَجِّ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: يُوَكِّلُ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ وَهُوَ يَرَاهُ وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْوَكِيلِ كَرُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا مَرَّ آنِفًا.

فِي جَامِعِ الْعَتَّابِيِّ هُوَ أَنْ يُوقَفَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ ثُمَّ يَذْكُرُ لَهُ صِفَتَهُ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ إيقَافَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْوَصْفِ وَسُقُوطُ الْخِيَارِ بِهِ فَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْوَصْفِ (لِأَنَّ الْوَصْفَ قَدْ أُقِيمَ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي السَّلَمِ) وَمِمَّنْ أَنْكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، وَقَالَ: وُقُوفُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ عِلْمًا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَأَى الْعَقَارَ، وَقَالَ: رَضِيَتْ سَقَطَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ التَّشَبُّهَ يُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الْعَجْزِ كَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ يُقَامُ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ لِلْأَخْرَسِ، وَإِجْرَاءُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ) فِي الْإِحْلَالِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ الْوَصْفِ فَإِنَّ الْقَائِمَ مَقَامَ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَتِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ شَرْعًا اعْتِبَارُهُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي السَّلَمِ، وَوُجُوبُ إجْرَاءِ الْمُوسَى مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَكَذَا التَّحْرِيكُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْأُمِّيِّ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْوَصْفَ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ أَيْضًا وَلَمْ يَعْتَبِرْ الشَّمَّ وَلَا الذَّوْقَ وَالْجَسَّ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ يَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.

وَقَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ: يَمَسُّ الْحِيطَانَ وَالْأَشْجَارَ، فَإِذَا قَالَ: رَضِيتُ سَقَطَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى إذَا كَانَ ذَكِيًّا يَقِفُ عَلَى مَقْصُودِهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ وَابْنِ سِمَاعَةَ فِي الدَّارِ. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْوَصْفَ مَعَ كُلٍّ مِنْ الذَّوْقِ وَاللَّمْسِ وَالْجَسِّ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ الْكَامِلَ فِي حَقِّهِ يَثْبُتُ بِهَذَا إلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ جَسُّهُ كَالثَّمَرِ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْوَصْفُ لَا غَيْرَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَبِي اللَّيْثِ (وَقَالَ الْحَسَنُ: يُوَكِّلُ وَكِيلًا بِقَبْضِهِ وَهُوَ يَرَاهُ) فَيَسْقُطُ بِذَلِكَ خِيَارُهُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ جَعَلَ رُؤْيَةَ الْوَكِيلِ رُؤْيَةَ الْمُوَكِّلِ) وَلَوْ وَصَفَ

ص: 349

قَالَ (وَمَنْ رَأَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَاشْتَرَاهُمَا ثُمَّ رَأَى الْآخَرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا) لِأَنَّ رُؤْيَةَ أَحَدِهِمَا لَا تَكُونُ رُؤْيَةَ الْآخَرِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الثِّيَابِ فَبَقِيَ الْخِيَارُ فِيمَا لَمْ يَرَهُ، ثُمَّ لَا يَرُدُّهُ وَحْدَهُ بَلْ يَرُدُّهُمَا كَيْ لَا يَكُونَ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَيَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ.

لِلْأَعْمَى ثُمَّ أَبْصَرَ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ سَقَطَ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَلَوْ اشْتَرَى الْبَصِيرُ ثُمَّ عَمِيَ انْتَقَلَ الْخِيَارُ إلَى الْوَصْفِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ رَأَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَاشْتَرَاهُمَا ثُمَّ رَأَى الْآخَرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ أَحَدِهِمَا لَيْسَتْ رُؤْيَةً لِلْآخَرِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الثِّيَابِ فَيَبْقَى الْخِيَارُ فِيمَا لَمْ يَرَهُ) فَلَهُ رَدُّهُ بِحُكْمِ الْخِيَارِ (ثُمَّ لَا) يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ وَحْدَهُ (فَيَرُدُّهُمَا) إنْ شَاءَ (كَيْ لَا يَكُونُ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ) عَلَى الْبَائِعِ (قَبْلَ التَّمَامِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ) كَخِيَارِ الشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ (بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَيَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ) لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الرِّضَا

ص: 350

وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ) لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ عِنْدَنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ (وَمَنْ رَأَى شَيْئًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي رَآهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ) لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَوْصَافِهِ حَاصِلٌ لَهُ بِالرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ، وَبِفَوَاتِهِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ

قَبْلَهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ الْمَبِيعِ وَلِذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ وَالرِّضَا، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا لَا يَرُدُّ الْبَاقِيَ، وَهُنَا وَفِي خِيَارِ الشَّرْطِ يَرُدُّ الْآخَرَ إذَا رَدَّ أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ.

أُجِيبَ أَنَّ رَدَّ أَحَدِهِمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يُوجِبُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ لِمَا عُلِمَ أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ مَعَهُمَا، وَفِي الِاسْتِحْقَاقِ: لَوْ رَدَّ كَانَ بَعْدَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ فِيمَا كَانَ مِلْكُ الْبَائِعِ ظَاهِرًا فَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْبَاقِي عَيْبُ الشَّرِكَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا وَاحِدًا فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ أَيْضًا كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمِعَةِ عَيْبٌ، وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِهَذَا الْعَيْبِ فِي فَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ كَانَ قَبَضَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يَقْبِضْ الْآخَرَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا لَهُ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِهَا قَبْلَ التَّمَامِ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يُخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ فِيهِ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ قَبْلَ الْقَبْضِ يُخَيَّرُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَلَوْ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَحْدَهُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ قَبْلَ الْقَبْضِ.

هَذَا وَالْمَعْنَى فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ وَجَوَازِهَا بَعْدَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي تَفْرِيقِهَا ثُبُوتَ ضَرَرَيْنِ دَائِمًا، غَيْرَ أَنَّهُ قَبْلَ التَّمَامِ يَكُونُ ضَرَرُ الْبَائِعِ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ ضَرَرُ مَالٍ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَرُوجُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ لِجَوْدَةِ أَحَدِهِمَا وَرَدَاءَةِ الْآخَرِ، وَهُوَ فَوْقَ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ ضَرَرَهُ لَيْسَ إلَّا بِبُطْلَانِ مُجَرَّدِ قَوْلِهِ إذَا أَلْزَمْنَاهُ رَدَّهُمَا، وَبَعْدَ الْقَبْضِ ضَرَرُ الْمُشْتَرِي أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى رَدَّ الْكُلَّ يَبْطُلُ حَقُّهُ عَنْ الْيَدِ وَضَرَرُ الْبَائِعِ مَوْهُومٌ إذْ قَدْ يَبِيعُ الْمَرْدُودَ بِثَمَنٍ جَيِّدٍ فَعَمِلْنَا بِدَفْعِ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ فِيهِمَا

(قَوْلُهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ) عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهِ (فِي خِيَارِ الشَّرْطِ) وَتَقَدَّمَ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ لَا يُوَرَّثَانِ وَخِيَارَ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ يُوَرَّثَانِ بِالِاتِّفَاقِ (قَوْلُهُ وَمَنْ رَأَى شَيْئًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَإِنْ وَجَدَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي رَآهُ) عَلَيْهَا (فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَوْصَافِهِ حَاصِلٌ لَهُ بِالرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ) فَلَمْ

ص: 351

إلَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُهُ مَرْئِيَّهُ لِعَدَمِ الرِّضَا بِهِ (وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا فَلَهُ الْخِيَارُ) لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ لَمْ تَقَعْ مُعْلِمَةً بِأَوْصَافِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّغَيُّرِ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ حَادِثٌ وَسَبَبُ اللُّزُومِ ظَاهِرٌ،

يَتَنَاوَلْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ» ؛ لِأَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الرُّؤْيَةَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَهُ (إلَّا إذَا كَانَ) الْمُشْتَرِي (لَا يَعْلَمُهُ مَرْئِيَّهُ) أَيْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمَبِيعَ كَمَا قَدْ رَآهُ فِيمَا مَضَى كَأَنْ رَأَى جَارِيَةً ثُمَّ اشْتَرَى جَارِيَةً مُنْتَقِبَةً لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا الَّتِي كَانَ رَآهَا ثُمَّ ظَهَرَتْ إيَّاهَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ (لِعَدَمِ) مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ (بِالرِّضَا) أَوْ رَأَى ثَوْبًا فَلُفَّ فِي ثَوْبٍ وَبِيعَ فَاشْتَرَاهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ ذَلِكَ (وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا) عَنْ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ رَآهُ عَلَيْهَا (فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ لَمْ تَقَعْ مُعْلِمَةً بِأَوْصَافِهِ) فَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ وَعَدَمُهَا سَوَاءً (فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّغَيُّرِ) فَقَالَ الْبَائِعُ: لَمْ يَتَغَيَّرْ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: تَغَيَّرَ (فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ) دَعْوَى (التَّغَيُّرِ) بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَهُوَ رُؤْيَةُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْبَيْعِ دَعْوَى أَمْرٍ (حَادِثٍ) بَعْدَهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ (بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الرُّؤْيَةِ) فَقَالَ الْبَائِعُ: رَأَيْته وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَمْ أَرَهُ فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا هُوَ الْعِلْمُ بِصِفَتِهِ (وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ فَالْقَوْلُ لَهُ) وَكَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ فَقَالَ الْبَائِعُ: لَيْسَ هَذَا الَّذِي بِعْتُكَهُ.

وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ هُوَ هُوَ، الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعٍ بَاتٍّ أَوْ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْ الرُّؤْيَةِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْغَالِبُ فِي الْبِيَاعَاتِ كَوْنُ الْمُشْتَرِينَ رَأَوْا الْمَبِيعَ فَدَعْوَى الْبَائِعِ رُؤْيَةَ الْمُشْتَرِي تَمَسُّكٌ بِالظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْقَوْلَ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ لَا لِمَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ إلَّا إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ ظَاهِرُ الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِلْبَائِعِ فِي الرُّؤْيَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لَهُ خِيَارُ الْعَيْبِ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِلْبَائِعِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ الْمَبِيعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الْخِيَارَيْنِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِفَسْخِهِ بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الْآخَرِ بَلْ عَلَى عِلْمِهِ عَلَى الْخِلَافِ، وَإِذَا انْفَسَخَ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الْمَقْبُوضِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا كَالْغَاصِبِ وَالْمُودِعِ، بِخِلَافِ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ لَا يَنْفَرِدُ الْمُشْتَرِي بِفَسْخِهِ وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ الْفَسْخِ فِي الَّذِي أَحْضَرَهُ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ.

ص: 352

إلَّا إذَا بَعُدَتْ الْمُدَّةُ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ حَادِثٌ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ وَلَمْ يَرَهُ فَبَاعَ مِنْهُ ثَوْبًا أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْهَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ، وَكَذَلِكَ خِيَارُ الشَّرْطِ)؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ فِيمَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، وَفِي رَدِّ مَا بَقِيَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَمْنَعَانِ تَمَامَهَا، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتِمُّ قَبْلَهُ وَفِيهِ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا بَعُدَتْ الْمُدَّةُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ: أَيْ إلَّا فِي صُورَةِ مَا إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ (عَلَى مَا قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُشْتَرِي) إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَبْقَى الشَّيْءُ فِي دَارِ التَّغَيُّرِ وَهِيَ الدُّنْيَا زَمَانًا طَوِيلًا لَمْ يَطْرُقْهُ تَغَيُّرٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَرَأَيْت لَوْ رَأَى جَارِيَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ عِشْرِينَ سَنَةً وَقَالَ تَغَيَّرَتْ: أَنْ لَا يُصَدَّقَ، بَلْ يُصَدَّقَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَبِهِ أَفْتَى الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْإِمَامُ الْمَرْغِينَانِيُّ فَنَقُولُ: إنْ كَانَ لَا يَتَفَاوَتُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ غَالِبًا فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ غَالِبًا فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي. مِثَالُهُ: لَوْ رَأَى دَابَّةً أَوْ مَمْلُوكًا فَاشْتَرَاهُ بَعْدَ شَهْرٍ وَقَالَ تَغَيَّرَ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي مِثْلِهِ قَلِيلٌ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلَ زُطِّيٍّ لَمْ يَرَهُ وَقَبَضَهُ فَبَاعَ ثَوْبًا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهُ) ثُمَّ رَأَى الْبَاقِيَ (لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْهَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ) وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْعِدْلَ الْمَذْكُورَ عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ شَرْطُ الْخِيَارِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ: أَعْنِي فَبَاعَ بَعْضَهَا أَوْ وَهَبَهُ سَقَطَ خِيَارُهُ فِي الْبَاقِي وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ بَلْ إنْ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ، وَهَذَا (لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ) فَلَوْ رَدَّ الْبَاقِيَ فَقَطْ كَانَ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ، لِمَا مَرَّ مِنْ.

(أَنَّ) قِيَامَ (خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَهَا) وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ (بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ مَعَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَفِيهِ) أَيْ فِي الْمَقْبُوضِ (وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ)؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُقَيَّدَةً بِهِ لَمْ تَصِحَّ صُورَتُهَا إذْ لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَهِبَتُهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَتْ الْخِيَارَاتُ كُلُّهَا سَوَاءً وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ أَحَدَهُمَا بَلْ يَرُدُّهُمَا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ إنْ شَاءَ فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ إلَّا مِنْ عَيْبٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئَيْنِ وَلَمْ يَقْبِضْهُمَا حَتَّى وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لَا يَرُدُّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بَلْ يَرُدُّهُمَا إنْ شَاءَ.

لَا يُقَالُ: فِي عَدَمِ رَدِّ الْبَاقِي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِحَدِيثِ الْخِيَارِ لِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ مَعَ أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَإِنَّ تَفْرِيقَهَا جَائِزٌ بَعْدَ تَمَامِهَا وَحَدِيثُ الْخِيَارِ أَقْوَى.

قُلْنَا: لَمْ نَقُلْ بِعَدَمِ رَدِّهِ مُطْلَقًا، بَلْ قُلْنَا: إذَا رَدَّهُ يَرُدُّ مَعَهُ الْآخَرَ، فَزِدْنَا شَرْطًا فِي الرَّدِّ

ص: 353

فَلَوْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ بَعْدَ سُقُوطِهِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ.

(بَابُ خِيَارِ الْعَيْبِ)

عَمَلًا بِحَدِيثِ الصَّفْقَةِ لِنَكُونَ عَامِلِينَ بِالْحَدِيثَيْنِ مَعًا جَمْعًا بَيْنَهُمَا.

وَالْعِدْلُ: الْمِثْلُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْغِرَارَةُ الَّتِي هِيَ عِدْلُ غِرَارَةٍ أُخْرَى عَلَى الْجَمَلِ أَوْ نَحْوِهِ: أَيْ يُعَادِلُهَا وَفِيهَا أَثْوَابٌ. وَالزُّطُّ فِي الْمَغْرِبِ: جِيلٌ مِنْ الْهِنْدِ تُنْسَبُ إلَيْهِمْ الثِّيَابُ الزُّطِّيَّةُ، وَقِيلَ جِيلٌ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ. وَذَكَرَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَبَاعَ مِنْهُ عَلَى لَفْظِ الْعِدْلِ ثُمَّ أَنَّثَهُ فِي قَوْلِهِ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى مَعْنَاهُ، فَكَانَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} هَذَا (وَلَوْ عَادَ) الثَّوْبُ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ الْعِدْلِ أَوْ وَهَبَهُ (إلَى الْمُشْتَرِي بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ) مَحْضٌ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَوْ الشَّرْطِ أَوْ الْعَيْبِ بِالْقَضَاءِ أَوْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ (فَهُوَ) أَيْ الْمُشْتَرِي لِلْعِدْلِ (عَلَى خِيَارِهِ) أَيْ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ حِينَئِذٍ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِارْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ (كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ).

وَهُوَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ عَنْهُ (أَنَّهُ) أَيْ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ (لَا يَعُودُ)؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ (كَخِيَارِ الشَّرْطِ) إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَصَحَّحَهُ قَاضِي خَانَ (وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ) وَحَقِيقَةُ الْمَلْحَظِ مُخْتَلِفٌ، فَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ لَحَظَ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ مَانِعًا زَالَ فَيَعْمَلُ الْمُقْتَضِي وَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ عَمَلَهُ، وَلَحَظَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُسْقَطًا، وَإِذَا سَقَطَ لَا يَعُودُ بِلَا سَبَبٍ وَهَذَا أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَ هَذَا التَّصَرُّفِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَبَعْدَهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

(بَابُ خِيَارِ الْعَيْبِ)

تَقَدَّمَ وَجْهُ تَرْتِيبِ الْخِيَارَاتِ وَالْإِضَافَةُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ وَالْعَيْبُ وَالْعَيْبَةُ وَالُعَابُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ عَابَ الْمَتَاعُ: أَيْ صَارَ ذَا عَيْبٍ، وَعَابَهُ زَيْدٌ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى فَهُوَ مَعِيبٌ وَمَعْيُوبٌ أَيْضًا عَلَى

ص: 354

(وَإِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ) فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ، فَعِنْدَ فَوْتِهِ يَتَخَيَّرُ

الْأَصْلِ، وَالْعَيْبُ: مَا تَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِمَّا يُعَدُّ بِهِ نَاقِصًا (قَوْلُهُ وَإِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ) وَلَمْ يَكُنْ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ) ذَلِكَ الْمَبِيعَ (بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) هَذَا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إزَالَتِهِ بِلَا مَشَقَّةٍ، فَإِنْ تَمَكَّنَ فَلَا كَإِحْرَامِ الْجَارِيَةِ فَإِنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ تَحْلِيلِهَا وَنَجَاسَةِ الثَّوْبِ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى ثَوْبٍ لَا يَفْسُدُ بِالْغَسْلِ وَلَا يُنْتَقَصُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْخِيَارُ (لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ) وَهُوَ مَا لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ عَيْبٌ (يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَتَخَيَّرُ) بَيَانُ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْنَى.

أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَيُذْكَرُ عَنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: «كَتَبَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، بَيْعُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ عَبْدًا لَا دَاءَ وَلَا خِبْثَةً وَلَا غَائِلَةَ» ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ قَتَادَةُ: الْغَائِلَةُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْإِبَاقُ.

وَرَوَى ابْنُ شَاهِينِ فِي الْمُعْجَمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ لَيْثٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ وَهْبٍ أَبُو وَهْبٍ قَالَ: قَالَ لِي الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدٍ بْنُ هَوْذَةَ: «أَلَا أُقْرِئُكَ كِتَابًا كَتَبَهُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: قُلْت بَلَى، فَأَخْرَجَ لِي كِتَابًا هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ» فَفِي هَذَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْعَدَّاءُ.

وَفِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَصُحِّحَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ الْعَدَّاءَ وَتَعْلِيقُ الْبُخَارِيِّ إنَّمَا يَكُونُ صَحِيحًا إذَا لَمْ يَكُنْ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ كَيُذْكَرُ بَلْ بِنَحْوِ قَوْلِهِ، وَقَالَ مُعَاذٌ لِأَهْلِ الْيَمَنِ.

فَفِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «بَيْعُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ مَا كَانَ سَلِيمًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عليه الصلاة والسلام بِالرَّدِّ فِيهِ عَلَى مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِسَنَدِهِ إلَى عَائِشَةَ «أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ غُلَامًا فَأَقَامَ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَخَاصَمَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ اسْتَغَلَّ غُلَامِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَفَسَّرَ الْخَطَّابِيُّ الدَّاءَ بِمَا يَكُونُ بِالرَّقِيقِ مِنْ الْأَدْوَاءِ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَنَحْوِهَا، وَالْخِبْثَةَ مَا كَانَ خَبِيثَ الْأَصْلِ مِثْلُ أَنْ يَسْبِيَ مَنْ لَهُ عَهْدٌ يُقَالُ هَذَا سَبْيُ خِبْثَةٍ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَحْرُمُ سَبْيُهُ، وَهَذَا سَبْيٌ طَيِّبَةٌ بِوَزْنِ خَيِّرَةٍ ضِدُّهُ.

وَمَعْنَى الْغَائِلَةِ مَا يَغْتَالُ حَقَّك مِنْ حِيلَةٍ وَمَا يُدَلِّسُ عَلَيْك

ص: 355

كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِلُزُومِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي مُمْكِنٌ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَضَرُّرِهِ، وَالْمُرَادُ عَيْبٌ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِضًا بِهِ. .

فِي الْمَبِيعِ مِنْ عَيْبٍ، وَتَفْسِيرُهُ لِلدَّاءِ يُوَافِقُ تَفْسِيرَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَفَسَّرَهُ فِيمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْهُ بِالْمَرَضِ فِي الْجَوْفِ وَالْكَبِدِ وَالرِّئَةِ، وَفَسَّرَ أَبُو يُوسُفَ الْغَائِلَةَ بِمَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ الْغَائِلَةُ: الْخَصْلَةُ الَّتِي تَغُولُ الْمَالَ: أَيْ تُهْلِكُهُ مِنْ إبَاقٍ وَغَيْرِهِ، وَالْخِبْثَةُ: هُوَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَقِيلَ هُوَ الْجُنُونُ، وَأَمَّا الْمَعْنَى: فَلِأَنَّ السَّلَامَةَ لَمَّا كَانَتْ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْمَخْلُوقِ انْصَرَفَ مُطْلَقُ الْعَقْدِ إلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى مَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ عَلَى التَّمَامِ بِهِ يَكُونُ، وَالنَّاقِصُ مَعْدُومٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا بِذِكْرِهِ وَتَعْيِينِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْقَصْدُ إلَى السَّالِمِ هُوَ الْغَالِبُ صَارَ كَالْمَشْرُوطِ فَيَتَخَيَّرُ عِنْدَ فَقْدِهِ (كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِإِلْزَامِ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ)(قَوْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ) أَيْ نُقْصَانَ الْعَيْبِ.

وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا لِأَحْمَدَ، لِأَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَلَا يَتَحَقَّقُ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ ضَرَرًا عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لَهُ، وَالْبَائِعُ يَلْتَزِمُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ بَاعَهُ بِالْمُسَمَّى لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعِيبًا، وَهَذَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعْرِفَتُهُ بِالْعَيْبِ فَأُنْزِلَ عَالِمًا بِهِ لِطُولِ مُمَارَسَتِهِ لَهُ فِي مُدَّةِ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ، وَلِذَا بِعَيْنِهِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَهُ سَلِيمًا لَا خِيَارَ لَهُ.

وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مَا رَضِيَ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ مَعِيبٌ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ حِينَ وَجَدَهُ سَلِيمًا لِأَنَّهُ أُنْزِلَ عَالِمًا بِوَصْفِ السَّلَامَةِ فِيهِ فَحَيْثُ بَاعَهُ بِالْمُسَمَّى كَانَ رَاضِيًا بِالثَّمَنِ عَلَى اعْتِبَارِهِ سَلِيمًا فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، كَمَا جُعِلَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ فَأُنْزِلَ غَيْرَ رَاضٍ فِيهِ مَعِيبًا إلَّا بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ بَلْ يَتَخَيَّرُ فِي أَخْذِهِ أَوْ رَدِّهِ، فَإِنَّ بِذَلِكَ يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي دَفْعِ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِهِ فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَوْجَهُ.

وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ قَبْلَ قَوْلِهِ (وَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ) فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي مُقَابَلَةِ فَوَاتِهِ شَيْئًا؛ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ عُيِّنَ فَإِنَّمَا يُقَابِلُهُ مِثْلُهُ، وَالْوَصْفُ دُونَهُ فَإِنَّهُ عَرَضٌ لَا يُحْرَزُ بِانْفِرَادِهِ فَلَا يُقَابَلُ بِهِ إلَّا تَبَعًا لِمَعْرُوضِهِ غَيْرَ مُنْفَرِدٍ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالتَّنَاوُلِ حَقِيقَةً، كَمَا لَوْ ضَرَبَ الْبَائِعُ الدَّابَّةَ فَتَعَيَّنَتْ فَإِنَّ الْوَصْفَ حِينَئِذٍ يُفْرَدُ بِالضَّمَانِ وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا إذَا قَطَعَ الْبَائِعُ يَدَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ نِصْفُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ امْتَنَعَ الرَّدُّ لِحَقِّ الْبَائِعِ

ص: 356

قَالَ (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ)؛ لِأَنَّ التَّضَرُّرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُرْفُ أَهْلِهِ.

(وَالْإِبَاقُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ وَالسَّرِقَةُ فِي الصَّغِيرِ عَيْبٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ، فَإِذَا بَلَغَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ حَتَّى يُعَاوِدَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ) وَمَعْنَاهُ: إذَا ظَهَرَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ حَدَثَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي صِغَرِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَمْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ

كَأَنْ تَعَيَّبَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ آخَرَ أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعُ بِأَنْ جَنَى جِنَايَةً.

وَلِذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ اشْتَرَى بَقَرَةً فَحَلَبَهَا وَشَرِبَ لَبَنَهَا ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ عَيْبٌ لَا يَرُدُّهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ الَّتِي أَتْلَفَهَا جُزْءٌ مَبِيعٌ لَا أَنَّهَا تَبَعٌ مَحْضٌ.

[فَرْعٌ]

لَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَنْ حَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى مَالٍ يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجُوزُ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِهِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ.

(قَوْلُهُ وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ) الَّذِي اُشْتُرِيَ بِهِ (فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ) وَهَذَا ضَابِطُ الْعَيْبِ الَّذِي يُرَدُّ بِهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِتَضَرُّرِ الْمُشْتَرِي وَمَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَالْمَرْجِعُ فِي كَوْنِهِ عَيْبًا أَوْ لَا لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ وَهُمْ التُّجَّارُ أَوْ أَرْبَابُ الصَّنَائِعِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ الْمَصْنُوعَاتِ.

وَبِهَذَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ يُنْقِصُ الْعَيْنَ أَوْ لَا يُنْقِصُهَا وَلَا يُنْقِصُ مَنَافِعَهَا بَلْ مُجَرَّدُ النَّظَرِ إلَيْهَا كَالظُّفْرِ الْأَسْوَدِ الصَّحِيحِ الْقَوِيِّ عَلَى الْعَمَلِ. وَكَمَا فِي جَارِيَةٍ تُرْكِيَّةٍ لَا تَعْرِفُ لِسَانَ التَّرْكِ.

(قَوْلُهُ وَالْإِبَاقُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ وَالسَّرِقَةُ عَيْبٌ فِي الصَّغِيرِ) وَقَوْلُهُ (مَا لَمْ يَبْلُغْ) بِمَعْنَى مُدَّةِ عَدَمِ بُلُوغِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْبَدَلِ مِنْ الصَّغِيرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا فِي الصَّغِيرِ فَظَهَرَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ ثُمَّ وُجِدَتْ أَيْضًا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي الصِّغَرِ أَنْ يَرُدَّهُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ الْقُدُورِيُّ (فَإِذَا بَلَغَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ حَتَّى يُعَاوِدَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ) وَقَدْ أَعْطَى الْمُصَنِّفُ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَيْثُ قَالَ (وَمَعْنَاهُ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِذَا بَلَغَ إلَى آخِرِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي صِغَرِهِ وَوُجِدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ لَمْ يَرُدَّهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَبَيَّنَهُ (بِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ

ص: 357

الْأَشْيَاءِ يَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ فِي الصِّغَرِ لِضَعْفِ الْمَثَانَةِ، وَبَعْدَ الْكِبَرِ لِدَاءٍ فِي بَاطِنِهِ، وَالْإِبَاقُ فِي الصِّغَرِ لِحُبِّ اللَّعِبِ وَالسَّرِقَةُ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ، وَهُمَا بَعْدَ الْكِبَرِ لِخُبْثٍ فِي الْبَاطِنِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الصَّغِيرِ مَنْ يَعْقِلُ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَهُوَ ضَالٌّ لَا آبِقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ عَيْبًا. .

الْأَشْيَاءِ يَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ) لِلصَّغِيرِ (لِضَعْفِ الْمَثَانَةِ، وَبَعْدَ الْكِبَرِ لِدَاءٍ فِي الْبَاطِنِ، وَالْإِبَاقُ فِي الصِّغَرِ لِحُبِّ اللَّعِبِ وَالسَّرِقَةُ) فِي الصَّغِيرِ (لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ، وَهُمَا بَعْدَ الْكِبَرِ لِخُبْثٍ فِي الْبَاطِنِ) فَإِذَا اخْتَلَفَ سَبَبُهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَهُ كَانَ الْمَوْجُودُ مِنْهَا بَعْدَهُ غَيْرَ الْمَوْجُودِ مِنْهَا قَبْلَهُ.

وَإِذَا كَانَ غَيْرَهُ فَلَا يُرَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ حَادِثٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الصِّغَرِ أَوْ ظَهَرَتْ عِنْدَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِهَا، وَإِذَا عَرَفَ الْحُكْمَ وَجَبَ أَنْ يُقَرِّرَ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي الْمُخْتَصَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِذَا بَلَغَ فَلَيْسَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ بِعَيْبٍ إذَا وُجِدَ بَعْدَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُعَاوِدَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا وُجِدَ بَعْدَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَاكْتَفَى بِلَفْظِ الْمُعَاوَدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَدَةَ لَا تَكُونُ حَقِيقَةً إلَّا إذَا اتَّحَدَ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ عَادَ زَيْدٌ فِيمَا إذَا ابْتَدَأَ غَيْرَهُ، فَعَرْضُ تَحَقُّقِ الْمُعَاوَدَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ يُوجِبُ وُجُودَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَيْضًا وَإِلَّا فَلَا مُعَاوَدَةَ.

وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ: أَيْ لَا يُرَدُّ بِهِ، وَقَوْلُهُ وَالْمُرَادُ مِنْ الصَّغِيرِ إلَى آخِرِهِ تَقْيِيدٌ لِلصَّغِيرِ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي يُرَدُّ بِأَنْ يَكُونَ صَغِيرًا يَعْقِلُ.

وَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَهُوَ إذَا فُقِدَ ضَالٌّ لَا آبِقٌ، وَكَذَا لَا يَكُونُ بَوْلُهُ وَسَرِقَتُهُ عَيْبًا. قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: السَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَفْعَلُ وَبَعْدَ ذَلِكَ عَيْبٌ مَا دَامَ صَغِيرًا. وَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ، وَإِذَا قَدَّرَ بِهَا حَذْوَ مَا قَدَّرَ بِهِ فِي الْحَضَانَةِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ إذَا صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ لَا يُرَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ إلَى آخِرِهِ بِذَلِكَ، لَكِنْ وُضِعَ التَّصْرِيحُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِتَقْدِيرِهِ بِدُونِ خَمْسِ سِنِينَ. وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ هُنَا مَسْأَلَةٌ عَجِيبَةٌ، هِيَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا صَغِيرًا فَوَجَدَهُ يَبُولُ فِي الْفِرَاشِ كَانَ لَهُ الرَّدُّ، وَلَوْ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ آخَرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِ ثُمَّ كَبُرَ الْعَبْدُ هَلْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ النُّقْصَانَ لِزَوَالِ ذَلِكَ الْعَيْبِ بِالْبُلُوغِ. لَا رِوَايَةَ فِيهَا.

قَالَ: وَكَانَ وَالِدِي يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَرَدَّ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَتَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا ذَاتَ زَوْجٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَلَوْ تَعَيَّبَتْ بِعَيْبٍ آخَرَ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِ ثُمَّ أَبَانَهَا الزَّوْجُ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ النُّقْصَانَ لِزَوَالِ ذَلِكَ الْعَيْبِ، فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَالثَّانِيَةُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا فَوَجَدَهُ مَرِيضًا كَانَ لَهُ الرَّدُّ، وَلَوْ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ آخَرَ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ، فَإِذَا رَجَعَ ثُمَّ بَرِئَ بِالْمُدَاوَاةِ لَا يُسْتَرَدُّ وَإِلَّا

ص: 358

قَالَ (وَالْجُنُونُ فِي الصِّغَرِ عَيْبٌ أَبَدًا) وَمَعْنَاهُ: إذَا جُنَّ فِي الصِّغَرِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَاوَدَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَوْ فِي الْكِبَرِ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْأَوَّلِ، إذْ السَّبَبُ فِي الْحَالَيْنِ مُتَّحِدٌ وَهُوَ فَسَادُ الْبَاطِنِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ الْمُعَاوَدَةَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَلَّمَا يَزُولُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ لِلرَّدِّ. .

اُسْتُرِدَّ، وَالْبُلُوغُ هُنَا لَا بِالْمُدَوَاةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَرَدَّ انْتَهَى.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: اشْتَرَى جَارِيَةً وَادَّعَى أَنَّهَا لَا تَحِيضُ وَاسْتَرَدَّ بَعْضَ الثَّمَنِ ثُمَّ حَاضَتْ، قَالُوا: إذَا كَانَ الْبَائِعُ أَعْطَاهُ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ عَنْ الْعَيْبِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ ذَلِكَ. وَفِيهَا أَيْضًا اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ فَحُمَّ عِنْدَهُ وَكَانَ يُحَمُّ عِنْدَ الْبَائِعِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: الْمَسْأَلَةُ مَحْفُوظَةٌ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إنْ حُمَّ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يُحَمُّ فِيهِ عِنْدَ الْبَائِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَفِي غَيْرِهِ فَلَا، فَقِيلَ لَهُ: فَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فَنَزَّتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ كَانَتْ تَنِزُّ عِنْدَ الْبَائِعِ، قَالَ: لَهُ أَنْ يَرُدَّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ النَّزِّ وَاحِدٌ وَهُوَ تَسَفُّلُ الْأَرْضِ وَقُرْبُ الْمَاءِ، إلَّا أَنْ يَجِيءَ مَاءٌ غَالِبٌ أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي رَفَعَ شَيْئًا مِنْ تُرَابِهَا فَيَكُونُ النَّزُّ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ يَشْتَبِهُ فَلَا يَدْرِي أَنَّهُ عَيْنُهُ أَوْ غَيْرُهُ.

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: يُشْكِلُ بِمَا فِي الزِّيَادَاتِ: اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْضَاءَ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَانْجَلَى الْبَيَاضُ عِنْدَهُ ثُمَّ عَادَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ، وَجُعِلَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْضَاءَ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى انْجَلَى ثُمَّ عَادَ عِنْدَ الْبَائِعِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ، وَجُعِلَ الثَّانِي عَيْنُ الْأَوَّلِ الَّذِي رَضِيَ بِهِ إذَا كَانَ الثَّانِي عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ عَيْنَهُ إذَا عَادَ الْبَيَاضُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَقَالَ: لَا يَرُدُّ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ كُنْت أُشَاوِرُ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَهُوَ يُشَاوِرُ مَعِي فِيمَا كَانَ مُشْكِلًا إذَا اجْتَمَعْنَا فَشَاوَرْتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا اسْتَفَدْت مِنْهُ فَرْقًا.

(قَوْلُهُ وَالْجُنُونُ عَيْبٌ أَبَدًا) هَذَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ رحمه الله، فَلَوْ جُنَّ فِي الصِّغَرِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَاوَدَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي الصِّغَرِ أَوْ فِي الْكِبَرِ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لِلْجُنُونِ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مُتَّحِدٌ (وَهُوَ فَسَادُ الْبَاطِنِ) أَيْ بَاطِنِ الدِّمَاغِ، فَهَذَا مَعْنَى لَفْظِ أَبَدًا الْمَذْكُورُ فِي لَفْظِ مُحَمَّدٍ (وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ الْمُعَاوَدَةَ) لِلْجُنُونِ (فِي يَدِ الْمُشْتَرِي) كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ، فَأَثْبَتُوا حَقَّ الرَّدِّ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْجُنُونِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يُجَنَّ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَهَذَا غَلَطٌ (لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ) أَيْ إزَالَةِ سَبَبِهِ (وَإِنْ كَانَ قَلَّمَا يَزُولُ) وَقَدْ حَقَّقْنَا كَثِيرًا مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جُنُّوا ثُمَّ عُوفُوا بِالْمُدَاوَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُعَاوِدْهُ جَازَ كَوْنُ الْبَيْعِ صَدَرَ بَعْدَ إزَالَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى هَذَا الدَّاءَ وَزَوَالِ الْعَيْبِ فَلَا يَرُدُّ بِلَا تَحَقُّقِ قِيَامِ الْعَيْبِ (فَلَا بُدَّ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْجُنُونِ بِالرَّدِّ) وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَاخْتَارَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ.

قَالَ مُحَمَّدٌ بَعْدَ قَوْلِهِ إذَا جُنَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا بِأَسْطُرٍ، وَإِنْ طَعَنَ الْمُشْتَرِي بِإِبَاقٍ أَوْ جُنُونٍ وَلَا يَعْلَمُ الْقَاضِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ الْبَائِعَ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَدْ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ جُنَّ، وَصُرِّحَ بِاشْتِرَاطِ الْمُعَاوَدَةِ فِي الْجُنُونِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْبَائِعِ لَا مِنْ الْبَائِعِ، أَوْ عِنْدَ آخَرَ فَإِنَّهَا تُرَدُّ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ لَمْ تَلِدْ ثَانِيًا عِنْدَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ عَيْبٌ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الضَّعْفَ الَّذِي حَصَلَ بِالْوِلَادَةِ لَا يَزُولُ أَبَدًا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ:

ص: 359

(قَالَ: وَالْبَخَرُ وَالدَّفْرُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ يَكُونُ الِاسْتِفْرَاشَ وَطَلَبَ الْوَلَدِ وَهُمَا يُخِلَّانِ بِهِ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاسْتِخْدَامُ وَلَا يُخِلَّانِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ دَاءٍ؛ لِأَنَّ الدَّاءَ عَيْبٌ (وَالزِّنَا وَوَلَدُ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ)؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي الْجَارِيَةِ وَهُوَ الِاسْتِفْرَاشُ وَطَلَبُ الْوَلَدِ، وَلَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي الْغُلَامِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ

لَا تُرَدُّ.

وَفِي الْمُحِيطِ: تَكَلَّمُوا فِي مِقْدَارِ الْجُنُونِ، قِيلَ هُوَ عَيْبٌ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً. وَقِيلَ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ عَيْبٌ، وَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَمَا دُونَهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَقِيلَ الْمُطْبِقُ عَيْبٌ وَمَا لَيْسَ بِمُطْبِقٍ لَيْسَ بِعَيْبٍ.

وَالسَّرِقَةُ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ عَيْبٌ. وَقِيلَ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ نَحْوُ فَلْسٍ أَوْ فَلْسَيْنِ وَنَحْوُهُ لَيْسَ عَيْبًا، وَالْعَيْبُ فِي السَّرِقَةِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ مِنْ غَيْرِهِ إلَّا فِي الْمَأْكُولَاتِ، فَإِنَّ سَرِقَتَهَا لِأَجْلِ الْأَكْلِ مِنْ الْمَوْلَى لَيْسَتْ عَيْبًا وَمِنْ غَيْرِهِ عَيْبٌ، وَسَرِقَتُهَا لِلْبَيْعِ مِنْ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ عَيْبٌ، وَنَقْبُ الْبَيْتِ عَيْبٌ وَإِنْ لَمْ يُسْرَقْ مِنْهُ، وَإِبَاقُ مَا دُونَ السَّفَرِ عَيْبٌ بِلَا خِلَافٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ خُرُوجُهُ مِنْ الْبَلَدِ؟ فَقِيلَ شَرْطٌ، فَلَوْ أَبَقَ مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ لَا يَكُونُ عَيْبًا، وَمِنْ الْقَرْيَةِ إلَى مِصْرَ إبَاقٌ وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ.

وَلَوْ أَبَقَ مِنْ غَاصِبِهِ إلَى الْمَوْلَى فَلَيْسَ بِعَيْبٍ، وَلَوْ أَبَقَ مِنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمَوْلَى وَلَا إلَى الْغَاصِبِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ مَنْزِلَ مَوْلَاهُ وَيَقْوَى عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِ فَهُوَ عَيْبٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ أَوْ لَا يَقْدِرُ فَلَا.

(قَوْلُهُ وَالدَّفْرُ إلَخْ) هَذِهِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءِ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ وَلَيْسَتْ عَيْبًا فِي الْغُلَامِ: الْبَخَرُ، وَالدَّفْرُ، وَالزِّنَا، وَوَلَدُ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ يُرَادُ مِنْهَا الِاسْتِفْرَاشُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَمْنَعُ مِنْهُ فَكَانَتْ عَيْبًا، بِخِلَافِ الْغُلَامِ فَإِنَّهُ لِلِاسْتِخْدَامِ خَارِجَ الْبَيْتِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ مَانِعَةً مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ عَيْبًا، إلَّا إذَا كَانَ الْبَخَرُ وَالدَّفْرُ مِنْ دَاءٍ فَيَكُونُ عَيْبًا فِي الْغُلَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّاءَ عَيْبٌ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي عَامَّةِ النَّاسِ فَيَكُونُ عَيْبًا.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الدَّفْرُ لَيْسَ عَيْبًا فِي الْجَارِيَةِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَفْحُشَ فَيَكُونَ عَيْبًا فِيهَا دُونَهُ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الْعَبْدُ أَمْرَدَ يَكُونُ الْبَخَرُ عَيْبًا بِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ أَمْرَدَ وَغَيْرَهُ. وَالدَّفْرُ: نَتْنُ رِيحِ الْإِبْطِ، يُقَالُ رَجُلٌ أَدْفَرُ وَامْرَأَةٌ دَفْرَاءُ، وَمِنْهُ لِلسَّبِّ يُقَالُ يَا دَفَارُ مَعْدُولٌ عَنْ دَافِرَةٍ، وَيُقَالُ شَمَمْت دَفْرَ الشَّيْءِ وَدَفَرَهُ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا كُلُّ ذَلِكَ وَالدَّالُ مُهْمَلَةٌ وَأَمَّا بِإِعْجَامِ الدَّالِ فَبِفَتْحِ الْفَاءِ لَا غَيْرَ وَهُوَ حِدَّةٌ مِنْ طِيبٍ أَوْ نَتْنٍ، وَرُبَّمَا خُصَّ بِهِ الطِّيبُ فَقِيلَ مِسْكٌ أَذْفَرْ ذَكَرَهُ فِي الْجَمْهَرَةِ، وَفِيهَا وَصَفَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ شَيْخًا فَقَالَتْ: ذَهَبَ ذَفَرُهُ وَأَقْبَلَ بَجَرُهُ.

قِيلَ الرِّوَايَةُ هُنَا وَالسَّمَاعُ بِالدَّالِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ

وَالْبُجْرُ بِالْجِيمِ عَيْبٌ، وَهُوَ انْتِفَاخٌ تَحْتَ السُّرَّةِ وَمِنْهُ سُمِّيَ بَعْضُ النَّاسِ أَبْجَرَ، وَفِي الصَّحَابَةِ غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ،

ص: 360

إلَّا أَنْ يَكُونَ الزِّنَا عَادَةً لَهُ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُنَّ يُخِلُّ بِالْخِدْمَةِ.

قَالَ (وَالْكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا)؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَتِهِ. وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ صَرْفُهُ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ فَتَخْتَلُّ الرَّغْبَةُ، فَلَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ زَوَالُ الْعَيْبِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَفَوَاتُ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ. .

أَوْ قَلْبُهُ وَسُمِّيَ بِهِ فَرَسٌ لِعَنْتَرَةَ، وَكَذَا الْآدَرُ وَهُوَ عِظَمُ الْخُصْيَتَيْنِ، وَالْأُذُنُ عَيْبٌ، وَهُوَ مَنْ يَسِيلُ الْمَاءُ مِنْ مَنْخِرَيْهِ، وَالْبَخَرُ الَّذِي هُوَ عَيْبٌ هُوَ النَّاشِئُ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَعِدَةِ دُونَ مَا يَكُونُ لِقَلَحٍ فِي الْأَسْنَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَزُولُ بِتَنْظِيفِهَا.

وَوَجْهُ كَوْنِ الْجَارِيَةِ وَلَدَ زِنًا عَيْبًا بِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنْ طَلَبِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ وَلَدَ زِنًا عُيِّرَ الْوَلَدُ بِأُمِّهِ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ الزِّنَا لَهُ عَادَةً) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ دُونَ الْغُلَامِ.

وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قَالُوا) يَعْنِي الْمَشَايِخَ (لِأَنَّ اتِّبَاعَهُنَّ يُخِلُّ بِالْخِدْمَةِ) إذْ كُلَّمَا وُجِّهَ لِحَاجَةٍ اتَّبَعَ هَوَاهُ. وَقَالَ: قَاضِي خَانْ: لَوْ كَانَ الزِّنَا مِنْهُ مِرَارًا كَانَ عَيْبًا؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَيَزْدَادُ بِالْحُدُودِ ضَعْفًا فِي نَفْسِهِ انْتَهَى.

بَلْ وَفِي عِرْضِهِ وَرُبَّمَا تَأَذَّى بِهِ عِرْضُ سَيِّدِهِ. وَمِنْ الْعُيُوبِ عَدَمُ الْخِتَانِ فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ الْمَوْلُودَيْنِ الْبَالِغَيْنِ، بِخِلَافِهِمَا فِي الصَّغِيرَيْنِ، وَفِي الْجَلِيبِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ عَيْبًا مُطْلَقًا. وَفِي الْفَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَهَذَا عِنْدَهُمْ: يَعْنِي عَدَمَ الْخِتَانِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُوَلَّدَةِ، أَمَّا عِنْدَنَا عَدَمُ الْخَفْضِ فِي الْجَوَارِي لَا يَكُونُ عَيْبًا.

(قَوْلُهُ وَالْكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ (لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَةِ الْكَافِرِ) لِلْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ، وَفِي إلْزَامِهِ بِهِ غَايَةُ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ، وَلَا يَأْمَنُهُ عَلَى الْخِدْمَةِ فِي الْأُمُورِ

ص: 361

(قَالَ: فَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَالِغَةً لَا تَحِيضُ أَوْ مُسْتَحَاضَةً فَهُوَ عَيْبٌ)؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الدَّمِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَامَةُ الدَّاءِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الِارْتِفَاعِ أَقْصَى غَايَةِ الْبُلُوغِ وَهُوَ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْأَمَةِ فَتُرَدُّ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ نُكُولُ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. .

الدِّينِيَّةِ كَاِتِّخَاذِ مَاءِ الْوُضُوءِ وَحَمْلِ الْمُصْحَفِ إلَيْهِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إعْتَاقِهِ عَنْ كَفَّارَةِ قَتْلِ خَطَإٍ فَتَقِلُّ رَغْبَتُهُ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَلِذَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَيْبِ، وَالنِّكَاحُ وَالدَّيْنُ عَيْبٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ فِي الدَّيْنِ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ دَيْنًا يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا خِيَارَ لَهُ يَرُدُّهُ بِهِ كَدَيْنِ مُعَامَلَةٍ بِأَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ فِي رَقَبَتِهِ بِأَنْ جَنَى فِي يَدِ الْبَائِعِ وَلَمْ يَفْدِهِ حَتَّى بَاعَهُ فَلَهُ رَدُّهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ: وَبَعْدَ الْعِتْقِ قَدْ يَضُرُّهُ فِي نُقْصَانِ وَلَائِهِ وَمِيرَاثِهِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَالِغَةً لَا تَحِيضُ أَوْ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فَهُوَ عَيْبَ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ الْحَيْضِ) فِي أَوَانِهِ (وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَامَةُ الدَّاءِ) فَكَانَ الِانْقِطَاعُ وَالِاسْتِمْرَارُ دَلِيلًا عَلَى الدَّاءِ وَالدَّاءُ عَيْبٌ، وَقَدْ يَتَوَلَّدُ الْمَرَضُ مِنْ الِانْقِطَاعِ فِي أَوَانِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِسِنِّ الْإِيَاسِ فَإِنَّ الِانْقِطَاعَ لَيْسَ عَيْبًا حِينَئِذٍ فَحَقِيقَتُهُ التَّعَيُّبُ فِيهِمَا بِالدَّاءِ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ بِعَيْبِ الِانْقِطَاعِ فَلَا يَدَّعِي الِانْقِطَاعَ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ بِأَحَدِ السَّبَبَيْنِ مِنْ الْحَبَلِ أَوْ الدَّاءِ حَتَّى تُسْمَعَ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ بِدُونِهِمَا لَا يُعَدُّ عَيْبًا، وَالْمَرْجِعُ فِي الْحَبَلِ إلَى قَوْلِ النِّسَاءِ، وَفِي الدَّاءِ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ، وَلَا يَثْبُتُ الْعَيْبُ بِقَوْلِ الْأَطِبَّاءِ حَتَّى تُسْمَعَ الْخُصُومَةُ مَعَ الْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ مِنْهُمْ عَدْلَانِ، بِخِلَافِ الْعَيْبِ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا فِي الْحَبَلِ.

وَفِي الْكَافِي: نَصَّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ فِي الْمَرَضِ الْبَاطِنِ بِقَوْلِ طَبِيبٍ عَدْلٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةُ، وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَهُوَ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّهُ لِتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لَا لِلرَّدِّ. وَفِي التُّحْفَةِ: إذَا كَانَ الْعَيْبُ بَاطِنًا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ كَالْأَطِبَّاءِ وَالنَّخَّاسِينَ، فَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مُسْلِمَانِ أَوْ قَالَهُ مُسْلِمٌ عَدْلٌ قُبِلَ، وَيَثْبُتُ الْعَيْبُ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْخُصُومَةِ.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَاحِدٌ ثَبَتَ الْعَيْبُ فِي حَقِّ الْخُصُومَةِ وَالدَّعْوَى، ثُمَّ يَقُولُ الْقَاضِي: هَلْ حَدَثَ عِنْدَك هَذَا الْعَيْبُ؟ (أَقْصَى غَايَةِ الْبُلُوغِ وَهُوَ) أَنْ يَكُونَ سِنُّهَا (سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ) أَيْ الِارْتِفَاعُ وَالِاسْتِمْرَارُ (بِقَوْلِ الْأَمَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ (فَإِذَا انْضَمَّ إلَيَّ قَوْلِهَا نُكُولُ الْبَائِعِ) إذَا اُسْتُحْلِفَ (قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فِي الصَّحِيحِ رُدَّتْ) وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُرَدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِهَا مَعَ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ.

وَعَمَّا عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُفْسَخُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ.

ص: 362

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ فَلَا يُحْكَمُ بِهَا إلَّا بِمُؤَيِّدٍ وَهُوَ نُكُولُ الْبَائِعِ، ثُمَّ ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ فِي صِفَةِ الْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا ادَّعَى انْقِطَاعَ الْحَيْضِ فَالْقَاضِي يَسْأَلُهُ عَنْ مُدَّةِ الِانْقِطَاعِ، فَإِنْ ذَكَرَ مُدَّةً قَصِيرَةً لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَإِنْ ذَكَرَ مُدَّةً مَدِيدَةً سُمِعَتْ. وَالْمَدِيدَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ بِسَنَتَيْنِ، وَمَا دُونَ الْمَدِيدَةِ قَصِيرَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا أَخَذَ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَإِلَّا أَخَذَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَهُوَ سَنَتَانِ، وَإِذَا سَمِعَ الدَّعْوَى يَسْأَلُ الْبَائِعَ أَهِيَ كَمَا ذَكَرَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالْتِمَاسِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ قَالَ: هِيَ كَذَلِكَ لِلْحَالِ وَمَا كَانَتْ كَذَلِكَ عِنْدِي تَوَجَّهَتْ الْخُصُومَةُ عَلَى الْبَائِعِ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى قِيَامِهَا لِلْحَالِ، وَإِنْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَ الْبَائِعِ يَحْلِفُ الْبَائِعُ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَهِدَ لِلْمُشْتَرِي شُهُودٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الِانْقِطَاعِ وَتُقْبَلُ عَلَى الِاسْتِحَاضَةِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ عَلَى الِانْقِطَاعِ الَّذِي يُعَدُّ عَيْبًا، وَإِنْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ الِانْقِطَاعَ فِي الْحَالِ هَلْ يُسْتَحْلَفُ؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا، وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ، وَهَذَا يَنْبُو عَنْ تَقْرِيرِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا يُوَافِقُ تَقْرِيرَ الْهِدَايَةِ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ، هَذَا مَا ذَكَرَ عَنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: اشْتَرَى جَارِيَةً فَقَبَضَهَا فَلَمْ تَحِضْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي شَهْرًا أَوْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: ارْتِفَاعُ الْحَيْضِ عَيْبٌ، وَأَدْنَاهُ شَهْرٌ وَاحِدٌ إذَا ارْتَفَعَ هَذَا الْقَدْرُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ انْتَهَى.

وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا يَشْتَرِطُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَلَا أَكْثَرَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وَمَا تَقَدَّمَ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِبْرَاءِ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ سَنَتَانِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ قَوْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَالرِّوَايَةُ هُنَاكَ لَيْسَتْ وَارِدَةً هُنَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ فَإِنَّ الْوَطْءَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا إلَى الْحَيْضَةِ لِاحْتِمَالِ الْحَبَلِ فَيَكُونُ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ هُنَاكَ بِسَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَإِذَا مَضَتَا ظَهَرَ انْتِفَاؤُهُ فَجَازَ وَطْؤُهَا وَهُوَ أَقْيَسُ.

وَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ؛ لِأَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؛ وَلِأَنَّ فِيهَا يَظْهَرُ الْحَبَلُ غَالِبًا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا، وَقَدَّرَهُ أَبُو يُوسُفَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ عِدَّةَ الَّتِي لَا تَحِيضُ، وَالْحُكْمُ هُنَا لَيْسَ إلَّا كَوْنَ الِامْتِدَادِ عَيْبًا فَلَا يَتَّجِهُ إنَاطَتُهُ بِسَنَتَيْنِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمُدَدِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ عَيْبًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ يُؤَدِّي إلَى الدَّاءِ وَطَرِيقًا إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُضِيِّ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِمَّا ذُكِرَ.

وَبِمَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِي دَعْوَى الِانْقِطَاعِ لِلرَّدِّ بِهِ إلَى تَعْيِينِ أَنَّهُ عَنْ حَبَلٍ أَوْ دَاءٍ فِي الدَّعْوَى فَإِنَّ كَوْنَهُ عَيْبًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى الدَّاءِ لَا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ دَاءٍ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، فَلِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ فَقِيهُ النَّفْسِ قَاضِي خَانْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ تَعْيِينِ كَوْنِ الِانْقِطَاعِ عَنْ أَحَدِهِمَا، بَلْ إذَا ادَّعَى الِانْقِطَاعَ فِي أَوَانِهِ فَقَدْ ادَّعَى الْعَيْبَ، وَيَكْفِي شَهْرٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ الِانْقِطَاعُ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ الْعَيْبُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ مُسَبَّبًا عَنْ دَاءٍ فَهُوَ عَيْبٌ وَطَرِيقًا إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فَيَكْفِي فِي الْخُصُومَةِ ادِّعَاءُ ارْتِفَاعِهِ فَقَطْ وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَقَلَّمَا يَظْهَرُ لِلطَّبِيبِ دَاءٌ بِمُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةٍ صَحِيحَةً لَا يَظْهَرُ بِهَا دَاءٌ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْأَمَةِ، وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ بِقَوْلِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهَا، فَلَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُ لُزُومَ دَعْوَى الدَّاءِ أَوْ الْحَبَلِ فِي دَعْوَى عَيْبِ الِانْقِطَاعِ لَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَثْبُتَ بِقَوْلِهَا حِينَئِذٍ

ص: 363

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تُوَجَّهَ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ، بَلْ لَا يَرْجِعُ إلَّا إلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ أَوْ النِّسَاءِ، فَظَهَرَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ لُزُومِ دَعْوَى الدَّاءِ أَوْ الْحَبَلِ فِي دَعْوَى انْقِطَاعِ الْحَيْضِ، ثُمَّ إنَّهُ يُحْتَاجُ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ إلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ أَوْ النِّسَاءِ لَيْسَ تَقْرِيرَ مَا فِي الْكِتَابِ، بَلْ مَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُ آخَرُونَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ خَطَؤُهُمْ.

وَكَذَا مَا ذَكَرَ غَيْرُهُ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ وِزَانَ الْمُشْتَرَاةِ بِكْرًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمُشْتَرِي لَيْسَتْ بِكْرًا وَقَالَ الْبَائِعُ بِكْرٌ فِي الْحَالِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُرِيهَا النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ لَزِمَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ يَمِينِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ الْبَكَارَةُ، وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ بِشَهَادَتَيْنِ فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهِيَ بِكْرٌ إنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ حَلَفَ أَنَّهَا بِكْرٌ غَيْرُ مُوَافِقٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ هُنَا يُوجِبُ حَقَّ الْخُصُومَةِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَالْعَتَّابِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي الْبَكَارَةِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ النِّسَاءِ، وَكَيْفَ وَلَا طَرِيقَ إلَى اسْتِعْلَامِ الِانْقِطَاعِ إلَّا قَوْلُهَا، بِخِلَافِ الْبَكَارَةِ لَهَا طَرِيقٌ تُسْتَعْلَمُ بِهِ فَلَا يُرْجَعُ فِيهَا إلَى قَوْلِهَا.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُوَ الصَّحِيحُ إنْ كَانَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُرَدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِهَا مَعَ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَمَا ذَكَرْنَا عَنْ مُحَمَّدٍ فَغَيْرُ مُنَاسِبٍ، فَإِنَّ مَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي دَعْوَى الْبَكَارَةِ وَالرَّتْقِ وَالْقَرَنِ وَقِيَاسُ هَذِهِ عَلَيْهَا غَيْرُ صَحِيحٍ، إذْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ النِّسَاءِ، وَقَوْلُ النِّسَاءِ هُنَا إنَّهَا مُنْقَطِعَةُ الْحَيْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الِانْقِطَاعِ الْكَائِنِ عَيْبًا لَا تُقْبَلُ إذْ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَتَرْتِيبُ الْخُصُومَةِ عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ وَقَاضِي خَانْ وَالْعَتَّابِيِّ وَهُوَ مَا صَحَّحْنَاهُ أَنْ يَدَّعِيَ الِانْقِطَاعَ فِي الْحَالِ وَوُجُودَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِهِمَا رُدَّتْ عَلَيْهِ.

وَإِنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ عِنْدَهُ وَاعْتَرَفَ بِالِانْقِطَاعِ فِي الْحَالِ اُسْتُخْبِرَتْ الْجَارِيَةُ، فَإِنْ ذَكَرَتْ أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ اتَّجَهَتْ الْخُصُومَةُ فَيُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا وُجِدَ عِنْدَهُ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ تُرَدُّ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ نُكُولُ الْبَائِعِ، وَلَوْ اعْتَرَفَ بِوُجُودِهِ عِنْدَهُ وَأَنْكَرَ الِانْقِطَاعَ فِي الْحَالِ فَاسْتُخْبِرَتْ فَأَنْكَرَتْ الِانْقِطَاعَ، وَالْغَرَضُ أَنْ لَا تُقْبَلَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِيهِ فَقَدْ صَرَّحَ فِي النِّهَايَةِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَنْكَرَ الِانْقِطَاعَ فِي الْحَالِ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُمَا، وَيَجِبُ كَوْنُ الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ نَكَلَ اتَّجَهَتْ الْخُصُومَةُ وَإِنْ حَلَفَ تَعَذَّرَتْ، وَلَعَمْرِي قَلَّمَا يَحْلِفُ كَذَلِكَ إلَّا وَهُوَ بَارٌّ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَحِضْ، وَكَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي النِّهَايَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ هُوَ فِي صُورَةِ الْخُصُومَةِ، وَأَمَّا عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي الِانْقِطَاعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ أَيْضًا، وَهَذَا تَعْدَادٌ لِلْعُيُوبِ عِدَّةُ الْجَارِيَةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ عَيْبٌ لَا عَنْ بَائِنٍ وَالنِّكَاحُ عَيْبٌ فِيهِمَا، وَكَثْرَةُ الْخَيَلَانِ وَحُمْرَةُ الشَّعْرِ إذَا فَحُشَتْ بِحَيْثُ يَضْرِبُ إلَى الْبَيَاضِ.

وَكَذَا الشَّمَطُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ دَلِيلُ الدَّاءِ وَفِي أَوَانِهِ دَلِيلُ الْكِبَرِ، وَالْعَشَا أَنْ لَا يُبْصِرَ لَيْلًا، وَالسِّنُّ السَّاقِطَةُ ضِرْسًا أَوْ غَيْرَهُ وَسَوَادُهُ وَسَوَادُ الظُّفْرِ، وَالْعُسْرُ وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ بِيَسَارِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ الْعَمَلَ بِيَمِينِهِ، بِخِلَافِ أَعْسَرُ يَسْرٌ وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِمَا مَعًا فَإِنَّهُ زِيَادَةُ حُسْنٍ، وَالْقَشْمُ وَهُوَ يُبُوسَةُ الْجِلْدِ وَتَشَنُّجٌ فِي الْأَعْضَاءِ وَالْغَرَبُ وَهُوَ وَرَمٌ فِي الْأَمَاقِي وَرُبَّمَا يَسِيلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ كَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَالْحَوَلُ وَالْحَوَصُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَالشَّتَرُ وَهُوَ انْقِلَابُ الْجَفْنِ وَبِهِ سُمِّيَ الْأَشْتَرُ، وَالظَّفَرُ هُوَ بَيَاضٌ يَبْدُو فِي إنْسَانِ الْعَيْنِ وَجَرَبِ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا، وَالشَّعْرُ وَالْقَبَل فِي الْعَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ خَيْلًا:

تَرَاهُنَّ يَوْمَ الرَّوْعِ كَالْحِدَإِ الْقَبَلِ

وَالْمَاءُ فِي الْعَيْنِ وَالسَّبَلُ، وَالسُّعَالُ الْقَدِيمُ إذَا كَانَ عَنْ دَاءٍ، فَأَمَّا الْقَدْرُ

ص: 364

(قَالَ: وَإِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِيَ عَيْبٌ فَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ وَلَا يَرُدُّ الْمَبِيعَ)؛ لِأَنَّ فِي الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ سَالِمًا، وَيَعُودُ مَعِيبًا فَامْتَنَعَ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ. .

الْمُعْتَادُ مِنْهُ فَلَا، وَالْعَزْلُ وَهُوَ أَنْ يَعْزِلَ ذَنَبَهُ إلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَالْمَشَشُ وَهُوَ وَرَمٌ فِي الدَّابَّةِ لَهُ صَلَابَةٌ، وَالْفَدَعُ وَهُوَ اعْوِجَاجٌ فِي مَفَاصِلِ الرِّجْلِ، وَالْفَحَجُ وَهُوَ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَالصَّكَكُ وَهُوَ صَكُّ إحْدَى رُكْبَتَيْهِ بِالْأُخْرَى، وَالرَّتَقُ وَالْقَرَنُ وَالْعَفَلُ وَهُوَ امْتِلَاءُ لَحْمِ الْفَرْجِ، وَالسِّلْعَةُ وَالْقُرُوحُ وَآثَارُهَا، وَالدَّخَسُ وَهُوَ وَرَمٌ يَكُونُ بِأَطْرَافِ حَافِرِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ، وَالْحَنَفُ وَهُوَ مَيْلُ كُلٍّ مِنْ إبْهَامَيْ الرِّجْلِ إلَى أُخْرَى، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْأَحْنَفُ الَّذِي يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ، وَتَنَاسُلُ شَعْرِ الرَّأْسِ وَالصَّدَفُ، وَهُوَ الْتِوَاءٌ فِي أَصْلِ الْعُنُقِ.

وَقِيلَ مَيْلٌ فِي الْبَدَنِ، وَالشَّدَقُ سِعَةٌ مُفْرِطَةٌ فِي الْفَمِ، وَالتَّخَنُّثُ قِيلَ إذَا فَحُشَ أَوْ كَانَ يَأْتِي بِأَفْعَالٍ رَدِيئَةٍ، وَالْحُمْقُ، وَكَوْنُهَا مُغَنِّيَةً، وَشُرْبُ الْغُلَامِ، وَتَرْكُ الصَّلَاةِ وَغَيْرُهُ مِنْ الذُّنُوبِ، وَقِلَّةُ الْأَكْلِ فِي الْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا وَكَثْرَتُهُ فِي الْإِنْسَانِ وَقِيلَ فِي الْجَارِيَةِ عَيْبٌ لَا الْغُلَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ إذَا أَفْرَطَ، وَعَدَمُ الْمَسِيلِ فِي الدَّارِ وَالشُّرْبِ لِلْأَرْضِ، وَكَذَا ارْتِفَاعُهَا بِحَيْثُ لَا تُسْقَى إلَّا بِالسِّكْرِ، وَكَوْنُ الْجَارِيَةِ مُحْتَرِقَةَ الْوَجْهِ لَا يَدْرِي حُسْنَهَا مِنْ قُبْحِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ دَمِيمَةً أَوْ سَوْدَاءَ، وَالْعِثَارُ فِي الدَّوَابِّ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا، وَكَذَا أَكْلُ الْعِذَارِ وَالْجُمُوحُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ اللِّجَامِ، وَكَذَا الْحَرَنُ عِنْدَ الْعَطْفِ وَالسَّيْرِ وَسَيَلَانُ اللُّعَابِ عَلَى وَجْهٍ يَبِلُّ الْمِخْلَاةَ إذَا عَلَّقَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَكَثْرَةُ التُّرَابِ فِي الْحِنْطَةِ تُرَدُّ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُعْتَادًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُمَيِّزَ التُّرَابَ وَيَرْجِعَ بِحِصَّتِهِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى خُفًّا أَوْ مُكَعَّبًا لِلُبْسٍ فَلَمْ يَدْخُلْ رِجْلُهُ فِيهِ فَهُوَ عَيْبٌ، وَلَوْ بَاعَ سَوِيقًا مَلْتُوتًا عَلَى أَنَّ فِيهِ كَذَا مِنْ السَّمْنِ أَوْ قَمِيصًا عَلَى أَنَّ فِيهِ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ وَالْمُشْتَرِي يَنْظُرُ إلَيْهِ وَظَهَرَ خِلَافُهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ) بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ؛ (لِأَنَّ الرَّدَّ إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ سَالِمًا) فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ بِهِ مَعِيبًا تَضَرَّرَ (وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَتَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ) الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ ذَلِكَ (لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ) وَمَا كَانَ عَدَمُ إلْزَامِهِ الْمَبِيعَ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَمْتَنِعَ أَخْذُهُ إيَّاهُ لِحَقِّ الشَّرْعِ بِأَنْ كَانَ

ص: 365

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَجَعَ بِالْعَيْبِ)؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِالْقَطْعِ فَإِنَّهُ عَيْبٌ حَادِثٌ (فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ

الْمَبِيعُ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْبِهِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمْلِيكُهَا وَمَنْعُهُمَا مِنْ ذَلِكَ حَقُّ الشَّرْعِ فَلَا يَسْقُطُ بِتَرَاضِيهِمَا عَلَى إهْدَارِهِ، كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى بَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا.

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ جَانِبُ الْمُشْتَرِي فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَيَرُدُّ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ دَلَّسَ عَلَيْهِ فَكَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ الصَّادِرَةَ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ عِصْمَةَ مَالِهِ، كَالْغَاصِبِ إذَا عَمِلَ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ الْخِيَاطَةَ أَوْ الصَّبْغَ بِالْحُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يُظَلَّمُ، وَالضَّرَرُ عَنْ الْمُشْتَرِي يَنْدَفِعُ بِإِثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوْصَافَ لَا حِصَّةَ لَهَا مِنْ الثَّمَنِ بِانْفِرَادِهَا، أُجِيبَ بِأَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ أُصُولًا ضَرُورَةَ جَبْرِ حَقِّ الْمُشْتَرِي وَإِلَّا يُهْدَرُ كَمَا صُيِّرَتْ أُصُولًا بِالْقَصْدِ مِنْ إتْلَافِهِمَا، وَكُلُّ مَا رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ فَمَعْنَاهُ أَنْ يُقَوَّمَ الْعَبْدُ بِلَا عَيْبٍ ثُمَّ يُقَوَّمُ مَعَ الْعَيْبِ وَيُنْظَرُ إلَى التَّفَاوُتِ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارَ عُشْرِ الْقِيمَةِ رَجَعَ بِعُشْرِ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، ثُمَّ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ الرَّدُّ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي، أَمَّا إذَا كَانَ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ كَذَلِكَ كَأَنْ قَتَلَ الْمَبِيعَ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي خَطَأً لَمَّا وَصَلَ الْبَدَلُ إلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ الْقَاتِلِ بِالْبَدَلِ، فَكَانَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ، وَلَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ وَلَا يَرُدُّ الْمَبِيعَ.

[فَرْعٌ]

لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ مَا دَامَ حَيًّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ الرَّدَّ مَوْهُومٌ فَلَا يُصَارُ خَلَفُهُ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا عِنْدَ الْإِيَاسِ مِنْ الْأَصْلِ: وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرْجِعُ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ فِي الْحَالِ وَالرَّدُّ مَوْهُومٌ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ) يَعْنِي وَلَمْ يَخِطْهُ (ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَجَعَ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِالْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ حَادِثٌ، فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ) أَيْ مَقْطُوعًا (كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ) أَيْ امْتِنَاعُ رَدِّهِ

ص: 366

لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)؛ لِأَنَّ الرَّدَّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِرِضَا الْبَائِعِ فَيَصِيرُ هُوَ بِالْبَيْعِ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ (فَإِنْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ، أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ) لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْفَسْخِ فِي الْأَصْلِ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، وَلَا وَجْهَ إلَيْهِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ فَامْتَنَعَ أَصْلًا (وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ)؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا لِحَقِّهِ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا رَأَى الْعَيْبَ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ)؛ لِأَنَّ الرَّدَّ مُمْتَنِعٌ أَصْلًا قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ بِالْبَيْعِ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ.

وَعَنْ هَذَا

لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ) أَيْ بِرَدِّهِ مَعِيبًا فَزَالَ الْمَانِعُ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي) أَيْ بَعْدَ الْقَطْعِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ أَوْ قَبْلَهُ (لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَمْتَنِعْ) بِالْقَطْعِ (بِرِضَا الْبَائِعِ) فَحِينَ بَاعَهُ مَعَ عَدَمِ امْتِنَاعِ رَدِّهِ مَقْطُوعًا (صَارَ حَابِسًا الْمَبِيعَ) بِالْبَيْعِ (فَإِنْ) كَانَ الْمُشْتَرِي (قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ كَانَ) الْمَبِيعُ (سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ) الْمُتَّصِلَةِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ (لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْفَسْخِ فِي الْأَصْلِ) أَعْنِي الثَّوْبَ بِدُونِهَا كَالصَّبْغِ مَثَلًا وَالْخِيَاطَةِ وَالسَّمْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَلَا إلَى الْفَسْخِ مَعَهَا (لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مَبِيعَةً) وَالْفَسْخُ لَا يُرَدُّ عَلَى غَيْرِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ مَا كَانَ مِنْ الْبَيْعِ فَيَبْقَى مَا كَانَ مِنْ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عَلَى مَا كَانَ، فَلَوْ رَدَّهُ عَلَى الزِّيَادَةِ لَزِمَ الرِّبَا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ فَضْلًا مُسْتَحَقًّا فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِلَا مُقَابِلٍ وَهُوَ مَعْنَى الرِّبَا أَوْ شُبْهَتُهُ وَلِشُبْهَةِ الرِّبَا حُكْمُ الرِّبَا فَلَا يَجُوزُ (فَامْتَنَعَ أَصْلًا، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ) وَإِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الزِّيَادَةِ (لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ) لَمْ يَتَمَحَّضْ لِحَقِّهِ بَلْ لِحَقِّهِ وَحَقِّ الشَّرْعِ بِسَبَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لُزُومِ الرِّبَا، وَرِضَاهُ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ لَا يَتَعَدَّى إلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِالْإِسْقَاطِ.

وَإِذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ بِالْفَسْخِ (فَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ) لَمَّا امْتَنَعَ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي بِبَيْعِهِ حَابِسًا لَهُ عَنْ الْبَائِعِ (وَعَنْ هَذَا) الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ الرَّدَّ إذَا كَانَ مُمْكِنًا فَأَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ

ص: 367

(قُلْنَا: إنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ لِبَاسًا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَخَاطَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ، وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ حَصَلَ فِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ، وَفِي الثَّانِيَ بَعْدَهَا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ). .

حَابِسٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ إمْكَانِهِ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ حَابِسٍ،

(قُلْنَا: إنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ لِبَاسًا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَخَاطَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ)؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الِابْنِ الصَّغِيرِ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ الْقَطْعِ لِلْغَرَضِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ مُسَلَّمًا إلَيْهِ وَهُوَ نَائِبُهُ فِي التَّسَلُّمِ فَصَارَ بِهِ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ مَعَ إمْكَانِ الرَّدِّ، وَالْخِيَاطَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ.

(وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا) وَالْبَاقِي بِحَالِهِ (رَجَعَ) بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسَلَّمًا إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْخِيَاطَةِ فَكَانَتْ الْخِيَاطَةُ عَلَى مِلْكِهِ وَكَانَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الَّتِي هِيَ الْخِيَاطَةُ قَبْلَ إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ لَا فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِرِضَا الْبَائِعِ فَأَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ وَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ فَأَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ انْتَهَى.

وَهَذَا أَصْلٌ آخَرُ فِي الزِّيَادَةِ اللَّاحِقَةِ بِالْمَبِيعِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ وَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَرْبَانِ فَالْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْمَبِيعِ كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ وَاللَّتِّ بِالسَّمْنِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ، وَهِيَ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِالِاتِّفَاقِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ لِلرِّبَا، وَمِنْ الْمُتَّصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ مَا لَوْ كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ لَحْمًا فَشَوَاهُ أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ فَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَابِسٍ لِلْمَبِيعِ بَلْ امْتَنَعَ قَبْلَ الْبَيْعِ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَفِي كَوْنِ الطَّحْنِ وَالشَّيْءِ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ تَأَمُّلٌ.

وَالْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ وَانْجِلَاءِ بَيَاضِ الْعَيْنِ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَمَحَّضَتْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِتَوَلُّدِهَا مِنْهُ مَعَ عَدَمِ انْفِصَالِهَا، فَكَأَنَّ الْفَسْخَ لَمْ يَرِدْ عَلَى زِيَادَةٍ أَصْلًا، وَالْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْهُ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرِ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ، وَهِيَ تَمْنَعُ الرَّدَّ لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُ التَّبَعِيَّةُ لِلِانْفِصَالِ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ إنْ شَاءَ رَدَّهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.

وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَرُدُّ الْمَبِيعَ خَاصَّةً لَكِنْ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ بِأَنْ يَقْسِمَ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ مِائَةً وَالثَّمَنُ أَلْفٌ سَقَطَ عُشْرُ الثَّمَنِ إنْ رَدَّهُ وَأَخَذَ تِسْعَمِائَةٍ، وَغَيْرُ مُتَوَلَّدَةٍ مِنْهُ كَالْكَسْبِ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ بِحَالٍ بَلْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَيُسَلَّمُ لَهُ الْكَسْبُ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ الَّذِي

ص: 368

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ أَوْ مَاتَ عِنْدَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ) أَمَّا الْمَوْتُ؛ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَهِي بِهِ وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا يَفْعَلُهُ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَالْقَتْلِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَا خُلِقَ فِي الْأَصْلِ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ مُوَقَّتًا إلَى الْإِعْتَاقِ فَكَانَ إنْهَاءً فَصَارَتْ كَالْمَوْتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ

فِيهِ قَوْلُ الْبَائِعِ إنَّهُ اسْتَغَلَّ غُلَامِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ حُكْمَ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ فِي حُكْمِ الْكَسْبِ لِإِمْكَانِ الْفَسْخِ عَلَى الْأَصْلِ بِدُونِهَا وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي، وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَسْبِ الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْ الْمَنَافِعِ وَهِيَ غَيْرُ الْأَعْيَانِ، وَلِذَا كَانَتْ مَنَافِعُ الْحُرِّ مَالًا مَعَ أَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ، وَالْعَبْدُ الْمَكْسُوبُ لِلْمُكَاتَبِ لَيْسَ مُكَاتَبًا وَالْوَلَدُ تَوَلَّدَ مِنْ نَفْسِ الْمَبِيعِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَهُ لَهُ مَجَّانًا لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ الرِّبَا، وَلَوْ هَلَكَتْ الزِّيَادَةُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ثَبَتَ لَهُ الرَّدُّ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ.

وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْأَرْشِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ أَحْمَرَ لِتَكُونَ زِيَادَةً بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ السَّوَادَ عِنْدَهُ نَقْصٌ كَمَا سَتَعْلَمُ فَهُوَ كَالْقَطْعِ، وَانْتِقَاصُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ بِالِاتِّفَاقِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ) الْمُشْتَرِي (أَوْ مَاتَ عِنْدَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ أَمَّا الْمَوْتُ؛ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَهِي بِهِ) وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ، فَكَأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ وَالرَّدَّ مُتَعَذِّرٌ وَقَدْ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلرُّجُوعِ، إذْ امْتِنَاعُ الرَّدِّ إنَّمَا يَكُونُ مَانِعًا إذَا كَانَ عَنْ فِعْلِ الْمُشْتَرِي، أَمَّا إذَا ثَبَتَ حُكْمًا لِشَيْءٍ فَلَا، وَهُنَا ثَبَتَ حُكْمًا لِلْمَوْتِ فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ، وَاسْتَشْكَلَ عَلَيْهِ مَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ أَحْمَرَ وَأَخَوَاتِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ مَعَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ بِفِعْلِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْمَبِيعِ حَقًّا لِلشَّرْعِ لِلُزُومِ شُبْهَةِ الرِّبَا، قِيلَ فَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَزِيدَ فَيَقُولَ لَا يَفْعَلُهُ الَّذِي لَا يُوجِبُ زِيَادَةً (وَأَمَّا الْعِتْقُ فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَالْقَتْلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرْجِعُ).

وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ (لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَا خُلِقَ فِي الْأَصْلِ لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ) عَنْ سَبَبِهِ (مُوقِنًا إلَى الْإِعْتَاقِ) فَيَثْبُتُ (أَنَّهُ إنْهَاءٌ فَصَارَ كَالْمَوْتِ، وَهَذَا) وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالْمَوْتِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْهَاءٌ (لِأَنَّ الشَّيْءَ بِانْتِهَائِهِ

ص: 369

يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ وَالرَّدَّ مُتَعَذِّرٌ. وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ النَّقْلُ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ بِالْأَمْرِ الْحُكْمِيِّ (وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)؛ لِأَنَّهُ حَبَسَ بَدَلَهُ وَحَبْسُ الْبَدَلِ كَحَبْسِ الْمُبْدَلِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ. .

(فَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ أَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

يَتَقَرَّرُ) إلَى آخِرِ مَا قَرَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ (وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَتِهِ) أَيْ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ وَإِنْ لَمْ يُزِيلَا الْمِلْكَ كَمَا يُزِيلُهُ الْإِعْتَاقُ (لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ) مَعَهُمَا (النَّقْلُ) مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَبِذَلِكَ يَتَعَذَّرُ الرَّدُّ.

وَقَوْلُهُ (مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمَوْتِ وَالْإِعْتَاقِ، وَقَوْلُهُ (بِالْأَمْرِ الْحُكْمِيِّ) أَيْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لَا بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي كَالْقَتْلِ (فَإِنْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ) ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ (لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ حَبَسَ بَدَلَهُ وَحَبْسُ الْبَدَلِ كَحَبْسِ الْمُبْدَلِ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ) أَيْ الْمُعْتِقُ عَلَى مَالٍ (يَرْجِعُ) بِالنُّقْصَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ (لِأَنَّ الْعِتْقَ) سَوَاءٌ كَانَ بِمَالٍ أَوْ بِلَا مَالٍ هُوَ (إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ) أَعْنِي الرِّقَّ، وَبِهَذَا يَثْبُتُ بِهِ الْوَلَاءُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَإِذَا كَانَ إنْهَاءً كَانَ كَالْمَوْتِ وَكَوْنُهُ بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِهِ طَرْدٌ، وَالْوَجْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ حَابِسًا لَهُ بِحَبْسِ بَدَلِهِ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ قَتَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ) أَيْ لَمْ يَمُتْ عِنْدَهُ حَتْفَ أَنْفِهِ (أَوْ كَانَ) الْمَبِيعُ (طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه

ص: 370

أَمَّا الْقَتْلُ فَالْمَذْكُورُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَرْجِعُ)؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ دُنْيَاوِيٌّ فَصَارَ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَيَكُونُ إنْهَاءً. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا مَضْمُونًا، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَفِيدِ بِهِ عِوَضًا، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لَا مَحَالَةً كَإِعْتَاقِ الْمُعْسِرِ عَبْدًا مُشْتَرَكًا، وَأَمَّا الْأَكْلُ فَعَلَى الْخِلَافِ، فَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ وَعِنْدَهُ لَا يَرْجِعُ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا لَبِسَ الثَّوْبَ حَتَّى تَخَرَّقَ لَهُمَا أَنَّهُ صَنَعَ فِي الْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ. وَلَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ فِي الْمَبِيعِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْقَتْلَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فَإِنْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَارَ كَبَيْعِ الْبَعْضِ

أَمَّا الْقَتْلُ فَالْمَذْكُورُ) مِنْ عَدَمِ الرُّجُوعِ فِيهِ (ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ) عَنْ أَصْحَابِنَا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ) وَذَكَرَ صَاحِبُ الْيَنَابِيعِ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ (لِأَنَّ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ دُنْيَاوِيٌّ) مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ (فَكَانَ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ) وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْآخِرَةِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ (وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ إلَّا مَضْمُونًا) قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفَرَّجٌ» أَيْ مُهْدَرٌ (وَإِنَّمَا سَقَطَ الضَّمَانُ) عَنْ الْمَوْلَى (بِسَبَبِ الْمِلْكِ) وَكَذَا لَوْ بَاشَرَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَانَ مَضْمُونًا، وَلَمَّا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الْمَوْلَى (صَارَ كَالْمُسْتَفِيدِ بِالْعَبْدِ عِوَضًا) هُوَ سَلَامَةُ نَفْسِهِ إنْ كَانَ عَمْدًا وَسَلَامَةُ الدِّيَةِ لِلْمَوْلَى إنْ كَانَ خَطَأً فَكَانَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ (بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَنْفُذُ، وَعِتْقُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إنْ نَفَذَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ إذَا كَانَ مُعْسِرًا، بَلْ إذَا كَانَ مُوسِرًا عَلَى تَقْدِيرٍ فَلَمْ يُوجِبْهُ بِذَاتِهِ فَلَمْ يُسْتَفَدْ: أَيْ لَمْ يَلْزَمْ اسْتِفَادَتُهُ بِالْإِعْتَاقِ عَنْ مِلْكِهِ شَيْئًا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا.

(وَأَمَّا الْأَكْلُ فَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِهِ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَفِي الْخُلَاصَةِ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ (وَعِنْدَهُ لَا يَرْجِعُ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا لَبِسَ الثَّوْبَ حَتَّى تَخَرَّقَ) ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ عِنْدَهُ لَا يَرْجِعُ وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ (لَهُمَا أَنَّهُ صَنَعَ بِالْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ) مِنْ الْأَكْلِ وَاللُّبْسِ حَتَّى انْتَهَى الْمِلْكُ بِهِ (فَكَانَ كَالْإِعْتَاقِ) بِخِلَافِ الْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَنَحْوِهِ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ لَيْسَ مُعْتَادًا غَرَضًا مِنْ الشِّرَاءِ مَقْصُودًا بِهِ (وَلَهُ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ) لَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ غَيْرَ أَنَّهُ سَقَطَ: أَيْ انْتَفَى الضَّمَانُ لِمِلْكِهِ فَكَانَ كَالْمُسْتَفِيدِ بِهِ عِوَضًا (كَالْقَتْلِ) فَلَا يَرْجِعُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا) بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إثْبَاتِ الرُّجُوعِ (أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ هُوَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ) وَجَعْلُ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا مَعَ تَأْخِيرِهِ جَوَابَهُ عَنْ دَلِيلِهِمَا يُفِيدُ مُخَالَفَتَهُ فِي كَوْنِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا.

وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الْقَطْعَ وَالْخِيَاطَةَ فَإِنَّهُمَا مُوجِبَانِ لِلضَّمَانِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مَعَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ فِيهِمَا، أُجِيبَ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ فِيهِمَا لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا لِفِعْلِهِ، وَلَا كَذَلِكَ هُنَا فَإِنَّهُ امْتَنَعَ لِفِعْلِهِ لَا لِحَقِّ الشَّرْعِ وَهَذَا يَتِمُّ فِي الْخِيَاطَةِ لِلزِّيَادَةِ، أَمَّا فِي مُجَرَّدِ الْقَطْعِ فَلَا يَتِمُّ وَلِذَا لَوْ قِبَلَهُ الْبَائِعُ مَقْطُوعًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ مَخِيطًا وَمَصْبُوغًا بِغَيْرِ السَّوَادِ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَهُ) يَعْنِي لَا يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ فِيمَا أَكَلَ (لِأَنَّ الطَّعَامَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ) حَتَّى كَانَ رُؤْيَةُ بَعْضِهِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ يَسْقُطُ الْخِيَارُ (فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ بَعْضَهُ) ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ

ص: 371

وَعِنْدَهُمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْكُلِّ، وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يَرُدُّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ. .

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا أَوْ جَوْزًا فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ رَجَعَ الثَّمَنُ كُلُّهُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجَوْزِ صَلَاحُ قِشْرِهِ عَلَى مَا قِيلَ

مِنْ غَيْرِ قَوْلِ زُفَرَ فَإِنَّهُ قَالَ: يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْبَاقِي إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَعَنْهُمَا رِوَايَتَانِ: رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْكُلِّ فَلَا يَرُدُّ الْبَاقِي، وَرِوَايَةُ يَرُدُّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى الرَّدِّ كَمَا أَخَذَهُ وَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ فِيمَا أَكَلَ، هَكَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ نَقْلُ الْقُدُورِيِّ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ.

وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْأَوَّلَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ فِي الْكُلِّ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ قَالَ: وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُفْتِي بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرُدُّ مَا بَقِيَ إنْ رَضِيَ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرَّدِّ فِي الْكُلِّ دُونَ الْبَعْضِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّبْعِيضَ لَا يَضُرُّهُ، وَفِيمَا لَوْ بَاعَ الْبَعْضَ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَبِيعُ الْبَعْضَ كَبَيْعِ الْكُلِّ، وَفِي رِوَايَةٍ يَرُدُّ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ فِيمَا بَاعَ، وَفِي الْمُجْتَبَى عَنْ جَمْعِ الْبُخَارِيِّ أَكْلُ بَعْضِهِ يُرْجَعُ بِنُقْصَانِ عَيْبِهِ وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ، وَبِهِ يُفْتِي.

وَلَوْ أَطْعَمَهُ ابْنَهُ الْكَبِيرَ أَوْ الصَّغِيرَ أَوْ امْرَأَتَهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ أَوْ ضَيْفَهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، وَلَوْ أَطْعَمَهُ عَبْدَهُ أَوْ مُدَبَّرَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ، وَلَوْ اشْتَرَى دَقِيقًا فَخَبَزَ بَعْضَهُ وَظَهَرَ أَنَّهُ مُرٌّ رَدَّ مَا بَقِيَ وَرَجَعَ بِنُقْصَانِ مَا خَبَزَ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَوْ كَانَ سَمْنًا ذَائِبًا فَأَكَلَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّهُ كَانَ وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَهُ وَبِهِ يُفْتِي، وَفِي الْكِفَايَةِ: كُلُّ تَصَرُّفٍ يُسْقِطُ خِيَارَ الْعَيْبِ إذَا وَجَدَهُ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَلَا رَدَّ وَلَا أَرْشَ؛ لِأَنَّهُ كَالرِّضَا بِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى بَيْضًا أَوْ بِطِّيخًا أَوْ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا أَوْ جَوْزًا) أَوْ قَرْعًا أَوْ فَاكِهَةً (فَكَسَرَهُ) غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ، (فَوَجَدَهُ فَاسِدًا فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ) كَالْقَرْعِ الْمُرِّ وَالْبِيضِ الْمَذِرِ رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَسَرَهُ عَالِمًا بِالْعَيْبِ لَا يَرُدُّهُ (وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجَوْزِ صَلَاحُ قِشْرِهِ) بِأَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ فِيهِ الْحَطَبُ وَهُوَ مِمَّا يُشْتَرَى لِلْوَقُودِ (عَلَى مَا قِيلَ) مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ

ص: 372

لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ اللُّبِّ (وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ فَسَادِهِ لَمْ يَرُدَّهُ)؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ عَيْبٌ حَادِثٌ (وَ) لَكِنَّهُ (يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ بِتَسْلِيطِهِ. قُلْنَا: التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَسْرِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ، وَلَوْ وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا وَهُوَ قَلِيلٌ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلٍ فَاسِدٍ. وَالْقَلِيلُ مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْجَوْزُ عَادَةً كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فِي الْمِائَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَاسِدُ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ. .

يَرْجِعُ بِحِصَّةِ اللُّبِّ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِي قِشْرِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَادَفَ مَحَلَّهُ (لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْجَوْزِ) قَبْلَ الْكَسْرِ لَيْسَ إلَّا (بِاعْتِبَارِ اللُّبِّ) وَإِذَا كَانَ اللُّبُّ لَا يَصْلُحُ لَهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلُّ الْبَيْعِ مَوْجُودًا فَيَظْهَرُ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بَاطِلًا، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَأَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ (وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ فَسَادِهِ) بِأَنْ يَأْكُلَهُ الْفُقَرَاءُ أَوْ يَصْلُحُ لِلْعَلَفِ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ عَيْبٌ حَادِثٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي (فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ فَيَرْجِعُ) بِالنُّقْصَانِ إلَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، وَلِذَا قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا إذَا ذَاقَهُ فَوَجَدَهُ كَذَلِكَ فَتَرَكَهُ، فَإِنْ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهُ بَعْدَمَا ذَاقَهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بَيْضَ نَعَامَةٍ فَوَجَدَهَا مَذِرَةً ذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ بَيْضِ النَّعَامَةِ قَبْلَ الْكَسْرِ بِاعْتِبَارِ الْقِشْرِ وَمَا فِيهِ جَمِيعًا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ:

(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرُدُّهُ) يَعْنِي إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْكَسْرِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ أَطْلَقَهُ، وَفِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ قَيَّدَهُ بِمَا إذَا كَانَ الْكَسْرُ مِقْدَارًا لَا يُعْلَمُ الْعَيْبُ إلَّا بِهِ فَلَهُ الرَّدُّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْهِ انْتَهَى، وَلَيْسَ هَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَنَا وَلَا فِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ هَذَا الْكَسْرَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَكَأَنَّهُ كَسَرَهُ بِنَفْسِهِ (قُلْنَا: التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَسْرِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ) الْمَبِيعُ (ثَوْبًا فَقَطَعَهُ) الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّهُ مَعَ أَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى قَطْعِهِ بِالْبَيْعِ فَعُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ أَنَّ تَسْلِيطَهُ هَذَا هَدَرٌ، وَأَنَّ التَّسْلِيطَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ مَا لَوْ سَلَّطَهُ أَنْ يَكْسِرَهُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ: أَيْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِأَنْ أَمَرَهُ بِكَسْرِهِ فَذَاكَ هُوَ التَّسْلِيطُ الْمَانِعُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْكَاسِرِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فَتَسْلِيطٌ لِلْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَكْسِرَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَا أَثَرَ لِهَذَا فِي نَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ (وَلَوْ وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا) مِنْ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ (لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلٍ فَاسِدٍ) فَكَانَ كَقَلِيلِ التُّرَابِ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ وَهُوَ الظَّاهِرُ (وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَيَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَصَارَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ) فِي صَفْقَةٍ

ص: 373

(قَالَ: وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَإِنْ قَبِلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ)؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ فَجَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.

وَاحِدَةٍ، وَلَا نَصَّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ فِيهِ ضَرُورَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْقَلِيلِ إنَّهُ كَالْوَاحِدِ وَالْمَثْنَى، وَفِي النِّهَايَةِ أَرَادَ بِالْكَثِيرِ مَا وَرَاءَ الثَّلَاثَةِ لَا مَا زَادَ عَلَى الْمُصَنِّفِ، وَجَعَلَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ الْخَمْسَةَ وَالسِّتَّةَ فِي الْمِائَةِ مِنْ الْجَوْزِ مَعْفُوًّا قَالَ: لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يُوجَدُ فِي الْجَوْزِ فَصَارَ كَالْمُشَاهَدِ: يَعْنِي عِنْدَ الْبَيْعِ.

وَلَوْ اشْتَرَى عَشْرَ جَوْزَاتٍ فَوَجَدَ خَمْسَةً خَاوِيَةً اخْتَلَفُوا فِيهِ: قَبْلَ الْعَقْدِ فِي الْخَمْسَةِ الَّتِي فِيهَا لُبٌّ بِنِصْفِ الثَّمَنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقِيلَ يَفْسُدُ فِي الْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يُفَصَّلْ، وَقِيلَ الْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فِي الْبَيْعِ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ فِي الْخَمْسَةِ الَّتِي فِيهَا لُبٌّ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَعْنَى الثَّمَنِ الْمُفَصَّلِ عِنْدَهُمَا، فَإِنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَى الْأَجْزَاءِ لَا عَلَى الْقِيمَةِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي) ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَإِنْ قَبِلَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي (بِ) سَبَبِ (إقْرَارِهِ) بِالْعَيْبِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَوُجِدَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ وَهُوَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ (أَوْ بِبَيِّنَةٍ) عَلَى ذَلِكَ لِإِنْكَارِهِ الْعَيْبَ أَوْ بِسَبَبِ نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى الْعَيْبِ (فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ) الْأَوَّلِ: يَعْنِي لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْأَوَّلَ وَيَفْعَلَ مَا يَجِبُ مَعَهُ إلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَيَّدَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِمَا إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي الْعَيْبَ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ أَمَّا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَامِعِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي إقْرَارِ الْأَصْلِ فَقَالَ: لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يُخَاصِمَ مَعَ بَائِعِهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ لَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا قَضَاءٌ عَلَى خِلَافِ مَا أَقَرَّ بِهِ فَبَقِيَ إقْرَارُهُ بِكَوْنِ الْجَارِيَةِ سَلِيمَةً فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الرَّدِّ، هَذَا وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ (فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ) يَعْنِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (فَجَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ) وَقَدْ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا يُخَالُ مَانِعًا مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولَ فَرْعُ إنْكَارِهِ الْعَيْبَ فَبِخُصُومَتِهِ الْبَائِعَ الْأَوَّلَ فِيهِ يَكُونُ مُنَاقِضًا فَلَا تُسْمَعُ خُصُومَتُهُ.

وَلِذَا قَالَ زُفَرُ: إنَّهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ لِلتَّنَاقُضِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا

ص: 374

غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ أَنْكَرَ قِيَامَ الْعَيْبِ لَكِنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِالْقَضَاءِ، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ أَنَّهُ أَنْكَرَ الْإِقْرَارَ فَأُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْبَيِّنَةِ حَيْثُ يَكُونُ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَاكَ وَاحِدٌ وَالْمَوْجُودُ هَاهُنَا بَيْعَانِ، فَيُفْسَخُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ لَا يَنْفَسِخُ

بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَيْبِ فَيُنْكِرُ الْإِقْرَارَ فَيُشْهِدُ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّ إقْرَارَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ لِجَوَازِ كَذِبِ الشُّهُودِ وَوَهْمِهِمْ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ بَعْدَ الرَّدِّ لَيْسَ بِهِ عَيْبٌ لَا يَرُدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالِاتِّفَاقِ، أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (لَكِنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِالْقَضَاءِ) فَانْعَدَمَ إنْكَارُهُ الْعَيْبَ هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ إنْكَارَهُ ظَاهِرٌ فِي الصِّدْقِ وَإِلَّا فَيَجُوزُ كَوْنُهُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَفْعَلُهُ فَصَارَ ظَاهِرًا يُعَارِضُ ظَاهِرَ الدِّيَانَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِصِدْقِهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا فِي صِدْقِهِ فَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُ هَذَا الظَّاهِرِ غَيْرَ وَاقِعٍ لِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا عَيْبَ بِهِ بَعْدَ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ، وَقَدْ يُقَالُ: تَكْذِيبُ الشَّرْعِ إيَّاهُ بِإِثْبَاتِ الْعَيْبِ لَا يَرْفَعُ مُنَاقَضَتَهُ، وَكَوْنَهُ مُؤَاخَذًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِزَعْمِهِ وَهِيَ الدَّافِعَةُ لِخُصُومَتِهِ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فَيَرُدَّهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا رُدَّ مَا بَاعَهُ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ مِنْ الْمَأْمُورِ بِالْعَيْبِ، كَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ حَيْثُ يَكُونُ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى خُصُومَةٍ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْبَيْعِ حَتَّى يَكُونَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ قَائِمًا بَعْدَ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ الثَّانِي فَيُحْتَاجُ إلَى الْخُصُومَةِ فِي الرَّدِّ، وَهُنَا الْبَيْعُ وَاحِدًا فَإِذَا ارْتَفَعَ رَجَعَ إلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْر تَكَلُّفِ زِيَادَةٍ.

وَقَيَّدَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ، فَقَالَ: لَهُ الرَّدُّ بِالْبَيِّنَةِ وَبِإِبَاءِ الْيَمِينِ وَبِالْإِقْرَارِ هُوَ عَيْبٌ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ، أَمَّا فِي عَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرُدُّهُ بِالْبَيِّنَةِ وَبِإِبَاءِ الْيَمِينِ وَلَا يَرُدُّهُ الْمَأْمُورُ مَعَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْمُورِ لَا يُسْمَعُ عَلَى الْآمِرِ، وَمَعْنَى اشْتِرَاطِ الْبَيِّنَةِ أَوْ النُّكُولِ أَوْ الْإِقْرَارِ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْقَاضِي أَنَّ هَذَا عَيْبٌ قَدِيمٌ أَوْ لَا أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ تَارِيخُ الْبَيْعِ فَاحْتَاجَ الْمُشْتَرِي إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْحُجَجِ أَنَّ تَارِيخَ الْبَيْعِ مُنْذُ شَهْرٍ فَيَعْلَمُ الْقَاضِي حِينَئِذٍ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ، أَمَّا إذَا عَايَنَ الْقَاضِي تَارِيخَ الْبَيْعِ وَالْعَيْبُ ظَاهِرٌ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَى الْوَكِيلِ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ بِلَا زِيَادَةِ خُصُومَةٍ.

وَقَدْ اعْتَرَضَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ بِنُكُولِ الْوَكِيلِ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، فَإِنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عِنْدَهُ إقْرَارٌ عِنْدَهُمَا، وَبَذْلُ الْإِنْسَانِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ بِالْعَيْبِ لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ فِي عَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ، أَجَبْت بِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً بَلْ جَارٍ مَجْرَاهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى بِمَالٍ عَلَى عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ مَعَ أَنَّ بَذْلَهُ الْمَالَ لَا يَجُوزُ

ص: 375

(وَإِنْ قَبِلَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ)؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا وَالْأَوَّلُ ثَالِثُهُمَا

إلَّا فِي نَحْوِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا لَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِي كُلِّ حُكْمٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَعُودَ فَيَحْلِفَ وَيُسْقِطَ الْمَالَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ عَنْهُ، وَالشَّيْءُ إذَا أُجْرِيَ مَجْرَى الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ مُجْرًى مَجْرَاهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَهَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ؟ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَعَمْ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَا قَالَ فِي الدَّعْوَى مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ وَقَضَى الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي بِهَا ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُدَّعِي قَالَ: يَسْمَعُ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ وَتُرَدُّ الدَّارُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ لَا تُقْبَلُ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِمَاعَةَ: لَا تُقْبَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالنُّكُولُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَيْسَ بِصَرِيحِ الْإِقْرَارِ فَيُقْبَلُ، وَفِي الْإِيضَاحِ إنْ رَدَّ عَلَى الْوَكِيلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَلْزَمُهُ خَاصَّةً سَوَاءٌ كَانَ فِي عَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَسْخَ عَقْدٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَالْمُوَكِّلُ ثَالِثُهُمَا انْتَهَى.

يَعْنِي الْفَسْخَ الَّذِي بِلَا قَضَاءٍ، وَقَوْلُهُ (وَإِنْ قَبِلَ) يَعْنِي الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ (بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي) بَلْ بِرِضَاهُ (لَا يَرُدُّهُ) عَلَى بَائِعِهِ، هَذَا هُوَ الشِّقُّ الثَّانِي مِنْ تَرْدِيدِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَاصِلُهَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ غَيْرَهُ فَبَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَإِنْ قَبِلَهُ بِالتَّرَاضِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالتَّرَاضِي بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ ثَالِثُهُمَا كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَلَوْ اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا خُصُومَةَ فَكَذَا هَذَا، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فِي الدَّارِ شُفْعَةٌ فَأَسْقَطَ الشَّفِيعُ حَقَّهُ فِيمَا بَاعَهُ ثُمَّ رُدَّ بِعَيْبٍ بِالتَّرَاضِي تَجَدَّدَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ اشْتَرَى ثَانِيًا مَا بَاعَ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي الرَّدِّ وَلَا فِي الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرُدُّهُ إذَا قَبِلَهُ بِلَا قَضَاءٍ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَتَفَاوَتْ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ وَالرِّضَا، وَنَحْنُ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ وَبِالرِّضَا بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا بَاشَرَ سَبَبَ الْفَسْخِ، وَهُوَ النُّكُولُ أَوْ الْإِقْرَارُ بِالْعَيْبِ يَكُونُ رَاضِيًا بِحُكْمِ السَّبَبِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا فِي وُجُوبِ كَوْنِهِ بَيْعًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا أَقَرَّ بِالْعَيْبِ وَأَبَى الْقَبُولَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي جَبْرًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْبَيْعِ لِعَدَمِ الرِّضَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى الْإِقْرَارِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَلَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ، وَاسْتَشْكَلَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّهُ فَسْخٌ فِي الْأَصْلِ مَسَائِلُ: إحْدَاهَا الْمَبِيعُ لَوْ كَانَ عَقَارًا لَا يَبْطُلُ حَقُّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ.

وَلَوْ كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِالْبَيِّنَةِ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ بَطَلَ حَقُّ الشَّفِيعِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ، وَالثَّانِيَةُ مَا إذَا بَاعَ أَمَتَهُ الْحُبْلَى وَسَلَّمَهَا فَرُدَّتْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَادَّعَاهُ أَبُو الْبَائِعِ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ، وَلَوْ كَانَ الرَّدُّ بِقَضَاءٍ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ صَحَّتْ كَمَا لَوْ لَمْ يَبِعْهَا الِابْنُ فَادَّعَاهُ الْأَبُ، وَالثَّالِثَةُ مَا لَوْ أَحَالَ غَرِيمَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ وَلَوْ كَانَ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ بَطَلَتْ، أُجِيبَ بِبَيَانِ الْمُرَادِ وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أَنَّ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ يَعُودُ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْوَاهِبِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ لَا فِيمَا مَضَى؛ أَلَّا تَرَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ مَالَ الزَّكَاةِ إلَى رَجُلٍ قَبْلَ الْحَوْلِ فَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَاهِبِ زَكَاةٌ

ص: 376

(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الَّذِي بَاعَهُ) وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَوَابَ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَفِيمَا لَا يَحْدُثُ سَوَاءٌ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُيُوعِ: إنْ كَانَ فِيمَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ. .

بِاعْتِبَارِ مَا مَضَى وَلَا يُجْعَلُ الْمَوْهُوبُ عَائِدًا إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْوَاهِبِ فِي حَقِّ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنْ الْحَوْلِ، وَكَذَا الرَّجُلُ إذَا وَهَبَ دَارًا لِآخَرَ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ثُمَّ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَلَوْ عَادَ الْمَوْهُوبُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْوَاهِبِ وَجُعِلَ كَأَنَّ الدَّارَ لَمْ تَزُلْ عَنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ خُرِّجَتْ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ عَلَيْهِ.

أَمَّا الشُّفْعَةُ؛ فَلِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الرَّدِّ وَحُكْمُ الرَّدِّ يَظْهَرُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ لَا فِيمَا مَضَى، وَكَذَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إنَّمَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ بِاعْتِبَارِ وِلَايَةٍ كَانَتْ لَهُ زَمَانَ الْعُلُوقِ وَهُوَ مَعْنًى سَابِقٌ عَلَى الرَّدِّ وَقَدْ بَطَلَ قَبْلَ الرَّدِّ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ الرَّدِّ فِيهَا بَلْ يَبْقَى مَا كَانَ مِنْ عَدَمِ وِلَايَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَكَذَا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الرَّدِّ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ الرَّدِّ فِي إبْطَالِهَا؛ وَلِأَنَّ صِحَّتَهَا لَا تَسْتَدْعِي عِنْدَنَا دَيْنًا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: قَوْلُ الْقَائِلِ الرَّدُّ بِقَضَاءٍ فَسْخٌ وَجَعْلُ الْعَقْدِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاقِضٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ جُعِلَ الْفَسْخُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ بِدُونِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ.

فَإِذَا انْعَدَمَ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ انْعَدَمَ الْفَسْخُ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِذَا انْعَدَمَ الْفَسْخُ فِي الْأَصْلِ عَادَ الْعَقْدُ لِانْعِدَامِ مَا يُنَافِيهِ لَكِنْ يُقَالُ: الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَاهُ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ غَيْرِ النُّقُودِ، أَمَّا مِنْهَا فَلَا، وَذَلِكَ لِمَسْأَلَةٍ نَقَلَهَا فِي الْمُحِيطِ مِنْ الْمُنْتَقَى: أَنَّ مَنْ اشْتَرَى دِينَارًا بِدَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَ الدِّينَارَ مِنْ آخَرَ ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ بِالدِّينَارِ عَيْبًا وَرَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ، وَذَلِكَ لِمَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ الْمَبِيعَيْنِ حِينَئِذٍ يَكُونَانِ مَعْدُومَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَعِيبَ لَيْسَ بِمَبِيعٍ بَلْ الْمَبِيعُ السَّلِيمُ فَيَكُونُ الْمَعِيبُ مِلْكَ الْبَائِعِ، فَإِذَا رُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي يَرُدُّهُ بِخِلَافِ الْمَبِيعَيْنِ فِي غَيْرِ النُّقُودِ كَمَسْأَلَةِ الْهِدَايَةِ فَإِنَّهُمَا مَوْجُودَانِ فِي ذَلِكَ إذَا قَبِلَهُ بِدُونِ الْقَضَاءِ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَلَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ.

وَإِذَنْ مَا فِيهَا مِنْ الْإِطْلَاقِ الْمَذْكُورِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى هَذَا الْقَيْدِ، وَقَوْلُهُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) إلَى آخِرِهِ إنَّمَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُ الْقُدُورِيَّ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ الْمَسْأَلَةَ فِيهِ بِكَوْنِ الْعَيْبِ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ، وَقَيَّدَهَا فِي الْجَامِعِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فَقَالَ: إنَّمَا قَيَّدَ بِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الرَّدِّ فِيمَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاعِبَةِ، فَامْتِنَاعُهُ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ كَالْمَرَضِ وَالسُّعَالِ وَالْقُرُوحِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْلَى، قَالَ الْمُصَنِّفِ.

(وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُيُوعِ) أَيْ بُيُوعِ الْأَصْلِ (إنْ كَانَ فِيمَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرْجِعُ) يَعْنِي عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ إذَا رَدَّهُ بِالتَّرَاضِي (لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ) وَقَدْ فَعَلَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَا لَوْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ مُتَعَيِّنٌ فِي هَذَا فَكَانَ فِعْلُهُمَا كَفِعْلِ الْقَاضِي، وَالْمُرَادُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ مُطْلَقًا أَوْ فِي مُدَّةِ كَوْنِهِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ إلَى رَدِّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، قِيلَ، وَوَجْهُ عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ

ص: 377

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَبَضَهُ فَادَّعَى عَيْبًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْلِفَ الْبَائِعُ أَوْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً)

أَنَّ هَذَا رَدٌّ ثَبَتَ بِالتَّرَاضِي فَكَانَ كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمَا فَعَلَا عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي هَذَا هُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالسَّلَامَةِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الرَّدِّ لِلْعَجْزِ فَإِذَا نَقَلَاهُ إلَى الرَّدِّ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّدَّ إذَا امْتَنَعَ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ، وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْحَقُّ مُتَعَيِّنٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّحَوُّلَ إلَى غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بَعْدَ قَبْضِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ بَيْعًا فِيهِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ فَإِنَّهُ إذَا فَسَخَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِحُكْمِ الْخِيَارِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهُ مُطْلَقًا، وَعَلِمْت أَنَّ الْفَسْخَ بِالْخِيَارَيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ.

قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: الْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْقَبْضِ عِنْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْبِ فَكَانَ هَذَا تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ مِنْ الْقَبْضِ، وَوِلَايَةُ الدَّفْعِ عَامَّةٌ فَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُوجِبُ الْعَقْدِ وَقَدْ تَنَاهَى إلَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي صِفَةِ السَّلَامَةِ قَائِمٌ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ فَجَاءَ مِنْ هَذَا أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ مَا ثَبَتَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ بَلْ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِدْرَاكُ حَقِّهِ فِي صِفَةِ السَّلَامَةِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِوِلَايَةٍ عَامَّةٍ، وَلَوْ كَانَ بِالتَّرَاضِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّهِمَا خَاصَّةً، بِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْفَسْخِ ثَبَتَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُمَا يَسْلُبَانِ اللُّزُومَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا حَقًّا لَهُ، وَوِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَلِذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ فَادَّعَى عَيْبًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْلِفَ الْبَائِعُ أَوْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً) عَلَى الْبَائِعِ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَهُ وَمُقْتَضَى هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّهُ إذَا أَقَامَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ وَهُوَ فَاسِدٌ، فَقَدَّرَ ظَهِيرُ الدِّينِ لِلثَّانِي خَبَرًا هَكَذَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَحْلِفَ الْبَائِعُ أَوْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَهُ فَيَسْتَمِرُّ عَدَمُ الْجَبْرِ انْتَهَى.

وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ آخَرَ مَعَ يَحْلِفُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ مَعْنَى يَحْلِفُ الْبَائِعُ بَلْ مَعْنَاهُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْحَلِفَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ طَلَبِ الْحَلِفِ مِنْهُ الْجَبْرُ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ، بَلْ إذَا حَلَفَ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَنْكُلَ فَيَسْتَمِرُّ عَدَمُ الْجَبْرِ فَعَدَمُ الْجَبْرِ يَثْبُتُ مَعَ إحْدَى صُورَتَيْ التَّحْلِيفِ كَمَا يَثْبُتُ مَعَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَقِيلَ يُقَدَّرُ فِعْلٌ عَامٌّ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْغَايَتَانِ: أَعْنِي الْحَلِفَ وَإِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ هَكَذَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى يَظْهَرَ وَجْهُ الْحُكْمِ

ص: 378

لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ دَفْعِ الثَّمَنِ حَيْثُ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ بِدَعْوَى الْعَيْبِ، وَدَفْعُ الثَّمَنِ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُ بِإِزَاءِ تَعَيُّنِ الْمَبِيعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالدَّفْعِ فَلَعَلَّهُ يَظْهَرُ الْعَيْبُ فَيُنْتَقَضُ الْقَضَاءُ فَلَا يَقْضِي بِهِ صَوْنًا لِقَضَائِهِ (فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي شُهُودِي بِالشَّامِ اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ فِي الِانْتِظَارِ ضَرَرًا بِالْبَائِعِ، وَلَيْسَ فِي الدَّفْعِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى حُجَّتِهِ، أَمَّا إذَا نَكَلَ أُلْزِمَ الْعَيْبَ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِيهِ. .

بِهِ أَوْ بِعَدَمِهِ بِأَنْ يُحَلَّفَ فَيَحْلِفَ أَوْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ لَا يُجْبَرُ بِيُنْتَظَرُ بِدَفْعِ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ إذَا طَالَبَهُ الْبَائِعُ بِهِ فَادَّعَى هُوَ عَيْبًا.

(لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ الثَّمَنِ بِدَعْوَى الْعَيْبِ فَإِنَّهُ بِهِ أَنْكَرَ تَعَيُّنَ حَقِّهِ)؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي السَّلِيمِ وَلَمْ يَقْبِضْهُ فَمَا قَبَضَهُ لَيْسَ مُوجِبًا دَفْعَ الثَّمَنِ عَلَيْهِ (وَ) وُجُوبُ (دَفْعِ الثَّمَنِ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ بِإِزَاءِ تَعَيُّنِ) حَقِّ الْمُشْتَرِي فِي (الْمَبِيعِ) وَلَمْ يَتَعَيَّنْ؛ لِأَنَّهُ السَّلِيمُ وَقَدْ أَنْكَرَهُ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْجَبْرِ قَائِمٌ وَالْمَانِعَ وَهُوَ قِيَامُ الْعَيْبِ مَوْهُومٌ فَلَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقَّقَ، فَالْجَوَابُ مَنْعُ قِيَامِ الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّهُ الْبَيْعُ لِلسَّلِيمِ أَوْ هُوَ مَعَ قَبْضِهِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.

وَأَيْضًا فَقَدْ يَثْبُتُ مَا ادَّعَاهُ فَيُؤَدِّي إلَى نَقْضِ الْقَضَاءِ بِدَفْعِ الثَّمَنِ وَصِيَانَةِ الْقَضَاءِ عَنْ النَّقْضِ يَنْبَغِي مَا أَمْكَنَ (فَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَالَ شُهُودِي بِالشَّامِ) مَثَلًا فَأَمْهِلْنِي حَتَّى أُحْضِرَهُمْ أَوْ آتِيَك بِكِتَابٍ حُكْمِيٍّ مِنْ قَاضِي الشَّامِ لَا يُسْمَعُ ذَلِكَ بَلْ (يُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ) وَيُقْضَى (بِدَفْعِ الثَّمَنِ إنْ حَلَفَ) وَإِنْ نَكَلَ رَدَّ الْمَبِيعَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا (لِأَنَّ فِي الِانْتِظَارِ بِالْبَائِعِ كَبِيرُ إضْرَارٍ)؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى غَايَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ يَجْرِي مَجْرَى الْإِبْطَالِ خُصُوصًا بَعْدَ قَبْضِ مَالِ الْبَائِعِ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلَيْسَ فِي الدَّفْعِ كَبِيرُ إضْرَارٍ بِالْمُشْتَرِي (لِأَنَّهُ عَلَى حُجَّتِهِ) إذْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ حَلِفِهِ

ص: 379

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَادَّعَى إبَاقًا لَمْ يُحَلَّفْ الْبَائِعُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ) وَالْمُرَادُ التَّحْلِيفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْبَقْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ قَوْلَهُ وَلَكِنَّ إنْكَارَهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ بِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي

عَلَى الْعَيْبِ وَيَرُدَّ الْمَبِيعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: شُهُودِي حُضُورٌ فَإِنَّ الْإِمْهَالَ هُنَا إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي، وَلَا ضَرَرَ فِي هَذَا الْقَدْرِ عَلَى الْبَائِعِ فَيُمْهَلُ، وَلَوْ قَالَ أُحْضِرُ بَيِّنَتِي إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أُجِّلَهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَنْفُذُ فِيهِ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، وَلَمْ يَتَنَاكَرَا الْعَقْدَ بَلْ حَقِيقَةُ الدَّعْوَى هُنَا دَعْوَى مَالٍ عَلَى تَقْدِيرٍ، فَالْقَضَاءُ هُنَا بِدَفْعِ الثَّمَنِ إلَى غَايَةِ حُضُورِ الشُّهُودِ بِالْمُسْقِطِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الْحَلِفِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي مِثْلِهِ: أَعْنِي مَا إذَا قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ أَوْ قَالَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ تُقْبَلُ.

وَأَمَّا إذَا قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي فَحَلَفَ خَصْمُهُ ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ، فِي أَدَبِ الْقَاضِي تُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُقْبَلُ، وَلَا يُحْفَظُ فِي هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الْخُلَاصَةِ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تُقْبَلُ، وَفِي جَمْعِ النَّسَفِيِّ فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَتَانِ: نَعَمْ تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ يُخَالِفُ مَا فِي رَوْضَةِ الْقُضَاةِ إذَا قَالَ بَيِّنَتِي غَائِبَةٌ لَمْ يُحَلَّفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَلَّفُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ فَأَحْلَفَهُ ثُمَّ أَتَى بِهَا لَا يُحَلَّفُ فِي قَوْلِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُهُ (أَمَّا إذَا نَكَلَ أُلْزِمَ الْعَيْبَ؛ لِأَنَّهُ) يَعْنِي النُّكُولَ (حُجَّةٌ فِيهِ) أَيْ فِي ثُبُوتِ الْعَيْبِ؛ وَقَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ لَيْسَ حُجَّةً فِي كُلِّ شَيْءٍ إذْ لَيْسَ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَادَّعَى) الْمُشْتَرِي (إبَاقًا) عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْبَائِعِ فَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ عَلَى عَدَمِ الْإِبَاقِ عِنْدَهُ (لَا يَحْلِفُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ الْعَيْبُ فَتَصِحُّ الْخُصُومَةُ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ ذَلِكَ (لِأَنَّ الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الْبَائِعِ لَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ وَلَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ (إلَّا بَعْدَ)

ص: 380

وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحُجَّةِ (فَإِذَا أَقَامَهَا حَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَمَا أَبَقَ عِنْدَهُ قَطُّ) كَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ شَاءَ حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ عَلَيْك مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِي أَوْ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ عِنْدَك قَطُّ

ثُبُوتِ قِيَامِ الْمُدَّعَى مُسَبَّبًا لِلرَّدِّ (وَمَعْرِفَتِهِ) أَيْ مَعْرِفَةُ قِيَامِ الْعَيْبِ (بِالْحُجَّةِ) عِنْدَ إنْكَارِهِ، وَهَذَا فِي دَعْوَى نَحْوِ الْإِبَاقِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ الرَّدُّ فِيهِ عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا.

أَمَّا فِي عَيْبٍ لَا يَتَوَقَّفُ الرَّدُّ فِيهِ عَلَى عَوْدِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ وَكَذَا الْجُنُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُخْتَارِ فَلَا، وَعُرِفَ أَنَّ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَدَّعِيَ إبَاقًا فَيُنْكِرُ قِيَامَهُ فِي الْحَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ أَمَّا لَوْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ وُجُودِهِ عِنْدَهُ، فَإِنْ اعْتَرَفَ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْتِمَاسِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَنْكَرَ طُولِبَ الْمُشْتَرِي بِالْبَيِّنَةِ، عَلَى أَنَّ الْإِبَاقَ وُجِدَ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَإِنْ أَقَامَهَا رَدَّهُ وَإِلَّا حَلَفَ بِاَللَّهِ عز وجل لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا أَبَقَ عِنْدَهُ قَطُّ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (كَذَا قَالَهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْجَامِعِ، فَإِنَّ عِبَارَتَهُ هَكَذَا: فَإِذَا أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَةَ اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَقَبَضَهُ وَمَا أَبَقَ قَطُّ، قَالُوا (وَإِنْ شَاءَ حَلَّفَهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ عَلَيْك مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِي بِهِ أَوْ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ) عِنْدَك قَطُّ، كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ حَسَنَةٌ، بَقِيَتْ عِبَارَتَانِ مُحْتَمِلَتَانِ، وَهُمَا أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ، أَوْ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ، قَالُوا: لَا يَحْلِفُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ، فَإِذَا فُرِضَ حُدُوثُ الْعَيْبِ كَذَلِكَ فَحَلَفَ لَقَدْ بِعْتُهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ كَانَ بَارًّا فِي يَمِينِهِ، وَأَمَّا بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ صَادِقَةٌ هُنَا إذَا كَانَ حُدُوثُ الْعَيْبِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَقَدْ يَكُونُ حُدُوثُ الْعَيْبِ كَذَلِكَ فَيَتَأَوَّلُهُ الْبَائِعُ فِي يَمِينِهِ: أَيْ يَقْصِدُ تَعَلُّقَ عَدَمِ الْعَيْبِ بِالشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا وَهُمَا الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى ظَنِّ أَنْ صِدْقَهُ لُغَةً عَلَى تَقْدِيرِ قَصْدِهِ إلَيْهِ يُوجِبُ بِرَّهُ شَرْعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ تَأَوُّلَهُ كَذَلِكَ لَا يُخَلِّصُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْيَمِينِ بَلْ هِيَ يَمِينٌ غَمُوسٌ، وَالْأَخْصَرُ مَعَ

ص: 381

أَمَّا لَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَلَا بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلرَّدِّ، وَالْأَوَّلُ ذُهُولٌ عَنْهُ وَالثَّانِي يُوهِمُ تَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطَيْنِ فَيَتَأَوَّلُهُ فِي الْيَمِينِ عِنْدَ قِيَامِهِ وَقْتَ التَّسْلِيمِ دُونَ الْبَيْعِ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَهُ يُحَلَّفُ عَلَى قَوْلِهِمَا. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَهُمَا: إنَّ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ فَكَذَا يَتَرَتَّبُ التَّحْلِيفُ

الْوَفَاءِ بِالْمَقْصُودِ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ عِنْدِي قَطُّ.

(وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي يُحَلَّفُ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ) هَلْ يُحَلَّفُ أَوْ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْ الْخُصُومَةِ؟ فَعَنْ الْقَاضِي أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّ الْخِلَافَ مَذْكُورٌ فِي النَّوَادِرِ عِنْدَهُ لَا يُحَلَّفُ، وَعِنْدَهُمَا نَعَمْ، وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ النَّسَفِيِّ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ: لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَخْصِيصُ قَوْلِهِمَا بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافُ قَوْلِهِمَا، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ حَلِفِهِ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ عِنْدَهُ، فَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ لَكِنَّ الْحَلِفَ عَلَى فِعْلِ

ص: 382

وَلَهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَعْضُ أَنَّ الْحَلِفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَلَيْسَتْ تَصِحُّ إلَّا مِنْ خَصْمٍ وَلَا يَصِيرُ خَصْمًا فِيهِ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ. وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ ثَانِيًا لِلرَّدِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. .

الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَالِفُ مُدَّعِيًا الْعِلْمَ بِهِ، أَمَّا إذَا كَانَ مُدَّعِيًا فَلَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودِعَ إذَا ادَّعَى قَبْضَ الْمُودَعِ لَهَا يَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ وَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الْغَيْرِ.

وَقِيلَ لَيْسَ حَاصِلُهُ فِعْلُ الْغَيْرِ بَلْ فِعْلُ نَفْسِهِ وَهُوَ تَسْلِيمُهُ سَلِيمًا، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ فَإِنَّ مَعْنَى تَسْلِيمِهِ سَلِيمًا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ السَّلَامَةُ فِي حَالِ التَّسْلِيمِ بَلْ بِمَعْنَى سَلَامَتِهِ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ السَّرِقَةَ عِنْدِي فَيَرْجِعُ إلَى الْحَلِفِ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ.

وَأُورِدَ عَلَى الْأَوَّلِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا مَا لَوْ بَاعَ رَجُلَانِ عَبْدًا مِنْ آخَرَ صَفْقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَوَرِثَهُ الْبَائِعُ الْآخَرُ ثُمَّ ادَّعَى الْمُشْتَرِي عَيْبًا فَإِنَّهُ يَحْلِفُ فِي نَصِيبِهِ بِالْجَزْمِ، وَفِي نَصِيبِ مُوَرِّثِهِ بِالْعِلْمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّهُ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِانْتِفَاءِ الْعَيْبِ، الثَّانِيَةُ إذَا بَاعَ الْمُتَفَاوِضَانِ عَبْدًا وَغَابَ أَحَدُهُمَا فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَيْبًا يَحْلِفُ الْحَاضِرُ عَلَى الْجَزْمِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ وَعَلَى الْعِلْمِ فِي نَصِيبِ الْغَائِبِ مَعَ ادِّعَائِهِ عِلْمًا بِذَلِكَ كَمَا قُلْنَا انْتَهَى.

وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يُشْكِلَ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ تَحْلِيفَهُ فِي نِصْفِهِ عَلَى الْعِلْمِ، وَفِي نِصْفِهِ الْآخَرِ عَلَى الْبَتَاتِ وَهُوَ وَاحِدٌ: أَعْنِي الْعَيْبَ فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ هُوَ الْمُشْكِلُ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْمَسْأَلَتَانِ مُشْكِلَتَانِ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ كَانَ عِلْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّصْفَيْنِ أَوْ جَهْلُهُ كَانَ أَيْضًا كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مُدَّةً فَيَحْلِفُ هَذَا الْوَارِثُ عَلَى الْبَتَاتِ فِي مُدَّتِهِ مَا أَبَقَ عِنْدِي، وَعَلَى الْعِلْمِ فِي مُدَّةِ شَرِيكِهِ مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَ شَرِيكِي، فَلْيَكُنْ مَحْمَلُهُمَا ذَلِكَ.

وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ إقَامَةُ الْعَبْدِ إلَّا عِنْدَ هَذَا الشَّرِيكِ لَا يَحْلِفُ إلَّا عَلَى الْبَتَاتِ وَيَكْتَفِي بِذَلِكَ، إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرَ مَعْلُومٍ فَيَحْلِفُ كَمَا ذَكَرُوا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ إقَامَتُهُ إلَّا عِنْدَ الَّذِي مَاتَ لَا يَحْلِفُ إلَّا عَلَى الْبَتَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ اقْتَضَى وَصْفَ السَّلَامَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا تَطَارَحْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْبَقْ عِنْدَ الْبَائِعِ وَأَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَكَانَ أَبَقَ عِنْدَ آخَرَ قَبْلَ هَذَا الْبَائِعِ، وَلَا عِلْمَ لِلْبَائِعِ بِذَلِكَ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، وَأَثْبَتَهُ يَرُدُّهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعِيبٌ، وَالْعَقْدُ أَوْجَبَ عَلَى هَذَا الْبَائِعِ السَّلِيمَ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إثْبَاتِهِ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَى الْعِلْمِ، وَكَذَا فِي كُلِّ عَيْبٍ يُرَدُّ بِتَكَرُّرِهِ، وَجْهُ قَوْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْخِلَافِ وَهُوَ (مَا قَالَهُ الْبَعْضُ أَنَّ الْحَلِفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَلَيْسَتْ تَصِحُّ إلَّا مِنْ خَصْمٍ وَلَا يَصِيرُ خَصْمًا فِيهِ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْعَيْبِ) وَإِذَا نَكَلَ الْبَائِعُ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي (يَحْلِفُ ثَانِيًا لَزَادَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ)؛ لِأَنَّهُ بِنُكُولِهِ أُنْزِلَ مُقِرًّا بِوُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَتَوَجَّهَتْ الْخُصُومَةُ فِيهِ فَيَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ مَا وُجِدَ عِنْدَهُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا.

وَقَوْلُهُ الْحَلِفُ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ قِيلَ يُفِيدُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا يَلْزَمُ تَرَتُّبُهَا عَلَيْهَا بَلْ تَكُونُ بِلَا دَعْوَى أَصْلًا فِي الْحُدُودِ، وَكَذَا عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ أَوْ وَارِثٌ وَلَا دَعْوَى أَصْلًا فَفِي دَعْوَى غَيْرِ صَحِيحَةٍ أَوْلَى، وَفِي الْكَافِي: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُحَلَّفُ؛ لِأَنَّ.

ص: 383

قَالَ رضي الله عنه: إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي إبَاقِ الْكَبِيرِ يَحْلِفُ مَا أَبَقَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ فِي الصِّغَرِ لَا يُوجِبُ رَدَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. .

التَّحْلِيفَ شُرِعَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِثْبَاتِهَا، وَهُنَا لَوْ حَلَفَ الْبَائِعُ يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ أُخْرَى، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ هُوَ مِنْ الْخُصُومَةِ فَبِهَا تَنْتَهِي خُصُومَةٌ لَا تَنْدَفِعُ، وَكَثِيرًا مَا يَتَرَتَّبُ خُصُومَاتٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَكُونُ مُنْتَهَى بَعْضِهَا مَبْدَأَ أُخْرَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْوَجْهِ الْحَلِفُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ فَنَقُولُ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالصَّحِيحَةِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الْجَوَابَ فَهَذِهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُ عَيْبٌ فِي الْمَبِيعِ وَقَدْ وُجِدَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَاضِيَ يَطْلُبُ جَوَابَهُ عَنْهُ: أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ فَإِنْ اعْتَرَفَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ رُدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ عِنْدَهُ وَاعْتَرَفَ بِوُجُودِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَعَلَى الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا حَلَفَ إلَى آخِرِهِ أَوْ اعْتَرَفَ بِوُجُودِهِ عِنْدَهُ وَأَنْكَرَ وُجُودَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَكُلُّ ذَلِكَ فَرْعُ إلْزَامِهِ بِالْجَوَابِ بِأَحَدِ هَذِهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ عَلَى عَدَمِهِ عِنْدَهُ حَتَّى تَثْبُتَ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى وَهُوَ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّ تَحْلِيفَهُ عَلَى ذَلِكَ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَ الْمُشْتَرِي مِنْ الرَّدِّ إنْ لَمْ يُثْبِتْ عَوْدَهُ عِنْدَهُ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَتُهُ إلَّا بَعْدَهُ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَكْفِي لِلرَّدِّ وُجُودُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَقَطْ كَوِلَادَةِ الْجَارِيَةِ وَكَوْنِهَا وَلَدَ زِنًا حَلَفَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ دَعْوَى الْعَيْبِ وَدَعْوَى الدَّيْنِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتَدْعِي جَوَابًا بِمَا يَلِيقُ بِالْحَالِ وَإِنَّ تَكْلِيفَ الْفَرْقِ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى أَنَّ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ تَتَّجِهُ قَبْلَ إثْبَاتِ الدَّيْنِ، وَهُنَا لَا تَتَّجِهُ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ الْعَيْبِ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هَذِهِ خُصُومَةٌ الْغَرَضُ مِنْهَا رَدُّ الْمَبِيعِ وَتِلْكَ خُصُومَةٌ الْغَرَضُ مِنْهَا رَدُّ الدَّيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ، فَكَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُجِيبَ هُنَا بِإِنْكَارِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا رَأْسًا كَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُجِيبَ بِإِنْكَارِ الدَّيْنِ رَأْسًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ، ثُمَّ كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ دُخُولَ الْعَيْبِ فِي الْوُجُودِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ النُّكُولِ كَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ دُخُولَ الدَّيْنِ فِي الْوُجُودِ كَذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ طَالَبَهُ بِرَدِّهِ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْعَيْبِ يُطَالِبُهُ بِرَدِّ الثَّمَنِ وَرَدِّهِ، فَإِذَا تَأَمَّلْت لَا فَرْقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَالْوَجْهُ مَا قَالَا مِنْ إلْزَامِ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ الْمَالُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِرَجَاءِ النُّكُولِ، وَكَوْنُهُ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ إلَّا بَعْدَ يَمِينٍ أُخْرَى عَلَى وُجُودِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْحَلِفِ عَلَى أَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إثْبَاتِ كُلٍّ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله:(قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ) يَعْنِي نَفْسَهُ.

(إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي إبَاقِ) الْعَبْدِ (الْكَبِيرِ يَحْلِفُ) الْبَائِعُ (مَا أَبَقَ) عِنْدِي (مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ)؛ لِأَنَّهُ عَسَاهُ أَبَقَ عِنْدَهُ فِي الصِّغَرِ فَقَطْ ثُمَّ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الرَّدَّ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْحَلِفَ مَا أَبَقَ عِنْدَهُ قَطُّ أَضْرَرْنَا بِهِ وَأَلْزَمْنَاهُ مَا لَا يَلْزَمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ أَصْلًا أَضْرَرْنَا بِالْمُشْتَرِي فَيَحْلِفُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا فِي كُلِّ عَيْبٍ يُدَّعَى وَيُخْتَلَفُ فِيهِ الْحَالُ فِيمَا قَبْلَ الْبُلُوغَ وَبَعْدَهُ، بِخِلَافِ مَا لَا يَخْتَلِفُ كَالْجُنُونِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةُ تَرْتِيبِ الْخُصُومَةِ فِي عَيْبِ الْإِبَاقِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ كُلُّ عَيْبٍ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ كَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ فِي الْفِرَاشِ وَالْجُنُونِ وَالزِّنَا، وَبَقِيَ أَصْنَافٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا قَاضِي خَانْ هِيَ مَعَ.

ص: 384

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَتَقَابَضَا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك هَذِهِ وَأُخْرَى مَعَهَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْتنِيهَا وَحْدَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي)؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْقَابِضِ

مَا ذَكَرْنَا تَتِمَّةُ أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ عَيْبًا ظَاهِرًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَصْلًا مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ إلَى وَقْتِ الْخُصُومَةِ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَالْعَمَى وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاعِبَةِ: أَيْ الزَّائِدَةِ.

فَالْقَاضِي فِيهِمَا يَقْضِي بِالرَّدِّ إذَا طَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ تَحْلِيفٍ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ رِضَاهُ بِهِ أَوْ الْعِلْمَ بِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءَ مِنْهُ، فَإِذَا ادَّعَاهُ سَأَلَ الْمُشْتَرِيَ، فَإِنْ اعْتَرَفَ امْتَنَعَ الرَّدُّ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَجَزَ يُسْتَحْلَفُ مَا عَلِمَ بِهِ وَقْتَ الْبَيْعِ أَوْ مَا رَضِيَ وَنَحْوُهُ، فَإِنْ حَلَفَ رَدَّهُ، وَإِنْ نَكَلَ امْتَنَعَ الرَّدُّ، الثَّانِي أَنْ يَدَّعِيَ عَيْبًا بَاطِنًا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْأَطِبَّاءُ كَوَجَعِ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ عِنْدَهُمَا رَدَّهُ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَهُ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَوْ حَلَفَ الْبَائِعُ فَنَكَلَ إلَّا إنْ ادَّعَى الرِّضَا فَيَعْمَلُ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ أَنْكَرَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي يُرِيهِ طَبِيبَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ، فَإِذَا قَالَ بِهِ ذَلِكَ يُخَاصِمُهُ فِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ.

الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ عَيْبًا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ كَدَعْوَى الرَّتَقِ وَالْقَرَنِ وَالْعَفَلِ وَالثِّيَابَةِ وَقَدْ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ، فَعَلَى هَذَا إلَّا أَنَّهُ إذَا أَنْكَرَ قِيَامَهُ فِي الْحَالِ أُرِيَتْ النِّسَاءَ وَالْمَرْأَةُ الْعَدْلُ كَافِيَةٌ، فَإِذَا قَالَتْ: ثَيِّبًا أَوْ قَرْنَاءَ رُدَّتْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهَا عِنْدَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ نُكُولُهُ عِنْدَ تَحْلِيفِهِ غَيْرَ أَنَّ الْقَرَنَ وَنَحْوَهُ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ تُرَدُّ عِنْدَ قَوْلِ الْمَرْأَتَيْنِ هِيَ قَرْنَاءُ بِلَا خُصُومَةٍ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ لِلتَّيَقُّنِ بِذَلِكَ كَمَا فِي الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ رِضَاهُ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَفِي شَرْحِ قَاضِي خَانْ: الْعَيْبُ إذَا كَانَ مُشَاهَدًا، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْدُثُ وَاخْتُلِفَ فِي حُدُوثِهِ فَالْبَيِّنَةُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْخِيَارَ، وَهَذَا يُعْرَفُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ.

وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَادَّعَى أَنَّهَا خُنْثَى يَحْلِفُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ الرِّجَالُ وَلَا النِّسَاءُ، وَلَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ أَتَبِيعَهُ قَالَ نَعَمْ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ عَرْضٌ عَلَى الْبَيْعِ، وَلَوْ قَالَ بِعْهُ فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَ رُدَّهُ عَلَيَّ فَعَرَضَهُ فَلَمْ يُشْتَرَ سَقَطَ الرَّدُّ، وَلَوْ وَجَدَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ زُيُوفًا فَقَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: أَنْفِقْهُ، فَإِنْ لَمْ يَرُجْ رُدَّهُ عَلَيَّ فَأَنْفَقَ فَلَمْ يَرُجْ رَدَّهُ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا فَقَالَ هُوَ قَصِيرٌ فَقَالَ الْبَائِعُ أَرِهِ الْخَيَّاطَ.

فَإِنْ قَطَعَهُ وَإِلَّا رُدَّهُ فَفَعَلَ فَإِذَا هُوَ قَصِيرٌ فَلَهُ الرَّدُّ، اشْتَرَى لِمَيِّتٍ كَفَنًا ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَا يَرُدُّهُ وَلَا يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ حَتَّى يَحْدُثَ بِهِ عَيْبٌ مَانِعٌ مِنْ الرَّدِّ، وَفِي الْقُنْيَةِ: لَوْ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَخَاصَمَ بَائِعَهُ فِيهِ ثُمَّ تَرَكَ الْخُصُومَةَ أَيَّامًا ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا فَقَالَ لَهُ بَائِعُهُ: لِمَ سَكَتَّ عَنْ الْخُصُومَةِ مُدَّةً؟ فَقَالَ: لِأَنْظُرَ أَنَّهُ يَزُولُ أَوْ لَا فَلَهُ رَدُّهُ، كَذَا فِي الْمُجْتَبَى،.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً) أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْأَعْيَانِ (وَتَقَابَضَا) فَقَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ وَالْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ (فَوَجَدَ بِهَا) الْمُشْتَرِي (عَيْبًا) فَجَاءَ لِيَرُدَّهُ فَاعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِمَا وَجَبَ الرَّدُّ إلَّا أَنَّهُ (قَالَ بِعْتُك هَذِهِ وَأُخْرَى مَعَهَا) وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى رَدِّ حِصَّةِ هَذِهِ فَقَطْ لَا كُلِّ الثَّمَنِ (وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتنِيهَا وَحْدَهَا) فَارْدُدْ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدٍ (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ، وَالْقَوْلُ) فِيهِ (قَوْلُ الْقَابِضِ) أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَمِينًا؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ زِيَادَةً يَدَّعِيهَا عَلَيْهِ الْبَائِعُ؛ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ فِي الْمَرْدُودِ بِالرَّدِّ، وَذَلِكَ سَقْطٌ لِلثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ بَعْضَ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُ السُّقُوطِ

ص: 385

كَمَا فِي الْغَصْبِ (وَكَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْمَبِيعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمَقْبُوضِ) لِمَا بَيَّنَّا. .

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَدْعُهُمَا)؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَتِمُّ بِقَبْضِهِمَا فَيَكُونُ تَفْرِيقُهَا قَبْلَ التَّمَامِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَالتَّفْرِيقُ فِيهِ كَالتَّفْرِيقِ فِي الْعَقْدِ

وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَصَارَ (كَالْغَصْبِ) إذَا ادَّعَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهُ غَصَبَهُ هَذَا مَعَ آخَرَ أَوْ حَدَثَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَأَنْكَرَ الْغَاصِبُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْمَبِيعِ) بِأَنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ جَارِيَتَانِ ثُمَّ قَالَ الْبَائِعُ: قَبَضْتَهُمَا وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ حِصَّةَ هَذِهِ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَمْ أَقْبِضْ مِنْ الْمَبِيعِ سِوَى هَذِهِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي (لِمَا) بَيَّنَّا (مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَابِضِ)،.

قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ (أَوْ ثَوْبَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَقَبَضَ أَحَدَهُمَا وَوَجَدَ بِالْآخَرِ) الَّذِي لَمْ يَقْبِضْ (عَيْبًا فَإِنَّهُ بِالْخِيَارِ) إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُمَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ السَّلِيمَ وَيَرُدَّ الْمَعِيبَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (لِأَنَّ الصَّفْقَةَ إنَّمَا تَتِمُّ بِقَبْضِهِمَا)؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتِمُّ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ، وَلَمْ يُوجَدْ (فَيَكُونُ رَدُّ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ) تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ رَدِّ أَحَدِهِمَا بَعْدَ قَبْضِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَتَفْرِيقِهَا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ فِيمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَهُمَا بِأَلْفٍ فَقَالَ: قَبِلْتُ فِي هَذَا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ (لِأَنَّ الْقَبْضَ لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ)؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ كَمَا يُثْبِتُ الْعَقْدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَعْنِي الْقَبْضَ مُؤَكِّدٌ لِمَا أَثْبَتَهُ الْعَقْدُ، حَتَّى أَنَّ الشُّهُودَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا يَضْمَنُونَ نِصْفَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِتَمْكِينِهَا ابْنَ الزَّوْجِ وَنَحْوِهِ، فَالشُّهُودُ بِشَهَادَتِهِمْ أَكَّدُوا لُزُومَهُ وَحَقَّقُوهُ وَمَا قُبِلَ فِي تَمَامِهِ، وَحُكْمُ الْمُشَبَّهِ حُكْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لِلنَّارِ وَعَلَى النَّجَاسَةِ حَرَامٌ، وَلَوْ صَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ وَبِقُرْبِهِ نَجَاسَةٌ كَانَ مَكْرُوهًا لَيْسَ تَمْثِيلًا صَحِيحًا فَإِنَّ الثَّابِتَ الْكَرَاهَةُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ لَوْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ.

ص: 386

وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ عَيْبًا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَرُدُّهُ خَاصَّةً، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَرُدُّهُمَا؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ تَعَلَّقَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَصَارَ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ لَمَّا تَعَلَّقَ زَوَالُهُ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لَا يَزُولُ دُونَ قَبْضِ جَمِيعِهِ (وَلَوْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ) بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يَرُدُّهُ خَاصَّةً خِلَافًا لِزُفَرَ. هُوَ يَقُولُ: فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَلَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِضَمِّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ تَتِمُّ الصَّفْقَةُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لَا تَتِمُّ بِهِ عَلَى مَا مَرَّ

هَذَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ (فَإِنْ وُجِدَ الْعَيْبُ فِي الْمَقْبُوضِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرُدُّهُ خَاصَّةً)؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَامَّةٌ فِي الْمَقْبُوضِ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَأْخُذُهُمَا أَوْ يَرُدُّهُمَا؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ تَعَلَّقَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّهِ) فَمَا لَمْ يَقْبِضْ الْكُلَّ لَا تَتِمُّ فَيَكُونُ تَفْرِيقًا قَبْلَ التَّمَامِ (وَصَارَ تَمَامُ الصَّفْقَةِ كَحَبْسِ الْبَيْعِ لَمَّا تَعَلَّقَ زَوَالُهُ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لَا يَزُولُ) الْحَبْسُ (دُونَ قَبْضِ جَمِيعِهِ) حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ دِرْهَمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْمَبِيعَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: أَنَا أُمْسِكُ الْمَعِيبَ وَآخُذُ النُّقْصَانَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ (فَ) أَمَّا (لَوْ) كَانَ (قَبَضَهُمَا) أَعْنِي الْعَبْدَيْنِ (ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا) فَإِنَّ لَهُ أَنْ (يَرُدَّهُ خَاصَّةً خِلَافًا لِزُفَرَ، هُوَ يَقُولُ: فِيهِ) أَيْ فِي رَدِّهِ وَحْدَهُ (تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَلَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ ضَمُّ الْجَيِّدِ إلَى الرَّدِيءِ) لِتَرْوِيجِ الرَّدِيءِ، وَفِي إلْزَامِهِ الْمَعِيبَ وَحْدَهُ إلْزَامُ هَذَا الضَّرَرِ فَاسْتَوَى مَا قَبْلَ قَبْضِهِمَا وَمَا بَعْدَهُ فِي تَحَقُّقِ الْمَانِعِ مِنْ رَدِّهِ وَحْدَهُ (وَأَشْبَهَ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ) فِي أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ إذَا كَانَ فِيهَا أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ هَكَذَا ذُكِرَ خِلَافُ زُفَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: قَالَ أَصْحَابُنَا؛ إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا بَعْدَ الْقَبْضِ رَدَّهُ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ رَدَّهُمَا، وَقَالَ زُفَرُ: يَرُدُّ الْمَعِيبَ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَحَّ فِيهِمَا وَالْعَيْبُ وُجِدَ بِأَحَدِهِمَا فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُخْتَلِفِ وَالْمَنْظُومَةِ مِثْلَ مَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْ زُفَرَ (وَلَنَا أَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ يَتِمُّ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ) وَالتَّفْرِيقُ بَعْدَ التَّمَامِ جَائِزٌ شَرْعًا.

ص: 387

وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ. .

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَوَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا رَدَّهُ كُلَّهُ أَوْ أَخَذَهُ كُلَّهُ) وَمُرَادُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُسَمَّى بِاسْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكُرُّ وَنَحْوُهُ. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدَيْنِ حَتَّى يَرُدَّ الْوِعَاءَ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ الْعَيْبَ دُونَ الْآخَرِ

بِدَلِيلِ أَنَّهُ (لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمَا) بَعْدَ الْقَبْضِ (لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْآخَرَ) بَلْ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْبَائِعِ مَعَ أَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَالضَّرَرُ الَّذِي لَزِمَ الْبَائِعَ جَاءَ مِنْ تَدْلِيسِهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَائِعَ عَالِمٌ بِحَالِ الْمَبِيعِ وَصَارَ كَمَا لَوْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَنًا أَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ هَذَا فِيمَا يُمْكِنُ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فِي الِانْتِفَاعِ كَالْعَبْدَيْنِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ كَنَعْلَيْنِ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ مِصْرَاعَيْ بَابٍ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا، فَإِنَّهُ يَرُدُّهُمَا أَوْ يُمْسِكُهُمَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى وَالْمَنْفَعَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمَعْنَى، وَفِي الْإِيضَاحِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: وَلِهَذَا قَالَ مَشَايِخُنَا لَوْ اشْتَرَى زَوْجَيْ ثَوْرٍ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا وَقَدْ أَلِفَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِحَيْثُ لَا يَعْمَلُ دُونَهُ لَا يَمْلِكُ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً،.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ) كَالْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ (أَوْ يُوزَنُ) كَالسَّمْنِ وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (فَوَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا رَدَّهُ كُلَّهُ أَوْ أَخَذَهُ كُلَّهُ، وَمُرَادُهُ) إذَا كَانَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْعَيْبِ (بَعْدَ الْقَبْضِ) أَمَّا لَوْ كَانَ قَبْلَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِمَا كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ مِنْ أَنَّهُ يَرُدُّ الْكُلَّ أَوْ يَحْبِسُ الْكُلَّ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ رَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ دُونَهُمَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَرُدُّ الْكُلَّ (لِأَنَّ الْمَكِيلَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ) كَالْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ (فَهُوَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ) فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ وَالتَّقَوُّمَ لَا يَتَحَقَّقُ بِآحَادِ حَبَّاتِ الْقَمْحِ مُنْفَرِدَةً بَلْ مُجْتَمِعَةً فَكَانَتْ الْآحَادُ الْمُتَعَدِّدَةُ مِنْهَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ ثَوْبٌ أَوْ بِسَاطٌ وَنَحْوُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَمَّى) الْمُتَعَدِّدُ مِنْهُ الْمُجْتَمِعُ (بِاسْمٍ وَاحِدٍ كَالْكُرِّ) وَالْوَسْقِ وَالصُّبْرَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّ الْبَعْضِ خَاصَّةً كَمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّ بَعْضِ الثَّوْبِ، بِخِلَافِ الثَّوْبَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ فَإِنَّهُ بَعْدَ قَبْضِهِمَا يَرُدُّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ حَقِيقَةً وَتَقَوُّمًا وَانْتِفَاعًا لَا يُوجِبُ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ عَيْبًا حَادِثًا فِيهِ (قِيلَ هَذَا) يَعْنِي كَوْنَهُ يَرُدُّ الْكُلَّ (إذَا كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ) أَمَّا (لَوْ كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ) كَمَا إذَا اشْتَرَى عِدْلَيْ حِنْطَةٍ صَفْقَةً فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا فَإِنَّهُ يَرُدُّ ذَلِكَ الْعِدْلَ خَاصَّةً.

ص: 388

(وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ

كَمَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ قَالَ: لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِهِ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَيْبٍ فِي الْمَعِيبِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُخْتَلِطًا بِالْجَيِّدِ يَكُونُ أَخَفَّ عَيْبًا مِمَّا إذَا انْفَرَدَ، فَلَوْ رُدَّ كَانَ مَعَ عَيْبٍ حَادِثٍ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَرَدَّ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ زِيَادَةَ عَيْبٍ، قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا التَّأْوِيلُ يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً.

وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى أَعْدَالًا مِنْ تَمْرٍ فَوَجَدَ بِعِدْلٍ مِنْهَا عَيْبًا، فَإِنْ كَانَ التَّمْرُ كُلُّهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ التَّمْرَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ، وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ رِوَايَةَ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ: لَوْ اشْتَرَى زِقَّيْنِ مِنْ سَمْنٍ أَوْ سَلَّتَيْنِ مِنْ زَعْفَرَانٍ أَوْ حِمْلَيْنِ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الشَّعِيرِ وَقَبَضَ الْجَمِيعَ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا وَالْآخَرُ سَوَاءً، فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ كُلَّهُ أَوْ يَتْرُكَ كُلَّهُ، فَقَدْ رَأَيْت كَيْفَ جَعَلَ التَّمْرَ أَجْنَاسًا مَعَ أَنَّ الْكُلَّ جِنْسُ التَّمْرِ، فَعَلَى هَذَا يَتَقَيَّدُ الْإِطْلَاقُ أَيْضًا فِي نَحْوِ الْحِنْطَةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ صَعِيدِيَّةً وَبَحْرِيَّةً، وَهُمَا جِنْسَانِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الثَّمَنِ وَالْعَجِينِ، وَيَتَقَيَّدُ إطْلَاقُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّ فِي الْأَعْدَالِ يَرُدُّ الْمَعِيبَ خَاصَّةٌ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَاقِي الْأَعْدَالِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِمَّا هُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مُطْلَقِ جِنْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَعْدَالِ بَرْنِيًّا وَبَعْضُهَا لِبَانَةً فَيَرُدُّ ذَلِكَ خَاصَّةً، أَمَّا إذَا كَانَ الْأَعْدَالُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّهَا بَرْنِيًّا أَوْ صَيْحَانِيًّا أَوْ لِبَانَةً أَوْ عِرَاقِيَّةً فَيَرُدُّ الْكُلَّ وَالصُّبْرَةُ كَالْعِدْلِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَثُرَتْ لِجَرَيَانِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهِ مَنْعِ رَدِّ الْمَعِيبِ وَحْدَهُ فِيهَا.

(قَوْلُهُ وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ) أَيْ بَعْضَ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي رَدِّ مَا بَقِيَ بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَرُدَّهُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ رَدُّهُ دَفْعًا لِضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ (وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ) لَا فِي الْقِيمَةِ وَلَا فِي الْمَنْفَعَةِ، أَمَّا فِي الْقِيمَةِ فَإِنَّ الْمُدَّ مِنْ الْقَمْحِ يُبَاعُ عَلَى وِزَانِ مَا يُبَاعُ بِهِ الْإِرْدَبُّ وَالْغِرَارَةُ، وَأَمَّا فِي الْمَنْفَعَةِ فَظَاهِرٌ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُفْصَلُ يَصِيرُ مَعِيبًا بِتَبْعِيضِهِ فَإِنَّ الْفَضْلَةَ مِنْ الثَّوْبِ كَالذِّرَاعِ إذَا نُودِيَ عَلَيْهِ فِي السُّوقِ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ مُتَّصِلًا بِبَاقِي الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُفْصَلُ كَالْعَبْدِ يَصِيرُ مَعِيبًا بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ لَا يَتَعَيَّبُ بِالشَّرِكَةِ فَإِنَّهُمَا إنْ شَاءَا اقْتَسَمَاهُ فِي الْحَالِ وَانْتَفَعَ كُلٌّ بِنَصِيبِهِ كَمَا يَجِبُ وَمُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ خَفِيفَةٌ وَقَدْ تَكُونُ بِكَيْلِ عَبْدِهِمَا وَغُلَامِهِمَا (وَقَوْلُهُ وَالِاسْتِحْقَاقُ

ص: 389

لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِرِضَا الْعَاقِدِ لَا بِرِضَا الْمَالِكِ، وَهَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا لَوْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا فَلَهُ الْخِيَارُ)؛ لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِيهِ عَيْبٌ وَقَدْ كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ حَيْثُ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. .

(قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَ بِهَا قُرْحًا فَدَاوَاهُ أَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فِي حَاجَةٍ فَهُوَ رِضًا)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِهِ الِاسْتِبْقَاءَ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ هُنَاكَ لِلِاخْتِبَارِ وَأَنَّهُ بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَكُونُ الرُّكُوبُ

لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ)

جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ رَدُّ مَا بَقِيَ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْقَاقِ كَيْ لَا يَلْزَمَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ قَبْلَ التَّمَامِ لَا بَعْدَهُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ تَمَامُ هَذِهِ الصَّفْقَةِ حَيْثُ تَحَقَّقَ الْقَبْضُ وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا الِاسْتِحْقَاقُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ (لَا يَمْنَعُ تَمَامَهَا؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِرِضَا الْعَاقِدِ) وَقَدْ تَحَقَّقَ (لَا بِرِضَا الْمَالِكِ) يَعْنِي الْمُسْتَحِقَّ، وَلِذَا قُلْنَا: إذَا أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ لِبَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بَعْدَ افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ يَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا فَعُلِمَ أَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ يَسْتَدْعِي تَمَامَ رِضَا الْعَاقِدِ لَا الْمَالِكِ، وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ خِيَارَ الرَّدِّ (إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ) عَلَيْهِ (قَبْلَ التَّمَامِ)؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بَعْدَ الرِّضَا بِالْقَبْضِ (وَلَوْ كَانَ) الْمُسْتَحَقُّ (ثَوْبًا) وَنَحْوَهُ كَعَبْدٍ وَكِتَابٍ (فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِي الثَّوْبِ عَيْبٌ) وَالشَّرِكَةُ فِي الْعَبْدِ عَيْبٌ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ رَدِّ الْكُلِّ أَوْ بَقَائِهِ شَرِيكًا، لَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُ خِيَارُ رَدِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَأَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَقَدْ كَانَ) إلَى آخِرِهِ: أَيْ هَذَا الْعَيْبُ: أَعْنِي عَيْبَ الشَّرِكَةِ كَانَ ثَابِتًا (وَقْتَ الْبَيْعِ) وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ ظُهُورُهُ، وَالظُّهُورُ فَرْعُ سَابِقَةِ الثُّبُوتِ فَلَمْ يَحْدُثْ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَلْ ظَهَرَ عِنْدَهُ فَلَمْ يَمْنَعْ الرَّدَّ، بِخِلَافِ تَمْيِيزِ الْجَيِّدِ مِنْ الرَّدِيءِ فِي الْمَكِيلِ إذَا كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ كَانَ صُبْرَةً فَإِنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ عِنْدَهُ فَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا رَدُّ الْكُلِّ،.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَ بِهَا قُرْحًا) وَنَحْوَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عَرَضٍ فَدَاوَاهَا (أَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (حَاجَتِهِ فَهُوَ رِضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِ الِاسْتِبْقَاءِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ) إذَا رَكِبَ فِيهِ مَرَّةً لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ مَرَّةً لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْخِيَارِ (لِأَنَّ ذَلِكَ) الْخِيَارَ (لِلِاخْتِبَارِ وَهُوَ بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَكُونُ رُكُوبُهُ) لِحَاجَتِهِ مَرَّةً أَوْ الِاسْتِخْدَامِ مَرَّةً (مُسْقِطًا).

ص: 390

مُسْقِطًا (وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا أَوْ لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَلَيْسَ بِرِضًا) أَمَّا الرُّكُوبُ لِلرَّدِّ؛ فَلِأَنَّهُ سَبَبُ الرَّدِّ وَالْجَوَابُ فِي السَّقْيِ وَاشْتِرَاءِ الْعَلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ، إمَّا لِصُعُوبَتِهَا أَوْ لِعَجْزِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ لِانْعِدَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ يَكُونُ رِضًا. .

لَهُ فَصَارَ جِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ مِنْ الْمُشْتَرِي يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ يَمْنَعُ الرَّدَّ وَالْأَرْشَ، فَمِنْ ذَلِكَ الْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةُ وَاللُّبْسُ وَالرُّكُوبُ لِحَاجَتِهِ وَالْمُدَاوَاةُ وَالدَّهْنُ وَالْكِتَابَةُ وَالِاسْتِخْدَامُ وَلَوْ مَرَّةً بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لِلِاخْتِيَارِ الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الْخِيَارُ فَلَمْ تَكُنْ الْأُولَى دَلِيلَ الرِّضَا، أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَشَرْعِيَّتُهُ لِلرَّدِّ لِيَصِلَ الْمُشْتَرِي إلَى رَأْسِ مَالِهِ إذَا عَجَزَ عَنْ وُصُولِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ إلَيْهِ، فَبِالْمَرَّةِ الْأُولَى فِيهِ لَا يَصْرِفُهَا عَنْ كَوْنِهَا دَلِيلَ الرِّضَا صَارِفٌ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَخَّرَ الرَّدَّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْخُصُومَةِ بِأَنْ كَانَ هُنَاكَ حَاكِمٌ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَمْ يَفْعَلْ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا؛ فَعِنْدَنَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُ الرَّدِّ مِنْهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْطُلُ وَالتَّقْيِيدُ بِحَاجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ.

(لَوْ رَكِبَهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا أَوْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَلَيْسَ بِرِضًا) وَلَهُ الرَّدُّ بَعْدَ ذَلِكَ (أَمَّا الرُّكُوبُ لِلرَّدِّ فَإِنَّهُ سَبَبُ الرَّدِّ) فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْكَبْهَا احْتَاجَ إلَى سَوْقِهَا فَرُبَّمَا لَا تَنْقَادُ أَوْ تُتْلِفُ مَالًا فِي الطَّرِيقِ لِلنَّاسِ وَلَا يَحْفَظُهَا عَنْ ذَلِكَ إلَّا الرُّكُوبُ (وَالْجَوَابُ فِي السَّقْيِ وَشِرَاءِ الْعَلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى حَاجَتِهِ) إلَى ذَلِكَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ صَعْبَةً، فَفِي قَوْدِهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَلَفَهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ كَوْنِهِ قَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ الْمَشْيِ (أَوْ لِكَوْنِ الْعَلَفِ فِي عِدْلٍ وَاحِدٍ) فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَيْهَا إلَّا إذَا كَانَ رَاكِبًا، وَتَقْيِيدُهُ بِعِدْلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي عِدْلَيْنِ فَرَكِبَهَا يَكُونُ الرُّكُوبُ رِضًا، ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي رُكُوبِهَا لِلسَّقْيِ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ مَعَهَا تَجْرِي فِيمَا إذَا كَانَ الْعَلَفُ فِي عِدْلَيْنِ ثُمَّ رَكِبَهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ امْتِنَاعَ الرَّدِّ إذَا كَانَ الْعَلَفُ فِي عِدْلَيْنِ.

وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ: رَكِبْتَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِكَ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لِأَرُدَّهَا عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ رَكِبْتهَا لِلسَّقْيِ بِلَا حَاجَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَادُ وَهِيَ ذَلُولٌ يَنْبَغِي أَنْ يُسْمَعَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُسَوِّغَ لِلرُّكُوبِ بِلَا إبْطَالِ حَقِّ الرَّدِّ خَوْفُ الْمُشْتَرِي مِنْ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا لَا حَقِيقَةَ الْجُمُوحِ وَالصُّعُوبَةِ، وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي تَخَيُّلِ أَسْبَابِ الْخَوْفِ، فَرُبَّ رَجُلٌ لَا يَخْطُرُ بِخَاطِرِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَآخَرُ بِخِلَافِهِ، نَعَمْ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا عَلَفًا لِغَيْرِهَا كَانَ رِضًا رَكِبَهَا أَوْ لَمْ يَرْكَبْهَا.

[فَرْعٌ]

وَجَدَ بِالدَّابَّةِ عَيْبًا فِي السَّفَرِ وَهُوَ يَخَافُ عَلَى حِمْلِهِ عَلَيْهَا وَيَرُدُّ بَعْدَ انْقِضَاءِ سَفَرِهِ وَهُوَ مَعْذُورٌ،.

ص: 391

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَقُطِعَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: يَرْجِعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ سَارِقًا إلَى غَيْرِ سَارِقٍ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُتِلَ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِ الْبَائِعِ

قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ سَرَقَ) عِنْدَ الْبَائِعِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِمَّا وَقَعَ فِي الْمُطَارَحَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْرِقَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ غَيْرِهِ (وَلَمْ يَعْلَمْ) الْمُشْتَرِي (بِهِ) أَيْ بِفِعْلِهِ السَّرِقَةَ لَا وَقْتَ الْبَيْعِ وَلَا وَقْتَ الْقَبْضِ وَسَتَأْتِي فَائِدَةُ هَذَا الْقَيْدِ (فَقُطِعَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ) عَلَى بَائِعِهِ (وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ) كُلَّهُ مِنْهُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) هَكَذَا فِي عَامَّةِ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَفِي رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَوَفَّقَ بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ بِأَنَّ الْقَطْعَ كَانَ مُسْتَحَقًّا بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْيَدُ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَيُنْتَقَضُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِي النِّصْفِ فَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ وَرَجَعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ بَيْنَ رَدِّهِ وَإِمْسَاكِهِ كَانَ قَوْلُ مَنْ قَالَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ كُلَّهُ مُنْصَرِفًا إلَى اخْتِيَارِهِ رَدَّ الْعَبْدِ الْمَقْطُوعِ وَقَوْلِ مَنْ قَالَ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ مُنْصَرِفًا إلَى اخْتِيَارِهِ إمْسَاكَهُ، وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ للإسبيجابي: لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ إلَى آخِرِ الصُّورَةِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْعَبْدِ الْأَقْطَعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لَا يَرُدُّهُ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بِأَنْ يُقَوِّمَ عَبْدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَعَبْدًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَيَرْجِعُ بِإِزَاءِ النُّقْصَانِ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا إذَا رَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَرُدَّهُ فَيَرُدَّهُ وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَخْفَى مَا فِي نَقْلِ الْمُخْتَصَرِ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ كَالْمُصَنِّفِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرْجِعَ بِالْكُلِّ، وَمَا فِي نَقْلِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ فِيمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِسَرِقَةٍ عِنْدَ الْبَائِعِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنَصْفِ الثَّمَنِ مِنْ الْإِيقَاعِ فِي الْإِلْبَاسِ، وَأَقْرَبُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْهُ لَوْلَا مَا ظَهَرَ مِنْ الْجَوَابِ الْمُفَصَّلِ ابْتِدَاءً كَمَا ذَكَرْنَا.

وَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ أَخَفُّ فَإِنَّهُ قَالَ: فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَنَّ لَهُ شَيْئًا آخَرَ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا إلَّا إذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ الْآخَرِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَاقْتَصَرَ عَلَى مَحَلِّ الْخِلَافِ، لَكِنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ إذَا أَمْسَكَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا بَلْ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَيُمْسِكُهُ (وَقَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُتِلَ بِسَبَبٍ وُجِدَ عِنْدَ الْبَائِعِ)

ص: 392

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُ وَبِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا. لَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَبَبُ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ فَنَفَذَ الْعَقْدُ فِيهِ لَكِنَّهُ مُتَعَيِّبٌ فَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا إلَى غَيْرِ حَامِلٍ. وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْوُجُوبُ يُفْضِي إلَى الْوُجُودِ فَيَكُونُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ، وَصَارَ كَمَا إذَا قُتِلَ الْمَغْصُوبُ أَوْ قُطِعَ بَعْدَ الرَّدِّ بِجِنَايَةٍ وُجِدَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ

مِنْ قَتْلٍ عَمْدًا أَوْ رِدَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: يَعْنِي قُتِلَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ حَتْمًا، وَعِنْدَهُمَا يُقَوَّمُ حَلَالُ الدَّمِ وَحَرَامُهُ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِ نِسْبَةِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الثَّمَنِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ) أَيْ الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ: أَيْ ثُبُوتُهُ فِي الْعَبْدِ (بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ) وَلَوْ اُسْتُحِقَّ كُلُّهُ رَجَعَ بِالْكُلِّ أَوْ نِصْفُهُ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِيَ وَيَرْجِعَ بِالْكُلِّ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَيُمْسِكَ الثَّمَنَ فَكَذَا هُنَا (وَعِنْدَهُمَا) ذَلِكَ (بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ).

وَفِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعِ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي يَدِ الْبَائِعِ لِيُنْتَقَضَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِي النِّصْفِ (لَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ عِنْدَ الْبَائِعِ سَبَبُ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ) وَثُبُوتُ سَبَبِ ذَلِكَ لَا يُنَافِي مَالِيَّةَ الْعَبْدِ وَلِذَا صَحَّ بَيْعُهُ وَعِتْقُهُ، وَلَوْ مَاتَ كَانَ الثَّمَنُ مُقَرَّرًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ حَقٌّ فِي مَالِيَّتِهِ، وَلِذَا لَوْ كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ يَأْبَى شِرَاءَ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ صَحَّ شِرَاؤُهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي مَالِيَّتِهِ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَبَى الْمُرْتَهِنُ بَيْعَ عَبْدِ الرَّهْنِ لَمْ يَصِحَّ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْمَالِيَّةِ.

فَعُرِفَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعُقُوبَةِ مُتَعَلِّقٌ بِآدَمِيَّتِهِ لَا بِمَالِيَّتِهِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ بِالْقَتْلِ وَهُوَ فِعْلٌ أَنْشَأَهُ الْمُسْتَوْفِي بِاخْتِيَارِهِ فِي النَّفْسِ بَعْدَمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَبِهِ لَا يُنْتَقَضُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ الْمَبِيعِ وَيُنْتَقَضُ بِأَخْذِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ فَكَانَ اسْتِيفَاءُ الْعُقُوبَةِ عَيْبًا حَادِثًا فِي يَدِهِ فَمَنَعَ الرَّدَّ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ (وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى حَامِلًا) لَا يَعْلَمُ بِحَمْلِهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ وَلَا وَقْتَ الْقَبْضِ (فَمَاتَتْ) عِنْدَهُ (بِالْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا وَغَيْرَ حَامِلٍ) وَلَفْظَةُ إلَى فِي قَوْلِهِ إلَى غَيْرِ حَامِلٍ لَيْسَ لَهَا مَوْقِعٌ (وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ) وُجِدَ (فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْوُجُوبُ يُفْضِي إلَى الْوُجُودِ فَيَكُونُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى سَبَبِ) الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَهُوَ سَرِقَتُهُ الْكَائِنَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَقَتْلُهُ فَصَارَ مَوْتُهُ مُضَافًا إلَيْهِ وَقَطْعُهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ قُطِعَ أَوْ قُتِلَ عِنْدَ الْبَائِعِ الَّذِي عِنْدَهُ السَّبَبُ وَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إذَا رَدَّهُ الْغَاصِبُ عَلَى مَالِكِهِ بَعْدَمَا جَنَى عِنْدَ الْغَاصِبِ فَقُتِلَ عِنْدَ الْمَالِكِ بِهَا أَوْ قُطِعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِتَمَامِ قِيمَتِهِ أَوْ نِصْفِهَا، كَمَا لَوْ قُتِلَ عِنْدَ الْغَاصِبِ بِجَامِعِ اسْتِنَادِ الْوُجُودِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ الْكَائِنِ عِنْدَ الْأَوَّلِ

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُنْتَقَضُ قَبْضُهُ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَصَارَ سَبَبُ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ لِفَوَاتِ الْمَالِيَّةِ فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ كَأَنَّهُ الْمَالِيَّةُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ إلَّا بِحَقِيقَتِهِ فِعْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَقَبْلَهُ لَا يَتِمُّ فِي حَقِّ ذَلِكَ فَتَبْقَى الْمَالِيَّةُ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَنَحْوُهُ، فَأَمَّا إذَا قُتِلَ فَقَدْ تَمَّ حِينَئِذٍ الِاسْتِحْقَاقُ.

ص: 393

وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَمْنُوعَةٌ. .

وَلَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَقُطِعَ بِهِمَا عِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَا

وَبَطَلَتْ الْمَالِيَّةُ فَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي نَقْضِ الْقَبْضِ فَيَرْجِعُ كَمَا ذَكَرْنَا (وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ) مَوْتِ الْحَامِلِ (مَمْنُوعَةٌ) عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ يَرْجِعُ عَلَى قَوْلِهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ قَالَهُ الْقَاضِيَانِ أَبُو زَيْدٍ وَفَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ الْخِلَافُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ الْأَصْلِ اسْتِدْلَالًا بِمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْأَمَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا حَبِلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رُدَّتْ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَمَاتَتْ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا فَكَذَلِكَ هُنَا عِنْدَهُ وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ.

وَإِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودُ فِي يَدِ الْبَائِعِ الْعُلُوقُ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ انْفِصَالَ الْوَلَدِ لَا الْهَلَاكَ وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا بَلْ الْغَالِبُ السَّلَامَةُ فَلَيْسَ هُنَا وُجُوبٌ يُفْضِي إلَى الْوُجُودِ فَهُوَ نَظِيرُ مَوْتِ الزَّانِي مِنْ الْجَلْدِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّتِهِ أَنْ يَرُدَّهَا كَمَا أَخَذَهَا وَلَمْ يُوجَدْ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَهُنَا الْحَبَلُ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ إنْ تَلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ كَانَ الْهَلَاكُ بِهِ مُسْتَحَقًّا عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُنْتَقَضُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لَا يُنْتَقَضُ، وَنُوقِضَ بِمَسَائِلَ: الْأُولَى إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَحْمُومَةً فَلَمْ يَرُدَّهَا حَتَّى مَاتَتْ عِنْدَهُ بِالْحُمَّى لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ بَلْ بِالنُّقْصَانِ مَعَ أَنَّ مَوْتَهَا بِسَبَبِ الْحُمَّى الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَثَانِيهَا إذَا قَطَعَ الْبَائِعُ أَوْ غَيْرَهُ يَدَ الْعَبْدِ ثُمَّ بَاعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي فَمَاتَ الْعَبْدُ مِنْهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لَا بِالثَّمَنِ.

وَثَالِثُهَا مَا إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ الْبِكْرَ ثُمَّ بَاعَهَا وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ ثُمَّ وَطِئَهَا الزَّوْجُ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْبَكَارَةِ وَإِنْ كَانَ زَوَالُ الْبَكَارَةِ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَرَابِعُهَا لَوْ زَنَى الْعَبْدُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَجُلِدَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَمَاتَ مِنْهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ.

وَخَامِسُهَا لَوْ سَرَقَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَسَرَى الْقَطْعُ فَمَاتَ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لَا بِكُلِّهِ وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ، أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَا تَمُوتُ بِمُجَرَّدِ الْحُمَّى بَلْ بِزِيَادَةِ الْأَلَمِ وَذَلِكَ بِسَبَبٍ آخَرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ؛ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا وَرَدَ عَلَى قَطْعِ الْبَائِعِ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ قَطَعَ سِرَايَةَ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ حَقُّ الْبَائِعِ فَتَنْقَطِعُ بِبَيْعِ مَنْ لَهُ السِّرَايَةُ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ السِّرَايَةُ لِغَيْرِ مَنْ كَانَ الْبَيْعُ مِنْهُ فَيَمْتَنِعُ انْقِطَاعُ السِّرَايَةِ بِالْبَيْعِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنَّ الْبَكَارَةَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ، حَتَّى لَوْ وَجَدَهَا ثَيِّبًا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ إذَا لَمْ يَكُنْ شَرَطَ الْبَكَارَةِ فَعَدَمُهَا مِنْ بَابِ عَدَمِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ لَا مِنْ بَابِ وُجُودِ الْعَيْبِ، وَعَنْ الرَّابِعَةِ بِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الضَّرْبُ الْمُؤْلِمُ وَاسْتِيفَاءُ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ فِي الْمَحَلِّ، وَمَوْتُهُ بِذَلِكَ الضَّرْبِ إنَّمَا هُوَ لِعَارِضٍ عَرَضَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ خَرَقُ الْجَلَّادِ أَوْ ضَعْفِ الْمَجْلُودِ فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُسْتَوْفَاةً حَدًّا مُسْتَحَقًّا، وَأَمَّا الْخَامِسَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهَا مِنْ الْمَبْسُوطِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَقُطِعَ بِهِمَا) أَيْ بِالسَّرِقَتَيْنِ جَمِيعًا (فَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ) أَيْ نُقْصَانِ عَيْبِ السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ.

ص: 394

وَعِنْدَهُ لَا يَرُدُّهُ بِدُونِ رِضَا الْبَائِعِ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ وَيَرْجِعُ بِرُبْعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ قَبِلَهُ الْبَائِعُ فَبِثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ وَقَدْ تَلِفَتْ بِالْجِنَايَتَيْنِ وَفِي إحْدَاهُمَا رُجُوعٌ فَيَتَنَصَّفُ؛ وَلَوْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي ثُمَّ قُطِعَ فِي يَدِ الْأَخِيرِ رَجَعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَهُ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ الْأَخِيرُ عَلَى بَائِعِهِ وَلَا يَرْجِعُ بَائِعُهُ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ

الْبَائِعِ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِلَا رِضَا الْبَائِعِ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ) وَهُوَ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَالْقَطْعُ بِهِمَا كَقَوْلِهِمَا، وَلَكِنْ إنْ رَضِيَ الْبَائِعُ كَذَلِكَ رَدَّهُ وَرَجَعَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ أَمْسَكَهُ وَرَجَعَ بِرُبْعِ الثَّمَنِ (لِأَنَّ الْيَدَ فِي الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ) فِي حَقِّ الْإِتْلَافِ وَقَدْ تَلِفَتْ بِالسَّرِقَتَيْنِ الْكَائِنَتَيْنِ عِنْدَهُمَا فَيَتَوَزَّعُ نِصْفُ الثَّمَنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَسْقُطُ مَا أَصَابَ الْمُشْتَرِيَ وَيَرْجِعُ بِالْبَاقِي إنْ رَدَّهُ بِأَنْ رَضِيَهُ الْبَائِعُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ، وَبِرُبْعِهِ إنْ أَمْسَكَهُ بِأَنْ لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ نِصْفَ النِّصْفِ لَزِمَ الْمُشْتَرِي فَيَسْقُطُ عَنْ الْبَائِعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا قَبِلَهُ أَقْطَعَ مَعِيبًا لَا مَعَ أَنْ يَتَحَمَّلَ مَا لَزِمَ الْمُشْتَرِي مِنْ النُّقْصَانِ بِالسَّبَبِ الْكَائِنِ عِنْدَهُ بَلْ يَتَوَزَّعُ النُّقْصَانُ عَلَيْهِمَا، كَمَا فِي الْغَاصِبِ لِلْعَبْدِ إذَا سَرَقَ عِنْدَهُ ثُمَّ رَدَّهُ فَسَرَقَ عِنْدَ الْمَالِكِ فَقُطِعَ بِالسَّرِقَتَيْنِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي) بَعْدَ أَنْ سَرَقَ عِنْدَ الْبَائِعِ ثُمَّ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي بَعْدَهُ (ثُمَّ قُطِعَ عِنْدَ الْأَخِيرِ) بِتِلْكَ السَّرِقَةِ (رَجَعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) بِالثَّمَنِ (كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)؛ لِأَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إذَا اخْتَارَ الرَّدَّ؛ لِأَنَّك عَلِمْت أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرْجِعَ بِالْكُلِّ أَوْ يُمْسِكَهُ وَيَرْجِعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ فَيَرْجِعَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِنِصْفِ الثَّمَنِ (وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ الْأَخِيرُ) الَّذِي قُطِعَ فِي يَدِهِ (عَلَى بَائِعِهِ) بِالنُّقْصَانِ (وَلَا يَرْجِعُ بَائِعُهُ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ) أَمَّا رُجُوعُ الْأَخِيرِ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبِعْهُ لَمْ يَصِرْ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ مَعَ إمْكَانِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَعَلِمْت أَنَّ بَيْعَ الْمُشْتَرِي لِلْمَعِيبِ حَبْسٌ

ص: 395

وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي) يُفِيدُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ، وَلَا يُفِيدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ. .

(قَالَ: وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْبٍ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْعُيُوبَ بِعَدَدِهَا)

لِلْمَبِيعِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِالْعَيْبِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ بَعْدَ ذَلِكَ (وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ) أَيْ وَقْتَ الْبَيْعِ وَلَا وَقْتَ الْقَبْضِ (يُفِيدُ عَلَى قَوْلِهِمَا)؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ (وَالْعِلْمُ بِالْعَيْبِ) عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ الْقَبْضِ (مُسْقِطٌ لِلرَّدِّ وَالْأَرْشِ) وَأَمَّا عِنْدَهُ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ كَقَوْلِهِمَا فَلَا يَرْجِعُ إذَا عَلِمَ بِاسْتِحْقَاقِ يَدِهِ أَوْ نَفْسِهِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرْجِعُ وَإِنْ عَلِمَ بِسَرِقَتِهِ أَوْ إبَاحَةِ دَمِهِ وَقْتَ الْبَيْعِ أَوْ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ وَجْهٍ وَالْعَيْبِ مِنْ وَجْهٍ، فَلِشَبَهِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ قُلْنَا يَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ، وَلِشَبَهِهِ بِالْعَيْبِ لَا يَرْجِعُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَنَظَرَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، وَكَوْنُهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَيْبًا،.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا إلَخْ) لَيْسَ الْعَبْدُ بِقَيْدٍ، فَإِنَّ الْبَيْعَ.

ص: 396

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ لَا يَصِحُّ. هُوَ يَقُولُ: إنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ، وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ. وَلَنَا أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْإِسْقَاطِ

بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ صَحِيحٌ فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، وَيَبْرَأُ الْبَائِعُ بِهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْبَيْعِ مَعْلُومٍ لَهُ أَوْ غَيْرِ مَعْلُومٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْبٍ يَحْدُثُ إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ أَيْضًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْحَادِثِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْبَيْعَ لَوْ كَانَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ لَا يَدْخُلُ الْحَادِثُ فِي الْبَرَاءَةِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ كَقَوْلِنَا، وَقَوْلٌ إنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ أَصْلًا، وَثَالِثُهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَبْرَأُ، وَيُرْوَى عَنْ مَالِكٍ يَبْرَأُ الْبَائِعُ فِي الْحَيَوَانِ عَمَّا لَا يَعْلَمُهُ دُونَ مَا يَعْلَمُهُ، لِمَا رُوِيَ " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما بَاعَ عَبْدًا مِنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ فَوَجَدَ زَيْدٌ بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ فَلَمْ يَقْبَلْهُ ابْنُ عُمَرَ فَتَرَافَعَا إلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه، فَقَالَ عُثْمَانُ لِابْنِ عُمَرَ: أَتَحْلِفُ أَنَّك لَمْ تَعْلَمْ بِهَذَا الْعَيْبِ؟ فَقَالَ لَا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ "، وَالْفَرْقُ أَنَّ كِتْمَانَ الْمَعْلُومِ تَلْبِيسٌ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ مَا، فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا مُطْلَقًا هُوَ أَحَدُ أَقْوَالِهِ، قَالَ: وَهَذَا (بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ لَا يَصِحُّ) فَنَصَبَ الْخِلَافَ فِي الْمَبْنِيِّ فَقَالَ: (هُوَ يَقُولُ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ) حَتَّى لَوْ أَبْرَأَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ مَدْيُونَهُ فَرَدَّهُ الْمَدْيُونُ لَمْ يَبْرَأْ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ (وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ)؛ وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَهَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ الْمَبِيعَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ هُوَ؛ وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ فَهُوَ كَشَرْطِ عَدَمِ الْمَلِكِ، وَلَنَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ حَقٍّ يَتِمُّ بِلَا قَبُولٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِأَنْ طَلَّقَ نِسْوَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ عَبِيدَهُ وَلَمْ يَدْرِ كَمْ هُمْ وَلَا أَعْيَانَهُمْ، كَأَنْ وَرِثَ عَبِيدًا فِي غَيْرِ بَلَدِهِ أَوْ زَوَّجَهُ وَلِيُّهُ صَغِيرًا فَبَلَغَ وَهِيَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، وَلِذَا لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ، وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ بِلَفْظِ الْإِسْقَاطِ كَأَنْ يَقُولَ:.

ص: 397

لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ التَّمْلِيكُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى التَّسْلِيمِ فَلَا تَكُونُ مُفْسِدَةً

أَسْقَطْتُ عَنْك دَيْنِي عَلَيْكَ، وَالْإِسْقَاطُ لَا يُبْطِلُهُ جَهَالَةُ السَّاقِطِ؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ (لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ التَّمْلِيكُ) فَأَظْهَرْنَا أَثَرَهُ فِي صِحَّةِ رَدِّهِ وَعَدَمِ تَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ فَانْتَفَى الْمَانِعُ وَوُجِدَ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ تَصَرُّفُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِإِسْقَاطِ حُقُوقِهِ، بِخِلَافِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ جَهَالَةَ الْمُمَلَّكِ فِيهِ تَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ فَلَا تَتَرَتَّبُ فَائِدَةُ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ، أَمَّا الْإِسْقَاطُ فَإِنَّ السَّاقِطَ يَتَلَاشَى فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُبْطِلَ لِتَمْلِيكِ الْمَجْهُولِ لَيْسَ الْجَهَالَةُ بَلْ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِذَا جَازَ بَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَيْعُ شَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ لِلْمُنَازَعَةِ فِي تَعْيِينِ مَا يُسَلِّمُهُ لِلتَّفَاوُتِ.

وَأَمَّا عَدَمُ الصِّحَّةِ فِي قَوْلِهِ أَبْرَأْتُ أَحَدَكُمَا فَلِجَهَالَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، كَمَا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَصَحَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَيَلْزَمُ بِالتَّعْيِينِ، عَلَى أَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَجَازَهُ وَأَلْزَمَهُ بِالتَّعْيِينِ كَطَلَاقِ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ، وَجْهُ الْمُخْتَارِ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا جَهَالَةَ فِيهِ، وَكَذَا الْعَتَاقُ لِمَنْ لَهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ لِلَّهِ تبارك وتعالى وَلِذَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى إبْطَالِهِ لَمْ يَبْطُلْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا «حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَنِي خُزَيْمَةَ» وَذَلِكَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَوَّلًا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَتْلَى بَعْدَمَا اعْتَصَمُوا بِالسُّجُودِ، فَدَفَعَ صلى الله عليه وسلم إلَى عَلِيٍّ مَالًا فَوَدَاهُمْ حَتَّى مَيْلَغَةِ الْكَلْبِ، وَبَقِيَ فِي يَدِهِ مَالٌ فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ مِمَّا لَا تَعْلَمُونَ وَلَا يَعْلَمُهُ صلى الله عليه وسلم، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسُرَّ بِهِ» وَهُوَ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ، وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اسْتَهِمَا وَتَوَاخَيَا الْحَقَّ وَلْيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَفِيهِ إجْمَاعٌ عَمَلِيٌّ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فِي كَافَّةِ الْأَعْصَارِ اسْتَحَلَّ مِنْ مُعَامِلِيهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ مَا ذَكَرْنَا، وَالْغُرُورُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إيهَامُ خِلَافِ الثَّابِتِ، وَمِنْهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ امْرَأَةٍ لِيَتَزَوَّجَهَا وَلَيْسَتْ حُرَّةً وَحِينَ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ فَقَدْ نَبَّهَهُ عَلَى إبْهَامِ الْعُيُوبِ وَبَقَائِهِ فِي يَدِهِ بِهَا فَلَمْ يَغُرَّهُ، وَقَوْلُهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ، قُلْنَا يُوَافِقُ مُقْتَضَاهُ وَهُوَ اللُّزُومُ، وَكَوْنُ السَّلَامَةِ مُقْتَضَاهُ إنْ أَرَدْت الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ سَلَّمْنَاهُ، أَوْ الْمُقَيَّدَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ إنْ كَانَتْ مَنَعْنَاهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ.

ص: 398

وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْبَرَاءَةِ الْعَيْبُ الْمَوْجُودُ وَالْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَادِثُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَتَنَاوَلُ الثَّابِتَ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَرَضَ إلْزَامُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ.

لَا يَصِحَّ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الْمُسَمَّاةِ إنْ ظَهَرَتْ وَجَوَازُهُ اتِّفَاقًا، وَقَوْلُهُ (وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْبَرَاءَةِ) يَعْنِيَ الْبَرَاءَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إلَيْهَا وَهِيَ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَاحْتَرَزَ بِالْإِشَارَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْعَيْبِ الْحَادِثِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ) ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَادِثُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ) وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَتَنَاوَلُ الثَّابِتَ) فَتَنْصَرِفُ إلَى الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَقَطْ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ) الْمُلَاحَظَ هُوَ الْمَعْنَى وَالْغَرَضُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ (الْغَرَضَ) مِنْ هَذَا الشَّرْطِ (إلْزَامُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ الْمُشْتَرِي حَقَّهُ عَنْ وَصْفِ السَّلَامَةِ) لِيَلْزَمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَا يُطَالِبَ الْبَائِعَ بِحَالٍ (وَذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ) يُوجِبُ لِلْمُشْتَرِي الرَّدَّ، وَالْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَذَلِكَ، فَاقْتَضَى الْغَرَضُ الْمَعْلُومُ دُخُولَهُ، وَأَوْرَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ الْعَيْبِ الْحَادِثِ لَمْ يَصِحَّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْ أَبِي يُوسُفَ إدْخَالُ الْحَادِثِ بِلَا تَنْصِيصٍ وَهُوَ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ يُبْطِلُهُ، أُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ بِأَنَّ فِي الذَّخِيرَةِ إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا نَصَّ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ حَادِثٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ ذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُقِيمُ السَّبَبَ، وَهُوَ الْعَقْدُ مَقَامَ الْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَادِثَ يَدْخُلُ تَبَعًا لِتَقْرِيرِ غَرَضِهِمَا، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا وَيَثْبُتُ تَبَعًا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي عَيْبٍ أَنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ كَانَ عِنْدَهُ لَا أَثَرَ لِهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ أَنَّهُ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ حَقِّ الْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ ظَاهِرٌ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ، وَثُبُوتُ حَقِّ الْفَسْخِ بِعَيْبٍ حَدَثَ بَاطِنٌ، فَإِذَا ادَّعَى بَاطِنًا لِيُزِيلَ بِهِ ظَاهِرًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْقِطُ لِحَقِّهِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ مَا أَسْقَطَ قَوْلُهُ. [فُرُوعٌ]

جَمَعَهَا فِي الدِّرَايَةِ: شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ أَوْ خَصَّ ضَرْبًا مِنْ الْعُيُوبِ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى الْحَادِثِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَصِحُّ تَخْصِيصُهُ، وَلَوْ شَرَطَهُمَا مِنْ عَيْبٍ وَاحِدٍ كَشَجَّةٍ فَحَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ أَوْ مَوْتٌ فَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ آخَرَ كَشَجَّةٍ أُخْرَى فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ اعْتَبَرَ أَبُو يُوسُفَ نَفْعَ حُصُولِ الْبَرَاءَةِ لِلْبَائِعِ فَجَعَلَ الْخِيَارَ فِي تَعْيِينِ الْعَيْبِ الَّذِي يُرَدُّ بِهِ إلَيْهِ وَجَعَلَهُ مُحَمَّدٌ لِلْمُشْتَرِي فَيُرَدُّ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الشَّجَّةَ الْمُتَبَرَّأَ مِنْهَا عِنْدَ الْبَيْعِ بَلْ أَبْرَأَهُ مِنْ شَجَّةٍ بِهِ أَوْ عَيْبٍ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلِّ غَائِلَةٍ فَهِيَ السَّرِقَةُ وَالْإِبَاقُ وَالْفُجُورُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ أُبْرِئَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الدَّاءُ مَا فِي الْبَاطِنِ فِي الْعَادَةِ وَمَا سِوَاهُ يُسَمَّى مَرَضًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَتَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ ذَلِكَ، وَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ قَطْعُ الْأُصْبُعِ عَيْبٌ.

ص: 399

(بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ)

وَالْأُصْبُعَيْنِ عَيْبَانِ وَالْأَصَابِعُ مَعَ الْكَفِّ عَيْبٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ قَبِلَ فِي الثَّوْبِ بِعُيُوبِهِ يَبْرَأُ مِنْ الْخُرُوقِ وَتَدْخُلُ الرُّقَعُ وَالرَّفْوُ، وَلَوْ تَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ سِنٍّ سَوْدَاءَ تَدْخُلُ الْحَمْرَاءُ وَالْخَضْرَاءُ، وَمِنْ كُلِّ قُرْحٍ تَدْخُلُ الْقُرُوحُ الدَّامِيَةُ، وَفِي الْمُحِيطِ: أَبْرَأْتُك مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِعَيْنِهِ فَإِذَا هُوَ أَعْوَرُ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ عَدِمَهَا لَا عَيْبٌ بِهَا، وَلَوْ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٌ إلَّا إبَاقَهُ بَرِئَ مِنْ إبَاقِهِ، وَلَوْ قَالَ الْإِبَاقُ فَلَهُ الرَّدُّ بِالْإِبَاقِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لِي قِبَلَك دَخَلَ الْعَيْبُ هُوَ الْمُخْتَارُ دُونَ الدَّرَكِ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِهِ عَيْبٌ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِانْتِفَاءِ الْعُيُوبِ، حَتَّى لَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ، وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ لَيْسَ بِآبِقٍ صَحَّ إقْرَارُهُ، وَلَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ أَوْ يَحُطَّ دِينَارًا جَازَ.

وَلَوْ دَفَعَهُ الْمُشْتَرِي لِيَرُدَّ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ رِبًا وَزَوَالُ الْعَيْبِ يُبْطِلُ الصُّلْحَ فَيَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ مَا بَذَلَ أَوْ حَطَّ إذَا زَالَ، وَلَوْ زَالَ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَرُدُّهُ، وَلَوْ صَالَحَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِهِ عَيْبًا؛ وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك الْعُيُوبَ لَمْ يَجُزْ، وَحَذْفُ الْحُرُوفِ أَوْ نَقْصُهَا أَوْ النُّقَطُ أَوْ الْإِعْرَابُ فِي الْمُصْحَفِ عَيْبٌ، وَلَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَحُطَّ كُلَّ عَشَرَةٍ وَيَأْخُذُ الْأَجْنَبِيُّ بِمَا وَرَاءَ الْمَحْطُوطِ وَرَضِيَ الْأَجْنَبِيُّ بِذَلِكَ جَازَ وَجَازَ حَطُّ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ؛ وَلَوْ قَصَّرَ الْمُشْتَرِي الثَّوْبَ فَإِذَا هُوَ مُتَخَرِّقٌ وَقَالَ الْمُشْتَرِي لَا أَدْرِيَ تَخَرَّقَ عِنْدَ الْقَصَّارِ أَوْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَقْبَلَهُ الْمُشْتَرِي وَيَرُدَّ عَلَيْهِ الْقَصَّارُ دِرْهَمًا وَالْبَائِعُ دِرْهَمًا جَازَ، وَكَذَا لَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَقْبَلَهُ الْبَائِعُ وَيَدْفَعَ لَهُ الْقَصَّارُ دِرْهَمًا وَيَتْرُكَ الْمُشْتَرِي دِرْهَمًا قِيلَ هَذَا غَلَطٌ، وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يَضْمَنَ الْقَصَّارُ أَوَّلًا لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَدْفَعُ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ لِلْبَائِعِ.

وَفِي الْمُجْتَبَى: أَدْخَلَ الْمُشْتَرِي الْقَدُومَ فِي النَّارِ أَوْ حَدَّ الْمِنْشَارَ أَوْ حَلَبَ الشَّاةَ أَوْ الْبَقَرَةَ لَمْ يُرَدَّ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُصَرَّاةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَفِي الْمُصَرَّاةِ يَرُدُّ بِقِلَّةِ اللَّبَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَزُفَرَ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: وَالْمُصَرَّاةُ شَاةٌ وَنَحْوُهَا سُدَّ ضَرْعُهَا لِيَجْتَمِعَ لَبَنُهَا لِيَظُنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا كَثِيرَةُ اللَّبَنِ فَإِذَا حَلَبَهَا لَيْسَ لَهُ رَدُّهَا عِنْدَنَا، وَهَلْ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؟ فِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ لَا، وَفِي رِوَايَةِ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ يَرْجِعُ لِفَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ بَعْدَ حُدُوثِ زِيَادَةٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَقِيلَ لَوْ اُخْتِيرَتْ هَذِهِ لِلْفَتْوَى كَانَ حَسَنًا لِغُرُورِ الْمُشْتَرِي بِالتَّصْرِيَةِ، وَلَوْ اغْتَرَّ بِقَوْلِ الْبَائِعِ هِيَ حَلُوبٌ فَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ يَرْجِعُ فَكَذَا هُنَا، وَلَوْ وَقَفَ الْأَرْضَ أَوْ جَعَلَهَا مَسْجِدًا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ امْتَنَعَ الرَّدُّ، وَالرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ، وَلَوْ اشْتَرَى ضَيْعَةً مَعَ غَلَّاتِهَا فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً رَدَّهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَمَعَ غَلَّاتِهَا فَهُوَ رِضًا، وَإِنْ تَرَكَهَا يَزْدَادُ الْعَيْبُ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ،

(بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ)

الْبَيْعُ جَائِزٌ وَغَيْرُ جَائِزٍ، وَالْجَائِزُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ السَّلَمُ، وَبَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ الْمُقَايَضَةُ، وَبَيْعُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ. وَغَيْرُ الْجَائِزِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: بَاطِلٌ وَفَاسِدٌ وَهُوَ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ الْخَمْرُ وَالْمُدَبَّرُ وَالْمَعْلُومُ كَالسَّمْنِ فِي اللَّبَنِ، وَغَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ كَالْآبِقِ وَمَوْقُوفٌ. حَصَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ: بَيْعُ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ الْمَحْجُورَيْنِ: أَيْ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى وَالْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ، وَبَيْعُ غَيْرِ الرَّشِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْقَاضِي

ص: 400

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَبَيْعُ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَمَا فِي مُزَارَعَةِ الْغَيْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُزَارِعِ، فَلَوْ تَفَاسَخَا الْإِجَارَةَ أَوْ رَدَّ الرَّهْنَ لِوَفَاءٍ أَوْ إبْرَاءٍ لَزِمَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَا بَيْعُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُشْتَرِي وَقَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَنْقُولِ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَفَاسَخَا لَا يَنْفُذُ، وَفِي الْعَقَارِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ. وَبَيْعُ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْبَيْعُ بِرَقَمِهِ وَبِمَا بَاعَ فُلَانٌ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ فِي الْمَجْلِسِ، وَبَيْعٌ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَبِمِثْلِ مَا يَبِيعُ النَّاسُ وَبِمِثْلِ مَا أَخَذَ بِهِ فُلَانٌ، وَبَيْعُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ إنْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ أَوْ جَحَدَ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَيِّنَةٌ ثُمَّ الْبَيْعُ وَبَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ. وَلْنُتَمِّمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَالْمَغْصُوبِ: ذَكَرَ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ الرَّهْنُ وَالْمُسْتَأْجَرُ إلَى الرَّاهِنِ وَالْمُؤَجِّرِ بِفَسْخٍ أَوْ بِغَيْرِهِ يَتِمُّ الْبَيْعُ، وَكَذَا إذَا أَجَازَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ، فَإِنْ لَمْ يُجِيزَا وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْحَاكِمِ فَسْخَ الْعَقْدِ فَسَخَهُ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الرَّهْنَ وَالْإِجَارَةَ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَكَذَا إنْ عَلِمَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ عَلِمَ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ فَقِيلَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ بَلْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى فَسْخُ الْبَيْعِ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي الْمُرْتَهِنِ خِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ وَالْمُؤَجِّرِ حَتَّى الْفَسْخِ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ انْتَقَضَ الْبَيْعُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وَابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَيَقُومُ الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْمَالِكِ فِي الدَّعْوَى. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْإِجَارَةَ سَوَاءٌ: أَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ أَوْ لَا، فَإِنْ أَجَازَ فَلَا أَجْرَ لِعَمَلِهِ. وَفِي النَّوَازِلِ: فَلَوْ أَجَازَ الْمُزَارِعُ فَكِلَا النَّصِيبَيْنِ لِلْمُشْتَرِي وَكَذَا فِي الْكَرْمِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ فَارِغَةً فِي الْمُزَارَعَةِ وَلَمْ تَظْهَرْ الثِّمَارُ فِي الْكَرْمِ جَازَ الْبَيْعُ، وَبِهِ أَخَذَ الْمَرْغِينَانِيُّ ذَكَرَهُ فِي الْمُجْتَبَى. ثُمَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ الصَّحِيحِ عَنْ الْفَاسِدِ أَنَّهُ الْمُوصِلُ إلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ سَلَامَةُ الدِّينِ الَّتِي لَهَا شُرِعَتْ الْعُقُودُ وَلِيَنْدَفِعَ التَّغَالُبُ وَالْوُصُولُ إلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا بِالصِّحَّةِ. وَأَمَّا الْفَاسِدُ فَعَقْدٌ مُخَالِفٌ لِلدِّينِ، ثُمَّ إنَّهُ وَإِنْ أَفَادَ الْمِلْكَ وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي الْجُمْلَةِ لَكِنْ لَا يُفِيدُ تَمَامَهُ إذْ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ مِنْ الْمَبِيعِ وَلَا الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ إذْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْفَسْخُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ثُمَّ لَفْظُ الْفَاسِدِ فِي قَوْلِهِ بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَفِي قَوْلِهِ إذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا مُحَرَّمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَعَمِّ مِنْ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ، فَالشَّارِحُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَاسِدَ أَعَمُّ مِنْ الْبَاطِلِ لِأَنَّ الْفَاسِدَ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ بِوَصْفِهِ بَلْ بِأَصْلِهِ، وَالْبَاطِلَ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ حَقِيقَةً عَلَى الْبَاطِلِ، لَكِنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ أَنَّهُ يُبَايِنُهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ حُكْمَ الْفَاسِدِ إفَادَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِهِ وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُهُ أَصْلًا فَقَابَلُوهُ بِهِ وَأَعْطَوْهُ حُكْمًا يُبَايِنُ حُكْمَهُ وَهُوَ دَلِيلُ تَبَايُنِهِمَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِهِ أَوْ لَازِمٌ لَهُ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ لَا وَصْفِهِ. وَفِي الْبَاطِلِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ فَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ بِأَصْلِهِ وَغَيْرَ الْمَشْرُوعِ بِأَصْلِهِ مُتَبَايِنَانِ فَكَيْفَ يَتَصَادَقَانِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْفَاسِدِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْأَعَمِّ وَالْأَخَصِّ الْمَشْرُوعِ بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ فِي الْعُرْفِ، لَكِنْ نَجْعَلُهُ مَجَازًا عُرْفِيًّا فِي الْأَعَمِّ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلِذَا يُوَجِّهُ بَعْضُهُمْ الْأَعَمِّيَّةَ بِأَنَّهُ يُقَالُ لِلَّحْمِ إذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِلدُّودِ وَالسُّوسِ بَطَلَ اللَّحْمُ، وَإِذَا أَنْتَنَ وَهُوَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ فَسَدَ اللَّحْمُ فَاعْتُبِرَ مَعْنَى اللُّغَةِ، وَلِذَا أَدْخَلَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا

ص: 401

(وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا مُحَرَّمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ كَالْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَالْحُرِّ)

فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِشُمُولِهَا الْمَكْرُوهَ؛ لِأَنَّهُ فَائِتٌ وَصْفَ الْكَمَالِ بِسَبَبِ وَصْفٍ مُجَاوِرٍ ثُمَّ الْفَاسِدُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعُمُّ الْبَاطِلَ يَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ؛ فَخَرَجَ نَحْوُ جَهَالَةِ كَمِيَّةِ قُفْزَانِ الصُّبْرَةِ وَعَدَدِ الدَّرَاهِمِ فِيمَا إذَا بِيعَ صُبْرَةُ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ دَرَاهِمَ وَبِعَدَمِ مِلْكِ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ، وَالْفَسَادُ بِمَعْنَى الْبُطْلَانِ إلَّا فِي السَّلَمِ أَوْ مَعَ الْمِلْكِ لَكِنْ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَمِنْهَا الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ أَوْ التَّسَلُّمِ إلَّا بِضَرَرٍ كَجِذْعٍ مِنْ سَقْفٍ. وَمِنْهَا الْغَرَرُ كَضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ، بِخِلَافِ الصَّحِيحِ، وَتَدْخُلُ فِيهِ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ كَبَيْعِهِ كَذَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ كَذَا، وَالِاتِّبَاعُ مَقْصُودٌ كَحَبَلِ الْحَبَلَةِ تَدْخُلُ فِي عَدَمِ الْمِلْكِ، وَبَيْعُ الْأَوْصَافِ كَأَلْيَةِ شَاةٍ حَيَّةٍ يَرْجِعُ إلَى مَا فِي تَسْلِيمِهِ ضَرَرٌ إذْ لَا يُمْكِنُ شَرْعًا إلَّا بِذَبْحِهَا إذْ فِي قَطْعِهَا حَيَّةً عَجْزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَيِّتَةً يَبْطُلُ بَيْعُهَا، وَكَوْنُ الْبَيْعِ مِنْ الْبَائِعِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ثَمَنِ الْمُبْتَاعِ بِهِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَعَدَمُ التَّعْيِينِ فِي بَيْعٍ كَبَيْعِ هَذَا بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ مُسْتَدْرَكٌ لِدُخُولِهِ فِي جَهَالَةِ الثَّمَنِ (قَوْلُهُ إذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا مُحَرَّمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ كَالْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ، وَكَذَا إذَا كَانَ) أَحَدُهُمَا (غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَالْحُرِّ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ لَفْظَ فَاسِدٍ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ يَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ تَغْلِيبًا كَمَا قِيلَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ خَاصٌّ بِالْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ

ص: 402

قَالَ رضي الله عنه: هَذِهِ فُصُولُ جَمْعِهَا، وَفِيهَا تَفْصِيلٌ نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَقُولُ: الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَاطِلٌ، وَكَذَا بِالْحُرِّ لِانْعِدَامِ رُكْنِ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ وَالْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ مَالٌ عِنْدَ الْبَعْضِ

بِهِ الْمُعَوَّضُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا لَا يَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ مَالًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ كَالْخَمْرِ، وَكَذَا الثَّمَنُ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا مَيْتَةً فَهُوَ بَاطِلٌ، فَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (هَذِهِ فُصُولُ جَمْعِهَا) أَيْ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْفَسَادُ (وَالْوَاقِعُ أَنَّ فِيهَا تَفْصِيلًا) يَعْنِي لَيْسَ كُلُّهَا فَاسِدًا، فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي عُرْفِ فُقَهَائِنَا التَّبَايُنُ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ، فَإِنَّ الْأَعَمَّ لَا يُنْفَى عَنْ الْأَخَصِّ قَالَ (فَنَقُولُ: الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَاطِلٌ) لَا فَاسِدٌ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ (وَكَذَا بِالْحُرِّ) بِأَنْ يَجْعَلَ الْمَيْتَةَ وَالْحُرَّ ثَمَنًا لِثَوْبٍ مَثَلًا، وَذَلِكَ (لِانْعِدَامِ رُكْنِ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ أَحَدٍ) يَعْنِي مِمَّنْ لَهُ دِينٌ سَمَاوِيٌّ فَلِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِالْحُرِّ بَاطِلًا وَإِنْ كَانَ مَالًا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ

(وَ) أَمَّا (الْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) فَ (فَاسِدٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (مَالٌ عِنْدَ الْبَعْضِ) وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ فِي وَجْهِ الْفَرْقِ حَيْثُ قَالَ: إنَّهُ مَالٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ لِحِلِّهَا عِنْدَهُمْ، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ يُفِيدُ انْتِفَاءَ الْمَالِيَّةِ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ فِي شَرْعِنَا وَهُوَ كَذَلِكَ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الِاصْطِلَاحَ عَلَى تَسْمِيَةِ الْبَيْعِ بِثَمَنٍ هُوَ مَالٌ فِي بَعْضِ الْأَدْيَانِ فَاسِدٌ، وَبِمَا لَيْسَ مَالًا فِي دِينٍ سَمَاوِيٍّ بَاطِلٌ وَهَذَا سَهْلٌ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي جَعْلِ حُكْمِهِ الْمِلْكَ قُلْنَا فِيهِ نَظَرٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ قَالَ (أَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) يَعْنِي إذَا جُعِلَا مَبِيعًا (فَإِنْ كَانَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ بِعَيْنٍ) بَيْعُ الْمُقَايَضَةِ (فَفَاسِدٌ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ) فِي الْجُمْلَةِ فِي شَرْعٍ ثُمَّ أَمَرَ بِإِهَانَتِهَا فِي شَرْعٍ نَسَخَ الْأَوَّلَ، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا إعْزَازٌ لَهُ حَيْثُ اُعْتُبِرَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَصَرُّفِ الْعُقَلَاءِ، بِخِلَافِ جَعْلِهِ ثَمَنًا، وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُ الْخَمْرِ مَبِيعًا فَلَأَنْ يَبْطُلَ إذَا جَعَلَ الْمَيْتَةَ وَالْحُرَّ مَبِيعًا أَوْلَى، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَبْطُلَ فِي الْمُقَايَضَةِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَبِيعٌ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَمَنًا أَيْضًا كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَبِيعٌ ثَبَتَ صِحَّةُ اعْتِبَارِ الثَّمَنِيَّةِ وَالْمَبِيعِيَّةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَاعْتُبِرَ الْخَمْرُ ثَمَنًا وَالثَّوْبُ مَبِيعًا وَالْعَكْسُ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَكِنْ تَرَجَّحَ هَذَا الِاعْتِبَارُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِلْقُرْبِ مِنْ تَصَرُّفِ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ بِاعْتِبَارِ الْإِعْزَازِ لِلثَّوْبِ مَثَلًا فَيَبْقَى ذِكْرُ الْخَمْرِ مُعْتَبَرًا لِإِعْزَازِ الثَّوْبِ لَا الثَّوْبِ لِلْخَمْرِ فَوَجَبَ قِيمَةُ الثَّوْبِ لَا الْخَمْرُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَدْخُلَ الْبَاءُ عَلَى الثَّوْبِ أَوْ الْخَمْرِ فِي جَعْلِ الثَّوْبِ الْمَبِيعَ. وَجْهُ الْبُطْلَانِ فِي بَيْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ النَّصُّ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» وَمَعْنَى أَعْطَى بِي: أَعْطَى ذِمَّةً مِنْ الذِّمَّاتِ، ذَكَرَهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحِ «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ إلَى أَنْ قَالَ: وَبَائِعَهَا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا ثَمَنَهَا» وَحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَظَاهِرٌ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَيْتَةِ الَّتِي يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَا وَعَلَيْهَا الَّتِي مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، أَمَّا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ شَرْعًا فَإِنَّا نَحْكُمُ بِجَوَازِهَا إذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ عِنْدَهُمْ كَالْخَمْرِ. كَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ مُطْلِقًا عَنْ الْخِلَافِ. وَفِي جَامِعِ الْكَرْخِيِّ: يَجُوزُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ أَحْكَامَهُمْ كَأَحْكَامِنَا شَرْعًا إلَّا مَا اسْتَثْنَى بَعْدَ الْأَمَانِ، وَاَلَّذِي اسْتَثْنَى الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ فَيَبْقَى مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى

ص: 403

وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ؛.

وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَبَقِيَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَكُونُ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَالثَّانِي قَوْلُهُمَا كَمَا فِي بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ وَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ.

الْأَصْلِ. وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بَيْعَ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ تَجُوزُ إلَّا الْخَمْرَ، وَمَنَعَا جَوَازَ كُلِّ مَا حُرِّمَ شُرْبُهُ. وَثُبُوتُ الضَّمَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَرْعُ الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ. وَقَوْلُهُ فِي الذَّخِيرَةِ فِي الْمُنْخَنِقَةِ وَنَحْوِهَا الْبَيْعُ فَاسِدٌ لَا بَاطِلٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً عِنْدَنَا فَهِيَ مَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَجِبُ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فَكَانَتْ كَالْخَمْرِ ثُمَّ (الْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ)

(وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِيهِ) أَيْ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ (يَكُونُ أَمَانُهُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ) هُوَ أَبُو نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ الطَّوَاوِيسِيُّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ) وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ (وَعِنْدَ الْبَعْضِ) كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَغَيْرِهِ (يَكُونُ مَضْمُونًا) بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَالثَّانِي قَوْلُهُمَا كَ) الْخِلَافُ الْكَائِنُ بَيْنَهُمْ فِي (أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ) إذَا بِيعَا فَمَاتَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يَضْمَنُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَضْمَنُهُمَا عِنْدَهُمَا، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ هُوَ الْمَأْخُوذُ لِيَشْتَرِيَ مَعَ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ بِلَا إبْرَامِ بَيْعٍ كَأَنْ يَقُولَ: اذْهَبْ بِهَذَا فَإِنْ رَضِيته اشْتَرَيْته بِعَشَرَةٍ، فَإِذَا هَلَكَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، فَإِذَا ضَمِنَ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ صُورَةُ الْعِلَّةِ فَلَأَنْ يَضْمَنَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ وُجِدَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَلِمَنْ يَنْصُرُ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ إنْ قُلْت إنَّهُ عِنْدَ صِحَّةِ كَوْنِ الْمُسَمَّى ثَمَنًا كَالدَّرَاهِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ إنْ رَضِيته اشْتَرَيْته بِعَشَرَةٍ سَلَّمْنَاهُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي تَسْمِيَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْخَمْرِ وَإِنْ قُلْت عِنْدَ التَّسْمِيَةِ مُطْلَقًا مَنَعَاهُ فَيَجِبُ تَفْصِيلُهُ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْبُطْلَانُ لِعَدَمِ مَالِيَّةِ الثَّمَنِ أَصْلًا لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ الْمَبِيعِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ بِثَمَنٍ صَحِيحٍ دَرَاهِمُ مَثَلًا فَقَبْضُهُ يَصِيرُ مَضْمُونًا (وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ) إذَا كَانَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ فَيَمْلِكُهُ وَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ الْقِيمَةِ، وَكَذَا إذَا

ص: 404

وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا.

وَكَذَا بَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْوَالًا فَلَا تَكُونُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ.

وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إنْ كَانَ قُوبِلَ بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ قُوبِلَ بِعَيْنٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ حَتَّى يَمْلِكَ مَا يُقَابِلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ مَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِمَا أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إعْزَازِهِ، وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا إعْزَازٌ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهُمَا بِالدَّرَاهِمِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ؛ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ فَسَقَطَ التَّقَوُّمُ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّوْبِ إنَّمَا يَقْصِدُ تَمَلُّكَ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ. وَفِيهِ إعْزَازٌ لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ فَبَقِيَ ذِكْرُ الْخَمْرِ مُعْتَبَرًا فِي تَمَلُّكِ الثَّوْبِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِ الْخَمْرِ حَتَّى فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ شِرَاءُ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً.

قَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ هَلْ يَمْلِكُهُ؟ سَيَأْتِي تَمَامُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمَمْلُوكَ التَّصَرُّفُ أَوْ الْعَيْنُ. وَوَجْهُ لُزُومِ الْقِيمَةِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِشْكَالِ. وَقَوْلُهُ (وَفِيهِ) أَيْ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ (خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) وَكَذَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفَاسِدَ هُوَ

ص: 405

قَالَ (وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَاسِدٌ) وَمَعْنَاهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ قَدْ ثَبَتَ لِأُمِّ الْوَلَدِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَسَبَبُ الْحُرِّيَّةِ انْعَقَدَ فِي الْمُدَبَّرِ فِي الْحَالِ لِبُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ،

عِنْدَهُمْ الْبَاطِلُ، وَسَيُبَيِّنُهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ: أَيْ يُبَيِّنُ الْوَجْهَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ

(قَوْلُهُ وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَاسِدٌ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَعْنَاهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحُرِّيَّةِ بِالْعِتْقِ ثَابِتٌ لِكُلٍّ مِنْهُمْ) بِجِهَةٍ لَازِمَةٍ عَلَى الْمَوْلَى بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُمِّ الْوَلَدِ «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَأَقَلُّ مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا اللَّفْظُ ثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِهَا الْعِتْقَ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ وَبِتَصْحِيحِ التَّدْبِيرِ شَرْعًا، وَتَصْحِيحُهُ يُوجِبُ انْعِقَادَ التَّدْبِيرِ سَبَبًا لِلْعِتْقِ فِي الْحَالِ لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ الْإِعْتَاقِ عَنْ السَّيِّدِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِتْقِهِ بَعْدَهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَكَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ سَبَبًا فِي الْحَالِ

ص: 406

وَالْمُكَاتَبُ اسْتَحَقَّ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِالْبَيْعِ لَبَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَلَا يَجُوزُ، وَلَوْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ بِالْبَيْعِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، وَالْمُرَادُ الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُقَيَّدِ، وَفِي الْمُطْلَقِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَتَاقِ.

وَالْمُكَاتَبُ اسْتَحَقَّ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْمَوْلَى) حَتَّى لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ (فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ) لِلْمُشْتَرِي (بِالْبَيْعِ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَلَا يَجُوزُ) الْبَيْعُ وَمَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ مِنْ الْبَيْعِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَقَالَ: لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ» وَحَدِيثَ «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» تَقَدَّمَ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ، وَإِذَا كَانَ أَقَلُّ مَا يُوجِبُهُ هَذَا اللَّفْظُ ثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَازِمٍ فَالْمَجَازُ مُرَادٌ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ (وَلَوْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ بَيْعِهِ) وَتَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِي ضِمْنِهِ؛ لِأَنَّ اللُّزُومَ كَانَ لَحِقَهُ وَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِهِ (وَالْمُرَادُ) بِالْمُدَبَّرِ (الْمُدَبَّرُ الْمُطَلِّقُ) وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي جَوَازِ بَيْعِهِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، أَمَّا الْمُقَيَّدُ فَجَوَازُ بَيْعِهِ اتِّفَاقٌ. وَاسْتُشْكِلَ حُكْمُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ وَأَخَوَيْهِ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَهُمْ كَالْحُرِّ، وَلَوْ كَانُوا كَالْحُرِّ لَبَطَلَ بَيْعُ الْقَنِّ إذَا جُمِعَ مَعَ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ كَمَا إذَا ضُمَّ إلَى حُرٍّ وَهُوَ مُنْتَفٍ، بَلْ يَصِحُّ بَيْعُ الْقِنِّ وَيَلْزَمُ مُشْتَرِيَهُمَا حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ بَاطِلٌ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ بِالْقَبْضِ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْحُرُّ فَكَانُوا مِثْلَهُ. فَلَوْ قَالَ فَاسِدٌ ظُنَّ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ. وَأَمَّا تَمَلُّكُ الْقِنِّ الْمَضْمُومِ إلَيْهِمْ فَلِدُخُولِهِمْ فِي الْبَيْعِ لِصَلَاحِيَّتِهِمْ لِذَلِكَ بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِذَا لَوْ قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِ بَيْعِهِ نَفَذَ، وَكَذَا أُمُّ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَهَذَا الْجَوَابُ رُبَّمَا يُوهِمُ أَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَلَكِنَّهُ خَصَّ حُكْمَ الْفَاسِدِ بِعَدَمِ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ. وَالْحَقُّ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى الْحُكْمِ بِتَخْصِيصٍ فَهُوَ بَاطِلٌ وَحُكْمُهُ

ص: 407

قَالَ (وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ لَهُمَا أَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَبَّرُ وَأُمَّ الْوَلَدِ يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْبَيْعِ حَتَّى يَمْلِكَ مَا يُضَمُّ إلَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ الْقَبْضُ وَهَذَا الضَّمَانُ بِهِ

حُكْمُهُ، وَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ إفْرَادُ نَوْعٍ شَرْعِيٍّ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِخُصُوصِيَّةٍ. فَإِنْ قِيلَ: التَّخْصِيصُ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ فَاسِدًا فَلَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَهُوَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ حَتَّى مِلْكِ الْقِنِّ الْمَضْمُومِ إلَيْهِ. وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْبَاطِلِ فَلْيَكُنْ فَاسِدًا مَخْصُوصًا مِنْ حُكْمِ الْفَاسِدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَأْوِيلِهِ بِالْبَاطِلِ. قُلْنَا نَحْنُ لَمْ نُعْطِ حُكْمَ الْبَاطِلِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِوَجْهٍ لِيَلْزَمَ تَخْصِيصُهُ وَيَتَّحِدَ اللَّازِمُ عَلَى تَقْدِيرِ تَأْوِيلِ الْفَاسِدِ بِالْبَاطِلِ وَعَدَمِهِ، إنَّمَا قُلْنَا حُكْمُهُ أَنْ لَا يُمْلَكَ بِالْقَبْضِ. غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ مَا هُوَ مَبِيعٌ بَاطِلٌ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ كَالْمُدَبَّرِ وَبَعْضُهُ لَا يَدْخُلُ كَالْحُرِّ، وَأَصْلُ السُّؤَالِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مُغَالَطَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْكُبْرَى لَوْ كَانَ كَالْحُرِّ لَمْ يَمْلِكْ الْقِنُّ الْمَضْمُومُ إلَيْهِ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ مِثْلَهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ. فَصَارَ حَاصِلُ الصُّورَةِ: لَوْ كَانَ بَاطِلًا كَانَ كَالْحُرِّ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَوْ كَانَ مِثْلَهُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ لَمْ يَمْلِكْ الْقِنُّ الْمَضْمُومُ وَحِينَئِذٍ فَعَدَمُ الِاسْتِلْزَامِ ظَاهِرٌ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا لِلْبَائِعِ وَقَوْلُهُمَا) هَذَا (رِوَايَةٌ عَنْهُ) وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي الْمُدَبَّرِ، أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَبِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي وَلَا الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا إذْ لَا تَقَوُّمَ لِأُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ بِمَا يَضْمَنُ الصَّبِيُّ الْحُرُّ إذَا غَصَبَ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا نَقَلَهَا إلَى أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ أَوْ كَثِيرَةِ الْحَيَّاتِ فَمَاتَتْ بِنَهْشِ حَيَّةٍ أَوْ افْتِرَاسِ سَبُعٍ فِيهَا الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ كَمَا هُوَ فِي غَصْبِ الصَّبِيِّ بِشَرْطِهِ، أَمَّا الْمُدَبَّرُ فَيَضْمَنُ فِي الْبَيْعِ وَالْغَصْبِ عَلَى رِوَايَتِهِمَا هَذِهِ (لَهُمَا) فِي ضَمَانِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ (أَنَّهُمَا مَقْبُوضَانِ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فَيَكُونَانِ مَضْمُونِينَ عَلَيْهِ) بِالْقَبْضِ (كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ) الْمَقْبُوضَةِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُهُمَا مَقْبُوضِينَ بِجِهَةِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْبَيْعِ حَتَّى يَمْلِكَ مَا يُضَمُّ إلَيْهِمَا مِمَّا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ وَتَمْلِيكُهُ، وَإِذَا قَبَضَ بَعْدَ لَفْظِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يُبَاعَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ فَهُوَ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْبَيْعِ (بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ)؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا فَلَا يَضْمَنُ بِقَبْضِهِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَعْنِي الَّتِي تُبْطِلُ بَيْعَهُ، وَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ الْبَيْعِ إذَا ضُمَّ إلَيْهِ الْقِنُّ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ الْقَبْضُ (وَهَذَا الضَّمَانُ بِالْقَبْضِ) وَقَدْ يَجْعَلُ الْمُشَارَ الْيَدَ بِقَوْلِهِ وَهَذَا كَوْنُهُمَا مَضْمُونَيْنِ بِالْقَبْضِ وَمَا صِرْنَا إلَيْهِ أَحْسَنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَهُ تَعْلِيلٌ لِلْمُشَارِ إلَيْهِ، وَكَوْنُهُمَا مَضْمُونِينَ بِالْقَبْضِ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِهِمَا مَقْبُوضِينَ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فَيُنَاسِبُ كَوْنَ التَّعْلِيلِ لِمَا لَمْ يُعَلَّلْ إذَا صَلَحَ لَهُ وَهُوَ صَالِحٌ، بَلْ انْصِبَابُهُ لَيْسَ إلَّا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ دَعْوَى أَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الْبَيْعِ بِبَيَانِ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَيْعِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَقْبُوضًا فَبِفَرْضِ وُقُوعِهِ حِسًّا، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْمَقْبُوضِ بِجِهَةِ الْبَيْعِ بِأَنَّهُ الْمَقْبُوضُ لِيَشْتَرِيَ بَعْدَ الْقَبْضِ إنْ وَافَقَهُ، فَلَوْ صَحَّ لَزِمَ أَنْ لَا يَضْمَنَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقْبِضَا لِيَشْتَرِيَا بَعْدَ الْقَبْضِ إنْ وَافَقَا بَلْ قَبَضَا بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ وَإِتْمَامِ الْبَيْعِ بِزَعْمِهِمَا، فَالْمَذْكُورُ تَفْسِيرُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَلَا يَكُونَانِ مَقْبُوضِينَ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فَلَا يَضْمَنَانِ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْمَقْبُوضَ أَعَمُّ

ص: 408

وَلَهُ أَنَّ جِهَةَ الْبَيْعِ إنَّمَا تَلْحَقُ بِحَقِيقَةٍ فِي مَحِلٍّ يَقْبَلُ الْحَقِيقَةَ وَهُمَا لَا يَقْبَلَانِ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ فَصَارَا كَالْمُكَاتَبِ، وَلَيْسَ دُخُولُهُمَا فِي الْبَيْعِ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْبَيْعِ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِمَا فَصَارَ كَمَالِ الْمُشْتَرِي لَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ عَقْدِهِ بِانْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الدُّخُولِ فِيمَا ضَمَّهُ إلَيْهِ، كَذَا هَذَا.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ قَبْلَ أَنْ يُصْطَادَ) لِأَنَّهُ بَاعَ مَالًا يَمْلِكُهُ (وَلَا فِي حَظِيرَةٍ إذَا كَانَ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِصَيْدٍ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَخَذَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِيهَا لَوْ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ حِيلَةٍ جَازَ، إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا وَلَمْ يَسُدَّ عَلَيْهَا الْمَدْخَلَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ

مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْمَقْبُوضِ بِجِهَةِ الْبَيْعِ، فَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْبَيْعِ يَصْدُقُ عَلَى الْمَقْبُوضِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وَعَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ التَّفْسِيرُ يَخُصُّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مَقْبُوضًا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَإِلَّا صَارَ الْأَصْلُ عَيْنَ الْفَرْعِ، فَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَالْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْبَاطِلِ هُوَ الْفَرْعُ الْمُلْحَقُ (وَلَهُ أَنَّ جِهَةَ الْبَيْعِ إنَّمَا تَلْحَقُ بِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ فِيمَا يَقْبَلُ حَقِيقَتَهُ) أَيْ حَقِيقَةَ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ مُقَابَلٌ بِمِلْكِ الْمَبِيعِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ جِهَةِ الْبَيْعِ، وَلَا مِلْكَ مُتَصَوَّرٌ هُنَا مَعَ اعْتِبَارِ جِهَتِهِ فَبَقِيَ مُجَرَّدَ قَبْضٍ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا كَانَ عُدْوَانًا مَحْضًا، بِخِلَافِ ضَمَانِ الْغَصْبِ فِي الْمُدَبَّرِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ فَكَانَ بِمُجَرَّدِ الْقَبْضِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَهُنَا الْإِذْنُ مَوْجُودٌ وَدُخُولُهُمَا فِي الْبَيْعِ لَيْسَ إلَّا لِيَثْبُتَ حُكْمُهُ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِمَا فَقَطْ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ الصَّلَاحِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِهَا مِنْ قَرِيبٍ (فَصَارَ كَمَالُ الْمُشْتَرِي لَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ عَقْدِهِ بِانْفِرَادِهِ) وَيَدْخُلُ إذَا ضَمَّ الْبَائِعُ إلَيْهِ مَالَ نَفْسِهِ وَبَاعَهُمَا لَهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً حَيْثُ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَضْمُومِ بِالْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ أَصْلًا فِي شَيْءٍ، وَإِذَا قَسَمَ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتَيْ الْمَضْمُومِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فَاعْلَمْ أَنَّ قِيمَةَ أُمِّ الْوَلَدِ ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً، وَقِيمَةَ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَا قِيمَتِهِ قِنًّا، وَقِيلَ نِصْفُهَا وَبِهِ يُفْتَى، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْعَتَاقِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ) بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْبَحْرِ أَوْ النَّهْرِ لَا يَجُوزُ؛ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَظِيرَةٌ فَدَخَلَهَا السَّمَكُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ فَمَا دَخَلَهَا مِلْكُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حِيلَةِ اصْطِيَادٍ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ

ص: 409

قَالَ (وَلَا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ قَبْلَ الْأَخْذِ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ

مِثْلُ السَّمَكَةِ فِي جُبٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُؤْخَذُ إلَّا بِحِيلَةٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ عَقِيبَ الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ لَا يَمْلِكُ مَا يَدْخُلُ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ إلَّا أَنْ يَسُدَّ الْحَظِيرَةَ إذَا دَخَلَ فَحِينَئِذٍ يَمْلِكُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِلَا حِيلَةٍ جَازَ بَيْعُهُ وَإِلَّا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ لَمْ يَعُدَّهَا لِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَخَذَهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْحَظِيرَةِ مَلَكَهُ، فَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِلَا حِيلَةٍ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، أَوْ بِحِيلَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَلَيْسَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: رَخَّصَ فِي بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْآجَامِ أَقْوَامٌ، فَكَانَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي قَوْلِ مَنْ كَرِهَهُ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: " لَا تَبَايَعُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ غَرَرٌ ". وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَجَمَةَ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهَا السَّمَكُ بِالْيَدِ وَالْغَرَرُ الْخَطَرُ، وَغَيْرُ الْمَمْلُوكِ عَلَى خَطَرٍ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَعَدَمُهُ فَلِذَا جُعِلَ مِنْ بَيْعِ الْخَطَرِ.

[فُرُوعٌ]

مِنْ مَسَائِلِ التَّهْيِئَةِ حَفَرَ حَفِيرَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ، فَإِنْ كَانَ اتَّخَذَهَا لِلصَّيْدِ مَلَكَهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَخْذَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْهَا لَهُ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ.

نَصَبَ الشَّبَكَةَ لِلصَّيْدِ فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ مَلَكَهُ، فَلَوْ كَانَ نَصَبَهَا لِيُجَفِّفَهَا مِنْ بَلَلٍ فَتَعَلَّقَ بِهَا لَا يَمْلِكُهُ، وَهُوَ لِمَنْ يَأْخُذُهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ فَيَحُوزَهُ، وَمِثْلُهُ إذَا هَيَّأَ حِجْرَهُ لِوُقُوعِ النِّثَارِ فِيهِ مَلَكَ مَا يَقَعُ فِيهِ، وَلَوْ وَقَعَ فِي حِجْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَيَّأَهُ لِذَلِكَ فَلِوَاحِدٍ أَنْ يَسْبِقَ فَيَأْخُذَهُ مَا لَمْ يَكْفِ حَجْرُهُ عَلَيْهِ، وَكَذَا مَنْ هَيَّأَ مَكَانًا لَلسِّرْقِينِ فَلَهُ مَا طَرَحَ فِيهِ عِنْدَ الْبَعْضِ. وَفِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ خِلَافُ هَذَا قَالَ: أَهْلُ سِكَّةٍ يَرْمُونَ فِي سَاحَةِ رَجُلٍ الرَّمَادَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ هُوَ لِمَنْ يَسْبِقُ سَوَاءٌ هَيَّأَ الْمَكَانَ لَهُ أَوْ لَا، أَمَّا النَّحْلُ إذَا عَسَلَ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ فَهُوَ لَهُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَيْدًا بَلْ قَائِمٌ بِأَصْلِهِ بِأَرْضِهِ كَالشَّجَرِ وَالزَّرْعِ وَالْبَيْضُ كَالصَّيْدِ، وَكَذَا الْفَرْخُ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِإِعْدَادِ الْمَكَانِ لِذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَلَا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ أَخْذِهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَبَعْدَ أَخْذِهِ وَإِرْسَالِهِ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ) عَقِيبَ الْعَقْدِ، ثُمَّ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّسْلِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَعُودُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَ مَشَايِخِ بَلْخٍ، وَعَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ يَعُودُ، وَكَذَا عَنْ الطَّحَاوِيِّ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا جُعِلَ الطَّيْرُ ثَمَنًا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمَجْعُولَةَ ثَمَنًا مَبِيعٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ. وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ: لَوْ بَاعَ طَيْرًا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ كَالْحَمَامِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَإِنْ بَاعَ طَيْرًا لَهُ يَطِيرُ، إنْ كَانَ دَاجِنًا يَعُودُ إلَى بَيْتِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ بِلَا تَكَلُّفٍ جَازَ بَيْعُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا يَأْتِي: وَالْحَمَامُ إذَا عُلِمَ عَدَدُهَا وَأَمْكَنَ

ص: 410

قَالَ (وَلَا بَيْعُ الْحَمْلِ وَلَا النِّتَاجِ)«لِنَهْيِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا.

(وَلَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ لِلْغَرَرِ) فَعَسَاهُ انْتِفَاخٌ، وَلِأَنَّهُ يُنَازَعُ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلْبِ، وَرُبَّمَا يَزْدَادُ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ.

قَالَ (وَلَا الصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْقَوَائِمِ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ مِنْ أَعْلَى،

تَسْلِيمُهَا جَازَ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، يُوَافِقُهُ

(قَوْلُهُ وَلَا الْحَمْلُ) بِسُكُونِ الْمِيمِ مَا فِي الْبَطْنِ مِنْ الْجَنِينِ (وَلَا النِّتَاجُ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ» وَكَانَ بَيْعًا يَبْتَاعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إلَى أَنْ تُنْتِجَ النَّاقَةُ ثُمَّ يُنْتِجَ فِي بَطْنِهَا. وَفِي الْمُوَطَّإِ: أَنْبَأْنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: " لَا رِبًا فِي الْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ الْحَيَوَانِ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ، وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ " وَإِنَّمَا بَطَلَ هَذَا الْبَيْعُ لِلْغَرَرِ، فَعَسَى أَنْ لَا تَلِدَ تِلْكَ النَّاقَةُ أَوْ تَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ. وَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي الْأَرْحَامِ جَمْعُ مَلْقُوحٍ، وَالْمَضَامِينُ مَا فِي الْأَصْلَابِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ جَمْعُ مَضْمُونٍ لَقِحَتْ النَّاقَةُ وَوَلَدُهَا مَلْقُوحٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهُ بِلَا بَاءٍ، يُقَالُ ضَمِنَ الشَّيْءَ أَيْ تَضَمَّنَهُ

. قَوْلُهُ: (وَلَا اللَّبَنُ) يَجُوزُ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَتَقْدِيرِ الْمُضَافِ وَالرَّفْعِ عَلَى إقَامَتِهِ مَقَامَ الْمُضَافِ (لِلْغَرَرِ فَلَعَلَّهُ انْتِفَاخٌ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ أَيَّامًا مَعْلُومَةً إذَا عَرَفَ قَدْرَ حِلَابِهَا وَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ بِالتَّخْلِيَةِ كَبَيْعِ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (لِأَنَّهُ يُتَنَازَعُ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلْبِ) فِي الِاسْتِقْصَاءِ وَعَدَمِهِ وَهُوَ نِزَاعٌ فِي التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَمَا وُضِعَتْ الْأَسْبَابُ إلَّا لِقَطْعِهِ فَبَطَلَ قَوْلُ مَالِكٍ لِذَلِكَ، وَلِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ لَبَنٌ قَبْلَ الْحَلْبِ فَيَخْتَلِطَ مَالُ الْبَائِعِ بِمَالِ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ يُعْجِزُ عَنْ التَّخْلِيصِ

(قَوْلُهُ وَلَا الصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ)؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الشَّاةِ فَكَانَ كَالْوَصْفِ مِنْ الذَّاتِ وَهُوَ لَا يُفْرَدُ بِالْبَيْعِ (وَلِأَنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلَ) سَاعَةً فَسَاعَةً (فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ) بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ (بِخِلَافِ الْقَوَائِمِ) أَيْ قَوَائِمِ الْخِلَافِ (لِأَنَّهَا تَزِيدُ مِنْ أَعْلَاهَا) وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِأَنْ تُوضَعَ فِي مَكَان مِنْ الْقَائِمَةِ عَلَامَةٌ

ص: 411

وَبِخِلَافِ الْقَصِيلِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَلْعُهُ، وَالْقَطْعُ فِي الصُّوفِ مُتَعَيِّنٌ فَيَقَعُ التَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَعَنْ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ، وَعَنْ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي هَذَا الصُّوفِ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ.

فَإِنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ أَسْفَلَ وَيَرْتَفِعُ عَنْهَا رَأْسُ الْقَائِمَةِ وَيَرْتَفِعُ غَيْرُهَا مِمَّا يَزِيدُ مِنْ أَسْفَلَ، فَالزَّائِدُ يَكُونُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ الْإِمَامُ الْفَضْلِيُّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ بَيْعَ قَوَائِمِ الْخِلَافِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَنْمُو مِنْ أَعْلَاهُ فَمَوْضِعُ الْقَطْعِ مَجْهُولٌ فَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَى شَجَرَةً عَلَى أَنْ يَقْطَعَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَجُوزُ لِجَهَالَةِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَنْعِ بَيْعِ الشَّجَرِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَلْ هِيَ خِلَافِيَّةٌ، مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهَا إذْ لَا بُدَّ فِي الْقَطْعِ مِنْ حَفْرِ الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهَا لِلتَّعَامُلِ (بِخِلَافِ الْقَصِيلِ)؛ لِأَنَّهُ يُقْلَعُ فَلَا تَنَازُعَ فَجَازَ بَيْعُهُ قَائِمًا فِي الْأَرْضِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى إلَى آخِرِهِ) وَذَلِكَ أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ. حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْحَوْضِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعَمَ، وَلَا يُبَاعُ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ وَلَا لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ» . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ فَرُّوخَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَأَرْسَلَهُ وَكِيعٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ فَرُّوخَ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَهَذَا السَّنَدُ حُجَّةٌ. وَقَوْلُ الْبَيْهَقِيّ تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ عُمَرُ بْنُ فَرُّوخَ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ لَا يَضُرُّهُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ كَمَا قَالَ فَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ كَالْمَرْفُوعِ، لَكِنَّ الْحَقَّ خِلَافُ مَا قَالَ فِي تَضْعِيفِ ابْنِ فَرُّوخَ. فَقَدْ نَقَلَ الذَّهَبِيُّ تَوْثِيقَ عُمَرَ بْنِ فَرُّوخَ عَنْ أَئِمَّةِ الشَّأْنِ كَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَعِينٍ وَأَبِي حَاتِمٍ وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَاعَ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ فَرُّوخَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ. وَرَوَى مَرَّةً مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد، وَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي ضُرُوعِ الْغَنَمِ وَالصُّوفِ عَلَى ظُهُورِهَا فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا بِيعَ فِي غِلَافِهِ لَا يَجُوزُ كَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَاللَّحْمِ فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ أَوْ شَحْمِهَا وَأَلْيَتِهَا أَوْ أَكَارِعِهَا أَوْ جُلُودِهَا أَوْ دَقِيقٍ فِي هَذِهِ الْحِنْطَةِ أَوْ سَمْنٍ فِي هَذَا اللَّبَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِي غُلُفِهَا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهَا وَتَسْلِيمُهَا إلَّا بِإِفْسَادِ الْخِلْقَةِ، وَالْحُبُوبُ

ص: 412

قَالَ (وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ ذَكَرَا الْقَطْعَ أَوْ لَمْ يَذْكُرَاهُ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِضَرَرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ نُقْرَةٍ فِضَّةً لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِلْجَهَالَةِ أَيْضًا، وَلَوْ قَطَعَ الْبَائِعُ الذِّرَاعَ أَوْ قَلَعَ الْجِذْعَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي يَعُودُ صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ أَوْ الْبَذْرَ فِي الْبِطِّيخِ حَيْثُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا.

وَإِنْ شَقَّهُمَا وَأَخْرَجَ الْمَبِيعَ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِمَا احْتِمَالًا،

فِي قِشْرِهَا مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ بِمَا أَسْلَفْنَاهُ، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فِي تُرَابِهِمَا بِخِلَافِ جِنْسِهِمَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

(قَوْلُهُ وَجِذْعٍ مِنْ سَقْفٍ) بِالْجَرِّ: أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ جِذْعٍ مِنْ سَقْفٍ (وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ) أَيْ ثَوْبٍ يَضُرُّهُ الْقَطْعُ كَالْعِمَامَةِ وَالْقَمِيصِ أَمَّا مَا لَا يَضُرُّهُ الْقَطْعُ كَالْكِرْبَاسِ فَيَجُوزُ. وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ فِي آجُرٍّ مِنْ حَائِطٍ أَوْ ذِرَاعٍ مِنْ كِرْبَاسٍ أَوْ دِيبَاجٍ لَا يَجُوزُ مَمْنُوعٌ فِي الْكِرْبَاسِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى كِرْبَاسٍ يَتَعَيَّبُ بِهِ. أَمَّا مَا لَا يَتَعَيَّبُ بِهِ فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ حِلْيَةٍ مِنْ سَيْفٍ أَوْ نِصْفِ زَرْعٍ لَمْ يُدْرَكْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِقَطْعِ جَمِيعِهِ، وَكَذَا بَيْعُ فَصِّ خَاتَمٍ مُرَكَّبٍ فِيهِ وَمِثْلُهُ نَصِيبُهُ مِنْ ثَوْبٍ مُشْتَرَكٍ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ وَذِرَاعٌ مِنْ خَشَبَةٍ لِلُزُومِ الضَّرَرِ فِي التَّسْلِيمِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ضَرَرٌ لَزِمَ الْبَائِعَ بِالْتِزَامِهِ. أُجِيبُ بِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْعَقْدَ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَقَوْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ إنْ رَضِيَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ إلَّا أَنْ يَقْطَعَهُ أَوْ يَقْلَعَهُ فَيُسَلِّمَهُ قَبْلَ نَقْضِ الْبَيْعِ فَيَنْقَلِبَ صَحِيحًا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ لَا يُمْكِنُهُ مَعَ الْمُلْزَمِ وَهُوَ الْتِزَامُ الْعَقْدِ بِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَأَمَّا إيرَادُ الْمُحَابَاةِ فَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِهْلَاكُ مَالٍ. نَعَمْ يُرَدُّ بَيْعُ الْحِبَابِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ إلَّا بِقَلْعِ الْأَبْوَابِ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ وَالْبَعْضُ قَدْ مَنَعَهُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُتَعَيِّبَ الْجُدْرَانُ دُونَ الْحِبَابِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ فِي الْمَنْعِ تَعَيُّبُ الْبَيْعِ، وَالْكَلَامُ السَّابِقُ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَيُّبُ غَيْرِ الْمَبِيعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَمْعِ حَاكِمٍ يَمْنَعُ هَذَا وَمَا يَلْحَقُ بِهِ هَذَا هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَدِيثُ السَّابِقُ مِنْ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالسَّمْنِ فِي اللَّبَنِ. أَفَادَ أَنَّ الْمَنْعَ إذَا كَانَ لَا يُسَلَّمَ الْمَبِيعُ إلَّا بِعَيْبٍ فِيهِ ضَرَرٌ بِغَيْرِ الْمَبِيعِ فَإِنَّ اللَّبَنَ يَدْخُلُهُ ضَرَرٌ بِتَسْلِيمِ السَّمْنِ. وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا ثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ كَيْفَ شَاءَ وَأَلْيَتِهَا وَرِجْلِهَا، وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِمَا يَلْزَمُ فِي التَّسْلِيمِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ فَخَرَجَ بَيْعُ الْحِبَابِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِي تَسْلِيمِهَا إلَى هَدْمِ أَكْتَافِ الْأَبْوَابِ عَلَى مَنْ يُصَحِّحُ بَيْعَهَا (قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا) يَعْنِي الْجِذْعَ وَالذِّرَاعَ (لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ لُزُومِ الضَّرَرِ (وَلِلْجَهَالَةِ) وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِيمَا يَتَعَيَّبُ بِالتَّبْعِيضِ وَيَخْتَلِفُ بِخِلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ قِطْعَةِ نُقْرَةٍ

(وَلَوْ قَلَعَ الْبَائِعُ الْجِذْعَ وَقَطَعَ الذِّرَاعَ يَعُودُ الْعَقْدُ صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ) قَبْلَ نَقْضِ الْبَيْعِ. وَلَوْ فَعَلَ بَعْدَ الْفَسْخِ لَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْرِ أَوْ الْبَذْرَ فِي الْبِطِّيخِ) وَكَسَّرَهَا وَسَلَّمَ الْبَذْرَ وَالنَّوَى قَبْلَ الْفَسْخِ (لَا يَعُودُ صَحِيحًا)؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِلْغَرَرِ (إذْ فِي وُجُودِهِمَا احْتِمَالَانِ) فَكَانَ كَبَيْعٍ

ص: 413

أَمَّا الْجِذْعُ فَعَيْنٌ مَوْجُودٌ.

قَالَ (وَضَرْبَةِ الْقَانِصِ) وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الصَّيْدِ بِضَرْبِ الشَّبَكَةِ مَرَّةً لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا. .

بِلَا مَبِيعٍ فَوَقَعَ بَاطِلًا، بِخِلَافِ الْجِذْعِ فَإِنَّهُ عَيْنٌ مَحْسُوسَةٌ قَائِمَةٌ، وَإِنَّمَا يَفْسُدُ لِلُزُومِ الضَّرَرِ فَإِذَا تَحَمَّلَهُ الْبَائِعُ وَسَلَّمَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ وَقَعَ التَّسْلِيمُ فِي بَيْعٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ لَكِنْ بِوَصْفِ الْفَسَادِ، فَإِذَا زَالَ الْمُفْسِدُ قَبْلَ زَوَالِ الْبَيْعِ صَارَ بِالضَّرُورَةِ بَيْعًا بِلَا فَسَادٍ وَهُوَ مَعْنَى الصَّحِيحِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: انْقَلَبَ صَحِيحًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَقَعَ بَاطِلًا وَهُوَ مَعْنَى الْمَعْدُومِ شَرْعًا فَلَيْسَ هُنَاكَ بَيْعٌ قَائِمٌ لِيَزُولَ الْمُبْطِلُ فَيَبْقَى بَيْعًا بِلَا بُطْلَانٍ، بَلْ إذَا زَالَ الْمُبْطِلُ بَقِيَ مِلْكُ الْمَبِيعِ بِلَا مَانِعٍ مِنْ إيرَادِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ الْمَانِعِ مِنْ إيرَادِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَإِيجَادُهُ لَيْسَ هُوَ وُجُودُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ جَائِزًا مَعَ أَنَّهُ تَحَمَّلَ الضَّرَرَ بِالذَّبْحِ. أُجِيبُ بِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِعِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ لُزُومِ الضَّرَرِ فِي التَّسْلِيمِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُتَّصِلًا مُتَضَمِّنًا لَهُ خِلْقَةً وَالنَّصُّ يَمْنَعُهُ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالسَّمْنِ فِي اللَّبَنِ. وَقَدْ يُقَالُ: لَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِيمَا فِيهِ الْكَلَامُ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَزَالَ الْمَانِعَ بِالذَّبْحِ وَالْفَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ: يَتَنَاوَلُهُ بَعْدَ الْفَصْلِ النَّهْيُ عَنْهُ قَبْلَ الْفَصْلِ وَحِينَ وَقَعَ وَقَعَ مَنْهِيًّا. قُلْنَا: وَكَذَا الْجِذْعُ فِي السَّقْفِ سَوَاءٌ

(قَوْلُهُ وَضَرْبَةُ الْقَانِصِ) بِالرَّفْعِ وَالْجَرِّ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَهُ (وَهُوَ) الصَّائِدُ يَقُولُ بِعْتُك (مَا يَخْرُجُ مِنْ) إلْقَاءِ هَذِهِ (الشَّبَكَةِ مَرَّةً) بِكَذَا. وَقِيلَ بَالِغِينَ وَالْيَاءِ الْغَايِصُ. قَالَ فِي تَهْذِيبِ الْأَزْهَرِيِّ: نَهَى عَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ وَهُوَ الْغَوَّاصُ يَقُولُ أَغُوصُ غَوْصَةً فَمَا أُخْرِجُهُ

ص: 414

قَالَ (وَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى النَّخِيلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ مِثْلِ كَيْلِهِ خَرْصًا)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» فَالْمُزَابَنَةُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا؛ وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا تَجُوزُ بِطَرِيقِ الْخَرْصِ كَمَا إذَا كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ عَلَى هَذَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا وَهُوَ أَنْ يُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» . قُلْنَا: الْعَرِيَّةُ: الْعَطِيَّةُ لُغَةً، وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يَبِيعَ الْمُعْرَى لَهُ مَا عَلَى

مِنْ اللَّآلِئِ فَهُوَ لَك بِكَذَا فَهُوَ بَيْعٌ بَاطِلٌ لِعَدَمِ مِلْكِ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْعَقْدِ فَكَانَ غَرَرًا وَلِجَهَالَةِ مَا يَخْرُجُ

(قَوْلُهُ وَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى النَّخِيلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ مِثْلِ كَيْلِهِ خَرْصًا، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ») فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» . وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي لَفْظٍ: " وَزَعَمَ جَابِرٌ أَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ الرُّطَبِ فِي النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا. وَالْمُحَاقَلَةَ فِي الزَّرْعِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ بَيْعُ الزَّرْعِ الْقَائِمِ بِالْحَبِّ كَيْلًا ". وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُزَابَنَةِ» . وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (بِمِثْلِ كَيْلِهِ خَرْصًا) الْخَرْصُ الْحَزْرُ (وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ) لَا يَجُوزُ، وَمَعْنَى النَّهْيِ أَنَّهُ مَالُ الرِّبَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِتَسَاوِيهِمَا (كَمَا لَوْ كَانَا مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَجُوزُ) الْمُزَابَنَةُ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا (فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا» .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «رَخَّصَ عليه الصلاة والسلام

ص: 415

النَّخِيلِ مِنْ الْمُعْرِي بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ، وَهُوَ بَيْعٌ مَجَازًا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَيَكُونُ بُرًّا مُبْتَدَأً.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَزَةِ).

فِي بَيْعِ الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا». وَفِي لَفْظٍ «رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُؤْخَذَ بِمِثْلِ خَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا رُطَبًا» وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُبِحْهَا إلَّا لِلضَّرُورَةِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآثَارُ وَتَوَاتَرَتْ فِي الرُّخْصَةِ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فَقِبَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ جَمِيعًا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي صِحَّةِ مَجِيئَهَا وَلَكِنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي تَأْوِيلِهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: الْعَرَايَا أَنْ يَكُونَ لَهُ النَّخْلَةُ أَوْ النَّخْلَتَانِ فِي وَسَطِ النَّخْلِ الْكَثِيرِ لِرَجُلٍ آخَرَ. قَالُوا: وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إذَا كَانَ وَقْتُ الثِّمَارِ خَرَجُوا بِأَهْلَيْهِمْ إلَى حَوَائِطِهِمْ فَيَجِيءُ صَاحِبُ النَّخْلَةِ أَوْ النَّخْلَتَيْنِ فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ النَّخْلِ الْكَثِيرِ فَرَخَّصَ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَنْ يُعْطِيَهُ خَرْصَ مَالِهِ مِنْ ذَلِكَ تَمْرًا لِيَنْصَرِفَ هُوَ وَأَهْلُهُ عَنْهُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: فِيمَا سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ أَبِي عِمْرَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ نَخْلَةً مِنْ نَخْلِهِ فَلَا يُسَلِّمْ ذَلِكَ إلَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ ذَلِكَ وَيُعْطِيَهُ مَكَانَهُ بِخَرْصِهِ تَمْرًا. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهُ وَأَوْلَى مِمَّا قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْعَرِيَّةَ إنَّمَا هِيَ الْعَطِيَّةُ: أَلَا تَرَى إلَى الَّذِي مَدَحَ الْأَنْصَارَ كَيْفَ مَدَحَهُمْ إذْ يَقُولُ:

فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ

وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْحَوَائِجِ

أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْرُونَ فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحَ: أَيْ يَهَبُونَ وَلَوْ كَانَتْ كَمَا قَالَ مَا كَانُوا مَمْدُوحِينَ بِهَا إذْ كَانُوا يُعْطُونَ كَمَا يُعْطُونَ. وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ مُحَقِّقُو مَذْهَبِهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعَرِيَّةَ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُتَدَاوِلَةٌ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِهِمْ تَكُونُ الْعَرِيَّةُ مَعْنَاهَا النَّخْلَةُ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، وَتَخْصِيصُ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعْرُونَ هَذَا الْمِقْدَارَ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ هُوَ رُخْصَةُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إخْلَافِ الْوَعْدِ الَّذِي هُوَ ثُلُثُ النِّفَاقِ إعْطَاءُ هَذَا التَّمْرِ خَرْصًا وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْعُودِ دَفْعًا لِلضُّرِّ عَنْهُ. وَكَوْنُ إخْلَافِ الْوَعْدِ ثُلُثَ النِّفَاقِ نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ زَوِّجُوا بِنْتِي مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ كَانَ سَبَقَ إلَيْهِ مِنِّي شِبْهُ الْوَعْدِ فَلَا أَلْقَى اللَّهَ بِثُلُثِ النِّفَاقِ وَجَعَلَهُ ثُلُثًا لِحَدِيثٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «عَلَامَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إنْ حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِنْ وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِنْ اُؤْتُمِنَ خَانَ» وَأَمَّا مَا ذَكَرَ مِنْ تَأْوِيلِ الْعَرِيَّةِ الْإِمَامُ مُوَفَّقُ الدِّينِ رَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيَدٍ قَالَ:«قُلْت لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ؟ فَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي وَلَا نَقْدَ بِأَيْدِيهِمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ رُطَبًا يَأْكُلُونَهُ وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مِنْ التَّمْرِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرِيَّةَ بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ فَيَأْكُلُونَهُ رُطَبًا» وَقَالَ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَقَدْ وَهَمَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بَلْ وَلَا فِي السُّنَنِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ. قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ مُخَرِّجُ الْحَدِيثِ: وَلَمْ أَجِدْ لَهُ سَنًا بَعْدَ الْفَحْصِ الْبَالِغِ، وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ فِي بَابِ الْعَرَايَا مِنْ غَيْرِ إسْنَادٍ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْمُلَامَسَةِ)

ص: 416

وَهَذِهِ بُيُوعٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَرَاوَضَ الرَّجُلَانِ عَلَى سِلْعَةٍ: أَيْ يَتَسَاوَمَانِ، فَإِذَا لَمَسَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ نَبَذَهَا إلَيْهِ الْبَائِعُ أَوْ وَضَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا حَصَاةً لَزِمَ الْبَيْعُ؛ فَالْأَوَّلُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالثَّانِي الْمُنَابَذَةُ، وَالثَّالِثُ إلْقَاءُ الْحَجَرِ، «وَقَدْ نَهَى عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقًا بِالْخَطَرِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ) لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ؛ وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِفُرُوعِهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَرَاعِي وَلَا إجَارَتُهَا) الْمُرَادُ الْكَلَأُ، أَمَّا الْبَيْعُ فَلِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُهُ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ بِالْحَدِيثِ،

إلَى قَوْلِهِ (وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى آخِرِهِ) فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ» زَادَ مُسْلِمٌ: أَمَّا الْمُلَامَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ فَيَلْزَمُ اللَّامِسَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لَهُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا بِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا فِي ظُلْمَةٍ أَوْ يَكُونَ مَطْوِيًّا مَرْئِيًّا مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمَسَهُ فَقَدْ بَاعَهُ وَفَسَادُهُ لِتَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمَسَهُ وَجَبَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ عَلَى جَعْلِ النَّبْذِ بَيْعًا، وَهَذِهِ كَانَتْ بُيُوعًا يَتَعَارَفُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَذَا إلْقَاءُ الْحَجَرِ أَنْ يُلْقِيَ حَصَاةً وَثَمَّةَ أَثْوَابٌ فَأَيُّ ثَوْبٍ وَقَعَ عَلَيْهِ كَانَ الْمَبِيعُ بِلَا تَأَمُّلٍ وَرَوِيَّةٍ وَلَا خِيَارَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْبِقَ تَرَاوُضُهُمَا عَلَى الثَّمَنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَبِيعِ مُعَيَّنًا فَإِذَا تَرَاوَضَا فَأَلْقَاهُ إلَيْهِ الْبَائِعُ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَعْنَى النَّهْيِ مَا فِي كُلٍّ مِنْ الْجَهَالَةِ وَتَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى إذَا وَقَعَ حَجَرِي عَلَى ثَوْبٍ فَقَدْ بِعْته مِنْك أَوْ بِعْتنِيهِ بِكَذَا أَوْ إذَا لَمَسْته أَوْ نَبَذْته. وَالتَّسَاوُمُ تَفَاعُلٌ مِنْ السَّوْمِ سَامَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ عَرَضَهَا لِلْبَيْعِ وَذَكَرَ ثَمَنَهَا وَسَامَهَا الْمُشْتَرِي بِمَعْنَى اسْتَامَهَا سَوْمًا، وَمِنْهُ «لَا يَسُومُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» أَيْ لَا يَطْلُبْ الْبَيْعَ وَيُرَاوِضْ فِيهِ حَالَ مُرَاوَضَة أَخِيهِ فِيهِ لَا أَنَّهُ بِمَعْنَى لَا يَشْتَرِي كَمَا قِيلَ، بَلْ نَهْيُهُ عَنْ السَّوْمِ يَثْبُتُ الْتِزَامًا لِأَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ التَّكَلُّمِ فِي الشِّرَاءِ فَكَيْفَ بِحَقِيقَةِ الشِّرَاءِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ) لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك وَاحِدًا مِنْهُمَا عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ تَأْخُذُ أَيَّهُمَا شِئْت فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا بِفُرُوعِهَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَرَاعِي) ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْكَلَإِ دَفْعًا لِوَهْمِ أَنْ يُرَادَ مَكَانُ الرَّعْيِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ (وَلَا إجَارَتُهَا، أَمَّا الْبَيْعُ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَلَى

ص: 417

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مَا لَا يَمْلِكُهُ لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهِ) اشْتِرَاكَ إبَاحَةٍ لَا مِلْكٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ لِلْمُشْتَرِي فَائِدَةٌ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمِلْكِ يَحْصُلُ بِلَا بَيْعٍ إذْ يَتَمَلَّكُهُ بِدُونِهِ (لِلْحَدِيثِ) الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي الْبُيُوعِ عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي خِرَاشِ بْنِ حِبَّانَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم قَالَ: غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا فَكُنْت أَسْمَعُهُ يَقُولُ «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ، وَالنَّارِ، وَالْكَلَإِ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُمَا قَالَا فِي حَرِيزٍ ثِقَةٌ وَجَهَالَةُ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ، وَمَعْنَى الشَّرِكَةِ فِي النَّارِ الِاصْطِلَاءُ بِهَا وَتَجْفِيفُ الثِّيَابِ: يَعْنِي إذَا أَوْقَدَ رَجُلٌ نَارًا فَلِكُلٍّ أَنْ يَصْطَلِيَ بِهَا، أَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمْرَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ. وَمَعْنَاهُ فِي الْمَاءِ الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ وَالِاسْتِقَاءُ مِنْ الْآبَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ. وَفِي الْكَلَإِ أَنَّ لَهُ احْتِشَاشَهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، غَيْرَ أَنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ، فَإِذَا مَنَعَ فَلِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ إنَّ لِي فِي أَرْضِكَ حَقًّا، فَإِمَّا أَنْ تُوصِلَنِي إلَيْهِ أَوْ تَحُشَّهُ أَوْ تَسْتَقِيَ وَتَدْفَعَهُ لِي وَصَارَ كَثَوْبِ رَجُلٍ وَقَعَ فِي دَارِ رَجُلٍ إمَّا أَنْ يَأْذَنَ لِلْمَالِكِ فِي دُخُولِهِ لِيَأْخُذَهُ وَإِمَّا أَنْ يُخْرِجَهُ إلَيْهِ. أَمَّا إذَا أَحْرَزَ الْمَاءَ بِالِاسْتِقَاءِ فِي آنِيَةٍ وَالْكَلَأَ بِقَطْعِهِ جَازَ حِينَئِذٍ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ مَلَكَهُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا إذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ سَقَى الْأَرْضَ وَأَعَدَّهَا لِلْإِنْبَاتِ فَنَبَتَتْ فَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَالنَّوَازِلِ يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَهُوَ مُخْتَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ، وَكَذَا ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ نَبَتَ الْكَلَأُ بِإِنْبَاتِهِ جَازَ بَيْعُهُ، وَكَذَا لَوْ حَدَّقَ حَوْلَ أَرْضِهِ وَهَيَّأَهَا لِلْإِنْبَاتِ حَتَّى نَبَتَ الْقَصَبُ صَارَ مِلْكًا لَهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كَمْأَةٍ فِي أَرْضِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْلَعَهَا وَلَا مَاءٍ.

وَقَالَ الْقُدُورِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلَإِ فِي أَرْضِهِ وَإِنْ سَاقَ الْمَاءَ إلَى أَرْضِهِ وَلَحِقَتْهُ مُؤْنَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِيهِ ثَابِتَةٌ، وَإِنَّمَا تَنْقَطِعُ بِالْحِيَازَةِ وَسَوْقُ الْمَاءِ إلَى أَرْضِهِ لَيْسَ بِحِيَازَةٍ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْأَوَّلِ، إلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ يَنْبَغِي أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ يَمْلِكُ بِنَاءَهَا وَيَكُونُ بِتَكَلُّفِ الْحَفْرِ وَالطَّيِّ لِتَحْصِيلِ الْمَاءِ يَمْلِكُ الْمَاءَ كَمَا يَمْلِكُ الْكَلَأَ بِتَكَلُّفِهِ سَوْقَ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ لِيَنْبُتَ فَلَهُ مَنْعُ الْمُسْتَقِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ. ثُمَّ الْكَلَأُ ذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ وَمَا لَهُ سَاقٌ لَيْسَ كَلَأً، وَكَانَ الْفَضْلِيُّ يَقُولُ: هُوَ أَيْضًا كَلَأٌ. وَفِي الْمُغْرِبِ: هُوَ كُلُّ

ص: 418

وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُبَاحٍ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مَمْلُوكٍ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا لَا يَجُوزُ فَهَذَا أَوْلَى.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَجُوزُ إذَا كَانَ مُحْرَزًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْكَلُ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالزَّنَابِيرِ وَالِانْتِفَاعُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ لَا بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ كُوَّارَةً فِيهَا عَسَلٌ بِمَا فِيهَا مِنْ النَّحْلِ يَجُوزُ

مَا رَعَتْهُ الدَّوَابُّ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ وَهُوَ وَاحِدُ الْأَكْلَاءِ (وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلِأَنَّهَا) لَوْ صَحَّتْ مَلَكَ بِهَا الْأَعْيَانَ، وَحُكْمُهَا لَيْسَ إلَّا مِلْكُ الْمَنَافِعِ. نَعَمْ إذَا كَانَتْ الْأَعْيَانُ آلَةً لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ الْمُسْتَحَقِّ كَالصَّبْغِ وَاللَّبَنِ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ فَيَمْلِكُ بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ تَبَعًا، أَمَّا ابْتِدَاءً فَلَا (وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا لَا يَجُوزُ) مَعَ أَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ (فَهَذَا أَوْلَى)؛ لِأَنَّهَا عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَهَلْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ؟ ذَكَرَ فِي الشُّرْبِ أَنَّهَا فَاسِدَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ الْآجِرُ الْأُجْرَةَ بِالْقَبْضِ وَيُنَفِّذَ عِتْقَهُ فِيهِ، وَقِيلَ فِي لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ إنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ عَيْنَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ. وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَرْضَ لِيَضْرِبَ فِيهَا فُسْطَاطَهُ أَوْ لِيَجْعَلَهُ حَظِيرَةً لِغَنَمِهِ ثُمَّ يَسْتَبِيحَ الْمَرْعَى فَيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا

(قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إذَا كَانَ مُحْرَزًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله؛ (لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا) مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ إذَا كَانَ مُحْرَزًا (فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْكَلُ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ) يَجُوزُ بَيْعُهُمَا وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِمَا وَالْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِمَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ) كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَزَغِ وَالْعَقْرَبِ وَالزُّنْبُورِ وَالْحَيَّةِ، وَهَذَا وَهُوَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْهَوَامِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ (وَ) إنَّمَا (الِانْتِفَاعُ بِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ لَا بِعَيْنِهِ) بِخِلَافِ الْجَحْشِ فَإِنَّهُ

ص: 419

تَبَعًا لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رحمه الله.

(وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَجُوزُ إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْقَزُّ تَبَعًا لَهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. وَقِيلَ أَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله كَمَا فِي دُودِ

يُنْتَفَعُ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ قَبْلَ حُدُوثِ مَا يَتَوَلَّدُهُ مِنْهُ، فَقَبْلَ حُدُوثِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بَلْ هُوَ فِي نَفْسِهِ هَامَةً مِنْ الْهَوَامِّ، وَلِذَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا بِكَمْ يَرُدُّهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ النَّحْلَ لَا قِيمَةَ لَهَا، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ تَبَعًا لِكُوَّارَةٍ فِيهَا عَسَلٌ وَهُوَ فِيهَا جَازَ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ. وَقَالَ الْقُدُورِيُّ: إنَّهُ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَقُولُ: إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَأَتْبَاعِهِ، وَالنَّحْلُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْعَسَلِ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي جَامِعِهِ هَذَا التَّعْلِيلَ بِعَيْنِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَالتَّبَعِيَّةُ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْحُقُوقِ كَالْمَفَاتِيحِ فَالْعَسَلُ تَابِعٌ لِلنَّحْلِ فِي الْوُجُودِ وَالنَّحْلُ تَابِعٌ لَهُ فِي الْمَقْصُودِ بِالْبَيْعِ وَالْكُوَّارَةُ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِعْسَلُ النَّحْلِ إذَا سُوِّيَ مِنْ طِينٍ. وَفِي التَّهْذِيبِ: كُوَارَةُ النَّحْلِ مُخَفَّفَةٌ، وَفِي الْمُغْرِبِ بِالْكَسْرِ مِنْ غَيْرِ تَشْدِيدٍ، وَقَيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِفَتْحِ الْكَافِ وَفِي الْغَرِيبَيْنِ بِالضَّمِّ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْقَزُّ تَبَعًا لَهُ) وَأَجَازَ بَيْعَ بَذْرِ الْقَزِّ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الدُّودُ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ) وَأَجَارَ السَّلَمَ فِيهِ كَيْلًا إذَا كَانَ وَقْتُهُ وَجَعَلَ مُنْتَهَى الْأَجَلِ فِي وَقْتِهِ. وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ فَقَبْلَهُ يَكُونُ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ وَالْكَلَامُ فِي بَيْعِهِ حِينَئِذٍ، وَالْوَجْهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِلْعَادَةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَقَدْ ضَمَّنَ مُحَمَّدٌ مُتْلِفَ كُلٍّ مِنْ النَّحْلِ وَدُودِ الْقَزِّ. وَفِي الْخُلَاصَةِ فِي بَيْعِهِمَا قَالَ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ مُحَمَّدًا نَاسَبَ أَصْلَهُ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ النَّحْلِ فِي الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بِعَدَمِهِ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَجِبُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي النَّحْلِ، وَمَا قَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ فِي النَّحْلِ عَنْ الْكَرْخِيِّ بِجَوَازِهِ إذَا بِيعَ تَبَعًا لِلْكُوَّارَةِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ حِينَئِذٍ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي دُودِ

ص: 420

الْقَزِّ وَالْحَمَامِ إذَا عَلِمَ عَدَدَهَا وَأَمْكَنَ تَسْلِيمُهَا جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ مَالٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ.

(وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ) لِنَهْيِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ (إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ رَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ عِنْدَهُ) لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعُ آبِقٍ مُطْلَقٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ آبِقًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهَذَا غَيْرُ آبِقٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي انْتَفَى الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهُوَ الْمَانِعُ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ وَكَانَ أَشْهَدَ عِنْدَهُ أَخَذَهُ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يُشْهِدْ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّهُ قَبْضُ غَصْبٍ، لَوْ قَالَ هُوَ

الْقَزِّ بَلْ يَقُولَانِ مَعًا إنْ كَانَ وَحْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَوَامِّ. وَإِنْ كَانَ تَبَعًا لِلْقَزِّ فَيَقُولَانِ بِالْجَوَازِ فِيهِمَا فَلَا مَعْنَى لِإِفْرَادِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ، وَقِرَانِ أَبِي يُوسُفَ مَعَهُ فِي تِلْكَ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ مَا سِوَاهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْوَزَغِ وَالْعَظَايَةِ وَالْقَنَافِذِ وَالْجُعْلِ وَالضَّبِّ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الْبَحْرِ إلَّا السَّمَكَ كَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ وَالسُّلَحْفَاةِ وَفَرَسِ الْبَحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ الدُّودُ وَوَرَقُ التُّوتِ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَزُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَمَلُ مِنْهُمَا وَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَفِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ: امْرَأَةٌ أَعْطَتْ امْرَأَةً بَذْرَ الْقَزِّ وَهُوَ بَذْرُ الْفَيْلَقِ بِالنِّصْفِ فَقَامَتْ عَلَيْهِ حَتَّى أَدْرَكَ فَالْفَيْلَقِ لِصَاحِبَةِ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ مِنْ بَذْرِهَا وَلَهَا عَلَى صَاحِبَةِ الْبَذْرِ قِيمَةُ الْأَوْرَاقِ وَأَجْرُ مِثْلِهَا، وَمِثْلُهُ إذَا دَفَعَ بَقَرَةً إلَى آخَرَ يَعْلِفُهَا لِيَكُونَ الْحَادِثُ بَيْنَهَا بِالنِّصْفِ فَالْحَادِثُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَقَرَةِ وَلَهُ عَلَى صَاحِبِ الْبَقَرَةِ ثَمَنُ الْعَلَفِ وَأَجْرُ مِثْلِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ الدَّجَاجَ لِيَكُونَ الْبَيْضُ بِالنِّصْفِ (قَوْلُهُ وَالْحَمَامُ إذَا عَلِمَ عَدَدَهَا وَأَمْكَنَ تَسْلِيمُهَا جَازَ بَيْعُهَا) أَمَّا إذَا كَانَتْ فِي بُرُوجِهَا وَمَخَارِجُهَا مَسْدُودَةٌ فَلَا إشْكَالَ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي حَالِ طَيَرَانِهَا وَمَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ أَنَّهَا تَجِيءُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ عَادَةً كَالْوَاقِعِ فَكَانَ مَمْلُوكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَتَجْوِيزُ كَوْنِهِ لَا يَعُودُ أَوْ عُرُوضِ عَدَمِ عَوْدِهِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كَتَجْوِيزِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، ثُمَّ إذَا عَرَضَ الْهَلَاكُ انْفَسَخَ كَذَا هُنَا إذَا فُرِضَ وُقُوعُ عَدَمِ الْمُعْتَادِ مِنْ عَوْدِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ وَصَارَ كَالظَّبْيِ الْمُرْسَلِ فِي بَرٍّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَعُودَ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ) الْآبِقُ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَيَجُوزُ عِتْقُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ اُشْتُرِطَ الْعِلْمُ بِحَيَاتِهِ وَتَجُوزُ هِبَتُهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ لَيَتِيمٍ فِي حِجْرِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ عَقِيبَ الْبَيْعِ وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْيَدِ يَصْلُحُ لِقَبْضِ الْهِبَةِ وَلَا يَصْلُحُ لِقَبْضِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِإِزَاءِ مَالٍ مَقْبُوضٍ مِنْ مَالِ الِابْنِ، وَهَذَا قَبْضٌ لَيْسَ بِإِزَائِهِ مَالٌ يَخْرُجُ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ فَكُفَّتْ تِلْكَ الْيَدُ لَهُ نَظَرًا

ص: 421

عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي فَبَاعَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ آبِقٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.

وَلَوْ بَاعَ الْآبِقَ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْإِبَاقِ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَتِمُّ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُفْسَخْ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَانِعَ قَدْ ارْتَفَعَ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، كَمَا إذَا أَبَقَ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَهَكَذَا

لِلصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ لَوْ عَادَ عَادَ عَلَى مِلْكِ الصَّغِيرِ وَلِهَذَا أَجَزْنَا بَيْعَهُ مِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لِثُبُوتِ التَّسْلِيمِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ ثُبُوتُ التَّسَلُّمِ، فَإِذَا كَانَ ثَابِتًا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَاءَ الْمُشْتَرِي بِرَجُلٍ مَعَهُ وَقَالَ عَبْدُك الْآبِقُ عِنْدَ هَذَا فَبِعْنِيهِ وَأَنَا أَقْبِضُهُ مِنْهُ وَاعْتَرَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ فِعْلُ غَيْرِهِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ. وَإِذَا جَازَ بَيْعُهُ هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا فِي الْحَالِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ فَوَجَدَهُ هَلَكَ بَعْدَ وَقْتِ الْبَيْعِ يَتِمُّ الْقَبْضُ وَالْبَيْعُ إنْ كَانَ حِينَ قَبَضَهُ أَشْهَدَ أَنَّهُ قَبَضَ هَذَا لِيَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ هَذَا قَبْضُ أَمَانَةٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى سَيِّدِهِ لَا يَضْمَنُهُ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ، فَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ.

وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ يَصِيرُ قَابِضًا؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ إذَا لَمْ يُشْهِدْ قَبْضُ غَصْبٍ وَهُوَ قَبْضُ ضَمَانٍ كَقَبْضِ الْبَيْعِ، وَلَوْ عَادَ مِنْ إبَاقِهِ وَقَدْ بَاعَهُ مِمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ هَلْ يَعُودُ الْبَيْعُ جَائِزًا إذَا سَلَّمَهُ؟ فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَعُودُ صَحِيحًا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ، كَمَا إذَا بَاعَ خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ بَاعَ طَيْرًا فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ لَا يَعُودُ صَحِيحًا، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَهُوَ مُخْتَارُ مَشَايِخِ بَلْخٍ وَالثَّلْجِيِّ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ يَجِبُ كَوْنُهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ وَالْمِلْكِ فِي الْآبِقِ، وَلِذَا صَحَّ عِتْقُهُ فَكَانَ كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ إذَا افْتَكَّهُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ وَفَسَخَ الْقَاضِي لِلْبَيْعِ، وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ حَتَّى إذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ تَسْلِيمِهِ أَوْ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبُولِهِ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقَدْ وُجِدَ قَبْلَ الْفَسْخِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ أَنْ فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ أَوْ تَخَاصَمَا فَإِنَّهُ لَا يَعُودُ صَحِيحًا اتِّفَاقًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ فَالْحَقُّ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ وَالْمَشَايِخِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّهُ بَاطِلٌ أَوْ فَاسِدٌ، فَإِنَّك عَلِمْت أَنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ الْفَسَادِ، وَارْتِفَاعُ الْمُبْطِلِ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ الْبُطْلَانِ بَلْ مَعْدُومًا، فَوَجْهُ الْبُطْلَانِ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ. وَوَجْهُ الْفَسَادِ قِيَامُ الْمَالِيَّةِ وَالْمِلْكِ.

وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ مُفْسِدٌ لَا مُبْطِلٌ وَهَذَا مِمَّا يُخَرَّجُ فِيهِ الْخِلَافُ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ أَخَذَهُ بَعْدَ بَيْعِهِ وَسَلَّمَهُ؛ فَطَائِفَةٌ مَعَ الْكَرْخِيِّ يَعُودُ جَائِزًا وَالْبَلْخِيُّونَ لَا يَعُودُ جَائِزًا، فَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ قَائِلٌ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَقَوْلُ مَنْ

ص: 422

يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله.

قَالَ (وَلَا بَيْعُ لَبَنِ امْرَأَةٍ فِي قَدَحٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ، وَلَنَا أَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ وَهُوَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ

قَالَ الْمَحَلِّيَّةُ كَوْنُهُ مَالًا مَمْلُوكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، إنْ عَنِيَ مَحَلِّيَّةَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَنَعَمْ وَإِلَّا فَلَا، بَلْ مَحِلُّ الْبَيْعِ الْمَالُ الْمَمْلُوكُ لِلْبَائِعِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَنَافِذٌ أَوْ لِغَيْرِهِ فَمَوْقُوفٌ، وَالنَّافِذُ إمَّا صَحِيحٌ إنْ كَانَ مَبِيعُهُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَإِلَّا فَفَاسِدٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الْآبِقِ فَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَخْبَرَنَا سُوَيْد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَبُو الْأَشْهَبِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَمَّا فِي ضُرُوعِهَا، وَعَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ فِيهِ جَهْضَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَبْدِيِّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَرْفَعُهُ إلَى أَنْ قَالَ: «وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ، وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقَسَّمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ، وَعَنْ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ» وَشَهْرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ مَجْهُولٌ، وَقِيلَ فِيهِ انْقِطَاعٌ أَيْضًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُضَعِّفَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ

(قَوْلُهُ وَلَا بَيْعُ لَبَنِ امْرَأَةٍ فِي قَدَحٍ) هَذَا الْقَيْدُ لِبَيَانِ مَنْعِ بَيْعِهِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ مَحَلِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي قَدَحٍ إلَّا بَعْدَ انْفِصَالِهِ، أَمَّا عَيْنُ الْقَدَحِيَّةِ فَلَيْسَ قَيْدًا بَلْ سَائِرُ الْأَوَانَيْ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَيْدٌ بِاعْتِبَارِ لَازِمِهِ وَهُوَ انْفِصَالُهُ عَنْ مَقَرِّهِ كَيْ لَا يُظَنَّ أَنَّ امْتِنَاعَ بَيْعِهِ مَا دَامَ فِي الضَّرْعِ كَغَيْرِهِ بَلْ عَلَى سَائِرِ أَحْوَالِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ) فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّهُ مَشْرُوبٌ مُطْلَقًا بَلْ لِلضَّرُورَةِ حَتَّى إذَا اسْتَغْنَى عَنْ الرَّضَاعِ لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ يَحْرُمُ حَتَّى مَنَعَ بَعْضُهُمْ صَبَّهُ فِي الْعَيْنِ الرَّمْدَاءِ وَبَعْضُهُمْ أَجَازَهُ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ دَوَاءٌ عِنْدَ الْبُرْءِ (وَ) نَقُولُ (هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّ مُكَرَّمٌ

ص: 423

مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ بِالْبَيْعِ، وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا فَكَذَا عَلَى جُزْئِهَا.

قُلْنَا: الرِّقُّ قَدْ حَلَّ نَفْسَهَا، فَأَمَّا اللَّبَنُ فَلَا رِقَّ فِيهِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَحِلٍّ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْقُوَّةُ الَّتِي هِيَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْحَيُّ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ.

مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ بِالْبَيْعِ، وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ وَلَبَنِ الْأَمَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي لَبَنِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى كُلِّهَا فَيَجُوزُ عَلَى جُزْئِهَا. قُلْنَا) الْجَوَازُ يَتْبَعُ الْمَالِيَّةَ وَلَا مَالِيَّةَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا كَانَ مَحِلًّا لِلرِّقِّ (وَهُوَ لِلْحَيِّ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ)؛ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ قُوَّةٌ شَرْعِيَّةٌ حَاصِلُهَا قُدْرَةٌ تَثْبُتُ لَهُ شَرْعًا عَلَى تَصَرُّفَاتٍ شَرْعِيَّةٍ تَرِدُ عَلَى الرِّقِّ فَتَرْفَعُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ اتِّحَادِ مَحَلِّهِمَا وَلَيْسَ اللَّبَنُ مَحَلَّ تِلْكَ الْقُدْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: أَجْزَاءُ الْآدَمِيِّ مَضْمُونَةٌ فَيَجِبُ كَوْنُ اللَّبَنِ كَذَلِكَ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ. أُجِيبُ بِمَنْعِ ضَمَانِ إجْزَائِهِ مُطْلَقًا بَلْ الْمَضْمُونُ مَا انْتَقَصَ مِنْ الْأَصْلِ، حَتَّى لَوْ نَبَتَ السِّنُّ الَّتِي قُلِعَتْ لَا ضَمَانَ إلَّا مَا يَسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِضْ شَيْئًا تَغْلِيظًا لِأَمْرِ الْبُضْعِ فَجَعَلَ مَا يُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ النَّفْسِ، بِخِلَافِ مَنْ جَزَّ صُوفَ شَاةٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ نَبَتَ غَيْرُهُ، وَبِإِتْلَافِ اللَّبَنِ لَا يُنْتَقَصُ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِشُرْبِهِ، فَفِي إشَاعَتِهِ بِبَيْعِهِ فَتْحٌ لَبَابِ فَسَادِ الْأَنْكِحَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى ضَبْطِ الْمُشْتَرِينَ وَالْبَائِعِينَ فَيَشِيعُ فَسَادُ الْأَنْكِحَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَنْدَفِعُ إذَا كَانَتْ حُرْمَةُ شُرْبِهِ شَائِعَةً بِالدَّارِ فَيَعْلَمَ أَنَّ شِرَاءَهُ لَيْسَ إلَّا لِمَنْفَعَةٍ أُخْرَى كَشِرَاءِ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ بَعْدَ اشْتِهَارِ حُرْمَةِ وَطْئِهَا شَرْعًا لَكِنَّهُمْ يُجِيزُونَ شُرْبَهُ لِلْكَبِيرِ. هَذَا وَقَدْ أَسْنَدَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ إلَى مُحَمَّدٍ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ قَالَ: سَمِعْت الْفَقِيهَ أَبَا جَعْفَرٍ يَقُولُ: سَمِعْت الْفَقِيهَ أَبَا الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنَ حَمٍّ قَالَ: قَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ سَيْهُوبٍ يَقُولُ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: جَوَازُ إجَارَةِ الظِّئْرِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ بَيْعِ لَبَنِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْإِجَارَةُ ثَبَتَ أَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الْمَنَافِعِ وَلَيْسَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالًا لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً عَلَى أَنْ يَشْرَبَ لَبَنَهَا لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ، فَلَمَّا جَازَ إجَارَةُ الظِّئْرِ ثَبَتَ أَنَّ لَبَنَهَا لَيْسَ مَالًا. هَذَا وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ فَإِنَّمَا عَلَّلَ لِلْمَنْعِ بِأَنَّ

ص: 424

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ) لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إهَانَةً لَهُ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْخَرْزِ لِلضَّرُورَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ، وَيُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْبَيْعِ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يُفْسِدُهُ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْإِطْلَاقَ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَحَالَةُ الْوُقُوعِ تُغَايِرُهَا.

(وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شُعُورِ الْإِنْسَانِ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا) لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ لَا مُبْتَذَلٌ فَلَا يَجُوزُ

الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَلَا يُبْتَذَلُ بِالْبَيْعِ وَسَيَأْتِي بَاقِيهِ

(قَوْلُهُ وَلَا بَيْعُ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إهَانَةً لَهُ). أُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيْعَ هُنَا فِي لَبَنِ الْمَرْأَةِ إهَانَةً مَانِعَةً مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لِلُزُومِ الْإِكْرَامِ وَالْبَيْعُ يَنْفِيهِ، وَجَعَلَهُ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إعْزَازًا فَبَطَلَ لِلُزُومِ الْإِهَانَةِ شَرْعًا وَالْبَيْعُ إعْزَازٌ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ، الْجَوَابُ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحِلٍّ إهَانَةً وَبِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ إكْرَامٌ. مَثَلًا: لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بَعْضَ سَائِسِي الدَّوَابِّ أَنْ يُلَازِمَ الْوُقُوفَ بِالْحَضْرَةِ مَعَ الْوَاقِفِينَ كَانَ غَايَةَ الْإِكْرَامِ لَهُ، وَلَوْ أَمَرَ الْقَاضِي بِذَلِكَ كَانَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ لَهُ، فَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فِي غَايَةِ الْإِهَانَةِ شَرْعًا، فَلَوْ جُعِلَ مَبِيعًا مُقَابَلًا بِبَدَلٍ مَعْزُوزٍ كَالدَّرَاهِمِ أَوْ الثِّيَابِ كَانَ غَايَةَ إكْرَامِهِ وَالْآدَمِيُّ مُكَرَّمٌ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَإِبْدَالُهُ بِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِالْجَمَادَاتِ إذْلَالٌ لَهُ. هَذَا وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ بِالنَّجَاسَةِ لِمَنْعِ الْبَيْعِ يَرِدُ عَلَيْهِ بَيْعُ السِّرْقِينِ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ بِالِانْتِفَاعِ وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ وُجُودِهِ مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا تَنَافِي (ثُمَّ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلضَّرُورَةِ) فَإِنَّ الْخَرَّازِينَ لَا يَتَأَتَّى لَهُمْ ذَلِكَ الْعَمَلُ بِدُونِهِ (وَ) هُوَ (يُوجَدُ مُبَاحَ الْأَصْلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيْعِهِ) فَلَمْ يَكُنْ بَيْعُهُ فِي مَحِلِّ الضَّرُورَةِ حَتَّى يَجُوزَ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بِالشِّرَاءِ جَازَ شِرَاؤُهُ لِشُمُولِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا إنَّ الضَّرُورَةَ لَيْسَتْ ثَابِتَةً فِي الْخَرْزِ بِهِ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَامَ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ كَانَ ابْن سِيرِينَ لَا يَلْبَسُ خُفًّا خُرِزَ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ كَرَاهَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ يَتَأَتَّى بِدُونِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ فَرْدٌ تَحَمَّلَ مَشَقَّةً فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ الْعُمُومَ حَرَجًا مِثْلُهُ ثُمَّ (قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَفْسَدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَنْجُسُ بِهِ؛ لِأَنَّ حِلَّ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ) وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّاهَا وَهِيَ فِي الْخَرْزِ فَتَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَقَطْ كَذَلِكَ، وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ جَوَازِ صَلَاةِ الْخَرَّازِينَ مَعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدَّرَاهِمِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَرَّجَ عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ فِي حَقِّهِمْ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا وَهُوَ الْوَجْهُ، فَإِنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَدْعُهُمْ إلَى أَنْ يَعْلَقَ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ وَيَتَجَمَّعَ عَلَى ثِيَابِهِمْ هَذَا الْمِقْدَارُ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَعْرِ الْإِنْسَانِ) مَعَ قَوْلِنَا بِطَهَارَتِهِ (وَالِانْتِفَاعِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ غَيْرُ مُبْتَذَلٍ فَلَا يَجُوزُ

ص: 425

أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُهَانًا وَمُبْتَذَلًا وَقَدْ قَالَ: عليه الصلاة والسلام «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» الْحَدِيثُ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْ الْوَبَرِ فَيَزِيدُ فِي قُرُونِ النِّسَاءِ وَذَوَائِبِهِنَّ.

قَالَ (وَلَا بَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ)

أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُهَانًا وَمُبْتَذَلًا) وَفِي بَيْعِهِ إهَانَةٌ، وَكَذَا فِي امْتِهَانِهِ بِالِانْتِفَاعِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةِ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ» ، فَالْوَاصِلَةُ هِيَ الَّتِي تَصِلُ الشَّعْرَ بِشَعْرِ النِّسَاءِ، وَالْمُسْتَوْصِلَةُ الْمَعْمُولُ بِهَا بِإِذْنِهَا وَرِضَاهَا، وَهَذَا اللَّعْنُ لِلِانْتِفَاعِ بِمَا لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ رَخَّصَ فِي اتِّخَاذِ الْقَرَامِيلِ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْوَبَرِ لِيَزِيدَ فِي قُرُونِ النِّسَاءِ لِلتَّكْثِيرِ، فَظَهَرَ أَنَّ اللَّعْنَ لَيْسَ لِلتَّكْثِيرِ مَعَ عَدَمِ الْكَثْرَةِ وَإِلَّا لَمَنَعَ الْقَرَامِيلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الزِّينَةَ حَلَالٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} فَلَوْلَا لُزُومُ الْإِهَانَةِ بِالِاسْتِعْمَالِ لَحَلَّ وَصْلُهَا بِشُعُورِ النِّسَاءِ أَيْضًا. وَفِي الْحَدِيثِ «لَعَنَ اللَّهُ النَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ» أَيْضًا وَالنَّامِصَةُ هِيَ الَّتِي تَنْقُشُ الْحَاجِبَ لِتُرِقَّهُ، وَالْمُتَنَمِّصَةُ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَلَا بَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ)

ص: 426

لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ» وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ) لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ بِالدِّبَاغِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَعَصَبِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ كُلِّهِ)؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ لَا يَحِلُّهَا الْمَوْتُ؛ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْفِيلُ كَالْخِنْزِيرِ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ حَتَّى يُبَاعُ عَظْمُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلُوُّ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ عُلُوَّهُ لَمْ يَجُزْ)

لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ» وَتَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ تَقْرِيرُهُ وَتَخْرِيجُهُ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا، فَإِنْ قِيلَ: نَجَاسَتُهَا لَيْسَتْ إلَّا لِمَا يُجَاوِرُهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ فَهِيَ مُتَنَجِّسَةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهَا كَالثَّوْبِ النَّجِسِ. أُجِيبُ بِأَنَّ الْمُنَجَّسَ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَمَا لَمْ يُزَايِلْهُ فَهِيَ كَعَيْنِ الْجِلْدِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجِلْدُ نَجِسَ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ وَالدُّهْنِ النَّجِسِ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ فِيهِ عَارِضَةٌ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الثَّوْبِ بِمَا فِيهِ. وَهَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَوَّلًا لِيُحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَا عَلَّلَ الْمَنْعَ إلَّا بِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ عَلَّلَ بِالنَّجَاسَةِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّلَ بِهَا بُطْلَانُ بَيْعٍ أَصْلًا، فَإِنَّ بُطْلَانَ الْبَيْعِ دَائِرٌ مَعَ حُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ وَهِيَ عَدَمُ الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّ بَيْعَ السِّرْقِينِ جَائِزٌ وَهُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا جَوَازُ بَيْعِهَا بَعْدَ الدِّبَاغَةِ فَلِحِلِّ الِانْتِفَاعِ بِهَا حِينَئِذٍ شَرْعًا، وَالْحُكْمُ بِطَهَارَتِهَا زِيَادَةٌ تَثْبُتُ شَرْعًا عَلَى خِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ وَتَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ (وَيَجُوزُ بَيْعُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَعَصَبِهَا وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا) وَرِيشِهَا وَمِنْقَارِهَا وَظِلْفِهَا وَحَافِرِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ طَاهِرَةٌ لَا تَحِلُّهَا الْحَيَاةُ فَلَا يَحِلُّهَا الْمَوْتُ وَتَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ (قَوْلُهُ وَالْفِيلُ كَالْخِنْزِيرِ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ هُوَ كَسَائِرِ السِّبَاعِ نَجِسُ السُّؤْرِ وَاللَّحْمِ لَا الْعَيْنِ فَيَجُوزُ بَيْعُ عَظْمِهِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَمْلِ وَالْمُقَاتَلَةِ وَالرُّكُوبِ فَكَانَ كَالْكَلْبِ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ. قِيلَ وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى لِفَاطِمَةَ سِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ وَظَهَرَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ» ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي عِظَامِ الْمَيْتَةِ نَحْوِ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ: أَدْرَكْت نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا وَيَدْهُنُونَ فِيهَا لَا يَرَوْنَ بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَإِبْرَاهِيمُ لَا بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْعَ بَيْعِ الْقِرْدِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ فَسَقَطَا أَوْ سَقَطَ الْعُلُوُّ وَحْدَهُ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ عُلُوَّهُ لَمْ يَجُزْ)؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ حِينَئِذٍ لَيْسَ إلَّا حَقُّ التَّعَلِّي

ص: 427

لِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يُمْكِنُ إحْرَازُهُ وَالْمَالُ هُوَ الْمَحِلُّ لِلْبَيْعِ، بِخِلَافِ الشِّرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَمُفْرَدًا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخٍ رحمهم الله لِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ. .

وَحَقُّ التَّعَلِّي لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَيْنٌ يُمْكِنُ إحْرَازُهَا) وَإِمْسَاكُهَا وَلَا هُوَ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ بَلْ هُوَ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْهَوَاءِ وَلَيْسَ الْهَوَاءُ مَا لَا يُبَاعُ وَالْمَبِيعُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدَهُمَا. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَالْمَالُ هُوَ الْمَحِلُّ لِلْبَيْعِ) تَسَاهُلٌ أَوْ تَنْزِيلٌ لِلْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ مَنْزِلَةَ الْمَالِ (بِخِلَافِ الشُّرْبِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ) فِيمَا إذَا كَانَ الشُّرْبُ شُرْبَ تِلْكَ الْأَرْضِ، أَمَّا إذَا بَاعَ أَرْضًا مَعَ شُرْبِ غَيْرِهَا فَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُفْرَدًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ حَتَّى تَزْدَادَ نَوْبَتُهُ، وَجَوَّزَهُ مَشَايِخُ بَلْخٍ كَأَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ بَلْخٍ تَعَامَلُوا ذَلِكَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا جَوَّزَ السَّلَمَ لِلضَّرُورَةِ وَالِاسْتِصْنَاعَ لِلتَّعَامُلِ (وَلِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ) فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: ادَّعَى رَجُلٌ شِرَاءَ أَرْضٍ بِشِرْبِهَا بِأَلْفٍ فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِذَلِكَ وَسَكَتَ الْآخَرُ عَنْ الشِّرْبِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ ثَمَنِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الَّذِي زَادَ الشِّرْبَ نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الثَّمَنِ يُقَابِلُ الشِّرْبَ فَصَارَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ. وَقَبْلُ لَوْ بَاعَ أَرْضًا بِشِرْبِهَا فَاسْتَحَقَّ شِرْبَهَا يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ نَصِيبَ الشِّرْبِ، وَأَمَّا ضَمَانُهُ بِالْإِتْلَافِ وَهُوَ بِأَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ بِشِرْبِ غَيْرِهِ فَهُوَ رِوَايَةُ الْبَزْدَوِيِّ، وَعَلَى رِوَايَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ لَا يَضْمَنُ، وَقِيلَ يَضْمَنُ إذَا جَمَعَ الْمَاءَ ثُمَّ أَتْلَفَهُ، وَلَا يَضْمَنُ قَبْلَ الْجَمْعِ، وَحِينَئِذٍ فَالْإِلْزَامُ بِهِ مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمُخَالِفَ. وَعَنْ الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ قَصَرَ ضَمَانَهُ بِالْإِتْلَافِ عَلَى مَا إذَا كَانَ شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقَالَ: لَا وَجْهَ لِلضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ إلَّا بِهَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ بِغَيْرِهَا فَإِمَّا بِالسَّقْيِ أَوْ يَمْنَعُ حَقَّ الشُّرْبِ، لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَاءَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَدِيثِ وَلَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ مَنْعَ حَقِّ الْغَيْرِ لَيْسَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ بَلْ السَّبَبُ مَنْعُ مِلْكِ الْغَيْرِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَأَمَّا أَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ فَهُوَ عَيْنُ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَأُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَيْنًا يَنْبَغِي أَنْ

ص: 428

قَالَ (وَبَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزٌ وَبَيْعُ مَسِيلِ الْمَاءِ وَهِبَتُهُ بَاطِلٌ) وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ، وَبَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ وَالتَّسْيِيلِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الطَّرِيقَ مَعْلُومٌ لِأَنَّ لَهُ طُولًا وَعَرْضًا مَعْلُومًا، وَأَمَّا الْمَسِيلُ فَمَجْهُولٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى قَدْرُ مَا يَشْغَلُهُ مِنْ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَفِي بَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ رِوَايَتَانِ

لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَاءٌ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ لِلضَّرُورَةِ وَهُوَ بِعَرَضِيَّةِ وُجُودِهِ كَالسَّلَمِ وَالِاسْتِصْنَاعِ تَمَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ فَهُوَ مَجْمُوعُ الْمِقْدَارِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَهَذَا وَجْهُ مَنْعِ مَشَايِخِ بُخَارَى بَيْعَهُ مُنْفَرِدًا، قَالُوا: وَتَعَامُلُ أَهْلِ بَلْدَةٍ لَيْسَ هُوَ التَّعَامُلُ الَّذِي يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ بَلْ ذَلِكَ تَعَامُلُ أَهْلِ الْبِلَادِ لِيَصِيرَ إجْمَاعًا كَالِاسْتِصْنَاعِ وَالسَّلَمِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَالضَّرُورَةُ فِي بَيْعِ الشِّرْبِ مُفْرَدًا عَلَى الْعُمُومِ مُنْتَفِيَةٌ بَلْ إنْ تَحَقَّقَ فَحَاجَةُ بَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ.

[فَرْعٌ] بَاعَ الْعُلُوَّ قَبْلَ سُقُوطِهِ جَازَ، فَإِنْ سَقَطَ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ

(قَوْلُهُ وَبَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ جَائِزٌ وَبَيْعُ مَسِيلِ الْمَاءِ وَهِبَتُهُ بَاطِلٌ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (الْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ) أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ (بَيْعَ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ، وَ) أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ (بَيْعَ حَقِّ الْمُرُورِ) الَّذِي هُوَ التَّطَرُّقُ (وَالتَّسْيِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ) وَهُوَ بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ: أَيْ مَعَ اعْتِبَارِ حَقِّ التَّسْيِيلِ (فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّرِيقَ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ لَهُ طُولًا وَعَرْضًا مَعْلُومًا) فَإِنْ بَيَّنَهُ فَلَا إشْكَالَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.

وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ جَازَ أَيْضًا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمَسْأَلَةِ هَاهُنَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مِقْدَارَ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى وَطُولَهُ إلَى السِّكَّةِ النَّافِذَةِ (أَمَّا الْمَسِيلُ فَمَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي قَدْرَ مَا يَشْغَلُهُ الْمَاءُ) وَمِنْ هُنَا عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْأَلَةِ مَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ، أَمَّا لَوْ بَيَّنَ حَدَّ مَا يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ أَوْ بَاعَ أَرْضَ الْمَسِيلِ مِنْ نَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَقِّ التَّسْيِيلِ فَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ حُدُودَهُ.

(وَإِنْ كَانَ) الْمُرَادُ (الثَّانِيَ) وَهُوَ مُجَرَّدُ حَقِّ الْمُرُورِ وَالتَّسْيِيلِ (فَفِي بَيْعِ جَوَازِ الْمُرُورِ) مُجَرَّدًا (رِوَايَتَانِ) عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَا يَجُوزُ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ لِجَهَالَتِهِ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ يَجُوزُ، فَإِنَّهُ قَالَ: دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِيهَا طَرِيقٌ لِرَجُلٍ آخَرَ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمَا مِنْ الْقِسْمَةِ وَيَتْرُكُ لِلطَّرِيقِ مِقْدَارَ بَابِ الدَّارِ الْعُظْمَى فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا بِيعَتْ الدَّارُ وَالطَّرِيقُ بِرِضَاهُمْ يَضْرِبُ صَاحِبُ الْأَصْلِ بِثُلُثَيْ ثَمَنِ الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الْمَمَرِّ بِثُلُثِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ اثْنَانِ وَصَاحِبَ الْمَمَرِّ وَاحِدٌ وَقِسْمَةُ الطَّرِيقِ تَكُونُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ يُسَاوِي صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي الِانْتِفَاعِ انْتَهَى.

فَقَدْ جَعَلَ لِصَاحِبِ حَقِّ الْمُرُورِ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ حَقِّ التَّسْيِيلِ لَا يَجُوزُ

ص: 429

وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّ التَّسْيِيلِ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ مَعْلُومٌ لِتَعَلُّقِهِ بِمَحِلٍّ مَعْلُومٍ وَهُوَ الطَّرِيقُ، أَمَّا الْمَسِيلُ عَلَى السَّطْحِ فَهُوَ نَظِيرُ حَقِّ التَّعَلِّي وَعَلَى الْأَرْضِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحِلِّهِ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ حَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ التَّعَلِّي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ لَا تَبْقَى وَهُوَ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ، أَمَّا حَقُّ الْمُرُورِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ تَبْقَى وَهُوَ الْأَرْضُ فَأَشْبَهَ الْأَعْيَانَ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً فَإِذَا هُوَ غُلَامٌ) فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ كَبْشًا فَإِذَا هُوَ نَعْجَةٌ حَيْثُ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَيَتَخَيَّرُ.

فَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا) أَيْ وَجْهُ الْفَرْقِ (وَبَيْنَ حَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ التَّسْيِيلِ) عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُجِيزَةِ لِبَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ (أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ مَعْلُومٌ لِتَعَلُّقِهِ بِمَحِلٍّ مَعْلُومٍ وَهُوَ الطَّرِيقُ. أَمَّا التَّسْيِيلُ)

فَإِنْ كَانَ عَلَى السَّطْحِ (فَهُوَ نَظِيرُ حَقِّ التَّعَلِّي) لَا يَجُوزُ اتِّفَاقُ الرِّوَايَاتِ وَمُرُوجُهُ فَسَادُهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ حَقًّا مُتَعَلِّقًا بِمَا هُوَ مَالٌ بَلْ بِالْهَوَاءِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا بَاعَ حَقَّ التَّعَلِّي بَعْدَ سُقُوطِ الْعُلُوِّ فَإِنَّمَا يَكُونُ نَظِيرَ مَا إذَا بَاعَ حَقَّ التَّسْيِيلِ عَلَى السَّطْحِ وَلَا سَطْحَ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ أَنْ يُسِيلَ الْمَاءَ عَنْ أَرْضِهِ كَيْ لَا يُفْسِدَهَا فَيُمِرَّهُ عَلَى أَرْضٍ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحِلِّهِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمَاءُ بَقِيَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَقِّ التَّعَلِّي حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَبَيْنَ حَقِّ الْمُرُورِ حَيْثُ يَجُوزُ عَلَى رِوَايَةٍ، وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ إلَى الْفَرْقِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ الْمَنْعَ فِي حَقِّ التَّعَلِّي بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ كَذَلِكَ.

وَقَدْ جَازَ بَيْعُهُ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا بَيْعُ الْحَقِّ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْأَرْضِ وَهِيَ مَالٌ هُوَ عَيْنٌ فَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ، أَمَّا حَقُّ التَّعَلِّي فَحَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْهَوَاءِ وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ، وَأَمَّا فَرْقُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي يَتَعَلَّقُ بِالْبِنَاءِ وَهُوَ عَيْنٌ لَا تَبْقَى فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَلَيْسَ بِذَاكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَمَا يَرِدُ عَلَى مَا يَبْقَى مِنْ الْأَعْيَانِ كَذَلِكَ يَرِدُ عَلَى مَا لَا يَبْقَى وَإِنْ أَشْبَهَ الْمَنَافِعَ، وَلِذَا صَحَّحَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رِوَايَةَ الزِّيَادَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ لَا يَجُوزُ كَالتَّسْيِيلِ وَحَقِّ الْمُرُورِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى إلَى آخِرِهِ) إذَا اشْتَرَى هَذِهِ الْجَارِيَةَ

ص: 430

وَالْفَرْقُ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله، وَهُوَ أَنَّ الْإِشَارَةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا فَفِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى وَيَبْطُلُ لِانْعِدَامِهِ، وَفِي مُتَّحِدِي الْجِنْسِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَيَنْعَقِدُ لِوُجُودِهِ وَيَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَإِذَا هُوَ كَاتِبٌ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ، وَفِي الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِلتَّقَارُبِ فِيهَا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا دُونَ الْأَصْلِ كَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ جِنْسَانِ.

فَظَهَرَتْ غُلَامًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْمَبِيعِ. وَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا تَبْتَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْمَهْرِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ تَسْمِيَةٌ وَإِشَارَةٌ إلَى شَيْءٍ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْجَارِيَةِ حَيْثُ أَشَارَ إلَى ذَاتٍ وَسَمَّاهَا جَارِيَةً فَإِنَّ الْمُسَمَّى مَعَ الْمُشَارِ إلَيْهِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ كَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تُعَرِّفُ الذَّاتَ الْحَاضِرَةَ وَالتَّسْمِيَةَ تُعَرِّفُ الْحَقِيقَةَ الْمُنْدَرِجَةَ فِيهَا تِلْكَ الذَّاتُ وَغَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتٍ لَا تُحْصَى مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ الْعَقْلِ بِأَشْبَاهِهَا لِتِلْكَ الذَّاتِ وَغَيْرِهَا وَنَحْنُ فِي مَقَامِ التَّعْرِيفِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَا تَعْرِيفُهُ أَبْلَغُ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِعَدَمِ الْمَبِيعِ الَّذِي هُوَ الْمُسَمَّى، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ هُنَا بِقَوْلِهِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ بَلْ هُوَ فَاسِدٌ وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا بِالصِّفَةِ فَاحِشٌ كَانَ أَيْضًا كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا.

وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا اُعْتُبِرَتْ الْإِشَارَةُ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ لِوُرُودِهِ عَلَى مَبِيعٍ قَائِمٍ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ فَلَمْ يَجِدْهُ الْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَالْفَرْقُ يَبْتَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ لِمُحَمَّدٍ) لَا يُرِيدُ أَنَّ الْأَصْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَلْ هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي خِلَافِيَّتِهِ فِي الْمَهْرِ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ فِي الْجِنْسَيْنِ كُلُّ ذَكَرٍ مَعَ أُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدِي الْجِنْسِ الْمَنْطِقِيِّ وَهُوَ الذَّاتِيُّ الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِمُمَيِّزٍ دَاخِلٍ فَقَدْ أُلْحِقَا بِمُخْتَلِفِيهِمَا، بِخِلَافِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ سَائِرِ الْبَهَائِمِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ. وَنَقَلَ الْقُدُورِيُّ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ كَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ غَيْرِهِمَا، فَحَكَمَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ.

وَأُجِيبُ بِالْفَرْقِ بِفُحْشِ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ مِنْهُمَا، فَأُلْحِقَا بِالْجِنْسَيْنِ، فَالْغُلَامُ يُرَادُ لِخِدْمَةِ الْخَارِجِ كَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالْحِرَاثَةِ، وَالْأُنْثَى لِخِدْمَةِ الدَّاخِلِ كَالْعَجْنِ وَالطَّبْخِ وَالِاسْتِفْرَاشِ، بِخِلَافِ الْغُلَامِ فَكَانَ اخْتِلَافُهُمَا كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ بَلْ لَيْسَ الْجِنْسُ فِي الْفِقْهِ إلَّا الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ لَا يَتَفَاوَتُ الْغَرَضُ مِنْهَا فَاحِشًا، فَالْجِنْسَانِ مَا يَتَفَاوَتُ مِنْهُمَا فَاحِشًا بِلَا نَظَرٍ إلَى الذَّاتِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا دُونَ الْأَصْلِ) يَعْنِي الْمُعْتَبَرَ فِي أَنَّهُمَا جِنْسَانِ أَوْ جِنْسٌ وَاحِدٌ تَفَاوُتُ الْأَغْرَاضِ تَفَاوُتًا بَعِيدًا فَيَكُونُ مِنْ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، أَوْ قَرِيبًا فَيَكُونُ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ دُونَ اخْتِلَافِ الْأَصْلِ: يَعْنِي الذَّاتِيَّ، لِذَا قَالُوا (الْخَلُّ مَعَ الدِّبْسِ جِنْسَانِ) مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِهِمَا

ص: 431

وَالْوَذَارِيُّ والزندنيجي عَلَى مَا قَالُوا جِنْسَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِهِمَا. .

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ

بِفُحْشِ تَفَاوُتِ الْغَرَضِ مِنْهُمَا (وَالْوَذَارِيُّ والزندنيجي) كَذَلِكَ، وَالْوَذَارِيُّ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَإِعْجَامِ الذَّالِ ثُمَّ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ نِسْبَةً إلَى وَذَارٍ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى سَمَرْقَنْدَ، والزندنيجي بِزَايٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ نُونٍ أُخْرَى ثُمَّ يَاءٍ ثُمَّ جِيمٍ نِسْبَةً إلَى زَنْدَنَةَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالنُّونِ الْأَخِيرَةِ وَالْجِيمُ زِيدَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ (مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِهِمَا) هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْمَشَايِخِ.

وَمَا ذُكِرَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي بَابِ الْمَهْرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْخَلَّ مَعَ الْخَمْرِ جِنْسًا وَاحِدًا، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَعْتَبِرَ الْخَلَّ مَعَ الدِّبْسِ كَذَلِكَ.

وَمِنْ الْمُخْتَلِفَيْنِ جِنْسًا مَا إذَا بَاعَ فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلَوْ بَاعَهُ لَيْلًا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَظَهَرَ أَصْفَرَ صَحَّ وَيُخَيَّرُ. كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَإِذَا هُوَ كَاتِبٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنْ كَانَتْ صِنَاعَةُ الْكِتَابَةِ أَشْرَفَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الْخَبْزِ كَانَ الْمُصَنِّفُ مِمَّنْ لَا يُفَرِّقُ مِنْ الْمَشَايِخِ بَيْنَ كَوْنِ الصِّفَةِ ظَهَرَتْ خَيْرًا مِنْ الصِّفَةِ الَّتِي عُيِّنَتْ أَوْ لَا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ، كَمَا أَطْلَقَ فِي الْمُحِيطِ ثُبُوتَ الْخِيَارِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَظَهِيرُ الدِّينِ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا كَانَ الْمَوْجُودُ أَنْقَصَ وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ لِفَوَاتِ غَرَضِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ غَرَضَهُ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ الَّتِي عَيَّنَهَا لَا بِمَا لَيْسَ غَرَضًا لَهُ الْآنَ، وَكَانَ مُسْتَنَدُ الْمُفَصِّلِينَ مَا تَقَدَّمَ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا عَيَّنَ.

وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْغَرَضَ وَهُوَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَأُمُورِهَا أَوْ التِّجَارَةِ وَأُمُورِهَا، بِخِلَافِ تَعْيِينِ الْخَبْزِ أَوْ الْكِتَابَةِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ حَاجَتَهُ الَّتِي لِأَجْلِهَا اشْتَرَى هِيَ هَذَا الْوَصْفُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ

ص: 432

حَالَّةً أَوْ نَسِيئَةً فَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الْبَائِعِ بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ الثَّانِي) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَمَّ فِيهَا بِالْقَبْضِ فَصَارَ الْبَيْعُ مِنْ الْبَائِعِ وَمِنْ غَيْرِهِ سَوَاءً وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالْعَرْضِ.

حَالَّةً أَوْ نَسِيئَةً فَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ) بِمِثْلٍ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ، وَإِنْ بَاعَهَا مِنْ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ؛ وَلَوْ اشْتَرَى وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ.

وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِتَبَايُنِ الْأَمْلَاكِ وَكَانَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ آخَرُ وَهُوَ يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْآخَرِ وَلِذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ. وَلَوْ اشْتَرَى وَكِيلُ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ جَازَ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ عِنْدَهُ يَقَعُ لِنَفْسِهِ فَلِذَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوَكِّلَ ذِمِّيًّا بِشِرَاءِ خَمْرٍ وَبَيْعِهَا عِنْدَهُ وَلَكِنْ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْمُوَكِّلِ حُكْمًا فَكَانَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَمَاتَ فَوَرِثَهُ الْبَائِعُ. وَعِنْدَهُمَا عَقْدُ الْوَكِيلِ كَعَقْدِهِ.

وَلَوْ اشْتَرَاهُ وَارِثُهُ يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ رَجُلٍ أَوْ وَهَبَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ يَجُوزُ لِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ بِلَا شُبْهَةٍ، وَبِهِ تَخْتَلِفُ الْمُسَبِّبَاتُ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.

وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ: نَقَدَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ بِعَرْضِ قِيمَتِهِ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ) كَيْفَمَا كَانَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ مِنْهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ بِعَرْضِ قِيمَتِهِ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ بِجَامِعِ قِيَامِ الْمِلْكِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُطْلَقُ فِي الْأُصُولِ الَّتِي عَيَّنَهَا، وَتَقْيِيدُهُ بِالْعَرَضِ دُونَ أَنْ يَقُولَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ

ص: 433

وَلَنَا قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَقَدْ بَاعَتْ بِسِتِّمِائَةٍ بَعْدَمَا اشْتَرَتْ بِثَمَانِمِائَةٍ: بِئْسَمَا شَرَيْت وَاشْتَرَيْت، أَبْلَغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَبِيعُ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ بَقِيَ لَهُ فَضْلُ خَمْسِمِائَةِ وَذَلِكَ بِلَا عِوَضٍ،

بِذَهَبٍ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ الدَّرَاهِمِ الثَّمَنُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْعَرَضِ بِجَامِعِ أَنَّهُ خِلَافُ جِنْسِهِ فَإِنَّ الذَّهَبَ جِنْسٌ آخَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدَّرَاهِمِ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِمَا ثَمَنًا وَمِنْ حَيْثُ وَجَبَ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ احْتِيَاطًا وَأَلْزَمُ أَنَّ اعْتِبَارَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا يُوجِبُ التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُقْتَضَى الْوَجْهِ ذَلِكَ وَلَكِنْ فِي التَّفَاضُلِ عِنْدَ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِ الْآخَرِ إجْمَاعٌ (وَلَنَا قَوْلُ عَائِشَةَ) إلَى آخِرِ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ عَائِشَةَ يُفِيدُ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي بَاعَتْ زَيْدًا بَعْدَ أَنْ اشْتَرَتْ مِنْهُ وَحَصَلَ لَهُ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّ شَرَيْت مَعْنَاهُ بِعْت قَوْله تَعَالَى {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أَيْ بَاعُوهُ.

وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَإِنَّهُ رَوَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَةِ أَبِي سَفَرٍ " أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: إنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ بَاعَنِي جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنِّي بِسِتِّمِائَةٍ، فَقَالَتْ: أَبْلِغِيهِ عَنِّي أَنَّ اللَّهَ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ ".

فَفِي هَذَا أَنَّ الَّذِي بَاعَ زَيْدٌ ثُمَّ اسْتَرَدَّ وَحَصَلَ الرِّبْحُ لَهُ، وَلَكِنَّ رِوَايَةَ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَكْسُهُ.

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ هِيَ وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدٍ لِعَائِشَةَ: إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً وَاشْتَرَيْته بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا، فَقَالَتْ: أَبْلِغِي زَيْدًا أَنْ قَدْ أَبْطَلْت جِهَادَك مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ تَتُوبَ، بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت وَبِئْسَ مَا شَرَيْت. وَهَذَا فِيهِ أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ الرِّبْحُ هِيَ الْمَرْأَةُ.

قَالَ

ص: 434

بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْعَرْضِ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ. .

ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي فِي التَّنْقِيحِ: هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَالَ: لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ. وَقَوْلُ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْعَالِيَةِ هِيَ مَجْهُولَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِهَا فِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لَمْ تَسْتَجِزْ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاجْتِهَادِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَالِيَةِ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا دَخَلَتْ مَعَ أُمِّ الْوَلَدِ عَلَى عَائِشَةَ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالُوا: إنَّ الْعَالِيَةَ امْرَأَةٌ مَجْهُولَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِنَقْلِ خَبَرِهَا. قُلْنَا هِيَ امْرَأَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فَقَالَ: الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَنْفَعَ بْنِ شَرَاحِيلَ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ سَمِعَتْ مِنْ عَائِشَةَ. وَقَوْلُهَا بِئْسَ مَا شَرَيْت: أَيْ بِعْت قَوْله تَعَالَى {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أَيْ بَاعُوهُ، وَإِنَّمَا ذَمَّتْ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ وَذَمَّتْ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْفَسَادِ.

وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَالثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ امْرَأَةٍ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ فَبِعْتهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرَقْمَ بِثَمَانِمِائَةٍ إلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ ابْتَعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ فَنَقَدْته السِّتَّمِائَةِ وَكَتَبَ لِي عَلَيْهِ ثَمَانَمِائَةٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إلَى قَوْلِهَا إلَّا أَنْ تَتُوبَ، وَزَادَ: فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ لِعَائِشَةَ: أَرَأَيْت إنْ أَخَذْت رَأْسَ مَالِي وَرَدَدْت عَلَيْهِ الْفَضْلَ؟ فَقَالَتْ {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} .

لَا يُقَالُ: إنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ وَرَدَّهَا لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ وَهُوَ الْبَيْعُ إلَى الْعَطَاءِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَرَى جَوَازَ الْأَجَلِ إلَى الْعَطَاءِ. ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ. وَاَلَّذِي عُقِلَ مِنْ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّهُ اسْتَرْبَحَ مَا لَيْسَ فِي ضَمَانِهِ.

وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ الْمِلْكُ الَّذِي زَالَ عَنْهُ بِعَيْنِهِ وَبَقِيَ لَهُ بَعْضُ الثَّمَنِ فَهُوَ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ مِنْ جِهَةِ مَنْ بَاعَهُ، وَهَذَا لَا يُوجَدْ فِيمَا إذَا اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ فَبَطَلَ إلْحَاقُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَعْيَانِ حُكْمًا، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِأَقَلَّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي خَرَجَ فَلَا يَتَحَقَّقُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، بَلْ يَجْعَلُ النُّقْصَانَ بِمُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الَّذِي احْتَبَسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ النُّقْصَانُ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْعَيْبِ أَوْ دُونَهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ سِعْرٍ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعُقُودِ؛ لِأَنَّهُ فُتُورٌ فِي رَغَبَاتِ النَّاسِ فِيهِ وَلَيْسَ مِنْ فَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَلِذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ بِجِنْسٍ آخَرَ غَيْرَ الثَّمَنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَحَقَّقُ عَيْنُهُ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ إنَّمَا يَظْهَرُ بِالتَّقْوِيمِ وَالْبَيْعَ لَا يَعْقُبُ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ بِجِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِظُهُورِهِ بِلَا تَقْوِيمٍ، وَقَدْ أُورِدُ عَلَيْهِ تَجْوِيزُ كَوْنِ إنْكَارِ عَائِشَةَ لِوُقُوعِ الْبَيْعِ الثَّانِي قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ إذْ الْقَبْضُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ.

قُلْنَا: لَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهَا ذَمَّتْهُ لِأَجَلِ الرِّبَا بِقَرِينَةِ تِلَاوَةِ آيَةِ الرِّبَا، وَلَيْسَ فِي بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ رِبًا. وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْآيَةِ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ جَوَابًا لِقَوْلِ الْمَرْأَةِ: أَرَأَيْت إنْ أَخَذْت رَأْسَ مَالِي وَرَدَدْت عَلَيْهِ الْفَضْلَ، كَانَ هَذَا مَعَ التَّوْبَةِ، فَتَلَتْ آيَةً ظَاهِرَةً فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ وَإِنْ كَانَ سَوْقُهَا فِي الْقُرْآنِ فِي الرِّبَا. وَأُورِدَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَدِ الْكَائِنِ مَعَ أُمِّهِ مُفْرَدًا لَمْ يُوجِبْ الْفَسَادَ فَلِمَ أَوْجَبَهُ هَذَا النَّهْيُ.

أُجِيبَ بِأَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْبَيْعِ أَوْجَبَهُ، وَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ لَا، وَالنَّهْيُ فِيمَا ذُكِرَ لِلتَّفْرِيقِ لَا لِنَفْسِ الْبَيْعِ، حَتَّى لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ الْبَيْعِ أَثِمَ فَيُكْرَهُ فِي نَفْسِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَهُنَا

ص: 435

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهَا وَأُخْرَى مَعَهَا مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْ الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ فِي الْأُخْرَى) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْأُخْرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَنَا، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَاحِبَتِهَا وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِيهَا لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ

هُوَ لِشُبْهَةِ الرِّبَا وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْبَيْعِ وَلِشُبْهَةِ الرِّبَا حُكْمُ حَقِيقَتِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهَا وَأُخْرَى مَعَهَا مِنْ الْبَائِعِ) بِخَمْسِمِائَةٍ (قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْ الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ فِي الْأُخْرَى) وَهَذَا فَرْعُ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.

وَهِيَ أَنَّ شِرَاءَ مَا بَاعَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ بِهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ (وَ) وَجْهُهُ (أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْأُخْرَى) وَاَلَّتِي بَاعَهَا (بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ) وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَنَا. وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَاحِبَتِهَا وَهِيَ الَّتِي ضُمَّتْ إلَيْهَا. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ عِلَّةَ الْفَسَادِ فِي الَّتِي بَاعَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَوْ كَانَ

ص: 436

أَوْ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الرِّبَا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ طَارِئٌ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِانْقِسَامِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُقَاصَّةِ فَلَا يَسْرِي إلَى غَيْرِهَا. .

إصَابَةُ حِصَّتِهَا إيَّاهَا أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ الْمُسْتَلْزَمِ لِشِرَائِهَا بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهَا بِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الَّتِي اشْتَرَاهَا بِخَمْسِمِائَةٍ لَوْ بَاعَهَا وَأُخْرَى مَعَهَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، لِأَنَّ عِنْدَ تَقْسِيمِ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ شِرَاءُ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، لَكِنْ ذَكَرُوا أَنَّهُ أَيْضًا فَاسِدٌ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِي هَذَا الْمَعْنَى آخَرُ وَهُوَ تَكَثُّرُ جِهَاتِ الْجَوَازِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ، بِخِلَافِ الْأَكْرَارِ وَأَمْثَالِهَا حَيْثُ يَتَحَرَّى الْجَوَازَ فِيهَا لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْجَوَازِ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ، وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَزِمَ أَنْ يَمْتَنِعَ ثُبُوتُ مُوجَبٍ لَهُ مُوجِبَانِ تَثْبُتُ لَهُ دُفْعَةً فَيَمْتَنِعُ تَعَدُّدُ الْعِلَلِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ ثُمَّ لَا يَشِيعُ الْفَسَادُ فِي الْجَارِيَتَيْنِ؛ وَمَا أَبْشَعَ قَوْلِ قَائِلٍ إذَا كَثُرَتْ جِهَاتُ الْحِلِّ بِلَا مُعَارِضٍ يَحْرُمُ.

وَالْحَقُّ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، فَإِنَّ هُنَاكَ الْمُوجِبَاتِ مُتَحَقِّقَةٌ وَهُنَا الْمُجَوِّزُ مَوْقُوفٌ عَلَى الِاعْتِبَارِ، فَإِذَا اُعْتُبِرَ وَاحِدٌ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ غَيْرِهِ لَكِنَّهُ لَا يَزِيدُ النَّظَرَ إلَّا وَكَادَةً، فَإِنَّ الْآخَرَ قَبْلَ الِاعْتِبَارِ لَا وُجُودَ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ الْمُجَوِّزُ الَّذِي وُجِدَ وَتَحَقَّقَ بِتَحَقُّقِ الِاعْتِبَارِ فَلْيُتَأَمَّلْ.

وَحِينَ فَهِمَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ ضَعْفَ هَذَا الْوَجْهِ عَدَلَ إلَى وَجْهٍ ذَكَرَ أَنَّهُ الْوَجْهُ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْجَارِيَةِ الْأُولَى مِنْ الْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ وَاجْتَمَعَ فِيهَا مُحَرِّمٌ وَمُبِيحٌ فَيَفْسُدُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَذْهَبِ فِي شَيْءٍ، بَلْ إذَا اجْتَمَعَا فِيهِ اُعْتُبِرَ وَجْهُ الصِّحَّةِ تَصْحِيحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَيْعِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ وَقَفِيزِ شَعِيرٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ حَيْثُ يَصِحُّ وَيُتَحَرَّى لِلْجَوَازِ اعْتِبَارًا لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ.

وَلَا إشْكَالَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِمَا بَلْ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا فَسَدَ بَعْضُهُ فَسَدَ كُلُّهُ إذَا كَانَ الْفَسَادُ مُقَارِنًا، فَدَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا أَنَّ الْفَسَادَ فِيمَا بِيعَتْ أَوَّلًا ضَعِيفٌ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ يَسْرِ لِلْأُخْرَى كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مُدَبَّرٌ لَا يَفْسُدُ فِي الْآخَرِ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ. وَاسْتَشْكَلَ بِمَا لَوْ أَسْلَمَ قُوهِيًّا فِي قُوهِيٍّ وَمَرْوِيٍّ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ فِي الْمَرْوِيِّ؛ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ وَزَيْتٍ عِنْدَهُ يَبْطُلُ فِي الْكُلِّ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ فِي حِصَّةِ الزَّيْتِ مَعَ أَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ بِسَبَبِ الْجِنْسِيَّةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَإِنَّ إسْلَامَ هَرَوِيٍّ فِي هَرَوِيٍّ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَا مُخَلِّصَ مِنْهُ إلَّا بِتَغْيِيرِ تَعْلِيلِ تَعَدِّي الْفَسَادِ بِقُوَّةِ الْفَسَادِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ إلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ يَجْعَلَ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ شَرْطُ قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْهَرَوِيِّ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي الْمَرْوِيِّ، فَيَفْسُدُ فِي الْمَرْوِيِّ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ

ص: 437

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى زَيْتًا فِي ظَرْفٍ عَلَى أَنْ يَزِنَهُ بِظَرْفِهِ فَيَطْرَحَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ ظَرْفٍ خَمْسِينَ رَطْلًا فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يَطْرَحَ عَنْهُ بِوَزْنِ الظَّرْفِ جَازَ)؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَالثَّانِي يَقْتَضِيهِ.

قَالَ (وَمَنْ)(اشْتَرَى سَمْنًا فِي زِقٍّ فَرَدَّ الظَّرْفَ وَهُوَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ) فَقَالَ الْبَائِعُ الزِّقُّ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي

وَفِي الْهَرَوِيِّ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَكَذَا اعْتَرَفَ بِهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بَعْدَ أَنْ عَلَّلَ هُوَ بِهِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ.

ثَانِيهَا أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأُولَى لِشُبْهَةِ الرِّبَا وَسَلَامَةِ الْفَضْلِ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِلَا عِوَضٍ وَلَا ضَمَانَ يُقَابِلُهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْمَضْمُونَةِ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا تِلْكَ الشُّبْهَةَ فِي الَّتِي ضُمَّتْ إلَى الْمُشْتَرَاةِ أَوَّلًا كَانَ اعْتِبَارًا لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ تَقْرِيرِ قَاضِي خَانْ اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ بِأَنَّ الْأَلْفَ وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَجِدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَيَرُدَّهُ فَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَبِالْبَيْعِ الثَّانِي يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْهُ فَيَكُونُ الْبَائِعُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي مُشْتَرِيًا أَلْفًا بِخَمْسِمِائَةٍ.

ثَالِثُهَا: أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَوَّلِ طَارِئٌ غَيْرُ مُقَارِنٍ. وَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا فِي الْعَقْدِ مَا يُوجِبُ فَسَادَهُ فَإِنَّهُ قَابَلَ الثَّمَنَ بِالْجَارِيَتَيْنِ وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْقَطِعُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَيَصِيرُ الْبَعْضُ بِإِزَاءِ مَا لَمْ يَبِعْ فَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَهُ. وَهَذَا فَسَادٌ طَرَأَ الْآنَ؛ لِأَنَّ الِانْقِسَامَ بَعْدَ وُجُوبِ الثَّمَنِ أَيْ بَعْدَ وُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأُخْرَى وَالْآخَرِ بِسَبَبِ الْمُقَاصَّةِ، فَإِنَّ الْمُقَاصَّةَ تَقَعُ بَيْنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّمَنِ الثَّانِي فَيَبْقَى مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَضْلٌ بِلَا عِوَضٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ الْأَوَّلَ لَمَّا بَاعَهَا بِأَلْفٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ النَّقْدِ فَتَقَاصَّا الْخَمْسَمِائَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ مِثْلِهَا فَيَبْقَى لِلْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَضْلُ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى مَعَ الْجَارِيَةِ، وَالْمُقَاصَّةُ تَقَعُ عَقِبَ وُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي فَيَفْسُدُ عِنْدَهَا فَهُوَ طَارِئٌ فَلَا يَظْهَرُ فِي الْأُخْرَى؛ كَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَبَيَّنَ ثَمَنَ كُلٍّ ثُمَّ أَلْحَقَا فِي ثَمَنِ أَحَدِهِمَا أَجَلًا هُوَ وَقْتُ الْحَصَادِ فَسَدَ الْبَيْعُ فِيهِ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ، وَأُورِدُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ الْعَقْدُ فِي الْآخَرِ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِيمَا لَا يَصِحُّ وَهُوَ مَا بَاعَهُ أَوَّلًا شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي الْآخَرِ.

قُلْنَا: قَبُولُ الْعَقْدِ فِيهِ لَيْسَ شَرْطًا فَاسِدًا: أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَنُهُ مِثْلَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ خِلَافَ جِنْسِهِ كَانَ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا الْفَسَادُ لِأَجْلِ الرِّبْحِ الْحَاصِلِ لَا عَلَى ضَمَانِهِ، وَهَذَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْعَقْدِ الثَّانِي. وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ جَازَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فِي نِصْفِهِ.

وَلَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ، إنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ نَقَصَتْهَا جَازَ كَمَا لَوْ دَخَلَهَا عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ، وَإِنْ لَمْ تُنْقِصْهَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ رِبْحٌ لَا عَلَى ضَمَانِهِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى زَيْتًا فِي ظَرْفٍ) صُورَتُهَا فِي الْجَامِعِ: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ هَذَا الزَّيْتَ وَهُوَ أَلْفُ رَطْلٍ عَلَى أَنَّهُ يَزِنُهُ بِظُرُوفِهِ فَيَطْرَحُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ ظَرْفٍ خَمْسِينَ رِطْلًا قَالَ هَذَا فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَ قَالَ عَلَى أَنْ تَطْرَحَ عَنِّي وَزْنَ الظَّرْفِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ شَرَطَ أَنْ يَتَعَرَّفَ قَدْرَ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ

ص: 438

لِأَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ اخْتِلَافًا فِي تَعْيِينِ الزِّقِّ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ اخْتِلَافًا فِي السَّمْنِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اخْتِلَافٌ فِي الثَّمَنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ.

قَالَ: (وَإِذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ شِرَائِهَا فَفَعَلَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا لَا يَجُوزُ: عَلَى الْمُسْلِمِ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْخِنْزِيرُ، وَعَلَى هَذَا تَوْكِيلُ الْمُحْرِمِ غَيْرَهُ بِبَيْعِ صَيْدِهِ

لِيَخُصَّ بِالثَّمَنِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ عَلَى أَنْ تَزِنَهُ فَتَطْرَحَ عَنْهُ لِكُلِّ ظَرْفٍ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ أَوْ خَمْسِينَ فَإِنَّ الْبَيْعَ حِينَئِذٍ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ زِنَةَ الظَّرْفِ قَدْ تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ فَيَكُونُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ تَرْكِ الْمَبِيعِ وَهُوَ نَفْعٌ لِلْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْهَا فَيَكُونُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الثَّمَنِ لَا فِي مُقَابَلَةِ مَبِيعٍ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْبَائِعِ، وَالْمَسْأَلَةُ بَعْدَهَا فَرْعٌ عَلَيْهَا.

وَهُوَ مَا فِي الْجَامِعِ: رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ السَّمْنَ الَّذِي فِي هَذَا الزِّقِّ كُلَّ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ فَوَزَنَهُ لَهُ بِزِقِّهِ فَبَلَغَ مِائَةً وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَقَالَ وَجَدْت السَّمْنَ تِسْعِينَ رَطْلًا وَالزِّقَّ هَذَا وَزْنُهُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ (لِأَنَّ هَذَا) الِاخْتِلَافَ (إنْ اُعْتُبِرَ اخْتِلَافًا رَاجِعًا إلَى تَعْيِينِ الزِّقِّ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ) كَالْغَاصِبِ (أَوْ أَمِينًا) كَالْمُودِعِ؛ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِقًّا آخَرَ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ فَمَرْجِعُهُ خِلَافٌ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ) وَاسْتُشْكِلَ بِمَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَا إذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي وَمَاتَ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ وَجَاءَ بِالْآخَرِ يَرُدُّهُ بِعَيْبٍ فَاخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَيِّتِ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ التَّحَالُفِ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ، وَهُنَا جَعَلَ الْقَوْلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارِهِ اخْتِلَافًا فِي الثَّمَنِ.

أُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا مَعَ هَذِهِ طَرْدٌ، فَإِنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ لِلْمُشْتَرِي لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَهُنَاكَ إنَّمَا كَانَ لِلْبَائِعِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ التَّحَالُفَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِيهَا عِنْدَ وُرُودِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ قَصْدًا، وَهُنَا الِاخْتِلَافُ فِيهِ تَبَعٌ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الزِّقِّ الْمَقْبُوضِ أَهُوَ هَذَا أَوْ لَا فَلَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ شِرَائِهِمَا فَفَعَلَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) حَتَّى يَدْخُلَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ الْمُوَكِّلِ فَيَجِبُ أَنْ يُخَلِّلَ الْخَمْرَ أَوْ يُرِيقَهَا وَيُسَيِّبَ الْخِنْزِيرَ هَذَا فِي الشِّرَاءِ، وَفِيمَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ بِأَنْ كَانَ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ خَمْرٌ أَوْ خِنْزِيرٌ.

وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيُسْلِمَ عَلَيْهِمَا وَيَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يُزِيلَهَا وَلَهُ وَارِثٌ مُسْلِمٌ فَيَرِثُهُمَا فَيُوَكَّلُ كَافِرًا بِبَيْعِهِمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِمَا لِتَمَكُّنِ الْخَبَثِ فِيهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم إنَّ الَّذِي حَرَّمَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ. وَحَاصِلُ الْوَجْهِ مِنْ جَانِبِهِمْ إثْبَاتُ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ مِنْ هَذَا التَّوْكِيلِ، وَمِنْ جَانِبِهِ عَدَمُ الْمَانِعِ بِالْقَدْحِ فِي مَانِعِيَّةِ مَا جَعَلُوهُ مَانِعًا فَيَبْقَى الْجَوَازُ عَلَى الْأَصْلِ

ص: 439

لَهُمَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَلِيهِ فَلَا يُوَلِّيهِ غَيْرَهُ؛ وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْعَاقِدَ هُوَ الْوَكِيلُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَوِلَايَتِهِ، وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْآمِرِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ كَمَا إذَا وَرِثَهُمَا، ثُمَّ إنْ كَانَ خَمْرًا يُخَلِّلُهَا وَإِنْ كَانَ خِنْزِيرًا يُسَيِّبُهُ.

لَهُمْ أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَوْلِيَةَ غَيْرِهِ فِيهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ:(الْمُوَكِّلُ لَا يَلِيهِ فَغَيْرَهُ لَا يُوَلِّيهِ) بِنَصْبِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِيُوَلِّيَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ تَزَوُّجَ الْمَجُوسِيَّةِ لَا يَمْلِكُ تَوْكِيلَ غَيْرِهِ بِتَزْوِيجِهِ إيَّاهَا (وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ) مِنْ الْمِلْكِ (يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكَّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاشَرَ) الشِّرَاءَ أَوْ الْبَيْعَ (بِنَفْسِهِ) فَلَا يَجُوزُ.

(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَكِيلَ) فِي الْبَيْعِ (يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ) لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُضِيفَ الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِ وَتَرْجِعُ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ حَتَّى يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ وَيَرُدَّ بِالْعَيْبِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلٌ لِبَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا شَرْعًا فَلَا مَانِعَ شَرْعًا مِنْ تَوَكُّلِهِ، وَالْمُسْلِمُ الْمُوَكِّلُ أَهْلٌ لَأَنْ يَثْبُتَ لَهُ مَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ صُورَةِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ الْجَبْرِيِّ لَهُ فِيهِمَا فَانْتَفَى الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ وَالْمُلَازَمَةُ الشَّرْعِيَّةُ امْتِنَاعُ التَّوْكِيلِ لِامْتِنَاعِ مُبَاشَرَتِهِ مَمْنُوعَةٌ بِمَسَائِلَ: مِنْهَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ وَيَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِشِرَائِهِ لِنَفْسِهِ.

وَمِنْهَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ خَلْفَهُ ذِمِّيٌّ وَرَجَعَ أَمْرُهُ إلَى الْقَاضِي وَيَمْلِكُ تَوْكِيلَهُ بِهِ، وَكَذَا الْوَصِيُّ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ خَمْرِهِ وَيَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِهِ، وَالْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِمَا يَتَغَابَنُ فِي مِثْلِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ مُسْتَغْرِقَةٌ، وَيَحُوزُ مِنْ وَصِيِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَكَذَا لَا تَبِيعُ الْأُمُّ عَرَضَ الْوَلَدِ وَوَصِيُّهَا بِبَيْعِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مِيرَاثِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنْ قُلْت إنَّ تَمَلُّكَ الْمُسْلِمِ لَهَا يَثْبُتُ جَبْرًا عَنْ سَبَبٍ جَبْرِيٍّ كَالْمَوْتِ سَلَّمْنَاهُ أَوْ عَنْ سَبَبٍ اخْتِيَارِيٍّ مَنَعْنَاهُ.

وَهُنَا كَذَلِكَ إذْ التَّوْكِيلُ اخْتِيَارِيٌّ وَالْمِلْكُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ إذْ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الشَّرْعِ. قُلْنَا: نَخْتَارُ الثَّانِيَ وَنَمْنَعُ أَنَّ التَّوْكِيلَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ بَلْ الشِّرَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِيَارِيٌّ لِلْوَكِيلِ لَا الْمُوَكِّلِ وَلَيْسَتْ الْوَكَالَةُ سَبَبًا لَهُ بَلْ شَرْطٌ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ اخْتِيَارُ الْوَكِيلِ وَاخْتِيَارُهُ لَيْسَ لَازِمًا لِلْوَكَالَةِ وَلَا مُسَبَّبًا عَنْهَا إذْ لَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ

ص: 440

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ يُدَبِّرَهُ أَوْ يُكَاتِبَهُ أَوْ أَمَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ وَشَرْطٌ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِالثَّمَنِ وَفِي الشِّرَاءِ أَنْ يُسَيِّبَ الْخِنْزِيرَ وَيُرِيقَ الْخَمْرَ أَوْ يُخَلِّلَهَا بَقِيَ تَصَرُّفًا غَيْرَ مُعَقَّبٍ لِفَائِدَتِهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ تُكْرَهُ أَشَدَّ مَا يَكُون مِنْ الْكَرَاهَةِ وَهِيَ لَيْسَ إلَّا كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الصِّحَّةِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ يُدَبِّرَهُ أَوْ يُكَاتِبَهُ أَوْ أَمَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ وَشَرْطٌ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ) قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْوَسَطِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: قَدِمْت مَكَّةَ فَوَجَدْت بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى وَابْنَ شُبْرُمَةَ، فَسَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ رَجُلٍ بَاعَ بَيْعًا وَشَرَطَ شَرْطًا فَقَالَ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، ثُمَّ أَتَيْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَسَأَلْته فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، ثُمَّ أَتَيْت ابْنَ شُبْرُمَةَ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ، فَقُلْت: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَأَتَيْت أَبَا حَنِيفَةَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» الْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. ثُمَّ أَتَيْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَأَخْبَرْته فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا قَالَا. حَدَّثَنِي هَمَّامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ «عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَأُعْتِقَهَا» الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. ثُمَّ أَتَيْت ابْنَ شُبْرُمَةَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا قَالَا. حَدَّثَنِي مِسْعَرُ بْنُ كَدَامٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «بِعْت مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً وَشَرَطَ لِي حُمْلَانَهَا إلَى الْمَدِينَةِ» الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ.

وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ عُلُومِ الْحَدِيثِ.

وَمِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ ذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ وَسَكَتَ عَلَيْهِ؛ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ مُسْتَدَلٌّ عَلَيْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِيهَا فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا التَّخْصِيصَ فَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَيْهِ، وَاسْتَثْنَى مَنْ مَنَعَ الْبَيْعَ مَعَ الشَّرْطِ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا رَدَّ فِي حَدِيثِهَا إلَّا الْوَلَاءَ.

وَذَكَرَ الْأَقْطَعُ أَنَّهَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَحَدِيثُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي، فَقُلْت: إنْ أَحَبَّ أَهْلُك أَنْ أُعِيدَهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُك لِي فَعَلْت، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ: إنِّي عَرَضْت عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ» الْحَدِيثُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ، وَفِيهِ إبْطَالُ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ

ص: 441

ثُمَّ جُمْلَةُ الْمَذْهَبِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ شَرْطٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ كَشَرْطِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِثُبُوتِهِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ يُفْسِدُهُ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَارِيَّةً عَنْ الْعِوَضِ فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِهِ الْمُنَازَعَةُ فَيَعْرَى الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَارَفًا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدِ لَا يُفْسِدُهُ

بَيْعَهُ.

وَقَالَ: إنَّمَا اشْتَرَطَتْ عَائِشَةُ الْوَلَاءَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَهُوَ: إنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْك كِتَابَتَك، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَرَدَّ اشْتِرَاطَهُمْ الْوَلَاءَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْعِتْقَ مِنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الشَّرْطَ إذَا كَانَ أَمْرًا لَا يَحِلُّ شَرْعًا مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا يَقَعَ عِتْقُك إذَا أَعْتَقْته يَبْطُلُ هُوَ دُونَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَغْوٌ لَا يُمْكِنُ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَيَتِمُّ الْبَيْعُ كَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إذَا كَانَ خَارِجًا عَنْ طَاقَةِ مَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَمْكَنَ وَيَكُونُ أَصْلُ هَذَا حَدِيثُ بَرِيرَةَ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّمَا لَمْ يَخُصُّوهُ بِهِ لِأَنَّ الْعَامَّ عِنْدَهُمْ يُعَارِضُ الْخَاصَّ وَيُطْلَبُ مَعَهُ أَسْبَابُ التَّرْجِيحِ، وَالْمُرَجِّحُ هُنَا لِلْعَامِّ وَهُوَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَهُوَ كَوْنُهُ مَانِعًا. وَحَدِيثُ بَرِيرَةَ مُبِيحٌ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا قَبْلَ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُصُولِيَّةَ أَنَّ مَا فِيهِ الْإِبَاحَةُ مَنْسُوخٌ بِمَا فِيهِ النَّهْيُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ شُبْرُمَةَ فَالشَّرْطُ وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ حُمْلَانِهِ لَمْ يَقَعْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، كَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَنَحْنُ كَذَلِكَ نَقُولُ مَعَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْعَامِّ. فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ بِإِفْسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ مَعَ أَنَّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مِنْ قَبِيلِ الْمُرْسَلِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ؟ قُلْت: ذَلِكَ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِجَدِّ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَلِهَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَى هَذَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ بَلَاغًا. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ حَكِيمٍ قَالَ: «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ فِي الْبَيْعِ: عَنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ، وَشَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ» وَمَعْنَى السَّلَفِ فِي الْبَيْعِ: الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ الْبَيْعِ الَّذِي شَرَطَ فِيهِ مَنْفَعَةً لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي (قَوْلُهُ ثُمَّ جُمْلَةُ الْأَمْرِ فِيهِ) أَيْ فِي الشَّرْطِ (أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْعَقْدُ) كَشَرْطِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ إلَى قَبْضِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمُوجِبِ الْعَقْدِ أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ، لَكِنْ

ص: 442

وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ

ثَبَتَ تَصْحِيحُهُ شَرْعًا بِمَا لَا مَرَدَّ لَهُ كَشَرْطِ الْأَجَلِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي السَّلَمِ وَشَرْطٍ فِي الْخِيَارِ فَكَذَلِكَ هُوَ صَحِيحٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ثُبُوتِهِ شَرْعًا رُخْصَةً أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ وَلَيْسَ مِمَّا ثَبَتَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ مُتَعَارَفٌ كَشِرَاءِ نَعْلٍ عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ أَوْ يُشْرِكَهَا فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لِمَا سَيَأْتِي، وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ التَّوَثُّقَ بِالثَّمَنِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ كَفِيلٍ بِالثَّمَنِ حَاضِرٍ، وَقَبْلَ الْكَفَالَةِ، أَوْ بِأَنْ يَرْهَنَهُ بِهِ رَهْنًا مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ أَوْ التَّسْمِيَةِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ خِلَافًا لِزُفَرَ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ التَّوَثُّقُ لِلثَّمَنِ فَيَكُونُ كَاشْتِرَاطِ الْجَوْدَةِ فِيهِ فَهُوَ مُقَرِّرٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَفِيلُ حَاضِرًا فَحَضَرَ وَقَبِلَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ، فَلَوْ بَعْدَهُ أَوْ كَانَ حَاضِرًا فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَجُزْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مُسَمًّى وَلَا مُشَارًا إلَيْهِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ يُضَافُ إلَى الْبَيْعِ فَيَصِيرُ الْكَفِيلُ كَالْمُشْتَرِي فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ الْعَقْدَ.

بِخِلَافِ الرَّهْنِ لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُ، لَكِنْ مَا لَمْ يُسَلَّمْ لِلْبَائِعِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الرَّهْنِ وَإِنْ انْعَقَدَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ سَلَّمَ مَضَى الْعَقْدُ عَلَى مَا عَقَدَا، وَإِنْ امْتَنَعَ عَنْ تَسْلِيمِهِ لَا يُجْبَرُ عِنْدَنَا بَلْ يُؤْمَرُ بِدَفْعِ الثَّمَنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ الرَّهْنَ وَلَا الثَّمَنَ خُيِّرَ الْبَائِعُ فِي الْفَسْخِ، وَشَرْطُ الْحَوَالَةِ كَالْكَفَالَةِ؛ وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ وَلَيْسَ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، كَأَنْ اشْتَرَى حِنْطَةً عَلَى أَنْ يَطْحَنَهَا الْبَائِعُ أَوْ يَتْرُكَهَا فِي دَارِهِ شَهْرًا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَكَذَا شَرْطُ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ يُعْجِبُهُ أَنْ لَا تَتَدَاوَلَهُ الْأَيْدِي، وَكَذَا عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهُ مِنْ مَكَّةَ مَثَلًا.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ جَازَ وَعَلَى أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ فُلَانٍ لَا يَجُوزُ: أَيْ لَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْبَيْعَ مِنْ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ لِلْمَبِيعِ مَنْفَعَةً وَلَهَا مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ وَهُوَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ لَهُ طَالِبًا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ.

وَمِنْهُ إذَا بَاعَ سَاحَةً عَلَى أَنْ يَبْنِيَ بِهَا مَسْجِدًا أَوْ طَعَامًا عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ. أَمَّا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا أَوْ حَيَوَانًا غَيْرَ آدَمِيٍّ فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَازُ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي الْمُزَارَعَةِ مِنْ أَنَّ أَحَدَ الْمُزَارِعِينَ إذَا شَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ أَوْ يَهَبَهُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْعَامِلِينَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَكَذَا ذَكَرَ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ)؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ

ص: 443

لِأَنَّهُ انْعَدَمَتْ الْمُطَالَبَةُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَلَا إلَى الْمُنَازَعَةِ.

إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الْإِطْلَاقُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّخْيِيرُ لَا الْإِلْزَامُ حَتْمًا، وَالشَّرْطُ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي الْعِتْقِ وَيَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ نَسَمَةً فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَفْسِيرُ الْمَبِيعِ نَسَمَةً أَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُعْتِقُهُ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ،

انْعَدَمَتْ الْمُطَالَبَةُ) وَالْمُنَازَعَةُ (فَلَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا) وَمَا أَبْطَلَ الشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ الْمَنْفَعَةُ الْبَيْعَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ عَارِيَّةٍ عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَهُوَ مَعْنَى الرِّبَا. وَمِنْ مِثْلِ الْبَاطِلِ بَيْعُ الْعَبْدِ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ يُكَاتِبَهُ أَوْ يُدَبِّرَهُ، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي شَرْطِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فَيُصَحِّحُهُ. ثُمَّ إنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَذَاكَ وَإِلَّا خُيِّرَ الْبَائِعُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَفِي قَوْلِ آخَرِينَ يُجْبَرُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَقِيسُهُ) الشَّافِعِيُّ (عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ نَسَمَةً) ثُمَّ فَسَّرَهُ (بِأَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُعْتِقُهُ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ ذَلِكَ) وَعَلَى تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ هَذَا تَتَحَقَّقُ صُورَةُ الْقِيَاسِ.

وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِهِ بِأَنْ يُبَاعَ بِشَرْطِ عِتْقِهِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ نَفْسُ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ يُفْهَمُ مِنْ قُوَّتِهِ أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِمَا ذَكَرَ مُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ فَنَفَاهُ، وَحِينَئِذٍ يَقْوَى الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا قِيَاسَ.

قَالَ: (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ

ص: 444

فَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ صَحَّ الْبَيْعُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَبْقَى فَاسِدًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَمَا إذَا تَلِفَ بِوَجْهٍ آخَرَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ حُكْمِهِ يُلَائِمُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ لِلْمِلْكِ وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْعِتْقُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَإِذَا تَلِفَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُلَاءَمَةُ فَيَتَقَرَّرُ الْفَسَادُ، وَإِذَا وُجِدَ الْعِتْقُ تَحَقَّقَتْ الْمُلَاءَمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْجَوَازِ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا

كَيْفَمَا وُجِدَ وَهُوَ مَذْهَبُهُ وَلِهَذَا خَصَّهُ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ. وَجَوَابُهُ أَنْ لَيْسَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَصْلًا أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ بَلْ كَانَ عَلَى وَعْدِ الْعِتْقِ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ مَنْعِ بَيْعٍ بِشَرْطٍ فِي شَيْءٍ وَلَا يَصْلُحُ الْبَيْعُ مِمَّنْ يُظَنُّ عِتْقُهُ أَصْلًا لِقِيَاسِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ عِتْقِهِ لِعَدَمِ الْجَامِعِ، وَنَسَمَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى مُعَرَّضًا لِلْعِتْقِ، وَعَبَّرَ بِالنَّسَمَةِ عَنْهُ لِكَثْرَةِ ذِكْرِهَا فِيمَا إذَا أُعْتِقَتْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَكَّ الرَّقَبَةَ وَأَعْتَقَ النَّسَمَةَ» فَصُيِّرَتْ كَالِاسْمِ لَمَّا عَرَضَ لِلْعِتْقِ فَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعْنَى الْفِعْلِ (قَوْلُهُ فَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي إلَخْ).

هَذَا فَرْعٌ عَلَى قَوْلِنَا بِفَسَادِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِهَذَا الشَّرْطِ لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَمَا قَبَضَهُ عَتَقَ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَجَعَ الْبَيْعُ صَحِيحًا حَتَّى يَجِبَ الثَّمَنُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعُودُ صَحِيحًا فَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ.

وَأَمَّا لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَعْتِقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ تَلِفَ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ (فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَمَا لَوْ تَلِفَ بِوَجْهٍ آخَرَ) مِنْ مَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَقِيَاسًا عَلَى تَدْبِيرِهِ وَاسْتِيلَادِهَا فَإِنَّ هُنَاكَ الضَّمَانَ بِالْقِيمَةِ اتِّفَاقًا فَهُوَ أَوْفَى بِالشَّرْطِ اعْتِبَارًا لِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ) وَإِنْ كَانَ (لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ قَضِيَّةَ الْعَقْدِ الْإِطْلَاقُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّخْيِيرُ إلَى آخِرِهِ (وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ حُكْمِهِ) وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ (يُلَائِمُهُ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْعِتْقَ (مِنْهُ لِلْمِلْكِ) الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْبَيْعِ (وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ) وُجُودُهُ. وَالْفَاسِدُ لَا تَقَرُّرَ لَهُ فَكَانَ صَحِيحًا (وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْعِتْقُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ) إذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَعْتَقَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَلِفَ بِوَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ هَذَا الشَّرْطُ مُلَائِمًا فَيَبْقَى عَلَى مُجَرَّدِ جِهَتِهِ الْمُفْسِدَةِ، وَلِذَا لَوْ مَاتَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ لَا يَصِيرُ

ص: 445

قَالَ (وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْبَائِعُ شَهْرًا أَوْ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دِرْهَمًا أَوْ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةً)؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِدْمَةُ وَالسُّكْنَى يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ يَكُونُ إجَارَةً فِي بَيْعٍ، وَلَوْ كَانَ لَا يُقَابِلُهُمَا يَكُونُ إعَارَةً فِي بَيْعٍ.

«وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ»

شَرْطُ الْعِتْقِ مُلَائِمًا وَهُوَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ وَتَصْحِيحِهِ، وَكَوْنُ شَيْءٍ آخَرَ كَالْمَوْتِ وَنَحْوِهِ مُلَائِمًا لَا يَصِيرُ بِهِ هَذَا الشَّرْطُ الَّذِي وَقَعَ مُفْسِدًا مُلَائِمًا.

وَأَمَّا شَرْطُ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْعَقْدُ صَحِيحًا إذَا دَبَّرَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ اسْتَوْلَدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ شَرْطُ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ مُلَائِمًا؛ لِأَنَّهُ بِتَيَقُّنِ امْتِنَاعِ وُرُودِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ لِجَوَازِ أَنْ يَحْكُمُ قَاضٍ بِصِحَّةِ بَيْعِهِمَا فَيَتَقَرَّرُ الْفَسَادُ. وَأُورِدَ لَمَّا كَانَ فِعْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُصَحِّحًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي الِابْتِدَاءِ عِنْدَ اشْتِرَاطِهِ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُلَائِمُهُ بِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ فَعَلِمْنَا فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ تَحَقُّقِهِ بِمُقْتَضَى ذَاتِهِ، وَعِنْدَ تَحَقُّقِ حُكْمِهِ بِفِعْلِهِ بِمُقْتَضَى حُكْمِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى أَمَةً بِشَرْطِ أَنْ يَطَأَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ لَا يَطَأَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ فِي الْأُولَى لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ. قُلْنَا: الْمُلَائِمُ لَهُ إطْلَاقُ الْوَطْءِ لَا إلْزَامُهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ فِيهِمَا الْأَوَّلُ لِمَا لِأَبِي يُوسُفَ، وَالثَّانِي إنْ لَمْ يَقْتَضِهِ الْعَقْدُ وَلَا يَرْجِعُ نَفْعُهُ لِأَحَدٍ فَهُوَ شَرْطٌ لَا طَالِبَ لَهُ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْبَائِعُ شَهْرًا أَوْ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةً) أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْمُشْتَرِي قَمِيصًا أَوْ قَبَاءً فَهُوَ فَاسِدٌ (لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ) وَقَدْ وَرَدَ فِي عَيْنِ بَعْضِهَا نَهْيٌ خَاصٌّ وَهُوَ (نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ) أَيْ قَرْضٍ.

ثُمَّ خَصَّ شَرْطَيْ الِاسْتِخْدَامِ وَالسُّكْنَى بِوَجْهٍ مَعْنَوِيٍّ فَقَالَ: (وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِدْمَةُ وَالسُّكْنَى يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ) بِأَنْ يَعْتَبِرَ الْمُسَمَّى ثَمَنًا وَبِإِزَاءِ الْمَبِيعِ وَبِإِزَاءِ أُجْرَةِ الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى (يَكُونُ إجَارَةً فِي بَيْعٍ، وَلَوْ كَانَ لَا يُقَابِلُهُمَا يَكُونُ إعَارَةً فِي بَيْعٍ. وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ»)

فَيَتَنَاوَلُ كُلًّا مِنْ الِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْوَدَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ» أَمَّا ثُبُوتُهُ فَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَسْوَدَ بْنِ عَامِرٍ وَأَعَلَّ بَعْضَ طُرُقِهِ وَرَجَّحَ وَقْفَهُ، وَبِالْوَقْفِ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ.

وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا سَمِعْت، وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ بِأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ

ص: 446

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَبِيعُك هَذَا نَقْدًا بِكَذَا وَنَسِيئَةً بِكَذَا وَيَفْتَرِقَانِ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَرِوَايَةُ ابْنِ حِبَّانَ لِلْحَدِيثِ مَوْقُوفًا «الصَّفْقَةُ فِي الصَّفْقَتَيْنِ رِبًا» تُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ الْمُصَنِّفِ مَعَ أَنَّهُ أَقْرَبُ تَبَادُرًا مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَكْثَرُ فَائِدَةً، فَإِنَّ كَوْنَ الثَّمَنِ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْدِ أَلْفًا وَعَلَى تَقْدِيرِ النَّسِيئَةِ أَلْفَيْنِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الرِّبَا، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ نَحْوِ السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ» وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْحَدِيثِ ظَنُّ أَنَّهُ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هَذَا أَخُصُّ مِنْهُ. فَإِنَّهُ فِي خُصُوصٍ مِنْ الصَّفَقَاتِ وَهُوَ الْبَيْعُ، وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنْ يَقُولَ أَبِيعُك دَارِي هَذِهِ بِكَذَا عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي غُلَامَك بِكَذَا، فَإِذَا وَجَبَ لِي غُلَامُك وَجَبَتْ لَك دَارِي. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ بَلَاغًا.

وَفِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ: لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُقْرِضَنِي فُلَانٌ الْأَجْنَبِيُّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ الْبَيْعَ لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَجْنَبِيَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ فَإِمَّا بِطَرِيقِ الضَّمَانِ عَنْ الْمُشْتَرِي أَوْ بِطَرِيقِ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ.

لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَكَيْفَ يَتَحَمَّلُهَا الْكَفِيلُ، وَلَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ الْأَجْنَبِيَّ لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ. وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَالَ: بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ عَلِيَّ وَالْعَبْدُ لِفُلَانٍ، حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَاسْتَبْعَدَهُ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ. .

[فُرُوعٌ]

بَاعَ أَمَةً بِشَرْطِ أَنْ يَطَأَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ أَنْ لَا يَطَأَهَا فَسَدَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِمَا؛ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْإِطْلَاقُ وَهَذَا تَعْيِينُ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَفْسُدُ فِي الثَّانِي لِمَا قُلْنَا، وَيَصِحُّ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِيهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ فِيهِمَا.

وَلَوْ كَانَ فِي الشَّرْطِ ضَرَرٌ كَأَنْ شَرَطَ أَنْ يُقْرِضَ أَجْنَبِيًّا لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ يَفْسُدُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا مَضَرَّةٌ كَأَنْ اشْتَرَى طَعَامًا بِشَرْطِ أَنْ يَأْكُلَهُ أَوْ ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَلْبَسَهُ جَازَ.

وَذَكَرَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ الْعُقُودَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ تَمَامُهَا بِالْقَبُولِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: قِسْمٌ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَجَهَالَةِ الْبَدَلِ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْقِسْمَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَعْوَى الْمَالِ. وَقِسْمٌ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَلَا جَهَالَةِ الْبَدَلِ وَهُوَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ عَمْدٍ. وَقِسْمٌ لَهُ شَبَهٌ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ يُبْطِلُهَا جَهَالَةُ الْبَدَلِ وَلَا يُبْطِلُهَا الشَّرْطُ الْفَاسِدُ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: الَّتِي تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ: الْبَيْعُ، وَالْقِسْمَةُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْإِجَازَةُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ، وَعَزْلُ الْوَكِيلِ فِي رِوَايَةِ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَتَعْلِيقُ إيجَابِ الِاعْتِكَافِ بِالشُّرُوطِ، وَالْمُزَارَعَةُ، وَالْمُعَامَلَةُ، وَالْإِقْرَارُ، وَالْوَقْفُ فِي رِوَايَةٍ. وَمَا لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ: الطَّلَاقُ، وَالْخُلْعُ، وَلَوْ بِغَيْرِ مَالٍ، وَالْعِتْقُ بِمَالٍ وَبِلَا مَالٍ، وَالرَّهْنُ، وَالْقَرْضُ، وَالْهِبَةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْوِصَايَةُ، وَالشَّرِكَةُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَالْقَضَاءُ، وَالْإِمَارَةُ، وَالتَّحْكِيمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَالْكَفَالَةُ، وَالْحَوَالَةُ، وَالْوَكَالَةُ، وَالْإِقَالَةُ، وَالنَّسَبُ، وَالْكِتَابَةُ، وَإِذْنُ الْعَبْدِ، وَدَعْوَةُ الْوَلَدِ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَالْجِرَاحَةُ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا، وَجِنَايَةُ الْغَصْبِ، الْوَدِيعَةُ، وَالْعَارِيَّةُ إذَا ضَمِنَهَا رَجُلٌ وَشَرَطَ فِيهَا حَوَالَةً أَوْ كَفَالَةً، وَعَقْدُ الذِّمَّةِ، وَتَعْلِيقُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَتَعْلِيقُ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَعَزْلُ الْقَاضِي.

وَالنِّكَاحُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَلَا إضَافَتُهُ

ص: 447

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ بَاطِلٌ فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ تَرْفِيهًا فَيَلِيقُ بِالدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَالْحَمْلُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ خِلْقَةً

لَكِنْ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَكَذَا الْحَجْرُ عَلَى الْمَأْذُونِ لَا يَبْطُلُ الْحَجْرُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَكَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْكَفَالَةُ بِالشَّرْطِ الْمُتَعَارَفِ تَصِحُّ هِيَ وَالشَّرْطُ، وَبِغَيْرِ الْمُتَعَارَفِ يَبْطُلُ وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ انْتَهَى.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكَاتِ أَوْ التَّقْيِيدَاتِ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ؛ فَمِنْ الْأَوَّلِ الْإِقْرَارُ وَالْإِبْرَاءُ، وَمِنْ الثَّانِي عَزْلُ الْوَكِيلِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْعَبْدِ وَالرَّجْعَةُ وَالتَّحْكِيمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكَاتِ فَلَا يَتَعَلَّقُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَعَلَّقُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ إطْلَاقِ الْوِلَايَةِ كَالْقَضَاءِ وَالْإِذْنِ وَالْإِيصَاءِ وَالْوَكَالَةِ، وَإِنْ جَعَلَ الْوَكَالَةَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكَاتِ بَلْ هِيَ بِالْوِلَايَاتِ أَشْبَهُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ) إيَّاهَا (إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ بَاطِلٌ فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ تَرْفِيهًا فَيَلِيقُ بِالدُّيُونِ)؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً فِي الْبَيْعِ فَيَحْصُلُ بِالْأَجَلِ التَّرْفِيهُ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ مُعَيَّنٌ حَاضِرٌ لَا فَائِدَةَ فِي إلْزَامِهِ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِهِ إذْ فَائِدَتُهُ الِاسْتِحْصَالُ بِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ فَيَكُونُ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ لِلْمُشْتَرِي

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا فَسَدَ الْبَيْعُ، وَالْأَصْلُ) الْمُمَهِّدُ لِتَعْرِيفِ مَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ، وَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ هُوَ (أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ) ابْتِدَاءً (لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ) وَمَا يَصِحُّ يَصِحُّ وَمِمَّا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ.

هَذَا وَهُوَ كَوْنُ الْحَمْلِ لَا يَصِحُّ إفْرَادِهِ بِالْعَقْدِ (لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ خِلْقَةً) كَرِجْلِ الشَّاةِ وَأَلْيَتِهَا حَتَّى أَنَّهُ يُقْرَضُ بِالْمِقْرَاضِ وَأَطْرَافُ الْحَيَوَانِ لَا تُفْرَدُ بِالْعَقْدِ إجْمَاعًا. وَمِنْ فُرُوعِهِ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ إلَّا قَفِيزًا مِنْهَا بِكَذَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ إفْرَادَ قَفِيزٍ مِنْهَا بِالْبَيْعِ يَجُوزُ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ إلَّا شَاةً بِأَلْفٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِجَوَازِ شِرَاءِ شَاةٍ مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَثْنَى هَذِهِ الشَّاةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِانْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ حَيْثُ يَجُوزُ لِجَوَازِ إفْرَادِهَا بِالْعَقْدِ، وَكَذَا الْحَالُ

ص: 448

وَبَيْعُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُهُمَا فَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُوجِبِ فَلَا يَصِحُّ فَيَصِيرُ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِهِ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا تُبْطِلُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ، غَيْرَ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الْكِتَابَةِ مَا يَتَمَكَّنُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْهَا، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لَا تَبْطُلُ بِاسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ، بَلْ يَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تُبْطِلُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ لَا تَبْطُلُ بِهِ، لَكِنْ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ

فِي كُلِّ عَدَدِيٍّ مُتَفَاوِتٍ.

وَمِنْهُ مَا إذَا بَاعَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ «لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ» . وَأَمَّا أَنَّ مَا لَا يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ فَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يُخْرِجُ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ الصَّدْرُ عَنْ حُكْمِهِ وَمَا يَدْخُلُ تَبَعًا لَيْسَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ كَالْمَفَاتِيحِ لَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الدَّارِ فَلَا تُسْتَثْنَى.

وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (بَيْعُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُهُمَا) أَيْ الْأَصْلَ وَالتَّبَعَ (فَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُوجَبِ) فَلَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ إلَّا إخْرَاجًا مِنْ حُكْمِ الصَّدْرِ وَحُكْمُهُ هُوَ مُوجِبُهُ فَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِصْلَاحُهُ أَنْ يُرِيدَ بِالتَّنَاوُلِ فِيهَا الْحُكْمَ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُوجَبِ: أَيْ طَرِيقُ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَهِيعُهُ لَا حَقِيقَةُ مُوجِبِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بَقِيَ (شَرْطًا فَاسِدًا) وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْبَائِعِ (وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِهِ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ) وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّهَا عُقُودُ مُعَاوَضَةٍ فَيُجْعَلُ بُطْلَانُهَا بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ أَثَرَ الْمُشَابَهَةِ، وَتُعَلَّلُ الْمُشَابَهَةُ بِأَنَّهَا عُقُودُ مُعَاوَضَاتٍ، إلَّا أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الْكِتَابَةِ شَرْطٌ فَاسِد تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.

وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الْعَقْدُ مِثْلُ أَنْ يُكَاتِبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ عَلَى قِيمَتِهِ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ لِتَمَكُّنِ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْكَائِنِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ فَسَادُ الْكِتَابَةِ بِالشَّرْطِ بِذَلِكَ لِشَبَهِهِ الْإِعْتَاقِ وَالنِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَحَبَّ الْبَدَلَيْنِ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَكَوْنُهُ مُعَاوَضَةً إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّيِّدِ فِي الِانْتِهَاءِ وَكَانَ لَهُ شَبَهَانِ: شَبَهٌ بِالْبَيْعِ، وَشَبَهٌ بِمَا لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ.

فَيَفْسُدَا بِالْمُفْسِدِ الْقَوِيِّ وَهُوَ مَا يَتَحَقَّقُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهِ لِلْبَيْعِ، وَلَمْ يَفْسُدْ بِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِشَبَهِهِ بِالْعِتْقِ وَالنِّكَاحِ، وَهُمَا لَا يَفْسُدَانِ مُطْلَقًا بِالشَّرْطِ الْكَائِنِ لِصُلْبِ الْعَقْدِ وَلَا فِي غَيْرِهِ.

(و) أَمَّا (الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ) فَلَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ (فَلَا تَبْطُلُ بِاسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ) فَلَوْ قَالَ وَهَبْتُك أَوْ تَصَدَّقْت عَلَيْك بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ إلَّا

ص: 449

حَتَّى يَكُونَ الْحَمْلُ مِيرَاثًا وَالْجَارِيَةُ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثَ يَجْرِي فِيمَا فِي الْبَطْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَجْرِي فِيهَا.

حَمْلَهَا، أَوْ تَزَوَّجْت عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ اخْلَعْنِي عَلَيْهَا إلَّا حَمْلَهَا، أَوْ اجْعَلْهَا بَدَلَ الصُّلْحِ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَدْخُلُ الْحَمْلُ وَالْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكَاتِ، لَكِنْ عُرِفَ بِالنَّصِّ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ الْعُمْرَى بِشَرْطِ عَوْدِ الْمُعَمَّرِ فَتَصِيرُ الْعُمْرَى لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا لِوَرَثَةِ الْمُعَمِّرِ.

وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَلَا تَبْطُلُ بِاسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ بَلْ تَصِحُّ بِالِاسْتِثْنَاءِ (حَتَّى يَكُونَ الْحَمْلُ مِيرَاثًا وَالْجَارِيَةُ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالْمِيرَاثُ يَجْرِي فِي الْحَمْلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا) بِأَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا خِدْمَتَهَا أَوْ إلَّا غَلَّتَهَا حَيْثُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ (لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَجْرِي فِي الْخِدْمَةِ) وَالْغَلَّةِ بِانْفِرَادِهَا حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ الْجَارِيَةِ أَوْ غَلَّتِهَا لِفُلَانٍ فَمَاتَ فُلَانٌ بَعْدَ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَا تَرِثُ وَرَثَتُهُ خِدْمَتَهَا وَلَا غَلَّتَهَا بَلْ يَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى بِحَمْلِ جَارِيَتِهِ لِآخَرَ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَكُونُ حَمْلُهَا لَهُ.

وَأُورِدَ عَلَى الْأَصْلِ أَنَّ الْخِدْمَةَ يَصِحُّ إفْرَادُهَا بِالْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهَا. أُجِيبَ بِمَنْعِ لُزُومِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ كُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ وَلَمْ يَلْزَمْ كُلُّ مَا لَا يَصِحُّ ثَمَنًا لَا يَصِحُّ أُجْرَةً، وَبِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ عَقْدًا حَتَّى صَحَّ قَبُولُ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَالْعَقْدُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَصِحُّ فَلَا يُرَدُّ نَقْضًا.

[فُرُوعٌ] بَاعَ صُبْرَةً بِمِائَةٍ إلَّا عُشْرَهَا فَلَهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ عُشْرَهَا لِي فَلَهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الثَّمَنِ خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِيهِمَا.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ قَالَ أَبِيعُك هَذِهِ الْمِائَةَ شَاةٍ بِمِائَةٍ عَلَى أَنَّ هَذِهِ لِي أَوْ وَلِي هَذِهِ فَسَدَ؛ وَلَوْ قَالَ إلَّا هَذِهِ كَانَ مَا بَقِيَ بِمِائَةٍ، وَلَوْ قَالَ وَلِي نِصْفُهَا كَانَ النِّصْفُ بِخَمْسِينَ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ إلَّا نِصْفَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ جَازَ فِي كُلِّهِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى بَاعَ نِصْفَهُ بِأَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ فَالنِّصْفُ الْمُسْتَثْنَى عَيَّنَ بَيْعَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ.

وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ فَسَدَ لِإِدْخَالِ صَفْقَةٍ فِي صَفْقَةٍ. وَلَوْ قَالَ بِعْتُك الدَّارَ الْخَارِجَةَ عَلَى أَنْ تَجْعَلَ لِي طَرِيقًا إلَى

ص: 450

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْبَائِعُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا أَوْ قَبَاءً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ عَلَى مَا مَرَّ (وَمَنْ اشْتَرَى نَعْلًا عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ قَالَ أَوْ يُشَرِّكَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) قَالَ رضي الله عنه: مَا ذَكَرَهُ جَوَابُ الْقِيَاسِ، وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ فَصَارَ كَصَبْغِ الثَّوْبِ

دَارِي هَذِهِ الدَّاخِلَةِ فَسَدَ الْبَيْعُ؛ وَلَوْ قَالَ إلَّا طَرِيقًا إلَى دَارِي الدَّاخِلَةِ جَازَ وَطَرِيقُهُ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ الْخَارِجَةِ؛ وَلَوْ بَاعَ بَيْتًا عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لِلْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ وَعَلَى أَنَّ بَابَهُ فِي الدِّهْلِيزِ يَجُوزُ؛ وَلَوْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ طَرِيقًا فَظَهَرَ أَنْ لَا لَهُ يُرَدُّ؛ وَلَوْ بَاعَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ إلَّا دِرْهَمًا أَوْ إلَّا ثَوْبًا أَوْ إلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ أَوْ هَذِهِ الشِّيَاهُ إلَّا وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا جَازَ؛ وَلَوْ بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ لَا بِنَاءَ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا بِنَاءٌ الْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ؛ وَلَوْ بَاعَهَا عَلَى أَنَّ بِنَاءَهَا مِنْ آجُرٍّ فَإِذَا هُوَ لَبِنٌ فَهُوَ فَاسِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌّ فَظَهَرَ بَلْخِيًّا؛ وَلَوْ بَاعَ الْأَرْضَ عَلَى أَنَّ فِيهَا بِنَاءً فَإِذَا لَا بِنَاءَ فِيهَا، وَكَذَا إذَا اشْتَرَاهَا بِشَجَرِهَا وَلَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ جَازَ وَلَهُ الْخِيَارُ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ بِعُلُوِّهَا وَسُفْلِهَا فَظَهَرَ أَنْ لَا عُلُوَّ لَهَا، وَمِثْلُهُ لَوْ اشْتَرَى بِأَجْذَاعِهَا

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَهُ الْبَائِعُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا أَوْ قَبَاءً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ (لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ عَلَى مَا مَرَّ) مِنْ امْتِنَاعِ الصَّفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ إلَّا أَنَّ هُنَا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ كَوْنُ الْخِيَاطَةِ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَهُوَ شَرْطُ إجَازَةٍ فِي بَيْعٍ، وَمَا تَقَدَّمَ كَانَ كَذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُقَابَلَةِ يَكُونُ إعَارَةً فِي بَيْعٍ (قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى نَعْلًا عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ) الْمُرَادُ اشْتَرَى أَدِيمًا عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ الْبَائِعُ نَعْلًا لَهُ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ النَّعْلِ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِهِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَتُهُ أَيْ نَعْلَ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا: أَيْ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهَا مِثَالًا آخَرَ لِيُتِمَّ نَعْلًا لِلرِّجْلَيْنِ، وَمِنْهُ حَذَوْت النَّعْلَ بِالنَّعْلِ: أَيْ قَدَّرْته بِمِثَالِ قِطْعَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَوْ يُشْرِكَهُ فَجَعَلَهُ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ نَعْلًا، وَلَا مَعْنًى لَأَنْ يَشْتَرِيَ أَدِيمًا عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ شِرَاكًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةُ النَّعْلِ (فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. قَالَ)

الْمُصَنِّفُ رحمه الله (مَا ذَكَرَهُ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ (جَوَابُ الْقِيَاسِ، وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّاهُ) مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ) الْبَيْعُ وَيَلْزَمُ الشَّرْطُ (لِلتَّعَامُلِ) كَذَلِكَ، وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِنَا شِرَاءُ الْقَبْقَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَيْ عَلَى أَنْ يُسَمِّرَ لَهُ سَيْرًا (وَصَارَ كَصَبْغِ الثَّوْبِ) مُقْتَضَى الْقِيَاسِ

ص: 451

وَلِلتَّعَامُلِ جَوَّزْنَا الِاسْتِصْنَاعَ.

قَالَ (وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَبَايِعَانِ ذَلِكَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ) وَهِيَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْبَيْعِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الْمُمَاكَسَةِ

مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ عُقِدَتْ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مَعَ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ عَيْنُ الصَّبْغِ وَلَكِنْ جُوِّزَ لِلتَّعَامُلِ. وَمِثْلُهُ إجَارَةُ الظِّئْرِ مَعَ لُزُومِ اسْتِهْلَاكِ اللَّبَنِ جَازَ لِلتَّعَامُلِ، لَكِنْ فِي الْفَوَائِدِ الْمُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ فِعْلُ الصَّبْغِ وَالْحَضَانَةُ فِي اسْتِئْجَارِ الصَّبَّاغِ وَالظِّئْرِ وَاللَّبَنُ آلَةُ فِعْلِهِمَا (وَلِلتَّعَامُلِ جَوَّزْنَا الِاسْتِصْنَاعَ) مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَمِنْ أَنْوَاعِهِ شِرَاءُ الصُّوفِ الْمَنْسُوجِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ الْبَائِعُ قَلَنْسُوَةً بِشَرْطِ أَنْ يُبَطِّنَ لَهَا الْبَائِعُ بِطَانَةً مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَنَّ بِهِ كَذَا، وَمَا تَقَدَّمَ كَانَ الْمَشْرُوطُ مَعْدُومًا فَيُشْتَرَطُ أَنْ يُفْعَلَ مِنْ هَذَا.

ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: اشْتَرَى شَاةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ يَفْسُدُ الْبَيْعُ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. وَأَصَحُّهُمَا يَصِحُّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: الْقَوْلَانِ فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ، أَمَّا فِي الْجَوَارِي يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْلُنَا. ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُرِيدُهَا لِلظَّئُورَةِ فَيَفْسُدُ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ بَعْدَ فَرْضِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَلِمَ ذَلِكَ بَلْ شَرَطَهُ، وَكَوْنُهُ اشْتَرَى خِلَافَ مَا يَحْصُلُ غَرَضُهُ لَا يُوجِبُ فَسَادًا بَعْدَ الرِّضَا بِهِ. وَعَنْ الْهِنْدُوَانِيُّ شَرْطُ الْحَبَلِ مِنْ الْبَائِعِ لَا يُفْسِدُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَذْكُرُهُ عَلَى بَيَانِ الْعَيْبِ عَادَةً.

وَلَوْ وُجِدَ مِنْ الْمُشْتَرِي يَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ اشْتِرَاطِ الزِّيَادَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى سِمْسِمًا أَوْ زَيْتُونًا أَوْ حِنْطَةً عَلَى أَنَّ فِيهَا كَذَا هُنَا أَوْ يُخْرِجُ كَذَا دَقِيقًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَوْ شَرَطَ فِي الشَّاةِ أَنَّهَا حَلُوبٌ أَوْ لَبُونٌ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَالْكَرْخِيُّ يُفْسِدُ، وَالطَّحَاوِيُّ لَا يُفْسِدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهِ.

وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِوُقُوعِ الْمُنَازَعَةِ فِي أَنَّ مَعْنَى الْحَلُوبِ مَا يَكُونُ لَبَنُهَا هَذَا الْمِقْدَارَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا إلَى غَايَةِ كَذَا، وَلَوْ كَانَ مَنْفَعَةُ الشَّرْطِ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ كَالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُقْرِضَ فُلَانًا كَذَا فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ كُلُّ شَيْءٍ يُشْتَرَطُ عَلَى الْبَائِعِ يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ إذَا شُرِطَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ لَا يَفْسُدُ بِهِ إذَا شُرِطَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَهُوَ جَائِزٌ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي كَالْبَيْعِ بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ يَحُطَّ فُلَانٌ الْأَجْنَبِيُّ عَشَرَةً جَازَ الْبَيْعُ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِمِائَةٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِفُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ دِينَارًا مِنْ الثَّمَنِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَفِي الْمُنْتَقَى خِلَافُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي.

قَالَ: لَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ دِينَارًا مِنْ الثَّمَنِ جَازَ وَهُوَ حَسَنٌ، لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا حَطِيطَةٌ مُشْتَرَطَةٌ وَمَآلُهَا إلَى الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الْأَنْقَصِ. وَلَوْ بَاعَ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ أَوْ السُّفْلَ عَلَى أَنَّ لَهُ قَرَارَ الْعُلُوِّ جَازَ. وَلَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيكُ الْمُشْتَرِي فِي نِصْفِ هَذَا فَسَدَ. وَلَوْ قَالَ نِصْفَيْهِمَا جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَ هَذَا الثَّوْبَ وَقَالَ أَنَا شَرِيكُك فِي نِصْفِهِ، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ يَجُوزَ الْأَوَّلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَاصِلِ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَنِصْفِ الْآخَرِ شَائِعًا صَفْقَةً وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ.

وَلَوْ بَاعَ هَذَا بِأَلْفٍ إلَّا نِصْفَهُ بِسِتِّمِائَةِ فَقَدْ بَاعَ نِصْفَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ

(قَوْلُهُ وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ) وَهُوَ يَوْمٌ فِي طَرْفِ الرَّبِيعِ وَأَصْلُهُ نَوْرُوزُ عَرَبٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: كُلُّ يَوْمٍ لَنَا نَوْرُوزٌ حِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يَبْتَهِجُونَ بِهِ. وَالْمِهْرَجَانُ يَوْمٌ فِي طَرْفِ الْخَرِيفِ مُعَرَّبُ مهركان، وَقِيلَ هُمَا عِيدَانِ لِلْمَجُوسِ (وَصَوْمُ النَّصَارَى وَفِطْرُ الْيَهُودِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَبَايِعَانِ ذَلِكَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ) وَعُرِفَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤَجَّلِ هُنَا هُوَ الثَّمَنُ لَا الْمَبِيعُ؛ لِأَنَّ

ص: 452

إلَّا إذَا كَانَا يَعْرِفَانِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا، أَوْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى فِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِمْ مَعْلُومَةٌ بِالْأَيَّامِ فَلَا جَهَالَةَ فِيهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ)، وَكَذَلِكَ إلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالْقِطَافِ وَالْجِزَازِ؛ لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ، وَلَوْ كَفَلَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْكَفَالَةِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِيهَا

مُجَرَّدَ تَأْجِيلِ الْمَبِيعِ مُفْسِدٌ، وَلَوْ كَانَ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَلَا يُنَاسِبُ تَعْلِيلَ فَسَادِ تَأْجِيلِ الْمَبِيعِ بِجَهَالَةِ الْأَجَلِ.

وَبِقَوْلِهِ: (إذَا لَمْ يَعْرِفْ إلَى آخِرِهِ أَنَّ الْفَسَادَ) بِالتَّأْجِيلِ إلَى هَذِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ خُصُوصِ أَوْقَاتِهَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ. فَلَوْ كَانَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ صَحَّ. قِيلَ: وَتَخْصِيصُهُ الْيَهُودَ بِالْفِطْرِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ابْتِدَاءَ صَوْمِهِمْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُفْسِدَ الْجَهَالَةُ، فَإِذَا انْتَفَتْ بِالْعِلْمِ بِخُصُوصِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ. وَلِذَا قَالَ (أَوْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى فِطْرِ النَّصَارَى بَعْدَمَا شَرَعُوا فِي صَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ صَوْمِهِمْ بِالْأَيَّامِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ) وَهِيَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ التَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ يَصِحُّ إذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا هُوَ فِي الثَّمَنِ الدَّيْنُ، أَمَّا لَوْ كَانَ ثَمَنًا عَيْنًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ بِالْأَجَلِ فِيهِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُفْسِدًا لِتَأْجِيلِ الْبَيْعِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ. وَقَوْلِهِ (لِابْتِنَائِهَا عَلَى الْمُمَاكَسَةِ) الْمُمَاكَسَةُ: اسْتِنْقَاصُ الثَّمَنِ، وَالْمَكْسُ وَالْمِكَاسُ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْبَيْعِ عَادَةً وَهُوَ يُوجِبُ الْمُنَازَعَةَ، فَكَانَتْ الْمُنَازَعَةُ ثَابِتَةً فِي الْبَيْعِ لِوُجُودِ مُوجِبِهَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَعِنْدَ جَهَالَةِ وَقْتِ الْقَبْضِ يُحَصِّلُ أُخْرَى عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِالدِّينِ وَالنَّفْسِ فَلَا يُشْرَعُ الْعَقْدُ مَعَ ذَلِكَ. وَحَقِيقَةُ هَذَا يَصْلُحُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِنَا لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعُ هَذِهِ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ. بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ

(وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ وَالْحَصَادِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا (وَ) مِثْلُهُ (الْقِطَافُ) وَهُوَ لِلْعِنَبِ (وَالدِّيَاسُ) وَهُوَ دَوْسُ الْحَبِّ بِالْقَدَمِ لِيَنْقَشِرَ، وَأَصْلُهُ الدِّوَاسُ بِالْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الدَّوْسِ قُلِبَتْ يَاءً لِلْكَسْرِ قَبْلَهَا (وَالْجِزَازُ) أَيْ جَزَّ صُوفِ الْغَنَمِ (لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ) وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِزَازُ النَّخْلِ (وَلَوْ كَفَلَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْكَفَالَةِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مُسْتَدْرَكَةٌ) أَيْ قَرِيبٌ تَدَارُكُهَا وَإِزَالَةُ جَهَالَتِهَا وَتَحْلِيلُ الدَّلِيلِ هَكَذَا هَذِهِ جَهَالَةٌ يَسِيرَةٌ.

وَكُلُّ جَهَالَةٍ يَسِيرَةٍ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فَهَذِهِ مُتَحَمَّلَةٌ فِيهَا. وَعَلَى هَذَا فَالسُّؤَالُ الْمُورَدُ مِنْ قِبَلِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ كَوْنُ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ مُتَحَمَّلَةٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّأْجِيلُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمَجْهُولَةِ مُتَحَمَّلًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّدَاقَ يَتَحَمَّلُ الْجَهَالَةَ حَيْثُ يَحْتَمِلُ جَهَالَةَ وَصْفِهِ ثُمَّ لَا يَصِحُّ فِي اشْتِرَاطِ هَذِهِ الْآجَالِ سُؤَالُ أَجْنَبِيٍّ عَنْ هَذَا الْمَحِلِّ. ثُمَّ أَجَابَ أَنَّ الْأَصَحَّ صِحَّةُ هَذِهِ الْآجَالِ فِي الصَّدَاقِ خِلَافًا لِقَوْلِ الْبَعْضِ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ تَأْجِيلُ الصَّدَاقِ إلَيْهَا.

وَإِنَّمَا يَرِدُ هَذَا إذَا قِيلَ الْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الصَّدَاقِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ فَيُورَدُ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِعَدَمِ تَحَمُّلِهِ جَهَالَةَ هَذِهِ الْآجَالِ وَيُجَابُ بِمَا ذُكِرَ. وَقَوْلُهُ (لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ)

ص: 453

وَلِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْأَصْلِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ بِأَنْ تُكْفَلُ بِمَا ذَابَ عَلَى فُلَانٍ فَفِي الْوَصْفِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهَا فِي أَصْلِ الثَّمَنِ، فَكَذَا فِي وَصْفِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حَيْثُ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلٌ فِي الدَّيْنِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فِيهِ مُتَحَمَّلَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ، وَلَا كَذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.

(وَلَوْ بَاعَ إلَى هَذِهِ

أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهَا جَهَالَةٌ يَسِيرَةٌ، فَإِنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ أَجَازَهُ كَعَائِشَةَ رضي الله عنها أَجَازَتْ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ مَنَعَهُ

وَبِهِ أَخَذْنَا. وَلَوْ كَانَتْ جَهَالَةً قَوِيَّةً لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ مَعَهَا، وَقَدْ قَالُوا: إنَّ الْعَطَاءَ كَانَ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فَجَازَ كَوْنُهُ أَجَلًا إذْ ذَاكَ لِصِدْقِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي مِيعَادِهِمْ فِي صَرْفِهِ، وَأَمَّا الْآنَ فَيَتَأَخَّرُ عَنْ مَوَاعِيدِهِمْ كَثِيرًا فَلَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ إلَيْهِ الْآنَ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ قَلِيلًا بِنَحْوِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَأَهْدَرَتْهُ عَائِشَةُ وَاعْتَبَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. ثُمَّ قِيلَ: الْيَسِيرَةُ مَا يَكُونُ الْمُوجِبُ لِلْجَهَالَةِ التَّرَدُّدَ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَالْفَاحِشَةُ هِيَ مَا يَكُونُ التَّرَدُّدُ فِي نَفْسِ الْوُجُوبِ كَهُبُوبِ الرِّيحِ.

وَقَوْلُهُ: (وَلِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْأَصْلِ) أَيْ؛ وَلِأَنَّ الدَّيْنَ مَعْلُومٌ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لِلْكَفَالَةِ إذْ يَسْتَلْزِمُ دَيْنًا: يَعْنِي الْأَصْلَ وَهُوَ الدَّيْنُ مَعْلُومٌ وَالْجَهَالَةُ فِي وَصْفِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُؤَجَّلًا إلَى كَذَا الَّذِي قَدْ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ. وَقَوْلُهُ (أَلَا يَرَى إلَى آخِرِهِ) ابْتِدَاءٌ لَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْأَصْلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ كَوْنَ الْجَهَالَةِ يَسِيرَةً بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِهَا.

وَبِأَنَّ الدَّيْنَ الْمَكْفُولَ بِهِ مَعْلُومُ الْأَصْلِ فَلَمْ تَبْقَ جَهَالَةٌ إلَّا فِي الْوَصْفِ، وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ يَسِيرَةٌ ثُمَّ ارْتَفَعَ إلَى أَوْلَوِيَّةِ صِحَّةِ هَذِهِ الْآجَالِ فِي الْكَفَالَةِ بِأَنَّ بَعْضَ الْكَفَالَةِ تَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْأَصْلِ كَالْكَفَالَةِ بِمَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ وَالذَّوْبُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْوُجُودِ فَلَأَنْ يَتَحَمَّلَ جَهَالَةَ الْوَصْفِ فِيهِ أَوْلَى (بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهَا فِي أَصْلِ الثَّمَنِ فَكَذَا فِي وَصْفِهِ) فَاتَّجَهَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَحَمُّلِ أَصْلِ الْجَهَالَةِ عَدَمُ تَحَمُّلِ وَصْفِهِ، وَهُوَ أَخَفُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَقْوَى، أُجِيبُ بِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْعِلَّةِ يُوجِبُهُ فِي الْحُكْمِ، وَعِلَّةُ عَدَمِ تَحَمُّلِهَا فِي الْأَصْلِ الْإِفْضَاءُ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَهَالَةِ الْوَصْفِ، ثُمَّ أَفَادَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ عَدَمُ تَحَمُّلِ الْبَيْعِ جَهَالَةَ هَذِهِ الْآجَالِ هُوَ إذَا ذُكِرَتْ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ.

أَمَّا إذَا عَقَدَهُ بِلَا أَجَلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مُطْلَقًا) أَيْ عَنْ ذِكْرِ الْأَجَلِ حَتَّى انْعَقَدَ صَحِيحًا (ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ. فَالتَّأْجِيلُ بَعْدَ الصِّحَّةِ كَالْكَفَالَةِ تَتَحَمَّلُ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَأْجِيلُ دَيْنٍ مِنْ الدُّيُونِ، بِخِلَافِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَقَبُولُ هَذِهِ الْآجَالِ شَرْطٌ فَاسِدٌ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ بَاعَ إلَى هَذِهِ

ص: 454

الْآجَالِ ثُمَّ تَرَاضَيَا بِإِسْقَاطِ الْأَجَلِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِي الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَقَبْلَ قُدُومِ الْحَاجِّ جَازَ الْبَيْعُ أَيْضًا. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا وَصَارَ كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ) وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ لِلْمُنَازَعَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فِي شَرْطٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْقَطَا الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ

الْآجَالِ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى إسْقَاطِ الْأَجَلِ) قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ بِأَنْ أَسْقَطَاهُ (قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِي الدِّيَاسِ وَالْحَصَادِ وَقَبْلَ قُدُومِ الْحَاجِّ جَازَ الْبَيْعُ أَيْضًا) كَمَا جَازَ إذَا عُقِدَ بِلَا أَجَلٍ ثُمَّ أَلْحَقَ هَذِهِ الْآجَالَ (وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ) وَتَقْيِيدُهُ بِهَذِهِ الْآجَالِ لِإِخْرَاجِ نَحْوِ التَّأْجِيلِ بِهُبُوبِ الرِّيحِ وَنُزُولِ الْمَطَرِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَجَلَّ بِهَا ثُمَّ أَسْقَطَهُ لَا يَعُودُ صَحِيحًا اتِّفَاقًا.

وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ (فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا كَإِسْقَاطِ الْأَجَلِ فِي النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ) وَكَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ بَعْدَ عَقْدِهِ بِلَا شُهُودٍ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا، وَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ إذَا سَقَطَا الدِّرْهَمُ لَا يَعُودُ صَحِيحًا (وَلَنَا) أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ مَانِعٌ مِنْ لُزُومِ الْعَقْدِ وَلَيْسَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بَلْ فِي اعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ هُوَ الْأَجَلُ، وَصُلْبُ الْعَقْدِ الْبَدَلَانِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلصِّحَّةِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّرَاضِي، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ قَبْلَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي سَبَبَ الْفَسَادِ وَهُوَ الْمُنَازَعَةُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ الْكَائِنَةِ عِنْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ ظَهَرَ عَمَلُ الْمُقْتَضِي وَهُوَ مَعْنَى انْقِلَابِهِ صَحِيحًا، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِشْهَادِ الْمُتَأَخِّرِ فَإِنَّ عَدَمَ الْإِشْهَادِ عَدَمُ الشَّرْطِ وَبَعْدَ وُقُوعِ الْمَشْرُوعِ فَاسِدًا لِعَدَمِ الْمَشْرُوطِ لَا يَعُودُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ صَحِيحًا، مَثَلًا: إذَا صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ ثُمَّ تَوَضَّأَ لَا تَصِيرُ تِلْكَ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً، وَإِنَّمَا نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ قَبْلَ عَدَمِ الْمُفْسِدِ وَهُوَ عَدَمُ الشَّرْطِ وَذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ فَلَيْسَ هُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ بَلْ عَقْدٌ آخَرُ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الشَّرْعِ بَعْدَ نَسْخِ الْمُتْعَةِ وَعَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ لَا يَنْقَلِبُ عَقْدًا آخَرَ فَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُ الدِّرْهَمِ (لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ) وَاَلَّذِي يَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا إلَى الْجَوَابِ مَا إذَا سَقَطَ الرَّطْلُ الْخَمْرُ فِيمَا إذَا بَاعَ بِأَلْفٍ وَرَطْلِ خَمْرٍ نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ

ص: 455

وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّهُ مُتْعَةٌ وَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ ثُمَّ تَرَاضَيَا خَرَجَ وِفَاقًا؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ يَسْتَبِدُّ بِإِسْقَاطِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ.

قَالَ (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيِّتَةٍ بَطَل الْبَيْعُ فِيهِمَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا جَازَ فِي الْعَبْدِ وَالشَّاةِ الذَّكِيَّةِ (وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ) عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: فَسَدَ فِيهِمَا، وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا كَالْمَيْتَةِ، وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ، إذْ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ مُنْتَفِيَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْكُلِّ

وَانْقِلَابِهِ صَحِيحًا فِي آخِرِ الصَّرْفِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ.

هُوَ تَبَعٌ لِلْأَلْفِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْمُسْلِمِ. بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالْخَمْرِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ كَوْنُ الْخَمْرِ هُوَ الثَّمَنُ وَيَفْسُدُ إذْ لَا مُسْتَتْبِعَ هُنَاكَ، هَذَا وَإِلْحَاقُ زُفَرَ بِالنِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ فَإِنَّهُ يُجِيزُ النِّكَاحَ الْمُوَقَّتَ. ثُمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله (وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ تَرَاضَيَا) أَيْ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَمَيِّتَةٍ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِمَا) سَوَاءٌ فَصَلَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ لَمْ يَفْصِلْ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ فِي الْعَبْدِ) بِمَا سَمَّى لَهُ وَكَذَا فِي الذَّكِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يُسَمِّ بَطَلَ بِالْإِجْمَاعِ. وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ مَالِكٌ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ كُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَى الْخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ دَنَّيْنِ خَلًّا فَإِذَا أَحَدُهُمَا خَمْرٌ (وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ) وَلَمْ يَفْصِلْ الثَّمَنَ (صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ).

وَقَالَ زُفَرُ فَسَدَ فِيهِمَا، وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا كَالْمَيْتَةِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمَّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْآخَرِ (لِزُفَرَ الِاعْتِبَارُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَحُرٍّ وَلَمْ يَفْصِلْ ثَمَنَ كُلٍّ بِجَامِعِ أَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مَعَ مَا يَصِحُّ مَجْمُوعًا صَفْقَةً وَهُوَ يُوجِبُ انْتِفَاءَ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَجْمُوعِ إذْ يَصْدُقُ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ

ص: 456

وَلَهُمَا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْقِنِّ، كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ فِي النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْبَيْعُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ الْقَبُولُ فِي الْحُرِّ شَرْطًا لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فِي هَؤُلَاءِ مَوْقُوفٌ وَقَدْ دَخَلُوا تَحْتَ الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ فِي عَبْدِ الْغَيْرِ بِإِجَازَتِهِ، وَفِي الْمُكَاتَبِ بِرِضَاهُ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي الْمُدَبَّرِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَكَذَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ

لَيْسَ بِمَالٍ (وَلَهُمَا) فِي الْأَوَّلِ (أَنَّ الْفَسَاد لَا يَتَعَدَّى) مَحِلَّ الْمُفْسِدِ، وَبَعْدَ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ يَقْتَصِرُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ عَدَمُ الْمَحَلِّيَّةِ عَلَى الْحُرِّ وَنَحْوِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بِلَا مُوجِبٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْآخَرِ بِتَفْصِيلِ الثَّمَنِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْآخَرِ لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَبْدًا وَصَارَ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ثَمَنَ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ حِينَئِذٍ فِي الْقِنِّ لِجَهَالَةِ ثَمَنِهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ) أَعْنِي الْجَمْعَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْعَبْدِ (أَنَّ الْحُرَّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ أَصْلًا وَالْبَيْعَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ) بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَابِلِ أَنْ يَقْبَلَ فِي أَحَدِهِمَا بَعْدَ جَعْلِ قَبُولِ الْعَقْدِ فِي كُلٍّ شَرْطًا فِي بَيْعِهِ الْآخَرَ فَقَدْ شَرَطَ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ قَبُولَهُ فِي الْحُرِّ وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَبْطُلُ بَيْعُ الْعَبْدِ (بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ. أَمَّا بَيْعُ هَؤُلَاءِ فَمَوْقُوفٌ)

عَلَى الْقَضَاءِ فِي الْمُدَبَّرِ وَرِضَا الْمُكَاتَبِ فِي الْأَصَحِّ خِلَافًا لَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِجَازَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ (فَقَدْ دَخَلُوا فِي الْعَقْدِ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ) عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ

ص: 457

أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله، إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَبِيعَ وَهَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ رَدُّوا الْبَيْعَ فَكَانَ هَذَا إشَارَةً إلَى الْبَقَاءِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ شَرْطَ الْقَبُولِ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ وَلَا بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ فِيهِ

أَيْضًا فَدَخَلَتْ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ) أَيْ مَالِكَ الْعَبْدِ الْمَضْمُومَ إلَى عَبْدِ الْبَائِعِ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَبِيعَ وَهَؤُلَاءِ (بِاسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ رَدُّوا الْبَيْعَ) بَعْدَ وُجُودِهِ فِيمَا يَقْبَلُهُ، وَهَذَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْقَضَاءِ بِبَيْعِهَا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ اللَّاحِقَ هَلْ يَرْفَعُ خِلَافَ الصَّحَابَةِ السَّابِقَ عِنْدَهُمَا لَا يَقْوَى لِرَفْعِ خِلَافِ الصَّحَابَةِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَعَمْ، فَلِذَا صَحَّ الْقَضَاءُ بِبَيْعِهَا عِنْدَهُمَا نَظَرًا إلَى الْخِلَافِ. وَعِنْدَهُ لَا نَظَرًا إلَى الْإِجْمَاعِ وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ عُبَيْدَةَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه لَمَّا قَالَ بَدَا لِي رَأْيٌ أَنَّهُنَّ يُبَعْنَ فَقَالَ رَأْيُك فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَك، ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى مَنْعِ بَيْعِهَا أَوْ كُلَّهُمْ إلَّا عَلِيًّا.

وَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رُجُوعَ أَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ إذَا بَاعَهُمَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الصَّرْفِ، فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى رُجُوعِهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يَتَّضِحُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا وَبَيْنَ الذَّبِيحَةِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِضَعْفِ الْفَسَادِ فِي مَتْرُوكِهَا لِلِاجْتِهَادِ.

أُجِيبُ بِالْفَرْقِ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَضَاءُ، وَيَصِحُّ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ بِهِ، وَالِاجْتِهَادُ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ نَفْسُ الِاجْتِهَادِ خَطَأٌ لِمُصَادَمَتِهِ ظَاهِرَ النَّصِّ. هَذَا، وَقَدْ يُجْعَلُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ وَاتِّحَادِهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ كِتَابِ الْبَيْعِ أَنَّ تَعَدُّدَهَا عِنْدَهُمَا بِتَعَدُّدِ الثَّمَنِ وَتَفْصِيلِهِ.

وَعِنْدَهُ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّعَدُّدُ بَلْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَكْرَارِ لَفْظِ الْبَيْعِ.

وَمَا فِي الْأَخِيرَةِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا فَصَّلَ الثَّمَنَ وَسَمَّى لِكُلٍّ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ وَاتَّحَدَ الْبَاقِي كَانَتْ الصَّفْقَةُ مُتَّحِدَةً هُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَوْرَدَ مِنْ قَبْلَهُمَا أَنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِيمَا لَا يَصِحُّ شَرْطٌ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا. أُجِيبَ بِمَنْعِ اشْتِرَاطِ النَّفْعِ فِي إفْسَادِ الشَّرْطِ أَوَّلًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ فَفِيهِ نَفْعٌ؛ لِأَنَّ فِي قَبُولِهِ قَبُولَ بَدَلِهِ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَكُونُ بَدَلُهُ خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فَيَكُونُ رِبًا.

وَقَوْلُهُ (وَكَانَ هَذَا) يَعْنِي رَدَّ الْبَيْعِ (إشَارَةٌ إلَى الْبَقَاءِ) يَعْنِي دُخُولَهُمْ تَحْتَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْبَيْعِ بِدُونِ انْعِقَادِهِ لَا يَصِحُّ، وَإِذَا خَرَجُوا بَعْدَ دُخُولِهِمْ لَا يَكُونُ فِيهِ بَيْعٌ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً بَلْ بَقَاءً كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِيهِ وَحْدَهُ وَتَجِبُ حِصَّةُ الْآخَرِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِذَا كَانَ الْمُدَبَّرُ وَمَا مَعَهُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ جَمْعُهُ مَعَ الْقِنِّ يَتَضَمَّنُ اشْتِرَاطَ قَبُولِ الْعَقْدِ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ.

ص: 458

(فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ)

(وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مَلَكَ الْمَبِيعَ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ)

فُرُوعٌ] فِي الْكَافِي جَمَعَ بَيْنَ وَقْفٍ وَمِلْكٍ وَأَطْلَقَ صَحَّ فِي الْمِلْكِ فِي الْأَصَحِّ. وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: يَفْسُدُ فِيهِمَا ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: جَازَ فِي الْمِلْكِ كَمَا فِي الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ. وَلَوْ بَاعَ كَرْمًا فِيهِ مَسْجِدٌ قَدِيمٌ، إنْ كَانَ عَامِرًا يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَإِلَّا لَا، وَكَذَا فِي الْمَقْبَرَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فِيهِ طَرِيقٌ لِلْعَامَّةِ لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَالطَّرِيقُ عَيْبٌ. وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا بِطَرِيقِهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّ الطَّرِيقَ، إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا بِحِصَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا إنْ كَانَ الطَّرِيقُ مُخْتَلِطًا بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا لَزِمَهُ الدَّارُ بِحِصَّتِهَا.

وَمَعْنَى اخْتِلَاطِهِ كَوْنُهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ الْحُدُودَ. وَفِي الْمُنْتَقَى: إذَا لَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ مَحْدُودًا فَسَدَ الْبَيْعُ، وَالْمَسْجِدُ الْخَاصُّ كَالطَّرِيقِ الْمَعْلُومِ، وَلَوْ كَانَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَوْ كَانَ مَسْجِدَ جَامِعٍ فَسَدَ فِي الْكُلِّ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَهْدُومًا أَوْ أَرْضًا سَاحَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَسْجِدَ جَامِعٍ كَذَا فِي الْمُجْتَبَى.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُتَفَرِّعٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْجِدِ، إلَّا إنْ كَانَ مَنْ رِيعُهُ مَعْلُومٌ يُعَادُ بِهِ، وَلَوْ بَاعَ قَرْيَةً وَفِيهَا مَسْجِدٌ وَاسْتَثْنَى الْمَسْجِدَ جَازَ الْبَيْعُ.

(فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ)

قَالَ (وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ) صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً كَمَا سَيَأْتِي (وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَالٌ مَلَكَ الْمَبِيعَ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الصَّحِيحِ لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَكَيْفَ بِالْفَاسِدِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ الْقِيمَةِ عَيْنًا إنَّمَا هُوَ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ، أَمَّا مَعَ قِيَامِهِ فِي يَدِهِ فَالْوَاجِبُ

ص: 459

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَنَالُ بِهِ نِعْمَةَ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ لِلتَّضَادِّ، وَلِهَذَا لَا يُفِيدُهُ قَبْضُ الْقَبْضِ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ بِالْمَيْتَةِ أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ. وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ. مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ.

وَرُكْنُهُ: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَفِيهِ الْكَلَامُ

رَدُّهُ بِعَيْنِهِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ (مَحْظُورٌ فَلَا يَنَالَ بِهِ نِعْمَةَ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ؛ لِلتَّضَادِّ) بَيْنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالنَّهْيِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ النَّهْيَ يَتَضَمَّنُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ (وَلِهَذَا) أَيْ كَوْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ (لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ) وَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَثَبَتَ قَبْلَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ (وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالْمَيْتَةِ أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالدَّرَاهِمِ) فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِانْتِفَاءِ مَشْرُوعِيَّةِ السَّبَبِ (وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَلَا فِي الْمَحَلِّيَّةِ وَرُكْنُهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَفِيهِ الْكَلَامُ) أَيْ الْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا كَانَ فِي الْعَقْدُ عِوَضَانِ هُمَا مَالَانِ.

قَوْلُهُ (نِعْمَةَ) الْمِلْكِ لَا تُنَالُ بِالْمَحْظُورِ. قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلْ مَا وَضَعَهُ الشَّرْعُ سَبَبًا لِحُكْمٍ إذَا نَهَى عَنْهُ عَلَى وَضْعٍ خَاصٍّ فَفُعِلَ مَعَ ذَلِكَ الْوَضْعَ رَأَيْنَا مِنْ الشَّرْعِ أَنَّهُ أَثْبَتَ حُكْمَهُ وَأَتَمَّهُ. أَصْلُهُ الطَّلَاقُ وَضَعَهُ لِإِزَالَةِ الْعِصْمَةِ وَنَهَى عَنْهُ بِوَضْعٍ خَاصٍّ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ حَائِضًا ثُمَّ رَأَيْنَاهُ أَثْبَتَ حُكْمَ طَلَاقِ الْحَائِضِ فَأَزَالَ بِهِ الْعِصْمَةَ حَتَّى أَمَرَ ابْنَ عُمَرَ بِالْمُرَاجَعَةِ رَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَأَثِمَ الْمُطَلِّقُ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي كُلِّ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ نَهَى عَنْ مُبَاشَرَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْفُلَانِيِّ إذَا بُوشِرَ مَعَهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَيَعْصِي بِهِ.

وَقَوْلُهُ النَّهْيُ نَسْخٌ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ: يَعْنِي يُفِيدُ انْتِفَاءَهَا مَعَ الْوَصْفِ، فَنَقُولُ: مَا تُرِيدُ بِانْتِفَاءِ مَشْرُوعِيَّةِ السَّبَبِ كَوْنُهُ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ أَوْ كَوْنُهُ لَا يُفِيدُ حُكْمَهُ؟ إنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ سَلَّمْنَاهُ وَمَتَّعْنَا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ حُكْمَهُ مَعَ الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلنَّهْيِ كَمَا أَرَيْنَاك مِنْ الشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ مَحِلُّ النِّزَاعِ وَهُوَ حِينَئِذٍ مُصَادَرَةٌ حَيْثُ جَعَلْت مَحِلَّ النِّزَاعِ جُزْءَ الدَّلِيلِ.

لَا يُقَالُ فَلَا فَائِدَةَ لِلنَّهْيِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ التَّحْرِيمُ وَالتَّأْثِيمُ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ إذَا كَانَ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ رُكْنَ الْعَقْدِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا بِأَنْ عَقَدَ عَلَى الْخَمْرِ أَوْ الْمَيْتَةِ لِعَدَمِ الرُّكْنِ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ أَصْلًا فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فَوَضَعْنَا الِاصْطِلَاحَ عَلَى الْفَاسِدِ

ص: 460

وَالنَّهْيُ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا لِاقْتِضَائِهِ التَّصَوُّرَ فَنَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعٌ، وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ مَا يُجَاوِرُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ،

وَالْبَاطِلِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا تَمْيِيزًا فَسَمَّيْنَا مَا لَا يُفِيدُ بَاطِلًا وَمَا يُفِيدُهُ فَاسِدًا أَخْذًا مِنْ مُنَاسَبَةٍ لُغَوِيَّةٍ تَقَدَّمَتْ أَوَّلَ بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَا خَفَاءَ فِي حُسْنِ هَذَا التَّقْرِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكِفَايَتِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ (النَّهْيُ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ لِاقْتِضَائِهِ التَّصَوُّرَ) يُرِيدُونَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ يُقَرِّرُ مَشْرُوعِيَّتَهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ فَائِدَةٌ فَلَيْسَ بِذَاكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ النَّهْيِ عَنْهُ بِمَعْنَى إمْكَانِ فِعْلِهِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُثِيرِ لِلنَّهْيِ لَا يُفِيدُ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ هَذَا الْمُتَصَوَّرَ يَقَعُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ. وَإِنْ أَرَادُوا تَصَوُّرَهُ شَرْعِيًّا: أَيْ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ قَالُوا نُرِيدُ تَصَوُّرَهُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لَا مَعَ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مُثِيرُ النَّهْيِ.

قُلْنَا سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ الثَّابِتَ فِي صُورَةِ النَّهْيِ هُوَ الْمَقْرُونُ بِالْوَصْفِ فَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَهُ. وَالْمَشْرُوعُ وَهُوَ أَصْلُهُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ غَيْرِ الثَّابِتِ هُنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَصْلًا إذْ نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ: أَعْنِي مَا لَمْ يُقْرَنْ بِالْوَصْفِ وَهُوَ مَفْقُودٌ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ (فَنَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعٌ وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ) يُقَالُ عَلَيْهِ مَا تُرِيدُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ النَّهْيِ أَوْ مَا فِيهِ؟ إنْ قُلْت: الَّذِي لَيْسَ فِيهِ سَلَّمْنَاهُ وَبِهِ تُنَالُ نِعْمَةُ الْمِلْكِ لَكِنَّ الثَّابِتَ الْبَيْعُ الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ مَا فِيهِ الْوَصْفُ الْمُثِيرُ لِلنَّهْيِ فَلَا يُنَالُ بِهِ نِعْمَةُ الْمِلْكِ فَيَحْتَاجُ لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ مَنْعِ أَنَّ السَّبَبَ إذَا كَانَ مَعَ النَّهْيِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا.

وَأَمَّا (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ مَا يُجَاوِرُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ) فَالْمُرَادُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِ النَّهْيِ لَعَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ الرُّكْنِ وَإِلَّا فَالنَّهْيُ لِلْمُجَاوِرِ يُفِيدُ الْكَرَاهَةَ لَا الْحَظْرَ. وَالنَّهْيُ لِلْوَصْفِ اللَّازِمِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ يُفِيدُ الْحَظْرَ، هَذَا إلَّا أَنِّي أَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَيْسَا بِمَالٍ فِي شَرِيعَتِنَا.

فَإِنَّ الشَّارِعَ أَهَانَهُمَا بِكُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَعَنَ حَامِلَهَا وَمُعْتَصِرَهَا مَعَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ

ص: 461

وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَقْرِيرِ الْفَسَادِ الْمُجَاوِرِ إذْ هُوَ وَاجِبُ الرَّفْعِ بِالِاسْتِرْدَادِ فَبِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ ضَعُفَ لِمَكَانِ اقْتِرَانِهِ بِالْقَبِيحِ فَيُشْتَرَطُ اعْتِضَادُهُ بِالْقَبْضِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ

حَالَ الِاعْتِصَارِ، بَلْ الْمَوْجُودُ حِينَئِذٍ نِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَهِيَ مَالٌ فِي شَرْعِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَحَيْثُ أَمَرَنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَقَدْ أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِ بَيْعِهِمْ إيَّاهَا وَبَيْعِهِمْ بِهَا، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فِي بَيْعِ الْمُسْلِمِ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْعِهِمْ فَصَحِيحٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَى آخِرِهِ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ هَذَا الْبَيْعُ يُفِيدُهُ حُكْمُهُ فَمَا وَجْهُ تَرَاخِيهِ عَنْهُ إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ؟ فَأَجَابَ: وَحَاصِلُ الْوَجْهِ فِيهِ أَنَّا قَدْ أَرَيْنَاك أَنَّهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَأَنَّ مَا هُوَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ طَلَبَ الشَّرْعُ رَفْعَهُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَإِنْ تَرَتَّبَ حُكْمُهُ كَمَا أَمَرَ بِمُرَاجَعَةِ الْحَائِضِ فَوَجَبَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَحَيْثُ أَمَرَنَا بِإِعْدَامِهِ بَعْدَ فِعْلِهِ صَارَ فِيهِ ضَعْفٌ، وَرَأَيْنَا حُكْمَ السَّبَبِ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَأَخَّرْنَاهُ إلَى الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ بِهِ يَتَأَكَّدُ الْعَقْدُ فَيُوجِبُ حِينَئِذٍ حُكْمَهُ كَالْهِبَةِ لَمَّا ضَعُفَ السَّبَبُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا إلَّا بِالْقَبْضِ.

وَقَوْلُهُ (كَيْ لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْرِيرِ الْفَسَادِ) أَيْ إلَى زِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ، فَإِنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَيْهِ تَزِيدُهُ وُجُودًا مَعَ أَنَّهُ وَاجِبُ الرَّفْعِ فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ.

ص: 462

الْهِبَةِ، وَالْمَيْتَةِ بِمَالٍ فَانْعَدَمَ الرُّكْنُ، وَلَوْ كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا فَقَدْ خَرَّجْنَاهُ وَشَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَهِيَ تَصْلُحُ ثَمَنًا لَا مُثَمَّنًا. ثُمَّ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ دَلَالَةً كَمَا إذَا قَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ بِحُكْمِ التَّسْلِيطِ السَّابِقِ، وَكَذَا الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ مُثَمَّنًا فَقَدْ خَرَّجْنَاهُ) يُرِيدُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ بُطْلَانِ الْبَيْعِ إذَا كَانَتْ مَبِيعًا؛ لِأَنَّ فِي جَعْلِهَا الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ إعْزَازًا لَهَا. وَقَوْلُهُ (وَشَيْءٌ آخَرُ) أَيْ وَجْهٌ آخَرُ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ إذَا كَانَتْ مَبِيعَةً، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ حِينَئِذٍ تَسْلِيمُ قِيمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسَلِّمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَسْلِيمِهَا وَتَسَلُّمِهَا، وَالْقِيمَةَ لَا تَكُونُ إلَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَتَصِيرُ الْقِيمَةُ مَبِيعَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ مَبِيعٍ. وَهُوَ خِلَافُ وَضْعِ الشَّرْعِ فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ مِنْ أَنَّ الْمُقَابِلَ لِلسِّلَعِ مِنْ النُّقُودِ ثَمَنٌ: لَا يُقَالُ: لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ إذَا قُوبِلَتْ بِمِثْلِهَا صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَثَمَنًا، وَالْخَمْرُ قَدْ قُوبِلَتْ بِالدَّرَاهِمِ فَإِذَا نَزَلَتْ الْقِيمَةُ مَكَانَهَا صَارَتْ دَرَاهِمَ مُقَابَلَةً بِدَرَاهِمَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الثَّابِتُ هُنَا كَوْنُ كُلٍّ مَبِيعًا وَثَمَنًا، وَهُنَا يَلْزَمُ مَبِيعًا لَيْسَ غَيْرَ.

وَقَدْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فِي الْفَاسِدِ الْقِيمَةَ لَا الثَّمَنَ وَالْمَدْفُوعُ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ قِيمَتَهَا آلَ إلَى الصَّرْفِ فَتَكُونُ الْقِيمَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا كَالْقِيمَةِ الَّتِي يَدْفَعُهَا الْمُشْتَرِي (ثُمَّ شَرَطَ) فِي الْمِلْكِ (أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ) مِنْ الْمَذْهَبِ (إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْإِذْنِ دَلَالَةً كَمَا إذَا) اجْتَرَّهُ فَ (قَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ) وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْبَائِعُ (اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ بِحُكْمِ التَّسْلِيطِ السَّابِقِ) أَمَّا إذَا كَانَ أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا، وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ مَعَ غَيْبَةِ الْبَائِعِ، وَلَوْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ تَسْلِيطٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَعْفِهِ عَنْ إفَادَةِ حُكْمِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا هُوَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلصَّحِيحِ وَتُسَمَّى الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ ضَعْفَهُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ بِمُجَرَّدِهِ لَا مَنْعِ قَبْضِهِ مُطْلَقًا، وَصَارَ كَالْهِبَةِ

ص: 463

فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ لِيَتَحَقَّقَ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ فَيَخْرُجُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ وَالرِّيحِ وَالْبَيْعِ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ، وَقَوْلُهُ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ، فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ، فَأَمَّا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَلْزَمُهُ

فِي ضَعْفِ السَّبَبِ مَعَ أَنَّ الْقَبْضَ فِيهَا (فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا) وَأَثَرُ الضَّعْفِ يَكْفِي فِيهِ كَوْنُ التَّسْلِيطِ الَّذِي يَثْبُتُ مُقَيَّدًا بِالْمَجْلِسِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَعَنْ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا كَانَ أَدَّى الثَّمَنَ بِمَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْقَبْضِ أَخْذًا مِنْ إطْلَاقٍ سَيَأْتِي.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ مِنْ اشْتِرَاطِ إذْنِ الْبَائِعِ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ أَوْ كَانَ الثَّمَنُ خَمْرًا مَثَلًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ بِالْقَبْضِ، فَأَمَّا إذَا مَلَكَ بِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِذْنِ وَيَكُونُ قَبْضُ الثَّمَنِ مِنْهُ إذْنًا مِنْهُ بِالْقَبْضِ.

وَفِي الْمُجْتَبَى فِي التَّخْلِيَةِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقَبْضٍ، وَفِي الْخُلَاصَةِ التَّخْلِيَةُ كَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَفِي الْمُحِيطِ: بَاعَ عَبْدًا مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَاسِدًا وَاشْتَرَى عَبْدَهُ لِنَفْسِهِ فَاسِدًا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَعْمِلَهُ، وَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ: لَوْ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ وَهِيَ حَاضِرَةٌ مَلَكَهَا. وَقَوْلُهُ (فَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَالِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَدَمُ (الْبَيْعِ) وَبُطْلَانُهُ (بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُرِّ وَالْبَيْعِ بِالرِّيحِ وَالْبَيْعِ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ) كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ الْمَالِ فِي الْعِوَضِ، وَقَيَّدَ بِنَفْيِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ الثَّمَنِ فَلَمْ يَذْكُرَاهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ انْعَقَدَ فَاسِدًا وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ مُوجِبًا لِلْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْ عِوَضِهِ كَانَ عِوَضُهُ قِيمَتَهُ وَكَأَنَّهُ بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ. وَقَوْلُهُ (لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ) يَعْنِي يَوْمَ الْقَبْضِ، وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ فِي يَدِهِ فَأَتْلَفَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ فَلَا يَتَغَيَّرُ كَالْغَصْبِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَتْلَفَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ حِينَئِذٍ، كَذَا فِي الْكَافِي، وَهَذَا (فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ، فَأَمَّا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَلْزَمُهُ الْمِثْلُ)

ص: 464

الْمِثْلُ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ بِالْقَبْضِ فَشَابَهُ الْغَصْبَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ صُورَةً وَمَعْنًى أَعْدَلُ مِنْ الْمِثْلِ مَعْنًى.

قَالَ (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ) رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَهَذَا قَبْلَ الْقَبْضِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِدْ حُكْمَهُ فَيَكُونُ الْفَسْخُ امْتِنَاعًا مِنْهُ، وَكَذَا بَعْدَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لِقُوَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ بِشَرْطٍ زَائِدٍ فَلِمَنْ لَهُ الشَّرْطُ ذَلِكَ دُونَ مَنْ عَلَيْهِ لِقُوَّةِ الْعَقْدِ

وَمِنْهَا الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ (لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ) أَيْ بِالْقِيمَةِ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ.

هَذَا وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ وَالْمِثْلِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ الضَّامِنُ، فَالْقَوْلُ لَهُ فِي الْقَدْرِ وَالْبَيِّنَةُ فِيهِ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ

(قَوْلُهُ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَسْخُهُ رَفْعًا لِلْفَسَادِ) أَيْ لِلْمَعْصِيَةِ فَرَفْعُهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ مَكْرُوهٌ وَالْجَرْيَ عَلَى مُوجَبِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ تَمْلِيكٌ أَوْ انْتِفَاعٌ بِوَطْءٍ أَوْ لَبْسٌ أَوْ أَكْلٌ كَذَلِكَ: أَيْ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِهِ شَرْعًا قَطْعِيٌّ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَعُرِفَ مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِرَفْعِ الْمَعْصِيَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُقَالَ: وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فَسْخُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ أَرَادَ مُجَرَّدَ بَيَانِ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْفَسْخِ فَوَقَعَ تَعْلِيلُهُ أَخَصَّ مِنْ دَعْوَاهُ.

وَحَاصِلُ الْمَنْقُولِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إلَى الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ ثَوْبٍ بِخَمْرٍ فَيَمْلِكُ كُلٌّ فَسْخَهُ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقَّ الشَّرْعِ فَفِيهِ إلْزَامُ مُوجِبِ الْفَسْخِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِعِلْمِهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ أَيْضًا وَلَمْ يَحْكِ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْخِلَافَ (وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ بِشَرْطٍ زَائِدٍ) كَالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ وَنَحْوِهِ، أَوْ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَمْلِكُ فَسْخَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَسْتَقِلُّ (مَنْ لَهُ) مَنْفَعَةُ (الشَّرْطِ) وَالْأَجَلِ بِالْفَسْخِ كَالْبَائِعِ فِي صُورَةِ الْإِقْرَاضِ وَالْمُشْتَرِي فِي الْأَجَلِ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ (دُونَ مَنْ عَلَيْهِ) عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّرْطِ إذَا كَانَتْ عَائِدَةً عَلَيْهِ صَحَّ فَسْخُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يُسْقِطَ الْأَجَلَ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، فَإِذَا فَسَخَهُ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَعِنْدَهُمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَانْتَفَى اللُّزُومُ عَنْ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ تَمَكَّنَ كُلٌّ مِنْ فَسْخِهِ.

كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَالْكَافِي فَعَلَى هَذَا الْمَذْكُورُ هُنَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي عَلَى حَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، أَمَّا إذَا زَادَ الْمُشْتَرَى فِي يَد الْمُشْتَرِي زِيَادَةً مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ أَوْ لَا أَوْ مُنْفَصِلَةً كَذَلِكَ أَوْ انْتَقَصَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ

ص: 465

إلَّا أَنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُرَاضَاةُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الشَّرْطُ. قَالَ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ بَيْعُهُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَسَقَطَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِالثَّانِي وَنُقِضَ الْأَوَّلُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ،

الْغَيْرِ بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا أَوْ أَجْنَبِيًّا فَسَنَذْكُرُهُ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ) إلَى آخِرِهِ جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ لِقُوَّةِ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوِيًّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْفَعَةُ الشَّرْطِ. فَأَجَابَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُرَاضَاةُ فِي حَقِّهِ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ (قَوْلُهُ فَإِنْ بَاعَهُ) أَيْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا بَيْعًا صَحِيحًا (نَفَذَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَسَقَطَ حَقُّ) الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فِي (الِاسْتِرْدَادِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ) بِالْعَقْدِ (الثَّانِي وَنَقْضِ الْأَوَّلِ) مَا كَانَ إلَّا (لِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقُّ الْعَبْدِ) عِنْدَ مُعَارَضَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (يُقَدَّمُ) بِإِذْنِ اللَّهِ لِغِنَاهُ سبحانه وتعالى وَسِعَةِ عَفْوِهِ وَجُودِهِ وَفَقْرِ الْعَبْدِ وَضِيقِهِ، وَلَا يَنْقُضُ بِالصَّيْدِ إذَا أَحْرَمَ مَالِكُهُ وَهُوَ فِي يَدِهِ حَيْثُ يُقَدَّمُ حَقُّ الشَّرْعِ عَلَى الْعَبْدِ.

؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إطْلَاقُهُ لَا إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَيُطْلِقُهُ بِحَيْثُ لَا يَضِيعُ عَلَيْهِ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ وَلَا يُنْقَضُ بِاسْتِرْدَادِ وَارِثِ الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْمُتَعَلِّقَ لِلْوَارِثِ هُوَ نَفْسُ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْبَائِعِ فِي الرَّدِّ فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ كَذَلِكَ، أَمَّا الْمُوصَى لَهُ بِالْمَبِيعِ فَكَالْمُشْتَرِي الثَّانِي فَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْبَائِعِ اسْتِرْدَادُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لَهُ مِلْكًا مُتَجَدِّدًا بِسَبَبٍ اخْتِيَارِيٍّ لَا بِتَصَرُّفٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ قِيلَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي أَيْضًا إنَّمَا يُنْقَلُ إلَيْهِ الْمَبِيعُ مَشْغُولًا بِذَلِكَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ فَلَا يَصِلُ مَا بَاعَهُ إلَى الْمُشْتَرِي إلَّا مَشْغُولًا بِذَلِكَ احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ

ص: 466

وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ، وَالثَّانِيَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ؛ وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْعَبْدِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَمَا حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الشَّفِيعِ.

وَ) أَيْضًا (الْأَوَّلُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ لَا وَصْفِهِ، وَالثَّانِي مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ)؛ لِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعَ الثَّانِيَ (حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ) أَيْ الْبَائِعِ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ مَعَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ تَسْلِيطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَإِلَّا كَانَ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ وَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ، قِيلَ عَلَيْهِ فَعَدَمُ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ فِي بَيْعِ نَفْسِهِ حِينَئِذٍ أَوْلَى.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَبْلَ بَيْعِ الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفِهِ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِرْدَادِهِ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَائِنَ مِنْ جِهَتِهِ تَسْلِيطٌ عَلَى الْبَيْعِ وَتَمَامُهُ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمُسَلَّطُ، وَهَذَا التَّسْلِيطُ نَفْسُهُ مَعْصِيَةٌ فَجُعِلَ لَهُ رَحْمَةً عَلَيْهِ أَنْ يُتَدَارَكَ بِالتَّوْبَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ الْفَوَاتِ بِفِعْلِ الْمُسَلَّطِ، فَإِذَا لَمْ يُتَدَارَكْ حَتَّى فَعَلَ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ عَبْدٍ فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُكْنَةَ بِتَقْصِيرِهِ، وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّ حَقَّ كُلٍّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي لَيْسَ إلَّا لِتَدَارُكِ رَفْعِ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ، وَمَتَى أَخَّرَ حَتَّى تَعَلَّقَ حَقُّ عَبْدٍ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُوصَى لَهُ فَقَدْ فَوَّتَهُ.

أَمَّا الْوَارِثُ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِخَلَاصِ مَيِّتِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ مَا أَمْكَنَ فَشُرِعَ لَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ لِذَلِكَ. وَهَذَا (بِخِلَافِ صَرْفِ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ) بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الشَّفِيعِ، وَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَيَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا

ص: 467

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ، وَبِالْإِعْتَاقِ قَدْ هَلَكَ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَبِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ انْقَطَعَ الِاسْتِرْدَادُ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ نَظِيرُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ. إلَّا أَنَّهُ يَعُودُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَفَكِّ الرَّهْنِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.

حَقُّ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ وَحَقَّ الْبَائِعِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُعَارِضُهُ، وَيَتَرَجَّحُ الشَّفِيعُ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّفِيعِ تَسْلِيطٌ عَلَى الشِّرَاءِ كَمَا فِي الْبَائِعِ.

وَأُورِدُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ مِنْ حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ ثَانٍ فَيَكُونُ نَاسِخًا.

أُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُنْسَخُ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الْقُوَّةِ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَتَتَرَجَّحُ الشُّفْعَةُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْرٍ) الْمُرَادُ اشْتَرَى عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا بِخَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ (فَأَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ) وَسَلَّمَهُ (فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ) فِيهِ (وَ) إنَّمَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لِأَنَّهُ (بِالْإِعْتَاقِ قَدْ هَلَكَ) فَوَقَعَ الْإِيَاسُ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ (فَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ، وَبِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ انْقَطَعَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ عَلَى مَا مَرَّ) فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مِنْ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ: أَعْنِي الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ وَالِاسْتِرْدَادُ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَحَقِّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ فَقَدْ فَوَّتَ الْمُكْنَةَ بِتَأْخِيرِ التَّوْبَةِ.

(وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ) بَعْدَ قَبْضِهِ (نَظِيرُ الْبَيْعِ) يَعْنِي إذَا كَاتَبَ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ رَهَنَهُ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ (لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ) لِحَقِّ الْعَبْدِ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ (إلَّا أَنَّهُ يَعُودُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَفَكِّ الرَّهْنِ) وَلَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِمَا بِذَلِكَ، بَلْ يَعُودُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ إذَا انْتَقَضَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَلَوْ

ص: 468

وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ عُذْرٌ؛ وَلِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَكُونُ الرَّدُّ امْتِنَاعًا.

قَالَ (وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّ الْمَبِيعُ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ

بِغَيْرِ قَضَاءٍ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، ثُمَّ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ إنَّمَا يَعُودُ إذَا لَمْ يَقْضِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ قَضَى بِهَا عَلَيْهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِلْكِهِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِتَحَوُّلِ حَقِّهِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ كَالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَبَقَ فَقَضَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَيْسَ لِمَالِكِهِ أَخْذُهُ؛ لِمَا قُلْنَا.

وَقَوْلُهُ (وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ) فَإِنَّهُ إذَا أَجَّرَ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ (لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ وَرَفْعُ الْفَسَادِ عُذْرٌ؛ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَكُونُ) الِاسْتِرْدَادُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ (امْتِنَاعًا) عَنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَالنِّكَاحُ كَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، فَإِذَا زَوَّجَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ شِرَاءً فَاسِدًا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الرَّقَبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُفَوِّتُهُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّ مَعَ الِاسْتِرْدَادِ النِّكَاحَ قَائِمٌ كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا الْبَائِعُ، نَعَمْ تَصِيرُ بِحَيْثُ لَهُ مَنْعُهَا وَعَدَمُ ثُبُوتِهَا مَعَهُ بَيْتًا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا ظَفِرَ بِهَا لَهُ وَطْؤُهَا.

وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ أَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ وَأَخَذَ مُوجَبَ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ وَيَرُدُّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.

وَلَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ وَخَاطَهُ أَوْ بَطَّنَهُ وَحَشَاهُ انْقَطَعَ الِاسْتِرْدَادُ كَمَا فِي الْغَصْبِ؛ وَلَوْ صَبَغَهُ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله يُخَيَّرُ الْبَائِعُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَإِعْطَاءِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ وَتَرْكِهِ وَتَضْمِينِ قِيمَتِهِ كَالْغَصْبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ انْقَطَعَ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ إذَا فَعَلَهُ الْمُشْتَرِي انْقَطَعَ بِهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ.

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الصَّبْغَ بِالصُّفْرَةِ يَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَالْغَصْبِ وَلَا يَمْتَنِعُ الِاسْتِرْدَادُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي فَيَسْتَرِدُّ الْبَائِعُ مِنْ الْوَارِثِ وَلَا بِمَوْتِ الْبَائِعِ فَيَسْتَرِدُّ وَارِثُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَزِيَادَةُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا لَا تَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ، إلَّا إذَا كَانَتْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي كَالْخِيَاطَةِ وَالصَّبْغِ، وَنُقْصَانُهُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَمْنَعُ فَيَسْتَرِدُّهُ الْبَائِعُ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَيْهِ وَيُضَمِّنَهُ تَمَامَ الْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ بِفِعْلٍ أَجْنَبِيٍّ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ مِنْ الْجَانِي، وَفِي قَتْلِ الْأَجْنَبِيِّ لَيْسَ لَهُ تَضْمِينُ الْجَانِي.

وَلَوْ وَطِئَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ مِنْهُ وَلَا الِاسْتِرْدَادُ مِنْ الْبَائِعِ، فَلَوْ رَدَّ أَوْ اسْتَرَدَّ لَزِمَهُ الْعُقْرُ لِلْبَائِعِ، أَمَّا إنْ أَتْلَفَهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا

(قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الثَّمَنَ) قِيلَ يَعْنِي الْقِيمَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَوْ الثَّمَنَ الَّذِي تَرَاضَيَا عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ حَتَّى يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ (لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ) وَعَلَى هَذَا الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ وَالرَّهْنُ الْفَاسِدُ وَالْقَرْضُ

ص: 469

(وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَا عَلَى وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَالرَّاهِنِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الثَّمَنِ قَائِمَةً يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً أَخَذَ مِثْلَهَا لِمَا بَيَّنَّا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا بَيْعًا فَاسِدًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ثُمَّ شَكَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ.

الْفَاسِدُ اعْتِبَارًا بِالْعَقْدِ الْجَائِزِ إذَا تَفَاسَخَا فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَحْبِسَ مَا اسْتَأْجَرَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الْأُجْرَةَ الَّتِي دَفَعَهَا لِلْمُؤَجِّرِ. وَكَذَا الْمُرْتَهِنُ حَتَّى يَقْبِضَ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عُقُودُ مُعَاوَضَةٍ فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ (وَلَوْ مَاتَ الْبَائِعُ) بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ الْمُؤَجِّرُ إجَارَةً فَاسِدَةً أَوْ الرَّاهِنُ أَوْ الْمَقْبُوضُ كَذَلِكَ، فَاَلَّذِي فِي يَدِهِ الْمَبِيعُ أَوْ الرَّهْنُ أَحَقُّ بِثَمَنِهِ مِنْ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ (لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَا عَلَى وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ) إلَّا أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَالْمُشْتَرِي بِقَدْرِ مَا أَعْطَى فَمَا فَضَلَ فَلِلْغُرَمَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَقْبِضْ الْمُحْتَالُ الدَّيْنَ أَوْ الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ الْمُحْتَالُ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ أَوْ الْوَدِيعَةِ مَعَ أَنَّ دَيْنَ الْمُحِيلِ صَارَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْمُحْتَالِ كَمَا فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ إنَّمَا يُوجِبُهُ ثُبُوتُ الْحَقِّ مَعَ الْيَدِ لَا مُجَرَّدُ الْحَقِّ وَلَا يَدَ لِلْمُحْتَالِ (ثُمَّ إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الثَّمَنِ) الَّتِي دَفَعَهَا (قَائِمَةً يَأْخُذُهَا) الْمُشْتَرِي (بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ) خِلَافًا لِمَا ذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الصَّرْفِ، وَرِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ تَتَعَيَّنُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لَكِنْ سَيَأْتِي مَا يُقَوِّيَ رِوَايَةَ أَبِي حَفْصٍ (؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ) وَالثَّمَنُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ (وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً) قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (لَهُ أَخْذُ مِثْلِهَا) وَكَذَا ذَكَرَ قَاضِي خَانْ.

وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُبَاعُ الْمَبِيعُ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عَمَّا دَفَعَهُ يُصْرَفُ إلَى الْغُرَمَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ مِثْلُ حَقِّهِ الْمُسْتَهْلَكِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ دَارًا بَيْعًا فَاسِدًا فَبَنَاهَا الْمُشْتَرِي) أَوْ غَرَسَ فِيهَا أَشْجَارًا (فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا) وَانْقَطَعَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي اسْتِرْدَادِهَا بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ

ص: 470

(وَقَالَا: يُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَتُرَدُّ الدَّارُ) وَالْغَرْسُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ.

لَهُمَا أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَضْعَفُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَضَاءِ وَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ، بِخِلَافِ حَقِّ الْبَائِعِ، ثُمَّ أَضْعَفُ الْحَقَّيْنِ لَا يَبْطُلُ بِالْبِنَاءِ فَأَقْوَاهُمَا أَوْلَى، وَلَهُ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ وَقَدْ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّسْلِيطُ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِهِبَةِ الْمُشْتَرِي وَبَيْعِهِ فَكَذَا بِبِنَائِهِ

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُنْقَضُ الْبِنَاءُ) وَيُقْلَعُ الْغَرْسُ (وَتُسْتَرَدُّ الدَّارُ. لَهُمَا أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ) فِي الدَّار الَّتِي يَسْتَحِقُّ فِيهَا الشُّفْعَةَ (أَضْعَفُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ) بَيْعًا فَاسِدًا فِي الِاسْتِرْدَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ (يَحْتَاجُ) فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الدَّارِ (إلَى الْقَضَاءِ وَيَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ) بَعْدَ الْعِلْمِ وَلَا يُورَثُ.

وَحَقُّ هَذَا الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ وَيَثْبُتُ لِوَرَثَتِهِ (وَ) الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ (حَقَّ الشُّفْعَةِ الْأَضْعَفَ لَا يُبْطِلُ الْبِنَاءَ) وَالْغَرْسَ (فَأَقْوَاهُمَا) وَهُوَ حَقُّ الْبَائِعِ (أَوْلَى) أَنْ لَا يَبْطُلَ بِهِمَا فَيَثْبُتُ بِدَلَالَةِ ثُبُوتِهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ وَقَدْ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَيَنْقَطِعُ) بِهِ (حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَالْبَيْعِ) وَالْهِبَةِ (بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ) وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ (لَمْ يُوجَدْ) مَا يُبْطِلُهُ وَهُوَ تَسْلِيطُهُ عَلَى الْفِعْلِ: أَعْنِي الْبِنَاءَ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ النَّقْضُ وَالْقَلْعُ (وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ) أَيْضًا

ص: 471

وَشَكَّ يَعْقُوبُ فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وَثُبُوتِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ.

بَلْ يَأْخُذُهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ بِتَسْلِيطٍ مِنْهُ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي أَنْكَرَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ الرِّوَايَةَ لِمُحَمَّدٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ؛ فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَشَكَّ يَعْقُوبُ رحمه الله فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) بِذَلِكَ، قَالُوا إنَّهُ شَكَّ فِي حِفْظِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ لَا فِي مَذْهَبِهِ: يَعْنِي أَنَّ مَذْهَبَهُ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْبِنَاءَ وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي (فَإِنَّ مُحَمَّدًا نَصَّ عَلَى) هَذَا (الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ) فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا بَنَى فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا لَا شُفْعَةَ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي الدَّارِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، فَلَوْلَا قَوْلُهُ بِانْقِطَاعِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ بِالْبِنَاءِ لَمْ يُوجِبْ الشُّفْعَةَ فِيهَا، غَيْرَ أَنَّ حِكَايَةَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ لِمُحَمَّدٍ مَا رَوَيْت لَك عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا وَإِنَّمَا رَوَيْت لَك أَنَّهُ يَنْقُضُ الْبِنَاءَ فَقَالَ بَلْ رَوَيْت لِي أَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا صَرِيحٌ فِي الْإِنْكَارِ لَا فِي الشَّكِّ، وَصَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْقُلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمَا وَعَدَمَ الْخِلَافِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وَثُبُوتِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ) مَعْنَاهُ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَوُجُودُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِهِ وَعَدَمُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِهِ، وَعَلَى هَذَا فَثُبُوتُهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ بِالْجَرِّ.

وَجَمَاعَةٌ مِنْ الشَّارِحِينَ قَالُوا: وَثُبُوتُهُ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ وَعَلَى الِاخْتِلَافِ خَبَرُهُ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَبْنِيٍّ وَالْمَعْنَى: ثُبُوتُ حَقِّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ وَثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى الْخِلَافِ، فَعِنْدَهُ يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ فَهُوَ قَائِلٌ بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْأَوْجَهَ ثُبُوتُهُ بِثُبُوتِ انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَالْمَعْنَى حَقُّ الشُّفْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالْبِنَاءِ

ص: 472

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَيَطِيبُ لِلْبَائِعِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهَا فَيَتَمَكَّنُ الْخُبْثُ فِي الرِّبْحِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ

وَثُبُوتُ انْقِطَاعِهِ بِهِ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُمَا لَا يَنْقَطِعُ فَلَهُ الْقَلْعُ وَالْهَدْمُ، وَعِنْدَهُ يَنْقَطِعُ فَلَا يُسْتَرَدُّ.

وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ أَنَّ طَلَبَ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ انْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ لَا وَقْتَ الشِّرَاءِ. وَأُورِدُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا وَجَبَ نَقْضُهُمَا لِحَقِّ الشَّفِيعِ وَفِيهِ تَقْرِيرٌ لِلْفَسَادِ فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ نَقْضُهُمَا لِحَقِّ الْبَائِعِ وَهُوَ أَقْوَى وَفِيهِ إعْدَامُ الْفَسَادِ. أُجِيبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ جَانٍ وَلَا جِنَايَةَ مِنْ الشَّفِيعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ النَّقْضِ لِأَجْلِ مَنْ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ النَّقْضُ لِمَنْ جَنَى. فَإِنْ قِيلَ: إذَا نُقِضَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ لِأَجْلِ الشَّفِيعِ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إذَا فُسِخَ الْبَيْعُ عَنْ الْعَبْدِ. أُجِيبُ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ إنَّمَا يَزُولُ بَعْدَ مِلْكِ الشَّفِيعِ فَيَثْبُتُ حَقُّ نَقْضِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ حُكْمًا لِمِلْكِهِ.

هَذَا وَقَوْلُهُمَا أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْبِنَاءَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الدَّوَامُ يَمْنَعُ الِاتِّفَاقَ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى إيجَابِ الْقَلْعِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ لِلْبَقَاءِ وَقَدْ لَا، فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِر يَعْلَمُ أَنَّهُ يُكَلَّفُ الْقَلْعَ فَفِعْلُهُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْبَقَاءَ، قُلْنَا: الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا أَيْضًا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ عِنْدَنَا، وَقَوْلُكُمْ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مَحِلُّ النِّزَاعِ فَأَقَلُّ الْأَمْرِ أَنْ يَعْلَمَ الْخِلَافَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُكَلَّفَ النَّقْضَ فَفِعْلُهُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلُ قَصْدِهِ عَدَمَ الْبَقَاءِ إلَّا مُدَّةً مَا.

وَأَمَّا تَعْلِيلُ بَعْضِهِمْ لَهُ بِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ فَبَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ عَبْدًا آخَرَ اشْتَرَاهُ مِمَّنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا أَوْ قَبْلَ الْهِبَةِ فِيهِ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ نَفْسُ الْعَاقِدِ الْجَانِي بِعَقْدِهِ هُوَ الَّذِي بَنَى فَلَا يَسْتَحِقُّ بِجِنَايَتِهِ.

وَفِعْلُهُ الْمُقَرِّرُ لِمَعْصِيَتِهِ أَنْ يَقْطَعَ حَقَّ الْقَاصِدِ لِلتَّوْبَةِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّصَلَ بِهِ حَقُّ مَنْ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَذِنَ فِي تَقْدِيمِ حَقِّهِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا فَبَاعَهَا) الْمُشْتَرِي (وَرَبِحَ فِيهَا تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَيَطِيبُ لِبَائِعِهِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ) الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي إذَا عَمِلَ فَرَبِحَ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمَالَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا يَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَنَوْعٌ يَتَعَيَّنُ وَهُوَ مَا سِوَاهُمَا.

وَالْخُبْثُ نَوْعَانِ: خُبْثٌ فِي الْبَدَلِ لِعَدَمِ

ص: 473

لَا يَتَعَيَّنَانِ عَلَى الْعُقُودِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْعَقْدُ الثَّانِي بِعَيْنِهَا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْخُبْثُ فَلَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ، وَهَذَا فِي الْخُبْثِ الَّذِي سَبَبُهُ فَسَادُ الْمِلْكِ، أَمَّا الْخُبْثُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَشْمَلُ النَّوْعَيْنِ لِتَعَلُّقِ الْعَقْدِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ حَقِيقَةً، وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ أَوْ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ، وَعِنْدَ فَسَادِ الْمِلْكِ تَنْقَلِبُ الْحَقِيقَةُ شُبْهَةً وَالشُّبْهَةُ تَنْزِلُ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا.

الْمِلْكِ فِي الْمُبْدَلِ، وَخُبْثٌ لِفَسَادِ الْمِلْكِ. فَالْخُبْثُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ يَعْمَلُ فِي النَّوْعَيْنِ حَتَّى أَنَّ الْغَاصِبَ أَوْ الْمُودَعَ إذَا تَصَرَّفَا فِي الْمَغْصُوبِ الْوَدِيعَةِ وَهُمَا عَرَضٌ أَوْ نَقْدٌ وَأَدَّيَا ضَمَانَهُمَا وَفَضَلَ رِبْحٌ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالِ الْغَيْرِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقِيقَةُ الْخُبْثِ، وَفِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ بَدَلَ مَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَلْ بِمِثْلِهِ فِي الذِّمَّةِ، لَكِنَّهُ إنَّمَا تَوَسَّلَ إلَى الرِّبْحِ بِالْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ فَتَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبْحِ بِمَالِ الْغَيْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ أَنَّ نَقْدَ الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ أَوْ تَقْدِيرَ الثَّمَنِ إنْ أَشَارَ إلَى الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُعْتَبَرَةٌ كَالْحَقِيقَةِ فِي أَبْوَابِ الرِّبَا، وَالْخُبْثَ لِفَسَادِ الْمِلْكِ دُونَ الْخُبْثِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَيُوجِبُ شُبْهَةَ الْخُبْثِ فِيمَا يُوجِبُ فِيهِ عَدَمُ الْمِلْكِ حَقِيقَةَ الْخُبْثِ، وَهُوَ مَا يَتَعَيَّنُ كَالْجَارِيَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَيَتَعَدَّى إلَى بَدَلِهَا.

وَشُبْهَةُ الشُّبْهَةِ فِيمَا يُوجِبُ فِيهِ عَدَمُ الْمِلْكِ الشُّبْهَةَ وَهُوَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ، وَشُبْهَةُ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ وَهُوَ نَهْيُهُ عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ فَلَا يَتَعَدَّى، وَإِلَّا اُعْتُبِرَ مَا دُونَهَا كَشُبْهَةِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهَلُمَّ فَيَنْسَدُّ بَابُ التِّجَارَةِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ، فَلِذَا قَالَ: يَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِالرِّبْحِ فِيهَا وَيَطِيبُ لِلْبَائِعِ مَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ: إنَّهُ لَا تَتَعَيَّنُ النُّقُودُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، أَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ تَتَعَيَّنُ فَحُكْمُ الرِّبْحِ فِي النَّوْعَيْنِ كَالْغَصْبِ لَا يَطِيبُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ رِوَايَةَ التَّعْيِينِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ هُوَ الْأَصَحُّ، فَحِينَئِذٍ الْأَصَحُّ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ عَلَى الْبَائِعِ أَيْضًا بِمَا رَبِحَ فِي الثَّمَنِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي طَيِّبِ الرِّبْحِ صَرِيحُ الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ، فَإِنَّ فِيهِ مُحَمَّدًا عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً بَيْعًا فَاسِدًا بِأَلْفٍ وَتَقَابَضَا وَرَبِحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا قَبَضَ قَالَ: يَتَصَدَّقُ الَّذِي قَبَضَ الْجَارِيَةَ بِالرِّبْحِ وَيَطِيبُ الرِّبْحُ لِلَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا كَمَا قَالَ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ) أَيْ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهَا مِنْ الشَّرِكَةِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمَا اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ وَالشَّرِكَةِ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْبِيَاعَاتِ أَوْ الْمُعَاوَضَاتِ مَذْكُورًا لِلْمُصَنِّفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،

ص: 474

قَالَ (وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَضَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُدَّعِي فِي الدَّرَاهِمِ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ)؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ لِفَسَادِ الْمِلْكِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَجَبَ بِالتَّسْمِيَةِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بِالتَّصَادُقِ، وَبَدَلُ الْمُسْتَحِقِّ مَمْلُوكٌ فَلَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ. .

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ شَرْطُ الطِّيبِ الضَّمَانُ وَقَدْ وُجِدَ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَطِيبُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَهَلَكَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَهُمَا كَمَا فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ وَعِنْدَنَا لَا يَبْطُلُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا وَيُعْطِيَ مِثْلَهَا عِنْدَهُمَا (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إلَخْ).

قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَقَضَاهُ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُدَّعِي فِي الدَّرَاهِمِ الَّتِي قَبَضَهَا عَلَى أَنَّهَا دَيْنُهُ (يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ لِفَسَادِ الْمِلْكِ هُنَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَجَبَ بِالتَّسْمِيَةِ) أَيْ بِالْإِقْرَارِ عِنْدَ دَعْوَاهُ الْمَالَ (ثُمَّ اسْتَحَقَّ بِالتَّصَادُقِ) فَكَانَ الْمَقْبُوضُ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ الدَّيْنُ (وَبَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكٌ) أَيْ مِلْكًا فَاسِدًا سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، أَمَّا عَيْنًا فَبِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ أَوْ ثَوْبٍ ثُمَّ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاسْتُحِقَّتْ الْجَارِيَةُ يَصِحُّ عِتْقُ الْعَبْدِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَدَلُ الْمُسْتَحَقِّ مَمْلُوكًا لَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ، إذْ لَا عِتْقَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالْعَبْدُ بَدَلُ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ.

وَإِذَا مَلَكَهُ فَاسِدًا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ خُبْثًا فَطَابَ لَهُ الرِّبْحُ.

وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِقَاضِي خَانْ: بَدَلُ الْمُسْتَحَقُّ مَمْلُوكٌ بِدَلِيلِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَبَاعَهُ الْمَدْيُونُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَقَبَضَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِهَذَا الْبَيْعِ فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ فَلَمْ يَحْنَثْ، وَبَيَانُ فَسَادِ الْمِلْكِ فِي بَدَلِ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ الْمُبْدَلَ يَجِبُ رَدُّهُ وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ؛ وَلَوْ حَصَلَ الرِّبْحُ فِي دَرَاهِمَ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ تَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخُبْثِ، فَإِذَا حَصَلَ مِنْ دَرَاهِمَ فِيهَا شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ شُبْهَةِ الْخُبْثِ فَلَا تُعْتَبَرُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِلْكَهُ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ أَنَّهُ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ بَدَلًا عَمَّا يَزْعُمُ أَنَّهُ مِلْكُهُ، أَمَّا لَوْ كَانَ فِي أَصْلِ دَعْوَاهُ الدَّيْنَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَدَفَعَ إلَيْهِ لَا يَمْلِكُهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 475

(فَصْلٌ فِيمَا يُكْرَهُ)

قَالَ (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّجْشِ) وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ وَقَالَ «لَا تَنَاجَشُوا»

(فَصْلٌ فِيمَا يُكْرَهُ)

لَمَّا كَانَ دُونَ الْفَاسِدِ أَخَّرَهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ دُونَهُ فِي حُكْمِ الْمَنْعِ الشَّرْعِيِّ بَلْ فِي عَدَمِ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْكَرَاهَاتُ كُلُّهَا تَحْرِيمِيَّةٌ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْإِثْمِ. وَمُقْتَضَى النَّظَرِ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أُصُولِنَا الشِّرَاءُ عَلَى سَوْمِ الْآخَرِ بِشَرْطِهِ، وَالْحَاضِرُ لِلْبَادِي فِي الْقَحْطِ وَالْإِضْرَارِ فَاسِدًا، وَتَلَقِّي الْجَلَبِ إذَا لَبِسَ بَاطِلًا أَوْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقُهُ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا لِصَارِفٍ.

وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةُ سَبَبًا لِلنَّهْيِ تُؤَكِّدُ الْمَنْعَ لَا تَصْرِفُهُ عَنْهُ، فَإِنَّ فِي اعْتِرَاضِ الرَّجُلِ عَلَى سَوْمِ الْآخَرِ بَعْدَ الرُّكُونِ وَطِيبِ نَفْسِ الْبَائِعِ بِالْمُسَمَّى إثَارَةً لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَيَحْرُمُ ذَلِكَ، وَشِرَاءُ مَا جِيءَ بِهِ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ لِيُغَالِيَ عَلَى النَّاسِ ضَرَرٌ عَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَحْرُمُ، وَكَذَا الْبَيْعُ مِنْ الْقَادِمِينَ مَعَ حَاجَةِ الْمُقِيمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ سِعْرَ الْبَلَدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُنْعَقِدٍ لِعَدَمِ الرِّضَا بِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، أَوْ مُنْعَقِدًا وَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَكَوْنُ الْوَصْفِ مُجَاوِرًا أَوْ لَازِمًا لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَا إذْ الِاصْطِلَاحَاتُ لَا تَنْفِي الْمَعَانِيَ الْحَقِيقَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلْبُطْلَانِ أَوْ الْفَسَادِ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْفَسَادِ لَيْسَ إلَّا كَوْنَ الْعَقْدِ مَطْلُوبَ التَّفَاسُخِ لِلْمَعْصِيَةِ بِمُبَاشَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيَمْلِكُ الْبَدَلَ مِنْهُ بِالْقَبْضِ، وَتَأَخُّرُ الْمِلْكِ إلَى الْقَبْضِ لَيْسَ إلَّا لِوُجُوبِ رَفْعِ الْمَعْصِيَةِ بِرَفْعِهِ، وَيَجِبُ فِي هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ ذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَنْعُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ الظَّنِّيَّةِ سَمَّوْهُ مَكْرُوهًا عَلَى اصْطِلَاحِنَا، وَلَمَّا كَانَ الرُّكْنُ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي ثَابِتًا جَعَلْته فَاسِدًا (قَوْلُهُ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّجْشِ»، وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ) بَعْدَمَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا فَإِنَّهُ تَغْرِيرٌ لِلْمُسْلِمِ ظُلْمًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا فَزَادَ الْقِيمَةَ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ نَفْعُ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِغَيْرِهِ إذْ كَانَ شِرَاءُ الْغَيْرِ بِالْقِيمَةِ.

(قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا تَنَاجَشُوا») فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ

ص: 476

قَالَ (وَعَنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ) قَالَ عليه الصلاة والسلام: «لَا يَسْتَمِ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إيحَاشًا وَإِضْرَارًا، وَهَذَا إذَا تَرَاضَى الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى مَبْلَغٍ ثَمَنًا فِي الْمُسَاوَمَةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَرْكَنْ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَهُوَ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ وَلَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَحْمَلُ النَّهْيِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا. قَالَ (وَعَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ) وَهَذَا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ فَلَا بَأْسَ بِهِ، إلَّا إذَا لَبَّسَ السِّعْرَ عَلَى الْوَارِدِينَ فَحَيْثُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغُرُورِ وَالضَّرَرِ.

حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ» وَالنَّجَشُ بِفَتْحَتَيْنِ وَيُرْوَى بِسُكُونِ الْجِيمِ (قَوْلُهُ وَعَنْ السَّوْمِ) أَيْ وَنَهَى عَنْ السَّوْمِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي لَفْظِ «لَا يَبِعْ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ إلَى أَنْ قَالَ «وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» وَعَرَفْت مُثِيرَهُ وَهُوَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيحَاشِ وَالْإِضْرَارِ، وَشَرْطَهُ وَهُوَ أَنْ يَتَرَاضَيَا بِثَمَنٍ وَيَقَعَ الرُّكُونُ بِهِ فَيَجِيءُ آخَرُ فَيَدْفَعُ لِلْمَالِكِ أَكْثَرَ أَوْ مِثْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ رَجُلٌ وَجِيهٌ فَيَبِيعُهُ مِنْهُ لِوَجَاهَتِهِ.

وَأَمَّا صُورَةُ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ بِأَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى ثَمَنِ سِلْعَةٍ فَيَجِيءُ آخَرُ فَيَقُولُ أَنَا أَبِيعُك مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِأَنْقَصَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ فَيَضُرُّ بِصَاحِبِ السِّلْعَةِ فَظَهَرَ تَصْوِيرُ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَالسَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَالْوَارِدُ فِيهِمَا حَدِيثَانِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ لَفْظِ الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» جَامِعًا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَجَازًا، إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرِدْ حَدِيثُ الِاسْتِيَامِ، وَكَذَا مَحِلُّهُ فِي الْخِطْبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا فَهُوَ بَيْعُ مَنْ يُزِيدُوا وَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا سَنَذْكُرُ (قَوْلُهُ وَعَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ» . قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا.

وَلِلتَّلَقِّي صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ الْمُشْتَرُونَ لِلطَّعَامِ مِنْهُمْ فِي سَنَةِ حَاجَةٍ لِيَبِيعُوهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ بِزِيَادَةٍ، وَثَانِيَتُهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ بِأَرْخَصَ مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِالسِّعْرِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّة أَنَّهُ إذَا خَرَجَ إلَيْهِمْ لِذَلِكَ أَنَّهُ يَعْصَى، أَمَّا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ بَلْ اتَّفَقَ أَنْ خَرَجَ فَرَآهُمْ فَاشْتَرَى فَفِي مَعْصِيَتِهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَهُمْ يَعْصِي، وَالْوَجْهُ لَا يَعْصِي إذَا لَمْ يَلْبَسْ.

وَعِنْدَنَا مَحْمَلُ النَّهْيِ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ أَوْ لَبِسَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَضُرَّ وَلَمْ يَلْبَسْ فَلَا بَأْسَ

ص: 477

قَالَ (وَعَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي) فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا يَبِعْ الْحَاضِرُ لِلْبَادِي» وَهَذَا إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ فِي قَحْطٍ وَعَوَزٍ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمْ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ. قَالَ:(وَالْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ثُمَّ فِيهِ إخْلَالٌ بِوَاجِبِ السَّعْيِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَذَانَ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. قَالَ (وَكُلُّ ذَلِكَ يُكْرَهُ) لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي مَعْنًى خَارِجٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَا فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ

قَوْلُهُ وَعَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي) تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَمَحْمَلُ النَّهْيِ (إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ فِي عَوَزٍ) أَيْ حَاجَةٍ (أَوْ قَحْطٍ وَهُوَ يَبِيعُ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي) لِلْإِضْرَارِ بِهِمْ وَهُمْ جِيرَانُهُ (أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ) وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هُوَ أَنْ يَمْنَعَ السِّمْسَارَ الْحَاضِرُ الْقَرَوِيَّ مِنْ الْبَيْعِ وَيَقُولَ لَهُ لَا تَبِعْ أَنْتَ أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْك فَيَتَوَكَّلُ لَهُ وَيَبِيعُ وَيُغَالِي.

وَلَوْ تَرَكَهُ يَبِيعُ بِنَفْسِهِ لَرَخَّصَ عَلَى النَّاسِ. وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ زَادَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وَفِي الْمُجْتَبَى: هَذَا التَّفْسِيرُ أَصَحُّ، ذَكَرَهُ فِي زَادِ الْفُقَهَاءِ لِمُوَافَقَتِهِ الْحَدِيثَ، وَعَلَى هَذَا فَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سِمْسَارًا لَيْسَ هُوَ تَفْسِيرُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَهُوَ صُورَةُ النَّهْيِ بَلْ تَفْسِيرٌ لِضِدِّهَا وَهِيَ الْجَائِزَةُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّمْسَارِ وَتَعَرُّضِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ عِلِّيَّةِ نَهْيِ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي قَالَ: الْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سِمْسَارًا فَنَهَى عَنْهُ لِلسِّمْسَارِ (قَوْلُهُ وَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ. قَالَ تَعَالَى)

إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} كَأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوَقْتَ مِنْ حِينِ الْأَذَانِ مَشْغُولًا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ تَعْظِيمًا لَهَا كَمَا قَالُوا فِي النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ التَّغَيُّرِ (وَفِيهِ) زِيَادَةُ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى (الْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ السَّعْيِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَذَانَ الْمُعْتَبَرَ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ) وَهُوَ مَا يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ (كُلُّ ذَلِكَ يُكْرَهُ) أَيْ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ إلَى هُنَا يُكْرَهُ: أَيْ لَا يَحِلُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا حَتَّى يَجِبَ الثَّمَنُ) وَيَثْبُتَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، لَكِنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدَّمْنَا قَوْلَ مَالِكٍ بِالْبُطْلَانِ فِيهِ وَفِي النَّجْشِ.

وَكَذَا بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَعَلَّلَ الصِّحَّةَ (بِأَنَّ الْفَسَادَ) فِيهِ (فِي مَعْنًى خَارِجٍ زَائِدٍ لَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَا فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ) وَاسْتَشْكَلَهُ فِي الْكَافِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْدِ لَيْسَ فِي صُلْبِهِ قَالَ: إلَّا أَنْ يَئُولَ الْخَارِجُ بِالْمُجَاوِرِ، وَأَنْتَ عَلِمَتْ مَا

ص: 478

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ) وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ الْفُقَرَاءِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى نَوْعٍ مِنْهُ» .

قَالَ (وَمَنْ مَلَكَ مَمْلُوكَيْنِ صَغِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَبِيرًا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ) وَهُوَ صِفَةُ الْبَيْعِ الَّذِي فِي أَسْوَاقِ مِصْرَ الْمُسَمَّى بِالْبَيْعِ فِي الدَّلَالَةِ (لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ) رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهُ: أَمَّا فِي بَيْتِك شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ، قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا، فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، فَقَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ فَأْسًا فَأْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» .

وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَاعَ حِلْسًا وَقَدَحًا فِيمَنْ يَزِيدُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ وَقَالَ فِي عِلَلِهِ الْكَبِيرِ: سَأَلَتْ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: الْأَخْضَرُ بْنُ عَجْلَانَ ثِقَةٌ (قَوْلُهُ نَوْعٌ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ: أَيْ الَّذِي لَا يَحِلُّ عَلَى مَا عَرَفْت أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَحْرِيمِيَّةٌ، وَإِنَّمَا فَصَّلَهُ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ لِمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ أَوْ؛ لِأَنَّهَا مَسَائِلُ يَجْمَعُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ التَّفْرِيقُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ

(وَمَنْ مَلَكَ مَمْلُوكَيْنِ) بِأَيِّ سَبَبِ فَرْضٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ شِرَاءً أَوْ هِبَةً أَوْ مِيرَاثًا (صَغِيرَيْنِ) أَوْ (أَحَدُهُمَا وَبَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرَّمَةٌ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا) سَوَاءٌ كَانَ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَذَكَرَهُ بِصُورَةِ النَّفْيِ مُبَالَغَةً فِي الْمَنْعِ، وَلَا يُنْظَرُ فِي الْوَصِيَّةِ إلَى جَوَازِ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْمَوْتُ إلَى انْقِضَاءِ زَمَانِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْهُومٌ (وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم) فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ؛

ص: 479

«وَوَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ صَغِيرَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ الْغُلَامَانِ؟ فَقَالَ: بِعْت أَحَدَهُمَا، فَقَالَ: أَدْرِكْ أَدْرِكْ، وَيُرْوَى: اُرْدُدْ اُرْدُدْ» ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَ يَتَعَاهَدُهُ فَكَانَ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا قَطْعُ الِاسْتِئْنَاسِ، وَالْمَنْعُ مِنْ التَّعَاهُدِ وَفِيهِ تَرْكُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ، وَقَدْ أَوْعَدَ عَلَيْهِ

وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَنُظِرَ فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ حُيَيِّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُخَرَّجْ لَهُ فِي الصَّحِيحِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَلِلِاخْتِلَافِ فِيهِ لَمْ يُصَحِّحْهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِقِصَّةٍ.

وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:؟ «مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا» وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَفِيهِ طَلِيقُ بْنُ مُحَمَّدٍ، تَارَةً يَرْوِيهِ عَنْهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَتَارَةً عَنْهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، وَتَارَةً عَنْ طَلِيقٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.

وَقَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ طَلِيقًا لَا يُعْرَفُ حَالُهُ يُرِيدُ خُصُوصَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَشُهْرَةٌ وَأَلْفَاظٌ تُوجِبُ صِحَّةَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فِيهِ، وَهُوَ مَنْعُ التَّفْرِيقِ إلَّا أَنَّ فِي سَوْقِهَا طُولًا عَلَيْنَا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ عَنْ «عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ وَهَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتُ أَحَدَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَلِيُّ مَا فَعَلَ غُلَامُك؟ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: رُدَّهُ رُدَّهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَتَعَقَّبَهُ أَبُو دَاوُد بِأَنَّ مَيْمُونًا لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنْ أَنَّ الْمُرْسَلَ مِنْ أَقْسَامِ الضَّعِيفِ وَعِنْدَنَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ فَأَمَرَنِي بِبَيْعِ أَخَوَيْنِ فَبِعْتهمَا وَفَرَّقْت بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْته فَقَالَ: أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا وَبِعْهُمَا جَمِيعًا فَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا» وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَنَفَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْعَيْبَ عَنْهُ وَقَالَ: هُوَ أَوْلَى مَا اُعْتُمِدَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَلَا يَضُرُّ عَلَى أَصْلِنَا عَلَى مَا عُرِفَ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَ يَتَعَاهَدُهُ) أَيْ يُصْلِحُ شَأْنَهُ (فَكَانَ فِي التَّفْرِيقِ قَطْعُ الِاسْتِئْنَاسِ وَالْمَنْعُ مِنْ التَّعَاهُدِ وَفِيهِ تَرْكُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ، وَقَدْ أَوْعَدَ عَلَيْهِ) قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي الْأَدَبِ.

وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ:

ص: 480

ثُمَّ الْمَنْعُ مَعْلُولٌ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ مَحْرَمٌ غَيْرُ قَرِيبٍ وَلَا قَرِيبٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ حَتَّى جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلْكِهِ

حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا مَالِكُ بْنُ أَبِي الْخَيْرِ الزِّيَادِيُّ عَنْ أَبِي قُنْبُلٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُبَجِّلْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» وَعَلَى نَحْوِ الْأَوَّلِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي الْأَدَبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مَعْنًى مَشْهُورٌ لَا شَكَّ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ الْمَنْعُ مَعْلُولٌ بِالْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَدْخُلُهُ مَحْرَمٌ غَيْرُ قَرِيبٍ) كَمَحْرَمِ الرَّضَاعِ وَامْرَأَةِ الْأَبِ (وَلَا قَرِيبُ غَيْرُ مَحْرَمٍ) كَابْنِ الْعَمِّ (وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ حَتَّى جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهِ) وَمَوْرِدُهُ كَانَ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ كَمَا فِي الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَالْأَخَوَيْنِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يُمْنَعَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْخَالِ وَابْنِ أُخْتِهِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتِ أُخْتِهَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ مَا وَرَدَ إلَّا فِي الْوَالِدَةِ وَالْأَخَوَيْنِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُحَرِّمَةَ تُثْبِتُ مَعْنًى دَلَالِيًّا وَهُوَ الْمَفْهُومُ الْمُوَافِقُ فِي عُرْفِ الشَّافِعِيَّةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ خُصُوصَ الْوَالِدَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّ الْوَالِدَ أَيْضًا مِثْلُهَا فَفُهِمَ مِنْهُ قَرَابَةُ الْوِلَادِ ثُمَّ جَاءَ نَصُّ الْأَخَوَيْنِ، فَعُلِمَ أَنْ لَا قَصْرَ عَلَى الْوِلَادِ بَلْ الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ فَثَبَتَ فِي الْخَالِ وَالْخَالَةِ بِالدَّلَالَةِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْأَوْلَوِيَّةِ فِي الدَّلَالَةِ وَالْمَفْهُومِ بَقِيَ إيرَادُ نَقْضِ الْعِلَّةِ بِثَمَانِيَةِ مَسَائِلَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةَ، مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَهِيَ: مَا إذَا كَانَ التَّفْرِيقُ بِحَقٍّ مُسْتَحِقٍّ كَدُفَعِ أَحَدِهِمَا بِجِنَايَةٍ، أَوْ اسْتِيلَاءِ دَيْنٍ لَزِمَ الصَّغِيرَ كَاسْتِهْلَاكِهِ مَالَ الْغَيْرِ مَعَ أَنَّهُ فِي دَفْعِهِ غَيْرُ مَجْبُورٍ إذْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ الْفِدَاءَ وَالدَّيْنَ وَيَسْتَبْقِيَهُ وَرَدَّهُ وَحْدَهُ بِعَيْبٍ بِحِصَّتِهِ فَيَرُدُّهُ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرُدُّهُمَا جَمِيعًا أَوْ يُمْسِكُهُمَا كَمَا فِي مِصْرَاعِي الْبَابِ إذَا وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا.

وَالرَّابِعَةُ أَنْ يُدَبِّرَ أَحَدَهُمَا أَوْ يَسْتَوْلِدَ الْأَمَةَ وَحِينَئِذٍ جَازَ بَيْعُهُ الْآخَرُ وَالْخَامِسَةُ أَنْ يَكُونَ لِحَرْبِيٍّ

ص: 481

لِمَا ذَكَرْنَا، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُ الصَّغِيرَيْنِ لَهُ وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ بِحَقِّ مُسْتَحِقٍّ

مُسْتَأْمَنٍ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا، فَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مَعَ أَنَّ الْمَنْعَ كَمَا هُوَ لِلْبَائِعِ كَذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَالسَّادِسَةُ لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً فِي مِلْكِهِ أَحَدُهُمْ صَغِيرٌ حَلَّ بَيْعُ أَحَدِ الْكَبِيرَيْنِ مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَالسَّابِعَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتِقَ أَحَدَهُمَا بِمَالٍ وَبِلَا مَالٍ وَيُكَاتِبَهُ مَعَ أَنَّهُ حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ. وَالثَّامِنَةُ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ مُرَاهِقًا

ص: 482

لَا بَأْسَ بِهِ كَدَفْعِ أَحَدِهِمَا بِالْجِنَايَةِ وَبَيْعِهِ بِالدَّيْنِ وَرَدِّهِ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ لَا الْإِضْرَارُ بِهِ. قَالَ (فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَ الْعَقْدُ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِدْرَاكِ وَالرَّدِّ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ

فَرَضِيَ بِالْبَيْعِ وَاخْتَارَهُ وَرَضِيَتْهُ أُمُّهُ جَازَ بَيْعُهُ، فَالْجَوَابُ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ) فِي مَنْعِ التَّفْرِيقِ (دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ غَيْرِهِ) وَهُوَ الصَّغِيرُ (لَا) إلْحَاقُ (الضَّرَرِ بِهِ) أَيْ بِالْمَالِكِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ وَمَنْ مَلَكَ مَمْلُوكَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ مَنَعْنَا التَّفْرِيقَ كَانَ إلْزَامًا لِلضَّرَرِ بِالْمَالِكِ، وَالْعِلَّةُ هِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِيَّةِ غَيْرِ الْمُسْتَلْزِمِ ضَرَرًا بِالْمَالِكِ، فَعِنْدَ اسْتِلْزَامِهِ تَكُونُ عِلَّةُ الْمَنْعِ مُنْتَفِيَةً عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ أَوْ مُخَصَّصَةً بِاسْتِلْزَامِ ضَرَرِهِ عِنْدَ مَنْ يُخَصِّصُهَا، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ الرَّابِعِ إذْ يَلْزَمُ الْمَالِكَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِمَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ رَأْسًا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ بَيْعُهُمَا وَالِانْتِفَاعُ بِبَدَلِهِمَا.

وَعَنْ الْخَامِسِ بِأَنَّ مَفْسَدَةَ التَّفْرِيقِ عَارَضَهَا هُنَا بِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِهِ أَحَدٌ يَذْهَبُ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَمَفْسَدَةُ كَوْنِهِ هُنَاكَ يَشِبُّ وَيَكْتَهِلُ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ التَّفْرِيقِ عَلَى الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَالدِّينُ ظَاهِرٌ وَالدُّنْيَا تَعْرِيضُهُ عَلَى الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَالسَّبْيُ هَلَاكٌ.

وَيَجِيءُ مَا ذَكَرْنَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَعَدَمِهِ. وَعَنْ السَّادِسِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا هُوَ مَظِنَّةُ الضَّيَاعِ وَالِاسْتِيحَاشِ، وَقَدْ بَقِيَ لَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الثَّالِثِ. عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَمْتَنِعُ بَيْعُ الثَّالِثِ فِي الْكِفَايَةِ قَدْ اجْتَمَعَ فِي الصَّغِيرِ عَدَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدٍ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ كَالْعَمِّ وَالْخَالِ، أَوْ اتَّحَدَتْ كَخَالَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْحِشُ بِفِرَاقِ الْكُلِّ، وَعَنْ السَّابِعِ بِأَنَّ الْعِتْقَ وَالْكِتَابَةَ عَيْنُ الْجَمْعِ لَا التَّفْرِيقِ فَإِنَّ الْمُعْتَقَ وَالْمُكَاتَبَ يَزُولُ الْحَجَرُ عَنْهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْكَوْنِ مَعَ أَخِيهِ حَيْثُمَا كَانَ وَأَيْنَمَا صَارَ، وَعَنْ الثَّامِنِ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا لَمَّا اخْتَارَا ذَلِكَ فَقَدْ تَحَقَّقْنَا خُلُوَّ الْوَصْفِ الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ عَنْ الْحِكْمَةِ فَلَا يُشْرَعُ مَعَهُ الْحُكْمُ فَآلَ الْكُلُّ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ.

وَمِنْ صُوَرِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ إذَا كَانَ لِلذِّمِّيِّ عَبْدٌ لَهُ امْرَأَةٌ وَلَدَتْ مِنْهُ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ وَوَلَدُهُ صَغِيرٌ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ الذِّمِّيُّ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ وَابْنِهِ وَإِنْ كَانَ تَفْرِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ فَهَذَا تَفْرِيقٌ بِحَقٍّ (قَوْلُهُ فَإِنْ فَرَّقَ كُرِهَ ذَلِكَ وَجَازَ الْعَقْدُ) إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا حُرًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا، أَمَّا إذَا كَانَ كَافِرًا فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ.

وَالْوَجْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّفْرِيقُ فِي مِلَّتِهِمْ حَلَالًا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ إلَّا إنْ كَانَ بَيْعُهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ فَيَمْتَنِعُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي مِلَّتِهِمْ لَا يَجُوزُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لَا يَجُوزُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) أَيْ قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَدْرِكْهُمَا وَارْتَجِعْهُمَا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِدْرَاكِ وَالِارْتِجَاعِ

ص: 483

وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَإِنَّمَا الْكَرَاهَةُ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ فَشَابَهُ كَرَاهَةَ الِاسْتِيَامِ (وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَرَّقَ بَيْنَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ

لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ (وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ وَالْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ) وَالنَّهْيَ لِلْمُجَاوَرَةِ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ بِخِلَافِهِ لِوَصْفٍ لَازِمٍ (فَشَابَهُ كَرَاهَةَ الِاسْتِيَامِ) عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ بِالْإِدْرَاكِ وَالِارْتِجَاعِ عَلَى طَلَبِ الْإِقَالَةِ مَعَ ظُهُورِ أَنْ يُقِيلَهُ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ الْإِقَالَةِ أَوْ أَنْ يَبِيعَ الْأَخُ لِآخَرَ مِنْهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مُدَّةَ مَنْعِ التَّفْرِيقِ إنَّمَا تَمْتَدُّ إلَى بُلُوغِ الصَّغِيرِ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ بِالْحَيْضِ. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا فِي الْمَبْسُوطِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَالتَّفْرِيقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ» وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فَقِيلَ إلَى مَتَى؟ فَقَالَ: إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ» رَفَعَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

وَفِي أَظْهَرْ قَوْلَيْهِ إلَى زَمَانِ التَّمْيِيزِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ بِالتَّقْرِيبِ، وَإِلَى زَمَانِ سُقُوطِ الْأَسْنَانِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَخَطَّأَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ، وَقَالَ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَسَبَبُهُ أَنَّ فِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَسَّانَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: كَذَّابٌ، وَقِيلَ رَمَاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ بِالْكَذِبِ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَعْدَ الْبُلُوغِ حُكْمٌ ثَابِتٌ شَرْعًا، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إذَا رَاهَقَا وَرَضِيَا بِالتَّفْرِيقِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَرُبَّمَا يَرَيَانِ الْمُصْلِحَةَ فِي ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ) لِيَثْبُتَ فِيهِ الْمَنْعُ إلْحَاقًا بِالدَّلَالَةِ إذْ كَانَ أَصْلُهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ (وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ») بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ.

قَالَ الْبَزَّارُ بَعْدَ أَنْ غَلَّطَهُ لِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ ذَكَرَهَا، لَكِنْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ وَدَلَّهُمْ بْنِ دَهْثَمٍ انْتَهَى وَبَشِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ الْقِبْطِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَارِيَتَيْنِ وَبَغْلَةً كَانَ يَرْكَبُهَا، فَأَمَّا إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ فَتَسَرَّاهَا فَوَلَدَتْ لَهُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام وَهِيَ مَارِيَةُ أُمُّ إبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا الْأُخْرَى فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ»

وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ آخَرَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مُرْسَلًا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى الْمُقَوْقِسِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَأَهْدَى لَهُ مَعَ حَاطِبٍ كِسْوَةً وَبَغْلَةً مَسْرُوجَةً وَجَارِيَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أُمُّ إبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَوَهَبَهَا عليه الصلاة والسلام لِجُهَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْعَبْدِيِّ وَهِيَ أُمُّ زَكَرِيَّا بْنِ جُهَيْمٍ الَّذِي كَانَ خَلِيفَةَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ» وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ.

وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى حَاطِبٍ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 484

وَكَانَتَا أَمَتَيْنِ أُخْتَيْنِ».

إلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة فَجِئْتُ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَنِي فِي مَنْزِلِهِ فَأَقَمْت عِنْدَهُ ثُمَّ بَعَثَ إلَيَّ وَجَمَعَ بَطَارِقَتَهُ، إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذِهِ هَدَايَا أَبْعَثُ بِهَا مَعَك إلَى مُحَمَّدٍ، فَأَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ جِوَارٍ مِنْهُنَّ أُمُّ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاحِدَةٌ وَهَبَهَا لِأَبِي جُهَيْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ، وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ» فَهَذَا يُعْلَمُ مِنْ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ الْجَارِيَتَيْنِ كَانَتَا أُخْتَيْنِ وَهُوَ مَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ.

لَا جَرَمَ ذَكَرَ أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ الْكَلَاعِيُّ فِي كِتَابِ الِاكْتِفَاءِ عَنْ الْوَاقِدِيِّ بِإِسْنَادٍ لَهُ: أَنَّ الْمُقَوْقِسَ أَرْسَلَ إلَى حَاطِبٍ لَيْلَةً إلَى أَنْ قَالَ: فَارْجِعْ إلَى صَاحِبِكَ فَقَدْ أَمَرْت لَهُ بِهَدَايَا وَجَارِيَتَيْنِ أُخْتَيْنِ فَارِهَتَيْنِ وَبَغْلَةٍ مِنْ مَرَاكِبِي وَأَلْفِ مِثْقَالٍ ذَهَبًا وَعِشْرِينَ ثَوْبًا مِنْ لِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَرْت لَك بِمِائَةِ دِينَارٍ وَخَمْسَةِ أَثْوَابٍ فَارْحَلْ مِنْ عِنْدِي وَلَا تَسْمَعْ مِنْك الْقِبْطُ حَرْفًا وَاحِدًا فَهَذَا مَعَ تَوْثِيقِ الْوَاقِدِيِّ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ أَسَلَفنَا تَوْثِيقَهُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَنَقَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي خَاتِمَةِ مَنَاقِبِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَوَّبَ أَبُو دَاوُد لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَذْكُورَاتِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ:«خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَغَزَوْنَا فَنَارَةً، إلَى أَنْ قَالَ: فَجِئْت بِهِمْ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَفِيهِمَا امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ، فَنَفَلَنِي أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا سَلَمَةَ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ، فَقُلْت هِيَ لَك، فَفَدَى بِهَا أُسَارَى مَكَّةَ» انْتَهَى مُخْتَصَرًا فَهَذَا التَّفْرِيقُ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ لَكِنْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَهُ وَاسْتَوْهَبَ الْجَارِيَةَ وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَى أُمِّهَا بَلْ أَبْعَدَ دَارَهَا حِينَ فَدَى بِهَا، فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْكَبِيرِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فُرُوعٌ]

إذَا كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَبَوَاهُ لَا يَبِعْ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أُمٌّ وَأَخٌ أَوْ أُمٌّ وَعَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ أَوْ أَخٌ جَازَ بَيْعُ مَنْ سِوَى الْأُمِّ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ لَا يُبَاعُونَ إلَّا مَعًا اعْتِبَارًا لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُمِّ تُغْنِي عَمَّنْ سِوَاهَا وَلِذَا كَانَتْ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ غَيْرِهَا، فَهَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَالْجَدَّةُ كَالْأُمِّ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ جَدَّةٌ وَعَمَّةٌ وَخَالَةٌ جَازَ بَيْعُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ لَمْ يُبَاعُوا إلَّا مَعًا لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ مَعَ اتِّحَادِ الدَّرَجَةِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَخَوَانِ أَوْ إخْوَةٌ كِبَارٌ، فِي رِوَايَةِ الْأَمَالِي لَا يُبَاعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ مَنْ سِوَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ؛ لِأَنَّ الشَّفَقَةَ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَبْعَدُ مَعَ الْأَقْرَبِ.

وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ فِي الدَّرَجَةِ وَالْجِهَةِ أَحَدُهُمَا يُغْنِي، وَكَذَا لَوْ مَلَكَ سِتَّةَ إخْوَةٍ ثَلَاثَةٌ كِبَارٌ وَثَلَاثَةٌ صِغَارٌ فَبَاعَ مَعَ كُلِّ صَغِيرٍ كَبِيرًا جَازَ اسْتِحْسَانًا، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ بَاعَ غَيْرَ الشَّقِيقَةِ؛ وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ فَصَارَا أَبَوَيْنِ لَهُ ثُمَّ مَلَكُوا جُمْلَةُ الْقِيَاسِ أَنْ يُبَاعَ أَحَدُهُمَا لِاتِّحَادِ جِهَتِهِمَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُبَاعُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ فَاحْتَمَلَ كَوْنَهُ الَّذِي يَبِيعُ فَيَمْتَنِعُ احْتِيَاطًا فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهُ عَدَدٌ أَحَدُهُمْ أَبْعَدُ جَازَ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانُوا فِي دَرَجَةٍ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ لَا يُفَرِّقُ، وَلَكِنْ يُبَاعُ الْكُلُّ أَوْ يُمْسِكُ الْكُلَّ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْأَخَوَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ

ص: 485

(بَابُ الْإِقَالَةِ)

(الْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّهُمَا فَيَمْلِكَانِ رَفْعَهُ دَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا (فَإِنْ شَرَطَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ

وَالْخَالَيْنِ جَازَ أَنْ يُمْسِكَ مَعَ الصَّغِيرِ أَحَدَهُمَا وَيَبِيعَ مَا سِوَاهُ؛ وَمِثْلُ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ أَخٌ لِأَبٍ وَأَخٌ لِأُمٍّ؛ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

(بَابُ الْإِقَالَةِ)

مُنَاسَبَتُهُ الْخَاصَّةُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَكْرُوهِ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِدًا أَوْ مَكْرُوهًا وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَوْنًا لَهُمَا عَنْ الْمَحْظُورِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِقَالَةِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِوُجُوبِ التَّفَاسُخِ فِي الْعُقُودِ الْمَكْرُوهَةِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ حَقٌّ لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

وَأَيْضًا الْإِقَالَةُ بَيَانُ كَيْفَ يُرْفَعُ الْعَقْدُ وَهُوَ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ ثُبُوتِهِ وَأَبْوَابُ الْبِيَاعَاتِ السَّابِقَةِ كُلُّهَا مَعَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَكْرُوهِ بَيَانُ كَيْفَ يَثْبُتُ فَأَعْقَبَ الرَّفْعَ مُعْظَمُ أَبْوَابِ الْإِثْبَاتِ. ثُمَّ قِيلَ: الْإِقَالَةُ مِنْ الْقَوْلِ، وَالْهَمْزَةُ لِلسَّلْبِ، فَأَقَالَ بِمَعْنَى أَزَالَ الْقَوْلَ: أَيْ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْبَيْعُ كَأَشْكَاهُ أَزَالَ شِكَايَتَهُ وَدُفِعَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا قُلْتُهُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَيْنَهُ يَاءٌ لَا وَاوٌ فَلَيْسَ مِنْ الْقَوْلِ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْإِقَالَةِ فِي الصِّحَاحِ مِنْ الْقَافِ مَعَ الْيَاءِ لَا مَعَ الْوَاوِ، وَأَيْضًا ذَكَرَ فِي مَجْمُوعِ اللُّغَةِ: قَالَ الْبَيْعُ قَيْلًا وَإِقَالَةً فَسَخَهُ (قَوْلُهُ الْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ) عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ (لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ») أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ» زَادَ ابْنُ مَاجَهْ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَأَمَّا لَفْظُ نَادِمًا فَعِنْدَ الْبَيْهَقِيّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّ الْعَقْدَ حَقُّهُمَا فَيَمْلِكَانِ رَفْعَهُ دَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا) الَّتِي لَهَا شُرِعَ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّصَّ الْمَذْكُورَ وَالْمَعْنَى إنَّمَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ جَوَازِ الْإِقَالَةِ، وَأَمَّا

ص: 486

وَيَرُدُّ مِثْلَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ).

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ جَعْلُهُ فَسْخًا فَتَبْطُلُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله هُوَ بَيْعٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ جَعْلُهُ بَيْعًا فَيُجْعَلُ فَسْخًا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَتَبْطُلُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله هُوَ فَسْخٌ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ فَسْخًا فَيُجْعَلُ بَيْعًا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ فَتَبْطُلُ.

لُزُومُ كَوْنِهِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ فَلِوَجْهٍ يُفِيدُهُ الْمَعْنَى الَّذِي مَهَّدَهُ بِقَوْلِهِ (وَالْأَصْلُ) أَيْ الْأَصْلُ فِي لُزُومِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَبْطُلَ الْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ (أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ) وَحَقِيقَةُ الْفَسْخِ لَيْسَ إلَّا رَفْعُ الْأَوَّلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَثْبُتُ الْحَالُ الْأَوَّلُ، وَثُبُوتُ الْحَالِ الْأَوَّلِ هُوَ بِرُجُوعِ عَيْنِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إلَى مَالِكِهِ كَأَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ غَيْرُهُ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَعْيِينَ الْأَوَّلِ وَنَفْيَ غَيْرِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَخِلَافُ الْجِنْسِ وَالْأَجَلِ، نَعَمْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمَا يَنْفُذُ عَلَى غَيْرِهِمَا جُعِلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمَا بَيْعًا فَيُعْطَى بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمَا حُكْمَ الْبَيْعِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.

(فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ فَسْخًا) كَأَنْ وُلِدَتْ الْمَبِيعَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَكَمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَرْضًا بِالدَّرَاهِمِ فَهَلَكَ (تَبْطُلُ، هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ بَيْعٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَيْعًا) بِأَنْ وَقَعَتْ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي مَبِيعٍ مَنْقُولٍ فَتُجْعَلُ فَسْخًا.

فَإِنْ تَعَذَّرَ كَوْنُهَا بَيْعًا وَفَسْخًا كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَرْضَا بِالدَّرَاهِمِ فَتَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَرْضِ فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قُلِبَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَهِيَ فَسْخٌ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ فَبَيْعٌ إلَّا إنْ تَعَذَّرَ فَتَبْطُلُ؛ وَالْعَجَبُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي أَنَّ الْإِقَالَةَ تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبَلٌ، كَمَا لَوْ قَالَ أَقِلْنِي فَقَالَ أَقَلْتُك مَعَ أَنَّهَا بَيْعٌ عِنْدَهُ وَالْبَيْعُ لَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ عَلَى مَا سَلَفَ.

وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ إنَّهَا فَسْخٌ وَيَقُولُ: لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالْمُضِيِّ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ فَأُعْطِي بِسَبَبِ الشَّبَهِ حُكْمَ الْبَيْعِ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ لَمْ يُعْطِ حُكْمَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَجْرِي فِي الْإِقَالَةِ، فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى التَّحْقِيقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، هَكَذَا فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ، وَذَكَرَ فِي الدِّرَايَةِ، وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ اخْتَارُوا قَوْلَ مُحَمَّدٍ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَادَّةُ قَافٍ لَامٍ بَلْ لَوْ قَالَ تَرَكْت الْبَيْعَ وَقَالَ الْآخَرُ رَضِيت أَوْ اخْتَرْت تَمَّتْ، وَيَجُوزُ قَبُولُ الْإِقَالَةِ دَلَالَةً بِالْفِعْلِ، كَمَا إذَا قَطَعَهُ قَمِيصًا فِي فَوْرِ قَوْلِ

ص: 487

لِمُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ اللَّفْظَ لِلْفَسْخِ وَالرَّفْعِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: أَقِلْنِي عَثَرَاتِي فَتُوَفِّرُ عَلَيْهِ قَضِيَّتَهُ. وَإِذَا تَعَذَّرَ يُحْمَلُ عَلَى مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ: وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي. وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْبَيْعِ وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِهَلَاكِ السِّلْعَةِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَتَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الرَّفْعِ وَالْفَسْخِ كَمَا قُلْنَا، وَالْأَصْلُ إعْمَالُ الْأَلْفَاظِ فِي مُقْتَضَيَاتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ

الْمُشْتَرِي أَقَلْتُك وَتَنْعَقِدُ بِفَاسَخْتُكَ وَتَارَكْت، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ (أَنَّ اللَّفْظَ) أَيْ لَفْظَ الْإِقَالَةِ وُضِعَ (لِلْفَسْخِ وَالرَّفْعِ) بِدَلِيلِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ (يُقَالُ: أَقِلْنِي عَثْرَتِي) بِمَعْنَى أَسْقِطْ أَثَرَهَا بِاعْتِبَارِهَا عَدَمًا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْفَسْخِ إذْ حَقِيقَتُهُ رَفْعُ الْوَاقِعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ (فَيُوَفِّرُ عَلَيْهِ قَضِيَّتَهُ، وَإِذَا تَعَذَّرَ) الْفَسْخُ (يُحْمَلُ عَلَى مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي، وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْبَيْعِ) وَخُصُوصُ اللَّفْظِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ فِيهِ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ كَمَا فِي التَّوْلِيَةِ وَأَخْذِ الدَّار بِالشُّفْعَةِ (وَلِهَذَا تَبْطُلُ) الْإِقَالَةُ (بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ) بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ، وَوَجَبَ لِلَّذِي كَانَ بَائِعًا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي.

(وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ) فَإِذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى شَيْءٍ كَانَ بَيْعًا، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ بَيْعًا كَمَا إذَا وَقَعَتْ فِي مَنْقُولٍ قَبْلَ قَبْضِهِ صِرْنَا إلَى مَجَازِهِ بِجَعْلِهِ فَسْخًا تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ، وَكَوْنُهُ لَا يُبْتَدَأُ عَقْدُ الْبَيْعِ بِإِنْشَائِهِ بِهِ مَمْنُوعٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ الْبَيْعُ ابْتِدَاءً بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ، وَانْتِفَاؤُهُ فِي الصَّحِيحِ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ الْبَيْعِ، وَهَذَا بَيْعٌ هُوَ فَرْعُ بَيْعٍ سَابِقٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ سَبْقِهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الرَّفْعِ) عَلَى مَا قُلْنَا لِمُحَمَّدٍ رحمه الله (وَالْأَصْلُ إعْمَالُ الْأَلْفَاظِ فِي مُقْتَضَيَاتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ) وَكَوْنُهُ يَثْبُتُ بِهِ لَوَازِمُ الْبَيْعِ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْهَلَاكِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ثَالِثٍ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مِنْ حَقِيقَتِهِ، إذْ اللَّوَازِمُ قَدْ تَكُونُ عَامَّةً تَتَرَتَّب عَلَى حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَلَا تَكُونُ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: فَتَكُونُ بَيْعًا لِثُبُوتِ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهَا وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ

ص: 488

وَلَا يُحْتَمَلُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ لِيُحْمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَاللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ ضِدَّهُ فَتَعَيَّنَ الْبُطْلَانُ، وَكَوْنُهُ بَيْعًا فِي حَقِّ الثَّالِثِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِثْلُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَا مُقْتَضَى الصِّيغَةِ، إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ: إذَا شَرَطَ الْأَكْثَرَ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ

بِالتَّرَاضِي لَا لِثُبُوتِ اللَّوَازِمِ الْخَارِجِيَّةِ، قُلْنَا: إنَّمَا نُرِيدُ بِالْبَيْعِ مَا كَانَ مُفِيدًا لِهَذِهِ الْمُبَادَلَةِ ابْتِدَاءً لَا تَرَاجُعًا بِطَرِيقِ الرَّفْعِ حُكْمًا عَلَى الشَّرْعِ بِذَلِكَ: أَيْ بِأَنَّهُ وُضِعَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِلَّا رَجَعَ إلَى مُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ، عَلَى أَنَّ مُسَمَّى لَفْظِ الْبَيْعِ هُوَ الْمُبَادَلَةُ مُطْلَقًا شَرْعًا أَوْ بِقَيْدِ أَنْ لَا يَكُونَ تَرَاجُعًا، وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحِ فِي الْأَلْفَاظِ، بَقِيَ أَمْرٌ آخَرُ هُوَ أَنَّهَا لَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي الْبَيْعِ مَجَازًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْفَسْخِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (وَلَا يَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ لِيُحْمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الرَّفْعَ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ (ضِدُّهُ) أَيْ ضِدُّ الْعَقْدِ أَوْ نَقِيضُهُ فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ.

وَهَذَا طَرِيقُ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي الضِّدِّ إنَّمَا يَكُونُ لِتَهَكُّمٍ أَوْ تَمْلِيحٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْفِقْهِ أَوْ يَكُونُ لِمُشَاكَلَتِهِ لِلَفْظٍ وَقَعَ فِي صُحْبَتِهِ كَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ، وَلَيْسَ هُنَا ذَلِكَ (فَتَعَيَّنَ الْبُطْلَانُ، وَكَوْنُهُ بَيْعًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ) لَيْسَ بِاعْتِبَارِ جَعْلِنَا إيَّاهُ مَجَازًا عَنْهُ، وَلَكِنْ (لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ) وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ (بِهِ مِثْلُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ) بِبَدَلٍ ظَهَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا لِيَصْرِفَا مُوجَبَ الْبَيْعِ عَنْهُ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا وَيَظْهَرُ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَلِئَلَّا يَفُوتَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَالشُّفْعَةِ شُرِعَتْ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ أَوْ الْخِلْطَةِ، فَإِذَا فُرِضَ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي عَوْدِهَا إلَى الْبَائِعِ وَلَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الشُّفْعَةِ تَخَلَّفَ مَقْصُودُهُ (قَوْلُهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا) أَيْ هَذَا الْخِلَافُ فِي هَذَا الْأَصْلِ (فَنَقُولُ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ) إذَا شَرَطَا (فِي الْإِقَالَةِ) الْأَكْثَرَ (كَأَنْ تَقَايَلَا عَلَى مِائَةٍ) وَالْبَيْعُ بِخَمْسِينَ (فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَبْطُلُ شَرْطُ الزِّيَادَةِ

ص: 489

لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ، إذْ رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِي الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَوْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِي الرَّفْعِ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ لِمَا بَيَّنَّاهُ إلَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَحِينَئِذٍ جَازَتْ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ، وَعِنْدَهُمَا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله جَعْلُهُ بَيْعًا مُمْكِنٌ فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ، وَكَذَا فِي شَرْطِ الْأَقَلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله هُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَا سُكُوتٌ عَنْ بَعْضِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ الْكُلِّ وَأَقَالَ يَكُونُ فَسْخًا فَهَذَا أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ، وَإِذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَهُوَ فَسْخٌ بِالْأَقَلِّ لِمَا بَيَّنَّاهُ.

لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ) وَإِنَّمَا بَطَلَ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ رَفْعُ مَا كَانَ لَا رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ.

(لِأَنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ) وَلَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ الْعَقْدَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ رَفْعُهُ عَلَى مِائَةٍ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ رَفْعَهُ عَلَى مِائَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْمُشْتَرِي وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ الْعَقْدُ بِمِائَةٍ رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ فَلَا رَفْعَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ لَهُ وُجُودٌ، وَإِيَّاهُ عَنَيَا بِالْإِقَالَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا زَادَاهُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَثْبُتُ الرَّفْعُ بِرَفْعِهِمَا وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ الَّذِي زَادَاهُ (بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا فِيهِ وَيَتَحَقَّقُ بِهِ الرِّبَا) وَيَصِيرُ بَيْعًا فَاسِدًا فَلَا يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُهَا فِي الرَّفْعِ (وَكَذَا إذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ) عِنْدَهُ يَصِحُّ بِقَدْرِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَبْطُلُ هُوَ وَيَثْبُتُ قَدْرُ الْأَوَّلِ (إلَّا أَنْ) يَكُونَ (حَدَثَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ) فَيَصِحُّ بِالنُّقْصَانِ جَعْلًا لَلْحَطّ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ بِالْعَيْبِ (وَعِنْدَهُمَا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَعَذَّرَ الْفَسْخُ عَلَى الزِّيَادَةِ فَجُعِلَ بَيْعًا، وَكَذَا فِي شَرْطِ الْأَقَلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ.

(وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ) بِاعْتِبَارِهِ مُرِيدًا لِلْأَوَّلِ لَكِنَّهُ سَكَتَ عَنْ بَعْضِهِ (وَلَوْ سَكَتَ عَنْ الْكُلِّ) بِأَنْ قَالَ أَقَلْتُك (يَكُونُ فَسْخًا) عَلَيْهِ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْ بَعْضِهِ (أَوْلَى)، بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ، وَلَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ فَهُوَ فَسْخٌ بِالْأَقَلِّ (لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ جَعْلِ الْحَطِّ بِإِزَاءِ مَا نَقَصَ مِنْ الْعَيْبِ

ص: 490

وَلَوْ أَقَالَ بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَيَجْعَلُ التَّسْمِيَةَ لَغْوًا عِنْدَهُمَا بَيْعٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ وَلَدَتْ الْمَبِيعَةُ وَلَدًا ثُمَّ تَقَايَلَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ، وَعِنْدَهُمَا تَكُونُ بَيْعًا وَالْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَنْقُولِ، وَغَيْرِهِ فَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَمُحَمَّدٍ رحمه الله، كَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي الْمَنْقُولِ لِتَعَذُّرِ الْبَيْعِ، وَفِي الْعَقَارِ يَكُونُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِإِمْكَانِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ عِنْدَهُ.

[فَرْعٌ] بَاعَ صَابُونًا رَطْبًا ثُمَّ تَقَايَلَا بَعْدَمَا جَفَّ فَنَقَصَ وَزْنُهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْبَيْعِ بَاقٍ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ أَقَالَ بِغَيْرِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ) بِأَنْ كَانَ دَرَاهِمَ فَأَقَالَ عَلَى دَنَانِيرَ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قَدْرَهَا (فَهُوَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتُجْعَلُ التَّسْمِيَةُ لَغْوًا، وَعِنْدَهُمَا بَيْعٌ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بَيْعٌ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ فَسْخًا جُعِلَ بَيْعًا (قَوْلُهُ وَلَوْ وَلَدَتْ الْمَبِيعَةُ وَلَدًا) يَعْنِي بَعْدَ الْقَبْضِ (ثُمَّ تَقَايَلَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ) زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ إذَا كَانَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ يَتَعَذَّرُ مَعَهَا الْفَسْخُ حَقًّا لِلشَّرْعِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزِّيَادَةَ مُتَّصِلَةً كَانَتْ كَالسِّمَنِ أَوْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ إذَا كَانَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ وَالرَّفْعَ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ مُتَّصِلَةً فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ مَعَهَا، وَالْإِقَالَةُ لَا تَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا فَسْخًا (وَعِنْدَهُمَا تَكُونُ بَيْعًا) وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْخِلَافِ أَنَّهُمَا لَوْ تَقَايَلَا فِي مَنْقُولٍ فَقَبِلَ أَنْ يَسْتَرِدَّ

ص: 491

(قَالَ وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ مِنْهَا)؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْبَيْعِ يَسْتَدْعِي قِيَامَهُ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْبَيْعِ دُونَ الثَّمَنِ

الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا جَازَ الْبَيْعُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ لَا الْفَسْخُ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ.

وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ جَازَ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَثَمَرَةُ كَوْنِهَا بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فِي مَوَاضِعَ أَيْضًا: مِنْهَا أَنَّ الْمَبِيعَ لَوْ كَانَ عَقَارًا لَهُ شَفِيعٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ ثُمَّ تَقَايَلَا وَعَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِع لِلشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ فِي الْإِقَالَةِ اتِّفَاقًا، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَبِيعَ لَوْ كَانَ صَرْفًا كَانَ التَّقَابُضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْإِقَالَةِ لِإِقَالَةِ مُسْتَحِقِّ الشَّرْعِ فَكَانَتْ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الشَّرْعِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَقَبَضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَبَاعَهُ مِنْ آخَرَ ثُمَّ تَقَايَلَا وَعَادَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ قَبْلَ النَّقْدِ جَازَ وَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ كَأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَمِنْهَا أَنَّ السِّلْعَةَ لَوْ كَانَتْ هِبَةً فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ الْبَائِعَ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ.

(قَوْلُهُ وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ مِنْهَا) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَالٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُتَعَيِّنٌ، بِخِلَافِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ دَيْنٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فِيمَا إذَا لَمْ يَشْرَعْ إلَى نَقْدٍ، وَإِمَّا مَالٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فِيمَا إذَا أَشَارَ إلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْعَقْدِ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بَلْ بِمِثْلِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَالدَّيْنُ مَالٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، وَلِذَا كَانَتْ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ تَصِحُّ بِلَا قَبُولٍ لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهَا تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِلْمَالِيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَهِبَةُ الْعَيْنِ لَا تَصِحُّ بِلَا قَبُولٍ بِحَالٍ، وَلَا تَتَأَدَّى زَكَاةُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ، أَنْقَصُ مِنْ الْعَيْنِ فِي الْمَالِيَّةِ وَلَا يَتَأَدَّى الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ، وَلِذَا لَمْ يَحْنَثْ مَنْ حَلَفَ لَا مَالَ لَهُ وَلَهُ دُيُونٌ عِظَامٌ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَبِيعِ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ وَجَبَ إظْهَارُهَا، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ سَوَاءٌ، فَأَظْهَرْنَاهَا فِي الْبَقَاءِ فَجَعَلْنَا بَقَاءَ الْبَيْعِ حُكْمًا مُضَافًا إلَى قِيَامِ الْمَبِيعِ، فَإِذَا هَلَكَ ارْتَفَعَ الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ الدَّرَاهِمُ بَاقِيَةً فَامْتَنَعَتْ الْإِقَالَةُ، إذْ رَفْعُ مَا لَا وُجُودَ لَهُ لَا يُتَصَوَّرُ.

وَإِنَّمَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِيمَا إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ عَرْضًا مُعَيَّنًا وَقَبَضَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ثُمَّ هَلَكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّلَمَ فِي هَذَا كَبَيْعِ الْمُقَايَضَةِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ شَرْعًا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَقَدْ اعْتَبَرَ الْعَيْنَ ثَمَنًا وَالدَّيْنَ عَيْنًا مَبِيعًا، وَلِذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَجَازَتْ الْإِقَالَةُ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْهَالِكِ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْإِقَالَةِ كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْمُقَايَضَةِ كَمَا سَنَذْكُرُ، أَمَّا لَوْ تَقَايَلَا وَالْبَدَلَانِ قَائِمَانِ ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَيًّا كَانَ

ص: 492

(فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَاقِي)؛ لِقِيَامِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَإِنْ تَقَايَضَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا وَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَكَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

فَالْإِقَالَةُ صَحِيحَةٌ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْهَالِكِ أَوْ مِثْلُهُ (وَلَوْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَاقِي لِقِيَامِ الْبَيْعِ فِيهِ).

(قَوْلُهُ وَلَوْ تَقَايَضَا) بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ: أَيْ تَبَايَعَا بَيْعَ الْمُقَايَضَةِ فَهَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ (جَازَتْ الْإِقَالَةُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَبِيعٌ) مِنْ وَجْهٍ (فَكَانَ الْبَيْعُ بَاقِيًا) بِبَقَاءِ الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ مِنْهُمَا فَأَمْكَنَ الرَّفْعُ فِيهِ، وَعَلَيْهِ تَفَرَّعَ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَمَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ إنَّ مُشْتَرِيَ الْعَبْدِ بَاعَ نِصْفَهُ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ أَقَالَ الْبَيْعَ فِي الْأَمَةِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ وَعَلَيْهِ لِبَائِعِ الْعَبْدِ قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَبِعْ وَلَكِنْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ وَأَخَذَ الْأَرْشَ ثُمَّ أَقَالَ الْبَيْعَ فِي الْأَمَةِ، وَلَوْ هَلَكَ الْبَدَلَانِ قَبْلَ الْإِقَالَةِ ارْتَفَعَ الْبَيْعُ فَامْتَنَعَتْ الْإِقَالَةُ، أَمَّا لَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ ثُمَّ هَلَكَ الْآخَرُ قَبْلَ الرَّدِّ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ أَيْضًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقَايَضَةِ وَالصَّرْفِ فَإِنَّ هَلَاكَ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الْإِقَالَةِ، وَفِي الْمُقَايَضَةِ مَانِعٌ أَنَّهُ فِي الصَّرْفِ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ بَلْ رَدُّهُ أَوْ مِثْلُهُ فَلَمْ تَتَعَلَّقْ الْإِقَالَةُ بِعَيْنِهِمَا فَلَا تَبْطُلْ بِهَلَاكِهِمَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْبِيَاعَاتِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ، وَلَوْ تَقَايَلَا السَّلَمَ وَرَأْسَ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَدُّهُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ.

وَلَوْ تَقَايَلَاهُ بَعْدَمَا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ صَحَّتْ وَعَلَى رَبِّ السَّلَمِ رَدُّ عَيْنِ مَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِعَقْدِ السَّلَمِ وَإِنْ كَانَ عَقْدًا عَلَى دَيْنٍ كَعَيْنٍ وَرَدَّ عَلَيْهَا الْعَقْدَ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ذَكَرَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ

[فُرُوعٌ]

مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ، وَلِذَا إذَا هَلَكَتْ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ أَوْ الْمُنْفَصِلَةُ أَوْ اسْتَهْلَكَهَا أَجْنَبِيٌّ تَتَوَقَّفُ الْإِقَالَةُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، وَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَالْإِبْرَاءِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ،.

وَإِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ،.

وَفَسْخُ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْمُشْتَرِي جَائِزٌ، وَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ: إقَالَةُ الْوَارِثِ جَائِزَةٌ، وَأَطْلَقَ فِي الْجَامِعِ جَوَازَ إقَالَةِ الْوَصِيِّ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَبِعْ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ، فَإِنْ بَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا لَا تَصِحُّ إقَالَتُهُ، وَكَذَا الْمُتَوَلِّي أَيْضًا لَوْ اشْتَرَى بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ لَيْسَ لَهُ الْإِقَالَةُ.

وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَدَفَعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ عِوَضًا عَنْ الدَّنَانِيرِ ثُمَّ تَقَايَلَا وَقَدْ رَخُصَتْ الدَّرَاهِمُ رَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا لَا بِمَا دَفَعَ وَكَذَا لَوْ رَدَّ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا فِي الْإِجَارَةِ لَوْ فُسِخَتْ وَلَوْ عَقَدَ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ كَسَدَتْ ثُمَّ تَقَايَلَا فَإِنَّهُ يَرُدُّ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ الْكَاسِدَةَ، وَلَوْ عَقَدَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ جَدَّدَا بِحَالٍ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ، وَكَذَا لَوْ عَقَدَا بِدَرَاهِمَ ثُمَّ جَدَّدَا بِدَنَانِيرَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ، أَمَّا لَوْ جَدَّدَا بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ وَأَقَلَّ فَلَا وَهُوَ حَطٌّ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ زِيَادَةٌ فِيهِ، وَقَالُوا لَوْ بَاعَ بِاثْنَيْ عَشَرَ وَحَطَّ عَنْهُ دِرْهَمَيْنِ ثُمَّ عَقَدَا بِعَشَرَةٍ لَا يَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، إذْ الْحَطُّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ إلَّا فِي الْيَمِينِ فَيَحْنَثُ لَوْ كَانَ حَلَفَ لَا يَشْتَرِيه بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِلْبَائِعِ بِعْهُ لِنَفْسِك فَإِنْ بَاعَهُ جَازَ وَانْفَسَخَ الْأَوَّلُ، وَلَوْ قَالَ بِعْهُ لِي أَوْ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ بِعْهُ أَوْ زَادَ قَوْلُهُ مِمَّنْ شِئْت لَا يَصِحُّ فِي الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ.

وَلَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَلَوْ وَهَبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ: يَعْنِي إذَا قَبِلَ

ص: 493

(بَابُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ)

قَالَ (الْمُرَابَحَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ

وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَعْتِقْهُ فَأَعْتَقَهُ جَازَ الْعِتْقُ عَنْ الْبَائِعِ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْعِتْقُ بَاطِلٌ، وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: جُحُودُ مَا عَدَا النِّكَاحِ فَسْخٌ، وَعَلَيْهِ مَا فَرَّعَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ وَغَيْرِهَا، بَاعَ أَمَةً فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ لَا يَحِلُّ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا إلَّا إنْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ فَيَحِلُّ لَهُ حِينَئِذٍ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ جُحُودَ الْمُشْتَرِي فَسْخٌ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا عَزَمَ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ فَقَدْ تَمَّ الْفَسْخُ مِنْهُمَا، وَكَذَا لَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي لَا يَحِلُّ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا، فَإِنْ تَرَكَ الْمُشْتَرِي الْخُصُومَةَ وَسَمِعَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَمِثْلُهُ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ رَدَّ عَلَى الْبَائِعِ جَارِيَةً أُخْرَى فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ وَقَالَ هِيَ الَّتِي اشْتَرَيْتهَا وَقَبَضْتهَا كَانَ الْقَوْلُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ قَبْضَ غَيْرِهَا، فَإِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِهَا حَلَّ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا رَدَّ أُخْرَى فَقَدْ رَضِيَ بِتَمَلُّكِ الْبَائِعِ الثَّانِيَةَ بِالْأَوْلَى، فَإِذَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَاطِي، وَكَذَا الْقَصَّارُ وَالْإِسْكَافُ،.

وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّحْمِ وَالسَّمَكِ وَالْفَاكِهَةِ وَذَهَبَ الْمُشْتَرِي إلَى بَيْتِهِ لِيَجِيءَ بِالثَّمَنِ فَطَالَ مُكْثُهُ وَخَافَ الْبَائِعُ فَسَادَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ اسْتِحْسَانًا، وَلِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ رَضِيَ بِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَالْمُشْتَرِيَ كَذَلِكَ ظَاهِرًا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الثَّمَنُ الثَّانِي أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ فَالنُّقْصَانُ عَلَى الْبَائِعِ لَا عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ.

وَلَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْته مِنْ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ نَقْدِهِ وَفَسَدَ الْبَيْعُ بِذَلِكَ وَقَالَ الْبَائِعُ بَلْ أَقَلْنَا بِهِ فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي إنْكَارِ الْإِقَالَةِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْإِقَالَةَ يَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ.

(بَابُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ)

(قَوْلُهُ: الْمُرَابَحَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ

ص: 494

وَالتَّوْلِيَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ)

وَالتَّوْلِيَةُ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ بَاعَ دَنَانِيرَ اشْتَرَاهَا بِدَرَاهِمَ مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ مَعَ صِدْقِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنَّهُ بَيْعُ مُرَابَحَةٍ، وَكَوْنُهُ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ آخَرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى السُّؤَالِ الْمُرَابَحَةُ جَائِزَةٌ بِلَا اسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ، وَهَذَا مِنْ مِمَّا صَدَقَاتِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ لَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ

ص: 495

وَالْبَيْعَانِ جَائِزَانِ؛

نَقْلُ مَا مَلَكَهُ مِمَّا هُوَ بِبَيْعٍ مُتَعَيِّنٍ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ كَوْنَ مُقَابِلِهِ ثَمَنًا مُطْلَقًا يُفِيدُ أَنَّ مَا مَلَكَهُ بِالضَّرُورَةِ مَبِيعٌ مُطْلَقًا ثُمَّ إنَّمَا لَمْ تَجُزْ الْمُرَابَحَةُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَدَلَيْ الصَّرْفِ لَا يَتَعَيَّنَانِ فَلَمْ تَكُنْ عَيْنُ هَذِهِ الدَّنَانِيرِ مُتَعَيِّنَةً لِتَلْزَمَ مَبِيعًا، وَاَلَّذِي يَلْزَمُ وُرُودُهُ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي صَحَّحْنَا بِهِ الْإِيرَادَ مَا إذَا اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَابِحَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ النَّقْلُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ فِيهِ أَجَلٌ فَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ بِمُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ فَلَمْ يَصْدُقْ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى الطَّرْدِ، وَكَوْنُ الْمُرَابَحَةِ غَيْرَ صَحِيحَةٍ هُوَ مَعْنَى عَدَمِ وُجُودِهَا شَرْعًا فَيُرَدُّ السُّؤَالُ، وَعَلَى عَكْسِهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى مَا إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ فَقُضِيَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ثُمَّ عَابَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْقِيمَةِ الَّتِي أَدَّاهَا فَهَذَا بَيْعُ مُرَابَحَةٍ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِمَا قَامَ عَلَيْهِ.

وَكَذَا لَوْ مَلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَقَوَّمَهُ قِيمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى تِلْكَ الْقِيمَةِ أَنَّهُ يَجُوز، وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ: قِيمَتُهُ كَذَا أَوْ رَقْمُهُ كَذَا فَأُرَابِحُكَ عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ رَقْمِهِ، وَمَعْنَى الرَّقْمِ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى الثَّوْبِ الْمُشْتَرَى مِقْدَارًا سَوَاءٌ كَانَ قَدْرَ الثَّمَنِ أَوْ أَزْيَدَ ثُمَّ يُرَابِحَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ إذَا قَالَ رَقْمُهُ كَذَا وَهُوَ صَادِقٌ لَمْ يَكُنْ خَائِنًا، فَإِنْ غَبَنَ الْمُشْتَرِيَ فِيهِ فَمِنْ قِبَلِ جَهْلِهِ، وَأُجِيبَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْغَصْبَ مُلْحَقٌ بِالْمُعَاوَضَاتِ، وَلِذَا صَحَّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِهِ لَمَّا كَانَ إقْرَارُهُ بِالْمُعَاوَضَاتِ جَائِزًا فَالْقِيمَةُ بِالْقَضَاءِ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ.

وَصَرَّحَ فِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى فِي مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ أَنَّهُ يَقُولُ قَامَ عَلِيَّ كَذَا، وَجَوَابُ الثَّانِيَةِ يَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَالثَّالِثَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَبْنَى الْمُرَابَحَةِ عَلَى عَدَمِ الْخِيَانَةِ، وَهُوَ إذَا قَالَ قِيمَتُهُ كَذَا أَوْ رَقْمُهُ كَذَا وَهُوَ صَادِقٌ لَمْ يَكُنْ خَائِنًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَدْفَعْ مَا عَلَى عَكْسِ الْحَدِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَابَحَةَ نَقْلُ مَا مَلَكَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ وَلَا ثَمَنَ سَابِقٌ أَصْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَمِمَّا يُرَدُّ أَيْضًا مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَبْدًا مَثَلًا فَبَاعَ الْمَبِيعَ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَبْدِ مِمَّنْ صَارَ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِرِبْحٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُرَابَحَةً، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ لَا بِمِثْلِهِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ فِي حُكْمِ عَبْدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَعْيَانِ.

(قَوْلُهُ وَالْبَيْعَانِ جَائِزَانِ) اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِمَا بِالْمَعْنَى وَعَلَى التَّوْلِيَةِ بِالنَّصِّ فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إلَى آخِرِهِ، وَفِي التَّوْلِيَةِ أَحَادِيثُ لَا شُبْهَةَ فِيهَا: مِنْهَا مَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «التَّوْلِيَةُ وَالْإِقَالَةُ وَالشَّرِكَةُ سَوَاءٌ» لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا مُسْتَفَاضًا بِالْمَدِينَةِ قَالَ «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ، إلَّا أَنْ يُشْرِكَ فِيهِ أَوْ يُوَلِّيَهُ أَوْ يُقِيلَهُ» وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ.

وَفِيهِ «إنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: خُذْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: بِالثَّمَنِ» أَخْرَجَهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «قَدْ أَخَذْتهَا بِالثَّمَنِ» وَفِي الطَّبَقَاتِ لِابْنِ سَعْدٍ:«وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اشْتَرَاهَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ نَعَمِ بَنِي قُشَيْرٍ فَأَخَذَ إحْدَاهُمَا وَهِيَ الْقَصْوَاءُ» ، فَمَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ يَصِحُّ بِالْمَعْنَى، وَتَفْصِيلُهُ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ قَالَ فِيهَا «فَلَمَّا قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّاحِلَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ أَفْضَلَهُمَا ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارْكَبْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا أَرْكَبْ بَعِيرًا لَيْسَ لِي، قَالَ: فَهِيَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا وَلَكِنْ بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَعْتهَا بِهِ قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتهَا بِذَلِكَ، قَالَ هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا».

ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ

ص: 496

لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فِي التِّجَارَةِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْتَمِدَ فِعْلَ الذَّكِيِّ الْمُهْتَدِي وَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِمَا، وَلِهَذَا كَانَ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِيَانَةِ وَعَنْ شُبْهَتِهَا، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعِيرَيْنِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَلِّنِي أَحَدَهُمَا، فَقَالَ: هُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَمَّا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَلَا».

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ حَتَّى يَكُونَ الْعِوَضُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ)؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لَوْ مَلَكَهُ مَلَكَهُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ (وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْبَدَلَ وَقَدْ بَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ مَوْصُوفٍ جَازَ) لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ (وَإِنْ بَاعَهُ بِرِبْحٍ ده يازده لَا يَجُوزُ)؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَبِبَعْضِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ

الْعِلْمِ، أَنَّهُ سُئِلَ لِمَ لَمْ يَقْبَلْهَا إلَّا بِالثَّمَنِ «وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ حِينَ بَنَى بِعَائِشَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً حِينَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَلَا تَبْنِي بِأَهْلِك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَوْلَا الصَّدَاقُ، فَدَفَعَ إلَيْهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا» ، وَالنَّشُّ هُنَا عِشْرُونَ دِرْهَمًا؟ «قَالَ: إنَّمَا فَعَلَ لِتَكُونَ الْهِجْرَةُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ رَغْبَةً مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي اسْتِكْمَالِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَتَمِّ أَحْوَالِهَا»، وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ.

وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ قَوْلُهُ (لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ) وَلَمَّا لَمْ يَكْفِ ثُبُوتُ الشَّرَائِطِ فِي الشَّرْعِيَّةِ أَفَادَ عِلَّتَهَا بِقَوْلِهِ (وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي فِي التِّجَارَةِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْتَمِدَ) عَلَى (فِعْلِ الْمُهْتَدِي وَتَطِيبُ بِنَفْسِهِ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِمَا) وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ لِجَوَازِهِمَا بَعْدَ الدَّلِيلِ الْمُثْبَتِ لِجَوَازِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَا يُخِلَّ بِمَا عُلِمَ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ، بَلْ دَلِيلُ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا بِشُرُوطِهِ الْمَعْلُومَةِ هُوَ دَلِيلُ جَوَازِهِمَا، إذْ لَا زِيَادَةَ فِيهِمَا إلَّا اقْتِرَانُهُمَا بِإِخْبَارٍ خَاصٍّ، إذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِثَمَنِ كَذَا مُخْبِرًا بِأَنَّ ذَلِكَ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَيْت بِهِ أَوْ مَعَ زِيَادَةٍ لَا أَرْضَى بِدُونِهَا.

وَمِنْ مَعْرِفَةِ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ يَعْلَمُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ (وَلَا تَصِحُّ الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ حَتَّى يَكُونَ الْعِوَضُ) يَعْنِي الثَّمَنَ (مِمَّا لَهُ مِثْلٌ) كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَمَا يُكَالُ وَيُوزَنُ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُتَقَارِبِ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِمَا (لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ) بِأَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَبْدٍ مُقَايَضَةً مَثَلًا لَوْ رَابَحَهُ أَوْ وَلَّاهُ إيَّاهُ كَانَ بَيْعًا بِقِيمَةِ عَبْدٍ صِفَتُهُ كَذَا أَوْ بِقِيمَةِ عَبْدٍ ابْتِدَاءً وَهِيَ مَجْهُولَةٌ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

أَمَّا لَوْ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ وَصَلَ إلَى مَنْ يَبِيعُهُ مِنْهُ فَرَابَحَهُ عَلَيْهِ بِرِبْحٍ مُعَيَّنٍ كَأَنْ يَقُولَ أَبِيعُك مُرَابَحَةً عَلَى الثَّوْبِ الَّذِي بِيَدِك وَرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ كُرِّ شَعِيرٍ أَوْ رِبْحِ هَذَا الثَّوْبِ (جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ) مِنْ الثَّمَنِ بِخِلَافِ (مَا لَوْ بَاعَهُ) وَالْحَالَةُ هَذِهِ (بِرِبْحِ ده يازده) فَإِنَّهُ (لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَبِبَعْضِ قِيمَتِهِ)

ص: 497

(وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةَ الْقَصَّارِ وَالطَّرَّازِ وَالصَّبْغِ وَالْفَتْلِ وَأُجْرَةَ حَمْلِ الطَّعَامِ)؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي قِيمَتِهِ يَلْحَقُ بِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَمَا عَدَدْنَاهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ وَأَخَوَاتِهِ يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْحَمْلَ يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ إذْ الْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ (وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَلَمْ يَقُلْ اشْتَرَيْته بِكَذَا) كَيْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا وَسَوْقُ الْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الرَّاعِي وَكِرَاءِ بَيْتِ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَعْنَى، وَبِخِلَافِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الزِّيَادَةِ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ حَذَاقَتُهُ.

فَإِنَّ مَعْنَى ده يازده كُلُّ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرَ، وَهَذَا فَرْعُ مَعْرِفَةِ عَدَدِ الْعَشْرَاتِ وَهُوَ بِتَقْوِيمِ الْعَبْدِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ ده يازده وَمَعْنَاهُ الْعَشَرَةُ أَحَدَ عَشْرَ أَيْ كُلُّ عَشَرَةٍ رَبِحَهَا وَاحِدٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ جِنْسِ الْعَشَرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ مَفْهُوم ذَلِكَ، وَلَكِنَّ لُزُومَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْجَهَالَةِ وَلَا يَثْبُتُ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَابَحَةُ عَلَى الْعَبْدِ بده يازده تَقْتَضِي أَنَّهُ بَاعَهُ بِالْعَبْدِ وَبِبَعْضِهِ أَوْ بِمِثْلِ بَعْضِهِ وَهُوَ كُلُّ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ الْعَبْدِ رِبْحُهَا جُزْءٌ آخَرُ مِنْهُ، وَحِينَ عَرَفَ أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَحَدَ عَشَرَ لَزِمَ حِينَئِذٍ مَا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّهُ بَاعَهُ بِالْعَبْدِ وَبِبَعْضِ قِيمَتِهِ.

[وَمِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ]

اشْتَرَى عَبْدًا بِعَشَرَةٍ خِلَافِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَبَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ فَالْعَشَرَةُ مِثْلُ مَا نَقَدَ وَالرِّبْحُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ إذَا أَطْلَقَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي، وَالرِّبْحَ مُطْلَقٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنْ نَسَبَ الرِّبْحَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ بِعْتُك بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ أَوْ بِرِبْحِ ده يازده فَالرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ بِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ، وَفِي الْمُحِيطِ: اشْتَرَى بِنَقْدِ نَيْسَابُورَ، وَقَالَ بِبَلْخٍ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا أَوْ بَاعَهُ بِرِبْحِ مِائَةٍ أَوْ بِرِبْحِ ده يازده فَالرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَالِ عَلَى نَقْدِ بَلْخٍ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ نَقْدُ نَيْسَابُورَ أَوْ تَقُومُ بَيِّنَةٌ.

وَإِذَا كَانَ نَقْدُ نَيْسَابُورَ فِي الْوَزْنِ وَالْجَوْدَةِ دُونَ نَقْدِ بَلْخٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَرَأْسُ الْمَالِ وَالرِّبْحُ عَلَى نَقْدِ نَيْسَابُورَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَكْسِهِ وَاشْتَرَاهُ بِبَلْخٍ بِنَقْدِ نَيْسَابُورَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أَوْزَنُ وَأَجْوَدُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمُرَابَحَةِ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ دُونَ مَا دَفَعَ عِوَضًا عَنْهُ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى بِعَشَرَةٍ فَدَفَعَ عَنْهَا دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ الْعَشَرَةُ لَا الدِّينَارُ وَالثَّوْبُ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا بِعَقْدٍ آخَرَ.

وَهُوَ الِاسْتِبْدَالُ (قَوْلُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةَ الْقَصَّارِ وَالصَّبْغِ) أَسْوَدَ كَانَ الصَّبْغُ أَوْ غَيْرَهُ (وَالطِّرَازَ وَالْفَتْلَ وَأُجْرَةَ حَمْلِ الطَّعَامِ) بَرًّا أَوْ بَحْرًا (لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي الْقِيمَةِ يَلْحَقُ بِهِ) أَيْ بِرَأْسِ الْمَالِ.

(وَمَا عَدَدْنَاهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الصَّبْغَ وَأَخَوَاتِهِ) مِنْ الطِّرَازِ وَالْفَتْلِ (يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ وَالْحَمْلَ) مِنْ مَكَان إلَى مَكَان (يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ) قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَلَكِنْ لَا يَتَمَشَّى فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَالْمَعْنَى الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ عَادَةُ التُّجَّارِ حَتَّى يَعُمَّ الْمَوَاضِعَ كُلَّهَا (وَ) إذَا ضَمَّ مَا ذُكِرَ (يَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَلَا يَقُولُ اشْتَرَيْته بِكَذَا تَحَرُّزًا عَنْ الْكَذِبِ، وَسَوْقُ الْغَنَمِ) وَالْبَقَرِ (كَالْحَمْلِ) يَضُمُّهُ (بِخِلَافِ أُجْرَةِ الرَّاعِي وَالْبَيْتِ لِلْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْعَيْنِ) وَلَا الْقِيمَةِ فَلَا يُضَمُّ، وَكَذَا سَائِقُ الرَّقِيقِ وَحَافِظُهُمْ وَحَافِظُ الطَّعَامِ وَالْمَتَاعِ، بِخِلَافِ سَائِقِ الْغَنَمِ (وَ) كَذَا (أُجْرَةُ تَعْلِيمِ الْعَبْدِ) صِنَاعَةً أَوْ قُرْآنًا أَوْ عِلْمًا أَوْ شِعْرًا (لِأَنَّ ثُبُوتَ الزِّيَادَةِ لِمَعْنًى فِيهِ) أَيْ فِي الْمُتَعَلِّمِ (وَهُوَ حَذَاقَتُهُ) فَلَمْ يَكُنْ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى الْمُعَلَّمِ مُوجِبًا لِلزِّيَادَةِ

ص: 498

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فِي الْمَالِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إذْ لَا شَكَّ فِي حُصُولِ الزِّيَادَةِ بِالتَّعَلُّمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ التَّعْلِيمِ عَادَةً، وَكَوْنُهُ بِمُسَاعِدَةِ الْقَابِلِيَّةِ فِي الْمُتَعَلِّمِ هُوَ كَقَابِلِيَّةِ الثَّوْبِ لِلصَّبْغِ فَلَا تُمْنَعُ نِسْبَتُهُ إلَى التَّعْلِيمِ كَمَا لَا تُمْنَعُ نِسْبَتُهُ إلَى الصَّبْغِ فَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ وَالتَّعْلِيمُ عِلَّةٌ عَادِيَّةٌ فَكَيْفَ لَا يُضَمُّ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ أَضَافَ نَفْيَ ضَمِّ الْمُنْفِقِ فِي التَّعْلِيمِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عُرْفٌ، قَالَ: وَكَذَا فِي تَعْلِيمِ الْغِنَاءِ وَالْعَرَبِيَّةِ، قَالَ: حَتَّى لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ عُرْفٌ ظَاهِرٌ يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَكَذَا لَا يَلْحَقُ أُجْرَةَ الطَّبِيبِ وَالرَّائِضِ وَالْبَيْطَارِ وَجُعْلِ الْآبِقِ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَلَا يَلْحَق بِالسَّائِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِي النَّادِرِ وَالْحِجَامَةِ وَالْخِتَانِ لِعَدَمِ الْعُرْفِ، وَتُضَمُّ أُجْرَةُ السِّمْسَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ: لَا تُضَمُّ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى الشِّرَاءِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْعُرْفُ فِيهِ، وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ تُضَمُّ، وَقِيلَ أُجْرَةُ الدَّلَّالِ تُضَمُّ، كُلُّ هَذَا مَا لَمْ تَجْرِ عَادَةُ التُّجَّارِ، وَلَا يُضَمُّ ثَمَنُ الْجِلَالِ وَنَحْوِهَا فِي الدَّوَابِّ، وَتُضَمُّ الثِّيَابُ فِي الرَّقِيقِ وَطَعَامِهِمْ إلَّا مَا كَانَ سَرَفًا وَزِيَادَةً، وَيُضَمُّ عَلَفُ الدَّوَابِّ إلَّا أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا كَأَلْبَانِهَا وَصُوفِهَا وَسَمْنِهَا فَيَسْقُطُ قَدْرُ مَا نَالَ وَيُضَمُّ مَا زَادَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَ الدَّابَّةَ أَوْ الْعَبْدَ أَوْ الدَّارَ فَأَخَذَ أُجْرَتَهُ فَإِنَّهُ يُرَابِحُ مَعَ ضَمِّ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ لَيْسَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعَيْنِ، وَكَذَا دَجَاجَةٌ أَصَابَ مِنْ بَيْضِهَا يُحْتَسَبُ بِمَا نَالَهُ وَبِمَا أَنْفَقَ وَيُضَمُّ الْبَاقِي وَتُضَمُّ أُجْرَةُ التَّجْصِيصِ وَالتَّطْيِينِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي الدَّارِ وَالْقَنَاةِ فِي الْأَرْضِ مَا بَقِيَتْ هَذِهِ، فَإِنْ زَالَتْ لَا تُضَمُّ، وَكَذَا سَقْيُ الزَّرْعِ وَالْكَرْمِ وَكَسْحِهِ.

وَلَوْ قَصَّرَ الثَّوْبَ بِنَفْسِهِ أَوْ طَيَّنَ أَوْ عَمِلَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يُضَمُّ شَيْئًا مِنْهَا، وَكَذَا لَوْ تَطَوَّعَ مُتَطَوِّعٌ

ص: 499

(فَإِنْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى خِيَانَةٍ فِي الْمُرَابَحَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى خِيَانَةٍ فِي التَّوْلِيَةِ أَسْقَطَهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَحُطُّ فِيهِمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يُخَيَّرُ فِيهِمَا) لِمُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلتَّسْمِيَةِ؛ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَالتَّوْلِيَةُ وَالْمُرَابَحَةُ تَرْوِيجٌ وَتَرْغِيبٌ فَيَكُونُ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فَيَتَخَيَّرُ بِفَوَاتِهِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ كَوْنُهُ تَوْلِيَةً وَمُرَابَحَةً وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ وَلَّيْتُك بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِعْتُك مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ وَذَلِكَ بِالْحَطِّ، غَيْرَ أَنَّهُ يُحَطُّ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْرُ الْخِيَانَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي الْمُرَابَحَةِ مِنْهُ وَمِنْ الرِّبْحِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحُطُّ فِي التَّوْلِيَةِ لَا تَبْقَى تَوْلِيَةً؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيَتَغَيَّرُ التَّصَرُّفُ فَتَعَيَّنَ الْحَطُّ

بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ أَوْ بِإِعَارَةٍ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى خِيَانَةٍ فِي الْمُرَابَحَةِ) إمَّا بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ وَقَدْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي هَذَا عَلَى الْمُخْتَارِ، وَقِيلَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي دَعْوَى الْخِيَانَةِ مُنَاقِضٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا نُكُولٍ، وَالْحَقُّ سَمَاعُهَا كَدَعْوَى الْعَيْبِ وَدَعْوَى الْحَطِّ فَإِنَّهَا تُسْمَعُ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) وَإِنْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا فِي التَّوْلِيَةِ يُحَطُّ قَدْرُهَا (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَطُّ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُخَيَّرُ فِيهِمَا) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (لِمُحَمَّدٍ: إنَّ الِاعْتِبَارَ فِيهِمَا لَيْسَ إلَّا لِلتَّسْمِيَةِ) لِأَنَّ الثَّمَنَ بِهِ يَصِيرُ مَعْلُومًا وَبِهِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ، وَلَا خِيَارَ بِأَنَّهُ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ فِيهِمَا لَا يَتَعَلَّقُ الِانْعِقَادُ بِهِ.

إنَّمَا هُوَ (تَرْوِيجٌ وَتَرْغِيبٌ فَيَكُونُ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ) كَوَصْفِ الْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ (فَبِفَوَاتِهِ) بِظُهُورِ أَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ ذَاكَ (يَتَخَيَّرُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ)

أَيْ فِي عَقْدِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ (كَوْنُهُ تَوْلِيَةً وَمُرَابَحَةً) وَذَلِكَ بِالْبِنَاءِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَوْلِيَةٌ وَمُرَابَحَةٌ عَلَيْهِ (وَذَلِكَ بِالْحَطِّ غَيْرَ أَنَّهُ يَحُطُّ فِي التَّوْلِيَةِ مِقْدَارَ الْخِيَانَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي الْمُرَابَحَةِ يَحُطُّهُ مِنْهُ وَمِنْ الرِّبْحِ) عَلَى نِسْبَتِهِ، حَتَّى لَوْ رَابَحَ فِي ثَوْبٍ عَلَى عَشَرَةٍ بِخَمْسَةٍ فَظَهَرَ أَنَّ الثَّوْبَ بِثَمَانِيَةٍ يَحُطُّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنْ الثَّمَنِ، دِرْهَمَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَمِنْ الرِّبْحِ خُمُسَهُ وَهُوَ دِرْهَمٌ.

(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي التَّوْلِيَةِ وَهُوَ (أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحُطَّ فِيهَا لَا تَبْقَى تَوْلِيَةً؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ) وَالْعَقْدُ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِاعْتِبَارِهَا فَيَتَغَيَّرُ التَّصَرُّفُ إلَى بَيْعٍ آخَرَ بِثَمَنٍ آخَرَ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْبَيْعُ الْآخَرُ

ص: 500

وَفِي الْمُرَابَحَةِ لَوْ لَمْ يُحَطَّ تَبْقَى مُرَابَحَةً وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوَتُ الرِّبْحُ فَلَا يَتَغَيَّرُ التَّصَرُّفُ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ، فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ حَدَثَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْفَائِتِ فَيَسْقُطُ مَا يُقَابِلُهُ عِنْدَ عَجْزِهِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَبَاعَهُ بِرِبْحٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، فَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً طَرَحَ عَنْهُ كُلَّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ اسْتَغْرَقَ الثَّمَنَ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ).

صُورَتُهُ: إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِخَمْسَةٍ وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِخَمْسَةٍ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ بِعِشْرِينَ مُرَابَحَةً ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ، لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ عَقْدٌ مُتَجَدِّدٌ مُنْقَطِعُ

وَ) أَمَّا (فِي الْمُرَابَحَةِ لَوْ لَمْ يَحُطَّ) لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مُرَابَحَةً لِتَغَيُّرِ التَّصَرُّفِ (وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوَتُ الرِّبْحُ) فَإِنَّهُ يَظْهَرُ أَنَّ الرِّبْحَ أَكْثَرُ مِمَّا ظَنَّهُ الْمُشْتَرِي (فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ) بِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ يَتَخَيَّرُ لِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ (فَلَوْ هَلَكَ) الْمَبِيعُ (قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ) أَوْ اسْتَهْلَكَهُ (أَوْ حَدَثَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ) وَفِيهِمَا يَلْزَمُهُ تَمَامُ الثَّمَنِ قَبْلَ الْفَسْخِ فَكَذَا هُنَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ (بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ)؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهِ جُزْءٌ فَائِتٌ يُطَالَبُ بِهِ (فَيَسْقُطُ مَا يُقَابِلُهُ إذَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ).

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ أَوْ انْتَقَصَ يُحَطُّ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى الْقِيمَةِ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ حَتَّى يَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحَالُفِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ أَنَّهُ يُفْسَخُ بَعْدَ التَّحَالُفِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَبَاعَهُ بِرِبْحٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ) مِنْ الَّذِي بَاعَهُ مِنْهُ بِمِثْلِ مَا بَاعَهُ (فَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً طَرَحَ عَنْهُ كُلَّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ) الرِّبْحُ (اسْتَغْرَقَ الثَّمَنَ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً) إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ؟ (هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ رحمهم الله (صُورَتُهُ إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ) مِمَّنْ بَاعَهُ مِنْهُ بَعْدَ التَّقَابُضِ فَإِنَّهُ يَطْرَحُ عَنْ هَذِهِ الْعَشَرَةِ الَّتِي اشْتَرَاهُ بِهَا مِنْهُ الْخَمْسَةَ الَّتِي رَبِحَهَا (فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً) عَلَى خَمْسَةٍ (وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِخَمْسَةٍ؛ وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهُ بِعِشْرِينَ مُرَابَحَةً ثُمَّ اشْتَرَاهُ) مِمَّنْ بَاعَهُ مِنْهُ (بِعَشَرَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً أَصْلًا) إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ فَيَقُولُ هَذَا كُنْت بِعْته فَرَبِحْت فِيهِ عَشَرَةً ثُمَّ اشْتَرَيْته بِعَشَرَةٍ وَأَنَا أَبِيعُهُ بِرِبْحِ كَذَا عَلَى هَذِهِ الْعَشَرَةِ.

(وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى) الثَّمَنِ الْأَخِيرِ وَهُوَ (عَشَرَةٌ فِي الْفَصْلَيْنِ) مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ (لَهُمَا أَنْ الْعَقْدَ الثَّانِيَ) وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ كَانَ بَاعَهُ مِنْهُ فَهُوَ (عَقْدٌ مُتَجَدِّدٌ مُنْقَطِعُ

ص: 501

الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَوَّلِ فَيَجُوزُ بِنَاءُ الْمُرَابَحَةِ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ شُبْهَةَ حُصُولِ الرِّبْحِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِهِ بَعْدَمَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِالظُّهُورِ عَلَى عَيْبِ الشُّبْهَةِ كَالْحَقِيقَةِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ احْتِيَاطًا وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الْمُرَابَحَةُ فِيمَا أُخِذَ بِالصُّلْحِ لِشُبْهَةِ الْحَطِيطَةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى خَمْسَةً وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ فَيُطْرَحُ عَنْهُ خَمْسَةٌ

الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَوَّلِ) وَلِذَا لَوْ كَانَ فِي الْأَوَّلِ خِيَارٌ لَا يَكُونُ فِي الثَّانِي، وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ مُرَابَحَةً أَوْ وَضِيعَةً، وَلِذَا لَوْ كَانَ أَصْلُهُ هِبَةً أَوْ مِيرَاثًا فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِلَّا لَمْ تَجُزْ الْمُرَابَحَةُ أَصْلًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ الثَّانِيَ يَتَجَدَّدُ لَهُ مِلْكٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ.

وَصَارَ (كَمَا لَوْ تَخَلَّلَ ثَالِثٌ) بِأَنْ اشْتَرَى بِعَشَرَةٍ مِمَّنْ اشْتَرَى مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِعِشْرِينَ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شُبْهَةَ حُصُولِ الرِّبْحِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِهِ) أَيْ بِالْعَقْدِ الثَّانِي (مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ) مِنْ ذَلِكَ الرِّبْحِ (بِأَنْ يَظْهَرَ) الْمُشْتَرِي (عَلَى عَيْبٍ) فَيَرُدَّهُ فَيَزُولُ الرِّبْحُ عَنْهُ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ تَأَكَّدَ: أَيْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ لِذَلِكَ الرِّبْحِ وَلِلتَّأْكِيدِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ حُكْمُ الْإِيجَابِ كَمَا فِي شُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا يَضْمَنُونَ نِصْفَ الْمَهْرِ لِتَأْكِيدِهِمْ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِارْتِدَادٍ، وَعَلَى اعْتِبَارِ التَّأْكِيدِ يَصِيرُ الْبَائِعُ فِي مَسْأَلَتِنَا مُشْتَرِيًا بِالْعَقْدِ الثَّانِي ثَوْبًا وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَتَكُونُ الْخَمْسَةُ بِإِزَاءِ الْخَمْسَةِ وَيَبْقَى الثَّوْبُ بِخَمْسَةٍ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ وَاجِبٌ (لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمُرَابَحَةِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ وَلِذَا لَمْ تَجُزْ الْمُرَابَحَةُ فِيمَا أُخِذَ بِالصُّلْحِ لِشُبْهَةِ الْحَطِيطَةِ) لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الصُّلْحِ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الشِّرَاءُ بِعَشَرَةٍ فِيمَا لَوْ بَاعَ بِعِشْرِينَ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَصِيرُ فِي الشِّرَاءِ الثَّانِي كَأَنَّهُ اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَشَرَةً بِعَشْرَةٍ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا وَهُوَ حُصُولُ الثَّوْبِ بِلَا عِوَضٍ، أُجِيبُ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ إنَّمَا حَصَلَ بِهِ شُبْهَةُ الْإِيجَابِ احْتِرَازًا عَنْ الْخِيَانَةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرْعِ، وَشَرْعِيَّةُ الْمُرَابَحَةِ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْعِبَادِ لَا الشَّرْعِ، وَلِذَا إذَا

ص: 502

بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ ثَالِثٌ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ حَصَلَ بِغَيْرِهِ.

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ فَبَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى اشْتَرَاهُ فَبَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ)؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ بِجَوَازِهِ مَعَ الْمُنَافِي فَاعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُرَابَحَةِ وَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِلْأَوَّلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ اشْتَرَاهُ لِلْمَوْلَى بِعَشَرَةٍ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَكَأَنَّهُ يَبِيعُهُ لِلْمَوْلَى فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَيُعْتَبَرُ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ.

رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِهِ وَقَدْ عَلِمَ يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَمْ يَجُزْ بِتَرَاضِيهِمَا كَمَا فِي الرِّبَا لَوْ رَضِيَا بِهِ، وَأُورِدَ عَلَى هَذَا مَا لَوْ وُهِبَ لَهُ ثَوْبٌ فَبَاعَهُ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِعَشَرَةٍ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي رِوَايَةٍ، وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالْبَيْعُ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ يَتَأَكَّدُ بِهِ انْقِطَاعُ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوَكَالَةُ إلَّا فِي عَقْدٍ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا وَأَيْضًا لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى يَزْدَادُ فِي الثَّمَنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ مُرَابَحَةً بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَزْدَادُ فِي الثَّمَنِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِوَصِيفٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ عَرَضٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُمْكِنُ طَرْحُهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَلَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَلِذَا قُلْنَا لَوْ اشْتَرَى أَشْيَاءَ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِثَمَنٍ وَاحِدٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بَعْضَهَا مُرَابَحَةً عَلَى حِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَتَعْيِينُهَا لَا يَخْلُو عَنْ شُبْهَةِ الْغَلَطِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ (وَبِخِلَافِ مَا لَوْ تَخَلَّلَ ثَالِثٌ) لِتَأْكِيدِ الرِّبْحِ بِالْبَيْعِ مِنْ الثَّالِثِ وَوَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْبُطْلَانِ بِهِ فَلَمْ يَسْتَفِدْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ بِالشِّرَاءِ الثَّانِي تَأْكِيدَ الرِّبْحِ وَهُنَا بِخِلَافِهِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ فَبَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ) أَيْ الْمَوْلَى (يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَوْلَى اشْتَرَاهُ) بِعَشَرَةٍ (فَبَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ) بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَجِبُ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَبْدَ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ (لِأَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ) أَعْنِي الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لِإِفَادَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ وَيُسَلِّمُ لِلْمَوْلَى مِنْ كَسْبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ سَالِمًا (فَلَهُ شُبْهَةُ الْعَدَمِ)؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْعَبْدِ لَا يَخْلُو عَنْ حَقِّ الْمَوْلَى، وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْقِيَ مَا فِي يَدِهِ لِنَفْسِهِ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَكَذَا فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْحَقُّ حَقِيقَةً إذَا عَجَزَ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ اشْتَرَى مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ لِلْفَائِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا صَحَّحْنَاهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ جَائِزٌ (مَعَ الْمُنَافِي) وَهُوَ كَوْنُهُ عَبْدَهُ الْمُسْتَلْزِمُ لِكَوْنِ الْمَالِ لَهُ لَوْلَا الدَّيْنُ (فَاعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُرَابَحَةِ وَبَقِيَ الِاعْتِبَار لل) عَقْدِ (الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْكَائِنُ بِعَشَرَةٍ (فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ لِأَجْلِ الْمَوْلَى فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَاهُ الْعَبْدُ وَبَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى (وَكَانَ بِبَيْعِهِ) أَجَلُ (الْمَوْلَى فِي الْفَصْلِ الثَّانِي) وَهُوَ مَا إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ (فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا الْجَوَابُ إذَا كَانَ الْمَأْذُونُ مُكَاتَبَ السَّيِّدِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَقَوْلُهُ فَاعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُرَابَحَةِ يُفِيدُ أَنَّهُ إنَّمَا اُعْتُبِرَ عَدَمًا لِلْمُرَابَحَةِ لَا لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا مِنْ وَجْهٍ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعُ أَمَانَةٍ تَنْفِي عَنْهُ كُلَّ تُهْمَةٍ وَخِيَانَةٍ، وَالْمُسَامَحَةَ جَارِيَةٌ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ فَيُتَّهَمُ بِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ بَاعَهُ مِنْهُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ اشْتَرَى هَؤُلَاءِ مِنْهُ لَا يَبِيعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي قَامَ عَلَى الْبَائِعِ، إلَّا أَنَّهُمَا خَالَفَا فِي هَذِهِ فَقَالَا: يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ مِنْ هَؤُلَاءِ لِتَبَايُنِ الْأَمْلَاكِ وَالْحُقُوقِ فَكَانَا كَالْأَخَوَيْنِ،

ص: 503

قَالَ (وَإِذَا كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ)؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَإِنْ قُضِيَ بِجَوَازِهِ عِنْدَنَا عِنْدَ عَدَمِ الرِّبْحِ خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله مَعَ أَنَّهُ اشْتَرَى مَالَهُ بِمَالِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِفَادَةِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ مَقْصُودٌ وَالِانْعِقَادُ يَتْبَعُ الْفَائِدَةَ فَفِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ

وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَا يَحْصُلُ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَأَنَّهُ لِلْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ.

وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ لِلْآخَرِ وَتَجْرِي الْمُسَامَحَةُ بَيْنَهُمْ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ كَوْنُهُ مَدْيُونًا بِمَا يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْجَامِعِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: وَالْمَشَايِخُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ كَقَاضِي خَانَ، وَمِنْهُمْ مِنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالْمُحِيطِ كَالصَّدْرِ الشَّهِيدِ فَقَالَ: عَبْدٌ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ الدَّيْنَ أَصْلًا كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: إذَا اشْتَرَى مِنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذِكْرَهُ وَعَدَمَهُ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ سَوَاءٌ، بَلْ إذَا كَانَ لَا يُرَابِحُ إلَّا عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ مَعَ أَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ كَسْبِهِ فَلَأَنْ لَا يَرْبَحَ إلَّا عَلَيْهِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ الثَّانِي أَصْلًا إنَّمَا يَبِيعُ مَالَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيهِ.

وَإِنَّمَا فَائِدَتُهُ لِثُبُوتِ صِحَّةِ الْعَقْدِ الثَّانِي وَعَدَمِهِ، وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ شَرِيكِهِ سِلْعَةً، إنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مِنْ شَرِكَتِهِمَا يُرَابِحُ عَلَى مَا اشْتَرَى وَلَا يُبَيِّنُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَإِنَّهُ يَبِيعُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ عَلَى ضَمَانِهِ فِي الشِّرَاءِ الثَّانِي وَنَصِيبَ نَفْسِهِ عَلَى ضَمَانِهِ فِي الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ نَحْوُ أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ اُشْتُرِيَتْ بِأَلْفٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَاشْتَرَاهَا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْ الثَّمَنِ سِتُّمِائَةٍ وَنَصِيبَ نَفْسِهِ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ خَمْسُمِائَةٍ فَيَبِيعُهَا عَلَى ذَلِكَ.

وَمِنْهُ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ (وَإِذَا كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ، لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَإِنْ قُضِيَ بِجَوَازِهِ عِنْدَنَا عِنْدَ عَدَمِ الرِّبْحِ خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله مَعَ أَنَّهُ اشْتَرَى مَالَهُ بِمَالِهِ) وَهُوَ وَجْهُ الْمَنْعِ لِزُفَرَ لَكِنَّا أَجَزْنَاهُ (لِمَا فِيهِ مِنْ) فَائِدَةِ (اسْتِفَادَةِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ) بَعْدَمَا كَانَتْ مُنْتَفِيَةً لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ عَنْهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُضَارِبِ (وَالِانْعِقَادُ يَتْبَعُ الْفَائِدَةَ فَفِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ) أَيْ الْمُضَارِبَ (وَكِيلٌ عَنْهُ) أَيْ عَنْ رَبِّ الْمَالِ (فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ) وَذَلِكَ يَمْنَعُ

ص: 504

فَاعْتُبِرَ الْبَيْعُ الثَّانِي عَدَمًا فِي حَقِّ نِصْفِ الرِّبْحِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ أَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً وَلَا يُبَيِّنُ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَبِسْ عِنْدَهُ شَيْئًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ تَابِعَةٌ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، وَلِهَذَا لَوْ فَاتَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا لَمْ يُنْقِصْهَا الْوَطْءُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ

صِحَّةَ بَيْعِهِ مِنْهُ، كَمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْوَكِيلِ مِنْ مُوَكِّلِهِ مَا وَكَّلَهُ بِشِرَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ جَائِزٌ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ هُوَ مَالُ الْمُضَارِبِ حَتَّى إذَا اشْتَرَى لَا يَجُوزُ حَجْرُ رَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ جَارِيَةً لَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ وَطْؤُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ (فَاعْتُبِرَ الْبَيْعُ الثَّانِي عَدَمًا فِي نِصْفِ الرِّبْحِ) الَّذِي هُوَ حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا فَيَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ لِلِاحْتِيَاطِ، وَعَلَى حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا يُتَّهَمُ فِيهِ، وَلَوْ اشْتَرَيَا سِلْعَةً فَاقْتَسَمَاهَا فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى حِصَّةٍ مِنْ الثَّمَنِ، إنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ اسْتِيفَاءً مَحْضًا كَالْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ جَازَ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُبَادَلَةً كَالْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً لِابْتِنَائِهِ عَلَى التَّقْوِيمِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْمُرَابَحَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ) أَيْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بَلْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِصُنْعِهَا بِنَفْسِهَا (يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً وَلَا يُبَيِّنُ) أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ وَلَيْسَ بِهَا هَذَا الْعَوَرُ (وَ) كَذَا لَوْ (وَطِئَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ) وَلَمْ يُنْقِصْهَا الْوَطْءُ، وَهَذَا (لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا) جُزْءٌ مِنْ (الثَّمَنِ)؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ مَا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً بِالْإِتْلَافِ (وَلِهَذَا لَوْ فَاتَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ) إلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْعَقْدِ (لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا اعْوَرَّتْ الْجَارِيَةُ

ص: 505

أَنَّهُ لَا يَبِيعُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، كَمَا إذَا احْتَبَسَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله (فَأَمَّا إذَا فَقَأَ عَيْنَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ فَقَأَهَا أَجْنَبِيٌّ فَأَخَذَ أَرْشَهَا لَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ فَيُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا وَطِئَهَا وَهِيَ بِكْرٌ لِأَنَّ الْعُذْرَةَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ وَقَدْ حَبَسَهَا.

(وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَأَصَابَهُ قَرْضُ فَأْرٍ أَوْ حَرْقُ نَارٍ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَلَوْ تَكَسَّرَ بِنَشْرِهِ وَطَيِّهِ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ) وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّاهُ.

أَنَّهُ لَا يَبِيعُ) مُرَابَحَةً (مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، كَمَا إذَا احْتَبَسَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ) وَزُفَرَ، وَالِاحْتِبَاسُ بِفِعْلِهِ مَحَلُّ الِاتِّفَاقِ كَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (وَأَمَّا إذَا فَقَأَ عَيْنَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ فَقَأَهَا أَجْنَبِيٌّ) بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ (فَأَخَذَ أَرْشَهَا لَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ) وَالتَّقْيِيدُ بِفَقْءِ الْمُشْتَرِي وَالْأَجْنَبِيِّ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ فَقَأَتْ عَيْنَهَا بِنَفْسِهَا فَإِنَّهُ كَمَا بِالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ هَدَرٌ فَلَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي حَابِسًا شَيْئًا، وَأَخْذُ الْأَرْشِ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ إذَا أَعْوَرَهَا الْأَجْنَبِيُّ لَا يُرَابِحُ إلَّا بِبَيَانٍ لِتَحَقُّقِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَالْفَرْقُ لَنَا (أَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ) فَخَرَجَ عَنْ التَّبَعِيَّةِ بِالْقَصْدِيَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ (فَيُقَابَلُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا وَطِئَهَا وَهِيَ بِكْرٌ؛ لِأَنَّ الْعَذِرَةَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ يُقَابِلُهُمَا الثَّمَنُ وَقَدْ حَبَسَهَا).

(وَ) مِنْ هَذَا (لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَأَصَابَهُ قَرْضُ فَأْرٍ أَوْ حَرْقُ نَارٍ) أَوْ طَعَامًا فَتَغَيَّرَ (يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ) وَقَرْضٌ بِالْقَافِ وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ بِالْفَاءِ (وَلَوْ تَكَسَّرَ) الثَّوْبُ (بِطَيِّهِ وَنَشْرِهِ) لَزِمَهُ الْبَيَانُ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَقَوْلُ زُفَرَ أَجْوَدُ وَبِهِ نَأْخُذُ وَاخْتِيَارُهُ هَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْمُرَابَحَةِ عَلَى عَدَمِ الْخِيَانَةِ وَعَدَمُ ذِكْرِهِ أَنَّهَا انْتَقَصَتْ إيهَامٌ لِلْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ الْمَذْكُورَ كَانَ لَهَا نَاقِصَةً، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ ثَمَنُهَا صَحِيحَةً لَمْ يَأْخُذْهَا مَعِيبَةً إلَّا بِحَطِيطَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ أَوَّلَ الْبَابِ أَنَّ سَبَبَ شَرْعِيَّةِ الْمُرَابَحَةِ اعْتِمَادُ الْغَبِيِّ أَنَّ الثَّمَنَ قِيمَتُهَا حَيْثُ اشْتَرَى مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِهِ فَيَطِيبُ قَلْبُهُ بِشِرَائِهَا بِهِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قِيمَتُهَا، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَرُومُ شِرَاءَهَا إلَّا بِقِيمَتِهَا كَيْ لَا يُغْبَنَ، وَأَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ لَمْ يَرْضَ فَكَانَ سُكُوتُهُ تَقْرِيرًا لَهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ إذَا نَقَصَهُ الْعَيْبُ شَيْئًا يَسِيرًا.

فَإِنْ نَقَصَهُ قَدْرًا لَا يُتَغَابَنُ فِيهِ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً، يَعْنِي بِلَا بَيَانٍ، لَكِنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ السِّعْرُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ

ص: 506

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى غُلَامًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِرِبْحِ مِائَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَعَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ قَبِلَ)؛ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُزَادُ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْأَجَلِ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ وَبَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً بِثَمَنِهِمَا، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمُرَابَحَةِ يُوجِبُ السَّلَامَةَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ

فِي حَالِ غَلَائِهِ، وَكَذَا لَوْ اصْفَرَّ الثَّوْبُ لِطُولِ مُكْثِهِ أَوْ تَوَسَّخَ إلْزَامٌ قَوِيٌّ، وَاسْتَشْكَلَ عَلَى قَوْلِهِ الْفَائِتِ وَصْفٌ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ الْمُشْتَرَى بِأَجَلٍ فَإِنَّ الْأَجَلَ وَصْفٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً بِلَا بَيَانٍ، أُجِيبُ أَنَّ الْأَجَلَ يُعْطَى لِأَجْلِهِ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَادَةً فَيَكُونُ كَالْجُزْءِ فَيَلْزَمُهُ الْبَيَانُ، وَعَلَى قَوْلِهِ مَنَافِعُ الْبُضْعِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ مَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ رَدِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَقْتَ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ لِاعْتِبَارِ الْمُشْتَرِي بِالْوَطْءِ حَابِسًا جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ عَدَمَ الرَّدِّ فِي هَذَا لَيْسَ لِمَا ذَكَرْت بَلْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا فَإِمَّا مَعَ الْعُقْرِ احْتِرَازًا عَنْ الْوَطْءِ مَجَّانًا أَوْ مِنْ غَيْرِ عُقْرٍ، لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِعَوْدِ الْجَارِيَةِ مَعَ زِيَادَةٍ وَالزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَلَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَيُسَلِّمُ الْمُشْتَرِي الْوَطْءَ بِلَا عِوَضٍ بِاعْتِبَارِ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْوَاهِبِ إذَا رَجَعَ بَعْدَ وَطْءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ حَيْثُ يَصِحُّ وَلَا يَلْزَمُ الْمَوْهُوبَ لَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا تُسَلَّمُ كُلُّهَا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِلَا عِوَضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ الْوَطْءُ بِلَا عِوَضٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ وَيُسَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلْبَائِعِ زِيَادَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ شَيْءٌ وَجَبَ بِإِتْلَافِ الْعَيْنِ كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ فَكَذَا الْوَطْءُ، [فُرُوعٌ]

لَوْ أَصَابَ مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ أَوْ الدَّابَّةِ شَيْئًا رَابَحَ بِلَا بَيَانٍ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ لَيْسَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعَيْنِ إنَّمَا هُوَ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ لَا يَمْنَعُ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَصَابَ مِنْ لَبَنِ الْغَنَمِ وَصُوفِهَا، فَإِنَّهُ إذَا رَبِحَ يَسْقُطُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَدْرُ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَنْفَقَ فِي طَعَامِ الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ أَنَّهُ يَضْمَنُهُ فِي غَيْرِ السَّرَفِ، وَلَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ أَوْ الْغَنَمُ أَوْ أَثْمَرَ النَّخِيلُ يَبِيعُ الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْبِسْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ بِغَيْرِ فِعْلٍ ثُمَّ الزِّيَادَةُ تَجْبُرُهُ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ لَمْ يَبِعْ الْأَصْلَ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ مَا أَصَابَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ وَالْمُتَوَلِّدُ كَجُزْءِ الْمَبِيعِ، وَكَذَا إذَا اسْتَهْلَكَ الْأَلْبَانَ وَالسَّمْنَ فَإِنَّهُ لَا يُرَابِحُ إلَّا بِبَيَانٍ، وَفِي الْمَبْسُوطِ: اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةٍ وَاشْتَرَى آخَرُ نِصْفَهُ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً أَوْ وَضِيعَةً قَالَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثًا وَلَوْ بَاعَهُ مُسَاوَمَةً يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى فِيهِ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبُ وَبَيْعُهُمَا فِي الْعَبْدِ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْعُقُودِ فَإِنَّ الثَّمَنَ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَمَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يَحُطُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ مَعَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ وَلَوْ كَانَ وَلَّاهُ حَطَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يُحَطُّ عَنْ الثَّانِي بِهَذَا السَّبَبِ شَيْءٌ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا، بَلْ هُوَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَكَذَا الزِّيَادَةُ عِنْدَنَا حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّ الْعَقْدَ عَقْدٌ بِمَا بَقِيَ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَالْمُوَكِّلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَطَّ الْكُلَّ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُرَابِحَ عَلَى كُلِّ الثَّمَنِ وَيُوَلِّيَهُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى غُلَامًا) أَوْ غَيْرَهُ (بِأَلْفٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِرِبْحِ مِائَةٍ) وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً بِالْأَلْفِ (فَعَلِمَ الْمُشْتَرِي) بِذَلِكَ (فَ) لَهُ الْخِيَارُ (إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ قَبِلَ) بِالْأَلْفِ وَالْمِائَةُ حَالَّةٌ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ (لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ)؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُزَادُ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ، (وَالشُّبْهَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَكَانَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ) بِالْأَلْفِ (وَبَاعَ أَحَدَهُمَا) بِهَا عَلَى وَجْهِ الْمُرَابَحَةِ، وَهَذَا خِيَانَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ مَبِيعًا حَقِيقَةً، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ يُشْبِهُ الْمَبِيعَ يَكُونُ

ص: 507

فَإِذَا ظَهَرَتْ يُخَيَّرُ كَمَا فِي الْعَيْبِ (وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ)؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، قَالَ:(فَإِنْ كَانَ وَلَّاهُ إيَّاهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَدَّهُ إنْ) شَاءَ؛ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ فِي التَّوْلِيَةِ مِثْلُهَا فِي الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ (وَإِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ) لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَيَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ وَعَلِمَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، وَسَيَأْتِيك مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ يُقَوَّمُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَبِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ

هَذَا شُبْهَةَ الْخِيَانَةِ وَشُبْهَةُ الْخِيَانَةِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْمُرَابَحَةِ.

(فَإِذَا ظَهَرَتْ يُخَيَّرُ) عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَوْ فُرِّعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَطَّ مِنْ الثَّمَنِ مَا يُعْرَفُ أَنَّ مِثْلَهُ فِي هَذَا يُزَادُ لِأَجْلِ الْأَجَلِ، هَذَا إذَا عَلِمَ الْخِيَانَةَ قَبْلَ هَلَاك الْمَبِيعِ (فَلَوْ عَلِمَ) بَعْدَمَا هَلَكَ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ (لَزِمَهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ حَالَّةٍ)؛ لِأَنَّ (الْأَجَلَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ) حَقِيقَةً وَاَلَّذِي كَانَ ثَابِتًا لَهُ مُجَرَّدَ رَأْيٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ بَعْدَ هَلَاكِهِ وَهَكَذَا (لَوْ كَانَ وَلَّاهُ إيَّاهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ) أَنَّهُ اشْتَرَاهُ إلَى أَجَلٍ فَعَلِمَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْهَلَاكِ: يَعْنِي يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ وَقَبُولُهُ بِالْأَلْفِ الْحَالَّةِ، وَلَوْ فُرِّعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ مَا ذَكَرْنَا (وَإِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ حَقِيقَةً (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ) بَعْدَ الْهَلَاكِ (يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَيَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ وَهُوَ نَظِيرُ) قَوْلِهِ فِي (مَا إذَا اسْتَوْفَى) صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْ دَائِنِهِ (مَكَانَ) الدَّيْنِ (الْجِيَادِ زُيُوفًا) وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِزِيَافَتِهَا حَتَّى أَنْفَقَهَا فَإِنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرُدُّ مِثْلَهَا مِنْ الزُّيُوفِ وَيَسْتَرِدُّ الْجِيَادَ (وَسَيَأْتِيكَ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ (وَقِيلَ يُقَوَّمُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَبِمُؤَجَّلٍ

ص: 508

فَيَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ مُنَجَّمٌ مُعْتَادٌ قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَقِيلَ يَبِيعُهُ وَلَا يُبَيِّنُهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَالٌّ.

قَالَ (وَمَنْ وَلَّى رَجُلًا شَيْئًا بِمَا قَامَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِكَمْ قَامَ عَلَيْهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ (فَإِنْ أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ، يَعْنِي فِي الْمَجْلِسِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ)؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لَمْ يَتَقَرَّرْ، فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ فِي الْمَجْلِسِ جُعِلَ كَابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَصَارَ كَتَأْخِيرِ الْقَبُولِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الِافْتِرَاقِ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يُقْبَلُ الْإِصْلَاحُ، وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ إذَا عَلِمَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الرِّضَا لَمْ يَتِمَّ قَبْلَهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ فَيَتَخَيَّرُ كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ

فَيَرْجِعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا) عَلَى الْبَائِعِ، قَالَهُ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ مُعْتَادُ التَّنْجِيمِ قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَقِيلَ يَبِيعُهُ وَلَا يُبَيِّنُهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ) مَا كَانَ إلَّا (حَالًّا) فِي الْعَقْدِ، أَمَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ بَاعَهُ بِلَا شَرْطِ أَجَلٍ فَلَمْ يَنْقُدْهُ إلَى شَهْرٍ مَطْلًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِالْأَلْفِ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ وَلَّى رَجُلًا شَيْئًا بِمَا قَامَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِكَمْ قَامَ عَلَيْهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَإِنْ أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ: يَعْنِي فِي الْمَجْلِسِ) مَا قَامَ بِهِ عَلَيْهِ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَدَّ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ قَبِلَ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ) وَإِنْ كَانَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ (لَمْ يَتَقَرَّرْ) إنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِمُضِيِّ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْبَيْعِ بِرَقْمِهِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الرَّقْمِ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا لَهُ عَرْضِيَّةُ الصِّحَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ صَحِيحٌ لَهُ عَرْضِيَّةُ الْفَسَادِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلْمُتَفَرِّقَاتِ يُعْتَبَرُ الْوَاقِعُ فِي أَطْرَافِهِ كَالْوَاقِعِ مَعًا كَانَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ: أَيْ بَيَانِ قَدْرِ الثَّمَنِ (كَتَأْخِيرِ الْقَبُولِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَتَّصِلُ بِالْإِيجَابِ السَّابِقِ أَوَّلَ الْمَجْلِسِ، كَذَا هَذَا يَكُونُ سُكُوتُهُ عَنْ تَعْيِينِ الثَّمَنِ فِي تَحَقُّقِ الْفَسَادِ مَوْقُوفًا إلَى آخِرِهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ فِيهِ اتَّصَلَ بِالْإِيجَابِ الَّذِي سَكَتَ فِيهِ عَنْهُ، وَإِنْ انْقَضَى قَبْلَهُ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ فَلَا يَنْقَلِبُ بَعْدَهُ صَحِيحًا (وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ) بَعْدَ الْعِلْمِ فِي الْمَجْلِسِ (لِأَنَّ الرِّضَا لَمْ يَتِمَّ قَبْلَهُ) فَلَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ (كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ) لَمْ يَتِمَّ الرِّضَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَعِنْدَ وُجُودِهَا يَتَخَيَّرُ.

[فُرُوعٌ]

اشْتَرَى ثَوْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَابِحَ عَلَى ذِرَاعٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى ذُرْعَانِهِ، وَلَوْ رَابَحَ عَلَى مَالِهِ نِسْبَةً مَعْلُومَةً مِنْهُ كَنِصْفِهِ ثُلُثُهُ ثَمَنُهُ جَازَ،.

وَلَوْ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْآخَرَ بِمِائَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ أَيَّ النِّصْفَيْنِ شَاءَ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ بَاعَ كُلَّهُ مُرَابَحَةً عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، وَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ كُلَّهُ فَلَهُ أَنْ يُرَابِحَ عَلَى الثَّمَنِ كُلِّهِ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ أَوْ حَطَّ عَنْهُ بَعْضَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَابِحَ إلَّا عَلَى مَا بَقِيَ

ص: 509

(فَصْلٌ)

وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ

وَلَوْ بَاعَهُ الثَّمَنَ عَرْضًا أَوْ أَعْطَى بِهِ رَهْنًا فَهَلَكَ كَانَ لَهُ أَنْ يُرَابِحَ عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَلَوْ اشْتَرَى بِعَشَرَةٍ جِيَادٍ وَنَقَدَهُ زُيُوفًا فَتَجَوَّزَ بِهَا الْبَائِعُ فَلَهُ أَنْ يُرَابِحَ عَلَى عَشَرَةٍ جِيَادٍ، وَلَوْ وَهَبَ مَا اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ، وَكَذَا إنْ بَاعَهُ ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ أَوْ فَسَادِ بَيْعٍ أَوْ خِيَارٍ أَوْ إقَالَةٍ لَهُ أَنْ يُرَابِحَ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي كَانَ اشْتَرَى بِهِ،.

وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَبَاعَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّهُ مَا عَادَ إلَى الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالشِّرَاءِ الْأَوَّلِ.

وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَرَضِيَ بِهِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ خِيَارٌ فَإِسْقَاطُهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً كَمَا لَوْ كَانَ فِيهِ خِيَارُ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى مُرَابَحَةً فَاطَّلَعَ عَلَى خِيَانَةٍ فَرَضِيَ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا أَخَذَهُ بِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّابِتَ لَهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ.

وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ وَهُوَ لَا يَشْتَرِي بِذَلِكَ الْقَدْرِ بِالْغَبْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ مَا يُبَاعُ بِمِثْلِهِ جَازَ أَنْ يُرَابِحَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَخَذَهُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ أَوْ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالشِّرَاءِ لِمَا تَقَدَّمَ، لَكِنَّ الْوَجْهَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ ثَمَنُهُ وَجَبَ أَنْ يُرَابِحَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَنْعَ الْمُرَابَحَةِ مَا كَانَ إلَّا لِتُهْمَةِ الْحَطِيطَةِ، فَإِذَا تَيَقَّنَ انْتِفَاءَهَا ارْتَفَعَ الْمَانِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ اشْتَرَيَا رِزْمَةَ ثِيَابٍ فَاقْتَسَمَاهَا لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ مَا خَصَّهُ مُرَابَحَةً، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَيَا مَكِيلًا جِنْسًا وَاحِدًا فَاقْتَسَمَاهُ حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَوْ اشْتَرَى الرِّزْمَةَ وَاحِدٌ فَقَوَّمَهَا ثَوْبًا ثَوْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ ثَوْبًا مِنْهَا مُرَابَحَةً عَلَى مَا قُوِّمَ إلَّا مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ: قِيمَةُ هَذَا أَلْفٌ أَوْ قُوِّمَ هَذَا بِكَذَا أَوْ أَنَا أَبِيعُك مُرَابَحَةً عَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ كَمَا مَرَّ فِي الرَّقْمِ بِأَزْيَدَ مِنْ ثَمَنِهِ، أَمَّا لَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبَيْنِ وَوَصَفَهُمَا بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى نِصْفِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَلَوْ بَاعَهُ نِصْفَ مَا اشْتَرَاهُ مُرَابَحَةً عَلَى نِصْف ثَمَنِهِ إنْ كَانَ ثَوْبًا وَاحِدًا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ كَطَعَامٍ أَكَلَ نِصْفَهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِانْقِسَامِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بِالْإِجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ انْقِسَامَهُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ: أَعْنِي الذُّرْعَانَ، وَلَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ بِاعْتِبَارِهَا، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُرَابِحَ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ، وَلَوْ اشْتَرَى ثِيَابًا صَفْقَةً وَاحِدَةً كُلُّ ثَوْبٍ بِكَذَا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ كُلَّ وَاحِدٍ مُرَابَحَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُرَابِحُ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ بِوَضِيعَةِ ده يازده فَطَرِيقُهُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَشَرَةً فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِائَةً وَعَشَرَةً فَتَسْقُطُ عَشَرَةٌ فَيَصِيرُ جُمْلَةُ الثَّمَنِ تِسْعَةً وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ،

(فَصْلٌ)

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ) إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْبَيْعِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ يَتَصَرَّفُ

ص: 510

لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ

فِيهِ لِتَكُونَ اتِّفَاقِيَّةً، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُجِيزُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا فِي الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَصَّ الطَّعَامَ بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي لَفْظٍ " حَتَّى يَقْبِضَهُ " قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَ الطَّعَامِ أَخْرَجَهُ عَنْهُ أَئِمَّةُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَعَضَّدَ قَوْلَهُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ إلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ابْتَعْت زَيْتًا فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْجَبْته لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي فِيهِ رِبْحًا حَسَنًا فَأَرَدْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِهِ فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي، فَالْتَفَتَ فَإِذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْته حَتَّى تَحُوزَهُ إلَى رَحْلِك، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ» ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: سَنَدُهُ جَيِّدٌ.

وَقَالَ: ابْنُ إِسْحَاقَ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ:«قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ أَبْتَاعُ هَذِهِ الْبُيُوعَ وَأَبِيعُهَا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ؟ قَالَ: لَا تَبِيعَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَقْبِضَهُ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لَيْسَ بَيْنَهُمَا ابْنُ عِصْمَةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُخَرِّجِينَ مِنْهُمْ مَنْ يُدْخِلُ ابْنَ عِصْمَةَ بَيْنَ ابْنِ مَاهَكَ وَحَكِيمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا، وَابْنُ عِصْمَةَ ضَعِيفٌ جِدًّا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ.

قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ مَجْهُولٌ، وَصَحَّحَ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ نَفْسِهِ عَنْ حَكِيمٍ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ قَاسِمِ بْنِ أَصَبْغَ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِصْمَةَ الْجُشَمِيَّ حِجَازِيٌّ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: إنَّهُ ضَعِيفٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَكِلَاهُمَا مُخْطِئٌ، وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ هَذَا بِالنُّصَيْبِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِصْمَةَ انْتَهَى كَلَامُهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ كَذَلِكَ، وَالْحَاجَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى دَلِيلِ التَّخْصِيصِ بِغَيْرِ الْعَقَارِ لِأَبِي حَنِيفَةَ يُذْكَرُ هُنَاكَ

ص: 511

وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ.

وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ عَلَّلَ الْحَدِيثَ (لِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ) الْأَوَّلِ (عَلَى اعْتِبَارِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ) قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَتَبَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَفِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» ، وَالْغَرَرُ: مَا طُوِيَ عَنْك عِلْمُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّا رَأَيْنَا التَّصَرُّفَ فِي إبْدَالِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ جَائِزًا فَلَا يَضُرُّهَا غَرَرُ الِانْفِسَاخِ كَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَهْرِ لَهَا، وَبَدَلُ الْخُلْعِ لِلزَّوْجِ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ، وَبَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ إذْ كَانَتْ لَا تَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ مَا قُلْنَا، هَذَا وَقَدْ أَلْحَقُوا بِالْبَيْعِ غَيْرَهُ فَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا التَّصَدُّقُ بِهِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.

وَكَذَا إقْرَاضُهُ وَرَهْنُهُ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا أَجَازَ مُحَمَّدٌ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفِي الْأُجْرَةِ قَبْلَ قَبْضِهَا إذَا كَانَتْ عَيْنًا أَوْلَى، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْعِوَضِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ وَالْأُجْرَةِ إذَا كَانَتْ عَيْنًا فِي الْإِجَارَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ الدَّيْنِ إذَا كَانَ عَيْنًا، لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَأَنْ يُشْرِكَ فِيهِ غَيْرَهُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا، وَمَا لَا يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْعِوَضِ فَالتَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، كَالْمَهْرِ إذَا كَانَ عَيْنًا وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ كُلُّ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَيْنًا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَرِثَ عَنْهُ، فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ تَمَامَ هَذَا الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْمَانِعَ زَائِلٌ عِنْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ وَقَاسَهُ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَإِنَّهَا تَجُوزُ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ إذْ لَا مَانِعَ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَائِبًا عَنْهُ ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ قَالَ أَطْعِمْ عَنْ كَفَّارَتَيْ جَازَ، وَيَكُونُ الْفَقِيرُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ ثُمَّ قَابِضًا لِنَفْسِهِ

ص: 512

(وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَجُوزُ)

رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَاعْتِبَارًا بِالْمَنْقُولِ وَصَارَ كَالْإِجَارَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَلَا غَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْعَقَارِ نَادِرٌ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ، وَالْغَرَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، وَالْحَدِيثُ

بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْبَيْعُ أَسْرَعُ نَفَاذًا مِنْ الْهِبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ، وَأَيْضًا هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ تَنْبَنِي عَلَى الْمِلْكِ وَغَرَرُ الِانْفِسَاخِ يَمْنَعُ تَمَامَهُ فَكَانَ قَاصِرًا فِي حَقِّ إطْلَاقِ التَّصَرُّفِ، وَأَمَّا أَعْتِقْ عَنْ كَفَّارَتِي فَإِنَّهُ طَلَبُ التَّمْلِيكِ لَا تَصَرُّفٌ مَبْنِيَّ عَلَى الْمِلْكِ الْقَائِمِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ اُعْتُبِرَ الْغَرَرُ امْتَنَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَضْعَفُ؛ لِأَنَّ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ يَتَحَقَّقُ بِهِ قَبْلَهُ، وَيَزِيدُ بِاعْتِبَارِ الْهَلَاكِ أَيْضًا فَكَانَ أَكْثَرَ مَظَانًّا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بَعْدَهُ يَسُدُّ بَابَ الْبَيْعِ، وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ بَائِعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ وَهَبَهُ يَجُوزُ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَجَازًا عَنْ الْإِقَالَةِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا النَّهْيُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ مُجَاوِرٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُوجِبَ الْفَسَادَ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، أُجِيبُ بِأَنَّ الْغَرَرَ فِي الْمَبِيعِ لَا مُجَاوِرَ لَهُ، فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَوْ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمُشْتَرِي عَلَى تَقْدِيرِ الْهَلَاكِ، وَأُورِدَ عَلَى التَّأْثِيرِ أَنَّ بُعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ: أَيُّ امْتِنَاعٍ فِيهِ فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ لَمْ يَصِحَّ فَيُتَرَادَّانِ، وَمِثْلُهُ وَاقِعٌ فِي الشُّفْعَةِ وَالْبَيْعِ بَعْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ (رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ الْحَدِيثِ) يَعْنِي عُمُومَهُ، وَهُوَ مَا فِي حَدِيثِ حَكِيمٍ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَبِيعَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَقْبِضَهُ» بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمَنْقُولِ: أَعْنِي قَوْلَهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَعِ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ» وَلِلنَّهْيِ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَوْ بَاعَ الْعَقَارَ بِرِبْحٍ يَلْزَمُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَصَارَ بَيْعُ الْعَقَارِ كَإِجَارَتِهِ وَإِجَارَتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا تَجُوزُ فَكَذَا بَيْعُهُ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْبَيْعُ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْقَبْضِ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْحَادِثِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمِلْكُ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِتَأَكُّدِ السَّبَبِ، وَفِي هَذَا الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ سَوَاءٌ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ) وَالْمَانِعَ الْمُثِيرَ لِلنَّهْيِ وَهُوَ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ مُنْتَفٍ.

(فَإِنَّ هَلَاكَ الْعَقَارِ نَادِرٌ) وَالنَّادِرُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ هَلَاكُهُ إلَّا إذَا صَارَ بَحْرًا وَنَحْوُهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّ جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَصِيرَ بَحْرًا أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الرِّمَالُ، فَأَمَّا فِي مَوْضِعٍ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ ذَكَرَهُ الْمَحْبُوبِيُّ وَفِي الِاخْتِيَارِ: حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عُلُوًّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ

ص: 513

مَعْلُولٌ بِهِ عَمَلًا بِدَلَائِل الْجَوَازِ وَالْإِجَارَةِ، قِيلَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ؛ وَلَوْ سَلَّمَ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْمَنَافِعُ وَهَلَاكُهَا غَيْرُ نَادِرٍ.

وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ (مَعْلُولٌ بِهِ) أَيْ بِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ بِالْغَرَرِ نَافِذٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالتَّزَوُّجُ عَلَيْهِ، وَبِهِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ إنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِتَأَكُّدِ السَّبَبِ، وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي اسْتِدْعَاءِ مِلْكٍ تَامٍّ فَوْقَ الْبَيْعِ، وَيَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ الْعِتْقُ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: التَّزَوُّجُ لَا يَبْطُلُ بِالْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَهْرُ الْمُعَيَّنُ لَزِمَ الزَّوْجَ قِيمَتُهُ وَلَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ، وَأُورِدَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ تَخْصِيصُ عُمُومِهِ فَيُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ، وَالْمَعْنَى عَلَى النَّصِّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، الْجَوَابُ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ أَشْيَاءَ: مِنْهَا جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَكَذَا الْمَهْرُ يَجُوزُ لَهَا بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ، وَكَذَا الزَّوْجُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ، وَكَذَا رَبُّ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ إذَا مَلَكَهُ غَيْرُهُ وَسَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ جَازَ، وَكَذَا أَخْذُ الشَّفِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَمَلُّكَهُ حِينَئِذٍ شِرَاءٌ قَبْلَ الْقَبْضِ

ص: 514

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً فَاكْتَالَهُ أَوْ اتَّزَنَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرَى مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا أَنْ يَأْكُلَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ)«؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ وَالتَّصَرُّفُ

فَلَوْ كَانَ الْعَقَارُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِبَدَلٍ لَمْ يَثْبُتْ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا يَخْرُجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا الْإِلْحَاقُ بِالْإِجَارَةِ فَفِي مَنْعِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ مَنْعٌ فَإِنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ إلَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْقُولِ وَالْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ فَيَمْتَنِعُ جَوَازُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَفِي الْكَافِي وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى: وَإِذَا عُرِفَ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ وَفِي الْمَبِيعِ لَا يَجُوزُ كَانَ تَتْمِيمُهُ بِأَنْ يَذْكُرَ هُنَا مَا يُمَيِّزُ الْمَبِيعَ عَنْ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّفَ فَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانٌ أَبَدًا وَذَوَاتُ الْقِيَمِ مَبِيعَةٌ أَبَدًا وَالْمِثْلِيَّاتُ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ إذَا قُوبِلَتْ بِالنَّقْدِ مَبِيعَةٌ أَوْ بِالْأَعْيَانِ وَهِيَ مُعَيَّنَةُ ثَمَنٍ أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَمَبِيعَةٌ، كَمَنْ قَالَ اشْتَرَيْت كُرًّا مِنْ الْحِنْطَةِ بِهَذَا الْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ، وَقِيلَ الْمِثْلِيَّاتُ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً وَقُوبِلَتْ بِغَيْرِهَا ثَمَنٌ مُطْلَقًا، وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهَا الْبَاءُ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْأَثْمَانُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ اسْتِبْدَالًا فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْقَرْضِ وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ، وَالْمَبِيعَاتُ تَقَدَّمَ حَالُهَا عِنْدَ ذِكْرِنَا الْإِلْحَاقَ، وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا وَسَلَّمَهُ ثُمَّ أَقَالَ فَبَيْعُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ، وَمِنْ الْأَجْنَبِيِّ لَا يَجُوزُ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْبَيْعَ مَتَى انْفَسَخَ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ فَبَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَمَا هُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ يَجُوزُ مِنْ الْمُشْتَرِي كَالْأَجْنَبِيِّ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً) أَيْ اشْتَرَاهُ عَلَى كَذَا كَيْلًا أَوْ رَطْلًا (فَاكْتَالَهُ أَوْ اتَّزَنَهُ) لِنَفْسِهِ (ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً) فِي الْمَوْزُونِ (لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي») رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ هَكَذَا لَكِنْ بِلَفْظِ الصَّاعَانِ مُعَرَّفًا أَسْنَدَهُ عَنْهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

وَأُعِلَّ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَبِلَفْظِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ فِيهِ:

ص: 515

فِي مَالِ الْغَيْرِ حَرَامٌ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مُجَازَفَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الثَّوْبَ

«فَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ الزِّيَادَةُ وَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَهُ طَرِيقَانِ أُخْرَيَانِ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفَانِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ كَانَا يَبْتَاعَانِ التَّمْرَ وَيَجْعَلَانِهِ فِي غَرَائِرَ ثُمَّ يَبِيعَانِهِ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَاهُ حَتَّى يَكِيلَا لِمَنْ ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا» فَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِكَثْرَةِ تَعَدُّدِ طُرُقِهِ وَقَبُولِ الْأَئِمَّةِ إيَّاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ بِقَوْلِنَا هَذَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رضي الله عنهم.

وَحِينَ عَلَّلَهُ الْفُقَهَاءُ بِجَعْلِهِ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ إذْ بِالْكَيْلِ يَتَمَيَّزُ حَقُّهُ عَنْ حَقِّ الْبَائِعِ إذْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ أَوْ أَزْيَدَ فَيَضِيعُ مَالُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ مَالُ الْبَائِعِ عِنْدَهُ فَأَلْحَقُوا بِمَنْعِ الْبَيْعِ مَنْعَ الْأَكْلِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَكُلَّ تَصَرُّفٍ يُبْنَى عَلَى الْمِلْكِ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا وَأَلْحَقُوا بِالْمَكِيلِ الْمَوْزُونَ، وَيَنْبَغِي إلْحَاقُ الْمَعْدُودِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ إذَا اُشْتُرِيَ مُعَادَّةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَأَفْسَدَ الْبَيْعَ قَبْلَ الْعَدِّ ثَانِيًا لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ، وَهُوَ وُجُوبُ تَعَرُّفِ الْمِقْدَارِ وَزَوَالُ احْتِمَالِ اخْتِلَاطِ الْمَالَيْنِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ لِلْبَائِعِ خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ الثَّانِي قَبْلَ الْعَدِّ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْمَذْرُوعَاتِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلْمُشْتَرِي لَمْ يُلْحِقُوهَا؛ فَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الذَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَادَ كَانَ لِلْمُشْتَرِي، وَلَوْ نَقَصَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِذَا بَاعَهُ بِلَا ذَرْعٍ كَانَ مُسْقِطًا خِيَارَهُ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْصِ وَلَهُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ مَبِيعًا، فَلَوْ كَانَ ثَمَنًا بِأَنْ اشْتَرَى بِهَذَا الْبُرِّ عَلَى أَنَّهُ كُرٌّ فَقَبَضَهُ جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ جَائِزٌ، فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِ قَبْضِهِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ مِنْهُ بَيْعُ الطَّعَامِ إلَّا مُكَايَلَةً فَيَقْتَضِي مَنْعَ بَيْعِهِ مُجَازَفَةً، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ ظَاهِرَهُ مَتْرُوكٌ وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ مُكَايَلَةً.

أَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً بِيعَ صُبْرَةً فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمُشَارِ إلَيْهِ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَاطُ الْمِلْكَيْنِ، وَقَوْلُ الْمُصَنَّفِ فِيهِ (لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ) قِيلَ: مَعْنَاهُ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَا كَانَ يَظُنُّهُ بِأَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةً عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَشَرَةٌ فَظَهَرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَتَكَلَّفَ

ص: 516

مُذَارَعَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ إذْ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ، بِخِلَافِ الْقَدْرِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَاعَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهُوَ الشَّرْطُ، وَلَا بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا وَلَا تَسْلِيمَ إلَّا بِحَضْرَتِهِ، وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْبَيْعِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ قِيلَ لَا يُكْتَفَى بِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ اُعْتُبِرَ صَاعَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَعْلُومًا بِكَيْلٍ وَاحِدٍ وَتَحَقَّقَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ السَّلَمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَعْدُودَ عَدًّا فَهُوَ كَالْمَذْرُوعِ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، وَكَالْمَوْزُونِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

غَيْرُهُ، وَكَذَا مَا يُفِيدُ ظَاهِرُهُ مِنْ الْتِزَامِ جَرَيَانِ الصَّاعَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مُكَايَلَةً وَبَاعَهُ كَذَلِكَ، أَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إذَا بَاعَهُ مُكَايَلَةً إلَى كَيْلٍ وَاحِدٍ لِلْمُشْتَرِي.

وَقَوْلُ الرَّاوِي حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ مَعْنَاهُ صَاعُ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً، أَمَّا لَوْ كَانَ مَلَكَهُ بِالْإِرْثِ أَوْ الزِّرَاعَةِ أَوْ اشْتَرَى مُجَازَفَةً أَوْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً عَلَى أَنَّهَا كُرٌّ ثُمَّ بَاعَهَا فَالْحَاجَةُ إلَى صَاعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ صَاعُ هَذَا الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِقْرَاضُ تَمْلِيكًا بِعِوَضٍ كَالشِّرَاءِ لَكِنَّهُ شِرَاءٌ صُورَةً عَارِيَّةٌ حُكْمًا؛ لِأَنَّ مَا يَرُدُّهُ عَيْنُ الْمَقْبُوضِ حُكْمًا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ قَبْضُ بَدَلِهِ فِي مَالِ الصَّرْفِ فَكَانَ تَمْلِيكًا بِلَا عِوَضٍ حُكْمًا؛ وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُكَايَلَةً ثُمَّ بَاعَهَا مُجَازَفَةً قَبْلَ الْكَيْلِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ اخْتِلَاطِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ بَائِعِهِ، وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ يَجُوزُ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَبِيعِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَنَصَّ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ وَقَدْ قَبَضَهُ بِلَا كَيْلٍ لَا يُقَالُ إنَّهُ أَكَلَ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّهُ آثِمٌ لِتَرْكِهِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْكَيْلِ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ أَصْلًا فِي سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا قَبَضَهَا فَمَلَكَهَا ثُمَّ أَكَلَهَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إذَا أَكَلَهُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَكَلَ حَرَامًا (قَوْلُهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ) مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي (وَإِنْ كَانَ) كَالَهُ لِنَفْسِهِ (بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي) عَنْ شِرَائِهِ هُوَ (لِأَنَّهُ لَيْسَ صَاعَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهُوَ الشَّرْطُ) بِالنَّصِّ (وَلَا بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ) الثَّانِي (بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي) وَغَيْبَةِ وَكِيلِهِ فِي الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْغَائِبِ لَا يَتَحَقَّقُ وَهَذَا الْكَيْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لِتَسْلِيمِ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ (وَإِنْ كَالَهُ) أَوْ وَزَنَهُ (بَعْدَ الْعَقْدِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي) مَرَّةً فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، قَالَ عَامَّتُهُمْ: كَفَاهُ ذَلِكَ حَتَّى يَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ

ص: 517

لِأَنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَشْرُوطِ.

قَالَ (وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ) لِقِيَامِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَيْسَ فِيهِ

إذَا قَبَضَهُ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ مَرَّتَيْنِ احْتِجَاجًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ صَيْرُورَةُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ الْكَيْلِ وَاتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، وَمَحْمَلُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ إذَا وُجِدَ عَقْدَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا لِأَجْلِ رَبِّ السَّلَمِ وَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ اقْتِضَاءً عَنْ سَلَمِهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ يُشْتَرَطُ صَاعَانِ: صَاعٌ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَصَاعٌ لِرَبِّ السَّلَمِ فَيَكِيلُهُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُمَّ يَكِيلُهُ لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ كَيْلِهِ بِغَيْبَتِهِ لِانْتِفَاءِ التَّسْلِيمِ مِنْ الْغَائِبِ فَيَثْبُتُ احْتِمَالُ الِاخْتِلَاطِ فَلَا يَجُوزُ، وَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ مَا فِي الْجَامِعِ فِي بَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ إذَا كَالَ الْبَائِعُ قَفِيزًا مِنْهَا بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ أَنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ فِي قَفِيزٍ مِمَّا بَقِيَ وَلَا يَقَعُ بِهِ الْإِفْرَازُ، وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ فَرْعٌ وَهُوَ مَا لَوْ كِيلَ الطَّعَامُ بِحَضْرَةِ رَجُلٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً قَبْلَ أَنْ يَكْتَالَهُ بَعْدَ شِرَائِهِ لَا يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ سَوَاءٌ اكْتَالَهُ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكْتَلْ بَعْدَ شِرَائِهِ هُوَ لَمْ يَكُنْ قَابِضًا فَبَيْعُهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَجُوزُ.

(قَوْلُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ) بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَنَا سِوَى بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ، وَكَانَ الْقِيَاسُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمَبِيعِ إلَّا أَنَّهُ

ص: 518

غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا بِالتَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَزِيدَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ وَيَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ) فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَصِحَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ، بَلْ عَلَى اعْتِبَارِ ابْتِدَاءِ الصِّلَةِ، لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ مِلْكَهُ عِوَضَ مِلْكِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَكَذَا الْحَطُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ صَارَ مُقَابَلًا بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ فَصَارَ بِرًّا مُبْتَدَأً، وَلَنَا أَنَّهُمَا بِالْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ يُغَيِّرَانِ الْعَقْدَ مِنْ

مُنِعَ بِالنَّصِّ لِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ، وَلَيْسَ فِي الثَّمَنِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وَسَائِرُ الدُّيُونِ كَالثَّمَنِ لِعَدَمِ الْغَرَرِ بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ كَالْمَهْرِ وَالْأُجْرَةِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَغَيْرِهَا.

وَاسْتِثْنَاءُ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ لِلْمَقْبُوضِ حُكْمَ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي الصَّرْفِ وَأَيَّدَهُ السَّمْعُ وَهُوَ مَا فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «كُنْت أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ حُجْرَتَهُ فَأَخَذْت بِثَوْبِهِ فَسَأَلْته فَقَالَ: إذَا أَخَذْت وَاحِدًا مِنْهَا بِالْآخَرِ فَلَا يُفَارِقْكَ وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ بَيْعٌ، فَإِنَّ هَذَا بَيْعُ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالنَّقْدِ الْمُخَالِفِ لَهُ» ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ حَدِيثِ سِمَاكٍ لَا يَضُرُّهُ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةُ، قَالَ حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَحَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَحَدَّثَنِي فُلَانٌ أَرَاهُ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَفَعَهُ سِمَاكٌ وَأَنَا أَهَابُهُ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَارَ فِي تَعَارُضِ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ تَقْدِيمُ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ ابْنِ عُمَرَ وَشِدَّةِ اتِّبَاعِهِ لِلْأَثَرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْتَضِي أَحَدَ النَّقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ مُسْتَمِرًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَرَّفَهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُفَارِقَهُ وَبَيْنَهُمَا بَيْعٌ مَعْنَاهُ دَيْنٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فَمَنَعَ النَّسِيئَةَ فِيهِ، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَالصَّرْفُ فِيهِ جَائِزٌ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرَّثَ فِي الْمِلْكِ وَكَانَ لِلْمَيِّتِ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ، فَكَذَا لِلْوَارِثِ وَكَذَا الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ، وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَزِيدَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ) وَسَنَذْكُرُ شَرْطَ كُلٍّ مِنْهُمَا (وَيَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ) مِنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ حَتَّى كَانَ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الزِّيَادَةَ إذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَ الزِّيَادَةَ وَلَا مُطَالَبَةَ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ إعْطَائِهَا، وَلَوْ سَلَّمَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ رَجَعَ بِهَا مَعَ أَصْلِ الثَّمَنِ، وَفِي صُورَةِ الْحَطِّ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إذَا سَلَّمَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ (وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِحَّانِ) أَيْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ (عَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ) بِأَصْلِ الْعَقْدِ (بَلْ الزِّيَادَةُ بِرٌّ مُبْتَدَأٌ

ص: 519

وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ رَابِحًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ عَدْلًا، وَلَهُمَا وِلَايَةُ الرَّفْعِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّغَيُّرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْقَطَا الْخِيَارَ أَوْ شَرَطَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ إذَا صَحَّ يَلْتَحِق بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ يَقُومُ بِهِ لَا بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِأَصْلِهِ لَا تَغْيِيرٌ لِوَصْفِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ

مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي) وَالْحَطُّ إبْرَاءٌ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ مَتَى رَدَّهُ يَرْتَدُّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَبِيعَ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ الْتَحَقَ الْعَقْدَ صَارَ مِلْكَهُ وَهُوَ مَا زَادَهُ بَدَلًا عَنْ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمَبِيعُ.

وَكَذَا الثَّمَنُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَوْ جَازَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ كَانَ الْمَزِيدُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ: أَعْنِي الثَّمَنَ، قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ مَا ذَكَرْتُمْ لَوْ الْتَحَقَا بِالْعَقْدِ مَعَ عَدَمِ تَغْيِيرِهِ، لَكِنَّا إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ غَيَّرَا الْعَقْدَ عَنْ وَجْهِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ كَوْنُهُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ إلَى كَوْنِهِ

ص: 520

لَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، وَيَظْهَرُ حُكْمُ الِالْتِحَاقِ فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ حَتَّى يَجُوزَ عَلَى الْكُلِّ فِي الزِّيَادَةِ وَيُبَاشِرَ عَلَى الْبَاقِي فِي الْحَطِّ وَفِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يَأْخُذَ بِمَا بَقِيَ فِي الْحَطِّ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ

بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَرَأَيْنَا الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُمَا وِلَايَةَ تَحْوِيلِ الْعَقْدِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ وَمِنْ وُجُودِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ فِي الْوُجُودِ إلَى إعْدَامِهِ بِلَا سَبَبٍ سِوَى اخْتِيَارِهِمَا.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَحْوِيلُهُ مِنْ عَدَمِ اللُّزُومِ إلَى اللُّزُومِ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَعَكْسُهُ بِإِلْحَاقِ الْخِيَارِ، وَكَذَا مِنْ كَوْنِهِ حَالًّا إلَى مُؤَجَّلٍ بِإِلْحَاقِ الْأَجَلِ كَمَا سَنَذْكُرُ فِي تَأْجِيلِ الثَّمَنِ الْحَالِّ عِنْدَنَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَبِالْإِقَالَةِ وَهِيَ تُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا تَغْيِيرُهُ مِنْ وَصْفِ كَوْنِهِ رَابِحًا إلَى خَاسِرًا أَوْ خَاسِرًا إلَى رَابِحٍ، وَإِلَى كَوْنِهِ عَدْلًا، وَثَبَتَ صِحَّةُ الْحَطِّ شَرْعًا فِي الْمَهْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا إذَا تَرَاضَيَا بَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ عَلَى حَطِّ بَعْضِهِ أَوْ زِيَادَتِهِ جَازَ، وَإِذَا ثَبَتَ تَصْحِيحُ ذَلِكَ لَزِمَ الِالْتِحَاقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ضَرُورَةً إذْ تَغْيِيرُهُ يُوجِبُ كَوْنَهُ عَقْدًا بِهَذَا الْقَدْرِ فَبِالضَّرُورَةِ يَلْتَحِقُ ذَلِكَ بِهِ إذْ وَصْفُ الشَّيْءِ يَقُومُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَطَّ الْكُلَّ؛ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِأَصْلِهِ إذْ يَصِيرُ الْبَدَلُ الْآخَرُ هِبَةً فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ إلَى عَقْدِ التَّبَرُّعِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ.

وَإِذَا ثَبَتَ الِالْتِحَاقُ انْتَفَى قَوْلُهُمْ: الزِّيَادَةُ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَا (وَيَظْهَرُ حُكْمُ الِالْتِحَاقِ فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ فَتَجُوزُ) الْمُرَابَحَةُ (عَلَى الْكُلِّ) مِنْ الْأَصْلِ وَالزَّائِدِ، وَيَجِبُ أَنْ يُرَابِحَ عَلَى الْمَبِيعِ الْأَوَّلِ وَمَا زَادَهُ الْبَائِعُ مَبِيعًا لَا الْأَوَّلُ فَقَطْ، وَكَذَا التَّوْلِيَةُ (وَيُبَاشِرُ) الْعَقْدَ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ (عَلَى الْبَاقِي) بَعْدَ الْحَطِّ (وَ) كَذَا (فِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يَأْخُذَهَا) الشَّفِيعُ (بِالْبَاقِي) فَقَطْ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ الْتَحَقَا لَزِمَ أَنْ يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ الْأَصْلِ وَالزَّائِدِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بَلْ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِدُونِ الزِّيَادَةِ، أَوْ يُقَالُ فَلِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّفِيعِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا) فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ (بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ

ص: 521

مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ الثَّابِتِ فَلَا يَمْلِكَانِهِ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ لَا تَصِحُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالَةٍ يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَالشَّيْءُ يَثْبُتُ ثُمَّ يُسْتَنَدُ، بِخِلَافِ الْحَطِّ لِأَنَّهُ بِحَالٍ يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْبَدَلِ عَمَّا يُقَابِلُهُ فَيُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ اسْتِنَادًا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ أَجَلًا مَعْلُومًا صَارَ مُؤَجَّلًا)؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ

مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ الثَّابِتِ) قَبْلَهَا، فَإِنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِأَخْذِهَا بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّرَاضِي الْأَوَّلُ وَعُقِدَ بِهِ، وَالزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ تَصَرُّفٌ حَادِثٌ مِنْهُمَا يُبْطِلُ حَقَّهُ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمَا ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ شَرْطَ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ.

فَقَالَ: (ثُمَّ الزِّيَادَةُ) إلَى آخِرِهِ: يَعْنِي أَنَّ شَرْطَهَا قِيَامُ الْمَبِيعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ فَلَوْ هَلَكَ حَقِيقَةً بِأَنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ الدَّابَّةُ أَوْ حُكْمًا بِأَنْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَوْ بَاعَ أَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ أَوْ آجَرَ أَوْ رَهَنَ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ أَوْ طَبَخَ اللَّحْمَ أَوْ طَحَنَ الْحِنْطَةَ، أَوْ نَسَجَ الْغَزْلَ أَوْ تَخَمَّرَ الْعَصِيرُ أَوْ أَسْلَمَ مُشْتَرِي الْخَمْرِ ذِمِّيًّا لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْعَقْدِ، إذْ الْعَقْدُ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْمَطْحُونِ وَالْمَنْسُوجِ وَلِهَذَا يَصِيرُ الْغَاصِبُ أَحَقَّ بِهَا إذَا فَعَلَ فِي الْمَغْصُوبِ ذَلِكَ، وَكَذَا الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ شَرْطُهَا بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ، فَلَوْ زَادَ بَعْدَ مَوْتِهَا لَا تَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَبِيعَةَ ثُمَّ زَادَ حَيْثُ تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ، وَكَذَا إذَا آجَرَ أَوْ رَهَنَ أَوْ خَاطَ الثَّوْبَ أَوْ اتَّخَذَ الْحَدِيدَ سَيْفًا أَوْ قَطَعَ يَدَ الْمَبِيعِ فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَهُ حَيْثُ تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَثْبُتْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ صُوَرِ الْهَلَاكِ (لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالٍ يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ) وَالِالْتِحَاقُ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ مُسْتَنِدًا فَالْمُسْتَنَدُ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ أَوَّلًا فِي الْحَالِّ ثُمَّ يَسْتَنِدَ، وَثُبُوتُهُ مُتَعَذِّرٌ لِانْتِفَاءِ الْمَحَلِّ فَتَعَذَّرَ اسْتِنَادُهُ فَلَا يَثْبُتُ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ لَا يَنْبَرِمُ بِالْإِجَازَةِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ هَالِكًا وَقْتَهَا (قَوْلُهُ: عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزِّيَادَةَ تَصِحُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ كَمَا يَصِحُّ الْحَطُّ بَعْدَ هَلَاكِهِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكَذَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا عِوَضًا، وَهَذَا الِالْتِزَامُ صَحِيحٌ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ كَمَا لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ أَوْ صَالَحَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى مَالٍ وَضَمِنَهُ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْأَجْنَبِيُّ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ هَذَا فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ فَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى وَتَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ (بِخِلَافِ الْحَطِّ) فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْهَلَاكِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ حَطُّ (الْبَدَلِ) أَيْ الثَّمَنِ (عَمَّا يُقَابِلُهُ) وَحَاصِلُهُ إخْرَاجُ الْقَدْرِ الْمَحْطُوطِ عَنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قِيَامُ الثَّمَنِ دُونَ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنُ بَاقٍ فَيَثْبُتُ الْحَطُّ مُلْتَحِقًا بِأَصْلِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْحَطُّ بِسَبَبِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْهَلَاكِ؟ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَبِهِ يَكُونُ الثَّمَنُ مَا سِوَى مَا رَجَعَ بِهِ، فَإِسْقَاطُ عِوَضِ الْمَعْدُومِ يَصِحُّ وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ لَا يَصِحُّ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ أَجَلًا مَعْلُومًا صَارَ مُؤَجَّلًا) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ حَالٍّ لَا يَصِيرُ مُؤَجَّلًا بِالتَّأْجِيلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَالًّا لَيْسَ إلَّا وَعْدًا بِالتَّأْخِيرِ، قُلْنَا (الثَّمَنُ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ) وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ الدَّعْوَى وَهُوَ لُزُومُ الْأَجَلِ بِالتَّأْجِيلِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ إنَّمَا

ص: 522

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إبْرَاءَهُ مُطْلَقًا فَكَذَا مُؤَقَّتًا، وَلَوْ أَجَّلَهُ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ إنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ (وَكُلُّ دَيْنٍ حَالٍّ إذَا أَجَّلَهُ صَاحِبُهُ صَارَ مُؤَجَّلًا)؛ لِمَا ذَكَرْنَا (إلَّا الْقَرْضَ) فَإِنَّ تَأْجِيلَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةٌ وَصِلَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى يَصِحَّ بِلَفْظَةِ الْإِعَارَةِ، وَلَا يَمْلِكُهُ مِنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ وَمُعَاوَضَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَمَا فِي الْإِعَارَةِ، إذْ لَا جَبْرَ فِي التَّبَرُّعِ

الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّأْخِيرُ شَرْعًا إذَا أَخَّرَ، وَقَوْلُهُ (أَلَا تَرَى) إلَى آخِرِهِ يُسْتَدَلُّ بِهِ مُسْتَقِلًّا فِي الْمَطْلُوبِ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتُ عِنْدَ إسْقَاطِهِ السُّقُوطَ وَالتَّأْجِيلَ الْتِزَامُ الْإِسْقَاطِ إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَيَثْبُتُ شَرْعًا السُّقُوطُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا ثَبَتَ شَرْعًا سُقُوطُهُ مُطْلَقًا بِإِسْقَاطِهِ مُطْلَقًا (وَلَوْ أَجَّلَهُ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ إنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ) وَمَجِيءِ الْمَطَرِ (لَا يَجُوزُ) وَلَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ بِهِ ابْتِدَاءً (وَإِنْ كَانَتْ) يَسِيرَةً (كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ يَجُوزُ) وَيَلْزَمُ كَمَا إذَا كَفَلَ إلَيْهَا (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي آخِرِ بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ لِيَفْسُدَ بِهِ بَلْ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ (وَكُلُّ دَيْنٍ إذَا أَجَّلَهُ صَاحِبُهُ صَارَ مُؤَجَّلًا لَمَا ذَكَرْنَا، إلَّا الْقَرْضَ فَإِنَّ تَأْجِيلَهُ لَا يَصِحُّ) وَلَوْ شَرَطَ الْأَجَلَ فِي ابْتِدَاءِ الْقَرْضِ صَحَّ الْقَرْضُ وَبَطَلَ الْأَجَلُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ صَارَ فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ مَاتَ الْمُقْرِضُ فَأَجَّلَ وَرَثَتُهُ صَرَّحَ قَاضِي خَانَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الْمُقْرِضُ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْمَبْسُوطِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ لَا يُعَارِضُهُ وَلَا يُفِيدُ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُؤَجِّلَ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْقَرْضِ أَوْ قَبْلَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَيْسَ مِنْ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ تَأْجِيلُ بَدَلِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمُسْتَهْلَكَةِ إذْ بِاسْتِهْلَاكِهَا لَا تَصِيرُ قَرْضًا، وَالْحِيلَةُ فِي لُزُومِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ أَنْ يُحِيلَ الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ عَلَى آخَرَ بِدَيْنِهِ فَيُؤَجِّلَ الْمُقْرِضُ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فَيَلْزَم حِينَئِذٍ.

وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ (لِأَنَّهُ صِلَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِعَارَةٌ حَتَّى يَصِحَّ) الْقَرْضُ (بِلَفْظِ أَعَرْتُك) هَذِهِ الْأَلْفَ بَدَلَ أَقْرَضْتُك وَنَحْوِهِ (وَ) لِهَذَا (لَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ الصِّلَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ) وَالْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ (وَمُعَاوَضَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ)؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ لِيَأْخُذَ بَدَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا يَلْزَمُ رَدُّ مِثْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخْذُ مِثْلِهِ (فَعَلَى اعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلَ، كَمَا) لَا يَلْزَمُ تَأْجِيلُ (الْإِعَارَةِ) فَإِنَّهُ لَوْ أَعَارَهُ الْمَتَاعَ إلَى شَهْرٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ

ص: 523

وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فُلَانًا إلَى سَنَةٍ حَيْثُ يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ مِنْ ثُلُثِهِ أَنْ يُقْرِضُوهُ وَلَا يُطَالِبُوهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالتَّبَرُّعِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى فَيَلْزَمُ حَقًّا لِلْمُوصِي، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فِي الْحَالِ إذْ لَا تَأْجِيلَ فِي التَّبَرُّعِ (وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ لَا يَصِحُّ) أَيْضًا (لِأَنَّهُ يَصِيرُ) بِهَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ (بَيْعَ دَرَاهِمَ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا)؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ كَانَ التَّبَرُّعُ مُلْزِمًا عَلَى الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا كَالْكَفِّ عَنْ الْمُطَالَبَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ يُنَافِي مَوْضُوعَ التَّبَرُّعَاتِ، قَالَ تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} نَفَى السَّبِيلَ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ نُصُوصِيَّةِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَلَوْ لَزِمَ تَحَقُّقُ سَبِيلٍ عَلَيْهِ ثُمَّ لِلْمِثْلِ الْمَرْدُودِ حُكْمُ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ رَدَّ الْعَيْنَ، وَلَوْلَا هَذَا الِاعْتِبَارُ كَانَ تَمْلِيكَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بِلَا قَبْضٍ فِي الْمَجْلِسِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا شَرْعًا كَالْعَيْنِ، وَإِذَا جُعِلَتْ كَالْعَيْنِ فَالتَّأْجِيلُ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ (بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفًا لِفُلَانٍ إلَى سَنَةٍ حَيْثُ يَلْزَمُ) ذَلِكَ (مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالتَّبَرُّعِ) فَيَلْزَمُ كَمَا تَلْزَمُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ سَنَةً مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ سَنَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فِي الْحَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَابَ الْوَصِيَّةِ أَوْسَعُ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ مَعْدُومَةً فِي الْحَالِ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُوصِي وَنَظَرًا لَهُ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةً، وَلِلرَّحْمَةِ عَلَيْهِ أَجَازَهَا الشَّرْعُ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مِلْكِيَّتِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ،

ص: 524